نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

(فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الُمحْسِنِينَ) (١).

صحيح أنّ القرآن يصرِّح بأنّ كل هذه النعم التي أثابهم الله بها لما قالوا بعظمة القرآن والإيمان به ولكن من البديهي أنّ هذا لم يكن قولاً فقط بل كان قولاً ممزوجاً بالإيمان ، ذلك الإيمان الذي ملأ كل وجودهم ، لذا تقول الآيات التي قبلها : (تَرَى اعْيُنَهُم تَفِيضُ مِنَ الدَّمعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ) (المائدة / ٨٣)

لكن كيف يكون كلام هؤلاء مصداقاً للاحسان؟ يمكن القول : إضافة إلى أنّهم درسوا القرآن وتدبروا معانيه جيداً كذلك أقروا واعترفوا بدين الحق وعملوا به بشكل جيد.

ونستفيد من بعض الروايات أنّ الاحسان هو العبودية المقترنة باليقين الكامل والشعور بأنّ الأنسان تحت رقابة الله تبارك وتعالى في جميع الاحوال .. كما ورد ذلك في حديث عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد سئل عن الاحسان فقال : «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فانّه يراك» (٢).

ومن الواضح أنّ من يشعر بمثل هذه المراقبة فستكون عبادته عبادة حقّة لها روح وحقيقة وليس ذلك فحسب بل إنّ آثار هذا الشعور ستنعكس على جميع أعمال الإنسان وأقواله وسلوكه.

* * *

٤ ـ الجهاد والشهادة

إنّ كل من له أدنى اطلاع على منطق القرآن والإسلام يعلم جيداً بالمقام السامي والدرجة الرفيعة للمجاهدين والشهداء في الإسلام ، فلقد وعد القرآن صراحة هذه الطائفة المضحية بالجنّة ، ومن جملة الآيات قوله تعالى : (انَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ انْفُسَهُم

__________________

(١). ورد نفس هذا المعنى في الزمر ، ٣٤ ؛ المرسلات ، ٤٤.

(٢). تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٥٥٣ ، ح ٥٧٩ ذيل الآية الشريفة ١٢٥ من سورة النساء.

١٤١

وَامْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعداً عَليهِ حَقّاً فِى التَّورَاةِ وَالْإِ نْجِيلِ وَالْقُرآنِ وَمَن اوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ العَظِيمُ) (١). (التوبة / ١١١)

حقّاً إنّها لتجارة لا نظير لها ، فالمشتري هو الله سبحانه وتعالى والبائعون هم المؤمنون المجاهدون.

«البضاعة» : الأنفس والأموال التي وهبها الله لهم والثمن الذي يدفع إليهم هو جنّة الخلد وسند هذه المعاملة الكتب السماوية الثلاثة إضافة إلى كل هذا هناك تبريك من قبل المشتري للبائع.

كم هي تعابير جميلة ورائعة! وكم هي معاملة رابحة مقابل متاع زائل وغير ثابت وكم هو ثمن مبارك وخالد ، وكم هو مقدار اللطف والمحبة في هذه المعاملة من قبل الله تبارك وتعالى؟

وعن جابر بن عبدالله قال : «انزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في المسجد (ان الله ..) فكبر الناس فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه فقال : يا رسول الله انزلت هذه الآية؟ قال : نعم ، فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل» (٢).

ونستفيد من الآية السابقة أنّها لا تختص بالشهداء فقط بل إنّ هذه المعاملة تشمل المجاهدين في سبيل الله أيضاً.

ونلاحظ في الآية تقدم عبارة «يَقْتُلُونَ» على «يُقتَلونَ» وهذا دليل على أنّ الهدف الرئيس من الجهاد هو القضاء على العدو لا الشهادة ، وبناء على ذلك فإنّ الشهادة درجة رفيعة لا يبلغها إلّاالخاصة من أوليائهِ.

من هنا لا يمكن أن يكون الغرض من الجهاد هو الشهادة أبداً وبتعبير أدق الشهادة ليست هدفاً وإنّما هي وسيلة لتحقيق الهدف.

__________________

(١). كما ورد نفس هذا المعنى في الآيات ٢٠ ، ٢١ ، ٨٨ ، ٨٩ ، من نفس السورة ، والصف ، ١٢ ؛ آل عمران ، ١٤٢.

(٢). تفسير درّ المنثور وطبق نقل تفسير الميزان ، ج ٩ ، ص ٤٢٩.

١٤٢

٥ ـ نهي النفس عن الهوى

من الامور الاخرى التي هي من موجبات دخول الجنّة ، الخوف من الله تعالى ونهي النفس عن الهوى ، قال تعالى : (وَامَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى). (النازعات / ٤٠ ـ ٤١)

ممّا لا شك فيه أنّ هناك علاقة متبادلة بين (الخوف من الله) و (نهي النفس عن الهوى) فالاولى بمنزلة الشجرة والثانية ثمرها ، فعندما يتجذر الخوف من الله تعالى في أعماق روح الإنسان ، عندئذٍ تشن حرب من الداخل لمواجهة هوى النفس ، ومن المعلوم أنّ مصدر جميع المفاسد والذنوب على سطح الأرض هو (عبادة الهوى) ، فمن هنا يكون الخوف من الله مصدر كل الإصلاحات ، لذا ورد هذا الحديث النبوي : «ما تحت ظل السماء من إله يُعبد من دون الله أعظم عند الله من هوىً مُتَّبع» (١) في ذيل الآية الشريفة (أَرَايْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ). الفرقان / ٤٣)

والجدير بالذكر أنّ ما يقابل هاتين الصفتين (الخوف من الله ونهي النفس عن الهوى) صفتان أخريان وردتا في الآيات التي تسبق هذه الآية من نفس السورة وهما (الطغيان وايثار الحياة الدنيا على الآخرة) : (فَأَمَّا مَن طَغَى * وآثَر الحَيَاةَ الدُّنيَا* فَأِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى). (النازعات / ٣٧ ـ ٣٩)

والحقيقة أنّ هاتين الصفتين مصدر كل البلايا كما أنّ تلك الصفتين مصدر كل خير.

وعلى حد قول بعض المفسرين فالمصادر التي تأتي منها الذنوب السبعة المذكورة في قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالانْعَامِ وَالحَرثِ). (آل عمران / ١٤)

تتلخص في هوى النفس ، وأنّ مصدر هوى النفس هو عدم المعرفة وعدم الخوف من الله تعالى (٢).

من هنا فما المقصود من «مقام ربّه»؟ هناك آراء مختلفة حول تفسير هذا التعبير فقيل : المراد مقامه من ربّه يوم القيامة حين يسأله عن أعماله.

__________________

(١). تفسير در المنثور ، ج ٥ ، ص ٧٢.

(٢). تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٢٧.

١٤٣

وقيل : إنّه إشارة إلى مقام علم الله ومراقبته لعباده.

وقيل : إنّه إشارة إلى مقام عدالته تعالى.

ولكن هذه التعابير ترجع في الحقيقة إلى الخوف من الأعمال والذنوب وذلك لأنّ الله (أرحم الراحمين) ولا يوجد في ذاته تعالى مايوجب الخوف منه ، فكما أنّ المجرمين يخافون رؤية القاضي العادل ويفزعون من سماع إسم المحكمة فكذلك الحال بالنسبة للمذنبين فانّهم يخافون من مقام العدل والحساب والعلم الإلهي ، وفي الحقيقة أنّ هناك جحيم في هذه الدنيا هي جحيم الشهوات ، والجحيم الاخروية إنّما هي جحيم مجازاة تنبع من هذه الجحيم.

ونختم هذا البحث بحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من علم أنّ الله يراه ، ويسمع ما يقول ، ويعلم مايعملهُ من خير أو شر ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى» (١).

* * *

٦ ـ السابقون إلى الإيمان

من المعلوم أنّ ظهور أي دين جديد يقترن بمخالفة السنن والتقاليد الرائجة في ذلك المجتمع ، وخصوصاً الدين الإسلامي الذي ظهر في محيط خرافي ملي بأنواع المفاسد والسنن الباطلة الخاطئة.

فمن البديهي أن يكون السبق إلى الإيمان بمثل هذا الدين أمراً عسيراً للغاية ويحتاج إلى شهامة منقطعة النظير ، فالسابقون للإيمان يتعرضون عادة لأشد هجمات الجاهلين المتعصبين وبما أنّهم يشكلون الأقلية من المجتمع ، لذا فتكون أنفسهم وأموالهم في خطر دائماً ، إضافة إلى ذلك يعتبر هؤلاء القدوة الحسنة والانموذج الأمثل للآخرين وهم الوسيلة والعامل الرئيس في نشر تعاليم السماء في الأرض ، فمن هنا يكون للسابقين في الإيمان

__________________

(١). تفسير الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٧ ح ٤٨ ؛ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٧٠ باب الخوف والرجاء ح ١٠.

١٤٤

امتياز كبير ودرجة رفيعة وقد وعدهم الله تعالى وعداً قاطعاً بدخول الجنّة ، كما ورد ذلك في قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ* فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (١). (الواقعة / ١٠ ـ ١٢)

هذا في حالة تفسير «السابقون» بمعنى السابقين إلى الإيمان ، لكن بعض المفسرين فسّروا «السابقون» بمعنى السابقين إلى طاعة الله (اطاعة أوامر الله) أو السابقين إلى الصلوات الخمس أو الجهاد ، أو الهجرة ، أو التوبة وأعمال البر ، لأنّ السابق إلى الخير إنّما يقتدى به في الخير وهو شاهد على المراد حتى على هذه الصورة.

وكذا الرجال السابقون المؤثرون المتوكلون على الله تعالى لهم الأحقية في السبق إلى جنات النعيم.

وقيل : «السابقون» ـ كما جاء في الروايات الإسلامية ـ (الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام) حيث كان أول القوم إسلاماً من الرجال وقيل إنّ السابقين هم (هابيل) و (مؤمن آل فرعون) و (حبيب النجار) و (الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام) حيث يمثل كل واحد منهم في عصره مصداقاً واضحاً للقدوة الحسنة في السبق إلى الإيمان والجهاد وأعمال الخير (٢).

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ أول موهبة جعلها الله لهم هي موهبة القرب من الله تبارك وتعالى (أُولئِكَ المُقَربُونَ) والتي تفوق كل النعم العظيمة بما فيها جنات النعيم.

ومن المعلوم أنّ «جنات» تفي بالغرض من دون ذكر (النعيم) الذي هو جمع نعمة ، وإنّما ذكرها تعالى للتأكيد ، ولإعطائها أهميّة أكبر ، من هنا يمكن الإشارة إلى نكتة اخرى وهي أنّ الجنات موضع الرحمة والنعم الإلهيّة فقط وهي على خلاف البساتين الدنيوية التي يلزم إدارتها وصيانتها وحفظها جهود كبيرة إضافة إلى ذلك فإنّها معرضة للآفات والفناء والعدم.

* * *

__________________

(١). لقد ورد نفس هذا المعنى في الآية ٢١ من سورة الحديد وكذا الآية ١٣٣ من سورة آل عمران.

(٢). للاطلاع على هذه الأحاديث راجع كتاب احقاق الحق ، ج ٣ ، ص ١١٤ وج ١٥ ، ص ٣٤٥ ؛ وتفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٠٩ ، ح ١٨ ، ١٩ ، ٢٠ ، ٢١.

١٤٥

٧ ـ الهجرة والجهاد

الهجرة بمعنى الابتعاد عن بؤرة الكفر والشرك والظلم والمعاصي ، وتكون في كثير من الموارد السبيل الوحيد لخلاص المؤمنين والصالحين وانقاذهم من معاناتهم ، فهم يبتعدون عن أجواء محيطهم الملوث ليعملوا على بناء أنفسهم وإعدادها من أجل تعبئة كافة إمكاناتهم وطاقاتهم للهجوم على أعداء الله من كافرين ومشركين وظلمة ، ولقد هاجر المسلمون مرّتين في عصر صدر الإسلام ، الهجرة الاولى (هجرة الحبشة) وهي هجرة خاصة حيث هاجرت مجموعة من المسلمين من مكة إلى الحبشة ، والهجرة الثانيه (هجرة عامة) من مكة إلى المدينة وتعتبر هذه الهجرة بداية فصل جديد في تاريخ الإسلام ، ومن البديهي أن ترك المنازل والممتلكات والأهل والأقارب والأصدقاء والوطن الذي نشأ فيه المرء وترعرع فيه أمر عسير للغاية ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ، مواجهة المشاكل لغرض الاعداد للجهاد والهجوم على مواطن الكفر والفساد ، لذا فإنّ القرآن الكريم وعد المهاجرين بأعظم الدرجات وبشرهم برحمته ورضاه : (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ).

وقال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ* يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ). (١) (التوبة / ٢٠ ـ ٢١)

تتحدث الآيتان الكريمتان عن ثلاث صفات (الإيمان ، الهجرة ، الجهاد) طبعاً أنّ كل واحدة من هذه الصفات ترتبط مع الاخرى برابطة العلة والمعلول فكان إيمانهم هو السبب في هجرتهم وهجرتهم مقدمة لجهادهم وجعل الله سبحانه وتعالى جزاءهم ثلاثة امور هي «الرحمة الإلهيّة» و «الرضوان» و «جنات النعيم» وبهذا فقد جعل الله سبحانه وتعالى مقابل كل صفة اجراً عظيماً ، فالإيمان يستوجب مغفرة الذنوب والهجرة تستوجب جلب الرضوان الإلهي والجهاد بالأموال والأنفس هو السبب في دخلوهم جنات النعيم.

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال : «بينما شيبة والعباس يتفاخران إذ مرّ عليهما

__________________

(١). لقد ورد هذا المعنى في الآية ١٠٠ من سورة التوبة.

١٤٦

علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : بِمَ تفخران؟ قال العباس : لقد أوتيت من الفضل مالم يؤت أحد ، سقاية الحاج ، وقال شيبة : أوتيت عمارة المسجد الحرام. وقال علي عليه‌السلام : وأنا أقول لكما لقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا. فقالا : وما أوتيت ياعلي؟ قال : ضربت خرطوميكمابالسيف حتى آمنتما بالله تبارك وتعالى ورسوله فنزل جبرائيل عليه‌السلام بالآية (اجَعلتم سِقايةَ ...) (١).

وللمفسرين بحوث كثيرة في مسألة (كيف اعتبر القرآن درجة الذين هاجروا وجاهدوا أعلى من درجة غير المؤمنين؟ في حين أنّ (غير المؤمنين) ليس لهم أية درجة أصلاً).

يمكن القول في جواب قصير إنّ المراد بيان أنّ النسبة بينهما هي نسبة الأفضل إلى من لا فضل له وهذا كثير في مورد الصفات التفضيلة كقوله تعالى : (وَلَعَبدٌ مُّؤمِنٌ خَيرٌ مِّن مُّشرِكٍ). (البقرة / ٢٢١)

ويلاحظ أمثال هذا التعبير الكثير في القرآن والروايات وكلام العرب.

والخلاصة : أنّ نفس عمل سقاية الحجيج وعمارة المسجد الحرام عمل حسن من أي شخص كان أمّا إذا كان الفاعل كافراً أو مشركاً فلا قيمة له ، حيث إنّ الكفر والشرك يحبطان الأعمال الصالحة.

* * *

٨ ـ الصبر والتحمل عند الشدائد

مسألة الاستقامة هي أساس لكل الأعمال الصالحة وركن أساس في امتثال كل طاعة واجتناب كل معصية.

وعلى هذا الأساس فلا عجب أن تعدّ الاستقامة من العوامل المهمّة في دخول الجنّة كما ذكر في ذيل هذه الآية : (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً). (٢) (الدهر / ١٢)

وعند دخولهم الجنّة تستقبلهم الملائكة بالترحيب ، وهذا دليل على عظمة مقام

__________________

(١). شواهد التنزيل لابي القاسم الحسكاني ، ذيل الآية مورد البحث ص ٢٤٤ فما بعدها. ولقد ورد نفس المضمون بشيء من الاختلاف في كتب كثيرة لأهل السنّة راجع إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ١٢٢ و ١٢٧.

(٢). لقد ورد نفس هذا المعنى في سورة الرعد ، ٢١ ، ٢٤ ؛ الفرقان ، ٧٥.

١٤٧

الصابرين : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ). (الرعد / ٢٤)

ومن المعلوم أنّ الآية التي نحن بصددها هي من آيات سورة الدهر التي نزلت على قول أكثر مفسري الشيعة والسنة في حق علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، حيث ضربوا أروع الأمثلة في الصبر والتحمل حينما تصدقوا بما عندهم من طعام إلى (المسكين) و (اليتيم) و (الأسير) وبقوا ثلاثة أيّام متتابعة يفطرون بالماء فقط وهذا هو الصبر على الطاعة.

من البديهي : أنّ الصبر والتحمل عند مشاكل ومصاعب الحياة وكذلك الصبر والتحمل على ترك مانهى الله عنه من عوامل الاثارة والذنوب والمعاصي .. يكون مفتاح من مفاتيح الجنّة فيبدل الله تعالى ما لقوه من المشقة والكلفة نعمة وراحة.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ هذه الآية خصت من بين جميع النعم الإلهيّة الألبسة الفاخرة الجميلة ويعود السبب في ذلك إمّا لأنّ هذه الثلة من الصابرين إضافة إلى ما جادوا به من الطعام للجياع كذلك أنّهم وما وهبوه من الألبسة إليهم واكتفوا بلباس بسيط أو أنّ جمال ظاهر الإنسان بالدرجة الاولى يكمن في زيه ولباسه كما أنّ لباس (التقوى) هو زينة وجمال الباطن.

* * *

٩ ـ الإيمان والاستقامة

ركزت بعض الآيات القرآنية على مسألة الاستقامة والثبات على طريق الإيمان واطاعة الأوامر الإلهيّة فقد ورد في قوله تعالى : (انَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* أُولَئِكَ اصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعمَلوُنَ). (١) (الاحقاف / ١٣ ـ ١٤)

استقاموا مشتقة من مادة «الاستقامة» أي ملازمة الطريق المستقيم والثبات على الطريق الصحيح وبتعبير آخر الابتعاد عن كل زيغ وانحراف والثبات على ماشهد الإنسان به من دين

__________________

(١). ولقد ورد نفس هذا المعنى في الآية ٣٠ ، ٣١ من سورة فصلت.

١٤٨

الحق ، والتفسير ب «الاعتدال» من أربات اللغة إنّما هو من هذا الباب أيضاً.

قال الراغب في مفرداته : «يقال : الاستقامة : الطريق الذي يقع على خط مستقيم ولهذا يقال للطريق الحق : (الصراط المستقيم) واستقامة الإنسان هي ملازمة الطريق المستقيم» (١).

إضافة إلى أنّ مفهوم الاستقامة يعني استواء الطريق كذلك أنّه يعني المقاومة والثبات ، وعلى هذا الأساس فتعبير الاستقامة على النهج الصحيح من عوامل الدخول إلى موضع اللطف والكرامة الإلهيّة (ألا وهي الجنّة) وورد عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام في تفسير الآية أنّهم قالوا : «استقاموا على ولاية اميرالمؤمنين» والتي تعد الخط المستقم للإسلام الصحيح (٢).

ولو تأملنا في الآية الكريمة لوجدنا أنّها ذكرت (الإيمان) أولاً (قالوا ربّنا الله) وبعدها عطفت (الاستقامة على الطريق الصحيح) على الإيمان بـ «ثم» التي تفيد العطف المباشر لتوحي إلى أنّ عملاً كهذا هو نتيجة مثل ذلك الإيمان ، وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ الإنسان يحزن على امور قد حدثت في الماضي وأحياناً اخرى يخاف ويقلق من أمور قد تحدث في المستقبل ، يقول القرآن الكريم في الآية مورد البحث : (فلا خَوفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

ونختتم هذا الموضوع بحديث عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال سفيان الثقفي : قلت : يارسول الله أخبرني بأمر أعتصمُ به. قال الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قل ربّي الله ثم استقم ، قال : فقلت : ما أخوف ما تخاف علي : فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بلسان نفسه فقال : هذا» (٣).

* * *

١٠ ـ إطاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله

من الأعمال التي توجب دخول الجنّة هي اطاعة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما ورد ذلك في ق. له

__________________

(١). مفردات الراغب ، مادة (قوم).

(٢). تفسير علي بن إبراهيم ج ٢ ، ص ٢٦٥ ، ذيل الآيتين ٣٠ و ٣١ من سورة فصلت واللتين تشبهان الآية أعلاه.

(٣). تفسير الكبير ، ج ١٠ ، ص ٢٢.

١٤٩

تعالى : (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوزُ الْعَظِيمُ). (١) (النساء / ١٣)

تعبير «جنات» يدلّ على تعددها وأنّ كل واحدة منها أحد مقامات العارفين والصالحين والأطهار.

أمّا تعبير «تجري من تحتها الأنهار» فدلالة على جمال بساتينها ورونقها ودوام خضرتها لأنّ أنهارها دائمة الجريان.

«خالدين فيها» : إضافة إلى أنّ الآية نفت احتمال فناء وسلب النعمة التي هي عادة من عوامل القلق جاءت الآية بصيغة الجمع وهذه إشارة إلى أنّ أهل الجنّة يتمتعون بنعمة الاجتماع والانس مع بعضهم البعض.

في حين أنّ الآية التي بعدها والتي تتحدث عن عصيان الله ورسوله جاءت بصيغة المفرد «خالداً» وهذه إشارة إلى أنّهم «أهل النّار» يتعذبون بالوحدة والعزلة وكأنّ كل واحد منهم سجين في زنزانة انفرادية في نار جهنّم.

* * *

١١ ـ الاخلاص

خلوص العقيدة ، وخلوص العمل ، وخلوص النية ، من موجبات دخول الجنّة ، قال تعالى : (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَاكُنْتُم تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللهِ الُمخْلَصِينَ* أُولئِكَ لَهُم رِزْقٌ مَّعْلُومٌ* فَوَاكِهُ وَهُمْ مُّكرَمُونَ* فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ). (الصافات / ٣٩ ـ ٤٣)

فبعد أن أشارت هذه الآيات إلى عذاب أهل النّار استثنت المخلصين وقالت إنّهم في معزل من كل هذا العذاب.

من هنا يجب أن نعرف من هم (المخلَصين) (بفتح اللام)؟ إذا تأملنا في الآيات القرآنية فسوف ندرك جيداً أنّ (المخلِص) بكسر اللام يعني الشخص الذي أخلص نفسه وأعماله

__________________

(١). نفس هذا المعنى ورد في الآية ١٧ من سورة الفتح.

١٥٠

ونيّته ، وغالباً ما يستعمل هذا في مراحل بناء الإنسان لنفسه ، في حين أنّ (مخلَص) (بفتح اللام) يطلق على الذين بلغوا الدرجات العلى من الإيمان والمعرفة والعمل ، فهؤلاء خارجون عن وساوس الشيطان وأحابيله ، فلا سلطان للشيطان عليهم ، قال تعالى : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ اجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنهُمُ الُمخلَصِينَ). (ص / ٨٢ ـ ٨٣)

وفي الحقيقة أنّ أدران وجود الإنسان على قسمين : الأول يمكن تشخيصه وعلاجه ، والثاني لا يمكن ازالته وعلاجه إمّا لكونه مخفي عن الإنسان أو أنّه ظاهر وجلي ولكن لا قدرة له على ازالته ، فعندما يضع الإنسان قدمه في طريق الإخلاص ويعمل على تخليص نفسه من أدران القسم الأول والتي تقع ضمن استطاعته وقدرته فإنّ الله سبحانه وتعالى يخلصه ويزكيه بلطفه وكرمه من أدران القسم الثاني وحينئذٍ يليق لمقام الـ «مُخلَص».

والعجيب أنّ الله سبحانه وتعالى وهب لهذه المجموعة من المواهب والعطايا ما لم يَهَب غيرهم ، ومن جملتها الرزق المعلوم وهو رزق خاص لا يشبه رزق غيرهم فهؤلاء يتلذذون بلذة القرب من الذات الإلهيّة المقدّسة فالله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد حيث إنّ قلوبهم لم تتعلق بشي غيره تعالى فليس فيها إلّاالله سبحانه ، ولقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله : (أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ) ، ومن خواصهم كذلك بلوغهم مقاماً سامياً من العرفان فعباد الله المخلصين يصفونه تعالى وصفا يليق به أو بما يلقب به من الأوصاف ، لا كما يصفه الكفّار أو المشركون ، قال تعالى : (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللهِ الُمخْلَصِينَ). (الصافات / ١٥٩ ـ ١٦٠)

وبهذا فإنّ معرفتهم بالله أعلى المعارف وأليقها ، وصيانتهم من الشيطان وهوى النفس أشد وجزاؤهم يوم القيامة أجزل وأوفر وهذا هو جزاء المخلَصين .. (اللهم اجعلنا من المخلَصين بحق محمد وآله الطاهرين).

* * *

١٥١

١٢ ـ الصدق

قلما نجد في أعمال الإنسان مثل جمال وجاذبية (الصدق والواقعية) ، ويتبيّن من الآيات والروايات أنّ وزن الصدق ثقيل جدّاً في ميزان الأعمال ، وذلك لأنّه يعد من أسمى أوصاف أولياء الله وهو أحد مفاتيح الجنّة كما صرح بذلك القرآن الكريم : (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِديِنَ فِيهَآ ابَداً). (١) (المائدة / ١١٩)

ومن الواضح أنّ المراد بالصدق في هذه الدنيا هو الصدق في العقيدة والقول والفعل وكل صفة من هذه الصفات هي علامة من علامات (التقوى) عند الإنسان في هذه الدنيا وإلّا فلا محل للصدق في الآخرة حيث لايُكذب هناك.

إضافة إلى هذا فإنّ الأوضاع يوم القيامة لا مجال فيها إلّاللصدق ، وحتى المذنبون فإنّهم إن عمدوا إلى انكار الحقائق مؤقتاً فسُرعان ما يدركون بأنّ لا جدوى من الانكار وبالتالي يعترفون بجميع ذنوبهم.

ويمكن أن نستفيد من هذا التعبير ضمناً أنّ جميع الأعمال الصالحة تنحصر في الصدق ، ويتضح التحليل المنطقي لذلك بشيء من التأمل حيث إنّ جميع الذنوب إنّما هي ناشئة من عدم الصدق في ادّعاء الإيمان والإسلام ، فالشخص الذي يعترف ويقر بقانون كيف يسمح لنفسه بمخالفته؟

وتتّضح أهميّة الصدق من هذه الناحية وهي أنّ الله سبحانه وتعالى جعله الوسيلة لكشف حقائق الناس ، كما ورد ذلك في حديث عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم ، وكثرة الحج والمعروف ، وطنطنتهم بالليل ، ولكن انظروا إلى صدق الحديث ، وأداء الأمانة» (٢) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث آخر : «إنّ الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنّة» (٣).

إذن فالصدق مفتاح من مفاتيح الجنّة.

__________________

(١) في هذه الآية يكون «هذا» مبتدأ و «يوم» خبر وجملة «ينفع ...» مضافة إلى «يوم».

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ٩ ، ح ١٣.

(٣) المحجة البيضاء ، ج ٨ ، ص ١٤٠.

١٥٢

١٣ ـ تزكية النفس

ممّا لا شك فيه أنّ الجنّة هي محل الصالحين والأخيار ، ولقد ذكر القرآن ذلك صراحة كجزاء لمثل هؤلاء الأشخاص ورد في قوله تعالى ، عن لسان سحرة فرعون بعد غلبة معجزة موسى وإيمان وتسليم السحرة بما جاء به والتمرد على فرعون فقالت : (ومَنْ يَأتِهِ مُؤمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَاولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدنٍ تَجرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِديِنَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى). (طه / ٧٥ ـ ٧٦)

«تزكى» : مشتقة من مادة (تزكية) وتشمل تزكية العقيدة وكذلك تزكية الأقوال والأفعال أيضاً.

وفي الحقيقة أنّ الجنّة محل مطهر من جميع القذارات والأدران ، ومن الطبيعي أنّ هذا المحل لا يصلح إلّاللأخيار الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم.

وقد قال بعض المفسرين : إنّ (الدرجات العلى) جعلها الله لمن كان له إيمان وعمل صالح وتزكية نفس.

وعلى هذا الأساس لا يتنافى أن تكون الدرجات الأقل للمؤمنين الذين خلطوا أعمالاً صالحة بأخرى سيئة ، أو حتى الذين ارتكبوا أحياناً المنكرات.

ولكن هؤلاء لن يستطيعوا دخول الجنّة التي هي محل القدس والطهارة ما لم يتطهروا من هذه الذنوب ، وهناك احتمال آخر وهو أنّ هذه الآيات لم تكن عن لسان سحرة فرعون وإنّما هي كلام الله المباشر ، ولكن ومهما كان تفسير الآية فإنّ المعنى واحد.

* * *

١٤ ـ الانفاق والاستغفار

الاستغفار من الذنوب والتوبة والانفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو والصفح عن الناس وعدم الإصرار على الذنب مجموعة من الصفات تعرضت لها بعض الآيات من القرآن الكريم ووعدت في مقابل ذلك الجنّة ، قال تعالى : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّكُم

١٥٣

وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمواتُ وَالْأَرْضُ اعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ، وهذه الآية كالتوطئة لذكر ما يذكره تعالى بعد من أوصاف المتقين ثم شرع ببيان هذه الأوصاف وقال : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ* وَالَّذِينَ اذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا انفُسَهُم ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم) ، ووعدهم في نهاية الآية المغفرة والجنّة : (اولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغفِرَةٌ مِّنْ رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحتِهَا الْأَنهارُ ...).(آل عمران / ١٣٣ ـ ١٣٦)

«المسارعة» : هي الاشتداد في السرعة وهي ممدوحة في الخيرات ومذمومة في الشرور ، والمسابقة إلى المغفرة هي إشارة إلى السبق إلى أسباب المغفرة ، لذا فسرها البعض بالإسلام وقيل أداء الفرائض وقيل الهجرة وقيل الصلوات الخمس وقيل الجهاد وقيل التوبة والتي تعد كل واحدة منها من عوامل المغفرة الإلهيّة ، وتشكل هذه الأوصاف موجبات السبق إلى الجنّة والفوز بها ، ولقد أشارت الآيات بعدها إلى مسألة الانفاق والاستغفار والعفو والصفح والاحسان وكل هذه الامور من الأسباب المهمّة للمغفرة ودخول الجنّة.

ولقد ورد نفس هذا المعنى في قوله تعالى بشيء من الاختلاف حيث حَلَّ تعبير (سابقوا) محل (سارعوا) قال تعالى : (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). (الحديد / ٢١)

ومن البديهي أن (سارعوا) من باب (مفاعلة) وتأتي بمعنى التسابق والنتيجة واحدة (تأمل). ولكن بعض المفسرين فسروا (سارعوا) بمعنى المبادرة أو الاشتداد في السرعة ولم يروها من باب (مفاعلة).

على أيّة حال ، فإنّ هذه التعابير تدلل على أنّ الدنيا ساحة تسابق ، والهدف النهائي من هذه المسابقة هو الوصول إلى المغفرة والفوز بالجنّة وبهذه السعة التي وصفتها الآية الكريمة ، وسوف نتكلم حول (سعة الجنّة) في نهاية هذا الجزء إن شاء الله.

* * *

١٥٤

١٥ ـ الخوف من الله

الخوف من الله تبارك وتعالى يعني الخوف من عدالته وحسابه وكتابه وعقابه درع حصين أمام الذنوب والمعاصي وعامل فعال في مواجهة الظلم والفساد والعصيان ولهذا السبب يعتبر الخوف مفتاحاً من مفاتيح الجنّة كما قال تعالى : (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ). (الرحمن / ٤٦)

ولقد ذكر المفسرون في تفسير (مقام ربّه) احتمالين :

الأول : الاحاطة العلمية للرب تعالى بجميع أعمال الإنسان ونواياه.

الثاني : مقامه بين يدي ربّه للحساب (حيث يوجد مقدَّر في هذه الصورة والتقدير هو : «مقامه بين يدي ربّه» (١).

ومهما كان التفسير فإنّ الخوف من الله هو الوازع من كل معصية وخطيئة كما ورد ذلك في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول من خير أو من شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فله جنتان» (٢).

ولقد قيل في تفسير (جنتان) آراء عديدة :

١ ـ المقصود الجنّة (المادية) و (المعنوية) كما ورد ذلك في قوله تعالى : (جَنَّاتٌ تَجرِى مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ ... وَرِضوانٌ مِّنَ اللهِ) ، فالاولى هي البساتين التي تجري من تحتها الأنهار والثانية رضا المعبود والمحبوب الحقيقي أي الله تعالى.

٢ ـ وقيل الجنّة الاولى للإيمان والثانية للعمل.

٣ ـ وقيل جنّة لفعل الطاعات وجنّة لترك المعاصي.

٤ ـ وقيل جنّة جزاء للعمل وجنّة تفضل من الله.

وهذه الأقوال ـ كما ترى ـ لا دليل على شي منها ، ويمكن أن يكون التعبير الأول هو الأنسب ، واعتبار جميع الآراء ممكن أيضاً.

* * *

__________________

(١) ورد كلا الاحتمالين في تفسير مجمع البيان ، وتفسير الميزان.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ و ١٠ ، ص ٢٠٧.

١٥٥

١٦ ـ التولي والتبرؤ

أي محبّة أولياء الله ومعاداة أعداء الله ، وبتعبير آخر التودد للصالحين والأخيار ، والتبغض للكفار والأشرار ، والقرآن الكريم اعتبر التولي والتبرؤ مفتاح الجنّة كما جاء ذلك في قوله تعالى : (لَّاتَجِدُ قُوماً يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواءَابَآءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إِخْوانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم). (المجادلة / ٢٢)

ثم قال تعالى : أُولَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ برِوُحٍ مِّنهُ وَيُدْخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجرِى مِن تَحتِهَا الْأَنْهَارُ). (المجادلة / ٢٢)

وكما أشار تعالى في ذيل الآية الكريمة إلى أجرهم المعنوي بقوله : «رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» ، وفي النهاية أعطاهم الله تاج الفخر والشرف ونعتهم بأنهم حزب الله : «أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ» ومن الواضح أن لا تجتمع محبتان في قلب واحد فإمّا محبة الله أو محبّة أعدائه ، وعلى هذا الأساس فإنّ أقوى الأواصر وأمتنها هي تلك المبنية على أساس محبّة الله ومحبّة أوليائه ، أمّا ما سواها فهي علاقات زائفة لا معنى لها .. (فيبيّن تعالى أنّ بين الإيمان وموادة أهل المحادة تضاد فلا يجتمعان لذلك).

إنّ هذه الموادة ليست هي علاقة فحسب بل هي برنامج عمل متكامل في كافة المجالات والأصعدة ، أي هي حرب ضد ظلم الظالمين وفساد المفسدين وجرم المجرمين وهؤلاء هم المخلصون في إيمانهم ، وقوله تعالى : (أُولَئِكَ كَتَب فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيْمَانِ) يحمل معنى عميقاً ، فالكتابة جرت بيد القدرة الإلهيّة وعلى صفحة القلب وهي بمعنى ثبات ورسوخ حقيقة الإيمان في قلوبهم بحيث لا تتغير ولا تزول أبداً ، أجل فمثل هؤلاء الأفراد المؤيدين بروح القدس أيضاً هم الجديرون بحمل اسم (حزب الله) الذي هو مظهر من مظاهر التولي والتبرؤ.

* * *

١٥٦

١٧ ـ الاهتمام بالصلاة

ذكرت الآيات ٢٢ ـ ٣٤ من سورة المعارج تسع صفات من صفات أهل الجنّة وعلى أثر هذه الصفات يعدهم الله تعالى بالجنّة ، وهذه الصفات هي : المحافظة على الصلاة ، وتعيين حق ثابت في أموالهم للمحرومين ، والإيمان بيوم الجزاء ، والخوف من عذاب الله ، والمحافظة على الفروج ، وأداء الأمانة ، والوفاء بالعهد ، والقيام بالشهادة ، والمحافظة على آداب وشرائط وروح الصلاة ، وبعد ذكر هذه الصفات قال تعالى : (أُولَئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكرَمُونَ). (المعارج / ٣٥)

وهذا التعبير تعبير واحد لجميع النعم الجسمانية والروحانية.

ومن الطريف أنّ هذه الصفات التسع ابتدأت بالصلاة واختتمت بالصلاة أيضاً مع هذا الاختلاف ، وهو أنّها ابتدأت بالاستمرار على الصلاة وانتهت بالمحافظة عليها أي حفظ آدابها وشرائطها وخصوصياتها ، تلك الآداب والشرائط تحفظ مظهر الصلاة من الفساد والبطلان وكذلك تقوّي روح الصلاة التي تتمثل بحضور القلب وازالة موانع قبولها كأكل السحت ، وشرب الخمور ، والغيبة ، وأمثال ذلك.

إذن فالآية تدلل على أنّ أعمال الخير كلها تبدأ بالصلاة وتنتهي بالصلاة أيضاً ، ومن الناحية العملية أنّ أول ما يجب على الإنسان البالغ ، الصلاة وآخر ما يلازمه حتى نهاية عمره ، الصلاة أيضاً ، اللطيف هو أنّ للمحافظة على الصلاة طرفين : الأول : وجوب المحافظه عليها من الفساد والخلل ، والثاني : أنّ الصلاة تحفظ الإنسان من الفحشاء والمنكر «إِنَّ الصَّلاةَ تَنهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكُرِ» ، ونختم هذا البحث بحديث عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ قال : «من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة» (١).

* * *

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ١٦٧.

١٥٧

الخلاصة :

إنّ كل ما أشرنا إليه في الفقرات الماضية يمثل جانباً مهماً من أسباب دخول موضع الرحمة وهذه الامور تعكس النظرية الإسلامية في مجال توفير أسباب النجاة والسعادة الأبدية ، ومن جهة اخرى تمثل الدافع القوي ، للتزود بالأعمال الصالحة الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية ، وبلا شك أنّ استلهام هذه المفاهيم له أكبر الأثر في ايصال الإنسان إلى أوج التكامل والتربية والافتخار.

إلهي وفقنا لطاعتك ولا تحرمنا من مفاتيح أبواب جنانك

١٥٨

٢ ـ النعم المادية في الجنّة

تمهيد :

لقد اتّضح في بحث المعاد الجسماني أنّ المعاد في التصور القرآني له بعد جسماني وبعد روحاني أيضاً ، حيث إنّ الإنسان في تلك العرصات يحضر بجسمه وروحه ، وأنّ المواهب والعطايا الإلهيّة تشمل الاثنين معاً ، فالذين يعتقدون أنّ النعم في الجنّة كلها نعم معنوية وروحية وأنّ الآيات التي تتحدث عن هذه النعم المادية إنّما هي تعبر بلغة الكناية فإنّ هؤلاء قد غفلوا عن هذه الحقيقة وهي أنّهم وبحصرهم النعم هناك بالنعم الروحية فانّهم ينفون المعاد الجسماني وهذا خلاف صريح للآيات القرآنية التي تؤكد على وجود هذه النعم ، وكما ذكرنا في بحث المعاد الجسماني فإنّ الجسم والروح توأمان مرتبطان معا ولا يمكن أن يبلغا التكامل بمعزل عن أحدهما الآخر ، إضافة إلى هذا أنّه لايمكن للروح أن تلتذ بالمواهب والعطايا الإلهيّة بمعزل عن الجسم.

على أيّة حال ، فالنعم الجسمانية في الجنّة كالنعم الروحية متنوعة وواسعة للغاية وجاذبة للنفس ، ولقد أكد على ذلك القرآن كثيراً لكي يلفت انتباه الناس إلى الأعمال والصفات والفضائل التي توجب هذه المواهب (ومن المعلوم أنّ الإنسان يفكر بالنعم المادية قبل الروحية) وفي نفس الوقت فتح الله سبحانه فصلاً مهماً لبيان النعم المعنوية واللذات الروحية (وسنتطرق إلى هذا في الفصل اللاحق).

وإذا لم تكن النعم الروحية من ناحية شمولية البيان بمقدار النعم المادية لكنّها أكثر بكثير من النعم المادية من الناحية الكيفية ، وسنستعرض أدناه جملة من المواهب والنعم المادية الموجودة في الجنّة تحت هذه العناوين :

١٥٩

١ ـ حدائق الجنان

٢ ـ الظل الظليل.

٣ ـ قصور أهل الجنة.

٤ ـ الفرش والأرائك.

٥ ـ الأغذية والأواني.

٦ ـ الشراب الطهور.

٧ ـ أفضل شراب أهل الجنّة.

٨ ـ الأكواب والصحاف والأواني والكؤوس (الأقداح).

٩ ـ ألبسة الجنة.

١٠ ـ حلي الجنّة.

١١ ـ الحور العين.

١٢ ـ الخدم والسقاة.

١٣ ـ المضيفون.

١٤ ـ النُزُل.

١٥ ـ النعم التي لا تتصور.

ولقد وردت في كل من هذه المواضيع آيات متعددة في القرآن الكريم وسوف نستعرض هذه المواضيع على ضوء تلك الآيات.

* * *

١ ـ حدائق الجنان

يتبيّن على ضوء الآيات الواردة في هذا المجال أنّ الجنّة هي مجموعة حدائق وبساتين لا مثيل لها ولا نظير في هذه الدنيا وكل ما رسمه لنا القرآن الكريم لا يمثل إلّاصورة تقريبية كي يتمكن ساكنو هذه الدنيا من إدراك هذه المعاني ، وإلّا فإنّ حقيقة الجنّة هي ما وراء إدراكنا ، لقد ذكر القرآن أكثر من مائة آية حول الجنّة وبتعابير مختلفة مثل (جنات) أو (جنّة)

١٦٠