نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

ونرى في الآية الخامسة مشهداً آخر يصور اللوم والتعنيف والاحتقار لأصحاب النّار من قبل خزنتها وملائكة العذاب ، فتقول : (وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوماً مِّنَ العَذَابِ* قَالُوا اوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الكَافِريِنَ الَّا فِى ضَلالٍ).

فهذه التعابير تبدو وكأنّها سياط تلهب أرواحهم وتعذّبهم ، فطلبوا يوماً واحداً للراحة من ذلك العذاب إلّاأنّ طلبهم رُفض ، فطلبوا من خزنة النّار أن يدعوا لهم ، لكن هؤلاء قالوا لهم : أنتم ادعوا بأنفسكم ، إلّاأنّ هذا الكلامُ يعتبر إهانة لهم بسبب عدم أهليّتهم للدعاء أو أنّ دعاءهم يجب أن يكون مسبوقاً بإذن من الله ـ وهو جلّت قدرته ـ لا يسمح لهم ولا يأذن بمثل هذا الدعاء ، أو أنّه دعاء غيرُ مستجاب فهو إذن عبث لا أكثر ، ولذا فهم ينزعجون حتّى من الدعاء لهم ويقولون أنتم ادعوا ربّكم (واعلموا أنّه غير مستجاب لكم) وهذا أيضاً تعبير مؤلم آخر.

* * *

وتعكس الآية السادسة جانباً آخر من العذاب الروحي لأصحاب النّار فتقول : (اذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً).

تُصور هذه الآية هنا جهنّم وكأنّها تمتلك جميع صفات الحيوان المفترس فحين رؤيته لفريسته تنطلق منه أصوات مرعبة تنمُ عن الغضب مصحوبة بالتنفّس الشديد ، وهذا العمل كفيل بإدخال الرعب في قلبه ومن ثم القضاء عليه.

و «التغيظ» : مأخوذ من المصدر (غيظ) ، وهو كما قال الراغب : يعني شدّة الغضب ، والتغيّظ بمعنى اظهاره ، ومع أنّ حالة الغضب لا تسمع ولكن ترافقها أصوات دالة عليها قابلة للاستماع كالأصوات المرعبة.

وتعني كلمة «الزفير» صعود ونزول النفس في الرئة بحيث يرتفع الصدر إلى الأعلى وغالباً ما يصحبه صوت رهيب يمكن سماعه.

٣٤١

أمّا المفسرون الذين لا يمكنهم التصديق بأنّ جهنّم موجود حي يرى ويدرك ويعرف المجرمين ، فقد اضطروا إلى القول : إنّ هناك شيئاً مقدراً ، فقالوا : المقصود هو رؤية خزنة النّار بينما نعلم أنّ التقدير خلاف القاعدة ولا حاجة له هنا ، فما المانع أن يكون لجهنّم والجنّة روح وأنّهما تدركان الحوادث التي تقع فيهما؟ حتّى أنّ بعض الروايات ذكرت «يخرج عنق من النّار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول وكّلت بكل من جعل مع الله إلها آخر فهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه» (١).

ونحن نرى أمثلة مصغرة لهذه المسألة في الدنيا منها مايتمثّل في وضع العيون والآذان الالكترونية المرتبطة بأجهزة (الكامبيوتر) في البنايات المختلفة ، فتقوم تلك الأجهزة بمشاهدة وسماع الكثير من الأشياء والحوادث وتبدي ازاءها رد الفعل المناسب رغم أنّ البناية لا تدرك شيئاً ، ولعل رد فعل جهنّم ازاء المجرمين هو من هذا الطراز أو من طراز أرفع ، أي يكون مصحوباً بالإدراك.

* * *

ونرى في الآية السابعة صورة اخرى من الآلام النفسية لأصحاب جهنّم فهي تخاطب المؤمنين بقولها : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا انفُسَكُم وَاهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ).

يتبيّن من هذا التعبير أنّ نار الآخرة تختلف كثيراً عن نار الدينا ، سواء كان المقصود من «الحجارة» الأصنام الحجرية أو ماهو أشمل من ذلك ، وسواءً كان المقصود هو النّار التي تخرج من داخل ذرّات تلك الأحجار أم كان المقصود شيئاً آخر ، فكل ماهو موجود نار ينبثق بعضها من داخل ذات الإنسان ؛ من معتقداته ونواياه الباطنية القبيحة وجوارحه الملوّثة بالذنوب ، أو الأحجار التي كانت آلهة له أو من وسائل المفاخرة والتباهي كالقصور وما شابه ذلك.

__________________

(١). تفسير القرطبي ؛ وتفسير روح المعاني ، في ذيل الآية مورد البحث.

٣٤٢

ثم تضيف الآية الشريفة : (عَلَيهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّايَعْصُونَ اللهَ مَاأَمَرَهُمْ وَيَفعَلُونَ مَايُؤْمَرُونَ).

فوجود مثل هؤلاء الملائكة القساة الأشداء يضاعف الآلام النفسية لأصحاب جهنّم ، ويسدّ عليهم كل منافذ الحياة.

فقد كان هؤلاء في حياتهم الدنيا يعاملون من هم تحت سلطانهم بكل قسوة ، وكان عمّالهم الجناة يعاملون الناس بغلظة وشدّة وبلا أيّة رحمة أو شفقة ، فوقعوا اليوم ضحية لمثل ذلك السلوك.

وممّا يلفت الانتباه هو أنّ الآية التالية لها تخاطب الكفّار قائلة : (لَاتَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ انَّمَا تُجْزَونَ مَا كُنتُمْ تَعمَلُون). (التحريم / ٧)

قال بعض المفسرين الذين لا يسعهم تصّور اندلاع النّار من داخل الأحجار : إنّ المقصود من الأحجار تلك الأحجار الكبريتية التي ينبعث منها الشرر أثناء ارتطامها بالحديد ، بينما نعلم اليوم بأنّ الطاقة الذريّة الكامنة في كل كائن مادّي بإمكانها بعث مقادير عظيمة من النّار.

«الغلاظ» : جمع (غليظ) ، و (الشداد) جمع (شديد) وكلاهما لمعنى واحد ، وقد يكون ذكرهما سوية من باب التأكيد ، لكن البعض يقول إنّ «الغلاظ» تعني الخشونة في القول و «الشداد» تعني الخشونة في الفعل ، أو تعني الأولى الخشونة الخُلُقية والثانية الخشونة الخَلقية ، وعلى كل حال فهولاء الملائكة ملزمون بحكم الله لا يعصون له أمراً.

وقالوا أحياناً : إن وضع الإنسان بمنزلة الحطب إلى جانب الأحجار يُعتبر بحد ذاته استهانة بهم وعقوبة روحية ومعنوية (١).

* * *

وتمر علينا في الآية الثامنة والأخيرة محاورة مذهلة بين أصحاب الجنّة وأصحاب النّار

__________________

(١). تفسير في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ١٦٨.

٣٤٣

تكون سبباً لإيذاء أصحاب النّار : (وَنَادَى اصْحَابُ الجَنَّةِ اصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً).

فأجابوا وقد استحوذ عليهم الحياء والانكسار : «قَالُوا نَعَم» وفي هذه الأثناء : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَينَهُمْ أَن لَّعنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).

فيغدو هذا الحديث كالملح على جراحات أصحاب النّار فيلهب نفوسهم بمشاعل من النّار.

نعم إنَّهم كانوا قوماً يصدّون الناس عن سبيل الله (كما تصرح بذلك الآية اللاحقة) ولهذا فهم اليوم يُبعدون عن رحمة الله (لأنّ اللعنة تعني الطرد من الرحمة الإلهيّة).

ولكن من هو هذا المؤذّن الذي يمتلك هذه السيطرة على الجنّة والنّار فيسمع الكل نداءه ويتحدث عن الله؟ ورد في الكثير من الروايات المنقولة عن الشيعة والسُنّة أنّه أميرالمؤمنين عليه‌السلام الذي كان يجاهد الظلمة طوال حياته.

والعجب أنّ بعض المتعصّبين حاول التقليل من أهمّية هذه الفضيلة ، فقال : «ولا يفهم من هذا العمل أنّه فضيلة لعلي عليه‌السلام».

بينما تقضي البداهة بأنّ هذا المؤذّن المهيمن على الجنّة والنّار المبلغ نداء الله في ذلك اليوم ، ينبغي أن يكون له مقام سامٍ ورفيع.

والخلاصة هي أنّ الإنسان يتكون من جسم وروح ، والمعاد أيضاً يتحقق بهذين البُعدين وهذا مايستلزم الثنائية أيضاً في العقاب والثواب ، وبناءً على ماذكرنا فأهل النّار لا يتألّمون من العذاب الجسماني فقط ، بل يعانون كذلك من العذاب النفسي والروحي وهو أشد وطأة عليهم ، فهم يعيشون في ألم وهمّ وحزن غير متناهٍ ، وتلازمهم الفضيحة والندامة على ما مضى ، ولو قارنوا أنفسهم بأهل الجنّة لكانت المعاناة أشدّ ، لاسيّما بوجود الملائكة الغلاظ وما يواجهونه من أنواع الاستهانة والتوبيخ والاحتقار ، وهذه كلها من العوامل التي تؤذيهم نفسياً وتجعلهم يعيشون في عذاب مرير.

ومن المؤكد أنّ هذه العقوبات تنسجم مع عملهم في هذه الدنيا حين كانوا يعاملون

٣٤٤

المظلومين بأنواع العذاب والعقاب وكانوا كثيراً ما يستهزئون بآيات الله ويسخرون من عباده ويستخفّون بالمؤمنين ويتفاخرون على الآخرين.

فهل هنالك عجب لو تمثلت لهم أعمالهم أمام أعينهم ووقعوا في مغبّة نتائجها ، ليحصدوا في الآخرة كل ما زرعوه في مزرعة الدنيا؟

* * *

٣٤٥
٣٤٦

٦ ـ خلود العقاب

تمهيد :

هنالك تناسب بين «الجريمة» و «العقاب» دائماً فكلما كانت الجريمة أعظم كانت العقوبة أشدّ ، هذا في مجال العقوبات الجزائية.

أمّا بالنسبة للآثار الوضعية والطبيعية لأعمال الإنسان فالقضية تأخذ منحىً آخر فقد يتعرض الإنسان ـ نتيجة لتساهله وتجاهله ولو لحظة واحدة ـ لحادثة لا يتيسّر له جبرانها أو علاجها ، وربّما تكون حصيلة الجهل والتساهل فادحة جدّاً كأن تؤدّي مثلاً إلى اصابة عضو من أعضاء الجسم بالنقص أو الشلل إلى الأبد وهذا ما يحتم دفع كفّارة ذلك وتحمل تبعاته إلى نهاية العمر ، مع أنّ الخطأ ارتكب لحظة واحدة.

يُفهم من آيات القرآن الكريم وبكل وضوح أنّ فريقاً من الناس يبقى في العذاب الأبدي أو بتعبير آخر يخلد في جهنّم ، وقد اثارت مسألة «الخلود» هذه تساؤلات شَتّى ، وطرحت في تفسيرها آراء مختلفة ، سنأتي عليها لاحقاً بإذن الله.

نقرأ أولاً الآيات الشريفة التالية التي تتضمن كل واحدة منها تعبيراً جديداً عن خلود العذاب :

١ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا اولَئِكَ اصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ). (البقرة / ٣٩)

٢ ـ (يُرِيدُونَ ان يَخرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَاهُمْ بِخَارِجِينَ مِنهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ). (المائدة / ٣٧)

٣ ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِديِنَ فِيهَا مَادَامَتِ

٣٤٧

السَّموَاتُ وَالأَرضُ الَّا مَاشَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ). (هود / ١٠٦ ـ ١٠٧)

٤ ـ (وَنَادَوا يَا مَالِكُ لِيَقضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ انَّكُمْ مَّاكِثُونَ). (الزخرف / ٧٧)

٥ ـ (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ انَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُم كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ اعمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم وَمَاهُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ). (البقرة / ١٦٧)

جمع الآيات وتفسيرها

عذاب الخلد :

تطالعنا الآية الأولى بكلمة «الخلود» المعروفة ، فتقول : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا اولَئِكَ اصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ).

هذا في وقت صَرّحت فيه بعض الآيات القرآنية الاخرى بكلمة «الأبدية» بعد كلمة الخلود وهو مايُعَدُّ تأكيداً لها ، ومن جملة ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَانَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ابَداً). (الجن / ٢٣)

وجاء نفس هذا المعنى أيضاً في الآية (٤٥) من سورة الأحزاب ، حيث اقترنت كلمة الأبدية بكلمة الخلود.

وقد وردت كلمة الخلود في نار جهنّم في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، فمنها ماورد وصفاً مثل «خالدون» و «خالدين» ، ومنها ماورد على صيغة الفعل كما في سورة الفرقان التي أشارت إلى مضاعفة العذاب على المشركين والقتلة والزُناة وقالت : (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً). (الفرقان / ٦٩)

وورد هذا العنوان أحياناً كقيد للعذاب ، كما جاء في قوله تعالى : (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ). (يونس / ٥٢)

وجاءت كلمة «الخلود» بصيَغها المختلفة (فعلاً ، ووصفاً ، ومصدراً) بخصوص عذاب النّار أكثر من ثلاثين مَرّة في القرآن الكريم ، وتأكيده على هذه الكلمة له مفهوم خاص سيتّضح سببه في البحوث القادمة بمشيئة الباري عزوجل.

٣٤٨

وقد وردت هذه الكلمة أيضاً بخصوص نعم الجنّة في آيات كثيرة من القرآن الكريم والتي سبقت الإشارة إليها في بحث نِعَم الجنّة.

لنرى الآن ما معنى «الخلود» في اللغة ، وما معناه عند المفسّرين :

فسَّر لسان العرب كلمة الخلود بمعنى دوام البقاء في دار لا يخرج منها واطلق للآخرة (دار الخلد) لبقاء أهلها فيها.

وفي مقاييس اللغة ذكر معنىً واحداً لأصل الكلمة وهو الثبات والبقاء والتلازم.

وورد نفس هذا المعنى أيضاً في «صحاح اللغة» وكتب اخرى.

لكن الراغب قال في «المفردات» : إنّ معناها الأصلي هو تبرّي الشيء من عروض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها ، وكل ما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العرب بالخلود ، ويقال للذي يبقى مدة طويلة ، وفيه قيل : رجل مخلّد لمن أبطأ عنه الشيب.

وعلى كل الأحوال نستخلص من مجموع كلمات أصحاب اللغة رأيين مختلفين.

الأول : هو المعنى الدال على الدوام والبقاء والأبدية ، وإن اطلق على طول العمر فهو من باب التشبيه ليس إلّا.

والثاني : طول العمر ، وإذا اطلق على الدوام والأبدّية فهو من باب البيان المطلق.

وللمفسرين أيضاً آراء مختلفة في هذا الصدد.

فقد صَرّح بعضهم : إنّ «الخلود» هنا يعني الاستمرار والدوام الذي لا انتهاء له مطلقاً (١).

وقال آخرون إنّ معناه الحقيقي هو الاستمرار والتواصل والدوام ومعناه المجازي المدّة الطويلة ، أمّا الاستخدام القرآني للكلمة فهو بالمعنى الأول (٢).

وذكر بعضهم نفس هذا المعنى بتعبير آخر وهو أنّ الخلود في اللغة يعني المكث الطويل كما هو الحال في قولنا للسجن المؤبد والفترات الطويلة الأمد ، فنقول مثلاً خُلِّد فلان في السجن ، أمّا في لسان الشرع فيعني الأبدية (٣).

__________________

(١). الطبرسي في مجمع البيان.

(٢). تفسير القرطبي ، ج ١ ، ص ٢٠٧.

(٣). تفسير المراغي ، ج ١ ، ص ٦٩.

٣٤٩

وجاء في تفسير المنار أنّ فتح باب تأويل الخلود أدى إلى جرئة أصحاب استقلال الفكر في هذا الزمان على الدخول فيه والقول إنّ معنى خلود الكافرين في العذاب طول مكثهم فيه ، لأنّ الله الرحمن الرحيم ، الذي سبقت رحمته غضبه ما كان ليعذب بعض خلقه عذاباً باق لا نهاية له (١).

ويقول البعض أيضاً : رغم أنّ الكفرة والمعاندين الطغاة المتمّردين الذين استشرت الذنوب في صميم كيانهم يبقون في النّار ، إلّاأنّ جهنّم لا تبقى دوماً على حال واحدة فلابدّ أن تبلغ اليوم الذي تخمد نارها ويرتاح أهلها.

وقد احتمل أيضاً أنّ أهل النّار سيعتادون بمرور الزمن على شدّة حرارة النّار وكثرة العذاب ويتلاءمون بالتدريج مع وضع جهنّم فلا يبقى لديهم أي شعور بالألم!

إلّا أنّ أمثال هذه الاحتمالات مرفوضة من قبل علماء الإسلام ومفسري القرآن لأنّها تتعارض وصريح الآيات القرآنية ، إضافة إلى أنّ الآيات التي قرأناها لم تقتصر عباراتها على ذكر كلمة الخلود فحسب حتّى تتحمل مثل هذه التأويلات بل توجد إضافة إليها تعابير اخرى وردت وهي لا تحتمل مثل هذه التأويلات ، (فتأمل).

وخلاصة القول هي أنّ العجز عن حل مشكلة الخلود في العذاب ، قد دفع البعض فيما يبدو إلى الميل لمثل هذه التأويلات غير الصائبة ، وإلّا فدلالة الآيات القرآنية والروايات الإسلامية بالنسبة لخلود العذاب لمجموعة من المجرمين مسألة لا تقبل النقاش.

وفي العبارة الثانية نلاحظ وجود كلمة «الإقامة» حيث تقول الآية الشريفة : (يُرِيدُونَ ان يَخرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَاهُم بِخَارِجِينَ مِنهَا وَلَهُم عَذابٌ مُّقِيمٌ).

إنّ وصف كلمة العذاب بـ «المقيم» يدل بوضوح على أنّ هذه العقوبة بالنسبة لهم ثابته ومستمرة.

* * *

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٣٦٤.

٣٥٠

أبدية العذاب :

طرحت الآية الثالثة مسألة أبدية العذاب في جهنّم لفئة من أصحاب الجحيم ، ولكن بتعبير آخر يمتاز بصراحة أكثر ، فتقول : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُم فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّموَاتُ وَالأَرضُ) ، وفي الختام تستثني فتقول : (الَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ انَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ).

(من البديهي أنّ السماء والأرض لن يكون لهما وجود آنذاك ، وأنّ السموات والأرض اللتين تتحدث عنهما الآيات القرآنية ، تقومان بعد زوال الأرض والسماء الحاليتين ، وهما خالدتان إلى الأبد).

قال البعض : إنّ هذا التعبير في اللغة العربية كناية عن الأبدية ، إذ يوجد في اللغة العربية الكثير من التعابير المستخدمة بمعنى الأبدية. مثل «مالاح كوكب» أو مثل ماورد في كلامه عليه‌السلام حين اعترض عليه الجهلة بسبب تقسيمه بيت المال بالتساوي وكانوا يطمعون في أن يميز بين الناس في العطاء كما كان يفعل الخليفة الثالث ظناً منهم أنّ هذا الاسلوب سيُسهم في تثبيت ركائز حكمه ، فقال لهم الإمام عليه‌السلام : «أتأمُرُنىّ أن اطلب النصر بالجور فيمن وليّت عليه ، والله لا أطور به ما سَمَر سمير وما أمَّ نجم في السماء» (١).

ويلاحظ في شتّى اللغات تعابير من أمثال هذه ففيها دلالة على الاستمرارية والدوام والأبدية.

ويبقى هنا سؤال واحد وهو : إن كانت الآية أعلاه تعني أبدية العقوبة فما مفهوم الاستثناء الوارد في نهايتها وهو «إلّا ماشاء ربّك»؟ فالذي يبدو من ظاهر هذا الاستثناء على أقل تقدير هو عدم أبدية العذاب لفئة معينة منهم ، بل ويحتمل أيضاً شموله لهم جميعاً ، وستكون النتيجة معكوسة في مثل هذه الحالة.

وقد نقل بعض المفسّرين من أمثال المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان عشرة أوجه لهذا الاستثناء عن علماء التفسير ، إلّاأننا تجنّبنا نقلها هنا لضعفها وعدم أهمّيتها

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٦.

٣٥١

(والظاهر أنّ المرحوم الطبرسي لم ينقلها لاقتناعه بها ، ولكن من باب ذكر جميع الآراء) ونكتفي بذكر مايستحق الاهتمام منها فقط وهو :

أوّلاً : إنّ الهدف من ذكر هذا الاستثناء هو تبيان حاكمية الله وقدرته المطلقة ومشيئته الكاملة ، فلا تظنوا أنّ هذا الخلود يتحقق بدون إرادته ، وإن شاء فهو على كل شيء قدير ولكن إرادته قضت بتخليد هذه الطائفة من أهل جهنّم فيها.

ولهذا ورد نفس هذا التعبير بشأن أهل الجنّة في الآيات السابقة لها ، فتقول الآية في نفس الوقت : (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ). (هود / ١٠٨)

وتُظهر هذه الجملة بوضوح أنّ المقصود من الاستثناء من الأشياء ليس هو قطع العذاب أو النعمة بل لمجرّد تبيان قدرة الله.

وثانياً : إنّ المقصودين بالاستثناء هم الذين لا يستحقّون الخلود في العذاب كالمؤمنين المذنبين الذين يبقون في النّار لمدّة من الزمن ، فيتطهرون من ذنوبهم ، ومن ثم يذهبون إلى الجنّة ، وجملة «إلّا ماشاء الله» هنا تختص بهذه الطائفة ، أمّا الكفرة فسيبقون في العذاب (وهم كما يُقال جزء من المستثنى منه لا المستثنى).

ونفس هذا الاعتبار يُطرح أيضاً بشأن أصحاب الجنّة ، فهم أيضاً خالدون فيها إلّا المؤمنين المذنبين منهم والذين كانوا سابقاً في جهنّم ثم جاؤا إلى الجنّة.

وعلى كل حال فهذا الاستثناء لا يخلق أيّة مشكلة في دلالة الآية على أبدية العذاب.

* * *

تصّرح الآية الرابعة بمسألة الخلود وعدم تخفيف العذاب للمجرمين وتؤكد أيضاً أنّ الله سبحانه وتعالى لم يظلمهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم : (وَنَادُوا يَامَالِكُ لِيَقضِ عَلَينَا رَبُّكَ قَالَ انَّكُم مَّاكِثُونَ).

كلمة المكث جاءت هنا بشكل مطلق وغير محدود وهذه دلالة اخرى على خلود عذابهم (١).

__________________

(١). «المكث» يعني البقاء المصحوب بالانتظار «كما قال الراغب في مفرداته» ، وكلمة المكث تطلق أيضاً على التوقف المؤقت ، إلّاأنّها عندما تذكر مطلقة وبلا قيد أو شرط ، فهي تعني التوقف الدائمي.

٣٥٢

لذلك يصرّح المرحوم الطبرسي في مجمع البيان بأنّ كلمة «ماكثون» هنا تعني «دائمون» ، ورغم أنّ الآية المذكورة لم تبيّن هل أنّ مالكاً أجابهم مباشرة أم بعد مدّةٍ من الزمن ، إلّاأنّ جماعة من المفسّرين قالوا : أنّ هذا الجواب يأتيهم بعد مدّة للامعان في تحقيرهم والاستخفاف بهم. فقال بعضهم : أنّ الجواب يرد بعد أربعين عاماً ، وقال آخرون بعد مائة عام ، ونُقِل عن ابن عباس أنّه قال : إنّ هذا الرد السلبي يأتيهم بعد ألف عام (١) ، من أجل أن يظلّوا في الانتظار لمدّة أطول ويتحمّلوا العناء وذل الاستهانة!

وتظهر الآية بوضوح عدم وجود الموت في ذلك العالم ، بل هم دوماً أحياء يعيشون في الألم والعذاب.

* * *

ويطالعنا في الآية الخامسة تعبير يتحدث عن «عدم الخروج من النّار» بشكل مطلق ، وهو تعبير آخر يحكي حقيقة خلود العذاب ، وتصف الآية نفور المتَّبَعين من المتّبِعين في قولها : (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ اعُمالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِم وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

نعم هؤلاء لا يجنون سوى الندم على مامضى ، والحسرة على ما كانوا يقومون به من تقليد أعمى وطاعة مطلقة لقادة الضلال ، والتأسف على العمر الذي مَرَّ هدراً ، وعلى الأموال التي جُمعت من الحرام وتُرِكت يتنعم بها الآخرون ، وعدم استغلال فرص التوبة التي اتيحت لهم ، ولكنها حسرة وندم لا طائل من ورائهما لأنّ فرص العودة قد مضت وإمكانية التعويض لن تأتي ثانية.

يقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان ، عند تفسيره لهذه الآية : وهذا دليل ضد من يعتقد بنهاية عذاب جهنّم.

* * *

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ٢٢٧ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٥٩٣٧ ، نقل أيضاً في تفسير مجمع البيان مسألةالأربعين عاماً والألف عام.

٣٥٣

النتيجة :

نستخلص من مجموع التعابير الخمسة التي مَرّت أنّ عذاب جهنّم أبدي كما أنّ نعم الجنّة أبديّة ، أمّا الذين يعتقدون بانقطاع العذاب فهم يذهبون خلافاً لما تنص هذه الآيات (وأمثالها) ، ويفسّرون القرآن على طريقة (التفسير بالرأي).

صحيح أنّ الاعتقاد بخلود العذاب ـ وإن كان لفئة خاصة من أهل النّار ـ له مشكلاته وتعقيداته ، ولكن بالنظر لصراحة الآيات القرآنية في هذا الصدد ، فينبغي حل تلك التعقيدات عن طريق المنطق والاستدلال ، لا عن طريق تجاهل وانكار أصل الموضوع.

* * *

توضيحات

من هم المخلّدون في النّار؟

ذكرت الآيات القرآنية أشخاصاً وأقواماً بالخصوص يخلدون في النّار ومن جملتهم :

١ ـ الكفّار

بمن فيهم المنكرون للمبدأ والمعاد والمشركون والمكذّبون بآيات الله وأعداء الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمرتدّون ، وهم الذين ذكرتهم الآيات القرآنية وقالت : إنّهم سيخلدون في النّار ، من جملة ذلك ما ورد في قوله تعالى : (انَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ عَنْهُم أَمْوَالُهُم وَلَا اوْلَادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً وَاولَئِكَ اصحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (١). (آل عمران / ١١٦)

__________________

(١). هنالك آيات كثيرة اخرى تتحدث عن هذا الموضوع أيضاً من أمثال : الأعراف ، ٣٦ وهي بشأن المكذّبين بآيات الله ؛ وسورة البّينة ، ٦ التي تعتبر المشركين وأهل الكتاب مخلّدين في النّار ، وسورة التوبة ، ١٧ وفيها ذكر لخلود المشركين ؛ والبقرة ، ٢١٧ ؛ وآل عمران ، ٨٨ ، التي تتحدث بخصوص المرتّدين ، وسورة فصّلت ، ٢٨ والتي تشير إلى خلود أعداء الله في النّار.

٣٥٤

٢ ـ المنافقون

رغم أنّهم ينخرطون في الظاهر في سلك أهل الإيمان ويُعدّون في زمرة المؤمنين ، إلّا أنّهم من المخلدين في جهنّم ، كما دلّت على ذلك قوله تعالى ، فقد أشار أوّلاً إلى أعمالهم وسلوكهم ثم قالت : (لَن تُغْنِىَ عَنْهُم أَمْوَالُهُم وَلَا اوْلَادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً اولَئِكَ اصحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). (المجادلة / ١٧)

ويقول أيضاً : (انَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً). (النساء / ١٤٠)

٣ ـ الغارقون في الذنوب

يلحظ في سورة البقرة عبارة في وصف المذنبين ، وهي غنّية المعنى ، تقول : (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ اصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). (البقرة / ٨١)

ويقارب هذا المعنى ماورد في سورة يونس ، وجاء فيها : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئةٍ بِمِثلِهَا وَتَرهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّالَهُمْ مِّنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّمَا اغْشِيَتْ وُجُوُهُهُمْ قِطَعاً مِّن اللَّيْلِ مُظلِماً أُولَئِكَ اصحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). (يونس / ٢٧)

ولكن هل أنّ المؤمنين من مرتكبي الكبائر يخلدون في العذاب أم لا؟ هذا ما سنُجيب عنه في بحث مفصل بعد تفسير هذه الآيات بإذن الله.

٤ ـ القتلة والجُناة

يُفهم من آيات القرآن أنّ مرتكبي قتل العمد يخلدون أيضاً في العذاب ، كما ينص على ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَاعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً). (النساء / ٩٣)

وقد عُرضت هنا أربع عقوبات لقاتل المؤمن عمداً وهي :

الخلود في النّار ، والغضب الإلهي ، والطرد من رحمة الله ، والاستعداد للعذاب العظيم.

٣٥٥

ولكن هل أنّ هذه العقوبات تطبق في حالة عدم التوبة وجبران مافات؟ أم أنّها في رقابهم في جميع الأحوال؟

يبدو الاحتمال الثاني مستبعداً جدّاً ، وذلك لأنّ أكبر الذنوب وهو الشرك يمحى بالتوبة ، فالمشركون كذلك يعفى عنهم بدخولهم الإسلام ، فكيف يمكن القبول بأنّ قتل النفس يفوق كل هذا ، إضافة إلى ذلك ما ورد في تاريخ الإسلام أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عفا عن وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب قبل توبته ، وكذلك عفا الكثير من المسلمين عن قتلة آبائهم وأبنائهم واخوانهم ، بعد دخولهم الإسلام. ومن نافلة القول ، إنّ التوبة عن مثل هذا الذنب ليست بالأمر الهيّن ولا تنتهي القضية بالاستغفار بالقول بل ينبغي الانقياد للقصاص أو ارضاء أولياء القتيل بالدّية أو غيرها وجبران مامضى بعمل الخير في المستقبل.

جاء في حديث عن الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لزوال الدنيا وما فيها أهون على الله من قتل مؤمن ولو أنَّ أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النّار» (١).

أمّا كيف يمكن خلود قاتل المؤمن عمداً في النّار مع ما يدلّ على أنّ الكُفّار وحدهم سيخلدون في النّار؟ فللمفسرين أجوبة مختلفة في ذلك.

فقيل : إنّ أشخاصاً كهؤلاء لا يكتب لهم نصيب من التوبة أو قليلاً ما يوفقون لبلوغها ، فيغادرون الدنيا في نهاية المطاف بلا إيمان ، ولهذا فهم يستحقون الخلود في النّار.

وقيل : إنّ هذا هو جزاء من يقوم بالقتل العمد وهو منكر لتحريمه ، وهذا الأمر يستلزم الكفر بذاته.

وقيل : إنّ كلمة الخلود تعني هنا المدّة الطويلة لا العذاب الأبدي. يبدو أنّ التفسيرين الأول والثاني أنسب إلى واقع الحال.

٥ ـ آكلو الربا

هددت الآيات القرآنية آكلي الربا أيضاً بالعذاب الأبدي ، فقالت : (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ

__________________

(١). تفسير روح المعاني ، ج ٥ ، ص ١٠٤.

٣٥٦

مِّن رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَاسَلَفَ وَامْرُهُ الَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَاولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). (البقرة / ٢٧٥)

وهنا يعترضنا أيضاً سؤال وهو : كيف يخلد هذا الفريق في النّار بينما الذنب الكبير لا يستوجب لوحده الخلود في النّار؟

الاجابة عن هذا السؤال هنا أبسط ، وذلك لأنّ نص الآية (في الجمل السابقة) يشير إلى منكري تحريم الربا ، الذين كانوا يقولون : ما الفرق بين البيع والربا ولماذا أحلَّ الله أحدهما وحرّم الآخر ، في حين أنّ الفارق بينهما واضح ، فالبيع والشراء والتجارة والأعمال المشابهة كلها تصب في مصلحة المجتمع ، وهي من النشاطات الاقتصادية السليمة ، أمّا الربا فهو ضار بالمجتمع ، ولهذا الموضوع شرح واسع تطرقنا إليه في مكانه المناسب.

٦ ـ الظالمون والجبابرة

الفريق الآخر الذي اعتبره القرآن الكريم مستحقّاً للخلود في العذاب هو فريق الظالمين ، وهذا ما ورد في الآية حيث جاء فيها : (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا انَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا انفُسَهُم وَأَهلِيِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلَا انَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذابٍ مُّقِيمٍ). (الشورى / ٤٥)

ويتبّين من هذا التعبير أنّ عاقبة الظلم ، الخلود في النّار.

وقد أكّدت الآيات التي سبقت هذه الآية مراراً ، العذاب الأليم للظالمين (الشورى / ٤٢) ، ندمهم الشديد وهم يتعذّبون في نار جهنّم (الشورى / ٤٤).

هل المقصود من الظلم هنا هو ظلم عباد الله والمستضعفين أم هو ظلم النفس من خلال الشرك ، لأنّ الشرك كما صرّح به قوله تعالى : (لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). (لقمان / ١٣)

وجاء أيضاً في قوله تعالى : (وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (البقرة / ٢٥٤)

رجّح بعض المفسّرين المعنى الثاني ، ولعل جملة : (قالَ الَّذِينَ آمَنوا) دليل على هذا المعنى أيضاً وأنّ المؤمنين المظلومين قد واجهوا ظلماً كبيراً على يد الكّفار الظالمين وهم ـ أي المؤمنون ـ الذين يتحدّثون بهذا الكلام في يوم القيامة.

٣٥٧

وتنص سورة الحشر ، بعد الإشارة إلى خلود الشيطان وأتباعه في النّار : (وَذَلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ). (الحشر / ١٧)

ولكن لو علمنا أنّ هذا الحديث يدور حول الشيطان وأتباعه الكافرين وما ورد في الآية السابقة وهو : (كَمَثَلِ الشَّيطَانِ اذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ انِّى بَرِىءٌ مِّنكَ). (الحشر / ١٦)

لأدركنا أنّ المقصود من الظلم في هذه الآية مصداقه الأتم ، يعني : الكفر.

٧ ـ الذين خفّت موازينهم

يُستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ ثقل ميزان العمل في يوم القيامة يدل على الفوز والنجاة ، أمّا خفّة ميزان العمل فهي دالة على عدم قيمته ، وهذا ما يؤدّي إلى الخلود في النّار ، جاء في الآيتين من قوله تعالى : (فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا انفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ). (المؤمنون / ١٠٢ ـ ١٠٣)

وعبارة : «خسروا أنفسهم» إشارة لطيفة إلى أنّ أكبر رأس مالٍ يمتلكه الإنسان هو وجوده وعمره وحياته ، وأنّ هؤلاء قد خسروا رأس مالهم في سوق تجارة الدنيا من غير أن يحصلوا مقابله على شيء ذي أهميّة.

وقد يكون هذا التعبير إشارة إلى الكفرة ، لأنّ المؤمن مهما ارتكب من ذنوب فلابدّ أن يحتوي ميزان عمله على شيء ما ولا يبقى خفيفاً تماماً وذلك لأنّ الإيمان والمعتقد الحق له بذاته وزن لا يُستهان به ، وعلى هذا فإنّ خفّة ميزان أعمال هذة الفئة وخلوّه من أيّة حسنة دليل على كفرها ، كما يتّضح هذا المعنى من قوله تعالى : (اولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيْمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً). (الكهف / ١٠٥)

٨ ـ المجرمون بشكل عام

يُفهم من بعض الآيات أنّ المجرم بشكل مطلق مخلد في جهنّم ، تقول الآية : (وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ابَداً). (الجن / ٢٣)

٣٥٨

وجاء نفس هذا المعنى أيضاً مع إضافة اخرى في الآية : (وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهينٌ). (النساء / ١٤)

وورد تعبير يشابه هذا في قوله تعالى : (انَّ الُمجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ). (الزخرف / ٧٤)

ولكن لو التفتنا إلى الآيات السابقة كالآية (٢٠) من سورة الجن والتي يدور فيها الكلام عن دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى التوحيد وتقويض الشرك ، وماجاء في الآية (٢٤ من نفس السورة) التي نقلت كلام مشركي قريش الذين كانوا يعنّفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعدم وجود الانصار والاعوان المتنّفذين ، لتبيّن لنا أنّ المقصود من «العصيان» هنا هو الكف عن الدعوة إلى التوحيد والميل إلى الشرك والكفر ، وعلى هذا فهي لا تتضمن أيّة دلالة على خلود جميع المجرمين في النّار.

ويُلاحظ وجود قرينة في ذيل الآية ٧٤ من سورة الزخرف دالة على هذا المعنى لأنّها تتحدث عمّن كانوا يضمرون العداء الشديد للدعوة ، وكانوا يظنّون أنّ الله غير مطلع على سرّهم ونجواهم ، ويُعتبر هذا بذاته من معالم الكفر ، (فتأمل).

وقد صرح الكثير من المفسّرين عند تعرّضهم للآية المذكورة بأنّ المقصود من العصيان فيها هو العصيان في التوحيد (١).

إلّا أنّ هذا الاحتمال ـ وهو أنّ المقصود من الخلود هنا هو العذاب الطويل ـ يبدو مُستبعداً جدّاً ، وذلك لأنّ تأكيد كلمة «الخلود» بكلمة «أبداً» دالٌ على أنّ المقصود هو خلود العذاب الإلهي.

* * *

النتيجة :

لقد أدركنا من خلال النقاط الثمان الآنفة الذكر وجهة نظر القرآن في موضوع المخلّدين

__________________

(١). راجع تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، و ١٠ ، ص ٣٧٣ ؛ تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٥٢ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٢٠٠ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٢٩ ، ص ٩٤.

٣٥٩

في النّار ، ولكن يتّضح من خلال النظرة الاجمالية للآيات المذكورة أنّ خلود الكفّار في النّار امرٌ بديهي لا مفر منه ، إلّاأنّه غير مُسَلّمٍ به لجميع العاصين ، ويستثنى من ذلك كون المعصية أو الذنب على درجة كبيرة بحيث تدفع الإنسان إلى الكفر والخروج عن خط الإيمان ، أو أن يغادر هذه الدنيا وهو غير مؤمن ، وسنصل إلى شرح مفصل عن هذا الموضوع قريباً.

* * *

سؤال : هل أنّ مرتكبي الكبائر مخلدون في النّار؟

هناك فرقة إسلامية تُعرف ب «الوعيدية» (وهي من فرق الخوارج) تعتبر أي ذنب من الكبائر موجباً للكفر وتعتقد أنّ مرتكبه يخلد في النّار ، ويقف في مقابل هذه الفرقة «المرجئة» الذين يقولون : إنَّ الإيمان لا تضر معه المعصية (إحداهما تتصف بالافراط والاخرى بالتفريط!).

قال العلّامة الحلي رحمه‌الله في (شرح التجريد) بعد أن نقل إجماع واتّفاق المسلمين على العذاب الأبدي للكفّار : «يختلف المسلمون في مرتكبي الكبيرة ، فالوعيدية يعتبرونهم كالكفّار ، لكن الشيعة وكثير من المعتزلة يعتقدون بأنّ عذابهم له نهاية ، ثم أقام الأدلة التي تثبت هذا المعنى».

يقول الشيخ المفيد رحمه‌الله في «أوائل المقالات» :

«اتفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النّار متوجه إلى الكفّار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والاقرار بفرائضه من أهل الصلاة ، ووافقهم على هذا القول كافة المرجئة وأصحاب الحديث قاطبة ، واجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النّار عامّ في الكفّار وجميع الفساق» (١).

ويستدل هذا الفريق ببعض الآيات القرآنية لإثبات رأيه ، وبالخصوص تلك الآيات القائلة بخلود مرتكبي القتل العمد وآكلي الربا في نار جهنّم وأمثالها من الآيات ، ومن أوسع

__________________

(١). أوائل المقالات ، ص ٥٣.

٣٦٠