الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

١٥ ـ ١٩ ـ ثم عطف سبحانه على قصة موسى عليه‌السلام قصة داود وسليمان عليهم‌السلام فقال سبحانه (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) أي علما بالقضاء بين الخلق ، وبكلام الطير والدواب (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) أي اختارنا من بين الخلق بأن جعلنا أنبياء ، وبالمعجزة والملك والعلم الذي أتاناه ، وبالإنة الحديد ، وتسخير الشياطين والجن والإنس (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) في هذا دلالة على أن الأنبياء يورثون المال كتوريث غيرهم وهو قول الحسن (وَقالَ) سليمان مظهرا لنعمة الله وشاكرا إياها (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) ومنطق الطير : صوت يتفاهم به معانيها على صيغة واحدة ، بخلاف منطق الناس الذي يتفاهمون به المعاني على صيغ مختلفة ، ولذلك لم نفهم عنها مع طول مصاحبتها ، ولم تفهم هي عنا لأن افهامها مقصورة على تلك الأمور المخصوصة ، ولما جعل سليمان يفهم عنها كان قد علم منطقها (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل شيء يؤتى الأنبياء والملوك. وروى الواحدي بالإسناد عن محمد بن جعفر بن محمد عن أبيه عليه‌السلام قال : أعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والشياطين والدواب والطير والسباع (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي هذا فضل الله الظاهر الذي لا يخفى على أحد ، وهذا قول سليمان على وجه الإعتراف بنعم الله عليه (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) أي جمع له جموعه ، وكل صنف من الخلق جند على حدة بدلالة قوله (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) قال المفسرون : كان سليمان إذا أراد سفرا أمر فجمع له طوائف من هؤلاء الجنود على بساط ، ثم يأمر الريح فتحملهم بين السماء والأرض والمعنى : وحشر لسليمان جنوده : أي جمع له جموعه في مسير له (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يمنع أولهم على آخرهم عن ابن عباس ، ومعنى ذلك : أن على كل صنف من جنوده وزعة ترد أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ولا يتفرقوا كما تقوم الجيوش إذا كثرت بمثل ذلك ، وهو أن تدفع أخراهم ، وتوقف أولاهم (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) أي فسار سليمان وجنوده حتى إذا أشرفوا على واد وهو بالطائف (قالَتْ نَمْلَةٌ) أي صاحت بصوت خلق الله لها ، ولما كان الصوت مفهوما لسليمان عبّر عنه بالقول (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ) أي لا يكسرنكم (سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بحطمكم ووطئكم فإنهم لو علموا بمكانكم لم يطؤوكم. قال ابن عباس : فوقف سليمان بجنوده حتى دخل النمل مساكنه (فَتَبَسَّمَ) سليمان (ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) وسبب ضحك سليمان التعجب ، وذلك أن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجّب وضحك (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ) بأن علّمتني منطق النمل واسمعتني قولها من بعيد حتى أمكنني الكف ، وأكرمتني بالنبوة والملك (وَعَلى والِدَيَ) أي أنعمت على والدي بأن أكرمته بالنبوة وفصل الخطاب ، وألنت له الحديد ، وعلى والدتي بأن زوّجتها نبيّك ، وجعل النعمة عليها نعمة لله سبحانه عليه يلزمه شكرها (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي وفّقني لأن أعمل صالحا في المستقبل ترضاه (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) قال ابن عباس : يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين ، أي أدخلني في جملتهم ، وأثبت اسمي مع أسمائهم ، واحشرني في زمرتهم.

٢٠ ـ ٢٦ ـ ثم أخبر سبحانه عن سليمان فقال : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) أي طلبه عند غيبته (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أي ما للهدهد لا أراه؟ (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) معناه : أتأخر عصيانا

٥٠١

أم غاب لعذر وحاجة؟ (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) معناه : لأعذبنّه بنتف ريشه وإلقائه في الشمس (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) أي : لأقطعن حلقه عقوبة على عصيانه (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة تكون له عذرا في الغيبة (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي فلم يلبث سليمان إلا زمانا يسيرا حتى جاء الهدهد (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي اطّلعت على ما لم تطلع عليه ، وجئتك بأمر لم يخبرك به ولم يعلم به الأنس ، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك وهو قوله (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي بخبر صادق ، وعلم الإحاطة : وهو أن يعلم الشيء من جميع جهاته التي يمكن أن يعلم عليها تشبيها بالسور المحيط بما فيه. وسبأ : مدينة بأرض اليمن. وعن ابن عباس قال : سئل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سبأ فقال : هو رجل ولد له عشرة من العرب تيامن منهم ستة وتشأم أربعة ، فالذين تشأموا : لخم وجذام وغسان وعاملة ، والذين تيامنوا : كنذه والأشعرون والأزد ومذحج وحمير وأنمار ، ومن الأنمار خثعم وبجيلة (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) أي تتصرف فيهم بحيث لا يعترض عليها أحد (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وهذا إخبار عن سعة ملكها ، أي من كل شيء من الأموال وما يحتاج إليه الملوك من زينة الدنيا. وهي بلقيس بنت شرحبيل ملكة سبأ ، ولدها أربعون ملكا آخرهم أبوها شرحبيل (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي سرير أعظم من سريرك ، وكان مقدمه من ذهب مرصع بالياقوت الأحمر ، والزمرد الأخضر ، ومؤخره من فضة ، مكلل بألوان الجواهر (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي عبادتهم للشمس من دون الله (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي صرفهم عن سبيل الحق (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) كلام الهدهد قاله لقوم بلقيس حين وجدهم يسجدون لغير الله وقاله لسليمان عند عوده إليه استنكارا لما وجدهم عليه (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الخبء : الغيب وهو كل ما غاب عن الإدراك ، فالمعنى : يعلم غيب السماوات والأرض (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي يعلم السر والعلانية (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) العرش : سرير الملك الذي عظمه الله ورفعه فوق السماوات السبع ، وجعل الملائكة تحفّ به ، وترفع أعمال العباد إليه ، وتنشأ البركات من جهته ، فهو عظيم الشأن كما وصفه الله تعالى ، وهو أعظم خلق الله تعالى.

٢٧ ـ ٣١ ـ ولما سمع سليمان ما اعتذر به الهدهد في تأخّره (قالَ) عند ذلك (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ) في قولك الذي أخبرتنا به (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) وهذا ألطف وألين في الخطاب من أين يقول : أم كذبت ، ثم كتب سليمان كتابا وختمه بخاتمه ودفعه إليه فذلك قوله (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) يعني إلى أهل سبأ (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي استتر منهم قريبا بعد القاء الكتاب إليهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي ماذا يردّون من الجواب. فلما رأته بلقيس (قالَتْ) لقومها (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي الأشراف (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) قيل : كانت لها كوة مستقبلة للشمس ، تقع الشمس عند ما تطلع فيها ، فإذا نظرت إليها سجدت ، فجاء الهدهد إلى الكوة فسدّها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم ، فقامت تنظر فرمى الكتاب إليها ، فلما أخذت الكتاب جمعت الأشراف وهم يومئذ ثلاثمائة وإثنا عشر قيلا ثم قالت لهم : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) ، وصفته بالكريم لأنه صدّره ببسم الله الرحمن الرحيم ، وقيل : لأنه كان ممن يملك الإنس والجن والطير وقد كانت سمعت بخبر سليمان فسمته كريما لأنه من كريم ، رفيع الملك ، عظيم الجاه (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) معناه : ان الكتاب من سليمان ، وان المكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فإن هذا القدر جملة ما في الكتاب ، وأول من استفتح ببسم الله الرحمن الرحيم

٥٠٢

سليمان عليه‌السلام ولم تعرفه هي ولا قومها ، ومعناه : لا تترفعوا ولا تتكبروا عليّ ، وأتوني مسلمين منقادين طائعين لأمري فيما أدعوكم وقيل مسلمين أي مؤمنين بالله تعالى ورسوله ، مخلصين في التوحيد قال قتادة وكذا كانت الأنبياء تكتب كتبها موجزة مقصورة على الدعاء إلى الطاعة من غير بسط.

٣٢ ـ ٣٧ ـ ولما وقفت بلقيس على كتاب سليمان (قالَتْ) لأشراف قومها (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أي أشيروا عليّ بالصواب ، والفتيا والفتوى : الحكم بما فيه صواب بدلا من الخطأ ، وهو الحكم بما يعمل عليه ، فجعلت المشورة هنا فتيا (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) أي ما كنت ممضية أمرا (حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي تحضروني ، تريد إلّا بحضرتكم ومشورتكم ، وهذا ملاطفة منها لقومها في الإستشارة منهم لما تعمل عليه (قالُوا) لها في الجواب عن ذلك (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) أي أصحاب قوة وقدرة وأهل عدد (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي وأصحاب شجاعة شديدة (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي ان الأمر مفوّض إليك في القتال وتركه (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) أي ما الذي تأمريننا به لنمتثله ، فإن أمرت بالصلح صالحنا ، وإن أمرت بالقتال قاتلنا (قالَتْ) مجيبة لهم عن التعريض بالقتال (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة أهلكوها وخرّبوها (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر والمعنى : أنها حذرتهم مسير سليمان إليهم ، ودخوله بلادهم. وانتهى الخبر عنها وصدقها الله فيما قالت فقال : (وَكَذلِكَ) أي وكما قالت هي (يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ) أي إلى سليمان وقومه (بِهَدِيَّةٍ) أصانعه بذلك عن ملكي (فَناظِرَةٌ) أي فمنتظرة (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) بقبول أم ردّ ، وإنما فعلت ذلك لأنها عرفت عادة الملوك في حسن موقع الهدايا عندهم ، وكان غرضها أن يتبين لها بذلك أنه ملك أو نبي ، فإن قبل الهدية تبيّن أنه ملك وعندها ما يرضيه ، وان ردّها تبيّن أنه نبيّ ، قيل : أهدت له صفائح الذهب في أوعية من الديباج فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب ثم أمر به فألقي في الطريق ، فلما جاؤوا رأوه ملقى في الطريق في كل مكان ، فلما رأوا ذلك صغر في أعينهم ما جاؤوا به (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) أي فلمّا جاء الرسول سليمان (قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) أي تزيدونني مالا؟ وهذا استفهام انكار ، يعني أنه لا يحتاج إلى ما لهم (فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) أي ما أعطاني الله من الملك والنبوة والحكمة خير مما أعطاكم من الدنيا وأموالها (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) إذا أهدى بعضكم إلى بعض ، وأما أنا فلا أفرح بها ، أشار إلى قلة اكتراثه بأموال الدنيا ثم قال عليه‌السلام للرسول (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) بما جئت من الهدايا (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي لا طاقة لهم بها ، ولا قدرة لهم على دفعها (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً) أي من أرضها وملكها (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي ذليلون صغير والقدر ان لم يأتوني مسلمين. فلما ردّ سليمان الهدية علموا أنه نبيّ مرسل ، وأنه ليس كالملوك الذين يغترون بالمال.

٣٨ ـ ٤٤ ـ فلما رجع إليها الرسول ، وعرفت أنه نبيّ ، وأنها لا تقاومه ، فتجهّزت للمسير إليه ، وأخبر جبرائيل سليمان عليه‌السلام أنها خرجت من اليمن مقبلة إليه (قالَ) سليمان لأماثل جنده ، وأشراف عسكره (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أراد أن يجعل ذلك دليلا ومعجزة على صدقه ونبوته ، لأنها خلفته في دارها وأوثقته ، ووكلت به ثقات قومها يحرسونه ويحفظونه وقوله مسلمين ، انه أراد مؤمنين موحّدين (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) أي مارد قوي داهية (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي من مجلسك

٥٠٣

الذي تقضي فيه (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي وإني على حمله لقويّ ، وعلى الإتيان به في هذه المدة قادر ، وعلى ما فيه من الذهب والجواهر أمين ، فقال سليمان : أريد أسرع من ذلك ، فعند ذلك (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) وهو آصف بن برخيا وكان وزير سليمان وابن أخته ، وكان صدّيقا يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وقيل : إن ذلك الإسم الله ، والذي يليه الرحمن ، وقيل : هو يا حيّ يا قيّوم وقيل : هو يا ذا الجلال والإكرام وقيل : انه قال : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ، وقيل : إنّ الذي عنده علم من الكتاب كان رجلا من الإنس ، يعلم اسم الله الأعظم ، اسمه (بلخيا) عن مجاهد ، وقيل : الخضر (ع) ، عن أبي لهيعة ، وقيل إنّ الذي عنده علم من الكتاب هو جبرائيل (ع) ، أذن الله له في طاعة سليمان عليه‌السلام ، وأما الكتاب المعروف في الآية بالألف واللام أراد به جنس كتب الله المنزلة على أنبيائه وليس المراد به كتابا بعينه (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) ارتداد الطرف : ادامة النظر حتى يرتد طرفه خاسئا ، والمعنى : حتّى يرتد إليك طرفك بعد مدّه إلى السماء. قال الكلبي : خرّ آصف ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان ، وذلك أن الملائكة حملته بأمر الله تعالى (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) أي فلما رأى سليمان العرش محمولا إليه ، موضوعا بين يديه في مقدار رجع البصر (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي من نعمته عليّ ، وإحسانه لديّ ، لأن تيسير ذلك وتسخيره مع صعوبته وتعذره معجزة له ، ودلالة على علوّ قدره وجلالته ، وشرف منزلته عند الله تعالى (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) أي ليختبرني هل أقوم بشكر هذه النعمة أم أكفر بها (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن عائدة شكره ومنفعته ترجعان إليه ، وتخصانه دون غيره وهذا مثل قوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عن شكر العباد ، غير محتاج إليه ، بل هم المحتاجون إليه لما لهم فيه من الثواب والأجر (كَرِيمٌ) أي متفضل على عباده شاكرهم وكافرهم ، عاصيهم ومطيعهم ، لا يمنعه كفرهم وعصيانهم من الافضال عليهم ، والإحسان إليهم (قالَ) سليمان (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) أي غيّروا سريرها إلى حال تنكرها إذا رأته ، وأراد بذلك اعتبار عقلها على ما قيل (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أي أتهتدي إلى معرفة عرشها بفطنتها بعد التغيير أم لا تهتدي إلى ذلك (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) فلم تثبته ولم تنكره ، ودلّ ذلك على كمال عقلها حيث لم تقل لا إذ كان يشبه سريرها لأنها وجدت فيه ما تعرفه ، ولم تقل نعم إذ وجدت فيه ما غيّر وبدّل ، ولأنها خلّفته في بيتها (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) بصحة نبوة سليمان (مِنْ قَبْلِها) أي من قبل الآية في العرش (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) طائعين لأمر سليمان (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي منعها عبادة الشمس عن الإيمان بالله تعالى (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أي من قوم يعبدون الشمس قد نشأت فيما بينهم ، فلم تعرف إلا عبادة الشمس (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) والصرح : هو الموضع المنبسط المنكشف من غير سقف ؛ وذكر أن سليمان لما أقبلت صاحبة سبأ أمر الشياطين ببناء الصرح وهو كهيئة السطح المنبسط من قوارير أجرى تحته الماء ، وجمع في الماء الحيتان والضفادع ودواب البحر ، ثم وضع له فيه سرير فجلس عليه ، وإنما أمر سليمان عليه‌السلام بالصرح لأنه أراد أن يختبر عقلها ، وينظر هل تستدل على معرفة الله تعالى بما ترى من هذه الآية العظيمة (فَلَمَّا رَأَتْهُ) أي رأت بلقيس الصرح (حَسِبَتْهُ لُجَّةً) وهي معظم الماء (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لدخول الماء (قالَ) لها سليمان (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي مملس (مِنْ قَوارِيرَ) وليس بماء. ولما رأت سرير سليمان والصرح (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالكفر الذي كنت عليه (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ

٥٠٤

لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فحسن إسلامها ، وقيل : انها لما جلست دعاها سليمان الى الإسلام وكانت قد رأت الآيات والمعجزات ، فأجابته وأسلمت وزوّجها من ملك يقال له تبع وردّها الى أرضها.

٤٥ ـ ٥٣ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ) في النسب (صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي أرسلناه بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي مؤمنون وكافرون يقول كل فريق : الحق معي (قالَ) صالح للفريق المكذب (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي بالعذاب قبل الرحمة ، أي لم قلتم : ان كان ما أتيتنا به حقا فأتنا بالعذاب؟ وسمي العذاب سيئة لما فيه من الآلام ولأنه ، جزاء على السيئة لأن السيئة هي الخصلة التي تسوء صاحبها (لَوْ لا) أي هلا (تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) أي تطلبون مغفرته من الشرك بأن تؤمنوا (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فلا تعذّبون في الدنيا (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي تشأمنا بك وبمن على دينك ، وذلك أنهم قحط المطر عنهم وجاعوا فقالوا : أصابنا هذا الشرّ من شؤمك وشؤم أصحابك (قالَ) لهم صالح (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي الشوم أتاكم من عند الله بكفركم ، وهذا كقوله : (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي تختبرون بالخير والشر عن ابن عباس وقيل : تعذبون بسوء أعمالكم عن محمد بن كعب وقيل : تبتلون وتمتحنون بطاعة الله ومعصيته (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) يعني التي بها صالح وهي الحجر (تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) كانت هذه التسعة النفر من أشرافهم وهم غواة قوم صالح ، وهم الذين سعوا في عقر الناقة (وَلا يُصْلِحُونَ) أي لا يطيعون الله تعالى ، وذكر ابن عباس أسماءهم وقال : هم قدار بن سالف ومصدع ودهمي ودهيم ودعمي ودعيم وأسلم وقتال وصداف (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ) أي قالوا فيما بينهم : احلفوا بالله (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي لنقتلن صالحا (وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) أي لذي رحم صالح ان سألنا عنه (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) أي ما قتلناه وما ندري من قتله وأهلكه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في هذا القول. قال الزجاج : كان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحا وأهله ثم ينكروا عند أوليائه أن يكونوا فعلوا ذلك أو رأوه ، وكان هذا مكرا عزموا عليه. قال الله تعالى (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) أي جازيناهم جزاء مكرهم بتعجيل عقوبتهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بمكر الله بهم ، فإنهم دخلوا على صالح ليقتلوه فأنزل الله سبحانه الملائكة فرموا كل واحد منهم بحجر حتى قتلوهم وسلم صالح من مكرهم عن ابن عباس ، وقيل : ان الله أمر صالحا بالخروج من بينهم. ثم استأصلهم بالعذاب وقيل : نزلوا في سفح جبل ينظر بعضهم بعضا ليأتوا صالحا فخرّ عليهم الجبل ، عن مقاتل (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) أي أهلكناهم بما ذكرناه من العذاب (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) بصيحة جبرائيل (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ) أشار إلى بيوتهم والمعنى : فانظر إليها (خاوِيَةً) نصب على الحال ، أي فارغة خالية (بِما ظَلَمُوا) أي بظلمهم وشركهم بالله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إهلاكهم (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لعبرة لمن نظر إليها واعتبر بها. وفي هذه الآية دلالة على أن الظلم يعقب خراب الدور ، وروي عن ابن عباس أنه قال : أجد في كتاب الله أن الظلم يخرب البيوت وتلا هذه الآية. وقيل : ان هذه البيوت بوادي القرى بين المدينة والشام (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) به (وَكانُوا يَتَّقُونَ) قالوا : انهم أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت ، وسمي حضرموت لأن صالحا لما دخلها مات.

٥٤ ـ ٥٩ ـ ثم ذكر سبحانه قصة لوط عاطفا بها على ما تقدّم فقال (وَلُوطاً) أي وأرسلنا لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) منكرا

٥٠٥

عليهم أفعالهم (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) يعني الخصلة القبيحة الشنيعة الظاهرة القبح ، وهي اتيان الذكران في أدبارهم (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي تعلمون أنها فاحشة وقيل معناه : وأنتم يرى بعضكم ذلك من بعض. ثم بيّن سبحانه الفاحشة التي يأتونها فقال : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) اللاتي خلقهن الله لكم (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي تفعلون أفعال الجهال. قال ابن عباس : تجهلون القيامة وعاقبة العصيان (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) عن اتيان الرجال في أدبارهم (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها) أي جعلناها (مِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في العذاب (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) وهو الحجارة (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) الذين أبلغهم لوط النذارة ، وأعلمهم بموصع المخافة ليتّقوها فخالفوا ذلك. ثم قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قُلِ) يا محمد (الْحَمْدُ لِلَّهِ) شكرا على نعمه بأن وفّقنا للإيمان وقيل : الحمد لله على هلاك الأمم الكافرة (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أي اصطفاهم الله واجتباهم واختارهم على بريته وهم الأنبياء ، عن مقاتل ، وقيل هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ابن عباس والحسن وقيل : هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن علي بن إبراهيم. ثم قال سبحانه مخاطبا للمشركين (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) يا أهل مكة ، يعني الله خير لمن عبده أم الأصنام لعابديها؟ وهذا الزام للحجة على المشركين بعد ذكر هلاك الكفار ، والمعنى : ان الله تعالى نجّى من عبده من الهلاك ، والأصنام لم تغن شيئا عن عابديها عند نزول العذاب ، وإنّما قال ذلك لأنهم توهموا في عبادة الأصنام خيرا.

٦٠ ـ ٦٥ ـ ثم عدّد سبحانه الدلائل على توحيده ونعمه الشاملة لعبيده فقال : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وتقديره : أما تشركون خير أم من خلق السموات والأرض؟ أي أنشأهما واخترعهما (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي غيثا ومطرا لكم أي لمنافعكم ولأجل معاشكم. عرّفهم سبحانه ان غيره لا يقدر على ذلك (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) أي رياضا وبساتين ، وما لم يكن عليه حائط لا يقال له حديقة (ذاتَ بَهْجَةٍ) اي ذات منظر حسن يبتهج به من رآه ولم يقل ذوات بهجة لأنه أراد تأنيث الجماعة ، ولو أراد تأنيث الأعيان لقال : ذوات وقال الشاعر :

وسوف يعقبنيه إن ظفرت به

ربّ كريم وبيض ذات أطهار

(ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) ما هنا للنفي ، أي لم يكونوا يقدرون على انبات شجرها (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) وهذا استفهام انكار معناه : هل معه معبود سواه أعانه على صنعه (بَلْ) ليس معه إله (هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) يشركون بالله غيره. يعني كفار مكة (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي مستقرة لا تميل ولا تميد بأهلها ويقال للروضة المنخفضة قرارة ، ومنه حديث ابن عباس قال : علمي في علم علي عليه‌السلام كالقرارة في المثعنجر ، أي كالغدير في البحر. والبرهان : البيان بحجّة (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) أي وجعل وسط الأرض وفي مسالكها ونواحيها أنهارا جارية ينبت بها الزرع ، ويحيا بها الخلق (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت أثبت بها الأرض (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) أي مانعا من قدرته بين العذب والملح فلا يختلط أحدهما بالآخر (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) توحيد ربهم وكمال قدرته وسلطانه (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) أي يجيب المكروب المجهود فيكشف ضرّه وكربه ، واجابة دعاء المضطر هي فعل ما يدعو به وهذا لا يكون إلا من قادر على الإجابة مختار لها ؛ ورأس المضطرين المذنب الذي يدعوه ويسأله المغفرة ، ومنهم

٥٠٦

الخائف الذي يسأله الأمن ، والمريض الذي يطلب العافية ، والمحبوس الذي يطلب الخلاص ، فإن الكل إذا ضاق بهم الأمر فزعوا إلى ربّ العالمين وأكرم الأكرمين ؛ وإنّما خصّ المضطر وإن كان قد يجيب غير المضطر لأن رغبته أقوى ، وسؤاله أخضع (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) أي يدفع الشدة وكل ما يسوء (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) يجعلكم خلفاء من الكفار بنزول بلادهم ، وطاعة الله تعالى بعد شركهم وعنادهم (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي قليلا ما تتعظون (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي أما تشركون خير أم من يرشدكم إلى القصد والسمت في البر والبحر بما نصب لكم من الدلالات من الكواكب والقمر إذا ضللتم؟ وهو كقوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) قد مضى تفسيره ووجوه القراآت فيه (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي جلّ وتنزّه عن الشريك كما يزعمه المشركون (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بأن يخترعه ويوجده وينشئه على غير مثال واحتذاء ، ثم يميته ويفنيه (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد الإفناء ؛ وإنما قال ذلك لأنهم أقرّوا بأنه الخالق فيلزمهم الإقرار بالبعث من حيث أن من قدر على الإنشاء قدر على الإعادة (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بإنزال المطر ، وبإخراج الثمار والنبات (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يقدر على ذلك (قُلْ) لهم يا محمد (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي حجتكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ان لي شريكا صنع شيئا من هذه الأشياء ، فإذا لم يقدروا على إقامة البرهان على ذلك فاعلموا أنه لا إله معي ، ولا يستحق العبادة سواي (قُلْ) يا محمد (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والانس والجن (الْغَيْبَ) وهو ما غاب علمه عن الخلق مما يكون في المستقبل (إِلَّا اللهُ) وحده أو من أعلمه الله تعالى (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي متى يحشرون يوم القيامة. دلّ سبحانه بهذه الآية كما دلّ بما تقدّمها على قدرته.

٦٦ ـ ٧٥ ـ لما أخبر سبحانه عن الكفار أنهم لا يشعرون متى يبعثون ، وأنهم شاكون ، عقّبه بأنهم يعلمون حقيقة ذلك يوم القيامة فقال : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي تتابع منهم العلم وتلاحق حتى كمل علمهم في الآخرة بما أخبروا به في الدنيا فهو على لفظ الماضي ، والمراد به الاستقبال ، أي يتدارك ، ومن قرأ أدرك فمعناه : سيدرك علمهم هذه الأشياء في الآخرة حين لا ينفعهم اليقين (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) في الدنيا عن ابن عباس ، والمعنى : ان ما جهلوه في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة وقيل معناه : اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكّوا ولم يختلفوا عن السدي ، وقال مقاتل : يقول بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا وعموا عنه في الدنيا وقيل : إن هذا على وجه الإستفهام فحذف الألف والمراد به النفي بمعنى انه لم يدرك علمهم بالآخرة ولم يبلغها علمهم وقيل معناه : أدرك هذا العلم جميع العقلاء لو تفكروا ونظروا لأن العقل يقتضي ان الاهمال قبيح فلا بدّ من تكليف ، والتكليف يقتضي الجزاء وإذا لم يكن ذلك في الدنيا فلا بدّ من دار للجزاء وقيل : إن الآية اخبار عن ثلاث طوائف : طائفة أقرّت بالبعث وطائفة شكت فيه ، وطائفة نفته (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي عن معرفتها ، وهو جمع عمى وهو الأعمى القلب لتركه التدبر والنظر (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بإنكارهم البعث (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) من القبور مبعوثون ، يقولون ذلك على طريق الإستبعاد والإستنكار (لَقَدْ وُعِدْنا هذا) البعث (نَحْنُ) فيما مضى (وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي ووعد آباؤنا ذلك من قبلنا فلم يكن مما قالوه شيء (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها (قُلْ) يا محمد (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) الذين كفروا بالله وعصوه ، أي كيف أهلكهم الله وخرب ديارهم (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على تكذيبهم وتركهم

٥٠٧

الإيمان (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ) وهو ما يضيق به الصدر (مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي يدبّرون في أمرك فإن الله تعالى يحفظك وينصرك عليهم (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدنا يا محمد من العذاب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بأنه يكون (قُلْ) يا محمد (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) أي قرب لكم عن ابن عباس وقيل : أقرب لكم ، عن السدي وقيل : أردف لكم عن قتادة (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) من العذاب ، وعسى من الله واجب ، فمعناه : أنه قرب منكم وسيأتيكم ، وهذا البعض الذي دنا لهم القتل والأسر يوم بدر وسائر العذاب لهم فيما بعد الموت وقيل : هو الإنذار عند الموت وشدته وعذاب القبر ، عن الجبائي (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بضروب النعم الدينية والدنيوية وقيل : بإمهالهم ليتوبوا ، والفضل : هو الزيادة من الله تعالى للعبد على ما يستحقه بشكره ، والعدل : حقّ للعبد ، والفضل فيه واقع من الله تعالى إلا انه على ما يصحّ وتقتضيه الحكمة (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) نعمه (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أي تخفيه وتستره (وَما يُعْلِنُونَ) أي ويعلم ما يظهرونه أيضا (وَما مِنْ غائِبَةٍ) أي من خصلة غائبة (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) يعني جميع ما أخفاه عن خلقه وغيبه عنهم (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي إلّا وهو مبين في اللوح المحفوظ وقيل : أراد أن جميع أفعالهم محفوظة عنده غير منسية كما يقول القائل : أفعالك عندي مكتوبة ، أي محفوظة عن أبي مسلم والجبائي.

٧٦ ـ ٨٥ ـ ثم ذكر سبحانه من الحجج ما يقوّي قلب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي يخبرهم بالصدق (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من حديث مريم وعيسى ، والنبي المبشر به في التوراة حيث قال بعضهم : هو يوشع وقال بعضهم لا بل هو منتظر لم يأت بعد ، وغير ذلك من الأحكام ؛ وكان ذلك معجزة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كان لا يدرس كتبهم ولا يقرؤها ثم أخبرهم بما فيها (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (لَهُدىً) أي دلالة على الحق (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي نعمة لهم (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) يريد بين المختلفين في الدين يوم القيامة ، وأشار بذلك إلى شيئين (أحدهما) ان الحكم له فلا ينفذ حكم غيره ، فيوصل إلى كل ذي حقّ حقّه (والآخر) أنه وعد المظلوم بالإنتصاف من الظالم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر على ما يشاء لا يمتنع عليه شيء (الْعَلِيمُ) بالمحق والمبطل ، فيجازي كلّا بحسب عمله. وفي هذه الآية تسلية للمحقين من الذين خولفوا في أمور الدين ، وان أمرهم يؤول إلى أن يحكم بينهم رب العالمين. ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) يا محمد (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي الواضح البين الظاهر ، والمحق أولى بالتوكل من المبطل المدغل. والمراد بهذا الخطاب سائر المؤمنين وإن كان في الظاهر لسيّد المرسلين. ثم شبّه الكفار بالموتى فقال (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) يقول : كما لا تسمع الميت الذي ليس له آلة السمع النداء كذلك لا تسمع الكافر النداء ، لأنه لا يسمع ولا يقبل الموعظة ولا يتدبر فيها (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) إنما قال ذلك لأن الأصم إذا كان قريبا

__________________

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : وعليكم بكتاب الله فإنه الحبل المتين ، والنور المبين ، والشفاء النافع ، والريّ الناقع والعصمة للمتمسك ، والنجاة للمتعلق ؛ لا يعوجّ فيقام ، ولا يزيغ فيستعتب ولا تخلقه كثرة الرد وولوج السمع ؛ من قال به صدق ، ومن عمل به سبق. نهج البلاغة. خطبة : ١٥٢.

٥٠٨

فالإنسان يطمع في اسماعه ، فإذا أعرض وأدبر وتباعد انقطع الطمع في اسماعه ؛ فجعل سبحانه المصمم على الجهل كالميت في أنه لا يقبل الهدى ، وكالأصم في أنه لا يسمع الدعاء (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) في الدين بالآيات الدالة على الهدى إذا أعرضوا عنها ، كما لا يمكنك أن تهدي الأعمى إلى قصد الطريق. جعل سبحانه الجهل بمنزلة العمى لأنه يمنع عن ادراك الحق كما يمنع العمى من ادراك المبصرات (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي ما يسمع إلا من يطلب الحق بالنظر في آياتنا (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي مستسلمون منقادون. جعل سبحانه استماعهم وقبولهم الحق سماعا وتركهم للقبول تركا للسماع ، وقيل : مسلمون أي موحّدون مخلصون (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي وجب العذاب والوعيد عليهم ، وقيل معناه : إذا صاروا بحيث لا يفلح أحد منهم ولا أحد بسببهم عن مجاهد وقيل معناه : إذا غضب الله عليهم عن قتادة (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) تخرج بين الصفا والمروة فتخبر المؤمن بأنه مؤمن ، والكافر بأنه كافر ، وعند ذلك يرتفع التكليف ولا تقبل التوبة ، وهو علم من أعلام الساعة وقيل : لا يبقى مؤمن إلا مسحته ، ولا يبقى منافق إلا خطمته ؛ تخرج ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى ، وعن حذيفة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : دابة الأرض طولها ستّون ذراعا ، لا يدركها طالب ، ولا يفوتها هارب ، فتسم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن ، وتسم الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه كافر ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا ، وتختم أنف الكافر بالخاتم حتى يقال : يا مؤمن ويا كافر ، وقوله (تُكَلِّمُهُمْ) أي تكلمهم بما يسوءهم وهو أنهم يصيرون إلى النار بلسان يفهمونه (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) معناه : بكلامها وخروجها (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يدفعون (حَتَّى إِذا جاؤُ) إلى موقف الحساب (قالَ) الله تعالى لهم (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) أي كذّبتم بأنبيائي ودلالاتي الدالة على ديني (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) أي لم تطلبوا معرفتها ، ولم تبيّنوا ما أوجب الله عليكم فيها (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حين لم تبحثوا عنها ، ولم تتفكروا في صحتها ، يقول ذلك تبكيتا وتجهيلا أي هذا كان الواجب عليكم فتركتموها ولم تعرفوها حق معرفتها فبماذا اشتغلتم؟ (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي وجب العذاب عليهم (بِما ظَلَمُوا) أي بظلمهم إذ صاروا بحيث لا يفلح أحد منهم ، (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) لعظم ما يشاهدونه ، وهول ما يرونه.

٨٦ ـ ٩٣ ـ ثم بيّن سبحانه قدرته على الإعادة والبعث بما احتجّ به على الكفار فقال : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) عن التعب والحركات (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي يبصر فيه ويمكن التصرف فيه لضيائه ، ويدرك بنوره جميع الأشخاص كما يدرك بنور البصر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي دلالات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأن جعل الشيء لما يصلح له من الإنتفاع إنما يكون بالإختيار ولا يكون بالطباع (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) واذكر يوم ينفخ إسرافيل بأمر الله تعالى في الصور ، وذلك اليوم الذي يقع عليهم القول بما ظلموا (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي ماتوا لشدة الخوف والفزع ، يدل عليه قوله في موضع آخر : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ) الآية (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) من الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (وَكُلٌ) من الأحياء الذين ماتوا ثم أحيوا (أَتَوْهُ) أي يأتونه في المحشر (داخِرِينَ) أي أذلاء صاغرين (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) أي واقفة مكانها لا تسير ولا تتحرك في مرأى العين (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي تسير سيرا حثيثا مثل سير السحاب ، أي تحسب أنهم وقوف من أجل كثرتهم والتفافهم فكذلك المعنى في الجبال ، انك لا ترى

٥٠٩

سيرها لبعد أطرافها كما لا ترى سير السحاب إذا انبسط لبعد أطرافه ، وذلك إذا أزيلت الجبال عن أماكنها للتلاشي كما في قوله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (صُنْعَ اللهِ) أي صنع الله ذلك صنعا وانتصب بما دلّ عليه ما تقدّمه من قوله (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) وذكر اسم الله لأنه لم يأت ذكره فيما قبل وإنما دلّ عليه (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي خلق كل شيء على وجه الإتقان والإحكام والإتساق قال قتادة أي أحسن كل شيء خلقه وقيل الإتقان حسن في إيثاق (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) أي عليم بما يفعل أعداؤه من المعصية ، وبما يفعل أولياؤه من الطاعة. ثم بيّن سبحانه كيفية الجزاء على أفعال الفريقين فقال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي بكلمة التوحيد والإخلاص عن قتادة وقيل بالإيمان عن النخعي وكان يحلف ولا يستثني أن الحسنة لا إله إلا الله والمعنى من وافى يوم القيامة بالإيمان (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال ابن عباس : أي فمنها يصل الخير إليه والمعنى : فله من تلك الحسنة خير يوم القيامة ، وهو الثواب والأمان من العقاب فخير هاهنا اسم وليس بالذي هو بمعنى الأفضل وهو المروي عن الحسن وعكرمة وابن جريج قال عكرمة فأمّا أن تكون خيرا من الإيمان فلا فليس شيء خيرا من لا إله إلا الله وقيل معناه فله أفضل منها في معظم النفع لأنه يعطي بالحسنة عشرا عن زيد بن أسلم ومحمد بن كعب وابن زيد وقيل لأن الثواب فعل الله تعالى والطاعة فعل العبد وقيل هو رضوان الله ورضوان من الله أكبر (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) قال الكلبي : إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها ، وأهل الجنة آمنون من ذلك الفزع (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي بالمعصية الكثيرة التي هي الكفر والشرك عن ابن عباس وأكثر المفسرين (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ألقوا في النار منكوسين (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يعني ان هذا جزاء فعلكم وليس بظلم ، ثم قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قل لهم (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) يعني مكّة عن ابن عباس وقال أبو العالية هي منى (الَّذِي حَرَّمَها) أي جعلها حرما آمنا يحرم فيها ما يحلّ في غيرها ، لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ، ولا يقتص فيها (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) أي وهو مالك كل شيء مما أحلّه وحرّمه ، فيحرم ما شاء ، ويحلّ ما شاء (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي من المخلصين لله بالتوحيد (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) عليكم يا أهل مكة وأدعوكم إلى ما فيه (فَمَنِ اهْتَدى) إلى الحق والعمل بما فيه (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لأن ثواب ذلك وجزاءه يصل إليه دون غيره (وَمَنْ ضَلَ) عنه وحاد ولم يعمل بما فيه ، ولم يهتد إلى الحق (فَقُلْ) له يا محمد (إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) الذين يخوّفون بعقاب الله من معاصيه ، ويدعون إلى طاعته ، ولا أقدر على اكراههم على الإيمان والدين (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) اعترافا بنعمته إذ اختارني لرسالته (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) يوم القيامة (فَتَعْرِفُونَها) وتعرفون أنها على ما أخبرتم بها في الدنيا عن الحسن وقيل معنى آياته هي العذاب في الدنيا والقتل ببدر فتعرفونها أي تشاهدونها ورأوا ذلك ثم عجّلهم الله إلى النار (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بل هو عالم بجميع ذلك فيجازيكم عليها ، وإنما يؤخّر عقابكم إلى وقت تقتضيه الحكمة.

__________________

وقال رسول الله (ص): من قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله يوم القيامة أعمى ، فيقول : ((رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى)) فيؤمر به الى النار. عقاب الأعمال : ٢٨٦.

٥١٠

سورة القصص

مكية وعدد آياتها ثمان وثمانون آية

١ ـ ٦ ـ (طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي المبيّن الرشد من الغيّ عن قتادة وقيل هو البيّن الظاهر والآية مفسّرة فيما مضى (نَتْلُوا عَلَيْكَ) يا محمد (مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) أي طرفا من أخبارهما (بِالْحَقِ) أي بالصدق والحقيقة لا ريب فيه (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي يصدّقون بالله وبما أنزله إليك (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي بغى وتجبّر وتعظّم ، واستكبر في أرض مصر يقال علا علوا إذا تجبّر ومنه قوله لا يريدون علوا في الأرض (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي فرقا قال قتادة فرّق بين بني إسرائيل والقبط والمعنى : يكرم قوما ويذل آخرين بالإستعباد والإستعمال في الأعمال الشاقة وقيل معناه : جعل بني إسرائيل أصنافا في الخدمة والتسخير (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) يعني من بني إسرائيل ؛ ثم فسّر ذلك فقال : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) يقتل الأبناء ، ويستبقي البنات فلا يقتلن ، وذلك أن بعض الكهنة قال له : ان مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملكك وقال السدي رأى فرعون في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه فقالوا له يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يده (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) بالقتل والعمل بالمعاصي (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) المعنى : ان فرعون كان يريد إهلاك بني إسرائيل وإفناءهم ، ونحن نريد أن نمنّ عليهم (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي قادة ورؤساء في الخير يقتدى بهم عن ابن عباس وقيل نجعلهم ولاة وملوكا عن قتادة وهذا القول مثل الأول لأن الذين جعلهم الله ملوكا فهم أئمة ولا يضاف إلى الله سبحانه ملك من يملك الناس عدوانا وظلما وقد قال سبحانه (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) والملك من الله تعالى هو الذي يجب أن يطاع فالأئمة على هذا ملوك مقدّمون في الدين والدنيا يطأ الناس أعقابهم (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لديار فرعون وقومه وأموالهم. وقد صحّت الرواية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها ، وتلا عقيب ذلك : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) الآية. وروى العياشي بالإسناد عن أبي الصباح الكناني قال : نظر أبو جعفر عليه‌السلام إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : هذا والله من الذين قال الله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) الآية. وقال سيد العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام : والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا ان الأبرار منّا أهل البيت وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته وان عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ونريد أن نمكّن لبني إسرائيل في أرض مصر والتمكين هو فعل جميع ما لا يصحّ الفعل إلا معه مع القدرة والآلة واللطف وغير ذلك وقال علي بن عيسى اللطف لا يدخل في التمكين لأنه لو دخل فيه لكان من لا لطف له لم يكن ممكنا ولكنّه من باب إزاحة العلة (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) من ذهاب الملك على يد رجل منهم. قال الضحاك : عاش فرعون أربعمائة سنة وكان قصيرا دميما ، وهو أول من خضب بالسواد وعاش موسى عليه‌السلام مائة وعشرين سنة.

٧ ـ ١٠ ـ ثم بيّن سبحانه كيف دبّر في إهلاك فرعون وقومه منبّها بذلك على كمال قدرته وحكمته فقال : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) أي ألهمناها وقذفنا في قلبها وليس بوحي نبوة عن

٥١١

قتادة وغيره وقيل : أتاها جبرائيل عليه‌السلام بذلك وقيل : كان هذا الوحي رؤيا منام ، عن الجبائي (أَنْ أَرْضِعِيهِ) ما لم تخافي عليه الطلب (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) في القتل الذي أمر به فرعون في أبناء بني إسرائيل (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي في البحر وهو النيل (وَلا تَخافِي) عليه الضيعة (وَلا تَحْزَنِي) من فراقه (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) سالما عن قريب (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) والأنبياء. وفي هذه الآية أمران ونهيان ، وخبران ، وبشارتان ، وحكي أن بعضهم سمع بدوية تنشد أبياتا فقال لها : ما أفصحك! فقالت : الفصاحة لله تعالى وذكرت هذه الآية وما فيها (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أي أصابوه وأخذوه من غير طلب (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي ليكون لهم في عاقبة أمره كذلك (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) أي عاصين ربهم في أفعالهم وكانت القصة في ذلك : أن النيل جاء بالتابوت إلى موضع فيه فرعون وامرأته على شط النيل ، فأمر فرعون فأتي به ، وفتحت آسية بنت مزاحم بابه فلما نظرت إليه ألقى الله في قلبها محبة موسى ، وكانت آسية بنت مزاحم امرأة من بني إسرائيل استنكحها فرعون وهي من خيار النساء ، ومن بنات الأنبياء ، وكانت أما للمؤمنين ترحمهم وتتصدق عليهم ويدخلون عليها ، فلما نظر فرعون إلى موسى غاظه ذلك وقال : كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟ قالت آسية وهي قاعدة إلى جنبه : هذا الوليد أكبر من ابن سنة ، وانك أمرت أن يذبح الولدان لهذه السنة ، فدعه يكن قرة عين لي ولك وذلك قوله تعالى : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) وإنما قالت ذلك لأنه لم يكن له ولد فأطمعته في الولد. قال ابن عباس : ان أصحاب فرعون لما علموا بموسى جاؤوا ليقتلوه فمنعتهم وقالت لفرعون : قرة عين لي ولك لا تقتلوه قال فرعون : قرة عين لك وأما لي فلا (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ان هذا هو المطلوب الذي يطلبونه (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) أي خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى ، أي صار فارغا له (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) معناه : انها كادت تبدي بذكر موسى فتقول : يا ابناه ، من شدّة الغم والوجد ، معناه : كادت تصيح على ابنها شفقة عليه من الغرق (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) بالصبر واليقين ؛ والربط على القلب : الهام الصبر وتقويته ، والتقدير : لولا أن ربطنا على قلبها لأظهرته (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي فعلنا ذلك لتكون من جملة المصدقين بوعدنا ، الواثقين بوحينا وقولنا : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ).

١١ ـ ١٥ ـ (وَقالَتْ) يعني أم موسى (لِأُخْتِهِ) يعني أخت موسى (قُصِّيهِ) أي اتبعي أثره ، وتعرفي خبره (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) في الكلام اقتصار تقديره : فذهبت أخت موسى فوجدت آل فرعون قد أخرجوا التابوت وأخرجوا موسى ، فبصرت به ؛ وهذا من الإيجاز الدال على الإعجاز باللفظ القليل على المعنى الكثير ، أي فرأت أخاها عن جنب ، أي عن بعد (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وآل فرعون لا يشعرون أنها أخته (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) المعنى : أنه لا يؤتى بمرضع فيقبلها ، وتأويله : منعناهن منه وبغضناهن إليه (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مجيء أخته (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) وهذا يدلّ على أن الله تعالى ألقى محبته في قلب فرعون ، فلشدة محبته ، وغاية شفقته عليه طلب له المراضع ، وكان موسى لا يقبل ثدي واحدة منهن بعد أن أتته مرضع بعد مرضع ، فلما رأت أخته وجدهم به ، وحبهم له ، ورقّتهم عليه ، قالت لهم : هل أدلّكم على أهل بيت يقبلون هذا الولد ، ويبذلون النصح في أمره ، ويحسنون تربيته (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) يشفقون عليه وينصحونه (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) يعني عين أمه ؛ وانطلقت أخت موسى إلى أمها فجاءت بها إليهم ، فلما وجد موسى ريح أمه قبل ثديها

٥١٢

وسكن بكاؤه ، وقيل : إن فرعون قال لأمّه : كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك؟ فقالت : لأني امرأة طيّبة الريح ، طيّبة اللبن ، لا أكاد أئتى بصبيّ إلا ارتضع منّي ، فسرّ فرعون بذلك (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أراد به ما وعدها الله به في الآية المتقدمة بقوله : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) تحقيق ذلك الوعد كما علمت (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي ثلاثا وثلاثين سنة (وَاسْتَوى) أي بلغ أربعين سنة ، عن مجاهد وقتادة وابن عباس (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي فقها وعلما وعقلا بدينه ودين آبائه ، فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وهذه الآية مفسرة في سورة يوسف (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) يريد مصر (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أراد به نصف النهار والناس قائلون (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أي يختصمان في الدين (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي أحدهما إسرائيلي والآخر قبطي يسخّر الإسرائيلي ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون ، وقيل : كان أحدهما مسلما والآخر كافرا (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) أي استنصره لينصره عليه (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي دفع في صدره بجمع كفه (فَقَضى عَلَيْهِ) أي فقتله وفرغ من أمره (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) قال الحسن : لم يكن يحل قتل الكافر يومئذ لأن الحال كانت حال الكف عن القتال ، وقيل معناه : ان الأمر الذي وقع القتل بسببه من عمل الشيطان ، أي حصل بوسوسة الشيطان ، وقال المرتضى : يريد أن عمل المقتول من عمل الشيطان ، يبين بذلك أنه مخالف لله تعالى ، مستحق للقتل. ثم وصف الشيطان فقال : (إِنَّهُ عَدُوٌّ) لبني آدم (مُضِلٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة والإضلال.

١٦ ـ ٢٠ ـ ثم حكى سبحانه أن موسى عليه‌السلام حين قتل القبطي ندم على ذلك (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) في هذا القتل فإنهم لو علموا بذلك لقتلوني. وقال المرتضى قدّس الله روحه العزيز : إنما قاله على سبيل الإنقطاع والرجوع إلى الله تعالى ، والإعتراف بالتقصير عن أداء حقوق نعمه ، أو من حيث حرم نفسه الثواب المستحق بفعل الندب (فَاغْفِرْ لِي) معناه : قول آدم عليه‌السلام : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، وقبول الإستغفار والتوبة قد يسمى غفرانا (فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) لعباده (الرَّحِيمُ) بهم ، المنعم عليهم (قالَ) موسى (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) أي بنعمتك عليّ من المغفرة ، وصرف بلاء الأعداء عني (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) المعنى : فلك عليّ ألا أكون مظاهرا ومعينا للمشركين عن ابن عباس ، وفي هذا دلالة على أن مظاهرة المجرمين جرم ومعصية ومظاهرة المؤمنين طاعة وإنما ظاهر موسى عليه‌السلام من كان ظاهره الإيمان وخالف من كان ظاهره الكفر (فَأَصْبَحَ) موسى في اليوم الثاني (فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً) من قبل القبطي (يَتَرَقَّبُ) أي ينتظر الأخبار في قتل القبطي عن ابن عباس ، يعني أنه خاف من فرعون وقومه أن يكونوا عرفوا أنه هو الذي قتل القبطي ، فكان يتجسس وينتظر الأخبار في شأنه (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) معناه : ان الإسرائيلي الذي كان قد خلّصه بالأمس ، ووكز القبطي من أجله يستصرخ موسى ويستعين به على رجل آخر من القبط خاصمه قال ابن عباس : لما فشا أمر قتل القبطي قيل لفرعون : ان بني إسرائيل قتلت منا رجلا قال : أتعرفون قاتله ومن يشهد عليه؟ قالوا لا : فأمرهم بطلبه ، فبينا هم يطوفون إذ مرّ موسى من الغد وأتى ذلك الإسرائيلي يطلب نصرته ويستغيث به (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر الغواية ، حيث قاتلت بالأمس رجلا ، وتقاتل اليوم الآخر ، ولم يرد الغواية في الدين ، والمراد أن من خاصم آل فرعون مع كثرتهم فإنه غوي : أي خائب فيما يطلبه ، عادل عن الصواب

٥١٣

فيما يقصده (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) معناه : فلما أخذته الرقة على الإسرائيلي وأراد أن يدفع القبطي الذي هو عدوّ لموسى والإسرائيلي عنه ، ويبطش به : أي يأخذه بشدة ، ظن الإسرائيلي أن موسى قصده لما قال له : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) فقال : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ، عن ابن عباس وأكثر المفسرين (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) أي ما تريد إلا أن تكون عاليا في الأرض بالقتل والظلم قال عكرمة والشعبي لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ولما قال الإسرائيلي ذلك علم القبطي أن القاتل موسى ، فانطلق إلى فرعون وأخبر به ، فأمر فرعون بقتل موسى وبعث في طلبه (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) أي آخرها ، فاختصر طريقا قريبا حتى سبقهم إلى موسى (يَسْعى) أي يسرع في المشي فأخبره بذلك وأنذره ، وكان الرجل حزقيل مؤمن آل فرعون وقيل رجل اسمه شمعون وقيل سمعان (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ) أي الأشراف من آل فرعون (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي يتشاورون فيك عن أبي عبيدة وقيل يأمر بعضهم (لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) من أرض مصر (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) في هذا يقال نصحته ونصحت له.

٢١ ـ ٢٥ ـ ثم بيّن سبحانه خروج موسى من مصر إلى مدين فقال : (فَخَرَجَ مِنْها) أي من مدينة فرعون (خائِفاً) من أن يطلب فيقتل (يَتَرَقَّبُ) الطلب (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال ابن عباس : خرج موسى متوجهأ نحو مدين وليس له علم بالطريق إلّا حسن ظنّه بربّه ، قال : ربّ نجّني من فرعون وقومه وقيل : انه خرج بغير زاد ولا ماء ولا حذاء ولا ظهر ، وكان لا يأكل إلا من حشيش الصحراء حتى بلغ ماء مدين (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) التوجه : صرف الوجه إلى جهة من الجهات. قال الزجاج معناه : ولما سلك في الطريق الذي يلقى مدين فيها وهي على مسيرة ثمانية أيام من مصر ، ولم يكن له علم بالطريق ولذلك (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي يرشدني قصد السبيل إلى مدين وقيل : عرضت لموسى أربعة طرق فلم يدر أيّتها يسلك ولذلك قال عند استواء الطرق له : عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ، فلما دعا ربه استجاب له ودلّه على الطريق المستقيم إلى مدين (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) وهو بئر كانت لهم (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) أي جماعة من الرعاة يسقون مواشيهم الماء من البئر (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) أي تحبسان وتمنعان غنمهما من الورود إلى الماء (قالَ) موسى لهما (ما خَطْبُكُما) أي ما شأنكما ومالكما لا تسقيان مع الناس؟ (قالَتا لا نَسْقِي) عند المزاحمة مع الناس (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) مرّ معناه ، أي حتى ينصرف الناس فإنا لا نطيق السقي فننتظر فضول الماء ، فإذا انصرف الناس سقينا مواشينا من فضول الحوض (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) لا يقدر على أن يتولى السقي بنفسه من الكبر ولذلك احتجنا ونحن نساء أن نسقي الغنم وقيل : إنما قالتا ذلك اعتذارا إلى موسى في الخروج بغير محرم (فَسَقى لَهُما) معناه : فسقى غنمهما الماء لأجلهما (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) أي ثم انصرف إلى ظل سمرة فجلس نحتها من شدة الحرّ وهو جائع (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) قال أمير المؤمنين عليه أفضل الصلوات : والله ما سأله إلا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض ، لقد كانت خضرة البقلة ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه. قال ابن إسحاق : فرجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها ، فأنكر شأنهما وسألهما فأخبرتاه الخبر فقال لإحداهما : عليّ به ، فرجعت الكبرى إلى موسى لتدعوه فذلك قوله : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أراد باستحيائها أنها غطّت وجهها بكمّ درعها وقيل : هو بعدها عن النداء عن

٥١٤

الحسن ، قال : والله ما كانت ولاجة ولا خراجة ، ولكنها كانت من الخفرات اللاتي لا يحسن المشي بين يدي الرجال ، والكلام معهم ، أراد أنها كانت تمشي عادلة عن الطريق (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي ليكافئك على سقيك لغنمنا ، وأكثر المفسرين على أن أباها شعيب عليه‌السلام ؛ قال أبو حازم : لما قالت ليجزيك أجر ما سقيت لناكره ذلك موسى وأراد أن لا يتبعها ، ولم يجد بدّا من أن يتبعها لأنه كان في أرض مسبعة وخوف ، فخرج معها ، وكانت الريح تضرب ثوبها فتصف لموسى عجزها فجعل موسى يعرض عنها مرة ، ويغضّ مرة فناداها يا أمة الله كوني خلفي وأرني السمت بقولك فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيّئا ، فقال له شعيب : اجلس يا شاب فتعشّ ، فقال له موسى : أعوذ بالله قال شعيب : ولم ذاك ، ألست بجائع؟ قال : بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملك الأرض ذهبا ، فقال له شعيب : لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ، ونطعم الطعام قال : فجعل موسى يأكل وذلك قوله : (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي فلما جاء موسى شعيبا وقصّ عليه أمره أجمع من قتل القبطي ، وأنهم يطلبونه ليقتلوه (قالَ) له شعيب (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني فرعون وقومه فلا سلطان له بأرضنا ولسنا في مملكته.

٢٦ ـ ٣٠ ـ ثم ذكر سبحانه أمر موسى في مدين وانصرافه عنه فقال : (قالَتْ إِحْداهُما) أي إحدى ابنتيه واسمها صفورة وهي التي تزوّج بها (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي اتخذه أجيرا (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي خير من استعملت من قوي على العمل ، وأداء الأمانة. قال شعيب : وما علمك بأمانته وقوّته؟ قالت : أما قوته فلأنه رفع الحجر الذي لا يرفعه كذا وكذا ، وأما أمانته فإنه قال لي : امشي خلفي فأنا أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي عجزك ، فلما ذكرت المرأة من حاله ما ذكرت زاده ذلك رغبة فيه (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) أي أزوّجك (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) أي على أن تكون أجيرا لي ثماني سنين (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي ذلك تفضل منك وليس بواجب عليك ؛ فزوّجه ابنته بمهر ، واستأجره للرعي ، ولم يجعل ذلك مهرا وإنما شرط ذلك عليه (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) في هذه الثمانية حجج وأن أكلفك خدمة سوى رعي الغنم (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في حسن الصحبة ، والوفاء بالعهد (قالَ) موسى (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي ذلك الذي وصفت وشرطت عليّ فلك ، وما شرطت لي من تزويج إحداهما فلي وتم الكلام. ثم قال : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) من الثماني والعشر (قَضَيْتُ) أي أتممت وفرغت منه (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي لا ظلم علي بأن أكلف أكثر منها ، وأطالب بالزيادة عليهما (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي شهيد فيما بيني وبينك (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي أوفاهما ، وتوجّه نحو الشام (وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) لما قضى العشر سار بأهله : أي بامرأته ، وبأولاد الغنم التي كانت له وكانت قطيعا ، فأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام ، وامرأته في شهرها ، فسار في البرية غير عارف بالطريق فألجأه المسير إلى جانب الطور الأيمن في ليلة مظلمة شديدة البرد ، وأخذ امرأته الطلق ، وضلّ الطريق ، وتفرّقت ماشيته ، فأصابه المطر ، فبقي لا يدري أين يتوجه ، فبينا هو كذلك آنس من جانب الطور نارا وروى أبو بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال لما قضى موسى الأجل وسار بأهله نحو بيت المقدس أخطأ الطريق ليلا فرأى نارا (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) وقد مرّ تفسيره (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي بخبر من الطريق الذي أريد قصده ، وهل أنا على صوبه أو منحرف عنه (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) أي

٥١٥

قطعة من النار ، وقيل : أي بأصل شجرة فيها نار (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي تستدفئون بها (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) أي نودي موسى من الجانب الأيمن للوادي (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) وهي البقعة التي قال الله تعالى فيها لموسى : اخلع نعليك إنك بالواد المقدّس طوى ؛ وإنما كانت مباركة لأنها معدن الوحي والرسالة وكلام الله تعالى (مِنَ الشَّجَرَةِ) إنما سمع موسى النداء والكلام من الشجرة لأن الله تعالى فعل الكلام فيها ، وجعل الشجرة محل الكلام ، لأن الكلام عرض يحتاج إلى محل ، وعلم موسى بالمعجز أن ذلك كلامه تعالى ، وهذه أعلى منازل الأنبياء ، أعني أن يسمعوا كلام الله من غير واسطة ومبلّغ. وكان كلامه سبحانه (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ان المكلم لك هو الله مالك العالمين ، وخالق الخلائق أجمعين ، تعالى وتقدّس عن أن يحلّ في محل ، أو يكون في مكان لأنه ليس بعرض ولا جسم.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثم بيّن سبحانه تمام قصة موسى عليه‌السلام فقال : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) إنما أعاد سبحانه هذه القصة وكرّرها في السور تقريرا للحجة على أهل الكتاب ، واستمالة بهم إلى الحق ، ومن أحبّ شيئا أحبّ ذكره ، والقوم كانوا يدّعون محبة موسى ، وكل من ادّعى اتباع سيد مال إلى من ذكره بالفضل على أن كل موضع من مواضع التكرار لا تخلو من زيادة فائدة وها هنا حذف تقديره : فألقاها من يده فانقلبت بإذن الله تعالى ثعبانا عظيما تهتز كأنها جانّ في سرعة حركتها ، وشدة اهتزازها (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) أي تتحرّك (كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً) موسى (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يرجع إلى ذلك الموضع فنودي (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من ضررها (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي أدخلها فيه (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي ضم يدك إلى صدرك من الخوف فلا خوف عليك والمعنى : ان الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره فيذهب ما أصابه من الخوف عند معاينة الحية وقيل : أمره سبحانه بالعزم على ما أراده منه ، وحثّه على الجد فيه لئلا يمنعه الخوف الذي يغشاه في بعض الأحوال مما أمره بالمضي فيه ، وليس يريد بقوله : (اضْمُمْ يَدَكَ) الضم المزيل للفرجة بين الشيئين ، عن أبي علي الفارسي قال : وهذا كما ان أشدد في قوله :

أشدد حيازيمك للموت

فإن الموت لاقيكا

ليس يراد به الشد الذي هو الربط ، والمراد به : تأهّب للموت ، واستعدّ للقائه حتى لا تهاب لقاه ، ولا تجزع من وقوعه (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) معناه : فاليد والعصا حجتان من ربك على نبوتك (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي أرسلناك إلى فرعون وملئه بهاتين الآيتين الباهرتين (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين من طاعة الله إلى أعظم المعاصي وهو الكفر (قالَ) موسى (رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) بتلك النفس (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) وإنما قال ذلك لعقدة كانت في لسانه وقد مرّ فيما مضى ذكر سببها ، وقد كان الله تعالى أزال أكثرها أو جميعها بدعائه (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) أي معينا لي على تبليغ رسالتك يقال : فلان ردء لفلان إذا كان ينصره ويشدّ ظهره (يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي مصدقا لي على ما أؤدّيه من الرسالة (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) هذه استعارة رابعة والمعنى : سنجعله رسولا معك ، ونؤيدك بأن نقرنه إليك في النبوة ، وننصرك به (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي حجة وقوة وبرهانا (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا) أي لا يصل فرعون وقومه إلى الإضرار بكما بسبب ما نعطيكما من الآيات ، وما يجري على أيديكما من المعجزات ، فيخافكما فرعون وقومه لأجلها. ثم

٥١٦

أخبر أن الغلبة لهما عليهم فقال : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) على فرعون وقومه ، القاهرون لهم. وهذه الغلبة غير السلطان ، فإن السلطان بالحجّة ، والغلبة بالقهر. فغدا إلى فرعون ، فقيل لفرعون : إنّ على الباب فتى يزعم أنه رسول ربّ العالمين فقال فرعون لصاحب الأسد : خل سلاسلها ـ وكان إذا غضب على رجل خلاها فقطعته ـ فخلّاها ، فقرع موسى الباب الأول وكانت تسعة أبواب ، فلما قرع الباب الأول انفتحت له الأبواب التسعة ، فلما دخل جعلن تبصبصن تحت رجليه كأنهن جراء.

٣٦ ـ ٤٢ ـ ثم قال سبحانه (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) التقدير : فمضى موسى إلى فرعون وقومه فلما جاءهم بآياتنا أي بحججنا البينات ، ومعجزاتنا الظاهرات (قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي مختلق مفتعل لم يبن على أصل صحيح ، فوصفوا الآيات بالسحر والإختلاق على هذا المعنى جهلا منهم وذهابا عن الصواب (وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي لم نسمع ما يدعيه ويدعو إليه في آبائنا الذين كانوا قبلنا وإنّما قالوا ذلك مع اشتهار قصة نوح وهود وصالح وغيرهم من النبيين الذين دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته لأحد أمرين : اما للفترة التي دخلت بين الوقتين والزمان الطويل ، واما لأن آباءهم ما صدقوا بشيء من ذلك ولا دانوا به (وَقالَ مُوسى) مجيبا لهم (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) ومعناه : ربي يعلم أني جئت بهذه الآيات الدالة على الهدى من عنده ، فهو شاهد لي على ذلك إن كذبتموني ، ويعلم أن العاقبة الحميدة لنا ولأهل الحق والإنصاف وهذا كما يقال على سبيل المظاهرة الله أعلم بالمحق منا والمبطل وحجتي ظاهرة فانكرها إن قدرت على ذلك (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفوز بالخير من ظلم نفسه ، وعصى ربه ، وكفر نعمه (وَقالَ فِرْعَوْنُ) منكرا لما أتى به موسى من آيات الله لما أعياه الجواب ، وعجز عن محاجته (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) يريد اشراف قومه (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي فأجج النار على الطين واتخذ الآجر وقيل انه أول من اتخذ الآجر وبنى به عن قتادة (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) أي قصرا وبناء عاليا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) أي أصعد إليه ، وأشرف عليه ، وأقف على حاله ؛ وهذا تلبيس من فرعون وإيهام على العوام أن الذي يدعو إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان والجهة (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) في ادعائه إلها غيري ، وانه رسوله (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي رفع فرعون وجنوده أنفسهم في الأرض فوق مقدارها بالباطل والظلم ، وأنفوا وتعظموا عن قبول الحق في اتباع موسى (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) أي أنكروا البعث وشكّوا فيه (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي فعاقبناهم وطرحناهم في البحر ، وأهلكناهم بالغرق وعنى باليم نيل مصر وقيل بحر من وراء مصر يقال له أساف غرقهم الله فيه (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي تفكّر وتدبّر وانظر بعين قلبك كيف أخرجناهم من ديارهم وأغرقناهم (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) وهذا يحتاج إلى تأويل لأنه ظاهره يوجب أنه تعالى جعلهم أئمة يدعون إلى النار كما جعل الأنبياء أئمة يدعون إلى الجنة وهذا ما لا يقول به أحد ، المعنى : أنه أخبر عن حالهم بذلك ، وحكم بأنهم كذلك وقد تحصل الإضافة على هذا الوجه بالتعارف ويجوز أن يكون أراد بذلك أنه لما أظهر حالهم على لسان أنبيائه حتى عرفوا فكأنّه جعلهم كذلك ومعنى دعائهم إلى النار : انهم يدعون إلى الأفعال التي يستحقّ بها دخول النار من الكفر والمعاصي (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أي لا ينصر بعضهم لبعض ولا ينصرهم غيرهم يوم القيامة كما كانوا يتناصرون في الدنيا (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي أردفناهم لعنة بعد لعنة ، وهي البعد عن الرحمة والخيرات

٥١٧

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي من المهلكين ، عن الأخفش ، وقيل : من المشوهين في الخلقة بسواد الوجوه ، وزرقة الأعين ، عن الكلبي عن ابن عباس ، وقيل : من الممقوتين المفضوحين.

٤٢ ـ ٥٠ ـ ثم ذكر سبحانه من أخبار موسى عليه‌السلام ما فيه دلالة على معجزة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أي الجموع التي كانت قبله من الكفار مثل قوم نوح وعاد وثمود (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) أي حججا وبراهين للناس ، وعبرا يبصرون بها أمر دينهم ، وأدلّة يستدلّون بها في أحكام شريعتهم (وَهُدىً) أي دلالة لمن اتبعه يهتدي بها (وَرَحْمَةً) لمن آمن به (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي يتّعظون ويعتبرون ، وجاءت الرواية بالإسناد عن أبي سعيد الخدري عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير أهل القرية التي مسخوا قردة ، ألم تر أن الله تعالى قال (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) ، الآية (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) أي وما كنت يا محمد حاضرا بجانب الجبل الغربي ، أي في الجانب الغربي من الجبل الذي كلّم الله فيه موسى (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) معناه : أخبرناه بأمرنا ونهينا (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي الحاضرين لذلك الأمر وبذلك المكان فتخبر قومك عن مشاهدة وعيان ، ولكنا أخبرناك به ليكون معجزة لك (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي خلقنا قرنا بعد قرن فطال عهدهم بالمهلكين قبلهم وفترة النبوة ، فحملهم ذلك على الإغترار ، وأنكروا بعثة الله رسله لجهلهم بأمر الرسل ، فأرسلناك للناس رسولا ، وجعلناك رحمة للناس كما جعلنا موسى رحمة ، وقيل ان المعنى : خلقنا خلقا كثيرا عهدنا إليهم في نعتك وصفتك ، وأمرنا الأول بالإبلاغ للناس إلى الثاني ، فامتدّ بهم الزمان فنسوا عهدنا إليهم فيك (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) معناه : وما كنت مقيما في قوم شعيب تتلو عليهم آياتنا ، قال مقاتل : معناه : ولم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي أرسلناك إلى أهل مكة ، وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولو لا ذلك لما علمتها. قال الزجاج : المعنى : أنك لم تشاهد قصص الأنبياء ولا تليت عليك ، ولكنا أوحيناها إليك ، وقصصناها عليك حتى تخبر قومك بهذا ، فيدلّ ذلك على صحة نبوتك (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أي ولم تك حاضرا بناحية الجبل الذي كلمنا عليه موسى وناديناه : يا موسى خذ الكتاب بقوة (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ولكن الله تعالى أعلمك ذلك ، وعرفك إياه ، نعمة من ربك أنعم بها عليك ، وهو أن بعثك نبيا ، واختارك لإيتاء العلم بذلك معجزة لك (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي لتنذر العرب الذين لم يأتهم رسول قبلك (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي لكي يتفكروا ويعتبروا وينزعوا عن المعاصي (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) معناه : لو لا أن لهم أن يحتجّوا لو أصابتهم عقوبة بأن يقولوا : هلا أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى ما يجب الإيمان به فنتّبع الرسول ، ونأخذ بشريعته ، ونصدّق به لما أرسلنا الرسل ، ولكنا أرسلنا رسلا لقطع حجتهم ، وهو في معنى قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن والإسلام (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ) أي هلا أعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) معناه : هلا أوتي كتابا جملة واحدة وإنما قاله اليهود أو قريش بتعليم اليهود ، فاحتجّ الله عليهم بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ

٥١٨

مُوسى مِنْ قَبْلُ) أي وقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) يعنون التوراة والقرآن ، عن عكرمة والكلبي ومقاتل (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) من التوراة والقرآن ، قال الكلبي : وكانت مقالتهم هذه حين بعثوا الرهط منهم إلى رؤوس اليهود بالمدينة في عيد لهم فسألوهم عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبروهم بنعته وصفته في كتابهم التوراة ، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود فقالوا عند ذلك : سحران تظاهرا (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) معناه : قل يا محمد لكفار قومك : فأتوا بكتاب هو أهدى من التوراة والقرآن حتى أتبعه إن صدقتم أن التوراة والقرآن سحران وقيل معناه : فأتوا بكتاب من عند الله يؤمن معه التكذيب ، أي لم يكذب به طائفة من الناس ، ثم قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) أي فإن لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن وقيل : أي لم يستجيبوا لك إلى الإيمان مع ظهور الحق (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي ما تميل إليه طباعهم ، لأن الهوى ميل الطبع إلى المشتهى. قال الزجاج : أي فاعلم انما ركبوه من الكفر لا حجّة لهم فيه وإنما آثروا فيه الهوى. ثم ذمّهم فقال : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أي لا أحد أضل ممن اتبع هواه بغير رشاد ولا بيان جاءه من الله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى طريق الجنة ، وقيل معناه : لا يحكم الله بهدايتهم وقيل انهم إذا لم يهتدوا بهدى الله فكأنّه لم يهدهم.

النزول

نزل قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وما بعده في عبد الله بن سلام ، وتميم الداري ، والجارود العبدي ، وسلمان الفارسي ، فإنهم لما أسلموا نزلت فيهم الآيات. عن قتادة ، وقيل : نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبي (ص) قبل مبعثه ، اثنان وثلاثون من الحبشة ، أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب (ع) ، وثمانية قدموا من الشام.

٥١ ـ ٥٥ ـ ثم بيّن سبحانه صفة القرآن فقال : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي فصّلنا لهم القول ، وبيّنا عن ابن عباس ومعناه : وأتينا بآية بعد آية ، وبيان بعد بيان ، وأخبرناهم بأخبار الأنبياء والمهلكين من أممهم (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ليتذكروا ويتفكروا فيعلموا الحق ويتّعظوا (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (هُمْ بِهِ) أي بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يُؤْمِنُونَ) لأنهم وجدوا نعته في التوراة وقيل معناه : من قبل القرآن وهم بالقرآن يصدّقون والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل يعني الذين أوتوا الكتاب (وَإِذا يُتْلى) القرآن (عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل نزوله (مُسْلِمِينَ) به ؛ وذلك أن ذكر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن كان مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل ، فهؤلاء لم يعاندوا. ثم أثنى الله سبحانه عليهم فقال (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) مرّة بتمسّكهم بدينهم حتى أدركوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فآمنوا به ، ومرة بإيمانهم به وقيل : بما صبروا على الكتاب الأول وعلى الكتاب الثاني ، وإيمانهم بما فيهما ، عن قتادة وقيل : بما صبروا على دينهم وعلى أذى الكفار وتحمل المشاق (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون بالحسن من الكلام الكلام القبيح الذي يسمعونه من الكفار وقيل : يدفعون بالمعروف المنكر عن سعيد بن جبير وقيل : يدفعون بالحلم جهل الجاهل عن يحيى بن سلام ومعناه : يدفعون بالمداراة مع الناس أذاهم عن أنفسهم ، وروي مثل ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) مرّ معناه (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) أي السفه من الناس ، والقبيح من القول ، والهزء الذي لا فائدة فيه (أَعْرَضُوا عَنْهُ) ولم يقابلوه بمثله

٥١٩

(وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لا نسأل نحن عن أعمالكم ، ولا تسألون أنتم عن أعمالنا وقيل معناه : لنا ديننا ولكم دينكم ، وقيل : لنا حلمنا ولكم سفهكم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي أمان منّا لكم أن نقابل لغوكم بمثله وقيل : هي كلمة حلم واحتمال بين المؤمنين والكافرين ، وقيل : هي كلمة تحية بين المؤمنين ، عن الحسن (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أي لا نطلب مجالستهم ومعاونتهم ، وإنما نبتغي الحكماء والعلماء. وقيل معناه : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه ، عن مقاتل ، وقيل : لا نبتغي دين الجاهلين ، ولا نحبهم ، عن الكلبي.

٥٦ ـ ٦٠ ـ لمّا تقدّم ذكر الرسول والقرآن ، وأنه أنزل هدى للخلق ، بيّن سبحانه أنه ليس عليه الإهتداء وإنما عليه البلاغ ، والأداء فقال (إِنَّكَ) يا محمد (لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) هدايته وقيل : من أحببته لقرابته والمراد : بالهداية هنا اللطف الذي يختار عنده الإيمان فإنه لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، لأنه اما أن يكون من فعله خاصة أو بإعلامه ولا يعلم ما يصلح المرء في دينه إلا الله تعالى ، فإن الهداية التي هي الدعوة والبيان قد أضافها سبحانه إليه في قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقيل : المراد بالهداية في الآية الإجبار على الإهتداء ، أي أنت لا تقدر على ذلك وقيل معناه : ليس عليك اهتداؤهم وقبولهم الحق (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بلطفه وقيل على وجه الإجبار (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي القابلين للهدى فيدبر الأمور على ما يعلمه من صلاح العباد. ثم قال سبحانه حاكيا عن الكفار (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي نستلب من أرضنا ، يعني أرض مكة والحرم وقيل : إنما قاله الحرث بن نوفل بن عبد مناف فإنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انا لنعلم ان قولك حق ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ، ونؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا ولا طاقة لنا بالعرب. فقال سبحانه رادّا عليه هذا القول (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) أي أو لم نجعل لهم مكة في أمن وأمان قبل هذا ، ودفعنا ضرر الناس عنهم حتى كانوا يأمنون فيه ، فكيف يخافون زواله الآن ، أفلا نقدر على دفع ضرر الناس عنهم لو آمنوا؟ بل حالة الإيمان والطاعة أولى بالأمن والسلامة من حالة الكفر (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي تجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) أي اعطاء من عندنا جاريا عليهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما أنعمنا به عليهم وقيل : لا يعلمون الله ولا يعبدونه فيعلموا ما يفوتهم من الثواب (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي من أهل قرية (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي في معيشتها بأن أعرضت عن الشكر وتكبّرت والمعنى أعطيناهم المعيشة الواسعة فلم يعرفوا حق النعمة وكفروا فأهلكناهم (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) تلك اشارة إلى ما يعرفونه هم من ديار عاد وثمود وقوم لوط ، أي صارت مساكنهم خاوية خالية عن أهلها وهي قريبة منكم ، فإن ديار عاد إنما كانت بالأحقاف ، وهو موضع بين اليمن والشام ، وديار ثمود بوادي القرى ، وديار قوم لوط بسدوم ، وكانوا هم يمرّون بهذه المواضع في تجاراتهم (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) أي المالكين لديارهم لم يخلفهم أحد فيها (وَما كانَ رَبُّكَ) يا محمد (مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) يريد معظم القرى من سائر الدنيا (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي يقرأ عليهم حججنا وبيناتنا (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) لنفوسهم بالكفر والطغيان ، والعتو والعصيان (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وما أعطيتموه من شيء (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) أي هو شيء تتمتعون به في الحياة وتتزيّنون به (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب ونعيم الآخرة (خَيْرٌ) من هذه النعم (وَأَبْقى) لأنها فانية ونعم الآخرة باقية (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ذلك وتتفكرون فيه حتى تميزوا بين الباقي والفاني.

٥٢٠