الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

لآياته (غَيْرُ يَسِيرٍ) غير هيّن ولا سهل ، وهو بمعنى قوله : عسير إلّا أنه أعاده بلفظ آخر للتأكيد.

١١ ـ ٣٠ ـ (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي دعني وإياه فإني كاف له في عقابه ، كما يقول القائل : دعني وإياه ، ومعناه : دعني ومن خلقته متوحدا ، بخلقه لا شريك لي في خلقه ، يعني الوليد بن المغيرة (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) ما بين مكة إلى الطائف من الإبل والخيل ، والمستغلات (وَبَنِينَ شُهُوداً) حضورا معه بمكة لا يغيبون عنه لغناهم عن ركوب السفر للتجارة ؛ قالوا : فما زال الوليد بعد هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي بسطت له في العيش بسطا حتى صار مكفي المؤونة من كل وجه ، حتى صارت أحواله متناسبة (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي لم يشكرني على هذه النعم بل كفر نعمائي وهو مع ذلك يطمع أن أزيد في انعامه. ثم قال على وجه الردع والزجر (كَلَّا) أي لا يكون كما ظنّ ولا أزيده مع كفره. ثم بيّن سبحانه كفره فقال (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي إنما لم نفعل به ذلك لأنه كان بحججنا وأدلتنا معاندا ينكرها مع معرفته بها (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأكلّفه مشقة من العذاب لا راحة فيه ، وقيل : صعود جبل في جهنم من نار يؤخذ بارتقائه ، فإذا وضع يده عليه ذابت ، فإذا رفعها عادت وكذلك رجله (إِنَّهُ فَكَّرَ) ودبّر ماذا يقول في القرآن (وَقَدَّرَ) القول في نفسه ، وإنما فكّر ليحتال به للباطل ، لأنه لو فكر على وجه طلب الرشاد لكان ممدوحا ، وقدر فقال : إن قلنا شاعر كذبتنا العرب باعتبار ما أتى به ، وإن قلنا كاهن لم يصدّقونا ، لأن كلامه لا يشبه كلام الكهان ، فنقول ساحر يؤثر ما أتى به من غيره من السحرة (فَقُتِلَ) أي لعن وعذب (كَيْفَ قَدَّرَ) معناه : لعن على أيّ حال قدر ما قدر من الكلام (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) هذا تكرير للتأكيد (ثُمَّ نَظَرَ) في طلب ما يدفع به القرآن ويرده (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) أي كلح وكره وجهه ، ونظر بكراهة شديدة كالمهتم المتفكر في الشيء (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الإيمان (وَاسْتَكْبَرَ) أي تكبر حين دعا إليه فقال (إِنْ هذا) أي ما هذا القرآن (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي سحر تؤثره النفوس وتختاره لحلاوته فيها (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي ما هذا إلّا كلام الإنس وليس من عند الله (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله جهنّم وألزمه إياها ؛ وسقر دركة من دركات جهنّم (وَما أَدْراكَ) أيها السامع (ما سَقَرُ) في شدتها وهولها وضيقها ، ثم وصف بعض صفاتها فقال (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقي شيئا إلّا أحرقته (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي لافحة للجلود حتى تدعها أشد سوادا من الليل (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) من الملائكة هم خزنتها ، مالك ومعه ثمانية عشر ، أعينهم كالبرق الخاطف ، وأنيابهم كالصياصي ، يخرج لهب النار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، تسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر ، نزعت منهم الرحمة ، يرفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) ومعناه : وما جعلنا الموكلين بالنار ، المتولين تدبيرها إلّا ملائكة ؛ جعلنا شهوتهم في تعذيب أهل النار ، ولم نجعلهم من بني آدم كما تعهدون أنتم فتطيقونهم (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لم نجعلهم على هذا العدد إلّا محنة وتشديدا في التكليف للذين كفروا أنعم الله ، وجحدوا وحدانيته حتى يتفكروا فيعلموا أن الله سبحانه حكيم لا يفعل إلّا ما هو حكمة ، ويعلموا أنه قادر على أن يزيد في قواهم ما يقدرون به على تعذيب الخلائق ، ولو راجع الكفار عقولهم لعلموا أن من سلط ملكا واحدا على كافة بني آدم لقبض أرواحهم فلا يغلبونه ، قادر على سوق بعضهم إلى النار وجعلهم فيها بتسعة عشر من الملائكة (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى أنه حق ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق من حيث أخبر بما هو في كتبهم من غير

٧٨١

قراءة لها ، ولا تعلم منهم (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) أي يقينا بهذا العدد ، وبصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أخبرهم أهل الكتاب انه مثل ما في كتابهم (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي ولئلا يشك هؤلاء في عدد الخزنة والمعنى : وليستيقن من لم يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن آمن به صحة نبوّته إذا تدبّروا وتفكّروا (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) اللّام هنا لام العاقبة ، أي عاقبة أمر هؤلاء أن يقولوا هذا ، يعني المنافقين والكافرين (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي مثل ما جعلنا خزنة أصحاب النار ملائكة ذوي عدد محنة واختبارا نكلف الخلق ليظهر الضلال والهدى ، وأضافهما إلى نفسه لأنه سبب ذلك التكليف وهو من جهته (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي ما يعلم جنود ربك من كثرتها أحد إلّا هو ، ولم يجعل خزنة النار تسعة عشر لقلة جنوده ولكن الحكمة اقتضت ذلك ، ثم رجع إلى ذكر سقر فقال (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي تذكرة وموعظة للعالم ليتذكروا فيتجنّبوا ما يستوجبون به ذلك.

٣٢ ـ ٥٦ ـ (كَلَّا) معناه : ليس الأمر على ما يتوهّمونه من أنهم يمكنهم دفع خزنة النار وغلبتهم (وَالْقَمَرِ) أقسم بالقمر لما فيه من الآيات العجيبة في طلوعه وغروبه ، ومسيره وزيادته ونقصانه (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) وأقسم بالليل إذا ولى وذهب (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي إذا أضاء وأنار ، وهو قسم آخر (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) هذا جواب القسم يعني : ان سقر التي هي النار لاحدى العظائم والكبر : جمع الكبرى وهي العظمى (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) أي منذرا ومخوّفا ، معلما مواضع المخافة (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي يتقدم في طاعة الله ، أو يتأخر عنها بالمعصية عن قتادة والمشيئة : هي الإرادة ، فيكون المعنى : أن هذا الإنذار متوجه إلى من يمكنه أن يتقي عذاب النار بأن يتجنب المعاصي ويفعل الطاعات ، فيقدر على التقدم والتأخر (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي مرهونة بعملها محبوسة به ، مطالبة بما كسبته من طاعة أو معصية ، فالرهن : أخذ الشيء بأمر على أن لا يرد إلا بالخروج منه ، ويدخل فيه الفعل ، ثم استثنى سبحانه أصحاب اليمين فقال (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) وهم الذين يعطون كتبهم بإيمانهم وقيل : هم الذين يسلك بهم ذات اليمين وقال الباقر عليه‌السلام : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ) أي يسأل بعضهم بعضا (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي عن حالهم ، وعن ذنوبهم التي استحقوا بها النار (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) هذا سؤال توبيخ أي تطلع أهل الجنة على أهل النار فيقولون لهم : ما أوقعكم في النار؟ (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي كنا لا نصلي الصلاة المكتوبة على ما قرّرها الشرع (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) معناه : لم نك نخرج الزكوات التي كانت واجبة علينا ، والكفارات التي وجب دفعها إلى المساكين وهم الفقراء (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي كلما غوى غاو بالدخول في الباطل غوينا معه والمعنى : كنا نلوّث أنفسنا بالمرور في الباطل كتلويث الرجل بالخوض ، فلما كان هؤلاء يجرون مع من يكذب بالحق ، مشايعين لهم في القول ، كانوا خائضين معهم (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) مع ذلك ، أي نجحد يوم الجزاء وهو يوم القيامة ، والجزاء : هو الإيصال إلى كل من له شيء أم عليه شيء ما يستحقه ، فيوم الدين : هو يوم أخذ المستحق بالعدل (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي أتانا الموت على هذه الحالة (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي شفاعة الملائكة والنبيين كما نفعت الموحدين عن ابن عباس في رواية عطاء ، وقال الحسن : لم تنفعهم شفاعة ملك ولا شهيد ولا مؤمن ، ويعضد هذا الإجماع على أن عقاب الكفر لا يسقط بالشفاعة ، وقد صحت الرواية عن عبد الله بن مسعود قال :

٧٨٢

يشفع نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء ، ويبقى قوم في جهنم فيقال لهم : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) إلى قوله (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) قال ابن مسعود فهؤلاء الذين يبقون في جهنم ، وعن الحسن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة : أي رب عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا فشفّعني فيه ، فيقول : اذهب فأخرجه من النار ، فيذهب فيتجسّس في النار حتى يخرجه منها ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ من أمتي من سيدخل الله الجنة بشفاعته أكثر من مضر (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي أيّ شيء لهم ولم أعرضوا وتولوا عن القرآن فلم يؤمنوا به؟ والتذكرة : التذكير بمواعظ القرآن والمعنى : لا شيء لهم في الآخرة إذا أعرضوا عن القرآن ونفروا عنه (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) أي كأنهم حمر وحشية نافرة (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) يعني الأسد (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي كتبا من السماء تنزل إليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَلَّا) أي حقا ليس الأمر على ما قالوا ولا يكون كذلك (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) بجحدهم صحّتها ، ولو خافوا عذاب الآخرة لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالات والمعجزات (كَلَّا) أي حقا (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي إنّ القرآن تذكير وموعظة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي اتعظ به لأنه قادر عليه (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) هذه المشيئة غير الأولى ، فالأولى مشيئة اختيار ، والثانية مشيئة إكراه وإجبار والمعنى : أن هؤلاء الكفار لا يذكرون إلّا أن يجبرهم الله تعالى على ذلك (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي هو أهل أن يتقى محارمه ، وأهل أن يغفر الذنوب.

سورة القيامة

مكية وآياتها أربعون آية

١ ـ ١٥ ـ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) إن لا ردّ على الذين أنكروا البعث والنشور من المشركين ، فكأنه قال : لا تظنّون ، ثم ابتدأ القسم فقال : أقسم بيوم القيامة أنكم مبعوثون ليكون فرقا بين اليمين التي تكون جحدا ، وبين اليمين المستأنفة (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) فإنكم لا تقرّون بأن النفس تلوم صاحبها يوم القيامة ، ولكن استخبركم فأخبروني هل أقدر على أن أجمع العظام المتفرقة؟ وجواب القسم تقديره : ما الأمر على ما تتوهمون ، وأنكم تبعثون ، والنفس اللوامة : الكثيرة اللوم ، وليس من نفس برّة ولا فاجرة إلّا وهي تلوم نفسها يوم القيامة ، إن كانت عملت خيرا قالت : هلّا ازددت ، وإن كانت عملت سوءا قالت : يا ليتني لم أفعل (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) صورته صورة الاستفهام ومعناه الإنكار على منكري البعث ومعناه : أيحسب الكافر بالبعث والنشور ؛ يعني جنس الكفار (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) أي انه لن نعيده إلى ما كان أولا عليه خلقا جديدا بعد أن صار رفاتا ، فكنّى عن البعث بجمع العظام ، ثم قال سبحانه (بَلى) نجمعها (قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) على ما كانت وإن قلّت عظامها وصغرت فنردّها كما كانت ونؤلّف بينها حتى يستوي البنان ، ومن قدر على جمع صغار العظام فهو على جمع كبارها أقدر (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) أي يريد الكافر (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) هذا اخبار من الله تعالى أن الإنسان يمضي قدما في معاصي الله تعالى راكبا رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب ، فهذا هو الذي يحمله على الإعراض عن مقدورات ربّه فلذلك لا يقرّ بالبعث ، وينكر النشور (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) معناه : ان الذي يفجر أمامه يسأل متى تكون القيامة؟ وإنما يسأل عن ذلك تكذيبا به ،

٧٨٣

واشتغالا بالدنيا من غير تفكر في العاقبة ، فإذا خوف بالقيامة قال ما يكون ذلك؟ ثم قال سبحانه (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي شخص البصر عند معاينة ملك الموت فلا يطرف من شدة الفزع (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب نوره وضوؤه (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف ليتكامل ظلام الأرض على أهلها حتى يراها كل أحد بغير نور وضياء (يَقُولُ الْإِنْسانُ) المكذب بالقيامة (يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) معناه : أين موضع الفرار. قال الله سبحانه (كَلَّا لا وَزَرَ) أي لا مهرب ولا ملجأ لهم يلجأون إليه والوزر : ما يتحصن به من جبل أو غيره ومنه الوزير الذي يلجأ إليه في الأمور (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي المنتهى ، أي ينتهي الخلق يومئذ إلى حكمه وأمره فلا حكم ولا أمر لأحد غيره (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي يخبر الإنسان يوم القيامة بأول عمله وآخره فيجازى به ، وحقيقة النبأ الخبر بما يعظم شأنه (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) أي أن جوارحه تشهد عليه بما عمل ، فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه عليه (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك.

١٦ ـ ٢٥ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال ابن عباس : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبّه إياه ، وحرصه على أخذه وضبطه مخافة أن ينساه ، فنهاه الله عن ذلك ، كما قال : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) في صدرك حتى تحفظه (وَقُرْآنَهُ) أي وتأليفه على ما نزل عليك (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي قرأه جبريل عليك بأمرنا (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي قراءته ، والمعنى : اقرأه إذا فرغ جبريل عن قراءته ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هذا إذا نزل عليه جبريل عليه‌السلام أطرق فإذا ذهب قرأ ، وقيل : (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) : أي فاعمل بما فيه من الأحكام والحلال والحرام ، عن قتادة والضحاك (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) وقيل معناه : ثم ان علينا أن نحفظه عليك حتى تبين للناس بتلاوتك إياه عليهم ، وقيل معناه : علينا أن ننزله قرآنا عربيا فيه بيان للناس ، عن الزجاج (كَلَّا) أي لا تتدبّرون القرآن وما فيه من البيان (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي تختارون الدنيا على العقبى ، فيعملون للدنيا لا للآخرة جهلا منهم وسوء اختيار. ثم بيّن سبحانه حال الناس في الآخرة فقال (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) يعني يوم القيامة (ناضِرَةٌ) أي ناعمة بهجة حسنة ، عن ابن عباس والحسن ، وقيل : مسرورة عن مجاهد ، وقيل : مضيئة بيض يعلوها النور ، عن السدي ومقاتل ؛ جعل الله سبحانه وجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة علامة للخلق والملائكة على أنهم الفائزون (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) معناه : إلى ثواب ربها ناظرة ، أي هي ناظرة إلى نعيم الجنة حالا بعد حال فيزداد بذلك سرورها (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي كالحة عابسة متغيّرة (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي تعلم وتستيقن أنه يعمل بها داهية تفقر ظهورهم : أي تكسرها. وقيل : إنّه على حقيقة الظن ، أي يظنون حصولها جملة ولا يعلمون تفصيلها ، وهذا أولى من الأوّل ، لأنّه لو كان بمعنى العلم لكان (أن) بعده مخففة من أنّ الثقيلة ، على ما ذكر في غير موضوع.

٢٦ ـ ٤٠ ـ ثم بيّن سبحانه حالهم عند النزع فقال (كَلَّا) أي ليس يؤمن الكافر بهذا (إِذا بَلَغَتِ) الروح (التَّراقِيَ) أي العظام المكتنفة بالحلق ، وكنّى بذلك عن الإشفاء على الموت (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) أي وقال من حضره من أهله : هل من راق : أي طبيب شاف يرقيه ويداويه فلا يجدونه (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ)

٧٨٤

أي وعلم عند ذلك هذا الذي بلغت روحه تراقيها أنه الفراق من الدنيا والأهل والمال والولد (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قيل فيه وجوه (أحدها) التفت شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا عن ابن عباس ومجاهد (والثاني) التفت حال الموت بحال الحياة عن الحسن (والثالث) التفت ساقاه عند الموت ، عن الشعبي وأبي مالك ، لأنه يذهب القوة فيصير كجلد يلتف بعضه ببعض وقيل : هو أن يضطرب فلا يزال يمدّ إحدى رجليه ويرسل الأخرى ، ويلفّ إحداهما بالأخرى عن قتادة وقيل : هو التفاف الساقين في الكفن (والرابع) التف ساق الدنيا بساق الآخرة ، وهو شدّة كرب الموت بشدة هول المطلع ، والمعنى في الجميع : أنه تتابعت عليه الشدائد فلا يخرج من شدة إلا جاءه أشدّ منها (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي يسوق الملك بروحه إلى حيث أمر الله تعالى به ، إن كان من أهل الجنة فإلى عليين ، وإن كان من أهل النار فإلى سجّين والمساق : موضع السوق (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) أي لم يتصدق بشيء ، ولم يصل لله (وَلكِنْ كَذَّبَ) بالله (وَتَوَلَّى) عن طاعته ، وقيل معناه : لم يصدق بكتاب الله. ولكن كذّب بالكتاب والرسول ، وأعرض عن الإيمان (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي يرجع إليهم يتبختر ويختال في مشيته (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) وهذا تهديد من الله والمعنى : وليك المكروه وقرب منك ، والتكرار للتأكيد (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أيظن الإنسان الكافر بالبعث ، الجاحد لنعم الله أن يترك مهملا من غير أمر يؤخذ به فيكون فيه تقويم له وإصلاح لما هو أعود عليه في عاقبة أمره ، وأجمل به في دنياه وآخرته (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) أي كيف يظن أن يهمل وهو يرى في نفسه من تنقل الأحوال ما يمكنه أن يستدل به على أن له صانعا حكيما أكمل عقله وأقدره ، وخلق فيه الشهوة ، فيعلم أنه لا يجوز أن يخليه من التكليف ، ومعنى قوله يمنى : أي يصب في الرحم (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ) منها خلقا في الرحم (فَسَوَّى) خلقه وصورته وأعضاءه الباطنة والظاهرة (فَجَعَلَ مِنْهُ) أي من الإنسان (الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) وهذا اخبار من الله سبحانه انه لم يخلق الإنسان من المني ، ولم ينقله من حال إلى حال ليتركه مهملا ، فإنه لا بدّ من غرض في ذلك وهو التعريض للثواب بالتكليف (أَلَيْسَ ذلِكَ) الذي فعل هذا (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) هذا تقرير لهم على ان من قدر على الابتداء قدر على البعث والإحياء ، فإن من قدر على جعل النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، إلى أن يجعلها حيّا سليما مركّبا فيه الحواس الخمس ، والأعضاء الشريفة التي يصلح كل منها لما لا يصلح له الآخر ، وخلق الزوجين الذكر والأنثى الذين يصحّ بهما التناسل ، فإنه يقدر على إعادته بعد الموت إلى ما كان عليه من كونه حيّا ، وجاء في الحديث عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سبحانك اللهم وبلى.

سورة الانسان

مدنية وآياتها إحدى وثلاثون آية

النزول

قد روى الخاص والعام أن الآيات من هذه السورة وهي قوله (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ) إلى قوله : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وجارية لهم تسمى فضة.

١ ـ ١٠ ـ (هَلْ أَتى) معناه : قد أتى (عَلَى الْإِنْسانِ) أي

٧٨٥

ألم يأت على الإنسان (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) وقد كان شيئا إلا أنه (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) لأنه كان ترابا وطينا إلى أن نفخ فيه الروح ، فهل هنا استفهام يراد به التقرير ، قال الجبائي : وهو تقرير على ألطف الوجوه وتقديره : أيّها المنكر للصانع وقدرته أليس قد أتى عليك دهور لم تكن شيئا مذكورا ثم ذكرت؟ وكل أحد يعلم من نفسه أنه لم يكن موجودا ثم وجد ، فإذا تفكّر في ذلك علم أن له صانعا صنعه ، ومحدثا أحدثه (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني ولد آدم عليه‌السلام (مِنْ نُطْفَةٍ) وهي ماء الرجل والمرأة الذي يخلق منه الولد (أَمْشاجٍ) أي أخلاط من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة جعلها الله في النطفة ، ثم بناه الله البنية الحيوانية المعدلة الأخلاط (نَبْتَلِيهِ) أي نختبره بما نكلفه من الأفعال الشاقة ليظهر إما طاعته وإما عصيانه فنجازيه بحسب ذلك (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) لنبتليه : أي لنتعبده ونأمره وننهاه ؛ والمراد : فأعطيناه آلة السمع والبصر ليتمكن من السمع والبصر ومعرفة ما كلف (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بيّنا له الطريق ، ونصبنا له الأدلة ، وأزحنا له العلة حتى يتمكن من معرفة الحق والباطل (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) معناه : ليختار اما السعادة واما الشقاوة ، والمراد اما أن يختار بحسن إختياره الشكر لله تعالى والإعتراف بنعمه فيصيب الحظ ، واما أن يكفر نعم الله ويجحد إحسانه فيكون ضالا عن الصواب (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) أي هيّأنا وادّخرنا لهم جزاء على كفرانهم وعصيانهم (سَلاسِلَ) يعني في جهنّم كما قال : (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) (وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) نارا موقدة نعذّبهم بها ونعاقبهم فيها. ثم ذكر ما أعدّه للشاكرين المطيعين فقال (إِنَّ الْأَبْرارَ) وهو جمع البر المطيع لله ، المحسن في أفعاله ؛ وقد أجمع أهل البيت عليهم‌السلام وموافقوهم وكثير من مخالفيهم أن المراد بذلك عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، والآية مع ما بعدها متعينة فيهم ، وأيضا فقد انعقد الإجماع على انهم كانوا أبرارا وفي غيرهم خلاف (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) إناء فيه شراب (كانَ مِزاجُها) أي ما يمازجها (كافُوراً) وهو اسم عين ماء في الجنة والمعنى : يمازجه ريح الكافور وليس ككافور الدنيا (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) أي أولياؤه ، أي هذا الشراب من عين يشرب بها أولياء الله ، وخصّهم بأنّهم عباد الله تشريفا وتبجيلا (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي يقودون تلك العين حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم والتفجير : تشقيق الأرض بجري الماء ، وأنهار الجنة تجري بغير أخدود ، فإذا أراد المؤمن أن يجري نهرا خطّ خطّا فينبع الماء من ذلك الموضع ويجري بغير تعب. ثم وصف سبحانه هؤلاء الأبرار فقال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي كانوا في الدنيا بهذه الصفة ، والإيفاء بالنذر : هو أن يفعل ما نذر عليه ، فإذا نذر طاعة تمّمها ووفى بها (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي فاشيا منتشرا ذاهبا في الجهات بلغ أقصى المبالغ (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) أي على حبّ الطعام والمعنى : يطعمون الطعام أشدّ ما تكون حاجتهم إليه ؛ وصفهم الله سبحانه بالأثرة على أنفسهم (مِسْكِيناً) وهو الفقير الذي لا شيء له (وَيَتِيماً) وهو الذي لا والد له من الأطفال (وَأَسِيراً) وهو المأخوذ من أهل دار الحرب (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي لطلب رضا الله ، خالصا لله ، مخلصا من الرياء وطلب الجزاء وهو قوله (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) انهم لم يتكلموا بذلك ولكن علم الله سبحانه ما في قلوبهم فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك الراغب ، والمراد : لا نطلب بهذا الطعام مكافأة عاجلة ، ولا نريد أن تشكرونا عليه عند الخلق ، بل فعلناه لله (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً) أي عذاب يوم (عَبُوساً) أي مكفهرا تعبس فيه الوجوه ؛ ووصف اليوم بالعبوس توسعا لما فيه من الشدة وهذا كما يقال : يوم صائم وليل قائم. قال ابن عباس : يعبس فيه الكافر حتى يسيل من بين عينيه عرق

٧٨٦

مثل القطران (قَمْطَرِيراً) أي صعبا شديدا عن أبي عبيدة والمبرد وقال الحسن سبحان الله ما أشدّ اسمه وهو من اسمه أشدّ وقيل : القمطرير الذي يقلص الوجوه ، ويقبض الجباه وما بين الأعين من شدته.

١١ ـ ٢٢ ـ ثم أخبر سبحانه بما أعدّ للأبرار الموصوفين في الآيات الأولى من الجزاء فقال (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي كفاهم الله ومنع منهم أهوال يوم القيامة وشدائده (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي استقبلهم بذلك (وَجَزاهُمْ) أي وكافأهم (بِما صَبَرُوا) أي بصبرهم على طاعته ، واجتناب معاصيه ، وتحمل محن الدنيا وشدائدها (جَنَّةً) يسكنونها (وَحَرِيراً) من لباس الجنة يلبسونه ويفرشونه (مُتَّكِئِينَ) أي جالسين جلوس الملوك (فِيها) أي في الجنة (عَلَى الْأَرائِكِ) أي الفرش فوق الأسرة (لا يَرَوْنَ فِيها) أي في تلك الجنة (شَمْساً) يتأذون بحرّها (وَلا زَمْهَرِيراً) يتأذّون ببرده (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) يعني ان أفياء أشجار تلك الجنة قريبة منهم (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) أي وسخرت وسهل أخذ ثمارها تسخيرا إن قام ارتفعت بقدره ، وإن قعد نزلت عليه حتى ينالها ، وإن اضطجع تدلت حتى تنالها يده (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الأبرار الموصوفين قبل (بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) جمع كوب وهو إناء للشرب من غير عروة (كانَتْ) تلك الأكواب (قَوارِيرَا) أي زجاجات (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) قال الصادق عليه‌السلام : ينفذ البصر في فضة الجنة كما ينفذ في الزجاج والمعنى : أن أصلها من فضة فاجتمع لها بياض الفضة وصفاء القوارير ، فيرى من خارجها ما في داخلها (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي قدروا الكأس على قدر ربّهم لا يزيد ولا ينقص من الري ، والضمير في قدّروها للسقاة والخدم الذين يسقون ، فإنهم يقدرونها ثم يسقون (وَيُسْقَوْنَ فِيها) أي في الجنة (كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) قال ابن عباس : كل ما ذكره الله في القرآن مما في الجنة وسمّاه ليس له مثل في الدنيا ، ولكن سماه الله بالاسم الذي يعرف ، والزنجبيل مما كانت العرب تستطيبه فلذلك ذكره في القرآن ، ووعدهم انهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) أي تمزج الخمر بالزنجبيل ، والزنجبيل من عين تسمى تلك العين سلسبيلا ، قال الزجاج : هو صفة لما كان في غاية السلاسة وقيل : سمّي سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان ، عن أبي العالية ومقاتل ، وقيل : سميت بذلك لأنها ينقاد ماؤها لهم يصرفونها حيث شاؤوا ، عن قتادة (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) مرّ تفسيره (إِذا رَأَيْتَهُمْ) يعني إذا رأيت أولئك الولدان (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) من الصفاء وحسن المنظر والكثرة ، فذكر لونهم وكثرتهم وقيل : إنما شبههم بالمنثور لانتثارهم في الخدمة ، فلو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) أي إذا رميت ببصرك ، ثمّ يعني الجنة (رَأَيْتَ نَعِيماً) خطيرا (وَمُلْكاً كَبِيراً) لا يزول ولا يفنى وقيل : الملك الكبير : استئذان الملائكة عليهم وتحيتهم بالسلام (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) فوقهم ثياب سندس ، وهو ما رقّ من الثياب فيلبسونها (خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو ما غلظ منها ، ولا يراد به الغلظ في السلك إنما يراد به الثخانة في النسج. قال ابن عباس : أما رأيت الرجل عليه ثياب والذي يعلوها أفضلها (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) الفضة الشفافة وهي التي يرى ما وراءها كما يرى من البلورة ، وهو أفضل من الدر والياقوت وقيل : انهم يحلون بالذهب تارة ، وبالفضة أخرى ليجمعوا محاسن الحلية كما قال الله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أي طاهرا من الأقذار والأقذاء ، لم تدنسها الأيدي ، ولم تدسها الأرجل

٧٨٧

كخمر الدنيا وقيل : طهورا لا يصير بولا نجسا ، ولكن يصير رشحا في أبدانهم كريح المسك (إِنَّ هذا) يعني ما وصف من النعيم وأنواع الملاذ (كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي مكافأة على أعمالكم الحسنة ، وطاعتكم المبرورة (وَكانَ سَعْيُكُمْ) في مرضاة الله ، وقيامكم بما أمركم الله به (مَشْكُوراً) أي مقبولا مرضيا جوزيتم عليه.

٢٣ ـ ٣١ ـ ثم أخبر سبحانه عن نفسه فقال (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) فصلناه في الإنزال آية بعد آية ولم ننزله جملة واحدة (فَاصْبِرْ) يا محمد على ما أمرتك به من تحمل أعباء الرسالة (لِحُكْمِ رَبِّكَ) أن تبلّغ الكتاب ، وتعمل به (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) أي من مشركي مكة (آثِماً) يعني عتبة بن ربيعة (أَوْ كَفُوراً) يعني الوليد بن المغيرة ، فإنهما قالا له : ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي أقبل على شأنك من ذكر الله ، والدعاء إليه ، وتبليغ الرسالة صباحا ومساءا ـ أي دائما ـ فإن الله ناصرك ومؤيدك ومعينك والبكرة : أول النهار والأصيل : العشي وهو أصل الليل (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) دخلت من للتبعيض والمعنى : فاسجد له في بعض الليل لأنه لم يأمره بقيام الليل كله (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) أي في ليل طويل ، يريد التطوع بعد المكتوبة ؛ وروي عن الرضا عليه‌السلام أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية وقال : ما ذلك التسبيح؟ قال : صلاة الليل (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي يؤثرون اللذات والمنافع العاجلة في دار الدنيا (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) أي ويتركون أمامهم (يَوْماً ثَقِيلاً) أي عسيرا شديدا والمعنى : انهم لا يؤمنون به ، ولا يعملون له ثم قال سبحانه (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أي قوينا واحكمنا خلقهم ، عن قتادة ومجاهد ، وقيل : أسرهم : أي مفاصلهم وقيل : أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب ، ولولا احكامه إياها على هذا الترتيب لما أمكن العمل بها ، والانتفاع منها وقيل : شددنا أسرهم جعلناهم أقوياء عن الجبائي وقيل معناه : كلّفناهم وشددناهم بالأمر والنهي كيلا يجاوزوا حدود الله كما يشد الأسير بالقيد لئلا يهرب (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم ، ولكن نبقيهم إتماما للحجة (إِنَّ هذِهِ) السورة (تَذْكِرَةٌ) أي تذكير وعظة يتذكر بها أمر الآخرة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي فمن أراد اتخذ إلى رضا ربه طريقا بأن يعمل بطاعته ، وينتهي عن معصيته (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي وما تشاؤون اتخاذ الطريق إلى مرضاة الله اختيارا إلّا أن يشاء الله اجباركم عليه ، وإلجاءكم إليه ، فحينئذ تشاؤون ولا ينفعكم ذلك ، والتكليف زائل ، ولم يشأ الله هذه المشيئة بل شاء أن تختاروا الإيمان لتستحقوا الثواب (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) مرّ معناه (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي جنّته يعني المؤمنين (وَالظَّالِمِينَ) يعني ويجزي الكافرين والمشركين (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)

سورة المرسلات

مكية وعدد آياتها خمسون آية

١ ـ ١٥ ـ (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) يعني الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس ، عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وأبي صالح ، فعلى هذا يكون عرفا نصبا على الحال من قولهم : جاءوا إليه عرفا واحدا ، أي متتابعين وقيل : إنها الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه ، في رواية أخرى عن ابن مسعود وعن أبي حمزة الثمالي عن أصحاب علي عنه عليه‌السلام ، وعلى هذا يكون مفعولا له وقيل : المراد بها

٧٨٨

الأنبياء جاءت بالمعروف والإرسال نقيض الإمساك (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) يعني الرياح الشديدات الهبوب ، والعصوف : مرور الريح بشدة (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) وهي الرياح التي تأتي بالمطر ، تنشر السحاب نشرا للغيث كما تلقحه للمطر وقيل : انها الملائكة تنشر الكتب عن الله تعالى ، عن أبي حمزة الثمالي وأبي صالح وقيل : انها الأمطار تنشر النبات ، عن أبي صالح في رواية أخرى وقيل : الرياح ينشرها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته عن الحسن وقيل : الرياح تنشر السحاب في الهواء عن الجبائي (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) يعني الملائكة تأتي بما يفرق به بين الحق والباطل ، والحلال والحرام عن ابن عباس وأبي صالح وقيل : هي آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال عن الحسن وأبي حمزة وقتادة وقيل : انها الرياح التي تفرق بين السحاب فتبدده عن مجاهد (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء ، وتلقيه الأنبياء إلى الأمم عن ابن عباس وقتادة ، كأنها الحاملات للذكر ، الطارحات له ليأخذه من خوطب به ، والإلقاء : طرح الشيء على غيره (عُذْراً أَوْ نُذْراً) أي للاعذار والإنذار ومعناه : اعذارا من الله وإنذارا إلى خلقه وقيل : عذرا : يتعذر الله به إلى عباده في العقاب أنه لم يكن إلا على وجه الحكمة ، ونذرا : أي إعلاما بموضوع المخافة عن الحسن. وهذه أقسام ذكرها الله تعالى (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) هذا جواب القسم والمعنى : ان الذي وعدكم الله به من البعث والنشور ، والثواب والعقاب لكائن لا محالة. ثم بيّن سبحانه وقت وقوعه فقال (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي محيت آثارها ، وأذهب نورها ، وأزيل ضوؤها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي شقت وصدعت فصار فيها فروج (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي أذهبت بسرعة حتى لا يبقى لها أثر في الأرض (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي جمعت لوقتها وهو يوم القيامة لتشهد على الأمم وهو قوله (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي أخرت ، وضرب لهم الأجل لجمعهم. تعجّب العباد من ذلك اليوم ، عن إبراهيم ومجاهد وابن زيد ، وقيل : اقتت معناه : عرفت وقت الحساب والجزاء ، لأنهم في الدنيا لا يعرفون متى تكون الساعة ، وقيل : عرفت ثوابها في ذلك اليوم ؛ وقال الصادق عليه‌السلام : اقتت : أي بعثت في أوقات مختلفة. ثم بيّن سبحانه ذلك اليوم فقال (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أي يوم يفصل الرحمن بين الخلائق. ثم عظم ذلك اليوم فقال (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) ثم أخبر سبحانه حال من كذب به فقال (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) هذا تهديد ووعيد ، إنما خصّ الوعيد بمن جحدوا يوم القيامة وكذب به لأن التكذيب بذلك يتبعه خصال المعاصي كلها وإن لم يذكر معه.

١٦ ـ ٢٨ ـ ثم ذكر سبحانه ما فعله بالمكذبين الأولين فقال (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) يعني بالعذاب في الدنيا ، يريد قوم نوح وعاد وثمود حين كذبوا رسلهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) قوم لوط وإبراهيم. لم يعطف نتبعهم على نهلك فيجزم ، بل استأنف ، وقال المبرد : تقديره : ثم نحن نتبعهم ، ويؤيده قول الحسن : ان الآخرين هم الذين تقوم عليهم القيامة (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي كما فعلنا بمن تقدم نفعل بالمكذبين من أهل مكة ، وقد فعل بهم ذلك فقتلوا يوم بدر (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) يعني يوم الجزاء (لِلْمُكَذِّبِينَ) فإنهم يجازون بأليم العقاب (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي حقير قليل الغناء ؛ وفي خلق الإنسان على هذا الكمال من الحواس الصحيحة ، والعقل الشريف ، والتمييز والنطق من ماء ضعيف أعظم الاعتبار ، وأبين الحجة على أن له صانعا مدبرا حكيما ، والجاحد لذلك كالمكابر لبداية العقول (فَجَعَلْناهُ) أي فجعلنا ذلك الماء المهين (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) يعني الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي إلى مقدار من الوقت معلوم ، يعني مدة الحمل (فَقَدَرْنا) أي

٧٨٩

قدرنا خلقه كيف يكون قصيرا أم طويلا ، ذكرا أم أنثى (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) أي فنعم المقدرون نحن (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأنا قد خلقنا الخلق وأنا نعيدهم (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) للعباد تكفتهم (أَحْياءً) على ظهرها في دورهم ومنازلهم ، وتكفتهم (وَأَمْواتاً) في بطنها ، أي تحوزهم وتضمهم عن قتادة ومجاهد والشعبي قال بنان : خرجنا في جنازة مع الشعبي فنظر إلى الجنازة فقال هذه كفات الأموات ثم نظر إلى البيوت فقال هذه كفات الأحياء (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي جبالا ثابتة عالية (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) وجعلنا لكم سقيا من الماء العذب (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذه النعم وأنها من جهة الله ، وإنما كرّر لأنه عدّد النعم فذكره عند كل نعمة فلا يعدّ ذلك تكرارا ، وقد تقدّم الوجه في التكرار في سورة الرحمن.

٢٩ ـ ٤٠ ـ ثم بيّن سبحانه ما يقال لهم جزاء على تكذيبهم فقال (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي تقول لهم الخزنة : اذهبوا وسيروا إلى النار التي كنتم تجحدونها وتكذبون بها ، ولا تعترفون بصحتها في الدنيا ؛ والانطلاق : الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث. ثم ذكر الموضع الذي أمرهم بالانطلاق إليه فقال (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي نار لها ثلاث شعب ، هو دخان جهنم له ثلاث شعب تحيط بالكافر : شعبة تكون فوقه ، وشعبة عن يمينه ، وشعبة عن شماله ، وسمي الدخان ظلا كما قال : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) ، أي من الدخان الآخذ بالأنفاس ، وقيل : يخرج من النار لسان فيحيط بالكافر كالسرادق فيتشعب ثلاث شعب فيكون فيها حتى يفرغ من الحساب (لا ظَلِيلٍ) أي غير مانع من الأذى بستره عنه ، فظل هذا الدخان لا يغني الكفار شيئا من حرّ النار وهو قوله (وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) واللهب : ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر ، يعني انهم إذا استظلوا بذلك الظل لم يدفع عنهم حر اللهب ، ثم وصف سبحانه النار فقال (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ) وهو ما يتطاير من النار في الجهات (كَالْقَصْرِ) أي مثله في عظمه وتخويفه تتطاير على الكافرين من كل جهة نعوذ بالله منه ، وهو واحد القصور من البنيان. ثم شبّهه في لونه بالجمالات الصفر فقال (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) أي كأنها أينق سود لما يعتري سوادها من الصفرة. قال الفراء : لا ترى أسود من الإبل إلّا وهو مشرب صفرة ، ولذلك سمت العرب سود الإبل صفراء (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بنار هذه صفتها (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) معناه : أنهم لا ينطقون بنطق ينتفعون به فكأنّهم لم ينطقوا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا الخبر (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) والقضاء بين الخلق ، والانتصاف للمظلوم من الظالم ، وفصل القضاء يكون في الآخرة على ظاهر الأمر وباطنه بخلاف الدنيا لأن القاضي يحكم على ظاهر الأمر في الدنيا ولا يعرف البواطن (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) يعني مكذبي هذه الأمة مع مكذبي الأمم قبلها ، يجمع الله سبحانه الخلائق في يوم واحد وفي صعيد واحد (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم ، وقيل : إن هذا توبيخ من الله تعالى للكفار وتقريع لهم ، وإظهار لعجزهم عن الدفع عن أنفسهم فضلا عن أن يكيدوا غيرهم ، وإنما هو على أنكم كنتم تعملون في دار الدنيا ما يغضبني ، فالآن عجزتم عن ذلك ، وحصلتم على وبال ما عملتم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا.

٤١ ـ ٥٠ ـ ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين اتقوا الشرك والفواحش (فِي ظِلالٍ) من أشجار الجنة (وَعُيُونٍ) جارية بين أيديهم في غير أخدود لأن ذلك أمتع لهم بما يرونه من حسن مياهها وصفائها وقيل : عيون : أي ينابيع بما يجري خلال الأشجار (وَفَواكِهَ) جمع فاكهة وهي ثمار

٧٩٠

الأشجار (مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي من جنس ما يشتهونه ، والشهوة : معنى في القلب إذا صادف المشتهى كان لذة ، وضدّها النفار. ثم يقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا) صورته صورة الأمر والمراد الإباحة وقيل : إنّه أمر على الحقيقة ، وهو سبحانه يريد منهم الأكل والشرب في الجنة ، فإنهم إذا أعلموا ذلك ازداد سرورهم فلا يكون إرادته لذلك عبثا (هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في دار الدنيا ، أي خالصا من التكدير والهنيء : النفع الخالص من شائب الأذى وقيل هو الذي لا أذى يتبعه (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) هذا ابتداء الإخبار من الله تعالى ، ويقال لهم ذلك أيضا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا الوعد. ثم عاد الكلام إلى ذكر المكذبين فقال سبحانه (كُلُوا) أي يقال لهم كلوا (وَتَمَتَّعُوا) في الدنيا (قَلِيلاً) أي تمتعا قليلا ، أو زمانا قليلا فإن الموت كائن لا محالة (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي مشركون مستحقون للعقاب (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا الوعيد (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) أي صلّوا (لا يَرْكَعُونَ) أي لا يصلون قال مقاتل : نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله بالصلاة فقالوا : لا ننحني ، والرواية : لا ننحني فإن ذلك سبّة علينا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود وقيل : إن المراد بذلك يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ، عن ابن عباس (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بوجوب الصلاة والعبادات (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي فبأي كتاب بعد القرآن يصدقون ولم يصدقوا به مع إعجازه وحسن نظمه؟! فإن من لم يؤمن به مع ما فيه من الحجة الظاهرة ، والآية الباهرة لا يؤمن بغيره.

سورة النبأ

مكية وآياتها أربعون آية

لما ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر القيامة ، ووعيد المكذّبين بها ، افتتح هذه السورة بذكرها ، وذكر دلائل القدرة على البعث والإعادة فقال :

١ ـ ١٦ ـ (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) قالوا : لما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبرهم بتوحيد الله تعالى ، وبالبعث بعد الموت ، وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم ، أي يسأل بعضهم بعضا على طريق الإنكار والتعجب فيقولون : ماذا جاء به محمد ، وما الذي أتى به؟ فأنزل الله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) ، أي عن أيّ شيء يتساءلون؟ قال الزجاج : اللفظ لفظ الاستفهام والمراد تفخيم القصة كما تقول : أي شيء زيد؟ إذا عظمت شأنه. ثم ذكر أن تساءلهم عن ماذا فقال (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) وهو القرآن ومعناه : الخبر العظيم الشأن لأنه ينبىء عن التوحيد ، وتصديق الرسول ، وعن البعث والنشور وقيل : يعني نبأ يوم القيامة ، عن الضحاك وقتادة ، ويؤيده قوله : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) وقيل : النبأ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع وصفاته ، والملائكة والرسل ، والبعث والجنة والنار ، والرسالة والخلافة (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) فمصدق به ومكذب (كَلَّا) أي ليس الأمر كما قالوا (سَيَعْلَمُونَ) عاقبة تكذيبهم حين تنكشف الأمور (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) هذا وعيد على أثر وعيد ، أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم ، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم. ثم نبّههم سبحانه على وجه الاستدلال على صحة ذلك فقال (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) أي وطاء وقرارا مهيئا للتصرف فيه من غير أذية (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) للأرض لئلا تميد بأهلها (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) معناه : ذكرانا وإناثا حتى يصح منكم التناسل ، ويتمتع بعضكم ببعض (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ

٧٩١

سُباتاً) معناه : وجعلنا نومكم راحة ودعة لأجسادكم (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي غطاء وسترة يستر كل شيء بظلمته وسواده (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) المعاش : العيش ، أي جعلناه مطلب معاش تبتغون فيه من فضل ربكم (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً) أي سبع سماوات (شِداداً) محكمة أحكمنا صنعها ، وأوثقنا بناءها (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) يعني الشمس جعلها سبحانه سراجا للعالم وقادا متلألأ بالنور يستضيئون به ، فالنعمة عامة به لجميع الخلق (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) أي الرياح ذوات الأعاصير (ماءً ثَجَّاجاً) أي صبابا دفاعا في انصبابه متتابعا يتلو بعضه بعضا (لِنُخْرِجَ بِهِ) أي بالماء (حَبًّا وَنَباتاً) حبّا يأكل الناس ، ونباتا تنبته الأرض مما يأكله الأنعام (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي بساتين ملتفة بالشجر والتقدير : ونخرج به شجر جنات الفافا ، وإنما سمّي جنة لأن الشجر تجنّها : أي تسترها.

١٧ ـ ٣٠ ـ (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي يوم القضاء الذي يفصل الله فيه الحكم بين الخلائق (كانَ مِيقاتاً) لما وعد الله من الجزاء والحساب والثواب والعقاب (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) قد مرّ معناه (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) أي جماعة جماعة إلى أن تتكاملوا في القيامة ، وقيل : زمرا زمرا ، من كل مكان للحساب ، وكل فريق يأتي مع شكله ، وقيل : إنّ كل أمة تأتي مع نبيّها ، فلذلك فجاءوا أفواجا أفواجا (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) أي شقّت لنزول الملائكة (فَكانَتْ أَبْواباً) أي ذات أبواب (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) أي زيلت عن أماكنها وذهب بها (فَكانَتْ سَراباً) أي كالسراب يظن أنها جبال وليست إياها (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) يرصدون به ، أي هي معدة لهم يرصد بها خزنتها الكفار (لِلطَّاغِينَ مَآباً) أي للذين جاوزوا حدود الله ، وطغوا في معصية الله مرجعا يرجعون إليه ومصيرا (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أي ماكثين فيها أزمانا كثيرة وذكر فيها أقوال (أحدها) ان المعنى : أحقابا لا انقطاع لها ، كلما مضى حقب جاء بعده حقب آخر ، والحقب ثمانون سنة من سني الآخرة (وثانيها) ان الأحقاب ثلاثة وأربعون حقبا ، كل حقب سبعون خريفا ، كل خريف سبعمائة سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، وكل يوم ألف سنة (وثالثها) ان الله تعالى لم يذكر شيئا إلا وجعل له مدة ينقطع إليها ولم يجعل لأهل النار مدة بل قال : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) ، فو الله ما هو إلا انه إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر كذلك إلى أبد الآبدين ، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود في النار ، ولكن قد ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة ، كل يوم من تلك السنين ألف سنة مما نعده (ورابعها) ان مجاز الآية : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) ، لا يذوقون في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا إلّا حميما وغسّاقا ، ثم يلبثون فيها لا يذوقون غير الحميم والغساق من أنواع العذاب ، فهذا توقيت لأنواع العذاب لا لمكثهم في النار. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها أحقابا ، والحقب بضع وستون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم كألف سنة مما تعدون ، فلا يتكلن أحد أن يخرج من النار (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) لا يذوقون في جهنم بردا ينفعهم من حرّها ، ولا شرابا ينفعهم من عطشها (إِلَّا حَمِيماً) وهو الماء الحار الشديد الحرّ (وَغَسَّاقاً) وهو صديد أهل النار (جَزاءً وِفاقاً) أي جوزوا جزاء وفق أعمالهم والوفاق : الجاري على المقدار ، فالجزاء وفاق لأنه جار على مقدار الأعمال في الاستحقاق (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي فعلنا ذلك بهؤلاء الكفار لأنهم كانوا لا يخافون أن يحاسبوا والمعنى : كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم محاسبون (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بما جاءت به الأنبياء (كِذَّاباً) أي تكذيبا (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) معناه : وكل شيء من أعمالهم حفظناه لنجازيهم به. ثم بيّن أن ذلك الإحصاء والحفظ وقع بالكتابة لأن الكتابة أبلغ في حفظ

٧٩٢

الشيء من الإحصاء ، ويجوز أن يكون كتابا حالا مؤكدة ، أي أحصيناه في حال كونه مكتوبا عليهم ، والكتاب بمعنى المكتوب (فَذُوقُوا) أي فقيل لهؤلاء الكفار ذوقوا ما أنتم فيه من العذاب (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) لأن كل عذاب يأتي بعد الوقت الأول فهو زائد عليه.

٣١ ـ ٤٠ ـ ثم عقب سبحانه وعيد الكفار بالوعد للمتقين الأبرار فقال (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتقون الله باجتناب الشرك والمعاصي (مَفازاً) أي فوزا ونجاة إلى حال السلامة والسرور. ثم بيّن ذلك الفوز فقال (حَدائِقَ وَأَعْناباً) يعني أشجار الجنة وثمارها (وَكَواعِبَ أَتْراباً) أي جواري تكعب ثديهنّ مستويات في السن ومعناه : استواء الخلقة والقامة والصورة والسن حتى يكنّ متشاكلات (وَكَأْساً دِهاقاً) أي مترعة (لا يَسْمَعُونَ فِيها) أي في الجنة (لَغْواً) أي كلاما لغوا لا فائدة فيه (وَلا كِذَّاباً) ولا تكذيب بعضهم لبعض (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) أي فعل بالمتقين ما فعل بهم جزاء من ربك على تصديقهم بالله ونبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَطاءً) أي أعطاهم الله عطاء (حِساباً) أي قدر الاستحقاق ، وبحسب العمل (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) مرّ ذكره والمعنى : أن الذي يفعل بالمؤمنين ما تقدّم ذكره هو رب السماوات والأرض ومدبّرهما ومدبّر ما بينهما ، والمتصرف فيهما على ما يشاء ، الرحمن المنعم على خلقه مؤمنهم وكافرهم (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) أي لا يملكون أن يسألوه إلّا فيما أذن لهم فيه كقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) وقوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) أي في ذلك اليوم ، والروح : ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقا أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفّا وقامت الملائكة كلّهم صفّا واحدا ، فيكون عظم خلقه مثل صفّهم قوله : صفا معناه : مصطفين (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) وهم المؤمنون والملائكة (وَقالَ) في الدنيا (صَواباً) أي شهد بالتوحيد وقال : لا إله إلا الله وقيل : إن الكلام هاهنا الشفاعة ، أي لا يشفعون إلا لمن أذن له الرحمن أن يشفع عن الحسن والكلبي ؛ وروى معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن هذه الآية فقال : نحن والله المأذون لهم يوم القيامة والقائلون قال : جعلت فداك ما تقولون؟ قال : نمجّد ربّنا ، ونصلّي على نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا. رواه العياشي مرفوعا (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) الذي لا شك في كونه وحصوله ، يعني القيامة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي مرجعا للطاعة والمعنى : فمن شاء عمل عملا صالحا يؤوب إلى ربه فقد أزيحت العلل ، وأوضحت السبل ، وبلغت الرسل ، والمآب : من الأوب وهو الرجوع. ثم خوّف سبحانه كفار مكة فقال : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) يعني العذاب في الآخرة ، فإن كل ما هو آت قريب (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي ينتظر جزاء ما قدّمه ، فإن قدم الطاعة انتظر الثواب ، وإن قدم المعصية انتظر العقاب (وَيَقُولُ الْكافِرُ) في ذلك اليوم (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي ليتمنى أن لو كان ترابا لا يعاد ولا يحاسب ليتخلص من عقاب ذلك اليوم.

سورة النازعات

مكية وآياتها ست وأربعون آية

١ ـ ١٤ ـ (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) يعني الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار عن أبدانهم بالشدة كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المدى ، وروي ذلك ، عن علي عليه‌السلام (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) انها الملائكة تنشط أرواح الكفار بين

٧٩٣

الجلد والأظفار حتى تخرجها من أجوافهم بالكرب والغم ، عن علي عليه‌السلام والنشط : الجذب يقال : نشطت الدلو نشطا نزعته (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) انها الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلا رفيقا ثم يدعونها حتى تستريح كالسابح بالشيء في الماء يرمي به ، عن علي عليه‌السلام (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) انها الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، عن عليّ عليه‌السلام ومقاتل (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) انها الملائكة تدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة ، عن علي عليه‌السلام أقسم الله تعالى بهذه الأشياء التي عدّدها ؛ قال الباقر والصادق عليهما‌السلام ان لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وليس لخلقه أن يقسموا إلّا به ، والوجه في ذلك أنه سبحانه يقسم بخلقه للتنبيه على موضع العبرة فيه لأن القسم يدل على عظم شأن المقسم به فكأنه سبحانه أقسم فقال : ورب هذه الأشياء لتبعثن ولتحاسبن (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق والراجفة : صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمخّض (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى وهي التي يبعث معها الخلق وهو كقوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) ومعنى الواجفة : الشديدة الاضطراب وقيل معناه : يوم تضطرب الأرض اضطرابا شديدا ، وتحرك تحركا عظيما ، يعني يوم القيامة تتبعها الرادفة ، أي اضطرابة أخرى كائنة بعد الأولى في موضع الردف من الراكب ، فلا تزال تضطرب حتى تفنى كلها (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي ذليلة من هول ذلك اليوم قال عطاء : يريد أبصار من مات على غير الإسلام (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي يقول هؤلاء المنكرون للبعث من مشركي قريش وغيرهم في الدنيا إذا قيل لهم : إنكم مبعثون من بعد الموت : أنرد إلى أول حالنا ، وابتداء أمرنا ، فنصير أحياء كما كنا؟ والحافرة عند العرب : اسم لأول الشيء وابتداء الأمر (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي بالية مفتتة والمعنى : أنهم أنكروا البعث فقالوا : أنرد أحياء إذا متنا وتفتت عظامنا (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) معناه : إن كان الأمر على ما يقوله محمد من انا نبعث ونعاقب فتلك كرة ذات خسران علينا. ثم أعلم سبحانه سهولة البعث عليه فقال (فَإِنَّما هِيَ) يعني النفخة الأخيرة (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي صيحة واحدة من إسرافيل يسمعونها وهم أموات في بطون الأرض فيحيون ، وهو قوله (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) وهي وجه الأرض وظهرها عن الحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم ، وقيل : إنّما سميت الأرض ساهرة لأن عملها في النبت في الليل والنهار دائب ، ولذلك قيل : خير المال عين خرّارة ، في أرض خوّارة ، تسهر إذا نمت ، وتشهد إذا غبت ، ثم صارت اسما لكل أرض ، وقيل المراد بذلك عرصة القيامة لأنها أول مواقف الجزاء وهم في سهر لا نوم فيه.

١٥ ـ ٢٦ ـ ثم ذكر سبحانه قصة موسى عليه‌السلام فقال (هَلْ أَتاكَ) يا محمد (حَدِيثُ مُوسى) استفهام يراد به التقرير (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) أي حين ناداه الله ودعاه ، فالنداء ، الدعاء بطريقة : يا فلان فالمعنى : قال له : يا موسى (بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أي المطهر (طُوىً) اسم واد كلّم الله فيه موسى (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي علا وتكبّر ، وكفر بالله وتجاوز الحد في الاستعلاء والتمرد والفساد (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي تتطهر من الشرك ، وتشهد أن لا إله إلّا الله ، وهذا تلطف في الاستدعاء ومعناه : هل لك رغبة إلى أن تسلم وتصلح وتطهر (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي أرشدك إلى طريق الحق الذي إذا سلكته وصلت إلى رضاء الله وثوابه (فَتَخْشى) أي فتخافه فتفارق ما نهاك عنه (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) يعني

٧٩٤

العصا (فَكَذَّبَ) بأنها من الله (وَعَصى) نبيّ الله وجحد نبوّته (ثُمَّ أَدْبَرَ) فرعون ، أي ولّى الدبر ليطلب ما يكسر به حجة موسى في المعجزة العظيمة ، فما ازداد إلّا غواية (يَسْعى) أي يعمل بالفساد في الأرض (فَحَشَرَ) أي فجمع قومه وجنوده (فَنادى) فيهم (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أي لا ربّ فوقي (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) نكال مصدر مؤكّد ، لأن معنى أخذه الله : نكل به نكال الآخرة والأولى ، بأن أغرقه في الدنيا ، ويعذّبه في الآخرة (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي فعل بفرعون حين كذب وعصى (لَعِبْرَةً) أي لعظة (لِمَنْ يَخْشى) الله تعالى ، ويخاف عقابه ونقمته ، ودلالة يمكن أن يعتبر بها العاقل ويميّز بين الحق والباطل.

٢٧ ـ ٤٦ ـ لما قدّم سبحانه ما أتى به موسى وما قابله به فرعون ، وما عوقب به في الدارين عظة لمن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحذيرا لهم من المثلات ، خاطب عقيب ذلك منكري البعث فقال (أَأَنْتُمْ) أيّها المشركون المنكرون للبعث (أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) يعني أخلقكم بعد الموت أشدّ عندكم وفي تقديركم أم السماء؟ وهما في قدرة الله تعالى واحد ، وهذا كقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ). ثمّ ابتدأ فبيّن سبحانه كيف خلق السماء فقال (بَناها) الله تعالى الذي لا يكبر عليه خلق شيء (رَفَعَ سَمْكَها) سقفها وما ارتفع منها (فَسَوَّاها) بلا شقوق ولا فطور ولا تفاوت وقيل : أحكمها وجعلها متصرفا للملائكة (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أي أظلم ليلها ، عن ابن عباس (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أبرز نهارها وإنما أضاف الليل والضحى إلى السماء لأن منها منشأ الظلام والضياء بغروب الشمس وطلوعها على ما دبّرها الله عزوجل (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي بعد خلق السماء بسطها من الدحو وهو البسط قال ابن عباس : إنّ الله تعالى دحا الأرض بعد السماء وإن كانت الأرض خلقت قبل السماء ، وكانت ربوة مجتمعة تحت الكعبة فبسطها (أَخْرَجَ مِنْها) أي الأرض (ماءَها) والمعنى : فجّر الأنهار والبحار والعيون (وَمَرْعاها) مما يأكل الناس والأنعام. بيّن سبحانه بذلك جميع المنافع المتعلقة بالأرض من المياه التي بها حياة كل شيء من الحيوانات والأشجار والثمار والحبوب والعيون ، وبها يحصل جميع الأرزاق والنبات التي تصلح للمواشي ، فهي ترعاه بأن تأكله في موضعه (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي أثبتها في أوساط الأرض (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي خلق سبحانه الأرض وأخرج منها المياه والمراعي ، وأثبت الجبال بما فيها من أنواع المعادن لمنفعتكم ومنفعة أنعامكم تنتفعون بها ، ولما دلّ سبحانه بهذه الأشياء على صحة البعث وصف يوم البعث فقال (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) وهي القيامة لأنها تطم على كل داهية هائلة ، أي تعلو وتغلب ، ومن ذلك يقال : ما من طامة إلّا وفوقها طامة ، والقيامة فوق كل طامة ، فهي الداهية العظمى قال الحسن هي النفخة الثانية وقيل هي الغاشية الغليظة المجللة التي تدفق الشيء بالغلظ وقيل : إن ذلك حين يساق أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) أي تجيء الطامة في يوم يتذكر الإنسان ما عمله من خير أو شر (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي أظهرت النار (لِمَنْ يَرى) فيراها الخلق مكشوفا عنها الغطاء ، ويبصرونها مشاهدة (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي تجاوز الحد الذي حدّه الله له وارتكب المعاصي (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على الآخرة (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) له ، والإيثار : إرادة الشيء على طريقة التفضيل له على غيره (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي خاف مقام مسألة ربه عما يجب عليه فعله أو تركه (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي عن المحارم التي تشتهيها وتهواها وقيل : ان الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر

٧٩٥

مقامه للحساب فيتركها عن مقاتل (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) له ، أي هي مقرّه ومأواه. ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي متى يكون قيامها على ما وصفتها (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي لست في شيء من علمها وذكراها والمعنى : لا تعلمها. قال الحسن : أي ليس عندك علم بوقتها ، وإنما تعلم أنها تكون لا محالة (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي قل لهم : إلى الله اجراؤها ، والمنتهى : موضع بلوغ الشيء ، فكأنّه قيل : إلى أمر ربك منتهى أمرها بإقامتها ، لأن منتهى أمرها بذكرها ووصفها والإقرار بها إلى الرسول ، ومنتهى أمرها بإقامتها إلى الله ، لا يقدر عليها إلا هو سبحانه وقيل معناه : إلى ربك منتهى علمها ، أي لا يعلم وقتها إلا هو (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي إنما أنت مخوف من يخاف قيامها ، أي إنما ينفع انذارك من يخافها ، فأما من لا يخشاها فكأنك لم تنذره (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها) أي يعاينون القيامة (لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي إلّا قدر آخر نهار وأوله ومثله : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) ، وقد مرّ بيانه وقيل : ان معناه : انهم إذا رأوا الآخرة صغرت الدنيا في أعينهم حتى كأنهم لم يقيموا بها إلا عشية ، أو مقدار ضحى تلك العشية.

سورة عبس

مكية وآياتها اثنتان وأربعون آية

النزول

قيل نزلت الآيات في عبد الله بن أم مكتوم ، وذلك أنه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبيّا وأمية ابني خلف ، يدعوهم إلى الله ، ويرجو إسلامهم فقال : يا رسول الله اقرئني وعلمني مما علمك الله ، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقطعه كلامه. قال المرتضى علم الهدى قدس الله روحه : ليس في ظاهر الآية دلالة على توجهها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه ، وفيها ما يدل على أن المعني بها غيره ، لأن العبوس ليس من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين ، ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة ، ويؤيد هذا القول قوله سبحانه في وصفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ، فالظاهر أن قوله (عَبَسَ وَتَوَلَّى) المراد به غيره ، وقد روي عن الصادق عليه‌السلام أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه ، وجمع نفسه وعبس واعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.

١ ـ ٢٣ ـ (عَبَسَ) أي بسر وقبض وجهه (وَتَوَلَّى) أي أعرض بوجهه (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) أي لأن جاءه الأعمى (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ) أي لعل هذا الأعمى (يَزَّكَّى) يتطهر بالعمل الصالح وما يتعلمه منك (أَوْ يَذَّكَّرُ) أي يتذكر فيتّعظ بما يعلمه من مواعظ القرآن (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) في دينه (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) أي من كان عظيما في قومه واستغنى بالمال (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي تتعرض له ، وتقبل عليه بوجهك (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي أي شيء يلزمك ان لم يسلم ولم يتطهر من الكفر فإنه ليس عليك إلّا البلاغ (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) أي

٧٩٦

يعمل في الخير (وَهُوَ يَخْشى) الله عزوجل (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي تتغافل وتشتغل عنه بغيره (كَلَّا) أي لا تعد لذلك وانزجر عنه (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي انّ آيات القرآن تذكير وموعظة للخلق (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي ذكر التنزيل أو القرآن أو الوعظ والمعنى : فمن شاء أن يذكره ذكره ؛ وفي هذا دلالة على أن العبد قادر على الفعل ، مخيّر فيه ، ثم أخبر سبحانه بجلالة قدر القرآن عنده فقال (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) أي هذا القرآن ، أو هذه التذكرة في كتب معظمة عند الله وهي اللوح المحفوظ (مَرْفُوعَةٍ) في السماء السابعة (مُطَهَّرَةٍ) لا يمسها إلّا المطهرون (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) يعني الكتبة من الملائكة ؛ وروى فضيل بن يسار عن الصادق عليه‌السلام قال : الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة ؛ ثم أثنى عليهم فقال (كِرامٍ) على ربهم (بَرَرَةٍ) مطيعين وقيل : كرام عن المعاصي يرفعون أنفسهم عنها بررة : أي صالحين متقين ، وقال مقاتل : كان القرآن ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر إلى الكتبة من الملائكة ثم ينزل به جبريل عليه‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثم ذكر سبحانه المكذبين بالقرآن فقال (قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي عذب ولعن الإنسان ، وهو إشارة إلى كل كافر (ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشدّ كفره وما أبين اضلاله ، وهذا تعجب منه كأنّه قد قال : تعجبوا منه ومن كفره مع كثرة الشواهد على التوحيد والإيمان ثم بيّن سبحانه من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خالقه فقال (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) معناه : لم لا ينظر إلى أصل خلقته من أيّ شيء خلقه الله ليدلّه على وحدانية الله تعالى ؛ ثم فسّر فقال (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أطوارا : نطفة ، ثم علقة ، إلى آخر خلقه ، وعلى حدّ معلوم من طوله وقصره وسمعه وبصره وحواسه وأعضائه ، ومدة عمره ورزقه وجميع أحواله (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي ثم يسر سبيل الخروج من بطن أمه حتى خرج منه ، وذلك ان رأسه كان إلى رأس أمه وكذلك رجلاه كانتا إلى رجليها ، فقلبه الله عند الولادة ليسهل خروجه منها وقيل : (ثُمَّ السَّبِيلَ) ، أي سبيل الدين يسره ، وطريق الخير والشرّ بيّن له وخيّره ومكّنه من فعل الخير ، واجتناب الشر ونظيره : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (ثُمَّ أَماتَهُ) أزال عنه حياته (فَأَقْبَرَهُ) أي صيّره بحيث يقبر (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي أحياه من قبره وبعثه إذا شاء تعالى أن يحييه للجزاء والحساب والثواب والعقاب (كَلَّا) أي حقا (لَمَّا يَقْضِ) أي لم يقض (ما أَمَرَهُ) الله به من إخلاص عبادته ، ولم يؤدّ حق الله تعالى عليه مع كثرة نعمه.

٢٤ ـ ٤٢ ـ لمّا ذكر سبحانه خلق ابن آدم ، ذكر رزقه ليعتبر فقال (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) الذي يأكله ويتقوته من الأطعمة الشهية اللذيذة كيف خلقها سبحانه وهيّأها لرزق عباده ليفكر كيف مكّنه من الانتفاع بذلك ؛ ثم بيّن فقال (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أي نزلنا الغيث إنزالا (ثُمَّ) (شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) بالنبات (فَأَنْبَتْنا فِيها) أي في الأرض (حَبًّا) أي جنس الحبوب التي يتغذى بها وتدخر (وَعِنَباً) خصّ العنب لكثرة منافعه (وَقَضْباً) وهو القت الرطب يقضب مرة بعد أخرى يكون علفا للدواب (وَزَيْتُوناً) وهو ما يعصر عنه الزيت (وَنَخْلاً) جمع نخلة (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي وبساتين محوطة تشتمل على أشجار عظام غلاظ مختلفة (وَفاكِهَةً) يعني سائر ألوان الفواكه (وَأَبًّا) وهو المرعى والكلأ الذي لم يزرعه الناس مما تأكله الأنعام (مَتاعاً) أي منفعة (لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) مرّ معناه ؛ ثم ذكر يوم القيامة فقال (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) يعني صيحة القيامة ، سميت بذلك لأنها تصخ الآذان ، أي تبالغ في اسماعها حتى تكاد تصمها ثم ذكر سبحانه في أيّ وقت تجيء الصاخة فقال (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ) أي وزوجته (وَبَنِيهِ) أي أولاده الذكور ، أي لا يلتفت إلى

٧٩٧

واحد من هؤلاء لعظم ما هو فيه وشغله بنفسه وإن كان في الدنيا يعتني بشأنهم ، وقيل : يفرّ منهم حذرا من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التبعات والمظالم وقيل : لعلمه بأنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا ، ويجوز أن يكون مؤمنا وأقرباؤه من أهل النار فيعاديهم ولا يلتفت إليهم ، أو يفرّ منهم لئلا يرى ما نزل بهم من الهوان (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي لكل إنسان منهم أمر عظيم يشغله عن الأقرباء ويصرفه عنهم ، ومعنى يغنيه : يكفيه من زيادة عليه ، أي ليس فيه فضل لغيره لما هو فيه من الأمر الذي قد اكتنفه وملأ صدره فصار كالغني عن الشيء في أمر نفسه لا ينازع إليه ؛ وروي عن عطاء بن يسار عن سودة زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يبعث الناس عراة حفاة غرلا يلجمهم العرق ويبلغ شحمة الآذان قالت : قلت : يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ قال : شغل الناس عن ذلك ، وتلا رسول الله (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). ثم قسّم سبحانه أحوال الناس في ذلك اليوم فقال (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) أي مشرقة مضيئة (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) من سرورها وفرحها بما أعدّ لها من الثواب ، وأراد بالوجوه أصحاب الوجوه (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي سواد وكآبة للهمّ (تَرْهَقُها) أي تعلوها وتغشاها (قَتَرَةٌ) أي سواد أو كسوف عند معاينة النار وقيل : إن الغبرة ما انحطت من السماء إلى الأرض ، والقترة ما ارتفعت من الأرض إلى السماء عن زيد بن أسلم (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ) في أديانهم (الْفَجَرَةُ) في أفعالهم واستدلت الخوارج بذلك على أن من ليس بمؤمن لا بدّ أن يكون كافرا فإن الله سبحانه قسم الوجوه هذين القسمين ولا تعلّق لهم به لأنه سبحانه ذكر هنا قسمين من الوجوه متقابلين : وجوه المؤمنين ووجوه الكفار ، ولم يذكر وجوه الفساق من أهل الصلاة ، فيجوز أن يكون لها صفة أخرى بأن يكون عليها غبرة لا تغشاها قترة ، أو يكون عليها صفرة أو لون آخر.

سورة التكوير

مكية وآياتها تسع وعشرون آية

١ ـ ١٤ ـ أخبر الله سبحانه عن القيامة وشدائدها فقال (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أي ذهب ضوءها ونورها فأظلمت واضمحلت ، عن ابن عباس وأبي ومجاهد وقتادة ، وقيل : ألقيت ورمي بها ، عن أبي صالح والربيع بن خثيم ، وقيل : جمع ضوؤها ولفّت كما تلفّ العمامة ، عن الزجاج والمعنى : الشمس تكور بأن يجمع نورها حتى تصير كالكارة الملقاة ويذهب ضوؤها ، ويحدث الله تعالى للعباد ضياء غيرها (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي تساقطت وتناثرت عن مجاهد وقتادة والربيع بن خثيم يقال : انكدر الطائر من الهواء إذا انقض ، وقيل : تغيّرت من الكدورة ، عن الجبائي ، والأول أولى لقوله : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) ، إلا أن تقول : يذهب ضؤوها ثم تتناثر (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) عن وجه الأرض فصارت هباء منبثّا وسرابا (وَإِذَا الْعِشارُ) وهي النوق الحوامل أتت عليها عشرة أشهر وبعد الوضع تسمى عشارا أيضا ، وهي أنفس مال عند العرب (عُطِّلَتْ) أي تركت هملا بلا راع (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي جمعت حتى يقتص لبعضها من بعض ، فيقتص للجماء من القرناء ؛ ويحشر الله سبحانه الوحوش ليوصل إليها ما تستحقه من الأعواض على الآلام التي نالتها في الدنيا ، وينتصف لبعضها من بعض (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي أوقدت فصارت نارا تضطرم (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي قرنت نفوس الصالحين من المؤمنين بالحور العين ، وقرنت

٧٩٨

نفوس الكافرين بالشياطين (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) يعني الجارية المدفونة حية ، وكانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها ، فإن ولدت بنتا رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاما حبسته ، عن ابن عباس (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) ان الموؤدة تسأل فيقال لها : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) ، ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها لأنها تقول : قتلت بغير ذنب (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) يعني صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال أهلها من خير وشرّ تنشر ليقرأها أصحابها ، ولتظهر الأعمال فيجازوا بحسبها (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) أي أزيلت عن موضعها كالجلد يزال عن الجزور ، ثم يطويها الله ، وقيل معناه : قلعت كما يقلع السقف ، عن الزجاج (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أوقدت وأضرمت حتى ازدادت شدة على شدة (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي قربت بما فيها من النعيم فيزداد المؤمن سرورا ، ويزداد أهل النار حسرة (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي ما أحضرته من خير وشر.

١٥ ـ ٢٩ ـ ثم أكّد سبحانه ما تقدّم بالقسم فقال (فَلا أُقْسِمُ) أي فأقسم (بِالْخُنَّسِ) وهي النجوم تخنس بالنهار وتبدو بالليل (الْجَوارِ) صفة لها لأنها تجري في أفلاكها (الْكُنَّسِ) من صفتها أيضا لأنها تكنس : أي تتوارى في بروجها كما تتوارى الظباء في كناسها وهي خمسة أنجم : زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي إذا أدبر بظلامه عن علي عليه‌السلام (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي إذا أسفر وأضاء والمعنى : امتدّ ضوؤه حتى يصير نهارا (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هذا جواب القسم ، أي ان القرآن قول رسول كريم على ربه وهو جبرئيل ، وهو كلام الله تعالى أنزله على لسانه ، أي سمعه محمد من جبرئيل ولم يقله من قبل نفسه. ثم وصف جبرائيل عليه‌السلام فقال (ذِي قُوَّةٍ) أي فيما كلف وأمر به من العلم والعمل وتبليغ الرسالة (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) معناه : متمكن عند الله صاحب العرش وخالقه ، رفيع المنزلة ، عظيم القدر عنده كما يقال : فلان مكين عند السلطان ، والمكانة : القرب (مُطاعٍ ثَمَ) أي في السماء تطيعه ملائكة السماء (أَمِينٍ) أي على وحي الله ورسالاته إلى أنبيائه (وَما صاحِبُكُمْ) الذي يدعوكم إلى الله وإخلاص طاعته (بِمَجْنُونٍ) والمجنون : المغطى على عقله حتى لا يدرك الأمور على ما هي عليه للآفة الغامرة له (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرائيل عليه‌السلام على صورته التي خلقه الله تعالى عليها حيث تطلع الشمس ، وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي ليس هو على وحي الله تعالى وما يخبر به من الأخبار بمتهم ، فإن أحواله ناطقة بالصدق والأمانة (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) رجمه الله باللعنة والمعنى : وليس القرآن بقول شيطان رجيم ألقاه إليه كما قال المشركون : ان الشيطان يلقي إليه كما يلقي إلى الكهنة. ثم بكّتهم الله سبحانه فقال (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأيّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بيّنت لكم؟ عن الزجاج (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) معناه : ما القرآن إلّا عظة وتذكرة للخلق يمكنهم أن يتوصلوا به إلى الحق ،. والذكر : هو ضدّ السهو (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) على أمر الله وطاعته. ذكر سبحانه انه ذكر لجميع الخلق على العموم ثم خصّ المستقيم لأن المنفعة راجعة إليهم كما قال : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) انه خطاب للكفار والمراد : لا تشاؤون الإسلام إلّا أن يشاء الله أن يجبركم عليه ويلجأكم إليه ، ولكنه لا يفعل لأنه يريد منكم أن تؤمنوا اختيارا لتستحقوا الثواب ، ولا يريد أن يحملكم عليه.

٧٩٩

سورة الانفطار

مكية وآياتها تسع عشرة آية

١ ـ ١٩ ـ (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي انشقت وتقطعت ومثله : (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) الآية (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي تساقطت وتهافتت (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي فتح بعضها في بعض عذبها في ملحها وملحها في عذبها فصارت بحرا واحدا (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي قلب ترابها وبعث الموتى الذين فيها (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) وهذا كقوله سبحانه : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) ، وقد مرّ ذكره عن عبد الله بن مسعود قال : ما قدمت من خير أو شر ، وما أخرت من سنة حسنة استنّ بها بعده فله أجر من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، أو سنة سيئة عمل بها بعده فعليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ؛ ويؤيد هذا القول ما جاء في الحديث : ان سائلا قام على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأل فسكت القوم ، ثم ان رجلا أعطاه فأعطاه القوم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من استنّ خيرا فاستنّ به فله أجره ومثل أجور من اتبعه من غير منتقص من أجورهم ، ومن استنّ شرّا فاستنّ به فعليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم ، قال : فتلا حذيفة بن اليمان : ((عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)). (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي أيّ شيء غرّك بخالقك وخدعك وسوّل لك الباطل حتى عصيته وخالفته؟ وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما تلا هذه الآية قال : غرّه جهله. والكريم : هو المنعم الذي كل أفعاله إحسان وانعام لا يجرّ به نفعا ، ولا يدفع به ضررا وقيل : هو الذي يعطي ما عليه وما ليس عليه ، ولا يطلب ما له وقيل : إن من كرمه سبحانه انه لم يرض بالعفو عن السيئات حتى بدّلها بالحسنات وقيل للفضيل بن عياض : لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه فقال ما غرّك بربك الكريم ماذا كنت تقول له؟ قال : أقول غرّني ستورك المرخاة ، وقال يحيى بن معاذ : لو أقامني الله بين يديه فقال : ما غرّك بي؟ قلت : غرّني بك برّك بي سالفا وآنفا ، وعن بعضهم قال : غرّني حلمك ، وعن أبي بكر الوراق : غرّني كرم الكريم ؛ وانما قال سبحانه الكريم دون سائر أسمائه وصفاته لأنه كأنّه لقّنه الإجابة حتى يقول غرّني كرم الكريم وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : كم مغرور بالستر عليه ، ومستدرج بالإحسان إليه (الَّذِي خَلَقَكَ) من نطفة ولم تك شيئا (فَسَوَّاكَ) إنسانا تسمع وتبصر (فَعَدَلَكَ) أي جعلك معتدلا (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي في أيّ شبه من أب أو أم أو خال أو عم والمعنى : انه سبحانه يقدر على جعلك كيف شاء ولكنه خلقك في أحسن تقويم حتى صرت على صورتك التي أنت عليها لا يشبهك شيء من الحيوان وقيل : في أي صورة شاء من ذكر أو أنثى ، حسن أو دميم (كَلَّا) أي ليس الأمر كما تزعمون انه لا بعث ولا حساب مع وضوح الأمر فيه ، وقيام الدلالة عليه (بَلْ تُكَذِّبُونَ) معاشر الكفار (بِالدِّينِ) الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الإسلام (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) من الملائكة يحفظون عليكم ما تعملون من الطاعات والمعاصي. ثم وصف الحفظة فقال (كِراماً) على ربهم (كاتِبِينَ) يكتبون أعمال بني آدم (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) من خير وشرّ فيكتبونه عليكم ، لا يخفى عليهم من ذلك شيء وقيل : ان الملائكة تعلم ما يفعله العبد إما باضطرار وإما باستدلال وقيل معناه : يعلمون ما تفعلون من الظاهر دون الباطن ، وفي هذا دلالة على أن أفعال العبد حادثة جهتهم ، وإنهم المحدثون لها دونه تعالى والا فلا يصح قوله تفعلون (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) وهو الجنة. والأبرار : أولياء

٨٠٠