الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

(بَصِيرٌ) بأحوالهم (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) يعني القرآن (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) أي اخترناهم ، ومعنى الإرث : انتهاء الحكم إليهم ، ومصيره لهم كما قال : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها). واختلف في الذين اصطفاهم الله تعالى من عباده في الآية فقيل : هم الأنبياء اختارهم الله برسالته وكتبه ، وقيل : هم أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أورثهم الله كل كتاب أنزله ، وقيل : هم علماء أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لما ورد في الحديث : العلماء ورثة الأنبياء ؛ والمروي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أنّهما قالا : هي لنا خاصة وإيانا عنى ؛ وهذا أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الاصطفاء والاجتباء ، وإيراث علم الأنبياء إذ هم المتعبدون بحفظ القرآن وبيان حقائقه والعارفون بجلائله ودقائقه (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) الضمير في منهم يعود إلى العباد وتقدير الكلام : فمن العباد ظالم ، وعن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في الآية : أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة ، فهم الذين قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) وقيل ان الظالم : من كان ظاهره خيرا من باطنه ، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه ، والسابق : الذي باطنه خير من ظاهره (بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره وتوفيقه ولطفه (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) معناه : ان إيراث الكتاب ، واصطفاء الله إياهم هو الفضل العظيم من الله عليهم (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) هذا تفسير للفضل ، كأنّه قيل : ما ذلك الفضل؟ فقال : هي جنات (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) جمع أسورة ، وهي جمع سوار (مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) والمعنى : ويحلّون فيها لؤلؤا (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) وهو الابريسم المحض (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أخبر سبحانه عن حالهم انهم إذا دخلوا الجنة يقولون : الحمد لله اعترافا منهم بنعمته لا على وجه التكليف ، وشكرا له على ان أذهب الغم الذي كانوا عليه في دار الدنيا عنهم (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ) لذنوب عباده ، وقبيح أفعالهم (شَكُورٌ) يقبل اليسير من محاسن أعمالهم وقيل ان شكره سبحانه هو مكافأته لهم على الشكر له ، والقيام بطاعته (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) أي أنزلنا دار الخلود يقيمون فيها أبدا ، لا يموتون ولا يتحوّلون عنها (مِنْ فَضْلِهِ) أي ذلك بتفضّله وكرمه (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) لا يصيبنا في الجنة عناء ومشقة (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أي ولا يصيبنا فيها اعياء ومتعبة في طلب المعاش وغيره.

٣٦ ـ ٤٠ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بوحدانية الله ، وجحدوا نبوّة نبيّه (لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) جزاء على كفرهم (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) بالموت (فَيَمُوتُوا) فيستريحوا (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي ولا يسهّل عليهم عذاب النار (كَذلِكَ) أي ومثل هذا العذاب ونظيره (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) جاحد كثير الكفران ، مكذّب لأنبياء الله (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) أي يتصايحون بالإستغاثة يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا) من عذاب النار (نَعْمَلْ صالِحاً) أي نؤمن بدل الكفر ، ونطع بدل المعصية والمعنى : ردّنا إلى الدنيا لنعمل بالطاعات التي تأمرنا بها (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) من المعاصي ؛ فوبّخهم الله تعالى فقال (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي ألم نعطكم من العمر

٥٨١

مقدار ما يمكن أن يتفكّر ويعتبر وينظر في أمور دينه ، وعواقب حاله من يريد أن يتفكّر ويتذكر؟ واختلف في هذا المقدار فقيل : هو ستّون سنة ، وهو المروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : العمر الذي اعذر الله فيه إلى ابن آدم ستّون سنة ، وهو احدى الروايتين عن ابن عباس وروي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا مرفوعا انه قال : من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه ، وقيل : هو أربعون سنة عن ابن عباس ومسروق وقيل : هو توبيخ لإبن ثماني عشرة سنة عن وهب وقتادة ، وروي ذلك عن الصادق عليه‌السلام (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي المخوّف من عذاب الله وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ابن زيد والجبائي وجماعة وقيل : النذير القرآن عن زيد بن علي وقيل النذير الشيب عن عكرمة وسفيان بن عيينة ، ومنه قيل :

رأيت الشّيب من نذر المنايا

بصاحبه وحسبك من نذير

وقال عدي بن زيد :

وابيضاض السّواد من نذر المو

ت وهل بعده يجيء نذير

وقيل النذير موت الأهل والأقارب وقيل : كمال العقل (فَذُوقُوا) العذاب وحسرة الندم (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) يدفع عنهم العذاب (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يخفى عليه شيء مما يغيب عن الخلائق علمه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي فلا تضمروا في أنفسكم ما يكرهه سبحانه فإنه عالم به (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي جعلكم معاشر الكفار أمة بعد أمة ، وقرنا بعد قرن عن قتادة وقيل أي جعلكم خلائف القرون الماضية بأن أحدثكم بعدهم ، وأورثكم ما كان لهم (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي فعليه ضرر كفره ، وعقاب كفره (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أي أشدّ البغض (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أي خسرانا وهلاكا (قُلْ) يا محمد (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) معناه : اخبروني أيّها المشركون عن الأوثان الذين اشركتموهم مع الله في العبادة أروني ماذا خلقوا من الأرض؟ أي بأيّ شيء أوجبتم له شركا مع الله تعالى في العبادة ، أبشيء خلقوه من الأرض؟ (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي شركة في خلقها (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) أي أم أنزلنا عليهم كتابا يصدق دعواهم فيما هم عليه من الشرك (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ) أي فهم على دلالات واضحات (مِنْهُ) أي من ذلك الكتاب. أراد فإن جميع ذلك محال لا يمكنهم إقامة حجة ولا شبهة على شيء منه وقيل أم آتيناهم كتابا بأن الله لا يعذّبهم على كفرهم فهم واثقون به (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) معناه : ليس شيء من ذلك لكن ما يعد بعض الظالمين بعضا إلا غرورا لا حقيقة له يغرونهم ، يقال : غرّه : إذا أطمعه فيما لا يطمع فيه.

٤١ ـ ٤٥ ـ ثم اخبر سبحانه عن عظم قدرته ، وسعة مملكته فقال (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) معناه : انه يمسك السموات من غير علاقة فوقها ، ولا عماد تحتها ، ويمسك الأرض كذلك (أَنْ تَزُولا) أي لئلا تزولا (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ) أي وان قدر ان تزولا عن مراكزهما ما أمسكهما أحد ، ولا يقدر على امساكهما أحد (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد الله تعالى (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) أي قادرا لا يعاجل بالعقوبة من استحقّها (غَفُوراً) أي ستّارا للذنوب ، كثير

٥٨٢

الغفران. ثم حكى عن الكفار فقال (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) يعني كفار مكة حلفوا بالله قبل أن يأتيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإيمان غليظة غاية وسعهم وطاقتهم (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي رسول مخوّف من جهة الله تعالى (لَيَكُونُنَّ أَهْدى) إلى قبول قوله واتباعه (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) الماضية يعني اليهود والنصارى والصابئين (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما زادَهُمْ) مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) أي تباعدا عن الهدى ، وهربا من الحق والمعنى : انهم ازدادوا عند مجيئه نفورا (اسْتِكْباراً) أي تكبّرا وتجبّرا وعتوّا على الله ، وأنفة من أن يكونوا تبعا لغيرهم (فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي وقصد الضرر بالمؤمنين ، والمكر السيء : كل مكر أصله الكذب والخديعة ، وكان تأسيسه على فساد ، لأن من المكر ما هو حسن ، وهو مكر المؤمنين بالكافرين إذا حاربوهم من الوجه الذي يحسن أن يمكروا بهم ، والمراد به ها هنا المكر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبأهل دينه واضيف المصدر إلى صفة المصدر فالتقدير ومكروا المكر السيء بدلالة قوله (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) والمعنى : لا ينزل جزاء المكر السّيّىء إلا بمن فعله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي فهل ينتظرون إلّا عادة الله تعالى في الأمم الماضية أن يهلكهم إذا كذّبوا رسله ، وينزل بهم العذاب ، ويحلّ عليهم النقمة جزاء على كفرهم وتكذيبهم ، فإن كانوا ينتظرون ذلك (فَلَنْ تَجِدَ) يا محمد (لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي لا يغيّر الله عادته من عقوبة من كفر نعمته ، وجحد ربوبيته ولا يبدّلها (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) فالتبديل تصيير الشيء مكان غيره والتحويل : تصيير الشيء في غير المكان الذي كان فيه والتغيير : تصيير الشيء على خلاف ما كان (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي ألم يسر هؤلاء الكفار الذين أنكروا اهلاك الله الأمم الماضية في الأرض (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كيف أهلك الله المكذّبين من قبلهم مثل قوم لوط وعاد وثمود فيعتبروا بهم (وَكانُوا) وكان أولئك (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء (قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) أي لم يكن الله يفوته شيء (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) بجميع الأشياء (قَدِيراً) على ما لا نهاية له. ثم منّ سبحانه على خلقه بتأخيره العقاب عنهم فقال (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) من الشرك والتكذيب لعجّل لهم العقوبة وهو قوله (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) والضمير عائد إلى الأرض وان لم يجر لها ذكر لدلالة الكلام على ذلك والعلم الحاصل به (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يمهلهم إلى وقت معلوم مسمى وهو يوم القيامة ، وقيل : إلى وقت يعلمه الله تعالى انه لا يكون في بقائهم فيه مصلحة لأنهم لا يؤمنون ، ولا يخرج من نسلهم مؤمن ، وانما يؤخرهم تفضلا منه سبحانه ليراجعوا التوبة ، أو لما في ذلك من المصلحة. وقيل : ان معنى الآية : لو يؤاخذهم بذنبهم لحبس المطر عنهم حتى تهلك كل دابة ، عن السدي وعكرمة (سؤال) متى قيل : إن المكلّف الظالم يستحق العقوبة بظلمه فما بال الحيوانات تؤخذ بغير جرم؟ (فجوابه) ان العذاب للظالم عقوبة ، ولغير الظالم عبرة ومحنة ، فيكون كالأمراض النازلة بالأولياء وغير المكلّفين فيعوّضون عنها ، وقيل معناه : لو هلك الآباء بكفرهم لم يوجد الأبناء ، وقيل : انه إذا هلك الظلمة ولم يبق مكلّف لا يبقى غيرهم من الحيوانات (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أي هو بصير بمكانهم فيؤاخذهم حيث كانوا وقيل : بصيرا بأعمالهم فيجازيهم عليها.

٥٨٣

سورة يس

مكية وعدد آياتها ثلاث وثمانون آية

١ ـ ١٠ ـ (يس) قد مضى الكلام في الحروف المعجمة عند مفتتح السور في أول البقرة واختلاف الأقوال فيها وقيل أيضا : يس معناه : يا إنسان عن ابن عباس. وقيل معناه : هو اسم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) أقسم سبحانه بالقرآن المحكم من الباطل ، وسمّاه حكيما لما فيه من الحكمة ، فكأنّه المظهر للحكمة الناطق بها (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي ممن أرسله الله تعالى بالنبوة والرسالة (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يؤدّي بسالكه إلى الحق (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ) أي هذا القرآن تنزيل العزيز في ملكه (الرَّحِيمِ) بخلقه ولذلك أرسله. ثم بيّن سبحانه الغرض في بعثته فقال (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أي لتخوّف به من معاصي الله قوما لم ينذر آباؤهم قبلهم لأنهم كانوا في زمان الفترة بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام (فَهُمْ غافِلُونَ) عمّا تضمّنه القرآن ، وعمّا أنذر الله به من نزول العذاب والغفلة مثل السهو : وهو ذهاب المعنى عن النفس. ثم أقسم سبحانه مرة أخرى فقال (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) أي وجب الوعيد واستحقاق العقاب عليهم (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ويموتون على كفرهم ، وقد سبق ذلك في علم الله (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) يعني أيديهم ، كنّى عنها وان لم يذكرها لأن الأعناق والأغلال تدلّان عليها ؛ وذلك ان الغل إنما يجمع اليد إلى الذقن والعنق. واختلف في معنى الآية على وجوه : (أحدها) انه سبحانه إنما ذكره ضربا للمثل ، وتقديره : مثل هؤلاء المشركين في اعراضهم عما تدعوهم اليه كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه لا يمكنه أن يبسطها إلى خير ، ورجل طامح برأسه لا يبصر موطىء قدميه (وثانيهما) ان المعنى بذلك ناس من قريش همّوا بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجعلت أيديهم إلى أعناقهم فلم يستطيعوا ان يبسطوا اليه يدا ، عن ابن عباس والسدي (وثالثها) ان المراد به وصف حالهم يوم القيامة فهو مثل قوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) وإنما ذكره بلفظ الماضي للتحقيق وقوله (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أراد أن أيديهم لما غلّت إلى أعناقهم ، ورفعت الأغلال إيّاها عن الأزهري ويدل على هذا المعنى قول قتادة مقمحون : مغلولون (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) هذا على أحد الوجهين تشبيه لهم بمن هذه صفته في اعراضهم عن الإيمان وقبول الحق ، وذلك عبارة عن خذلان الله إياهم لمّا كفروا فكأنّه قال : وتركناهم مخذولين فصار ذلك من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدا وإذا قلنا : أنه وصف حالهم في الآخرة فالكلام على حقيقته ويكون عبارة عن ضيق المكان في النار بحيث لا يجدون متقدّما ولا متأخّرا إذ سدّ عليهم جوانبهم ، وإذا حملناه على صفة القوم الذين همّوا بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالمراد : جعلنا بين أيدي أولئك الكفار منعا ، ومن خلفهم منعا حتى لم يبصروا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) : أي أغشينا أبصارهم فهم لا يبصرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روي ان أبا جهل همّ بقتله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان إذا خرج بالليل لا يراه ويحول الله بينه وبينه وقيل : فأغشيناهم فأعميناهم فهم لا يبصرون الهدى وقيل معناه : انهم لمّا انصرفوا عن الإيمان والقرآن لزمهم ذلك حتى لم يكادوا يتخلصون منه بوجه كالمغلول والمسدود عليه طرقه (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هذا مفسّر في سورة البقرة.

٥٨٤

١١ ـ ٢٠ ـ لمّا أخبر سبحانه عن أولئك الكفار انهم لا يؤمنون ، وانهم سواء عليهم الإنذار ، وترك الإنذار عقّبه بذكر حال من ينتفع بالإنذار فقال (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) والمعنى : إنما ينتفع بإنذارك وتخويفك من اتّبع القرآن ، لأن نفس الإنذار قد حصل للجميع (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي في حال غيبته عن الناس بخلاف المنافق (فَبَشِّرْهُ) أي فبشّر يا محمد من هذه صفته (بِمَغْفِرَةٍ) من الله لذنوبه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي ثواب خالص من الشوائب. ثم أخبر سبحانه عن نفسه فقال (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) في القيامة للجزاء (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) من طاعتهم ومعاصيهم في دار الدنيا (وَآثارَهُمْ) أعمالهم التي صارت سنّة بعدهم يقتدى فيها بهم حسنة كانت أم قبيحة وقيل معناه : ونكتب خطاهم إلى المسجد ، وسبب ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري : ان بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة ، فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد منازلهم من المسجد ، والصلاة معه ، فنزلت الآية (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي وأحصينا وعدّدنا كل شيء من الحوادث في كتاب ظاهر وهو اللوح المحفوظ ؛ والوجه في كتاب ظاهر وهو اللوح المحفوظ ؛ والوجه في احصاء ذلك فيه اعتبار الملائكة به اذ قابلوا به ما يحدث من الأمور ، فيكون فيه دلالة على معلومات الله سبحانه على التفصيل ، وقيل : أراد به صحائف الأعمال ، وسمي ذلك مبينا لأنه لا يدرس أثره ثم قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) معناه : واذكر لهم مثلا (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) وهذه القرية انطاكية (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) أي حين بعث الله إليهم المرسلين (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) أي رسولين من رسلنا (فَكَذَّبُوهُما) أي فكذّبوا الرسولين قال ابن عباس : ضربوهما وسجنوهما (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي فقوّيناهما وشددنا ظهورهما برسول ثالث ؛ مأخوذ من العزة وهي القوة والمنعة (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) أي قالوا لهم : يا أهل القرية إن الله أرسلنا إليكم (قالُوا) يعني أهل القرية (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فلا تصلحون للرسالة كما لا نصلح نحن لها (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) تدعوننا إليه (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون ، اعتقدوا أن من كان مثلهم في البشرية لا يصلح أن يكون رسولا ، وذهب عليهم أن الله عزّ اسمه يختار من يشاء لرسالته ، وانه علم من حال هؤلاء صلاحهم للرسالة وتحمّل أعبائها (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) وإنما قالوا ذلك بعد ما قامت الحجة بظهور المعجزة فلم يقبلوها ؛ ووجه الاحتجاج بهذا القول انهم الزموهم بذلك النظر في معجزاتهم ليعلموا انهم صادقون على الله ، ففي ذلك تحذير شديد (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وليس يلزمنا إلا أداء الرسالة والتبليغ (قالُوا) أي قال هؤلاء الكفار في جواب الرسل حين عجزوا عن ايراد شبهة ، وعدلوا عن النظر في المعجزة (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاء منا بكم (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) عمّا تدّعونه من الرسالة (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا) يعني الرسل (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي الشؤم كله معكم بإقامتكم على الكفر بالله تعالى ، فأما الدعاء إلى التوحيد وعبادة الله تعالى ففيه غاية البركة والخير واليمن (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) معناه : ان ذكرناكم هددتمونا (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) معناه : ليس فينا ما يوجب التشاؤم بنا ولكنكم متجاوزون في الحدّ في التكذيب للرسل والمعصية ، والإسراف : الإفساد ومجاوزة الحدّ (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) وكان اسمه حبيب النجار ، وكان قد آمن بالرسل عند ورودهم القرية ، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة ، فلما بلغه أن قومه قد كذّبوا الرسل ، وهمّوا بقتلهم جاء يعدو ويشتدّ (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) الذين أرسلهم الله إليكم وأقروا برسالتهم.

٥٨٥

٢١ ـ ٣٠ ـ ثم ذكر سبحانه تمام الحكاية عن الرجل الذي جاءهم من أقصى المدينة فقال (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) أي وقال لهم : اتبعوا معاشر الكفار من لا يطلبون منكم الأجر ، ولا يسألونكم أموالكم على ما جاؤكم به من الهدى (وَهُمْ) مع ذلك (مُهْتَدُونَ) إلى طريق الحق ، سالكون سبيله ، فلما قال هذا أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له الملك : أفأنت تتبعهم؟ فقال (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي وأيّ شيء لي إذا لم أعبد خالقي الذي أنشأني ، وأنعم عليّ وهداني (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي تردّون عند البعث فيجزيكم بكفركم. ثم انكر اتخاذ الأصنام وعبادتها فقال (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أعبدهم (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) أي ان أراد الله إهلاكي والاضرار بي (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) أي لا تدفع ولا تمنع شفاعتهم عنّي شيئا والمعنى : لا شفاعة لهم فتغني (وَلا يُنْقِذُونِ) أي ولا يخلصوني من ذلك الهلاك أو الضرر والمكروه (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إني إن فعلت ذلك في عدول عن الحق واضح ؛ والوجه في هذا الاحتجاج : ان العبادة لا يستحقها إلّا الله سبحانه المنعم بأصول النعم ، وبما لا توازيه نعمة منعم (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) الذي خلقكم وأخرجكم من العدم إلى الوجود (فَاسْمَعُونِ) أي فاسمعوا قولي واقبلوه (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) قيل : إنهم قتلوه إلّا أن الله سبحانه أحياه وأدخله الجنة ، فلما دخلها (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) تمنى أن يعلم قومه بما أعطاه الله تعالى من المغفرة وجزيل الثواب ليرغبوا في مثله ، وليؤمنوا لينالوا ذلك. وفي تفسير الثعلبي بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون ، فهم الصدّيقون وعليّ أفضلهم (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) أي من المدخلين الجنة ، والإكرام : هو إعطاء المنزلة الرفيعة على وجه التبجيل والإعظام ، ثم حكى سبحانه ما أنزله بقومه من العذاب والإستئصال فقال (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد رفعه (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) يعني الملائكة ، أي لم ننتصر منهم بجند من السماء ولم ننزل لإهلاكهم بعد قتلهم الرسل جندا من السماء يقاتلونهم (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي وما كنّا ننزلهم على الأمم إذا أهلكناهم. ثم بيّن سبحانه بأيّ شيء كان هلاكهم فقال (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي كان إهلاكهم عن آخرهم بأيسر أمر صيحة واحدة حتى هلكوا بأجمعهم (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ساكنون قد ماتوا ، إنهم لما قتلوا حبيب بن مري النجار غضب الله عليهم فبعث جبرئيل حتى أخذ بعضادتي باب المدينة ثمّ صاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم ، لا يسمع لهم حسّ كالنار إذا طفئت (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) معناه : يا ندامة على العباد في الآخرة باستهزائهم بالرسل في الدنيا. ثم بيّن سبب الحسرة فقال (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهذا من قول الله سبحانه والمعنى : انهم حلّوا محلّ من يتحسّر عليه ، والحسرة : أن يركب الإنسان من شدّة الندم ما لا نهاية بعده حتى يبقى قلبه حسيرا.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثم خوّف سبحانه كفار مكة فقال (أَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلم هؤلاء الكفار (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي كم قرنا أهلكناهم مثل عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) والمعنى : ألم يروا ان القرون التي أهلكناهم لا يرجعون إليهم ، أفلا يعتبرون بهم؟ ويسمى أهل كل عصر قرنا لاقترانهم في الوجود (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) معناه : ان الأمم يوم القيامة يحضرون فيقفون

٥٨٦

على ما عملوه في الدنيا ، أي وكل الماضين والباقين مبعوثون للحساب والجزاء. ثم قال سبحانه (وَآيَةٌ لَهُمُ) أي ودلالة وحجة قاطعة لهم على قدرتنا على البعث (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) أي الأرض القحطة المجدبة التي لا تنبت أحييناها بالنبات (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا) أي كل حبّ يتقوتونه مثل الحنطة والشعير والأرز وغيرها من الحبوب (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي فمن الحب يأكلون (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) وإنما خصّ النوعين لكثرة أنواعهما ومنافعهما (وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) أي وفجّرنا في تلك الأرض الميتة ، أو في تلك الجنات عيونا من الماء ليسقوا بها الكرم والنخيل. ثم بيّن سبحانه انه إنما فعل ذلك (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أي من ثمر النخيل ، والمعنى : غرضنا نفعهم بذلك وانتفاعهم بأكل ثمار الجنات (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) من أنواع الأشياء المتخذة من النخل والعنب الكثيرة منافعها (أَفَلا يَشْكُرُونَ) أي ألا يشكرون الله تعالى على مثل هذه النعم. وهذا تنبيه منه سبحانه لخلقه على شكر نعمائه ، وذكر جميل بلائه.

٣٦ ـ ٤٠ ـ (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي تنزيها وتعظيما وبراءة عن السوء للذي خلق الأصناف والأشكال من الأشياء ، فالحيوان على مشاكلة الذكر للأنثى ، وكذلك النخل والحبوب اشكال ، والتين والكرم ونحوهما أشكال ، فلذلك قال (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) أي من سائر النبات (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي وخلق منهم أولادا أزواجا ذكورا وأناثا (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) مما في بطون الأرض ، وقعر البحار فلم يشاهدوه ، ولم يتصل خبره بهم (وَآيَةٌ لَهُمُ) أي ودلالة لهم اخرى (اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أي ننزع منه ونخرج ضوء الشمس فيبقى الهواء مظلما كما كان ، لأن الله سبحانه يضيء الهواء بضياء الشمس ، فإذا سلخ منه الضياء أي كشط وأزيل يبقى مظلما (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي داخلون في الليل لا ضياء لهم فيه (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) معناه : ودلالة أخرى لهم الشمس ، وفي قوله : (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) : انها تجري إلى أقصى منازلها في الشتاء والصيف لا تتجاوزها والمعنى : ان لها في الارتفاع غاية لا تتجاوزها ولا تنقطع دونها ، ولها في الهبوط غاية لا تتجاوزها ولا تقصر عنها ، فهو مستقرها (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) أي القادر الذي لا يعجزه شيء (الْعَلِيمِ) الذي لا يخفى عليه شيء (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) وهي ثمانية وعشرون منزلا ، ينزل كل يوم وليلة منزلة منها لا يختلف حاله في ذلك إلى ان يقطع الفلك (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) أي عاد في آخر الشهر دقيقا كالعذق اليابس العتيق ، وإنما شبّهه سبحانه بالعذق لأنه إذا مضت عليه الأيام جفّ وتقوّس فيكون أشبه شيء بالهلال (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في سرعة سيره لأن الشمس أبطأ سيرا من القمر فإنها تقطع منازلها في سنة ، والقمر يقطعها في شهر ، والله سبحانه يجريهما اجراء التدوير ، باين بين فلكيهما ومجاريهما فلا يمكن أن يدرك أحدهما الآخر ما داما على هذه الصفة (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي ولا يسبق الليل النهار (وَكُلٌ) من الشمس والقمر والنجوم (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يسيرون فيه بانبساط ، وكل ما انبسط في شيء فقد سبح فيه.

٤١ ـ ٥٠ ـ (وَآيَةٌ لَهُمْ) أي وحجة وعلامة لهم على اقتدارنا (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) يعني آباءهم وأجدادهم الذين هؤلاء من نسلهم (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) يعني سفينة نوح المملوءة من الناس وما يحتاج اليه من فيها فسلموا من الغرق ، فانتشر منهم بشر كثير. ويسمّى الآباء ذرية من ذرء الله الخلق ، لأن الأولاد خلقوا منهم ، وسمّي الأولاد ذرية من ذرء الله الخلق ، لأن الأولاد خلقوا منهم ، وسمّي الأولاد ذرية لأنهم خلقوا من الآباء ، عن الضحاك وقتادة وجماعة من المفسرين (وَخَلَقْنا

٥٨٧

لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) أي وخلقنا لهم من مثل سفينة نوح سفنا يركبون فيها كما ركب نوح ، يعني السفن التي عملت بعد سفينة نوح مثلها ، على صورتها ، عن ابن عبّاس وغيره ، وقيل : إن المراد به الإبل ، وهي سفن البر ، عن مجاهد ، وقيل : مثل السفينة من الدواب ، كالإبل والبقر والحمير ، عن الجبائي. (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) أي وإن نشأ إذا حملناهم في السفن نغرقهم بتهييج الرياح والأمواج (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي لا مغيث لهم (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي ولا يخلصون من الغرق إذا أردناه (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي إلا أن نرحمهم بأن نخلصهم في الحال من أهوال البحر ، ونمتعهم إلى وقت ما قدرناه لتقضى آجالهم وقيل معناه : بقيناهم نعمة منا عليهم وامتاعا إلى مدة (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي للمشركين (اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) من أمر الآخرة فاعملوا لها (وَما خَلْفَكُمْ) من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لتكونوا على رجاء الرحمة من الله تعالى ، عن ابن عباس وقيل معناه : اتّقوا ما مضى من الذنوب وما يأتي من الذنوب ، عن مجاهد أي اتّقوا عذاب الله بالتوبة للماضي ، والاجتناب للمستقبل وقيل : اتّقوا العذاب المنزل على الأمم الماضية ، وما خلفكم من عذاب الآخرة. عن قتادة وروى الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال معناه : اتّقوا ما بين أيديكم من الذنوب ، وما خلفكم من العقوبة وجواب إذا محذوف تقديره : إذا قيل لهم هذا اعرضوا ، ويدلّ على هذا المحذوف قوله (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي أعرضوا عن الداعي وعن التفكر في الحجج وفي المعجزات ومن في قوله : من آية هي التي تزاد في النفي للاستغراق ، ومن الثانية للتبعيض ، أي ليس تأتيهم أية آية كانت إلا ذهبوا عنها واعرضوا عن النظر فيها ، وذلك سبيل من ضلّ عن الهدى ، وخسر الدنيا والآخرة (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أيضا (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) في طاعة ، واخرجوا ما أوجب الله عليكم في أموالكم (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) احتجّوا في منع الحقوق بأن قالوا : كيف نطعم من يقدر الله على اطعامه ولو شاء الله اطعامه أطعمه؟ فإذا لم يطعم دلّ على انه لم يشأ اطعامه ، وذهب عليهم أن الله سبحانه إنما تعبدهم بذلك لما لهم فيه من المصلحة ، فأمر الغني بالإنفاق على الفقير ليكسب به الأجر والثواب (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا من قول الكفار لمن أمرهم بالاطعام عن قتادة وقيل : انه من قول الله تعالى لهم حين ردّوا هذا بالجواب ، عن عليّ بن عيسى (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدنا به من نزول العذاب بنا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ذلك انت وأصحابك. وهذا استهزاء منهم بخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخبر المؤمنين. فقال تعالى في جوابهم (ما يَنْظُرُونَ) أي ما ينتظرون (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) يريد النفخة الأولى عن ابن عباس ، يعني ان القيامة تأتيهم بغتة (تَأْخُذُهُمْ) الصيحة (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي يختصمون في أمورهم ، ويتبايعون في الأسواق. وفي الحديث : تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتى تقوم ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتى تقوم ، وقيل : وهم يختصمون هل ينزل بهم العذاب أم لا (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) يعني ان الساعة إذا أخذتهم بغتة لم يقدروا على الإيصاء بشيء (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي ولا إلى منازلهم يرجعون من الأسواق ، وهذا اخبار عما يلقونه في النفخة الأولى عند قيام الساعة.

٥١ ـ ٦٠ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ) وهي القبور (إِلى رَبِّهِمْ) أي إلى الموضع الذي يحكم الله فيه لا حكم لغيره هناك (يَنْسِلُونَ) أي يخرجون سراعا فلما رأوا

٥٨٨

أهوال القيامة (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) أي من حشرنا من منامنا الذي كنّا فيه نياما ثم يقولون (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) فيما أخبرونا عن هذا المقام وهذا البعث. قال قتادة : أوّل الآية للكافرين ، وآخرها للمسلمين ، قال الكافرون : ((يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)) وقال المسلمون ((هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ)). ثم أخبر سبحانه عن سرعة بعثهم فقال (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي لم تكن المدّة إلا مدة صيحة واحدة (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي فإذا الأولون والآخرون مجموعون في عرصات القيامة ، محصلون في موقف الحساب ، ثم حكى سبحانه ما يقوله يومئذ للخلائق فقال (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي لا ينقص من له حق شيئا من حقّه من الثواب أو العوض أو غير ذلك ، ولا يفعل به ما لا يستحقه من العقاب ، بل الأمور جارية على مقتضى العدل وذلك قوله (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم ذكر سبحانه أولياءه فقال (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) شغلهم النعيم الذي شملهم وغمرهم بسروره عما فيه أهل النار من العذاب فلا يذكرونهم ، ولا يهتمون بهم وإن كانوا أقاربهم ، وقيل : شغلهم في الجنة سبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء : فثواب الرجل بقوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) ، وثواب اليد : يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ، وثواب الفرج : وحور عين ، وثواب البطن : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) الآية ، وثواب اللسان : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) الآية ، وثواب الاذن : لا يسمعون فيها لغوا ونظائرها ، وثواب العين : وتلذّ الأعين (فاكِهُونَ) أي فرحون. ثم أخبر سبحانه عن حالهم فقال (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ) أي هم وحلائلهم في الدنيا ممن وافقهم على إيمانهم في أستار عن وهج الشمس وسمومها ، فهم في مثل تلك الحال الطيبة من الظلال التي لا حرّ فيها ولا برد (فِي ظِلالٍ) أشجار الجنة وقيل في ظلال تسترهم من نظر العيون (عَلَى الْأَرائِكِ) وهي السرر عليها الحجال (مُتَّكِؤُنَ) أي جالسون جلوس الملوك إذ ليس عليهم من الأعمال شيء (لَهُمْ فِيها) أي في الجنة (فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي ما يتمنون ويشتهون ، يعني ان أهل الجنة كلما يدعونه يأتيهم. ثم بيّن سبحانه ما يشتهون فقال (سَلامٌ) أي لهم سلام ، ومنى أهل الجنة أن يسلم الله عليهم (قَوْلاً) أي يقوله الله قولا (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ان الملائكة تدخل عليهم من كل باب يقولون : سلام عليكم من ربكم الرحيم. ثم ذكر سبحانه أهل النار فقال (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي يقال لهم : انفصلوا معاشر العصاة واعتزلوا من جملة المؤمنين معناه : ان لكل كافر بيتا في النار يدخل فيردم بابه لا يرى ولا يرى عن الضحاك. ثم خصّهم سبحانه بالتوبيخ فقال (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) أي ألم آمركم على ألسنة الأنبياء والرسل في الكتب المنزلة (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي لا تطيعوا الشيطان فيما يأمركم به (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ) أي وقلت لكم ان الشيطان لكم عدو (مُبِينٌ) ظاهر عدواته عليكم ، يدعوكم إلى ما فيه هلاككم.

٦١ ـ ٦٥ ـ ثم قال سبحانه في حكايته ما يقوله الكفار يوم القيامة (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) فوصف عبادته بأنه طريق مستقيم من حيث كان طريقا إلى الجنة. ثم ذكر سبحانه عداوة الشيطان ببني آدم فقال (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) أي أضلّ الشيطان عن الدين خلقا كثيرا منكم بأن دعاهم إلى الضلال ، وحملهم على الضلال وأغواهم (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) انه يغويكم ويصدّكم عن الحقّ فتنبهون عنه ؛ صورته استفهام ومعناه : الإنكار عليهم ، والتبكيت لهم وفي هذا بطلان مذهب أهل الجبر في ان الله أراد اضلالهم ولو كان كما قالوه لكان ذلك أضرّ عليهم وانكر من إرادة الشيطان ذلك (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها في دار التكليف حاضرة

٥٨٩

لكم تشاهدونها (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) أي الزموا العذاب بها ، وأصل الصلاء اللزوم ، ومنه المصلي الذي يجيء في أثر السابق للزومه أثره (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) جزاء لكم على كفركم بالله ، وتكذيبكم أنبياءه (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) هذا حقيقة الختم ، فتوضع على أفواه الكفار يوم القيامة فلا يقدرون على الكلام والنطق (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ) بما عملوا (وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي نستنطق الأعضاء التي كانت لا تنطق في الدنيا لتشهد عليهم ، ونختم على أفواههم التي عهد منها النطق. وكيفية شهادة الجوارح على وجوه (أحدها) ان الله تعالى يخلقها خلقة يمكنها ان تتكلم وتنطق وتعترف بذنوبها (وثانيها) ان الله تعالى يجعل فيها كلاما وإنما نسب الكلام إليها لأنه لا يظهر إلّا من جهتها (وثالثها) ان معنى شهادتها وكلامها أن الله تعالى يجعل فيها من الآيات ما يدل على أن أصحابها عصوا الله بها ، فسمّى ذلك شهادة منها كما يقال : عيناك تشهدان بسهرك وقد ذكرنا أمثال ذلك فيما سلف.

٦٦ ـ ٧٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن قدرته على إهلاك هؤلاء الكفار الذي جحدوا وحدانيته فقال (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) معناه : لتركناهم عميا يتردّدون (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) أي فطلبوا طريق الحق وقد عموا عنه (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي فكيف يبصرون؟ (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) أي على مكانهم الذي هم فيه قعود والمعنى : ولو نشاء لعذّبناهم بنوع آخر من العذاب فأقعدناهم في منازلهم ممسوخين قردة وخنازير (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي فلم يقدروا على ذهاب ولا مجيء لو فعلنا ذلك بهم. وهذا كله تهديد هدّدهم الله به ، ثم قال سبحانه (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي من نطوّل عمره نصيّره بعد القوة إلى الضعف ، وبعد زيادة الجسم إلى النقصان ، وبعد الجدة والطراوة إلى البلى والخلوقة ، فكأنه نكس خلقه (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أي أفلا تتدبّرون في أن الله تعالى يقدر على الإعادة كما قدر على ذلك. ثم أخبر سبحانه عن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) يعني قول الشعر (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أن يقول الشعر من عند نفسه (إِنْ هُوَ) أي من الذي أنزلناه عليه (إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) من عند رب العالمين ، ليس بشعر ولا رجز ولا خطبة ، والمراد بالذكر : انه يتضمن ذكر الحلال والحرام ، والدلالات ، وأخبار الأمم الماضية وغيرها ، وبالقرآن : انه مجموع بعضه إلى بعض ، فجمع سبحانه بينهما لإختلاف فائدتهما (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي من كان عاقلا (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أي يجب الوعيد والعذاب على الكافرين بكفرهم.

٧١ ـ ٧٦ ـ ثم عاد الكلام إلى ذكر الأدلة على التوحيد فقال سبحانه (أَوَلَمْ يَرَوْا) معناه : أو لم يعلموا (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) أي لمنافعهم (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) أي مما ولينا خلقه بإبداعنا وإنشائنا لم نشارك في خلقه ، ولم نخلقه بإعانة معين ، وإذا قال الواحد منّا عملت هذا بيدي دلّ ذلك على انفراده بعمله من غير أن يكله إلى أحد (أَنْعاماً) يعني الإبل والبقر والغنم (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي ولو لم نخلقها لما ملكوها ، ولما انتفعوا بها وبألبانها وركوب ظهورها ولحومها وقيل : فهم ضابطون لها قاهرون ، لم نخلقها وحشية نافرة منهم لا يقدرون على ضبطها ، فهي مسخّرة لهم ، وهو قوله : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) أي سخّرناها لهم حتى صارت منقادة (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) قسم الأنعام بأن جعل منها ما يركب ، ومنها ما يذبح فينتفع بلحمه ويؤكل (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) فمن منافعها لبس أصوافها وأشعارها وأوبارها ، وأكل لحومها ، وركوب ظهورها ، إلى غير ذلك من أنواع المنافع الكثيرة فيها ،

٥٩٠

والمشارب من ألبانها (أَفَلا يَشْكُرُونَ) الله تعالى على هذه النعم. ثم ذكر سبحانه جهلهم فقال (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) يعبدونها (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي لكي ينصروهم ويدفعوا عنهم عذاب الله (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) يعني هذه الآلهة التي عبدوها لا تقدر على نصرهم والدفع عنهم (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) يعني ان هذه الآلهة معهم في النار محضرون ، لأن كل حزب مع ما عبده من الأوثان في النار ، فلا الجند يدفعون عنها الإحراق ، ولا هي تدفع عنهم العذاب ؛ وهذا كما قال سبحانه : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ). ثم عزّى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن قال (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) في تكذيبك (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) في ضمائرهم (وَما يُعْلِنُونَ) بألسنتهم فنجازيهم على كل ذلك.

٧٧ ـ ٨٣ ـ ثم نبّه سبحانه خلقه على الاستدلال على صحة البعث والإعادة فقال (أَوَلَمْ يَرَ) أو لم يعلم (الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) والتقدير : ثم نقلناه من النطفة إلى العلقة ، ومن العلقة إلى المضغة ، ومن المضغة إلى العظم ، ومن العظم إلى أن جعلناه خلقا سوّيا ، ثم جعلنا فيه الروح ، وأخرجناه من بطن أمه ، وربّيناه ونقلناه من حال إلى حال إلى أن كمل عقله وصار متكلما خصيما وذلك قوله (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي مخاصم ذو بيان ، أي فمن قدر على جميع ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة وهي أسهل من الإنشاء والابتداء؟! ولا يجوز أن يكون خلق الإنسان واقعا بالطبيعة ، لأن الطبيعة في حكم الموات ، في أنها ليست بحيّة قادرة ، فكيف يصحّ منها الفعل (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أي ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم البالي وفتّه بيده وتعجب ممن يقول ان الله يحييه (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي وترك النظر في خلق نفسه إذ خلق من نطفة. ثم بيّن ذلك المثل بقوله (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أي بالية والقائل لذلك هو أبي بن خلف. ثم قال سبحانه في الردّ عليه (قُلْ) يا محمد لهذا المتعجب من الإعادة (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) لأن من قدر على اختراع ما يبقى فهو على إعادته قادر لا محالة (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) من الابتداء والإعادة ، فيعلم به قبل أن يخلقه انه إذا خلقه كيف يكون ، ويعلم به قبل أن يعيده أنه إذا أعاده كيف يكون. ثم زاد سبحانه في البيان ، واخبر من صنعه بما هو عجيب الشأن فقال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي جعل لكم من الشجر الرطب المطفىء للنار نارا محرقة ، يعني بذلك المرخ والعفار وهما شجرتان يتخذ الأعراب زنودها منهما ؛ فبيّن سبحانه ان من قدر على أن يجعل في الشجر الذي هو في غاية الرطوبة نارا حامية مع مضادة النار للرطوبة حتى إذا احتاج الإنسان حكّ بعضه ببعض فتخرج منه النار وينقدح ، قدر أيضا على الإعادة. ثم ذكر سبحانه من خلقه ما هو أعظم من الإنسان فقال (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) هذا استفهام معناه التقرير ، يعني من قدر على خلق السماوات والأرض واختراعهما مع عظمهما وكثرة أجزائهما يقدر على إعادة خلق البشر ، ثم اجاب سبحانه هذا الإستفهام بقوله (بَلى) أي هو قادر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ) أي يخلق خلقا بعد خلق (الْعَلِيمُ) بجميع ما خلق. ثم ذكر قدرته على ايجاد الأشياء فقال (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) والتقدير : أن يكوّنه فيكون ، فعبّر عن هذا المعنى بكن لأنه أبلغ فيما يراد وليس هنا قول وإنما هو اخبار بحدوث ما يريده تعالى ، ثم نزّه سبحانه نفسه من ان يوصف بما لا يليق به فقال (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي تنزيها له من نفي القدرة على الإعادة وغير ذلك مما لا يليق بصفاته ، الذي بيده : أي بقدرته ملك كل شيء ، ومن قدر على كل شيء قدر على إحياء العظام الرميم ، وعلى خلق كل شيء وافنائه واعادته (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة ، أي تردّون إلى حيث لا يملك

٥٩١

الأمر والنهي أحد سواه ، فيجازيكم بالثواب والعقاب على الطاعات والمعاصي على قدر أعمالكم.

سورة الصافات

مكية وعدد آياتها مائة واثنتان وثمانون آية

١ ـ ١٠ ـ (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) اختلف في معنى الصافات على وجوه (أحدها) انها الملائكة تصف أنفسها صفوفا في السماء كصفوف المؤمنين في الصلاة ، عن ابن عباس ومسروق والحسن وقتادة والسدي (وثانيها) انها الملائكة تصف أجنحتها في الهواء إذا أرادت النزول إلى الأرض ، واقفة تنتظر ما يأمرها الله تعالى ، عن الجبائي (وثالثها) انهم جماعة من المؤمنين يقومون مصطفين في الصلاة وفي الجهاد ، عن أبي مسلم (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) اختلف فيه أيضا على وجوه (أحدها) انها الملائكة تزجر الخلق عن المعاصي زجرا ، عن السدي ومجاهد ، وعلى هذا فانه يوصل الله مفهومه إلى قلوب العباد كما يوصل مفهوم اغواء الشيطان إلى قلوبهم ليصحّ التكليف (وثانيها) انها الملائكة الموكّلة بالسحاب تزجرها وتسوقها ، عن الجبائي (وثالثها) انها زواجر القرآن وآياته الناهية عن القبائح (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) انها الملائكة تقرأ كتب الله تعالى ، والذكر : الذي ينزله على الموحى إليه (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) وهذه أقسام أقسم الله تعالى بها أنه واحد ليس له شريك ، وإنما جاز ذلك لأنه ينبىء عن تعظيمها بما فيها من الدلالة على توحده وصفاته العلى ، فله سبحانه أن يقسم بما شاء من خلقه وليس لخلقه أن يقسموا إلّا به (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومدبّرهما (وَما بَيْنَهُما) من سائر الأجناس من الحيوان والنبات والجماد (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) وهي مشارق الشمس ، أي مطالعها بعدد أيام السنة ثلاثمائة وستون مشرقا ، والمغارب مثل ذلك ، تطلع الشمس كل يوم من مشرق وتغرب في مغرب (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) يعني التي هي أقرب السماوات إلينا ، وإنما خصّها بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) أي بحسنها وضوئها ؛ والتزيين : تحسين الشيء وجعله على صورة تميل إليها النفس ، فالله سبحانه زيّن السماء على وجه تمتع الرائي لها ، وفي ذلك أعظم النعمة على العباد مع ما لهم من المنفعة بالتفكير فيها ، والاستدلال بها على صانعها (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ) أي وحفظناها من كل شيطان (مارِدٍ) أي خبيث خال من الخير متمرّد والمعنى : وحفظناها من دنّو كل شيطان للاستماع ، فإنهم كانوا يسترقون السمع ، ويستمعون إلى كلام الملائكة ويقولون ذلك إلى ضعفة الجن ، وكانوا يوسوسون بها في قلوب الكهنة ويوهمونهم انهم يعرفون الغيب ، فمنعهم الله تعالى عن ذلك (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي لكيلا يتسمعوا إلى الكتبة من الملائكة في السماء. والملأ الأعلى : عبارة عن الملائكة لأنهم في السماء (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) أي يرمون بالشهب من كل جانب من جوانب السماء إذا أرادوا الصعود إلى السماء للإستماع (دُحُوراً) أي دفعا لهم بالعنف وطردا (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي ولهم مع ذلك أيضا عذاب دائم يوم القيامة (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) إلا من وثب الوثبة إلى قريب من السماء فاختلس خلسة من الملائكة ، واستلب استلابا بسرعة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي فلحقه وأصابه نار مضيئة محرقة ، والثاقب : المنير المضيء ، وهذا كقوله ، (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ).

١١ ـ ٢٠ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي فاسألهم يا محمد سؤال تقرير (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أي أحكم صنعا (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) قبلهم من الأمم الماضية ، والقرون السالفة ، يريد انهم ليسوا بأحكم خلقا منّ غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم وقيل : أهم أشد خلقا

٥٩٢

من الملائكة والسموات والأرض (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) معناه : انهم ان قالوا نحن أشد فاعلمهم ان الله خلقهم من طين فكيف صاروا أشد قوة منهم ، والمراد ان آدم خلقه الله من طين وان هؤلاء نسله وذريته فكأنهم منه. قال إبن عباس : اللازب الملتصق من الطين الحر الجيد (بَلْ عَجِبْتَ) يا محمد من تكذيبهم إياك (وَيَسْخَرُونَ) أي يهزأون بدعائك إياهم إلى الله ، والنظر في دلائله وآياته (وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي وإذا خوفّوا بالله ووعظوا بالقرآن لا ينتفعون بذلك ولا يتعظون به (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) من آيات الله ومعجزة مثل انشقاق القمر وغيرها (يَسْتَسْخِرُونَ) أي يستهزؤون ويقولون : هذا عمل السحر ، وسخر واستسخر بمعنى واحد ، وقيل معناه : يستدعي بعضهم بعضا الى إظهار السخرية ، وقيل معناه : يعتقدونه سخرية ، كما تقول : استقبحه ، أي اعتقده قبيحا ، واستحسنه ، أي اعتقده حسنا (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقالوا لتلك الآية ما هذا إلّا سحر ظاهر وتمويه (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) بعد ذلك ومحشورون ، أي كيف نبعث بعد ما صرنا ترابا! (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الذين تقدّمونا بهذه الصفة ، أي أو يبعث آباؤنا بعد ما صاروا ترابا؟ يعنون ان هذا لا يكون. ثم قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قُلْ) لهم (نَعَمْ) تبعثون (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) صاغرون اشد الصغار. ثم ذكر ان بعثهم يقع بزجرة واحدة فقال (فَإِنَّما هِيَ) أي فإنما قصة البعث (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي صيحة واحدة من اسرافيل ، يعني نفخة البعث ، والزجرة : الصرفة عن الشيء بالمخافة ، فكأنّهم زجروا عن الحال التي هم فيها إلى الحشر (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) معناه : فإذا هم احياء ينتظرون ما ينزل بهم من عذاب الله (وَقالُوا) أي ويقولون معترفين على نفوسهم بالعصيان (يا وَيْلَنا) من العذاب وهي كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة ومثله : يا حسرتنا ، ينادون مثل هذه الأشياء على وجه التنبيه على عظم الحال (هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي يوم الحساب ، والمراد انهم اعترفوا بالحق خاضعين نادمين.

٢١ ـ ٣٠ ـ ثم اخبر سبحانه عن حالهم أيضا فقال (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين الخلائق والحكم ، وتمييز الحق من الباطل على وجه يظهر لجميعهم الحال فيه ، وذلك بأن يدخل المطيع الجنة على وجه الإكرام ، ويدخل العاصي النار على وجه الإهانة (الَّذِي كُنْتُمْ) يا معشر الكفار (بِهِ تُكَذِّبُونَ) وهذا كلام بعضهم لبعض ، ثم حكى سبحانه ما يقوله للملائكة بأن قال (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بارتكاب المعاصي ، أي اجمعوهم من كل جهة (وَأَزْواجَهُمْ) أي وأزواجهم المشركات (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) إنّما عبّر عن ذلك بالهداية من حيث كان بدلا من الهداية إلى الجنة كقوله : فبشّرهم بعذاب أليم ، من حيث ان هذه البشارة وقعت لهم بدلا من البشارة بالنعيم (وَقِفُوهُمْ) أي قفوا هؤلاء الكفار واحبسوهم عن دخول النار (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) عن أعمالهم وخطاياهم (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) أي لا تتناصرون ، وهذا على وجه التوبيخ والتبكيت ، أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا في دفع العذاب؟ والتقدير : ما لكم غير متناصرين. ثم بيّن سبحانه انهم لا يقدرون على التناصر فقال (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي منقادون خاضعون ، ومعنى الإستسلام : أن يلقي بيده غير منازع فيما يراد منه (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) هذا اخبار منه سبحانه ان كل واحد منهم يقبل على صاحبه الذي أغواه فيقول له على وجه التأنيب والتعنيف : لم غرّرتني؟ ويقول ذلك له : لم قبلت منّي؟ (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي يقول الكفار لغواتهم : انكم كنتم تأتوننا من جهة النصيحة واليمن

٥٩٣

والبركة ولذلك أقررنا لكم ، والعرب تتيمن بما جاء من اليمين عن الجبائي (قالُوا) في جواب ذلك ليس الأمر كما قلتم (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) مصدّقين بالله (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) اي قدرة وقوة فنجبركم على الكفر ، فلا تسقطوا اللوم عن أنفسكم فإنه لازم لكم ، ولا حق بكم (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي خارجين عن الحق باغين ، تجاوزتم الحد إلى أفحش الظلم ، وأعظم المعاصي.

٣١ ـ ٤٠ ـ هذا تمام الحكاية عن الكفار الذين قالوا : (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) ثم قالوا (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) أي وجب علينا قول ربّنا بأنا لا نؤمن ونموت على الكفر أو وجب علينا العذاب الذي نستحقه على الكفر والاغواء (إِنَّا لَذائِقُونَ) العذاب الذي نستحقه على الكفر ، أي ندركه كما ندرك المطعوم بالذوق ، ثم يعترفون بأنهم أغووهم بأن قالوا (فَأَغْوَيْناكُمْ) أي أضللناكم عن الحق ، ودعوناكم إلى الغي (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي داخلين في الضلالة والغي وقيل معناه فخيّبناكم إنا كنا خائبين (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم (فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) واشتراكهم اجتماعهم فيه بالمعنى : ان ذلك التخاصم لم ينفعهم إذا اجتمع الاتباع والمتبوعون كلهم في النار ، الاتباع بقبول الكفر ، والمتبوعون بالكفر والاغواء (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي الذين جعلوا لله شركاء عن ابن عباس وقيل معناه : انا مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بجميع المجرمين. ثم بيّن سبحانه انه إنما فعل ذلك بهم من أجل (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) عن قبول ذلك (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) أي يأنفون من هذه المقالة ويستخفون بمن يدعوهم إليها ، ويقولون : لا ندع عبادة الأصنام لقول شاعر مجنون ، يعنون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعونا إلى خلافها وقيل لأجل شاعر عن أبي مسلم. فردّ الله هذا لقول عليهم وكذّبهم بأن قال (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) أي ليس بشاعر ولا مجنون لكنّه أتى بما تقبله العقول من الدين الحق والكتاب (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي حقق ما أتى به المرسلون من بشاراتهم والكتاب الحق بدين الإسلام وقيل صدّقهم بأن أتى بمثل ما أتوا به من الدعاء إلى التوحيد وقيل صدّقهم بالنبوة. ثم خاطب الكفار فقال (إِنَّكُمْ) أيّها المشركون (لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) على كفركم ونسبتكم إياه إلى الشعر والجنون (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي على قدر أعمالكم ، ثم استثنى من جملة المخاطبين المعذّبين فقال (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الّذين اخلصوا العبادة لله وأطاعوه في كل ما أمرهم به فإنهم لا يذوقون العذاب ، وإنما ينالون الثواب.

٤١ ـ ٥٠ ـ ثم بيّن سبحانه ما أعدّه لعباده المخلصين من أنواع النعم فقال (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) جعل لهم التصرف فيه ، وحكم لهم به في الأوقات المستأنفة في كل وقت شيئا معلوما مقدّرا. ثم فسرّ ذلك الرزق بأن قال (فَواكِهُ) وهي جمع فاكهة يقع على الرطب واليابس من الثمار كلها يتفكهون بها ، ويتنعّمون بالتصرف فيها (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) مع ذلك ، أي معظمون مبجلون ، وضد الإكرام الإهانة (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي وهم مع ذلك في بساتين فيها أنواع النعيم يتنعّمون بها (عَلى سُرُرٍ) وهي جمع سرير (مُتَقابِلِينَ) يستمتع بعضهم بالنظر إلى وجوه بعض ، ولا يرى بعضهم قفا بعض (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ) وهو الإناء بما فيه من الشراب (مِنْ مَعِينٍ) أي من خمر جارية في أنهار ظاهرة العيون عن الحسن وقتادة والضحاك والسدي وقيل : شديد الجري ؛ ثم وصف الخمر فقال (بَيْضاءَ) وصفها بالبياض لأنها في نهاية الرقة مع الصفاء واللطافة النورية التي لها ، قال الحسن : خمر الجنة أشدّ بياضا من اللبن (لَذَّةٍ) أي لذيذة (لِلشَّارِبِينَ) ليس فيها ما يعتري خمر الدنيا من المرارة والكراهة (لا فِيها غَوْلٌ) أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ، ولا تصيبهم من وجع

٥٩٤

في البطن ولا في الرأس ، ويقال للوجع : غول لأنه يؤدّي إلى الهلاك (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي يسكرون ولا ينزفون : لا يفنى خمرهم. قال ابن عباس : معناه : ولا يبولون قال : وفي الخمر أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول ، فنزّه الله سبحانه خمر الجنة عن هذه الخصال (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهنّ لحبّهنّ إياهم (عِينٌ) أي واسعات العيون ، والواحدة عيناء وقيل : هي الشديدة بياض العين ، الشديدة سوادها عن الحسن (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) شبّههن ببيض النعاء؟؟؟ مكنّة بالريش من الغبار والريح ، والمكنون : المصون. ثم قال (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) يعني أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم من حين بعثوا الى أن أدخلوا الجنة. فيخبر كلّ صاحبه بانعام الله تعالى عليه.

٥١ ـ ٦٠ ـ هذا تمام الحكاية عن أحوال أهل الجنة ، وإقبال بعضهم على بعض في المسائلة عن الأخبار والأحوال (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي من أهل الجنة (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) في دار الدنيا ، أي صاحب يختص بي (يَقُولُ) لي على وجه الإنكار عليّ ، والتهجين لفعلي (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بيوم الدين وبالبعث والنشور والحساب والجزاء ، والاستفهام هنا على وجه الإنكار (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي مجزيّون محاسبون ، والمعنى : ان ذلك القرين كان يقول لي في الدنيا على طريق الاستبعاد والاستنكار : أنبعث بعد أن صرنا ترابا وعظاما بالية ونجازى على أعمالنا؟ أي ان هذا لا يكون أبدا (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي ثم قال هذا المؤمن لاخوانه في الجنة : هل أنتم مطلعون على موضع من الجنة يرى منه هذا القرين يقال : طلع على كذا إذا أشرف عليه ، والمعنى : هل تؤثرون أن تروا مكان هذا القرين في النار (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ) أي فاطلع هذا المؤمن فرأى قرينه (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي في وسط النار (قالَ) أي فقال له المؤمن (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) اقسم بالله سبحانه على وجه التعجب إنك كدت تهلكني بما قلته لي ودعوتني إليه حتى يكون هلاكي كهلاك المتردي من شاهق ومنه قوله : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) ، أي تردّى في النار (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) عليّ بالعصمة واللطف والهداية حتى آمنت (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معك في النار ، ولا يستعمل احضر مطلقا إلّا في الشر (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) معناه : ان هذا المؤمن يقول لهذا القرين على وجه التوبيخ والتقريع : أليس كنت في الدنيا تقول : انا لا نموت إلّا الموتة التي تكون في الدنيا ولا نعذّب؟ فقد ظهر الأمر بخلاف ذلك وقيل ان هذا من قول أهل الجنة بعضهم لبعض على وجه اظهار السرور بدوام نعيم الجنة ولهذا عقّبه بقوله (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) معناه : فما نحن بميتين في هذه الجنة إلا موتتنا التي كانت في الدنيا ، وما نحن بمعذّبين كما وعدنا الله تعالى.

٦١ ـ ٧٠ ـ (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي لمثل هذا الثواب والفوز والفلاح فليعمل العاملون في دار التكليف ، هذا ترغيب في طلب الثواب بالطاعة ، أي من كان يريد أن يعمل لنفع يرجوه فليعمل لمثل هذا النفع العظيم (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) أي أذلك الذي ذكرناه من قرى أهل الجنة ، وما أعدّ لهم خير في باب الانزال التي يتقوت بها ويمكن معها الإقامة أم نزل أهل النار فيها؟ والزقوم شجرة في النار يقتاتها أهل النار ، لها ثمرة مرة خشنة اللمس ، منتنة الرائحة (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) وقيل : ان المراد بالفتنة العذاب ، أي جعلناها شدة عذاب لهم من قوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) ، أي يعذبون (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي ان الزقوم شجرة تنبت في قعر جهنّم وأغصانها ترفع إلى دركاتها (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) الشيطان : جنس من

٥٩٥

الحيات ، فشبّه سبحانه طلع تلك الشجرة برؤوس تلك الحيات (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) يعني ان أهل النار ليأكلون من ثمرة تلك الشجرة (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي يملأون بطونهم منها لشدة ما يلحقهم من ألم الجوع. وقد روي ان الله تعالى يجوعهم حتى ينسوا عذاب النار من شدة الجوع ، فيصرخون إلى مالك فيحملهم إلى تلك الشجرة فيأكلون منها فتغلي بطونهم كغلي الحميم ، فيستسقون فيسقون شربة من الماء الحار الذي بلغ نهايته في الحرارة ، فإذا قربوها من وجوههم شوت وجوههم فذلك قوله (يَشْوِي الْوُجُوهَ) ، فإذا وصل إلى بطونهم صهر ما في بطونهم كما قال سبحانه : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) ، فذلك شرابهم وطعامهم فذلك قوله (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها) زيادة على شجرة الزقوم (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي خليطا ومزاجا من ماء حار يمزج ذلك الطعام بهذا الشراب وقيل : إنهم يكرهون على ذلك عقوبة لهم (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ) بعد أكل الزقوم ، وشراب الحميم (لَإِلَى الْجَحِيمِ) وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج عن الجحيم كما تورد الإبل إلى الماء ، ثم يردّون إلى الجحيم ، ويدل على ذلك قوله : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) ، والجحيم : النار الموقدة والمعنى : ان الزقوم والحميم طعامهم وشرابهم ، والجحيم المسعرة منقلبهم ومأواهم (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) أي ان هؤلاء الكفار صادفوا آباءهم ذاهبين عن الحق والدين (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) في الضلال ، أي يقلّدونهم ويتبعونهم اتباعا في سرعة.

٧١ ـ ٨٢ ـ ثم أقسم سبحانه فقال (وَلَقَدْ) اللام التي تدخل في جواب القسم وقد للتأكيد (ضَلَّ قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء الكفار الذين هم في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق الهدى واتباع الحق (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) من الأمم الخالية والأكثر : هو الأعظم في العدد والأول : هو الكائن قبل غيره ، وفي هذه الآية دلالة على ان أهل الحق في كل زمان كانوا أقل من أهل الباطل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) من الأنبياء والمرسلين يخوّفونهم من عذاب الله تعالى ، ويحذّرونهم معاصيه (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي من المكذّبين المعاندين للحق والمعنى : فانظر يا محمد كيف أهلكتهم ، وماذا حلّ بهم من العذاب ، وكذلك يكون عاقبة المكذبين. ثم استثنى من المنذرين فقال (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين قبلوا من الأنبياء ، وأخلصوا عبادتهم الله تعالى ، فإن الله خلّصهم من ذلك العذاب ، ووعدهم بجزيل الثواب (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) أي دعانا نوح بعد ما يئس من إيمان قومه لننصره عليهم وذلك قوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) نحن لنوح في دعائه ، أجبناه إلى ما سأل ، وخلّصناه من أذى قومه بإهلاكهم (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي من المكروه الذي كان ينزل به من قومه ، والكرب : كل غم يصل حرّه إلى الصدر وأهله : هم الذين نجوا معه (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) بعد الغرق ، فالناس كلهم بعد نوح من ولد نوح (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) عليه ذكرا جميلا ، وأثنينا عليه في أمة محمد (ص) ومعنى تركنا : أبقينا (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أي تركنا عليه أن يصلى عليه إلى يوم القيامة ، فكأنّه قال : وتركنا عليه التسليم في الآخرين (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي جزيناه ذلك الثناء الحسن في العالمين بإحسانه وقيل : إن معناه : مثل ما فعلنا بنوح نجزي كل من أحسن بأفعال الطاعات ، وتجنب المعاصي ، ونكافيهم بإحسانهم (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) يعني نوحا ؛ وهذه الآية تتضمن مدح المؤمنين حيث خرج من بينهم مثل نوح (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي من لم يؤمن به ، والمعنى ثم أخبركم اني أغرقت الآخرين.

٥٩٦

٨٣ ـ ١٠٠ ـ ثم أتبعه سبحانه وتعالى بقصة إبراهيم عليه‌السلام فقال (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي وإن من شيعة نوح إبراهيم ، يعني انه على منهاجه وسنّته في التوحيد والعدل واتباع الحق (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي حين صدق الله وآمن به بقلب سليم خالص من الشرك ، بريء من المعاصي والغل والغش ، على ذلك عاش وعليه مات (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) حين رآهم يعبدون الأصنام من دون الله على وجه التهجين لفعالهم ، والتقريع لهم (ما ذا تَعْبُدُونَ) أيّ شيء تعبدون (أَإِفْكاً آلِهَةً) الافك : هو أشنع الكذب وأفظعه ، وأصله قلب الشيء عن جهته التي هي له ، فلذلك كان الكذب افكا وإنما قال : آلهة على اعتقاد المشركين وتوهّمهم الفاسد في إلهية الأصنام لما اعتقدوا انها تستحق العبادة ، ثم أكدّ التقريع بقوله (دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أي تريدون عبادة آلهة دون عبادة الرحمن (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أن يصنع بكم مع عبادتكم غيره (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) انه عليه‌السلام نظر في النجوم فاستدلّ بها على وقت حمى كانت تعتاده فقال : اني سقيم ، أراد انه قد حضر وقت علّته وزمان نوبتها (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) اخبار عن قومه انهم لما سمعوا قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) تركوه واعرضوا عنه ، وخرجوا إلى عيدهم (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) معناه : فمال إلى أصنامهم التي كانوا يدعونها آلهة (فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) خاطبها وإن كانت جمادا على وجه التهجين لعابديها ، وتنبيههم على ان من لا يتكلم ولا يقدر على الجواب كيف تصحّ عبادتها (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) زيادة في تهجين عابديها كأنّهم حاضرون لها ، أي ما لكم لا تجيبون؟ وفي هذا تنبيه على انها جماد لا تأكل ولا تنطق فهي أخس الأشياء وأقلها (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي فمال على الأصنام يضربها ويكسرها باليد اليمنى لأنها أقوى على العمل (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي أقبلوا بعد الفراغ من عيدهم إلى إبراهيم يسرعون ، وفي هذا دليل انهم اخبروا بصنيع إبراهيم بأصنامهم فقصدوه مسرعين ، وحملوه إلى بيت أصنامهم وقالوا له : أأنت فعلت هذا بآلهتنا؟ فأجابهم على وجه الحجاج عليهم بأن (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) فهو استفهام معناه الانكار والتوبيخ ، أي كيف يصح أن يعبد الإنسان ما يعمله بيده؟ فإنهم كانوا ينحتون الأصنام بأيديهم (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) معناه : وخلق أصل الحجارة التي تعملون منها الأصنام (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) قال ابن عباس بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، وملؤوه نارا وطرحوه فيها ، وذلك قوله (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) النار العظيمة (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) أي حيلة وتدبيرا في اهلاكه وإحراقه بالنار (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) بأن أهلكناهم ونجّينا إبراهيم وسلمناه ، ورددنا كيدهم عنه (وَقالَ) إبراهيم (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) معناه : مهاجر إلى ربي ، أي أهجر ديار الكفار وأذهب إلى حيث أمرني الله تعالى بالذهاب إليه وهي الأرض المقدسة وقيل اني ذاهب إلى مرضاة ربي بعملي ونيتي عن قتادة (سَيَهْدِينِ) أي يهديني ربي فيما بعد إلى طريق المكان الذي أمرني بالمصير إليه. أو الى الجنة بطاعتي إياه (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولدا صالحا من الصالحين كما تقول : أكلت من الطعام فحذف لدلالة الكلام عليه.

١٠١ ـ ١١٣ ـ ثم أخبر سبحانه انه استجاب لإبراهيم دعاءه بقوله (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي بابن وقور ، والحليم : الذي لا يعجل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه. ثم أخبر سبحانه أن الغلام الذي بشّره به ولد له وترعرع بقوله (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) والمعنى : بلغ إلى ان يتصرف ويمشي معه ، ويعينه على أموره قالوا : وكان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة (قالَ يا بُنَيَ

٥٩٧

إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) معنى الآية : ان إبراهيم قال لابنه : إني أبصرت في المنام رؤيا تأويلها الأمر بذبحك فانظر ماذا تراه أو أيّ شيء ترى من الرأي؟ ولا يجوز أن يكون ترى ها هنا بمعنى تبصر لأنه لم يشر إلى شيء يبصر بالعين ولا يجوز أن يكون بمعنى علم أو ظن أو أعتقد لأن هذه الأشياء تتعدى إلى مفعولين وليس هنا إلّا مفعول واحد ، مع استحالة المعنى فلم يبق إلّا مفعول واحد مع استحالة المعنى فلم يبق إلّا أن يكون من الرأي ، والأولى أن يكون الله تعالى قد أوحى إليه في حال اليقظة وتعبّده بأن يمضي ما يأمره به في حال نومه من حيث ان منامات الأنبياء لا تكون إلّا صحيحة ، ولو لم يأمره بذلك في حال اليقظة لما كان يجوز أن يعمل على ما يراه في المنام. وقال قتادة : رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئا فعلوه وقال أبو مسلم رؤيا الأنبياء مع إن جميعها صحيحة ضربان (أحدهما) أن يأتي الشيء كما رأوه ومنه قوله سبحانه لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام الآية (والآخر) ان يكون عبارة عن خلاف الظاهر مما رأوه في المنام وذلك كرؤيا يوسف الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدين وكأن رؤيا ابراهيم من هذا القبيل لكنّه لم يأمن ان يكون ما رآه مما يلزمه العمل به على الحقيقة وقال إبن عباس : منامات الأنبياء وحي (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي ما أمرت به (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي ستصادفني بمشيئة الله وحسن توفيقه ممن يصبر على الشدائد في جنب الله ، ويسلّم لأمره (فَلَمَّا أَسْلَما) أي استسلما لأمر الله ، ورضيا به وأطاعاه (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) معناه : وضع جبينه على الأرض لئلا يرى وجهه فتلحقه رقة الآباء (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) أي بهذا الضرب من القول (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) فعلت ما أمرت به في الرؤيا (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما جزيناه بالعفو عن ذبح ابنه نجزي من سلك طريقهما في الإحسان بالإستسلام ، والانقياد لأمر الله (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي ان هذا لهو الامتحان الظاهر ، والاختبار الشديد وقيل ان هذا لهو النعمة الظاهرة وتسمى النعمة بلاء بسببها المؤدّي إليها كما يقال لأسباب الموت هي الموت لأنها تؤدي إليه. والذبيح اسماعيل ، ويعضده قوله بعد قصة الذبح : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ). وقال الاصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق أم إسماعيل؟ فقال : يا اصمعي أين ذهب عنك عقلك ، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان بمكة إسماعيل وهو بنى البيت مع أبيه ، والمنحر بمكة لا شكّ فيه (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الفداء جعل الشيء مكان الشيء لدفع الضرر عنه ، والذبح : هو المذبوح وما يذبح ومعناه : انا جعلنا الذبح بدلا عنه كالأسير يفدى بشيء. كان كبشا من الغنم ، وسمّي عظيما لأنه كان مقبولا ، ولأنه كان فداء عبد عظيم (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) قد مضى تفسير ذلك (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) أي بولادة إسحاق (نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولدا نبيّا من جملة الأنبياء الصالحين (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي وجعلنا فيما أعطيناهما من الخير والبركة ، يعني النماء والزيادة ، معناه : وجعلنا ما أعطيناهما من الخير دائما ثابتا ناميا ، ويجوز أن يكون أراد كثرة ولدهما ، وبقائهم قرنا بعد قرن ، الى أن تقوم الساعة (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما) أي ومن أولاد إبراهيم وإسحاق (مُحْسِنٌ) بالإيمان والطاعة (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والمعاصي (مُبِينٌ) بين الظلم.

١١٤ ـ ١٢٢ ـ (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي أنعمنا عليهما نعما فمنها النبوة ومنها النجاة من آل فرعون (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما) بني إسرائيل (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من تسخير قوم فرعون إياهم ، واستعمالهم في الأعمال الشاقة

٥٩٨

(وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) القاهرين بعد أن كانوا مغلوبين مقهورين (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) يعني التوراة الداعي إلى نفسه بما فيه من البيان ، وكذلك كل كتب الله تعالى بهذه الصفة (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي دللناهما على الطريق المؤدّي إلى الحق الموصل إلى الجنة (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما) الثناء الجميل (فِي الْآخِرِينَ) بأن قلنا (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) وقد مرّ القول في ذلك (إِنَّا كَذلِكَ) مثل ما فعلنا بهما (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) نفعل بالمطيعين ؛ نجزيهم ذلك على طاعاتهم ، وفي هذا دلالة على ان ما ذكره الله كان على وجه الثواب لموسى وهارون ومن تقدم ذكره لأن لفظ الجزاء يفيد ذلك (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي من جملة عبادنا المصدقين بجميع ما أوجبه الله تعالى عليهم ، العاملين بذلك.

١٢٣ ـ ١٣٢ ـ ثم بيّن سبحانه قصة الياس فقال (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) واختلف فيه فقيل : هو إدريس عن ابن مسعود وقتادة وقيل : هو من أنبياء بني إسرائيل من ولد هارون بن عمران ابن عم اليسع عن ابن عباس ومحمد بن إسحاق وغيرهما ، قالوا : انه بعث بعد حزقيل لما عظمت الأحداث في بني إسرائيل وكان يوشع لما فتح الشام بوّأها بني إسرائيل وقسّمها بينهم ، فأحلّ سبطا منهم ببعلبك وهم سبط إلياس بعث فيهم نبيا إليهم فأجابه الملك ، ثم ان امرأته حملته على أن ارتدّ وخالف إلياس وطلبه ليقتله فهرب إلى الجبال والبراري وقيل : انه استخلف اليسع على بني إسرائيل ورفعه الله تعالى من بين أظهرهم وقطع عنه لذة الطعام والشراب ، وكساه الريش فصار انسيا ملكيا أرضيا سماويا ، وسلّط الله على الملك وقومه عدوّا لهم فقتل الملك وامرأته ، وبعث الله اليسع رسولا فآمنت به بنو إسرائيل وعظّموه ، وانتهوا إلى أمره عن ابن عباس وقيل : إن إلياس صاحب البراري ، والخضر صاحب الجزائر ، ويجتمعان في كل يوم عرفة بعرفات وذكر وهب انه ذو الكفل (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله ونقمته بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) يعني صنما لهم من ذهب كانوا يعبدونه عن عطا والبعل بلغة أهل اليمن هو الرب والسيد ، عن عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي فالتقدير : أتدعون ربا غير الله تعالى (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) أي تتركون عبادة أحسن الخالقين (اللهَ رَبَّكُمْ) أي خالقكم ورازقكم فهو الذي تحق له العبادة (وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وخالق من مضى من آبائكم وأجدادكم (فَكَذَّبُوهُ) فيما دعاهم إليه ولم يصدّقوه (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) للحساب أو في العذاب والنار (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثنى من جملتهم الذين أخلصوا عبادتهم لله من قومه (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) فيه القولان اللذان ذكرناهما (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) قال إبن عباس : آل يس آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وياسين من أسمائه ، ومن قرأ الياسين أراد الياس ومن اتبعه ، وقيل : يس اسم السورة ، فكأنه قال : سلام على من آمن بكتاب الله تعالى ، والقرآن الذي هو يس (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) بإحسانهم (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) المصدقين العاملين بما أوجبناه عليهم.

١٣٣ ـ ١٤٨ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدّم خبر لوط فقال (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي رسولا من جملة من أرسله الله إلى خلقه ، داعيا لهم إلى طاعته ، ومنبّها لهم على وحدانيته (إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) إذ يتعلق بمحذوف ، وكأنه قيل : اذكر يا محمد إذ نجيناه أي خلّصناه ومن آمن به من قومه من عذاب الاستئصال (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي في الباقين الذين اهلكوا ؛ استثنى من جملة قومه امرأته فقال (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أي أهلكناهم (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ) هذا خطاب لمشركي العرب ، أي تمرّون

٥٩٩

في ذهابكم ومجيئكم إلى الشام على منازلهم وقراهم بالنهار وبالليل (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتعتبرون بهم ، ومن كثر مروره بموضع العبر فلم يعتبر كان ألوم ممن قلّ ذلك عنه والمعنى : أفلا تتفكرون فيما نزل بهم لتجتنبوا ما كانوا يفعلونه من الكفر والضلال. والوجه في ذكر قصص الأنبياء وتكريرها التشويق إلى مثل ما كانوا عليه من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الخلال ، وصرف الخلق عما كان عليه الكفار من مساوى ، الخصال ، ومقابح الأفعال (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي فرّ من قومه إلى السفينة المملوءة من الناس والأحمال خوفا من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم فيهم (فَساهَمَ) يونس القوم بأن القوا السهام على سبيل القرعة أي قارعهم (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أي من المقروعين وقيل من المسهومين عن مجاهد ، والمراد : من الملقين في البحر واختلف في سبب ذلك فقيل : إنهم اشرفوا على الغرق فرأوا انهم ان طرحوا واحدا منهم في البحر لم يغرق الباقون وقيل : ان السفينة احتبست فقال الملاحون : ان ها هنا عبدا آبقا ، فإن من عادة السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري فلذلك اقترعوا فوقعت القرعة على يونس ثلاث مرات ، فعلموا انه المطلوب ، فألقى نفسه في البحر وقيل : انه لما وقعت القرعة عليه ألقوه في البحر (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) أي ابتلعه وقيل : ان الله سبحانه أوحى إلى الحوت : اني لم أجعل عبدي رزقا لك ولكني جعلت بطنك مسجدا له فلا تكسرنّ له عظما ، ولا تخدشنّ له جلدا (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي مستحق للوم ، لوم العتاب لا لوم العقاب على خروجه (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) أي كان من المصلين في حال الرخاء ، وكان تسبيحه : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) أي فطرحناه بالمكان الخالي الذي لا نبت فيه ولا شجر ، ألهم الله سبحانه الحوت حتى قذفه ورماه من جوفه على وجه الأرض (وَهُوَ سَقِيمٌ) أي مريض حين ألقاه الحوت (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) وهو القرع وروي عن ابن مسعود قال : خرج يونس من بطن الحوت كهيئة فرخ ليس عليه ريش ، فاستظل بالشجر من الشمس (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) إن الله سبحانه أرسله إلى أهل نينوى ومعنى قوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) انهم كانوا عددا لو نظر إليهم الناظر لقال : هم مائة ألف أو يزيدون (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) حكى سبحانه عنهم انهم آمنوا بالله ، وراجعوا التوبة فكشف عنهم العذاب ، ومتّعهم بالمنافع واللذات إلى انقضاء آجالهم.

١٤٩ ـ ١٦٠ ـ ثم عاد الكلام إلى الردّ على مشركي العرب فقال سبحانه (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي سلهم واطلب الحكم منهم في هذه القصة (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) أي كيف أضفتم البنات إلى الله تعالى واخترتم لأنفسكم البنين وكانوا يقولون : ان الملائكة بنات الله على وجه الاصطفاء لا على وجه الولادة (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً) معناه : بل خلقنا الملائكة إناثا (وَهُمْ شاهِدُونَ) أي حاضرون خلقنا إياهم ، أي كيف جعلوهم إناثا ولم يشهدوا خلقهم؟ ثم اخبر عن كذبهم فقال (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ) حين زعموا ان الملائكة بنات الله تعالى (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) والمعنى : كيف يختار الله سبحانه الأدون على الأعلى مع كونه مالكا حكيما؟! ثم وبّخهم فقال (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) لله بالبنات ولأنفسكم بالبنين (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتعظون فتنتهون عن مثل هذا القول (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) أي حجّة بيّنة على ما تقولون وتدّعون ، وهذا كله انكار في صورة الإستفهام (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) المعنى : فأتوا بكتابكم الذي لكم فيه الحجة إن كنتم صادقين في قولكم ؛ والمراد انه دليل لكم على

٦٠٠