الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

عندهم وقيل : إن المراد به يوما أو بعض يوم من أيام الآخرة قال ابن عباس : أنساهم الله قدر لبثهم فيرون أنهم لم يلبثوا إلا يوما أو بعض يوم لعظم ما هم بصدده من العذاب (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) يعني الملائكة لأنهم يحصون أعمال العباد ، عن مجاهد ، وقيل : يعني الحسّاب لأنه يعدّون الشهور والسنين ، عن قتادة (قالَ) الله تعالى (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي مكثتم (إِلَّا قَلِيلاً) لأن مكثهم في الدنيا وإن طال فإنه متناه قليل بالإضافة إلى طول مكثهم في عذاب جهنّم (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) معناه : لو كنتم تعلمون قصر أعماركم في الدنيا ، وطول مكثكم في الآخرة في العذاب ، لما اشتغلتم بالكفر والمعاصي ، وآثرتم الفاني على الباقي. ثم قال سبحانه لهم (أَفَحَسِبْتُمْ) معاشر الجاحدين للبعث والنشور ، الظانين دوام الدنيا (أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي لعبا وباطلا لا لغرض وحكمة ، والمعنى : أفظننتم انا خلقناكم لتفعلوا ما تريدون ثم انكم لا تحشرن ولا تسألون عما كنتم تعملون؟ هذا عبث ، فإن من خلق الأشياء لا لينتفع به نفسه أو غيره كان عابثا ، والله سبحانه غني لا يلحقه منفعة ، فلابد أن يكون خلق الخلق لينفعهم ويعرضهم للثواب بأن يتعبدهم ، وإذا تعبدهم فلابدّ من الفرق بين المطيع والعاصي وذلك إنما يكون بعد البعث (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) أي وحسبتم أنكم لا ترجعون إلى حكمنا ، والموضع الذي لا يملك الحكم فيه غيرنا (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) أي تعالى عمّا يصفه به الجهّال من الشريك والولد ، وقيل معناه : تعالى الله من أن يفعل شيئا عبثا ، والملك الحق : الذي له الملك بأنه ملك غير مملوك ، وكل ملك غيره فملكه مستعار ، ولأنه يملك جميع الأشياء من جميع الوجوه ، فكلّ ملك سواه يملك بعض الأشياء من بعض الوجوه. والحق هو الشيء الذي من اعتقده كان على ما اعتقده فالله هو الحق لأن من اعتقد أنه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فقد اعتقد الشيء على ما هو به (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي خالق السرير الحسن ، والكريم في صفة الجماد بمعنى الحسن وقيل : الكريم ، الكثير الخير ؛ وصف العرش به لكثرة ما فيه من الخير لمن حوله ، ولإتيان الخير من جهته وخصّ العرش بالذكر مع كونه سبحانه رب كل شيء تشريفا وتعظيما له كقوله : (رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) أي لا حجّة له فيما يدعيه يعني ان من صفته انه لا حجّة له به (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) معناه : فإنما معرفة مقدار ما يستحقه من الجزاء عند ربه فيجازيه على قدر ما يستحقه وقيل معناه فإنما مكافأته عند الله تعالى والمكافأة والمحاسبة بمعنى (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي لا يظفر ولا يسعد الجاحدون لنعم الله ، والمنكرون لتوحيده ، والدافعون للبعث والنشور. ولما حكى سبحانه أقوال الكفار أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبري منهم ، والانقطاع إليه سبحانه فقال (وَقُلْ) يا محمد (رَبِّ اغْفِرْ) الذنوب (وَارْحَمْ) أنعم على خلقك (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي أفضل المنعمين وأكثرهم نعمة ، وأوسعهم فضلا.

سورة النور

مدنية وعدد آياتها أربع وستون آية

١ ـ ٣ (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) أي هذه سورة قطعة من القرآن بها أول وآخر أنزلها جبرائيل عليه‌السلام بأمرنا (وَفَرَضْناها) أي وأوجبنا عليكم العمل بها وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) أي دلالات واضحات على وحدانيتنا ، وكمال قدرتنا (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تتذكروا فتعملوا بما فيها. ثم ذكر سبحانه تلك الآيات وابتدأ بحكم الزنا فقال (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) أي من زنى من النساء ، ومن زنى

٤٦١

من الرّجال (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) يعني إذا كانا حرّين بالغين بكرين غير محصنين فأما إذا كانا محصنين أو كان أحدهما محصنا كان عليه الرجم بلا خلاف ، والإحصان : هو أن يكون له فرج يغدو إليه ويروح على وجه الدوام ، وقيل : إنّما قدّم ذكر الزانية على الزاني لأن الزنا منهن أشنع وأعير وهو لأجل الحبل أضر ، وقوله : فاجلدوا ، هذا خطاب للأئمة ومن يكون منصوبا للأمر من جهتهم ، لأنه ليس لأحد أن يقيم الحدود إلا الأئمّة وولاتهم بلا خلاف (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) معناه : إن كنتم تصدّقون بالله وتقرّون بالبعث والنشور ، فلا تأخذكم بهما رحمة تمنعكم من إقامة الحدود عليهما فتعطّلوا الحدود. وقوله : (فِي دِينِ اللهِ) : أي في حكم الله (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) أي وليحضر حال إقامة الحد عليهما (طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم ثلاثة فصاعدا ، وقيل : أقله رجل واحد عن ابن عباس والحسن ومجاهد وإبراهيم ، وهو المروي عن أبي جعفر (ع) ويدل على ذلك قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) ، وهذا الحكم يثبت للواحد كما يثبت للجميع وقيل : أقلها أربعة لأن أقل ما يثبت به الزنا شهادة أربعة عن ابن زيد وقيل : ليس لهم عدد محصور بل هو موكول إلى رأي الإمام ، والمقصود أن يحضر جماعة يقع بهم اذاعة الحدّ ليحصل الاعتبار وقوله (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) أن المراد بالنكاح العقد ، ونزلت الاية على سبب : وهو أن رجلا من المسلمين استأذن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يتزوج أم مهزول وهي امرأة كانت تسافح ولها راية على بابها تعرف بها فنزلت الآية والمراد بالآية النهي ، ويؤيده ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وأبي عبد الله عليه‌السلام أنهما قالا : هم رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مشهورين بالزنا ، فنهى الله عن أولئك الرجال والنساء ، والناس على تلك المنزلة ، فمن شهر بشيء وأقيم عليه الحد فلا تزوجوه (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي حرّم نكاح الزانيات أو حرّم الزنا على المؤمنين فلا يتزوج بهن أو لا يطؤهن إلا زان أو مشرك.

٤ ـ ٥ ـ لمّا تقدّم ذكر حدّ الزنا عقّبه سبحانه بذكر حدّ القاذف بالزنا فقال سبحانه (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أي يقذفون العفائف من النساء بالفجور والزنا وحذف لدلالة الكلام عليه (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي ثم لم يأتوا على صحة ما رموهن به من الزنا بأربعة شهداء عدول يشهدون أنهم رأوهن يفعلن ذلك (فَاجْلِدُوهُمْ) أي فاجلدوا الذين يرموهن بالزنا (ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) نهى سبحانه عن قبول شهادة القاذف على التأبيد ، وحكم عليهم بالفسق ، ثم استثنى من ذلك فقال (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أعمالهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اختلف في هذا الاستثناء إلى ماذا يرجع على قولين (احداهما) أنه يرجع إلى الفسق ، ويزول عنه بالتوبة ولا تقبل شهادته إذا تاب بعد إقامة الحد (والآخر) أن الاستثناء يرجع إلى الأمرين فإذا تاب قبلت شهادته ولم يحد.

٦ ـ ١٠ ـ لما تقدّم حكم القذف للأجنبيات عقّبه بحكم القذف للزوجات فقال (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) بالزنا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) يشهدون لهم على صحة ما قالوا (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) معناه : فشهادة أحدهم التي تدرأ حدّ القاذف أربع شهادات (بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به من الزنا (وَالْخامِسَةُ) أي : والشهادة الخامسة (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به من الزنا والمعنى : أن الرجل يقول أربع مرّات مرة بعد مرّة أخرى : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما ذكرت عن هذه المرأة

٤٦٢

من الفجور ، فإن هذا حكم خصّ الله به الأزواج في قذف نسائهم فتقوم الشهادات الأربع مقام الشهود الأربعة في دفع حدّ القذف عنهم ، ثم يقول في المرة الخامسة : لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) ويدفع عن المرأة حدّ الزنا (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) معناه : أن تقول المرأة أربع مرات مرة بعد أخرى : أشهد بالله انه لمن الكاذبين فيما قذفني به من الزنا (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) أي وتقول في الخامسة : غضب الله عليّ (إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما قذفني به من الزنا ، ثم يفرّق الحاكم بينهما ولا تحل له أبدا ، وكان عليها العدة من وقت العانها (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) جواب لولا محذوف تقديره ولولا فضل الله عليكم بالنهي عن الزنا والفواحش وإقامة الحدود لتهالك الناس ، ولفسد النسل ، وانقطع الأنساب عن أبي مسلم.

١١ ـ ١٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) أي بالكذب العظيم الذي قلب فيه الأمر عن وجهه (عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أيها المسلمون قال ابن عباس وعائشة : منهم عبد الله بن أبي سلول ، وهو الذي تولى كبره ، ومسطح بن اثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) هذا خطاب لعائشة وصفوان لأنهما قصدا بالافك ، ولمن اغتمّ بسبب ذلك ، وخطاب لكل من رمي بسبب ، عن ابن عباس ، أي لا تحسبوا غمّ الأفك شرّا لكم بل هو خير لكم ، لأن الله تعالى يلزم أصحاب الأفك ما استحقّوه بالإثم الذي ارتكبوه وقال الحسن : هذا خطاب للقاذفين من المؤمنين والمعنى : لا تحسبوا أيها القذفة هذا التأديب شرا لكم بل هو خير لكم فإنه يدعوكم إلى التوبة ، ويمنعكم عن المعاودة إلى مثله (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) بقدر ما خاض وأفاض فيه وقيل معناه : على كل امرىء منهم عقاب ما اكتسب (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي تحمل معظمه (مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) المراد به عبد الله بن أبي سلول ، أي فإنه كان رأس أصحاب الأفك ، كان يجتمع الناس عنده ويحدثهم بحديث الإفك ، ويشيع ذلك بين الناس ، ويقول : امرأة نبيّكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها والله ما نجت منه ولا نجا منها ، والعذاب العظيم عذاب جهنّم في الآخرة (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) معناه : هلا حين سمعتم هذا الأفك من القائلين له ظن المؤمنون والمؤمنات بالذين هم كأنفسهم خيرا لأن المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور ، فإذا جرى على أحدهم محنة فكأنّها جرت على جماعتهم فهو كقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) عن مجاهد ، وعلى هذا يكون خطابا لمن سمعه فسكت ولم يصدق ولم يكذب وقيل : هو خطاب لمن أشاعه والمعنى : هلا إذا سمعتم هذا الحديث ظننتم بها ما تظنونه بأنفسكم لو خلوتم بها ، وذلك لأنها كانت أم المؤمنين ، ومن خلا بأمه فإنه لا يطمع فيها وهي لا تطمع فيه (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي وهلا قالوا : هذا القول كذب ظاهر (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي هلا جاءوا على ما قالوه ببينة وهي أربعة شهداء يشهدون بما قالوه (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) أي فحين لم يأتوا بالشهداء (فَأُولئِكَ) الذين قالوا هذا الأفك (عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه (هُمُ الْكاذِبُونَ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بأن أمهلكم لتتوبوا ولم يعاجلكم بالعقوبة (لَمَسَّكُمْ) أي أصابكم (فِيما أَفَضْتُمْ) أي خضتم (فِيهِ) من الأفك (عَذابٌ عَظِيمٌ) أي عذاب لا انقطاع له عن ابن عباس ، ثم ذكر الوقت الذي كان يصيبهم العذاب فيه لولا فضله فقال (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي يرويه بعضكم عن بعض عن مجاهد ومقاتل وقيل معناه : يلقيه بعضكم إلى بعض ، عن

٤٦٣

الزجاج (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) أي تظنون أن ذلك سهل لا إثم فيه (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) في الوزر لأنه كذب وافتراء.

١٦ ـ ٢٠ ـ ثم زاد سبحانه في الإنكار عليهم فقال (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ) أي هلا قلتم حين سمعتم ذلك الحديث (ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) أي لا يحلّ لنا أن نخوض في هذا الحديث ، وما ينبغي لنا أن نتكلم به (سُبْحانَكَ) يا ربّنا (هذا) الذي قالوه (بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي كذب وزور عظيم عقابه ، أو نتحيّر من عظمه وقيل : إنّ سبحانك هنا معناه التعجب كقول الأعشى : «سبحان من علقمة الفاخر» وقيل معناه ننزهك ربنا من أن نعصيك بهذه المعصية. ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال (يَعِظُكُمُ اللهُ) أي ينهاكم الله عن مجاهد وقيل يحرم الله عليكم (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) لئلا تعودوا إلى مثله من الأفك (أَبَداً) أي طول أعماركم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي مصدقين بالله ونبيّه قابلين موعظة الله (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) في الأمر والنهي (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يكون منكم (حَكِيمٌ) فيما يفعله ، لا يضع الشيء إلا في موضعه. ثم هدّد القاذفين فقال (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) أي يفشوا ويظهروا الزنا والقبائح (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) بأن ينسبوها إليهم ، ويقذفوهم بها (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) بإقامة الحد عليهم (وَالْآخِرَةِ) وهو عذاب النار (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه من سخط الله وما يستحق عليه من المعاقبة (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك. ثم ذكر فضله ومنّته عليهم فقال (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) لعاجلكم بالعقوبة ، ولكنه برحمته أمهلكم لتتوبوا وتندموا على ما قلتم ، وجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه.

النظم

لما بيّن سبحانه أحكام قذف الزوجات ، ثم عطف بعد ذلك قذف الأمهات ، فإن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمهات المؤمنين بدلالة قوله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) الآية.

٢١ ـ ٢٥ ـ ثم نهى سبحانه عن اتباع الشيطان فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي آثاره التي تؤدّي إلى مرضاته وقيل : وساوسه (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) هذا بيان سبب المنع من اتباعه (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بأن لطف لكم وأمركم بما تصيرون به ازكياء ، ونهاكم عمّا تصيرون بتركه أزكياء (ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) أي ما صار منكم أحد زكيا (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي يطهر بلطفه من يشاء ، وهو من له لطف يفعله سبحانه به ليزكو عنده (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يفعل المصالح والألطاف بالمكلفين لأنه يسمع أصواتهم وأقوالهم ويعلم أحوالهم وأفعالهم (وَلا يَأْتَلِ) أي ولا يحلف ، أو لا يقصر ولا يترك (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) أي أولو الغنى

__________________

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ هذا القرآن هو النور المبين ، والحبل المتين ، والعروة الوثقى ، والدرجة العليا ، والشفاء الأشفى ، والفضيلة الكبرى ، والسعادة العظمى ؛ من استضاء به نوّره الله ، ومن عقد به أموره (عقد به أموره : تديّن به ، وجعل أموره تبعا لأحكامه) عصمه الله ، ومن تمسّك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق أحكامه رفعه الله ، ومن استشفى به شفاه الله ، ومن آثره على ما سواه هداه الله ، ومن طلب الهدى في غيره أضله الله. تفسير الصراط المستقيم : ٣ / ٢٩٤.

١ ـ عقد به اموره : تدين به ، وجعل اموره تبعا لاحكامه.

٤٦٤

والسعة في المال (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) ولا يتركوا جهدا في الانفاق على أقربائهم (وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) هذا أمر من الله تعالى للمرادين بالآية بالعفو عمّن أساء إليهم ، والصفح عنهم ، وقال لهم (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) معاصيكم جزاء على عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أي يقذفون العفائف من النساء (الْغافِلاتِ) عن الفواحش (الْمُؤْمِناتِ) بالله ورسوله واليوم الآخر (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي ابعدوا من رحمة الله في الدارين وقيل : استحقوا اللعنة فيهما وقيل عذّبوا في الدنيا بالجلد وردّ الشهادة وفي الآخرة بعذاب النار (وَلَهُمْ) مع ذلك (عَذابٌ عَظِيمٌ) وهذا الوعيد عام لجميع المكلفين عن ابن عباس وابن زيد (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) بيّن الله سبحانه أن ذلك العذاب يكون في يوم تشهد ألسنتهم فيه عليهم بالقذف وسائر أعضائهم بمعاصيهم وفي كيفية شهادة الجوارح أقوال (أحدها) ان الله تعالى يبنيها بنية يمكنها النطق والكلام من جهتها فتكون ناطقة (والثاني) ان الله تعالى يفعل فيها كلاما يتضمن الشهادة فيكون المتكلم هو الله دون الجوارح واضيف الكلام إليها على التوسع لأنها محل الكلام (والثالث) ان الله تعالى يجعل فيها علامة تقوم مقام النطق بالشهادة ، وأما شهادة الألسن فبأن يشهدوا بألسنتهم إذ رأوا أنه لا ينفعهم الجحود وأما قوله (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) فإنه يجوز أن تخرج الألسنة ويختم على الأفواه ، ويجوز أن يكون الختم على الأفواه في حال شهادة الأيدي والأرجل (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) أي يتمم الله لهم جزاءهم الحق ، فالدين هنا بمعنى الجزاء ويجوز أن يكون المراد جزاء دينهم الحق فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي يعلمون الله ضرورة في ذلك اليوم ويقرّون أنه الحق ، لأنه يقضي بالحق ، ويعطي بالحق ، ويأخذ بالحق (الْمُبِينُ) أي الذي يظهر لهم حقائق الأمور ، ويبيّن جلائل الآيات.

النظم

بدأ سبحانه فبيّن حكم القاذف أولا وأوجب عليه الحدود ورد شهادته وسمّاه فاسقا فعلم أن المراد به أهل الملة ثم عقّبه بحديث الإفك لاتصاله به ثم ذكر صنفا آخر من القذفة وهم المنافقون بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) وبيّن ما لهم من الغضب واللعنة ثم عمّ الجميع بالوعيد في قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) الآيات عن أبي مسلم.

٢٦ ـ ٢٩ ـ قال سبحانه (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) معناه : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قالا : هي مثل قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) الآية ان أناسا همّوا أن يتزوجوا منهن فنهاهم الله عن ذلك وكره ذلك لهم (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي الطيبون مبرؤون : أي منزّهون (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي لهؤلاء الطيبين من الرجال والنساء مغفرة من الله لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي عطية من الله كريمة في الجنة. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي حتى تستأنسوا وقيل : تستأنسوا بالتنحنح والكلام الذي يقوم مقام

٤٦٥

الاستيذان ، وقد بيّن الله تعالى ذلك في قوله : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) ، عن مجاهد والسدي وقيل معناه : حتى تستعلموا وتتعرفوا ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : قلنا يا رسول الله ما الاستيناس؟ قال : يتكلم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة ويتنحنح على أهل البيت (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) تقديره : حتى تسلموا على أهلها (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) معناه : ذلك الدخول بالاستيذان خير لكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) مواعظ الله وأوامره ونواهيه فتتبعونها (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) معناه : فإن لم تعلموا (فِيها أَحَداً) يأذن لكم في الدخول (فَلا تَدْخُلُوها) لأنه ربما كان فيها ما لا يجوز أن تطلعوا عليه (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) أي حتى يأذن لكم أرباب البيوت في ذلك. بيّن الله سبحانه بهذا أنه لا يجوز دخول دار الغير بغير إذن وإن لم يكن صاحبها فيها ، ولا يجوز أن يتطلع إلى المنزل لير من فيه فيستأذنه إذا كان باب البيت مغلقا ، لقوله (ع): إنّما جعل الاستيذان لأجل النظر ، إلّا أن يكون الباب مفتوحا ، لأن صاحبه بالفتح أباح النظر (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) أي فانصرفوا ولا تلجّوا عليهم (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) معناه : ان الانصراف انفع لكم في دينكم ودنياكم ، وأطهر لقلوبكم ، وأقرب إلى أن تصيروا أزكياء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) أي عالم بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها. ثم قال سبحانه (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي حرج وإثم (أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) يعني بغير استئذان (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) إنها الخانات والحمامات والأرحية ، ويكون معنى متاع لكم : أي استمتاع لكم (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) لا يخفى عليه شيء من ذلك.

فقال (قُلْ) يا محمد (لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) عمّا لا يحل لهم النظر إليه (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) عمّن لا يحل لهم وعن الفواحش ، وقال ابن زيد : كل موضع في القرآن ذكر فيه حفظ الفروج فهو عن الزنا ، إلا في هذا الموضع فإن المراد به الستر حتى لا ينظر إليها أحد ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : فلا يحل للرجل أن ينظر إلى فرج أخيه ، ولا يحل للمرأة أن تنظر إلى فرج اختها (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي انفع لدينهم ودنياهم ، وأطهر لهم ، وانفى للتهمة ، وأقرب إلى التقوى (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) أي عليم (بِما يَصْنَعُونَ) أي بما يعملون (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) أمر النساء بمثل ما أمر به الرجال من غضّ البصر ، وحفظ الفرج (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) أي لا يظهرن مواضع الزينة لغير محرم ومن في حكمه (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) فيها ثلاثة أقاويل (أحدها) ان الظاهرة : الثياب ، والباطنة : الخلخالان والقرطان والسواران ، عن ابن مسعود (وثانيها) ان الظاهرة : الكحل والخاتم والخدان ، والخضاب في الكف ، عن ابن عباس ، والكحل والسوار والخاتم ، عن قتادة (وثالثها) انها الوجه والكفان ، عن الضحاك وعطا ، والوجه والبنان ، عن الحسن ، وفي تفسير علي بن إبراهيم الكفّان والأصابع (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) والخمر : المقانع جمع خمار وهو غطاء رأس المرأة المنسدل على جيبها ، أمرن بالقاء المقانع على صدورهن تغطية لنحورهن ، فقد قيل : انّهن كنّ يلقين مقانعهن على ظهورهن فتبدو صدورهنّ (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) معناه : لا يضعن الجلباب والخمار (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) أي لأزواجهن يبدين مواضع زينتهنّ لهم استدعاء لميلهم ، وتحريكا لشهوتهم (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) وهؤلاء الذين يحرم عليهم نكاحهن فهم ذوو محارم لهن بالأسباب والأنساب ، ويدخل أجداد البعولة فيه وان علوا ، وأحفادهم وان سفلوا ، يجوز ابداء الزينة لهم من غير استدعاء لشهوتهم ،

٤٦٦

ويجوز لهم تعمد النظر من غير تلذذ (أَوْ نِسائِهِنَ) يعني النساء المؤمنات ، ولا يحل لهن أن يتجردن ليهودية أو نصرانية أو مجوسية إلا إذا كانت أمة وهو معنى قوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) أي من الإماء عن ابن جريج ومجاهد والحسن وسعيد بن المسيب قالوا : ولا يحل للعبد أن ينظر إلى شعر مولاته وقيل معناه العبيد ، والإماء وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام وقال الجبائي : أراد مملوكا له لم يبلغ مبلغ الرجال (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) معناه : التابع الذي يتبعك لينال من طعامك ولا حاجة له في النساء وهو الأبله المولّى عليه عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام وقيل : هو العنين الذي لا ارب له في النساء لعجزه عن عكرمة والشعبي ، وقيل : إنه الخصي المجبوب الذي لا رغبة له في النساء عن الشافعي (أَوِ الطِّفْلِ) أي الجماعة من الأطفال (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) يريد به الصبيان الذين لم يعرفوا عورات النساء ، ولم يقووا عليها لعدم شهوتهم وقيل لم يطيقوا مجامعة النساء ، فإذا بلغوا مبلغ الشهوة فحكمهم حكم الرجال (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) قال قتادة كانت المرأة تضرب برجلها لتسمع قعقعة الخلخال فيها فنهاهنّ عن ذلك وقيل معناه : لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليتبين خلخالها أو يسمع صوته (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تفوزون بثواب الجنة.

٣٢ ـ ٣٤ ثم أمر سبحانه عباده بالنكاح ، وأغناهم عن السفاح فقال (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) ومعناه : زوّجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونساءكم ، وهذا أمر ندب واستحباب ، وقد صحّ عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : من أحبّ فطرتي فليستن بسنّتي ، ومن سنّتي النكاح (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أي وزوّجوا المستورين من عبيدكم وولائدكم وقيل : إن معنى الصلاح ههنا الإيمان ، ثم رجع إلى الأحرار فقال (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ) لا سعة لهم للتزويج (يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وعدهم سبحانه أن يوسّع عليهم عند التزويج (وَاللهُ واسِعٌ) المقدور ، كثير الفضل (عَلِيمٌ) بأحوالهم وما يصلحهم فيعطيهم على قدر ذلك ؛ وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء الظن بربّه لقوله سبحانه : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد السبيل إلى أن يتزوج بأن لا يجد المهر والنفقة أن يتعفف ولا يدخل في الفاحشة ، ويصبر حتى يوسّع الله عليه من رزقه ، ثم بيّن سبحانه ما يسهل سبيل النكاح فقال (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) أي يطلبون المكاتبة (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من العبيد والإماء (فَكاتِبُوهُمْ) والمكاتبة : أن يكاتب الإنسان عبده على مال ينجمه عليه ليؤدّيه إليه في هذه النجوم المعلومة ، وهذا أمر ندب واستحباب وترغيب عند جميع الفقهاء (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي صلاحا ورشدا ، وعلمتم فيهم قدرة على الاكتساب لأداء مال الكتابة ، ورغبة فيه وأمانة (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أي حطّوا عنهم من نجوم الكتابة شيئا. عن ابن عباس وقتادة وعطاء ، وقيل معناه : ردّوا عليهم يا معشر السادة من المال الذي أخذتم منه شيئا ، وهو استحباب ، وقيل : هو إيجاب. وقال قوم من المفسرين : إنه خطاب للمؤمنين بمعونتهم على تخليص رقابهم من الرق (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ) أي امائكم وولايدكم (عَلَى الْبِغاءِ) أي على الزنا (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) أي تعففا وتزويجا (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي من كسبهن وبيع أولادهن (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَ) أي ومن يجبرهن على الزنا من سادتهن (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ) للمكرهات لا للمكره لأن الوزر عليه (رَحِيمٌ) بهنّ (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ

٤٦٧

مُبَيِّناتٍ) أي واضحات ظاهرات ومن قرأ بفتح الباء فمعناه مفصلات بينهنّ الله وفصّلهن (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) واخبارا من الذين مضوا من قبلكم ، وقصصا لهم ، وشبها من حالهم بحالكم لتعتبروا بها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي وزجرا للمتقين عن المعاصي ؛ وخصّهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها.

٣٥ ـ ٣٨ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الله هادي أهل السماوات والأرض إلى ما فيه مصالحهم. عن ابن عباس ، وقيل : الله منوّر السماوات والأرض بالشمس والقمر والنجوم ، عن الحسن وأبي عالية والضحّاك (مَثَلُ نُورِهِ) المعنى : مثل نور الله الذي هدى به المؤمنين وهو الإيمان في قلوبهم (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) المشكاة : هي الكوة في الحائط يوضع عليها زجاجة ، ثم يكون المصباح خلف تلك الزجاجة ، ويكون للكوة باب آخر يوضع المصباح فيه (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي ذلك السراج في زجاجة ، وفائدة اختصاص الزجاجة بالذكر انه اصفى الجواهر ، فالمصباح فيه أضوأ (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أي تلك الزجاجة مثل الكوكب العظيم المضيء (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) أي يشتعل ذلك السراج من دهن شجرة مباركة (زَيْتُونَةٍ) أراد بالشجرة المباركة شجرة الزيتون لأن فيها أنواع المنافع ، فإن الزيت يسرج به ، وهو ادام ودهان ودباغ ، ويوقد بحطبه وثفله ، ويغسل برماده الابريسم ، ولا يحتاج في استخراج دهنه إلى اعصار (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي لا يفيء عليها ظل شرق ولا غرب ، فهي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف ، فزيتها يكون أصفر (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) من صفائه ، وفرط ضيائه (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي قبل أن تصيبه النار وتشتعل فيه. إنّه مثل ضربه الله لنبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالمشكاة : صدره ، والزجاجة : قلبه ، والمصباح : فيه النبوة ، لا شرقية ولا غربية : أي لا يهودية ولا نصرانية ، توقد من شجرة مباركة : يعني شجرة النبوة وهي ابراهيم عليه‌السلام يكاد نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن للناس ولو لم يتكلم به ، كما ان ذلك الزيت يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار ، أي تصبه النار (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي نبيّ من نسل نبيّ (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يهدي الله لدينه وإيمانه من يشاء ، بأن يفعل له لطفا يختار عنده الإيمان إذا علم ان له لطفا (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) تقريبا إلى الأفهام ، وتسهيلا لدرك المرام (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيضع الأشياء مواضعها (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) معناه : هذه المشكاة في بيوت هذه صفتها وهي بيوت الأنبياء ، وروي ذلك مرفوعا أنه سئل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قرأ الآية أيّ بيوت هذه فقال بيوت الأنبياء ، فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها؟ يعني بيت عليّ وفاطمة فقال : يا رسول الله هذا البيت منها؟ يعني بيت عليّ وفاطمة قال : نعم ، من أفاضلها. ويعضد هذا القول قوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، وقوله : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) ، فالإذن برفع بيوت الأنبياء والأوصياء مطلق ، والمراد بالرفع التعظيم ورفع القدر من الأرجاس ، والتطهير من المعاصي والأدناس (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أي يتلى فيها كتابه (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي يصلى له فيها بالبكور والعشايا. قال ابن عباس كل تسبيح في القرآن صلاة. ثم بين سبحانه المسبح فقال (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ) أي لا تشغلهم ولا تصرفهم (تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ) أي إقامة الصلاة (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) يريد الزكاة المفروضة (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أراد يوم القيامة ، تتقلب فيه أحوال القلوب والأبصار ، وتنتقل من حال إلى حال ، فتلفحها النار ، ثم تنضجها ، ثم تحرقها ، وتنقلب الأبصار يمنة ويسرة

٤٦٨

من أين تؤتى كتبهم ، وأين يؤخذ بهم ، أمن قبل اليمين ، أم من قبل الشمال (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يفعلون ذلك طلبا لمجازة الله إياهم بأحسن ما عملوا ، ولتفضله عليهم بالزيادة على ما استحقّوه بأعمالهم من فضله وكرمه (وَاللهُ يَرْزُقُ) أي يعطي (مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير مجازاة على عمل بل تفضلا منه سبحانه ؛ والثواب لا يكون إلّا بحساب ، والتفضل يكون بغير حساب.

٣٩ ـ ٤٠ ثم ذكر سبحانه مثل الكفار فقال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ) التي يعملونها ويعتقدون أنها طاعات (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) أي كشعاع بأرض مستوية (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) أي يظنه العطشان ماء (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أي حتى إذا انتهى إليه رأى أرضا لا ماء فيها وهو قوله : (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) ، أي شيئا مما حسب وقدر ؛ فكذلك الكافر يحسب ما قدّم من عمله نافعا ، وأن له عليه ثوابا وليس له ثواب (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) قيل معناه : ووجد الله عند عمله فجازاه على كفره (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا يشغله حساب عن حساب ، فيحاسب الجميع على أفعالهم في حالة واحدة ؛ وسئل أمير المؤمنين عليه‌السلام : كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال : كما يرزقهم في حالة واحدة ثم ذكر مثلا آخر لأعمالهم فقال (أَوْ كَظُلُماتٍ) أي أو أفعالهم مثل ظلمات (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) أي عظيم اللجة لا يرى ساحله (يَغْشاهُ مَوْجٌ) أي يعلو ذلك البحر اللجي موج (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي فوق ذلك الموج موج (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أي من فوق الموج سحاب (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) يعني ظلمة البحر ، وظلمة الموج ، وظلمة السحاب ، والمعنى : أن الكافر يعمل في حيرة ولا يهتدي لرشده ، فهو من جهله وحيرته كمن هو في هذه الظلمات لأنه من عمله وكلامه واعتقاده متقلب في ظلمات (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) لا يراها ولا يقارب رؤيتها ، فهو ، نفي للرؤية وعن مقاربة الرؤية ، لأن دون هذه الظلمة لا يرى فيها (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) أي من لم يجعل الله له نجاة وفرجا فما له من نجاة.

٤١ ـ ٤٦ ثم ذكر سبحانه الآيات التي جعلها نورا للعقلاء العارفين بالله وصفاته فقال (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم يا محمد ، لأن ما ذكر في الآية لا يرى بالأبصار وإنما يعلم بالأدلة ، والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به جميع المكلفين (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والتسبيح التنزيه لله تعالى عمّا لا يجوز عليه ولا يليق به ، أي ينزّهه أهل السماوات وأهل الأرض بألسنتهم وقيل عنى به العقلاء وغيرهم وكنّى عن الجميع بلفظة من تغليبا للعقلاء على غيرهم (وَالطَّيْرُ) أي ويسبّح له الطير (صَافَّاتٍ) أي واقفات في الجوّ مصطفّات الأجنحة في الهواء ، وتسبيحها ما يرى عليها من آثار الحدوث (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) معناه ان جميع ذلك قد علم الله تعالى دعاءه إلى توحيده وتسبيحه وتنزيهه وقيل ان الصلاة للإنسان والتسبيح لكل شيء عن مجاهد وجماعة وقيل معناه : كل واحد منهم قد علم صلاته وتسبيحه ، أي صلاة نفسه ، وتسبيح نفسه فيؤديه في وقته (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي عالم بأفعالهم فيجازيهم في وقته (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والملك المقدور الواسع لمن يملك السياسة والتدبير فملك السماوات والأرض لا يصح إلا لله وحده لأنه القادر على الأجسام ، لا يقدر على خلقها غيره ، فالملك التام لا يصحّ إلا له سبحانه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع يوم القيامة. ثم قال (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم (أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) أي يسوقه سوقا رفيقا إلى حيث يريد (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي يضمّ بعضه إلى بعض فيجعل القطع المتفرقة منه قطعة واحدة (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي متراكما بعضه

٤٦٩

فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي ترى المطر والقطر يخرج من خلال السحاب أي مخارج القطر منه (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) أي وينزل من جبال في السماء ـ تلك الجبال من برد ـ بردا والسماء : السحاب ، لأن كل ما علا مطبقا فهو سماء ؛ ويجوز أن يكون البرد يجتمع في السحاب كالجبال ثم ينزل منها عن البلخي وغيره وقيل معناه وينزل من السماء مقدار جبال من برد كما يقول عندي بيتان من تبن أي قدر بيتين عن الفراء وقيل أراد السماء المعروفة فيها جبال من برد مخلوقة عن الحسن والجبائي (فَيُصِيبُ بِهِ) أي بالبرد أي بضرره (مَنْ يَشاءُ) فيهلك زرعه وماله (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أي ويصرف ضرره عمن يشاء ، فيكون اصابته نقمة ، وصرفه نعمة (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) أي يقرب ضوء برق السحاب من أن يذهب بالبصر ويخطفه لشدة لمعانه كما قال : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يصرفهما في اختلافهما وتعاقبهما ، وإدخال أحدهما في الآخر (إِنَّ فِي ذلِكَ) التقليب (لَعِبْرَةً) أي دلالة (لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي لذوي العقول والبصائر (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) أي كل حيوان يدبّ على وجه الأرض ولا يدخل فيه الجن والملائكة (مِنْ ماءٍ) أي من نطفة وقيل عنى به الماء لأن أصل الخلق من الماء لأنه الله خلق الماء وجعل بعضه نارا فخلق الجن منها وبعضه ريحا فخلق منه الملائكة وبعضه طينا فخلق منه آدم عليه‌السلام فأصل الحيوان كلّه الماء ويدل قوله (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحية والحوت والدود (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالانس والطير (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالأنعام والوحوش والسباع ، ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع في رأي العين فترك ذكره لأن العبرة تكفي بذكر الأربع.

(يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) أي يخترع ما يشاء وينشئه من الحيوان وغيره وقال المبرد قوله (كُلَّ دَابَّةٍ) للناس وغيرهم وإذا اختلط النوعان حمل الكلام على الأغلب فلذلك قال من لغير ما يعقل (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يخلق هذه الأشياء لقدرته عليها ، فاختلاف هذه الحيوانات مع اتفاق أصلها يدل على أن لها قادرا خالقا عالما حكيما (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) دلالات واضحات (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي من جملة تلك الدواب وعنى به المكلفين دون من ليس بمكلف ، والصراط المستقيم الإيمان لأنه يؤدّي إلى الجنة. وقيل : إن المراد يهدي في الآخرة إلى طريق الجنة.

٤٧ ـ ٥٢ (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ) أي صدّقنا بتوحيد الله (وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) فيما حكما (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي يعرض عن طاعتهما طائفة منهم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد قولهم آمنا (وَما أُولئِكَ) الذين يدعون الإيمان ثم يعرضون عن حكم الله ورسوله (بِالْمُؤْمِنِينَ) وفي هذه الآية دلالة على أن القول المجرد لا يكون إيمانا إذ لو كان ذلك كذلك لما صحّ النفي بعد الإثبات (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ) أي إلى كتاب الله وحكمه وشريعته (وَرَسُولِهِ) أي وإلى حكم رسوله (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) الرسول وإنما أفرد بعد قوله : (إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) ، لأن حكم الرسول يكون بأمر الله تعالى فحكم الله ورسوله واحد

__________________

قال الامام الصادق عليه‌السلام : إن الدواوين يوم القيامة ثلاثة : ديوان فيه النعم ، وديوان فيه الحسنات ، فتستغرق النعم عامة الحسنات ، ويبقى ديوان السيئات ، فيدعى بابن آدم المؤمن للحساب فيتقدم القرآن أمامه في أحسن صورة فيقول : يا رب أنا القرآن ، وهذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي ، ويطيل ليله بترتيلي ، وتفيض عيناه إذا تهجّد ، فأرضه كما أرضاني ، فيقول العزيز الجبار : عبدي أبسط يمينك فيملأها من رضوان الله العزيز الجبّار ، ويملأ شماله من رحمة الله ، ثم يقال : هذه الجنة مباحة لك ، فاقرأ واصعد ، فإذا قرأ آية صعد درجة. أصول الكافي : ٢ / ٥٧٦.

٤٧٠

(إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) عما يدعون إليه (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) أي وإن علموا أن الحق يقع لهم (يَأْتُوا إِلَيْهِ) أي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مُذْعِنِينَ) مسرعين طائعين منقادين. ثم قال سبحاه منكرا عليهم (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شكّ في نبوّتك ونفاق وهو استفهام يراد منه التقرير لأنه أشدّ في الذمّ والتوبيخ أي هذا أمر قد ظهر حتى لا يحتاج فيه إلى البينة (أَمِ ارْتابُوا) في عدلك ، أي : رأوا منك ما رابهم لأجله أمرك (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي يجور الله عليهم (وَرَسُولُهُ) أي : ويميل رسوله في الحكم ويظلمهم ، لأنه لا وجه في الامتناع عن المجيء إلا أحد هذه الأوجه الثلاثة. ثم أخبر سبحانه أنه ليس شيء من ذلك فقال (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) نفوسهم وغيرهم ؛ وفي هذه الآية دلالة على أن خوف الحيف من الله تعالى خلاف الدين. ثم وصف سبحانه الصادقين في إيمانهم فقال (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي سمعنا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واطعنا أمره ، وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضرّهم عن ابن عباس ومقاتل وقيل معناه قبلنا هذا القول وانقدنا له واجبنا إلى حكم الله ورسوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالثواب ، الظافرون بالمراد وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام أن المعنى بالآية أمير المؤمنين عليه أفضل الصلوات (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما أمراه ونهيا عنه (وَيَخْشَ اللهَ) أي ويخشى عقاب الله في ترك أوامره ، وارتكاب نواهيه (وَيَتَّقْهِ) أي ويتق عقابه بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) وقيل معناه : ويخش الله في ذنوبه التي عملها ، ويتقه فيما بعد.

النظم

قيل : اتصلت الآية الأولى بقوله : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) ، ويعود الضمير في قوله : ويقولون إليهم ، وإن كان يقع على بعضهم ، فكأنه قال : ويقول جماعة من هؤلاء الناس آمنا ، عن أبي مسلم ، وقيل : إنه لما تقدم ذكر المؤمن والكافر عقّبه بذكر المنافق.

٥٣ ـ ٥٥ ولمّا بيّن سبحانه كراهتهم لحكمه قالوا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله لو أمرتنا بالخروج من ديارنا وأموالنا لفعلنا ، فقال الله سبحانه (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ) أي حلفوا بالله اغلظ أيمانهم ، وقدر طاقتهم أنك إن أمرتنا بالخروج في غزواتك لخرجنا (قُلْ) لهم يا محمد (لا تُقْسِمُوا) أي لا تحلفوا ، وتمّ الكلام (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) أي طاعة حسنة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خالصة صادقة أفضل وأحسن من قسمكم بما لا تصدقون به ، فحذف خبر المبتدأ للعلم به ، وقيل معناه : ليكن منكم طاعة ، والقول المعروف هو المعروف صحته (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي من طاعتكم بالقول ، ومخالفتكم بالفعل. ثم أمرهم سبحانه بالطاعة فقال (قُلْ) لهم (أَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم به (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما أتاكم به ، واحذروا المخالفة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن تعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله (فَإِنَّما عَلَيْهِ) أي على الرسول (ما حُمِّلَ) أي كلف وأمر من التبليغ وأداء الرسالة (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي كلفتم من الطاعة والمتابعة (وَإِنْ تُطِيعُوهُ) أي وأن تطيعوا الرسول (تَهْتَدُوا) إلى الرشد والصلاح ، وإلى طريق الجنة (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي ليس عليه إلا أداء الرسالة ، وبيان الشريعة ، وليس عليه الاهتداء ، وإنما ذلك عليكم ، ونفعه عائد إليكم ، والمبين : البين الواضح (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي صدقوا بالله وبرسوله ، وبجميع ما يجب التصديق به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات الخالصة لله

٤٧١

(لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ليجعلنهم يخلفون من قبلهم والمعنى : ليرثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فيجعلهم سكانها وملوكها (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عن أبي بن كعب قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار ، رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلا مع السلاح ، ولا يصبحون إلّا فيه ، فقالوا : ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت هذه الآية. وعن المقداد بن الأسود ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لا يبقى على الأرض بيت مدر ولا وبر إلّا أدخله الله تعالى كلمة الإسلام بعزّ عزيز ، أو ذلّ ذليل ، إمّا أن يعزّهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإمّا أن يذلّهم فيدينون لها ، وقيل : إنّه أراد بالأرض أرض مكة ، لأنّ المهاجرين كانوا يسألون ذلك (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) عنى دين الإسلام الذي أمرهم أن يدينوا به ، وتمكينه : أن يظهره على الدين كله (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) أي وليصيرنهم بعد ان كانوا خائفين بمكة آمنين بقوة الإسلام وانبساطه ؛ وقد فعل الله ذلك بهم وبمن كان بعدهم من هذه الأمة ، مكّن لهم في الأرض ، فقد أنجز وعده لهم (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) هذا استئناف كلام في الثناء عليهم ومعناه : لا يخافون غيري ؛ وفي الآية دلالة على صحة نبوة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة الإخبار عن غيب لا يعلم إلّا بوحي من الله عزوجل (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد هذه النعم (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ذكر الفسق بعد الكفر مع أن الكفر أعظم من الفسق لأن الفسق في كل شيء هو الخروج إلى أكثره والمعنى : أولئك هم الخارجون إلى أقبح وجوه الكفر وأفحشه.

٥٦ ـ ٥٧ ثم أمر سبحانه بإقامة أمور الدين فقال (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي قوموا بأدائها واتمامها في أوقاتها (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لترحموا جزاء على ذلك وتثابوا بالنعم الجزيلة. ثم قال (لا تَحْسَبَنَ) يا محمد أو أيها السامع (الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي سابقين فائتين في الأرض ، أي لا يفوتونني (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي مستقرهم ومصيرهم النار (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس المستقر والمأوى.

٥٨ ـ ٦٠ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) معناه : مروا عبيدكم واماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول إلى مواضع خلواتكم (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) من أحراركم ، وأراد به الصبي الذي يميز بين العورة وغيره. وقال الجبائي : الاستئذان واجب على كل بالغ في كل حال ، وعلى الأطفال في هذه الأوقات الثلاثة بظاهر الآية (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي في ثلاثة أوقات من ساعات الليل والنهار ، ثم فسّرها فقال (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) وذلك ان الإنسان ربما يبيت عريانا ، أو على حال لا يحبّ أن يراه غيره في تلك الحال (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) يريد عند القائلة (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) الآخرة حين يأوي الرجل إلى امرأته ويخلو بها ، أمر الله بالاستئذان في هذه الأوقات التي يتخلى الناس فيها وينكشفون ، وفصّلها ثم اجملها بعد التفصيل فقال (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي هذه الأوقات ثلاث عورات لكم ، سمى سبحانه هذه عورة (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) يعني المؤمنين الأحرار (وَلا عَلَيْهِمْ) يعني الخدم والغلمان (جُناحٌ بَعْدَهُنَ) أي حرج في أن لا يستأذنوا في غير هذه الأوقات (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي هم خدمكم فلا يجدون بدا من دخولهم عليكم في غير هذه الأوقات (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي يطوف بعضكم ، وهم المماليك على بعض ، وهم الموالي (كَذلِكَ) أي كما بيّن لكم ما تعبدكم به في هذه الآية (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ

٤٧٢

الْآياتِ) أي الدلالات على الأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يصلحكم (حَكِيمٌ) فيما يفعله (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) يعني (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) في جميع الأوقات (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأحرار الكبار الذين أمروا بالإستئذان على كل حال في الدخول عليكم ، فالبالغ يستأذن في كل الأوقات ، والطفل والعبد يستأذن في العورات الثلاث (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مرّ معناه (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) وهن المسنات من النساء اللاتي قعدن عن التزويج لأنه لا يرغب في تزويجهن (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) يعني : الجلباب فوق الخمار ، ابيح لهن القعود بين يدي الأجانب في ثياب أبدانهن مكشوفات الوجه واليد ، فالمراد بالثياب ما ذكرناه لا كلّ الثياب (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي غير قاصدات بوضع ثيابهن إظهار زينتهن ، بل يقصدن به التخفيف عن أنفسهن ، فاظهار الزينة في القواعد وغيرهن محظور ، وأما الشابات فإنهن يمنعن من وضع الجلباب أو الخمار ويؤمرن بلبس اكثف الجلابيب لئلا تصفهن ثيابهن ، وقد روي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : للزوج ما تحت الدرع ، وللابن والأخ ما فوق الدرع ، ولغير ذي محرم أربعة أثواب : درع وخمار وجلباب وازار (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) أي واستعفاف القواعد وهو أن يطلبن العفة بلبس الجلابيب (خَيْرٌ لَهُنَ) من وضعها وان سقط الحرج عنهن فيه (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بما في قلوبكم.

٦١ ـ لمّا تقدّم ذكر الاستيذان عقّبه سبحانه بذكر رفع الحرج عن المؤمنين في الانبساط بالأكل والشرب فقال (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) الذي كفّ بصره (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ) الذي يعرج من رجليه أو أحداهما (حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ) العليل (حَرَجٌ) أي إثم ، والمعنى : ليس عليكم في مؤاكلتهم حرج لأنهم كانوا يتحرّجون من ذلك ويقولون : ان الأعمى لا يبصر فنأكل جيد الطعام دونه ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، والمريض يضعف عن الأكل ، وقيل : إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم وكانوا يدفعون اليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكان أولئك يتحرّجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غيّب ، فنفى الله سبحانه الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيت أقاربهم ، أو من بيت من يدفع اليهم المفتاح إذا خرج للغزو ، عن سعيد بن المسيّب والزهري (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي وليس عليكم حرج في أنفسكم (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) معناه : من بيوت أولادكم ، فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء لأن الأولاد كسبهم وأموالهم كأموالهم (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) إلى قوله (أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) هذه الرخصة في أكل مال القرابات وهم لا يعلمون ذلك كالرخصة لمن دخل حائطا وهو جائع أن يصيب من ثمره ، أو مرّ في سفره بغنم وهو عطشان أن يشرب من رسله ، توسعة منه على عباده ولطفا لهم ، ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) معناه : أو بيوت عبيدكم ومماليككم ، وذلك أن السيد يملك منزل عبده ، والمفاتح هنا الخزائن لقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) (أَوْ صَدِيقِكُمْ) رفع الحرج عن الأكل في بيت صديقه بغير إذن إذا كان عالما بأنه تطيب نفسه بذلك والصديق : هو الذي صدقك عن مودّته (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) أي مجتمعين أو متفرقين ، وذكر في تأويله : وجوه (أحدها) ان حيا من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده ، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا ، وربما كانت معه الإبل الحفّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فأعلم الله سبحانه أن الرجل منهم إن أكل وحده فلا إثم عليه (وثانيها) ان معناه : لا بأس بأن يأكل الغني مع الفقير في بيته ، فإن الغني كان يدخل على الفقير من ذوي قرابته أو صداقته فيدعوه إلى طعامه فيتحرج عن ابن عباس (وثالثها)

٤٧٣

انهم كانوا إذا نزل بهم ضيف تحرجوا أن يأكلوا إلا معه ، فأباح الله سبحانه الأكل على الانفراد وعلى الاجتماع (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي ليسلم بعضكم على بعض عن الحسن فيكون كقوله أن اقتلوا أنفسكم وقيل معناه : فسلّموا على أهليكم وعيالكم ، عن جابر وقتادة والزهري والضحّاك ، وقيل معناه : فإذا دخلتم بيوتا ، يعني المساجد فسلّموا على من فيها ، عن ابن عباس (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي هذه تحية حيّاكم الله بها عن ابن عباس وقيل معناه علمها الله وشرعها لكم فإنهم كانوا يقولون أنعم صباحا ثم وصف التحية فقال (مُبارَكَةً طَيِّبَةً) أي إذا ألزمتموها كثر خيركم ، وطاب أجركم وقيل مؤبدة حسنة جميلة عن ابن عباس وقيل إنما قال مباركة لأن معنى السلام عليكم حفظكم الله وسلّمكم الله من الآفات فهو دعاء بالسلامة من آفات الدنيا والآخرة وقال طيبة لما فيها من طيب العيش بالتواصل وقيل لما فيها من الأجر الجزيل والثواب العظيم (كَذلِكَ) أي كما بيّن لكم هذه الأحكام والآداب (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي دلالة على جميع ما يتعبّدكم به (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لتعقلوا معالم دينكم.

٦٢ ـ ٦٤ لمّا تقدّم ذكر المعاشرة مع الأقرباء والمسلمين بيّن سبحانه في هذه الآية كيفية المعاشرة مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي ليس المؤمنون على الحقيقة إلا الذين صدقوا بتوحيد الله وعدله ، وأقرّوا بصدق رسوله (وَإِذا كانُوا مَعَهُ) أي مع رسوله (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) وهو الذي يقتضي الإجماع عليه والتعاون فيه ، من حضور حرب ، أو مشورة في أمر ، أو صلاة جمعة ، أو ما أشبه ذلك (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) أي لم ينصرفوا عن الرسول أو عن ذلك الأمر إلّا بعد أن يطلبوا الإذن منه في الإنصراف (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) يا محمد (أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي فهم الذين يصدقون بالله ورسوله على الحقيقة دون الذين ينصرفون بلا استئذن (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أي متى ما استأذنك هؤلاء المؤمنون أن يذهبوا لبعض مهماتهم وحاجاتهم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) خيّر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أن يأذن وأن لا يأذن ، وهكذا حكم من قام مقامه من الأئمة (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) أي واطلب المغفرة لهم من الله بخروجهم من جملة من معك ، واستغفار النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم هو دعاؤه لهم باللطف الذي تقع معه المغفرة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للمؤمنين ، أي ساتر لذنوبهم (رَحِيمٌ) بهم أي منعم عليهم. ثم أمر سبحانه جميع المكلفين فقال (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) إنه سبحانه علّمهم تفخيم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المخاطبة واعلمهم فضله فيه على سائر البرية والمعنى : لا تقولوا له عند دعائه يا محمد ، أو يا ابن عبد الله ، ولكن قولوا : يا رسول الله ، يا نبيّ الله ، في لين وتواضع وخفض صوت (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) كانوا يتسللون في الجهاد رجوعا عنه (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) حذرهم سبحانه عن مخالفة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي فليحذر الذين يعرضون عن أمر الله تعالى (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) عقوبة في الدنيا (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة ، وفي هذا دلالة على أن أوامر ، النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإيجاب ، لأنها لو لم تكن كذلك لما حذر سبحانه عن مخالفته (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف في جميع ذلك ولا يجوز لأحد الاعتراض عليه ، ولا مخالفة أمره ، فليس للعبد أن يخالف أمر مالكه (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من الخيرات والمعاصي ، ومن الإيمان والنفاق ، ولا يخفى عليه شيء من أحوالكم (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) يعني يوم البعث ، يعلمه الله سبحانه متى هو (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا)

٤٧٤

من الخير والشر ، والطاعات والمعاصي (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من أعمالهم وغيرها (عَلِيمٌ) معناه : يردّون إليه للجزاء فيجازي كلّا على قدر عمله من الثواب والعقاب.

سورة الفرقان

مكية وعدد آياتها سبع وسبعون آية

اتصلت هذه السورة بسورة النور اتصال النظير بالنظير ، فإنّ مختتم تلك السورة تضمن أنّ لله ما في السماوات والأرض وأنّه بكل شيء عليم ، ومفتتح هذه السورة أنّ له ملك السماوات والأرض ، سبحانه من قدير حكيم.

١ ـ ١٠ (تَبارَكَ) تفاعل من البركة معناه : عظمت بركاته وكثرت عن ابن عباس ، والبركة : الكثرة من الخير وقيل معناه تقدّس وجلّ بما لم يزل عليه من الصفات ولا يزال كذلك فلا يشارك فيها غيره وأصله من بروك الطير فكأنه قال ثبت ودام فيما لم يزل ولا يزال عن جماعة من المفسرين وقيل معناه قام بكل بركة وجاء بكل بركة (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) أي القرآن الذي يفرّق بين الحق والباطل ، والثواب والخطأ في أمور الدين بما فيه من الحثّ على أفعال الخير ، والزجر عن القبائح والشر (عَلى عَبْدِهِ) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لِيَكُونَ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن (لِلْعالَمِينَ) أي لجميع المكلفين من الإنس والجن (نَذِيراً) أي مخوّفا بالعقاب ، وداعيا لهم إلى الرشاد. ثم وصف سبحانه نفسه فقال (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كما زعمت اليهود والنصارى والمشركون (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) يشاركه فيما خلق ، ويمنعه عن مراده (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) مما يطلق عليه اسم المخلوق (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) على ما اقتضته الحكمة ، والتقدير : تبيين مقادير الأشياء للعباد فيكون معناه : قدر الأشياء بأن كتبها في الكتاب الذي كتبه الملائكة لطفا لهم. ثم أخبر سبحانه عن الكفار فقال (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (آلِهَةً) من الأصنام والأوثان وجهوا عبادتهم إليها ؛ ثم وصف آلهتهم بما ينبىء أنها لا تستحق العبادة فقال (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي وهي مخلوقة مصنوعة (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا) فيدفعونه عن أنفسهم (وَلا نَفْعاً) فيجرونه إلى أنفسهم (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً) أي لا يستطيعون اماتة ولا إحياء (وَلا نُشُوراً) ولا إعادة بعد الموت يقال أنشره الله فنشر فإن جميع ذلك يختصّ الله تعالى بالقدرة عليه والمعنى : فكيف يعبدون من لا يقدر على شيء من ذلك ، ويتركون عبادة ربهم الذي يملك ذلك كله. ثم أخبر سبحانه عن تكذيبهم بالقرآن فقال (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) أي ما هذا القرآن إلا كذب افتراه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واختلقه من تلقاء نفسه (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) قالوا أعان محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا القرآن عداس مولى حويطب بن عبد

__________________

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : فالقرآن آمر زاجر ، وصامت ناطق ، حجّة الله على خلقه ، أخذ عليهم ميثاقه ، وارتهن عليه أنفسهم ، أتمّ نوره ، وأكمل به دينه ، وقبض نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به ، فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه ، فإنه لم يخف عنكم شيئا من دينه ، ولم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلّا وجعل له علما باديا ، وآية محكمة تزجر عنه ، أو تدعو إليه ، فرضاه فيما بقي واحد ، وسخطه فيما بقي واحد نهج البلاغة. خطبة : ١٧٩.

٤٧٥

العزى ، ويسار غلام العلاء بن الحضرمي ، وجبر مولى عامر ، وكانوا من أهل الكتاب وقيل انهم قالوا أعانه قوم من اليهود عن مجاهد (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أي فقد قالوا شركا وكذبا حين زعموا أن القرآن ليس من الله ومتى قيل كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم قلنا إنه لمّا تقدّم التحدّي وعجزهم عن الإتيان بمثله اكتفى هاهنا بالتنبيه على ذلك (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) معناه : وقالوا أيضا هذه أحاديث المتقدمين وما سطروه في كتبهم انتسخها وقيل استكتبها (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي تملى عليه طرفي نهاره حتى يحفظها وينسخها والأصيل : العشي لأنه أصل الليل وأوله. وفي هذا بيان مناقضتهم وكذبهم لأنهم قالوا : افتراه ثم قالوا : تملى عليه فقد افتراه غيره ، وقالوا : إنه كتب وقد علموا أنه كان لا يحسن الكتابة فكيف كتب؟ ثم قال سبحانه (قُلْ) يا محمد لهم تكذيبا لقولهم (أَنْزَلَهُ) أي أنزل القرآن (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي الخفيات (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) على ما اقتضاه علمه ببواطن الأمور (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) حيث لم يعاجلهم بالعذاب ، بل أنعم عليم بإرسال الرسول إليهم لتأكيد الحجة ، وقطع المعذرة (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما نأكل (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) في طلب المعاش كما نمشي (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) أي هلا انزل إليه ملك فيكون معينا له على الإنذار والتخويف ؛ وهذا أيضا من مقالاتهم الفاسدة لأن الجنس إلى الجنس أميل ، وبه آنس (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) يستغني به عن طلب المعاش ، قال ابن عباس : أو ينزل إليه مال من السماء (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي بستان يأكل من ثمارها (وَقالَ الظَّالِمُونَ) أي المشركون للمؤمنين (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي ما تتبعون إلا رجلا مخدوعا مغلوبا على عقله (انْظُرْ) يا محمد (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي الأشباه لأنهم قالوا : تارة هو مسحور ، وتارة هو محتاج متروك حتى تمنّوا له الكنز ، وتارة انه ناقص عن القيام بالأمور (فَضَلُّوا) بهذا عن الهدى وعن وجه الصواب وطريق الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) معناه : لا يستطيعون سبيلا إلى إبطال أمرك (تَبارَكَ) أي تقدّس (الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) الذي اقترحوه من الكنز والبستان ، ثم فسّر الذي هو خير مما اقترحوه فقال (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ليكون أبلغ في الزهو ، وأسرع في نضج الثمار (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) أي وسيجعل لك قصورا في كل بستان قصرا ، والقصور : البيوت المبنية المشيدة المطولة ، أي سيعطيك الله في الآخرة أكثر ما قالوا.

١١ ـ ٢٠ ثم بيّن سبحانه سوء اعتقادهم ، وما أعدّه لهم على قبيح فعالهم ومقالهم فقال (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي ما كذّبوك لأنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ، بل لأنهم لم يقرّوا بالبعث والنشور ، والثواب والعقاب (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) أي نارا تتلظى. ثم وصف ذلك السعير فقال (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي من مسيرة مائة عام عن السدي والكلبي ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام من مسيرة سنة ، ونسب الرؤية إلى النار وإنما يرونها هم لأن ذلك أبلغ ، كأنها تراهم رؤية الغضبان الذي يزفر غيظا ، وذلك قوله (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) وتغيظها : تقطعها عند اضطرابها ، وزفيرها : صوتها عند شدة التهابها كالتهاب الرجل المغتاظ والغيظ لا يسمع وإنما يعلم بدلالة الحال عليه وقيل معناه : سمعوا لها صوت تغيظ وغليان. قال عبيد بن عمير : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلّا خرّ لوجهه وقيل : التغيظ للنار ، والزفير لأهلها ، كأنه يقول : رأوا للنار تغيظا ، وسمعوا لأهلها زفيرا (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) من النار في مكان ضيق يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح ، عن أكثر المفسرين وفي الحديث قال عليه‌السلام في هذه الآية والذي نفسي بيده انهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط (مُقَرَّنِينَ) أي مصفدين ،

٤٧٦

قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال وقيل : قرنوا مع الشياطين في السلاسل والأغلال عن الجبائي (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) أي دعوا بالويل والهلاك على أنفسهم كما يقول القائل : واثبورا : أي واهلاكاه وقيل واانصرافاه عن طاعة الله ، فتجيبهم الملائكة (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أي لا تدعوا ويلا واحدا وادعوا ويلا كثيرا ، أي لا ينفعكم هذا وإن كثر منكم قال الزجاج معناه هلاككم أكبر من أن تدعوا مرة واحدة (قُلْ) يا محمد (أَذلِكَ) يعني ما ذكره من السعير (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ) تلك الجنة (لَهُمْ جَزاءً) على أعمالهم (وَمَصِيراً) أي مرجعا ومستقرا (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) ويشتهون من المنافع واللذات (خالِدِينَ) مؤبدين لا يفنون فيها (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) قال ابن عباس معناه : ان الله سبحانه وعد لهم الجزاء فسألوه الوفاء فوفى وقيل معناه : ان الملائكة سألوا الله تعالى ذلك لهم فأجيبوا إلى مسألتهم وذلك قولهم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ، عن محمد بن كعب وقيل : انهم سألوا الله تعالى في الدنيا الجنة بالدعاء ، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا ، وأتاهم ما طلبوا (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي نجمعهم (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني عيسى وعزير والملائكة عن مجاهد وقيل : يعني الأصنام عن عكرمة والضحاك (فَيَقُولُ) يعني الله لهؤلاء المعبودين (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) أي طريق الجنة والنجاة يعني المعبودين من الملائكة والأنس ، أو الأصنام إذا أحياهم الله وانطقهم (قالُوا سُبْحانَكَ) تنزيها لك عن الشريك ، وعن ان يكون معبود سواك (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ليس لنا أن نوالي أعداءك ، بل أنت وليّنا من دونهم وقيل معناه ما كان يجوز لنا وللعابدين وما كان يحقّ لنا أن نأمر أحدا بأن يعبدنا ولا يعبدك (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) معناه : ولكن طوّلت أعمارهم وأعمار آبائهم ، ومتعتهم بالأموال والأولاد بعد موت الرسل حتى نسوا الذكر المنزل على الأنبياء وتركوه (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي هلكى فاسدين. هذا تمام الحكاية عن قول المعبودين من دون الله ، فيقول الله سبحانه عند تبرء المعبودين من عبدتهم (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) أي كذّبكم المعبودون أيّها المشركون (بِما تَقُولُونَ) أي بقولكم انهم آلهة شركاء الله (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً) أي فما يستطيع المعبودون صرف العذاب عنكم (وَلا نَصْراً) لكم بدفع العذاب عنكم (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) نفسه بالشرك وارتكاب المعاصى (نُذِقْهُ) فى الآخرة (عَذاباً كَبِيراً) أي شديدا عظيما. ثم رجع سبحانه إلى مخاطبة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) يا محمد (مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) قال الزجاج : وهذا احتجاج عليهم في قوله : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ، أي فقل لهم : كذلك كان من خلا من الرسل ، فكيف يكون محمد بدعا منهم (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي امتحانا وابتلاء ، وهو افتتان الفقير بالغني يقول : لو شاء الله لجعلني مثله غنيا ، والأعمى بالبصير يقول : لو شاء الله لجعلني مثله بصيرا ، وكذلك السقيم بالصحيح عن الحسن وقيل : هو ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين اتّبعوا محمدا من موالينا ورذالنا ؛ فقال الله لهولاء الفقراء (أَتَصْبِرُونَ) أيّها الفقراء على الأذى والاستهزاء ، وكان ربّك بصيرا ، إن صبرتم فاصبروا فأنزل الله فيهم : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) عن مقاتل وقيل معناه : أتصبرون أيها الفقراء على فقركم ولا تفعلون ما يؤدي إلى مخالفتنا أتصبرون أيها الأغنياء فتشكرون ولا تفعلون ما يؤدّي إلى مخالفتنا (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي عليما فيغني من أوجبت الحكمة اغناءه ، ويفقر من أوجبت الحكمة افقاره وقيل : بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع.

٤٧٧

٢١ ـ ٣٠ ثم حكى سبحانه عن حال الكفار بقوله (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي لا يأملون لقاء جزائنا ، وهذا عبارة عن إنكارهم البعث والمعاد (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) أي هلا انزل الملائكة ليخبرونا بأن محمدا نبيّ (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا بذلك ، ويأمرنا باتباعه وتصديقه. ثم أقسم الله عزّ اسمه فقال (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا) بهذا القول (فِي أَنْفُسِهِمْ) أي طلبوا الكبر والتجبر بغير حق (وَعَتَوْا) بذلك أي طغوا وعاندوا (عُتُوًّا كَبِيراً) أي طغيانا وعنادا عظيما ، وتمرّدوا في رد أمر الله تعالى غاية التمرد ، ثم اعلم سبحانه أن الوقت الذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة ، وأن الله تعالى قد حرمهم البشرى في ذلك اليوم فقال (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) يعني يوم القيامة (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) أي لا بشارة لهم بالجنة والثواب (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) أي ويقول الملائكة لهم : حراما محرما عليكم سماع البشرى (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) أي قصدنا وعمدنا ، وفي هذا بلاغة عجيبة لأن التقدير : قصدنا إليه قصد القادم على ما يكرهه مما لم يكن رآه قبل فيغيره ؛ وأراد به العمل الذي عمله الكفار في الدنيا مما رجوا به النفع والأجر ، وطلبوا به الثواب والبر نحو : انصافهم لمن يعاملهم ، ونصرهم للمظلوم ، واعتاقهم ، وصدقاتهم (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) الغبار يدخل الكوة من شعاع الشمس والمعنى : تذهب أعمالهم باطلا فلم ينتفعوا بها من حيث عملوها لغير الله. ثم ذكر سبحانه فضل أهل الجنة على أهل النار فقال (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ) يعني يوم القيامة (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) أي أفضل منزلا في الجنة (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) أي موضع قائلة. قال الأزهري : القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتدّ الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم ؛ وقال ابن عباس وابن مسعود : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) المعنى : تتشقق السماء وعليها غمام ، وإنّما تتشقق السماء لنزول الملائكة وهو قوله (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) قال ابن عباس تتشقق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ، ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا من الإنس والجن ، ثم كذلك حتى تتشقق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) أي الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن يوم القيامة ، ويزول ملك سائر الملوك فيه (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أعسر عليهم ذلك اليوم لشدته ومشقته ، ويهون على المؤمنين كأدنى صلاة صلّوها في دار الدنيا ، وفي هذا بشارة للمؤمنين حيث خصّ بشدة ذلك اليوم الكافرين (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) ندما وأسفا (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) أي ليتني اتّبعت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّخذت معه سبيلا إلى الهدى (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) المراد به كل خليل يضلّ عن الدين (لَقَدْ أَضَلَّنِي) أي صرفني وردّني (عَنِ الذِّكْرِ) أي عن القرآن والإيمان به (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) مع الرسول. وتمّ الكلام هنا ، ثم قال الله (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) لأنه يتبرأ منه في الاخرة ويسلمه إلى الهلاك ، ولا يغني عنه شيئا (وَقالَ الرَّسُولُ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشكو قومه (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) يعني هجروا القرآن وهجروني وكذّبوني ، والمعنى : جعلوه متروكا لا يسمعونه ولا يتفهمونه وقيل : إن قوله : (وَقالَ الرَّسُولُ) معناه : ويقول ، كما في قول الشاعر :

مثل العصافير احلاما ومقدرة

أو يوزنون بزفّ الريش ما وزنوا

٤٧٨

٣١ ـ ٤٠ ثم عزّى الله سبحانه نبيّه بقوله (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي وكما جعلنا لك عدوا من مشركي قومك جعلنا لكل نبي عدوا من كفار قومه والمعنى في جعله إيّاهم عدوّا لأنبيائه أنّه تعالى أمر الأنبياء عليهم‌السلام أن يدعوهم الى الإيمان بالله تعالى ، وترك ما ألفوه من دينهم ودين آبائهم ، وإلى ترك عبادة الأصنام وذمها وكانت هذه أسبابا داعية الى العداوة (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) أي حسبك بالله هاديا إلى الحق ، وناصرا لأوليائه في الدنيا والآخرة على أعدائهم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) معناه : وقال الكفار لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور جملة واحدة ، قال الله تعالى (كَذلِكَ) أي نزّلناه كذلك متفرّقا (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي لنقوّي به قلبك فتزداد بصيرة ، وذلك انه إذا كان يأتيه الوحي متجددا في كل حادثة وكل أمر كان ذلك أقوى لقلبه ، وأزيد في بصيرته (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي بيّناه تبيينا ، ورسّلناه ترسيلا ، بعضه في أثر بعض. وروي أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا ابن عباس إذا قرأت القرآن فرتّله ترتيلا قال : وما الترتيل؟ قال : بيّنه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ، ولا تهذّه هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا به القلوب ، ولا يكونن همّ أحدكم آخر السورة (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) أي ولا يأتيك المشركون بمثل يضربونه لك في إبطال أمرك ومخاصمتك (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) الذي يبطله ويدحضه (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي وبأحسن تفسيرا مما أتوا به من المثل أي : بيانا وكشفا (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) أي يسحبون على وجوههم إلى النار وهم كفار مكة ، وذلك أنهم قالوا : لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه هم شرّ خلق الله ، فقال الله سبحانه (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) أي منزلا ومصيرا (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي دينا وطريقا من المؤمنين. وروى أنس ان رجلا قال : يا نبيّ الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال : ان الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة أورده البخاري في الصحيح. ثم ذكر سبحانه حديث الأنبياء وأممهم تسلية للنبي فقال (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) أي معينا يعينه على تبليغ الرسالة ، ويتحمل عنه بعض أثقاله (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) يعني فرعون وقومه وفي الكلام حذف أي فذهبا إليهم فلم يقبلوا منهما وجحدوا نبوتهما (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أي أهلكناهم إهلاكا بأمر فيه أعجوبة (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) أي وأغرقنا قوم نوح بالطوفان ، وهو مجيء السماء بماء منهمر ، وتفجير الأرض عيونا حتى التقى الماء على أمر قد قدر ، قال الزجاج من كذب نبيّا فقد كذب بجميع الأنبياء (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي عبرة وعظة (وَأَعْتَدْنا) وهيّأنا (لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) سوى ما حلّ بهم في الدنيا (وَعاداً وَثَمُودَ) أي وأهلكنا عادا وثمودا (وَأَصْحابَ الرَّسِ) وهو بئر رسوا فيها نبيهم ، أي القوه فيها عن عكرمة وقيل : انهم كانوا أصحاب مواش ولهم بئر يقعدون عليها ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فبعث الله إليهم شعيبا فكذّبوه فانهار البئر ، وانخسفت بهم الأرض فهلكوا ، عن وهب وقيل : الرس قرية باليمامة يقال لها فلج ، قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله ، عن قتادة وقيل : كان لهم نبيّ يسمى حنظلة فقتلوه فأهلكوا ، وقيل : أصحاب الرس كان نساؤهم سحاقات عن أبي عبد الله عليه‌السلام (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) أي واهلكنا أيضا قرونا كثيرا بين عاد وأصحاب الرس على تكذيبهم وقيل بين نوح وأصحاب الرس والقرن سبعون سنة وقيل أربعون سنة عن إبراهيم (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي وكلا بيّنا لهم أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا عن مقاتل وقيل معناه بيّنا لهم الأحكام في الدين والدنيا (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي وكلا أهلكنا إهلاكا على تكذيبهم وجحودهم

٤٧٩

قال الزجاج كل شيء كسرته وفتته فقد تبّرته (وَلَقَدْ أَتَوْا) يعني كفار مكة (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) يعني قرية قوم لوط أمطروا بالحجارة (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) في أسفارهم إذا مرّوا بها فيخافوا ويعتبروا (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) يعني بل رأوها وإنما لم يعتبروا بها لأنهم كانوا لا يخافون البعث وقيل لا يأملون ثوابا ولا يؤمنون بالنشأة الثانية فركبوا المعاصي.

٤١ ـ ٥٠ ـ ثم حكى سبحانه عن الكفار الذين وصفهم فيما تقدم فقال (وَإِذا رَأَوْكَ) أي وإذا شاهدوك يا محمد (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) والمعنى أنهم يستهزؤون بك ويستصغرونك ويقولون على وجه السخرية (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) أي بعثه الله إلينا رسولا (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا). لقد كاد يصرفنا عن عبادة آلهتنا (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) أي على عبادتها فقال سبحانه متوعّدا لهم (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) الذي ينزل بهم في الآخرة عيانا (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) أي من أخطأ طريقا عن الهدى أهم أم المؤمنون؟ ثم عجّب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نهاية جهلهم فقال (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي من جعل إلهه ما يهواه ، وهو غاية الجهل ، وكان الرجل من المشركين يعبد الحجر والصنم فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ يعبد الآخر (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) أي أفأنت كفيل حافظ يحفظه من اتباع هواه وعبادة ما يهواه من دون الله؟ أي لست كذلك. ثم قال للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَمْ تَحْسَبُ) يا محمد (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) ما تقوله سماع ، طالب للافهام (أَوْ يَعْقِلُونَ) ما تقوله لهم ، وتقرأ عليهم ، وما يعاينونه من المعجزات والحجج ، أي لا تظن ذلك (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) أي ما هم إلّا كالبهائم التي تسمع النداء ولا تعقل (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) من الأنعام لأنهم مكّنوا من المعرفة فلم يعرفوا والأنعام لم يمكنوا منها ، ولأن الأنعام الهمت منافعها ومضارها فهي لا تفعل ما يضرّها ، وهؤلاء عرفوا طريق الهلاك والنجاة وسعوا في هلاك أنفسهم ، وتجنّبوا سبيل نجاتهم فهم أضلّ منها. ثم نبّه سبحانه على النظر فيما يدل على وحدانيته ، وكمال قدرته فقال (أَلَمْ تَرَ) الخطاب للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به سائر المكلفين (إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) أي ألم تر إلى فعل ربك كيف مدّ الظل من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوعها (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي مقيما دائما لا يزول ولا تنسخه الشمس ، فهو مثل قوله سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ) أي على الظل (دَلِيلاً) قال ابن عباس : تدل الشمس على الظل بمعنى أنه لولا الشمس لما عرف الظل ، ولولا النور لما عرفت الظلمة ، وكل الأشياء تعرف بأضدادها (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أي قبضنا الظل بارتفاع الشمس ، لأن الشمس كلما تعلو ينقص الظل ، فجعل سبحانه ذلك قبضا واخبر أن ذلك يسير بمعنى : انه سهل عليه لا يعجزه (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) أي غطاء ساترا للأشياء بالظلام كاللباس الذي يشتمل على لابسه ، فالله سبحانه ألبسنا الليل وغشانا به لنسكن ونستريح من كدّ الأعمال كما قال في موضع آخر : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) (وَالنَّوْمَ سُباتاً) أي راحة لأبدانكم ، وقطعا لأعمالكم (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) لأنّ الناس ينتشرون فيه لطلب حوائجهم ومعايشهم (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) مضى الكلام فيه في سورة الأعراف (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) أي طاهرا في نفسه ، ومطهّرا لغيره ، مزيلا للأحداث والنجاسات (لِنُحْيِيَ

__________________

قال الإمام الصادق (ع): شكا رجل الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعا في صدره ، فقال (ص) : استشف بالقرآن ، فإنّ الله عزوجل يقول ((وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ)) أصول الكافي ٢ / ٥٧٥.

٤٨٠