نفحات القرآن - ج ٦

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٦

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-000-9
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٤٢٨

٤ ـ أبواب الجنّة

تمهيد :

من المتعارف أنّ طريق الدخول إلى أيّة دار أو بناية أو حديقة مسوّرة إنّما يكون من أبوابها ، وعلى هذا فأبواب الجنّة تحدد مداخلها ، وقد تكون للأبواب أقفال لا تفتح إلّا بأدواتها الخاصّة ، وهو ما يطلق عليه العرب اسم «مفتاح» وجمعه : «مفاتيح» ، أو «مقليد ومقاليد» ، لكن أبواب ومفاتيح الجنّة لها مفهوم آخر ، وتشير إلى الأعمال والامور المفيدة الخالصة التي تكون سبباً لدخول الجنّة ، وقد وردت في القرآن إشارات غامضة إلى أبواب الجنّة ، لكن التفسيرات التي وردت بشأنها في الروايات الإسلامية ، تجسّد بوضوح القيم الإسلامية بشأن المعايير التي تؤدّي إلى دخول مستقر الرحمة الكبرى أي الجنّة ، نعود إلى القرآن لنتأمل في الآيات المختلفة التي وردت في هذا الصدد :

١ ـ (حَتَّى اذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ ابْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ). (الزمر / ٧٣)

٢ ـ (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوابُ). (ص / ٥٠)

٣ ـ (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّنْ كُلِّ بَابٍ* سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرتُم). (الرعد / ٢٣ ـ ٢٤)

جمع الآيات وتفسيرها

الجنّة في الانتظار!

تشير الآية الاولى إلى حركة أصحاب الجنّة (زمراً زمراً) نحو الجنّة : (حَتَّى اذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ ابْوَابُهَا وَقَالَ لَهُم خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) ، ويفهم منها أنّ أصحاب الجنّة عند

٢٢١

وصولهم إليها تفتح لهم الأبواب وكأنّ الجنّة في انتظارهم فتستقبلهم ويقول لهم خزنتها سلام عليكم ، حتّى أنّهم لا يتحمّلون مشقة فتح الأبواب.

ويتجلّى نفس المعنى في الآية اللاحقة ولكن بتعبير آخر : (جَنَّاتِ عَدنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْابوَابُ).

ولما كانت كلمة «مفتّحة» من باب التفعيل وتعطي في مثل هذه الموارد مفهوم الكثرة والتأكيد ، فهي ربّما تشير إلى انفتاح جميع الأبواب أمامهم لا باب واحدة ، وأنّها مفتوحة على مصاريعها تماماً.

هل تنفتح هذه الأبواب من ذاتها وكأنّ لها روح وحياة ، أم أنّها تنفتح مع اقتراب أهل الجنّة منها احتراماً لهم؟ أم أنّها تنفتح بمجرّد القصد والأمر والإرادة ولا حاجة لأية واسطة أُخرى؟ أم أنّ ملائكة الجنّة وخزّانها قد فتحوها من قبل احتراماً لأهلها ووقفوا جانباً ينتظرون قدومهم ، كما نفعل نحن تجاه الضيوف الأعزاء؟ يبدو أنّ الاحتمال الأول يناسب المقام أكثر من غيره ؛ ويحتمل أن تكون صيغة المجهول دلالة على ذلك ، وفي نفس الوقت يبدو أنّ انتظار ملائكة الجنّة وخزّانها إلى جانب الأبواب متناسباً مع الآية الاولى.

وأخيراً ورد في الآية الثالثة دخول الملائكة من الأبواب المختلفة للجنّة ، وذلك بعد استقرار أصحابها فيها ، فتقول الآية : (وَالمَلائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِّن كُلِّ بَابٍ* سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ).

ألا يعني هذا أنّ جميع الأعمال الصالحة ، التي تمثل في الحقيقة أبواب الجنّة ، تتلخص في الصبر والاستقامة؟!

* * *

توضيحان

١ ـ أبواب الجنّة في الأحاديث الإسلامية

لم تُشِر أي من الآيات القرآنية إلى وجود ثمانية أبواب للجنّة ، بل أُشير إلى أنّ

٢٢٢

جهنّم : (لَهَا سَبعَةُ أَبوَابٍ) (الحجر / ٤٤)

لكن الأحاديث الشريفة قد أشارت مراراً إلى أنّ للجنة ثمانية أبواب ، وذلك إشارة إلى أنّ طرق الوصول إلى السعادة والتي تمثل الجنّة مظهرها هي أكثر من طرق السقوط في هاوية البلاء والتي تمثل جهنّم مركزها ، وأنّ رحمة الله تسبق غضبه : «سبقت رحمته غضبه».

وقد جاء في حديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إن للجنّة ثمانية أبواب». ثم تطرق إلى شرح هذه الأبواب فقال : «يدخل من بعضها الصدّيقون ومن بعضها يدخل الشهداء والصالحون ، ومن بعضها يدخل محبّو أهل بيت العصمة عليهم‌السلام و...» (١).

وورد في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «أحسنوا الظن بالله واعلموا أنّ للجنّة ثمانية أبواب ، عرض كل منها مسيرة أربعين سنة» (٢).

هذا في حين تشير بعض الأحاديث الأُخرى إلى وجود واحد وسبعين باباً للجنّة. وورد هذا المضمون في حديث لأمير المؤمنين عليه‌السلام (٣).

ويحتمل أن تكون هذه الاعداد إشارة إلى كثرة الأبواب. إِلّا أنّها ذكرت في أحد المواضع على أنّها ثمانية مقارنة بأبواب جهنّم وذلك للدلالة على أنّ أسباب بلوغ السعادة تفوق أسباب الشقاء ، بل ويشير موضع آخر إلى كثرة الأقوام الذين يدخلون مستقر الرحمة الإلهيّة ، كل من طريقه الخاص.

ويتّضح من التعابير المختلفة لهذه الروايات أنّ أبوابها تتناسب والأعمال الصادرة عن الصلحاء والمخلصين.

جاء في حديث منقول عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «للجنّة باب يقال له باب المجاهدين ، يمضون إليه فاذا هو مفتوح وهم متقلّدون بسيوفهم والملائكة ترحّب بهم» (٤).

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٢١ ، ح ١٢.

(٢). المصدر السابق ، ص ١٣١ ، ح ٣٢.

(٣). المصدرالسابق ، ص ١٣٩ ، ح ٥٥.

(٤). اصول الكافي ، ج ٥ ، ص ٢ ، ح ٢.

٢٢٣

وورد نفس هذا المعنى في نهج البلاغة ولكن بصياغة أُخرى : «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه» (١).

وجاء أيضاً في حديث آخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إنّ للجنّة باباً يُدعى الرّيان لا يدخله إلّا الصائمون» (٢).

ونقل عنه أيضاً (صلوات الله عليه) : «إنّ للجنّة باباً يُقال له باب المعروف لا يدخله إلّا أهل المعروف» (٣).

كما أشارت أحاديث أُخرى إلى : «باب الصبر» و «باب الشكر» و «باب البلاء» ، حتّى ذكر أنّ «أبواب الجنّة تحت ظلال السيوف» (٤) (وذلك إشارة إلى الجهاد).

وتنبغي الإشارة إلى أنّ بعض الأحاديث تفيد أنّ أبواب الجنّة هم رجال الله العظماء ، كما جاء في الكافي عن الإمام الكاظم عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ عليّاً باب من أبواب الجنّة» (٥) ، وهذه إشارة إلى أنّ كل من يتّبع هذا الرجل العظيم في سلوكه وإيمانه وعمله ، يدخل الجنّة.

يتّضح ممّا سبق معنى ومفهوم أبواب الجنّة وكيفيّتها أيضاً.

* * *

٢ ـ المكتوب على أبواب الجنّة

إنّ المكتوب على باب كل بناية يعكس عادة المحتوى والهدف الحقيقي لتلك البناية ، ويتبيّن من الروايات الإسلامية وجود كتابات على أبواب الجنّة تستوجب التأمل ، وأنّ التمعّن في مدلولات تلك الروايات يضفي عمقاً أبعد على ما ذكرناه آنفاً بشأن معاني أبواب الجنّة ويستخلص منها حقائق أكثر سعة وأهميّة.

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ٢٧.

(٢). بحار الأنوار ، ج ٩٣ ، ص ٢٥٢ ، ح ١٧.

(٣). المصدر السابق ، ج ٧١ ، ص ٤٠٨ ، ح ٣.

(٤). ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ١٠٤ (نقلاً عن تفسير در المنثور ، ج ١ ، ص ٢٤٨).

(٥). اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٨٩ ، ح ٢١.

٢٢٤

من جملة ذلك الحديث الوارد عن جابر بن عبد الله نقلاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مكتوب على باب الجنّة لا إله إلّاالله محمد رسول الله ، علي أخو رسول الله» (١).

ونظراً لكون الحديث أعلاه مذكوراً في الكثير من كتب الشيعة والسنّة وبعبارات متباينة ، فهو يبيّن مدى أهميّة هذه الأسس الثلاثة في دين الإسلام.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث له : «على باب الجنّة مكتوب الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر» (٢). فيشير هذا الحديث إلى أنّ أحد المباديء الأساسية لدخول الجنّة ، هو الاهتمام بالمشاكل المالية للفقراء والمساكين في المجتمع وتقديم العون لهم.

وأخيراً جاء في حديث آخر شرحٌ لما جرى في المعراج ومشاهدة الجنّة والنّار في ذلك السفر ، فورد فيه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «للجنة ثمانية أبواب ... على كل باب منها أربع كلمات كل كلمة خير من الدنيا وما فيها لمن يعلم ويعمل بها وللنار سبعة أبواب على كل باب منها ثلاث كلمات كل كلمة خير من الدنيا وما فيها لمن يعلم ويعمل بها فقال لي جبرئيل : اقرء يامحمد عليّ ما على الأبواب فقرأت ذلك ؛ أما أبواب الجنّة فعلى أول باب منها مكتوب : لا إله إلّاالله محمد رسول الله علي ولي الله لكل شيء حيلة وحيلة العيش أربع خصال : القناعة ، وبذل الحق ، وترك الحقد ، ومجالسة أهل الخير ، وعلى الباب الثاني مكتوب : لا إله إلّا الله محمد رسول الله علي ولي الله لكل شيء حيلة وحيلة السرور في الآخرة أربع خصال مسح رؤوس اليتامى والتعطف على الأرامل والسعي في حوائج المؤمنين والتفقد للفقراء

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٣١ ، ح ٣٤. ورد هذا الحديث أيضاً أو ما يشابهه في الكثير من كتب السنّة منهم الحافظ أبونعيم الإصفهاني ، في حلية الأولياء ، ج ٧ ، ص ٢٥٦ ، والحافظ أبو بكر البغدادي في تاريخ بغداد ، ج ٧ ص ٣٨٧ ، وابن المغازلي في كتاب مناقب أمير المؤمنين (مخطوط) ، والحافظ السمعاني النيسابوري في مناقب الصحابة ، والطبري في ذخائر العقبى (ص ٦٦) ، وابن حجر العسقلاني في لسان الميزان ، ج ٤ ، ص ٨١ ونقله جماعة آخرون (للاطلاع على مزيد من المعلومات يمكن مراجعة ج ٤ من كتاب احقاق الحق ، ص ١٩٩ وما تلاها ، وص ٢٨٠ وما تلاها وص ٣٨٧).

(٢) بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٨١ ، ح ١٤٠ (ربّما يكون المراد من العدد ١٨ مرّة هو أنّ القرض يتضمن عملين من أعمال الخير وهما أولاً : «قضاء حاجة المؤمن» وثانياً : الحفاظ على حيثيته. ولكل واحد منها عشرة حسنات ، وبما أنّه يسترد المبلغ لذلك تنقص منه حسنتان وتبقى له ثمانية عشر).

٢٢٥

والمساكين ، وعلى الباب الثالث مكتوب : لا إله إلّاالله محمد رسول الله علي ولي الله لكل شيء حيلة وحيلة الصعبة في الدنيا أربع خصال قلة الكلام وقلة المنام وقلة المشي وقلة الطعام ، وعلى الباب الرابع مكتوب : لا إله إلّاالله محمد رسول الله علي ولي الله من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم والديه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت ، وعلى الباب الخامس مكتوب : لا إله إلّاالله محمد رسول الله علي ولي الله ، من أراد أن لا يُظلم فلا يظلِم ومن أراد أن لا يُشْتَتم فلا يَشتِتم ومن أراد أن لا يُذَل فلا يذِل ومن أراد أن يتمسك بالعروة الوثقى في الدنيا والآخرة فليقل لا إله إلّاالله محمد رسول الله علي ولي الله ، وعلى الباب السادس مكتوب : لا إله إلّاالله محمد رسول الله علي ولي الله من أراد أن يكون قبره وسيعاً فسيحاً فليبنِ المساجد ومن أراد أن لا تأكله الديدان تحت الأرض فليسكن المساجد ومن أحب أن يكون طرياً مطرّاً لا يبلي فليكنس المساجد ومن أحب أن يرى موضعه في الجنّة فليفرش المساجد بالبسط ، وعلى الباب السابع مكتوب : لا إله إلّا الله ، محمد رسول الله ، علي ولي الله ، بياض القلب في أربع خصال : عيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وشراء الأكفان ، وردّ القرض ، وعلى الباب الثامن مكتوب : لا إله إلّاالله ، محمد رسول الله ، علي ولي الله ، من أراد الدخول من هذه الأبواب فليتمسك بأربع خصال : السخاء ، وحسن الخلق ، والصدقة ، والكف عن أذى عباد الله تعالى» (١).

إنّ الأبعاد التربوية والإنسانية لهذا الحديث شاملة وواضحة ، وتبيّن أنّ دخول جنان الخلد رهين بأيِّ أعمال وصفات.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١٤٥ ، ح ٦٧ (مع شي من التلخيص).

٢٢٦

٥ ـ سعة الجنّة

تمهيد :

لقد قلنا مراراً أنّ العالم الذي نعيش فيه محدود وحقير جدّاً بالقياس مع العالم الآخر ، وأنّ البعث لا يمكن مقارنته في السعة والشمول بالأطر الضيّقة الموجودة في عالمنا ، ولا أدلُّ على ذلك من الآيات القرآنية والروايات الإسلامية التي تتحدث عن مساكن أهل الجنّة وسعتها ، ولابدّ لمثل هذه النعم العظمى أن توجد في عالم عظيم وهائل.

نعود إلى القرآن لنتمعن فيه وهو يصف هذه السعة والعظمة :

١ ـ (سَابِقُوا إِلَى مَغفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرضِ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ). (الحديد / ٢١)

٢ ـ (وَسَارِعُوا إِلَى مَغفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّموَاتُ وَالْأَرْضُ اعِدَّت لِلمُتَّقِينَ). (آل عمران / ١٣٣)

٣ ـ (وَاذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً ومُلْكاً كَبِيراً). (الدهر / ٢٠)

جمع الآيات وتفسيرها

كعرض السموات والأرض :

لقد قدرت الآية الاولى سعة الجنّة بعرض السموات والأرض بقولها : (سَابِقُوا الَى مَغفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرضُهَا كَعَرضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ).

ومن الواضح أنّ المقصود من «العرض» هنا ليس ما يقابل الطول بل المقصود هو المفهوم

٢٢٧

اللغوي الذي يعني السعة والامتداد ، (١) وقد تحملت جماعة من المفسّرين مشقّة كبيرة للعثور على طول الجنّة بسبب الخطأ الذي وقعوا فيه في فهم معنى «العرض».

وقال البعض أيضاً : إنّ لهذا التعبير بُعد كنائىٌّ ، لأنّ أوسع ما يمكن أن يتصوّره ذهن الإنسان هو عرض السموات والأرض ، وإلّا فسعتها الحقيقية أكبر من هذا بكثير.

وممّا يلفت الانتباه أنّ الحديث ابتدأ أولاً بالمغفرة الإلهيّة ، ثم تطرق ثانياً إلى الجنّة وما فيها من امتداد وذلك لأنّ المغفرة تعني التطهر من الذنوب ونيل الاستحقاق في القرب الإلهي وهو ما يفوق الجنّة أهميّة ، إضافة إلى أنّ الطهارة والمغفرة إذا لم تتحققا ، فلن يكون هناك طريق للجنّة.

الفعل «سابقوا» مأخوذ من مصدر «المسابقة» وهو إشارة إلى هذه المسألة التي تعني أنّ للجنّة والمغفرة أهميّة بالغة تحتّم على المؤمنين بذل الجهد لبلوغهما كما يفعل الابطال عادة حين التسابق لبلوغ هدف معيّن.

ويفهم من هذا التعبير أيضاً أنّ هذه الدنيا لا تعدو أن تكون سوى حلبة سباق والهدف النهائي لها هو ذلك العالم.

ولكن على أي شيء يجري التسابق؟ لقد وضع الكثير من المفسيرين أصابعهم على مصاديق خاصة دون سواها ، كأمثال التسابق نحو «الإسلام» أو «الهجرة» أو «الصلوات الخمس» أو «الجهاد» أو «التوبة».

إِلّا أنّه من الواضح أنّ الآية تحمل مفهوماً أوسع يشمل جميع الطاعات والأعمال الصالحة ، وأنّ ما ورد في كلام هذه المجموعة من المفسرين يمثّل في الواقع مصداقاً واحداً من هذا المفهوم الواسع.

* * *

__________________

(١). قال الكثير من أصحاب اللغة أنّ «العرض» يقابل «الطول». لكنهم لم ينكروا أنّ العرض جاء أيضاً بمعنى السعة ، ووفقاً لما ورد في كتاب «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» المعنى الأصل للعرض هو وضع الشيء في مقابل الانظار ، ولما كان نظر الإنسان غالباً ما يقع على عرض الأشياء لا طولها ، لذلك استخدمت هذه الكلمة في المعنى المذكور أعلاه ، وعلى هذا فعرض السموات والأرض في الآية التي نبحثها يعني كل وجودهما الذي يمكن مشاهدته.

٢٢٨

أمّا الآية الثانية فهي انعكاس ـ ولكن بتعابير أُخرى ـ لنفس هذه القضية ، فهناك كان الكلام عن السباق وهنا عن المسارعة ، وهناك أوضحت الآية أنّ سعة الجنّة بعرض السماء والأرض ، وهنا حُذِفت «كاف» التشبيه ، وحلّت كلمة السموات محل كلمة السماء ، وأشارت الآية هناك إلى أنّها ـ أي الجنّة ـ اعدّت للذين آمنوا بالله ورسله ، وهنا تقول الآية أنّها : «اعدّت للمتقين» حيث نصّت على : (وَسَارِعُوا الَى مَغفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّموَاتُ وَالْأَرضُ اعِدَّت لِلمُتَّقِينَ).

ولا يخفى أنّ «التسابق» يرتبط «بالمسارعة في العمل» وأنّ «المتقين» هم «الذين يؤمنون بالله ورسله» وذلك لأنّ التقوى هي انعكاس للإيمان الراسخ ، وكلمة «السماء» تنطوي أيضاً على معنى الجنس الذي يشمل جميع السموات ، إذن فالآيتان في واقعهما تنشدان حقيقة واحدة.

وهنا واجه الكثير من المفسّرين سؤالاً حول ما إذا كانت سعة الجنّة كعرض السموات والأرض ، فلن يبقى هناك مكان للنار!

ويمكن تبيان جواب هذا السؤال بالصورة الآتية ، وهي أنّ العالم يومذاك سيكون أوسع بمرّات عديدة من عالمنا هذا ، لأنّه عالم أفضل وأكمل ، وستكون سعة الجنّة فيه بسعة السماء والأرض في عالم اليوم ، والنّار في معزل عنه ، لأنّ ذلك العالم أوسع من عالمنا اليوم في جميع الجوانب.

وهناك جواب آخر أيضاً عن هذا السؤال يتلخص في أنّ النور والظلام متزاحمان ، وكذلك النعمة والنقمة في هذا العالم ولا تجتمعان طبعاً في مكان واحد ، ولكن ذلك العالم لا يحفل بمثل هذا التزاحم ، فربّما يوجد الاثنان معاً وهما يغطّيان العالم في وقت واحد ، وبما أنّهما مرحلتان من مراحل الوجود والكينونة فهما لا يتزاحمان مع بعضهما.

ويمكن الإتيان بمثال بسيط لتوضيح هذا المعنى في الأذهان وهو : ربّما تقوم احدى محطات الارسال الاذاعي ببث صوت رقيق وناعم على احدى موجاتها وفي نفس الوقت ينبعث من محطّة إرسال أُخرى صوت مزعج وكريه يصمّ الآذان مصحوباً بأنغام مرعبة ،

٢٢٩

وربمّا تغطي هاتان الموجتان جميع أنحاء الكرة الأرضية إلّاأنّهما غير مسموعتين من قبل الناس العاديين ، والشخص الوحيد الذي يمكنه الاستماع هو الذي يستطيع تنظيم أمواج محطته مع الموجه الاولى إذ يمكنه عند ذاك الاستغراق في سماع النغمات الممتعة ، أمّا الذين ينظمون أمواج محطتهم مع الموجة الثانية فيلقون العذاب والشقاء وكان الفريق الأول في الجنّة والثاني في جهنّم ، وسنشرح هذا الكلام عمّا قريب بإذن الله.

* * *

وجاء في الآية الثالثة والأخيرة تعبير غني بخصوص عظمة الجنّة ، وظاهر الآية يُخاطب به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَاذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيتَ نَعِيماً وَمُلكاً كَبِيراً) (١).

وطرحت في تفسير الملك الكبير آراء متعددة تبلورت بصورة رئيسية حول محورين : فقال جماعة : إنّ الملك الكبير إشارة إلى سعة وعظمة الجنّة وما فيها من قصور وغرف وحدائق ، ومن جملة ذلك ماورد في أحد التفاسير : «إنّ أدناهم منزلة ينظر في ملكه من مسيرة الف عام ، وفي بعض الروايات لمسافة الفي سنة» (٢).

واعتبره آخرون إشارة إلى العظمة المعنوية للجنّة والمقامات الرفيعة لأهلها ، ومن جملة ذلك : أنّ الملائكة لا يدخلون عليهم إلّابإذنٍ منهم ، ويؤدّون لهم التحية والسلام ، أو أنّ الفناء والزوال لا وجود له هناك ، أو أنّ لكل واحد منهم هناك سبعين باباً (٣).

وفسّر جماعة آخرون «الملك» بمعنى الملكية ، والبعض الآخر قالوا إنّه يعني الحاكمية.

وقال آخرون في تفسير «الملك الكبير» أنّه يعني «القرب إلى الله والشهود المعنوي

__________________

(١). «ثَمّ» هنا ظرف مكان. و «رأيت» فعل لازم ، وعلى هذا يكون معنى الآية : عندما تنظر هناك ترى نعمة كبيرةوملكاً عظيماً. وبناءً على التفسير الآخر يكون «رأيت» فعل متعدّ و «ثمّ» اسم إشارة للبعيد ومفعول به ، فيكون مفهوم الآية : (إذا رأيت ذلك المكان رأيت نعيماً وملكاً كبيراً).

(٢). تفسير روح الجنان ، ج ١١ ، ص ٣٥٢ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٣٦٦٩ ؛ وتفسير المعاني ، ج ٢٩ ، ص ١٦١ ؛ وتفسير مجمع البيان ، ج ٩ و ١٠ ، ص ٤١١.

(٣). تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤١٥ ؛ وتفسير مجمع البيان ، ج ٩ و ١٠ ، ص ٤١١.

٢٣٠

لجلاله وجماله» ويمكن الجمع بين كل هذه المعاني ، لعدم وجود أي تضاد بينها.

والذي يتّضح من مجموع هذه الآيات أنّه وكما أنّ النعم في الجنّة تستعصي على الوصف بسبب أهمّيتها واتساعها وتنّوع أشكالها ، فكذلك الحال بالنسبة لعظمة الجنّة وسعتها.

فكلّما يُقال في هذا الباب يبقى قاصراً عن أداء الوصف المطلوب.

* * *

٢٣١
٢٣٢

٦ ـ هل الجنّة مخلوقة؟

تمهيد :

مع أنّ الوعد الإلهي حق ، ولا تخلف فيه ، وأنّ جزاء المؤمنين ومعاقبة وتعذيب الكافرين الذي وعد بهما الله سيتحقق قطعاً ، لأنّ التخلف عن الوعد لا يكون إلّابسبب العجز والضعف أو بسبب الجهل والندم ، وهذا ما لا يمكن أن توصف به ذاته المقدّسة ، وعلى هذا يمكن للجميع أن يرجوا وعده ويخشوا وعيده وما أنذر به من العقاب ، إلّاأنّ الآيات القرآنية ـ رغم ذلك ـ تؤكّد أنّ الجنّة والنّار مخلوقتان الآن وهما موجودتان الآن وجاهزتان لاستقبال المستحقّين!

ويُستفاد أيضاً من الروايات المختلفة أنّ الأعمال الصالحة التي تصدر عن الناس هي التي توجد الجنّة ، وهذا يُعتبر دليلاً على وجود الجنّة في هذا الوقت ، وسبب هذا التأكيد من أجل أن تدخل مسألة العقاب والثواب مرحلة أكثر جدّية ، ولأجل أنّ يشعر المحسنون بوجود جزاء لأعمالهم على مقربة منهم ، وليتحسس المسيؤون عواقب أفعالهم.

ونعود بعد هذا التمهيد الوجيز إلى القرآن ونتدبّر في الآيات الواردة في هذا الصدد :

١ ـ (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّموَاتُ وَالْارْضُ أُعِدَّتْ لِلمُتَّقِينَ). (آل عمران / ١٣٣)

٢ ـ (وَجَنَّةٍ عَرضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْارْضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ). (الحديد / ٢١)

٣ ـ (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلكَافِرِينَ). (البقرة / ٢٤)

٤ ـ (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ). (آل عمران / ١٣١)

٥ ـ (وَلَقَد رَءَاهُ نَزْلَةً أُخرى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى). (النجم / ١٣ ـ ١٥)

٢٣٣

٦ ـ (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ). (العنكبوت / ٥٤)

٧ ـ (إِنَّ الابرَارَ لَفِى نَعِيمٍ* وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ* يَصْلَونَهَا يَومَ الدِّينِ* وَمَا هُم عَنهَا بِغَائِبيِنَ). (الانفطار / ١٣ ـ ١٦) ٨ ـ (كَلَّا لَو تَعلَمُونَ عِلمَ اليَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَينَ الْيَقِينِ). (التكاثر / ٥ ـ ٧)

جمع الآيات وتفسيرها

اعدّت للمتقين!

جاء في الآية الاولى والثانية بعد الإشارة إلى سعة الجنّة وعظمتها وأنّها كعرض السموات والأرض ، إلى أنّها «أعدّت للمتقين».

قال كبار المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآية أنّه يُستفاد منها أنّ الجنّة مخلوقة وموجودة الآن (١).

وممّا يلفت الانتباه أنّ القرطبي أشار في تفسيره لهذه الآية قائلاً : «يرى غالبية علماء الإسلام أنّ الجنّة مخلوقة الآن وموجودة ، وأنّ صريح روايات المعراج والروايات الاخرى الواردة في «الصحيحين» وغيرهما يفيد هذا المعنى ، لكن المعتزلة رفضوا هذا المعنى ولم يعتقدوا به وقالوا : إنّها تخلق بعد نهاية هدا العالم ، وذلك لأنّها دار الثواب وهنا دار التكليف ، وهما لاتجتمعان» (٢). ولا يشكل استدلال المعتزلة هذا إلّامغالطة لا أكثر ولا أقل ، لأنّ الحديث هنا يدور حول خلقها حالياً لا دخول الناس فيها.

وتناولت الآيتان الثالثة والرابعة موضوع الوجود الحالي لـ «جهنّم» إذ جاء في إحداهما : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ اعِدَّتْ لِلكَافِرِينَ).

__________________

(١). تفسير مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٥٠٤ ؛ وتفسير الكبير ، ج ٩ ، ص ٤ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ٢ ، ص ٩٤ ؛ وتفسير روح الجنان ، ج ٣ ، ص ١٨٨ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٢ ، ص ١٤٦ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٤ ، ص ٥١ ؛ وتفسير المنار ، ج ٤ ، ص ١٣٢.

(٢). تفسير القرطبي ، ج ٢ ، ص ١٤٤٧.

٢٣٤

فتدل هذه الآيات على الوجود الحالي لجهنّم أيضاً وقد صرح بهذا المعنى جماعة من المفسرين ، رغم ما ورد بشأنها من تفسير ، وما قيل في معنى «اعدّت» فمع أنّه فعل ماض إلّا أنّه يدل على المستقبل لأنّ المستقبل المؤكد يأتي أحياناً على صيغة الفعل الماضي ، وهذا بخلاف ظاهر الآية ، ومثل هذا التفسير غير ممكن بلا وجود شاهد وقرينة.

وتتحدث الآية الخامسة عن قصة معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلة : (وَلَقَد رَءَاهُ نَزلَةً أُخرى * عِندَ سِدرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى).

لكن هل أنّ «جنّة المأوى» هي جنّة البرزخ أم أنّها جنّة الخلد؟

فالمفسرون يختلفون في الحكم على هذا الموضوع ، فكلمة «المأوى» ربّما تستدعي إلى الذهن معنى الخلود رغم ما يفترضه كون هذه الجنّة في بعض السموات من تداعي معنى الجنّة البرزخية ، لأنّ جنّة الخلد تمتد على سعة الأرض والسموات.

وعلى هذا فالاستدلال بالآية الآنفة الذكر بشأن مخلوقية الجنّة لا يتطابق إلّامع التفسير الأول ، ورجّح جماعة من المفسرين هذا المعنى ، منهم : الطبرسي في مجمع البيان والعلّامة الطباطبائي رحمه‌الله في الميزان.

وتتحدث الآية التالية عن احاطة جهنّم بالكافرين بسبب اصرارهم وعنادهم إذ يقول القرآن الكريم : (يَسْتَعجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ).

إنّهم لم يؤججوا لأنفسهم جهنّم الدنيا بشركهم وذنوبهم وعصيانهم وظلمهم فحسب بل وحتّى جهنّم الآخرة قد أصبحت محيطة بهم لاسيما مع التنّبه إلى بداية الآية التي تتحدث عن استعجال الكّفار بالعذاب ، ومن المناسب هنا القول : لماذا تستعجلون فإنّكم الآن في جهنّم إلّاأنّ حجب هذا العالم تحول دون تأثيرها المباشر عليكم ، لكن هذه الحجب ستزول يوم القيامة وتشاهدون حينها بأعينكم إحاطة جهنّم بكم (١).

وطرح احتمال آخر في تفسير هذه الآية وهو أنّها إشارة إلى يوم القيامة ، والآية التالية لها والتي جاء فيها : (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوقِهِم). (العنكبوت / ٥٥)

هي بمثابة القيد لإحاطة جهنّم.

__________________

(١). رجح المرحوم العلّامة الشعراني هذا المعنى في هامش تفسير روح الجنان ، ج ٩ ، ص ٣٠.

٢٣٥

وبعبارة اخرى ، جُعلت هذه الجملة إشارة إلى المستقبل المؤكد ، فكما ذكرنا أنّ اللغة العربية تعبر عن المستقبل المؤكد «المضارع المتحقق الوقوع» بالحال حيناً وبالفعل الماضي حيناً آخر.

ويمكن الاستعانة بآيات سورة الانفطار لتأكيد التفسير الأول حيث جاء فيها : (انَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ* وَانَّ الفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ* يَصْلَونَهَا يَوْمَ الدِّينِ* وَمَاهُم عَنهَا بِغَائِبِينَ).

يتّضح من هذا التعبير أنّ «الصلي» يكون يوم القيامة إلّاأنّ جهنّم محيطة بالكافرين الآن ، رغم أنّ الحجب تحول دون احتراقهم في الدنيا ، لاسيما ما ورد في جملة : (وَمَا هُم عَنهَا بِغَائِبِينَ) فهو تأكيد مجدد على هذا المعنى (فتأمّل).

وتخاطب الآية الآخيرة منكري يوم القيامة قائلة : (كَلَّا لَو تَعلَمُونَ عِلمَ اليَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ) ثم تضيف مؤكّدة : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَينَ اليَقِينِ).

ولو أننا أخذنا معنى الآية كما هو في الظاهر (واعتبرنا «لو» شرطاً وجزاؤها «لترونّ الحجيم») لكانت تعني : إنّ الذين لديهم «علم اليقين» يشاهدون جهنّم وهم في هذا العالم ، وهذا الكلام يستلزم وجودها حالياً.

أثار المفسرون ضجّة في تفسير هذه الآية ، واختار كل منهم طريقاً خاصاً وكأنّهم في الغالب لم يتمكنوا من هضم هذا المعنى وهو إمكانية إشارة هذه الآيات إلى مشاهدة جهنّم في الدنيا ، ومن ثم مشاهدتها في الآخرة.

فنحن نرى عدم إمكانية اعتبار الآية مكرّسة تماماً للآخرة وذلك لأنّ جميع الكفار والمجرمين يرون جهنّم في القيامة وهذا ممّا لايحتاج إلى الشرط ، ولهذا اعتقد جماعة بحذف جزاء الشرط هنا بل وادّعى الفخر الرازي اتّفاق المفسرين على هذا المعنى (١). ولكن من البديهي أنّ هذا الكلام مبالغ فيه فليس هناك اتّفاق في الآراء بشأن هذه المسألة ، وعلى أيّة حال فقد اعتبر جماعة من المفسرين أنّ المعنى يكون هكذا : «لو تعلمون علم اليقين لما ألهاكم التكاثر» (٢).

__________________

(١). تفسير الكبير ، ج ٣٢ ، ص ٧٨.

(٢). تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٣٠.

٢٣٦

أمّا المجموعة الأخرى التي رأت عدم صحة الرأي القائل بحذف الجزاء ، فإنّها اعتبرت الرؤية علمية وقلبية ، واستناداً إلى هذا سيكون معنى الآية : «لو أنّكم علمتم علم اليقين لأيقنتم بجهنم».

من الواضح أنّ كلا التفسيرين الأول والثاني يخالف ظاهر هذه الآيات ، لأنّ اعتبار الجزاء محذوفاً يخالف القاعدة وكذلك تفسير الرؤية بمعنى العلم (١).

وعلى هذا لو أننا أخذنا الآية كما هي من غير حذف أو تقدير ، وفسّرنا ألفاظها طبقاً لمعناها الحقيقي : فستكون النتيجة نفس التفسير المذكور آنفاً ، وقد ارتضى بعض المفسّرين هذا المعنى ولو بأعتباره واحداً من الاحتمالات على أقل تقدير.

ويلحظ في الروايات الإسلامية تعابير واضحة تتسّق وهذا المعنى ، من جملتها القصّة المشهورة لذلك الشاب المؤمن والتي وردت في كتاب الكافي وبصورة حديث منقول عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى بالناس الصبح ، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه ، مصفرّاً لونه ، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف أصبحت يافلان؟ قال : أصبحت يارسول الله موقناً ، فعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله وقال : إنّ لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال : إنّ يقيني يارسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي واظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب وحُشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة ، يتنعمون في الجنّة ويتعارفون وعلى الارائك متكئون وكأنّي أنظر إلى أهل النّار وهم فيها معذبون مصطرخون وكأنّي الآن أسمع زفير النّار يدور في مسامعي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : هذا عبدٌ نوّر الله قلبه بالإيمان ، ثم قال له ، ألزم ما أنت عليه ، فقال الشاب : ادع الله لي يارسول الله أن ارزق الشهادة معك فدعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر» (٢).

__________________

(١). كلمة «الرؤية» تفيد معنى العلم أيضاً وذلك فيما لو تعدت إلى مفعولين ، بينما هذه الآية ليست كذلك ، وينبغي الالتفات إلى أنّ الآية التالية «ثم لترونّها عين اليقين» يمكن أن تشير إلى القيامة.

(٢). اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٥٣ باب حقيقة الإيمان ، ح ٢ (مع بعض التلخيص).

٢٣٧

وجملة «كأنّي الآن اسمع زفير النّار يدور في مسامعي» دليل على وجود جهنّم حالياً وأنّه يراها بعينه عن طريق الإيمان الممتزج بالشهود.

ويُستفاد من مجموع الآيات المذكورة أنّ الجنّة والنّار مخلوقتان وموجودتان حالياً ولو عُرِض هناك شكّ في دلالة بعض هذه الآيات لا يمكن ـ على أقلّ تقدير ـ التشكيك في دلالة المجموع ، وخاصة الآيات التي تدور فيها كلمة «أعدّت».

* * *

توضيحات

١ ـ آراء العلماء المسلمين في خلق الجنّة والنّار

يعتقد أغلب العلماء المسلمين ـ كما أشرنا سابقاً ـ بأنّ الجنّة والنّار موجودتان في الوقت الحاضر واستدلوا ببعض الآيات المذكورة مسبقاً لتدعيم معتقدهم هذا ، لكن بعض علماء الكلام من أمثال أبي هاشم وعبد الجبار وهما من قدماء المتكلمين يعتقدون بأنّ الجنّة والنّار ليس لهما وجود حالياً وأنّهما سيخلقان فيما بعد ، وتأكيداً لرأيهم هذا استدلّوا بالآية الشريفة : (كُلُّ شَىءٍ هَالِكٌ إلَّاوَجْهَهُ). (القصص / ٨٨)

فلو كانتا موجودتين حالياً فانّهما ستتعرضان للفناء في نهاية هذا العالم وعندئذ تتنافى هذه الآية مع الآية القرآنية القائلة : (اكُلُهَا دَائِمٌ). (الرعد / ٣٥)

يقول العلّامة الحلي رحمه‌الله ردّاً على هذا الاستدلال : «إنّ الهلاك والفناء اللذين وردا في الآية يُراد منهما الخروج عن قابلية الاستفادة ، ومن البديهي أنّ الناس وجميع المكلفين لو كُتب عليهم الفناء لما عادت للجنّة أيّة فائدة».

والجواب الآخر عن هذا السؤال هو أنّ الجنّة والنّار غير موجودتين في ظاهر هذا العالم بل في باطنه ، والهلاك والفناء يصدقان على ظاهر هذا العالم. (سيأتي عمّا قريب مزيد من التفاصيل بهذا الصدد).

٢٣٨

وقال البعض أيضاً : إنّ الآية : (كُلُّ شَىءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) تشير إلى أنّ الله عزوجل وكل ماخلق بغير أسباب مادّية وبلطفه ورحمته ، خالد ، وأنّ كلمة «وجه الله» تشمل جميع هذه المعاني ومنها الجنّة والنّار وأنّ الفاني والهالك هو عالم المادّة الذي جاء إلى الوجود بعلل مادية.

٢ ـ الوجود الحالي للجنّة والنّار في الروايات الإسلامية

هناك الكثير من الأحاديث الإسلامية تدعم هذا المعنى وتؤكد أنّ الجنّة والنّار مخلوقتان حالياً ، ومن جملة ذلك ماورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام حين سأله أحد أصحابه عن الجنّة والنّار هل هما مخلوقتان؟ قال عليه‌السلام : «وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد دخل الجنّة ورأى النّار لمّا عُرِج به إلى السماء». فقال له السائل : إنّ قوماً يقولون إنّهما اليوم مقدّرتان غير مخلوقتين. فقال عليه‌السلام : ماأولئك منّا ولا نحن منهم ، من أنكر خلق الجنّة والنّار فقد كذّب النبي وكذّبنا» (١).

ووردت في الكثير من الروايات الإسلامية المتعلّقة بمعراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إشارات إلى موضوع الجنّة والنّار ووجودهما حالياً وهي تشكل في الحقيقة تأكيداً لما ورد في الآيات التي تناولناها بالبحث وأشار إليها القرآن الكريم في سورة النجم أثناء الحديث عن معراج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية : (وَلَقَد رَءَاهُ نَزْلَةً اخرى * عِندَ سِدرَةِ المُنتَهَى) «... وأمّا الرد على من أنكر خلق الجنّة والنّار فقوله عندها جنّة المأوى ، أي عند سدرة المنتهى ، فسدرة المنتهى في السماء السابعة وجنّة المأوى عندها» (٢).

وهناك روايات تؤيد هذا المعنى جاءت في مصادر أهل السنّة ومصادر الشيعة بخصوص ولادة السيّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام جاء فيها أنّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لما عرج بي

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٨ ، ص ١١٩ ، ح ٦.

(٢). تفسير علي بن إبراهيم ، ج ٢ ، ص ٣٣٥.

٢٣٩

إلى السماء أخذ بيدي جبرائيل عليه‌السلام فأدخلني الجنّة فناولني من رطبها فأكلته فتحوّل ذلك نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة عليها‌السلام ففاطمة حوراء إنسية فكلما اشتقت إلى رائحة الجنّة شممت رائحة ابنتي فاطمة» (١).

جاء في تفسير قوله تعالى : (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيهَا زَكَرِيَّا الِمحرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ...). (آل عمران / ٣٧)

وفي الكثير من المصادر الإسلامية الشيعية منها والسُنّية أنّ ذلك الطعام كان من فاكهة الجنّة كان الله يعطيها لمريم في غير أوانها (٢).

وهناك روايات إسلامية وردت بشأن فاطمة الزهراء عليها‌السلام منها أنّ الله تعالى قد أنزل عليها مائدة من الجنّة وقد أكل منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام وعدد من نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والجيران وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد شبّه ذلك بقصة مريم وقال : «الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني اسرائيل» (٣).

قد يُقال إنّ هذا الكلام يتعلّق بالجنّة البرزخية وهي الجنّة التي تستقر فيها أرواح الشهداء بعد الشهادة وقبل القيامة ، والجواب على مثل هذا الاعتراض هو أنّ الجنّة البرزخية ليست جنّة مادّية بل هي ذات بعد مثالي والأرواح تنعم فيها على هيئة القوالب المثالية ، ومن البديهي أنّ مثل هذه الجنّة الخالية من الجانب المادي لن تحوي فاكهة نظير الفاكهة الموجودة في عالمنا هذا والتي يمكن أنّ يستفيد منها الجسم المادّي ، بل هي تشبه في بعض جوانبها المشاهد التي يراها الإنسان في المنام ويتلذذ بها.

__________________

(١). ورد مضمون هذا الحديث في الكتب الشيعية وفي الكثير من الكتب السنّية مثل : ذخائر العقبى ، ص ٣٦ وص ٤٤ ؛ والمستدرك على الصحيحين ، ج ٦ ، ص ١٥٦ ؛ وتفسير الدر المنثور للسيوطي في تفسير آية «سبحان الذي اسرى بعبده» .. وكتب اخرى.

(٢). تفسير العياشي ؛ وتفسير البرهان ؛ وتفسير نور الثقلين ؛ وكذلك تفسير الدر المنثور ذيل الآية ٣٧ من سورة آل عمران.

(٣). نقله كل من الزمخشري في الكشاف ؛ والسيوطي في تفسير در المنثور في ذيل الآية ٣٧ من سورة آل عمران ؛ والثعلبي في قصص الأنبياء في ص ٥١٣.

٢٤٠