الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

ينسون من شدّة هول ذلك اليوم مدة لبثهم في الدنيا. ثم قال سبحانه (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي بما يتسارون بينهم (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي أصلحهم طريقة ، وأوفرهم عقلا ، وأصوبهم رأيا ، وقيل : أكثرهم سدادا عند نفسه (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) أي ما لبثتم إلّا يوما في الدنيا وفي القبور ، إنما قال ذلك لأن اليوم الواحد والعشرة إذا قوبلت بيوم القيامة وما لهم من الأيام في النار كان اليوم الواحد أقرب إليه وهو كقوله : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها). ثم قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَيَسْئَلُونَكَ) أي ويسألك منكرو البعث عند ذكر القيامة (عَنِ الْجِبالِ) ما حالها (فَقُلْ) يا محمد (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) أي يجعلها ربّي بمنزلة الرمل ، ثم يرسل عليها الرياح فيذريها كتذرية الطعام من القشور والتراب فلا يبقى على وجه الأرض منها شيء وقيل يصيرها كالهباء وقيل ان رجلا من ثقيف سأل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمها فقال ان الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها (فَيَذَرُها) أي فيدع أماكنها من الأرض إذا نسفها (قاعاً) أي أرضا ملساء وقيل منكشفة عن الجبائي (صَفْصَفاً) أي أرضا مستوية ليس للجبل فيها أثر وقيل القاع والصفصف بمعنى واحد وهو المستوي من الأرض الذي لا نبات فيه عن ابن عباس ومجاهد (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) أي ليس فيها منخفض ولا مرتفع.

١٠٨ ـ ١١٥ ـ ثم وصف سبحانه القيامة فقال (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) أي يوم القيامة يتبعون صوت داعي الله الذي ينفخ في الصور وهو إسرافيل عليه‌السلام (لا عِوَجَ لَهُ) أي لدعاء الداعي ، ولا يعدل عن أحد بل يحشرهم جميعا عن أبي مسلم وقيل معناه لا عوج لهم من دعائه لا يميلون عنه ولا يعدلون عن ندائه أي يتبعونه سراعا ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا عن الجبائي (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) أي خضعت الأصوات بالسكون لعظمة الرحمن عن ابن عباس (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) وهو صوت الاقدام عن ابن عباس وابن زيد ، أي لا تسمع من صوت أقدامهم إلا صوتا خفيا كما يسمع من وطىء الإبل وقيل : الهمس اخفاء الكلام عن مجاهد وقيل معناه : ان الأصوات العالية بالأمر والنهي في الدنيا ينخفض ويذل أصحابها فلا تسمع منهم إلا الهمس (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي لا تنفع ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره إلا شفاعة من أذن الله له في أن يشفع ، ورضي قوله فيها من الأنبياء والأولياء والصالحين والصديقين والشهداء. ثم قال سبحانه : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) الضمير يرجع إلى الذين يتبعون الداعي ، أي يعلم سبحانه جميع أقوالهم وأفعالهم قبل أن خلقهم وبعد أن خلقهم ، وما كان في حياتهم وبعد مماتهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم تقدم أو تأخر (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي ولا يحيطون هم بالله علما أي بمقدوراته ومعلوماته وقيل : بكنه عظمته في ذاته وأفعاله (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي خضعت وذلت خضوع الأسير في يد من قهره ، والمراد : خضع أرباب الوجوه واستسلموا لحكم الحي الذي لم يمت ولا يموت (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي قد خسر الثواب من جاء يوم القيامة كافرا ظالما (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي ومن يعمل شيئا من الطاعات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) عارف بالله تعالى ، مصدق بما يجب التصديق به ، وإنما قال ذلك لأنه لا تنفع الطاعة من غير إيمان (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) أي هو لا يخاف أن يظلم ويزاد عليه في سيئاته ، ولا أن يهضم أي ينقص من حسناته عن ابن عباس وقيل : لا يخاف أن يؤخذ بذنب لم يعمله ، ولا أن تبطل حسنة عملها (وَكَذلِكَ) أي وكما أخبرناك بأخبار القيامة (أَنْزَلْناهُ) أي أنزلنا هذا الكتاب (قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) أي كرّرنا فيه من

٤٢١

الوعيد ، وذكرناه على وجوه مختلفة ، وبيّناه بألفاظ متفرقة (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) المعاصي. وقيل : ليتّقي العرب من قبل أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) معناه : أو يجدد القرآن لهم عظة واعتبارا ، أي يذكروا به عقاب الله للأمم فيعتبروا وقيل أن يحدث لهم شرفا بإيمانهم به وإنما أضاف فيعتبروا وقيل أن يحدث لهم شرفا بإيمانهم به وإنما أضاف احداث الذكر إلى القرآن لأنه يقع عنده كما قال : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) أي ارتفعت صفاته عن صفات المخلوقين فلا يشبهه أحد في صفاته لأنه أقدر من كل قادر ، وأعلم من كل عالم ، وكل عالم وقادر سواه محتاج إليه وهو غني عنه ، وكل قادر وعالم قادر على شيء عاجز عن شيء ، عالم بشيء جاهل بشيء ، وما هو عالم به يجوز أن ينساه أو يسهو عنه ، فهو معرّض الزوال والله سبحانه لم يزل عالما قادرا ولا يزال كذلك ، والملك الذي يملك الدنيا والآخرة والحق الذي يحق له الملك وكل ملك سواه يملك بعض الأشياء ويبيد ملكه ويفنى (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) فيه وجوه (أحدها) ان معناه : لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبرائيل عليه‌السلام من إبلاغه ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأ معه ويعجل بتلاوته مخافة نسيانه ؛ أي تفهم ما يوحى إليك إلى أن يفرغ الملك من قراءته ولا تقرأ معه ثم اقرأ بعد فراغه منه ، وهذا كقوله لا تحرّك به لسانك لتعجل به عن ابن عباس والحسن والجبائي (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي استزد من الله سبحانه علما إلى علمك روت عائشة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقرّبني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه وقيل معناه زدني علما بقصص أنبيائك ومنازل أوليائك وقيل زدني قرآنا لأنه كلما ازداد من نزول القرآن عليه ازداد علما عن الكلبي (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) معناه أمرناه وأوصينا إليه أن لا يقرب الشجرة ولا يأكل منها فترك الأمر عن ابن عباس ولم نجد له عقدا ثابتا وقيل معناه : فنسي من النسيان الذي هو السهو ، ولم نجد له عزما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمد.

١١٦ ـ ١٢٥ ـ ثم بيّن سبحانه تفصيل ما أجمله من قصة آدم عليه‌السلام فقال : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) فقد مرّ تفسيره (أَبى) أي امتنع من أن يسجد (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) حواء (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ) أي لا تطيعاه ، والمعنى : لا يكونن سببا لخروجكما من الجنة بغروره ووساوسه (فَتَشْقى) أي فتقع في تعب العمل ، وكدّ الإكتساب ، والنفقة على زوجتك ونفسك ، ولذلك قال فتشقى ولم يقل فتشقيا وقيل لأن أمرهما في السبب واحد فاستوى حكمهما لاستوائهما في السبب والعلة قال سعيد بن جبير : أنزل على آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويرشح العرق عن جبينه وذلك هو الشقاوة (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) أي في الجنة لسعة طعام الجنّة وثيابها (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) أي لا تعطش ولا يصيبك حرّ الشمس عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة قالوا : ليس في الجنة شمس وإنما فيها ضياء ونور وظل ممدود (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) قد تقدّم بيانه (قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أي على شجرة من أكل منها لم يمت (وَمُلْكٍ لا يَبْلى) جديده ولا يفنى وهذا كقوله ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الآية (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) هذا مفسر في سورة الأعراف (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) معناه : خالف آدم ما أمره ربه به فخاب من ثوابه ، والمعصية مخالفة الأمر سواء كان الأمر واجبا أو ندبا قال الشاعر «أمرتك أمرا جازما فعصيتني» ولا يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا كما يسمى بذلك تارك الواجب ،

٤٢٢

يقولون : فلان أمرته بكذا وكذا من الخير فعصاني وخالفني وإن لم يكن ذلك واجبا ، ولا شبهة أن لفظة غوى يحتمل الخيبة. ويجوز أن يكون معناه : فخاب مما كان يطمع فيه بأكل الشجرة من الخلود (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) أي اصطفاه الله تعالى واختاره للرسالة (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) أي قبل توبته وهداه إلى ذكره وقيل هداه للكلمات التي تلقاها منه (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) يعني آدم وحواء (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) قد فسّرنا جميعها في سورة البقرة (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) أي فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. قال ابن عباس : ضمن الله سبحانه لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم قرأ هذه الآية (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي ومن أعرض عن القرآن وعن الدلائل التي أنزلها الله تعالى لعباده ، وصدف عنها ولم ينظر فيها (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي عيشا ضيقا عن مجاهد وقتادة والجبائي ، وهو أن يقتر الله عليه الرزق عقوبة له على اعراضه ، فإن وسع عليه فإنه يضيق عليه المعيشة بأن يمسكه ولا ينفقه على نفسه وإن أنفقه فإن الحرص على الجمع وزيادة الطلب يضيق المعيشة عليه. وقيل : هو عذاب القبر عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري والسدي ورواه أبو هريرة مرفوعا ، وقيل : هو طعام الضريع والزقوم في جهنم لأن مآله إليها وإن كان في سعة من الدنيا عن الحسن وابن زيد وقيل معناه أن يكون عيشه منغصا بأن ينفق انفاق من لا يوقن بالخلف عن ابن عباس وقيل هو الحرام في الدنيا الذي يؤدّي إلى النار عن عكرمة والضحاك وقيل عيشا ضيقا في الدنيا لقصرها وسائر ما يشوبها ويكدرها وإنما العيش الرغد في الجنة عن أبي مسلم (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) أي أعمى البصر عن ابن عباس ، وقيل : أعمى عن الحجة عن مجاهد ، يعني أنّه لا حجّة له يهتدي إليها ، والأول هو الوجه ، لأنه الظاهر ، ولا مانع منه ويدل عليه قوله : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) قال الفراء : يقال : أنه يخرج من قبره بصيرا فيعمى في حشره.

١٢٦ ـ ١٣٠ ـ (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) هذا جواب من الله سبحانه لمن يقول لم حشرتني أعمى ، ومعناه : كما حشرناك أعمى جاءك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن والدلائل فأعرضت عنها وتعرضت لنسيانها (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) معناه : كما تركت أو امرنا فجعلتها كالشيء المنسي تترك اليوم في العذاب كالشيء المنسي (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) أي وكما ذكرنا نجزي من أشرك وجاوز الحدّ في العصيان ولم يؤمن بآيات ربه ، أي لم يصدّق بحجج ربه وكتبه ورسله (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) من عذاب الدنيا وعذاب القبر (وَأَبْقى) أي أدوم لأنه لا يزول وعذاب الدنيا وعذاب القبر يزول (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) يعني كفار مكة ، والمعنى : أفلم يبيّن لهم طريق الإعتبار كثرة إهلاكنا القرون قبلهم بتكذيبهم رسلنا فيعتبروا ويؤمنوا وقوله (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) يريد أهل مكة كانوا يتّجرون إلى الشام فيمرون بمساكن عاد وثمود ويرون علامات الإهلاك ، وفي هذا تنبيه لهم وتخويف ، أي أفلا يخافون أن يقع بهم مثل ما وقع بأولئك (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في اهلاكنا إياهم (لَآياتٍ) أي لعبرا ودلالات (لِأُولِي النُّهى) أي لذوي العقول الذين يتدبّرون في أحوالهم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إلى يوم القيامة وهو قوله : (لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أي لكان العذاب لزاما لهم واقعا في الحال. ثم أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر على أذاهم بأن قال (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من تكذيبك واذاهم إياك (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) معناه : سبّحه واحمده في هذه الأوقات (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يعني صلاة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) يعني صلاة العصر (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ)

٤٢٣

يريد أول الليل المغرب والعشاء الآخرة (فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ) يعني الظهر وسمّي وقت صلاة الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال وهو طرف النصف الأول ، وطرف النصف الثاني (لَعَلَّكَ تَرْضى) بجميع ما وعدك الله به من النصر واعزاز الدين في الدنيا ، والجنة في الآخرة.

١٣١ ـ ١٣٥ ـ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) وقد فسرّناه في سورة الحجر ، وقال أبي بن كعب في هذه الآية : من لم يتعزّ بعزاء الله تقطعت نفسه حسرات على الدنيا ، ومن يتبع بصره ما في أيدي الناس يطل حزنه ولا يشفي غيظه ، ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعمه ومشربه نقص علمه ودنا عذابه. وروى أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) انه قال : لما نزلت هذه الآية استوى رسول الله (ص) ثم قال هذه الكلمات التي تقدمت (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي بهجتها ونضارتها وما يروق الناظر عند الرؤية (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنعاملهم معاملة المختبر بشدة التعبد في العمل بالحق في هذه الأمور وأداء الحقوق عنه وقيل لنفتنهم أي لنشدّد عليهم التعبد بأن نكلّفم متابعتك والطاعة لك مع كثرة أموالهم وقلة مالك وقيل معناه لنعذّبهم به لأن الله قد يوسّع الرزق على بعض أهل الدنيا تعذيبا له ولذلك قال عليه‌السلام لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي ورزق ربّك الذي وعدك به في الآخرة خير مما متعنا به هؤلاء في الدنيا (وَأَبْقى) أي أدوم (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) معناه : وأمر يا محمد أهل بيتك وأهل دينك بالصلاة. وروى أبو سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتي باب فاطمة وعليّ تسعة أشهر عند كل صلاة فيقول الصلاة رحمكم الله (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي واصبر على فعلها وعلى أمرهم بها (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) لخلقنا ولا لنفسك ، بل كلفناك العبادة وأداء الرسالة وضمنا رزق الجميع (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) الخطاب للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به جميع الخلق ، أي نرزق جميعهم ولا نسترزقهم ، وننفعهم ولا ننتفع بهم ، فيكون أبلغ في الإمتنان عليهم (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) أي العاقبة المحمودة لأهل التقوى. قال ابن عباس : يريد الذين صدّقوك واتبعوك واتقوني (وَقالُوا) يعني الكفار (لَوْ لا يَأْتِينا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) اقترحناها عليه كما أتى به الأنبياء ، نحو الناقة (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) أي أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية كحال أولئك (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ) يعني كفار قريش (بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل بعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول القرآن (لَقالُوا) يوم القيامة (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا) أي هلّا أرسلت (رَسُولاً) يدعونا إلى طاعتك ، ويرشدنا إلى دينك (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) أي نعمل بما فيها (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) بالعذاب (وَنَخْزى) في جهنّم (قُلْ) يا محمد (كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ) أي كل واحد منّا ومنكم منتظر ، فنحن ننتظر وعد الله لنا فيكم ، وأنتم تتربصون بنا الدوائر (فَتَرَبَّصُوا) أنتم أي انتظروا ؛ وهذا على وجه التهديد (فَسَتَعْلَمُونَ) أي فسوف تعلمون فيما بعد (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) أي أهل الدين المستقيم (وَمَنِ اهْتَدى) إلى طريق الحق ، أي أنحن أم أنتم.

٤٢٤

سورة الأنبياء

مكية

وعدد آياتها مائة واثنتا عشرة آية

١ ـ ٥ ـ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) المعنى : اقترب للناس وقت حسابهم ، يعني القيامة ، كما قال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) ، أي دنا وقت محاسبة الله إياهم ومسألتهم عن نعمه هل قابلوها بالشكر ، وعن أوامره هل امتثلوها ، وعن نواهيه هل اجتنبوها ، وإنما وصف ذلك بالقرب لأنه آت ، وكل ما هو آت قريب ، ولأن أحد أشراط الساعة مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد قال بعثت أنا والساعة كهاتين وأيضا فإن الزمان يقرب بكثرة ما مضى وقلة ما بقي فيكون يسيرا بالإضافة إلى ما مضى (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) من دنوّها وكونها (مُعْرِضُونَ) عن التفكر فيها ، والتأهب لها وقيل عن الإيمان بها. وتضمّنت الآية الحثّ على الإستعداد ليوم القيامة (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني القرآن (مُحْدَثٍ) أي محدث التنزيل ، مبتدأ التلاوة ، كنزول سورة بعد سورة ، وآية بعد آية (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي لم يستمعوه استماع نظر وتدبر وقبول وتفكر ، وإنما استمعوه استماع لعب واستهزاء وقال ابن عباس معناه يستمعون القرآن مستهزئين غافلة قلوبهم عما يراد بهم (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي تناجوا فيما بينهم ، يعني المشركين ؛ ثم بيّن من هم فقال : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أشركوا بالله. ثم بيّن سبحانه سرّهم الذي تناجوا به فقال (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي أنه آدمي مثلكم ليس مثل الملائكة (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر ، نفروا الناس عنه بشيئين (أحدهما) انه بشر (والآخر) ان ما أتى به سحر وقيل ان أسروا معناه أظهروا هذا القول فإن هذا اللفظ مشترك بين الإخفاء والإظهار والأول أصح ثم أمر سبحانه نبيّه (ص) فقال (قالَ رَبِّي) الذي خلقني واصطفاني (يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي يعلم أسرار المتناجين لا يخفى عليه شيء من ذلك (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بأفعالهم وضمائرهم (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) بل للإضراب عما حكى سبحانه أنهم قالوه أولا وللإخبار عما قالوه ثانيا أي قالوا ان القرآن تخاليط أحلام رآها في المنام عن قتادة (بَلِ افْتَراهُ) أي ثم قالوا : لا بل افتراه ، أي تخرصه وافتعله (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أي ثم قالوا : بل هو شاعر ؛ وهذا قول المتحير الذي بهره ما سمع فمرة يقول سحر ، ومرة يقول شعر ، ومرة يقول حلم ، ولا يجزم على أمر واحد ، وهذه مناقضة ظاهرة (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) معناه : فليأتنا بآية ظاهرة يستدركها الخاص والعام كما أتى بها الأولون من الأنبياء. قال ابن عباس : بآية مثل الناقة والعصا وقال الزجاج : اقترحوا بالآيات التي لا يكون معها امهال. وفي قوله سبحانه : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) دلالة ظاهرة على أن القرآن محدث لأنه تعالى أراد بالذكر القرآن بدلالة قوله : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ، وقد وصفه بأنه محدث ، ويوضحه قوله : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ).

٦ ـ ١٠ ـ لمّا تقدّمت الحكاية عن الكفار بأنهم اقترحوا الآيات قال سبحانه مجيبا لهم (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي لم يؤمن قبل هؤلاء الكفار من أهل قرية جاءتهم الآيات التي طلبوها فأهلكناهم مصرين على الكفر (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) عند مجيئها ؛ هذا اخبار عن حالهم وان سبيلهم سبيل من تقدّم من الأمم طلبوا الآيات فلم يؤمنوا بها وأهلكوا ، فهؤلاء أيضا لو أتاهم ما اقترحوه لم يؤمنوا ولاستحقوا عذاب الإستئصال ، وقد حكم سبحانه في هذه الآية أن لا يعذبهم عذاب الاستئصال فلذلك لم يجبهم في ذلك وقيل ما حكم

٤٢٥

الله سبحانه بهلاك قرية إلا وفي المعلوم أنهم لا يؤمنون فلذلك لم يأت هؤلاء بالآيات المقترحة (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) يا محمد (إِلَّا رِجالاً) هذا جواب لقولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، والمعنى : لم نرسل قبلك يا محمد إلا رجالا من بني آدم (نُوحِي إِلَيْهِمْ) لا ملائكة لأن الشكل إلى الشكل أميل ، وبه آنس ، وعنه أفهم ، ومن الانفة منه أبعد (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) روي عن علي عليه‌السلام أنه قال : نحن أهل الذكر ، وروي ذلك عن أبي جعفر عليه‌السلام ، ويعضده أن الله تعالى سمّى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرا رسولا في قوله : (ذِكْراً رَسُولاً) (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) أي باقين لا يموتون ؛ هذا ردّ لقولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ، ومعناه : وما جعلنا الأنبياء قبلك أجسادا لا يأكلون الطعام ولا يموتون حتى يكون أكلك الطعام وشربك وموتك علة في ترك الإيمان بك ، فإنا لم نخرجهم عن حدّ البشرية بالوحي (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أي صدقناهم الوعد بأن العاقبة الحميدة تكون لهم ، ومعناه : انجزنا ما وعدناهم به من النصر والنجاة والظهور على الأعداء ، وما وعدناهم به من الثواب (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) أي فأنجيناهم من أعدائهم وأنجينا معهم من نشاء من المؤمنين بهم (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) على أنفسهم بتكذيبهم الأنبياء قال قتادة : هم المشركون ، وهذا تخويف لكفار مكة. ثم ذكر نعمته عليهم بإنزال القرآن فقال (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) يا معشر قريش (كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي فيه شرفكم ان تمسكتم به ، كقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (أَفَلا تَعْقِلُونَ) معناه : أفلا تتدبرون فتعلمون أن الأمر على ما قلناه. وقيل : هو خطاب للعرب لأنه أنزل القرآن بلغتهم.

١١ ـ ٢٠ ـ ثم بيّن سبحانه ما فعله بالمكذبين فقال : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهلكنا عن مجاهد والسدي (كانَتْ ظالِمَةً) أي كافرة ، يعني أهلها (وَأَنْشَأْنا) أي أوجدنا (بَعْدَها) أي بعد اهلاك أهلها (قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا) أي فلما أدركوا بحواسهم (بَأْسَنا) أي عذابنا (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) معناه : إذا هم من القرية أو من العقوبة يهربون سراعا هرب المنهزم من عدوّه (لا تَرْكُضُوا) أي يقال لهم تقريعا وتوبيخا : لا تهربوا (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ) أي وارجعوا إلى ما نعمتم فيه وإلى مساكنكم التي كفرتم وظلمتم فيها وقيل : انهم لما أخذتهم السيوف انهزموا مسرعين ، فقالت لهم الملائكة بحيث سمعوا النداء : لا تركضوا وارجعوا إلى ما خولتم ونعمتم فيه ، وارجعوا إلى مساكنكم ، وقال ابن قتيبة : معناه : إلى نعمكم التي أترفتكم ومساكنكم (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) شيئا من دنياكم فإنكم أهل ثروة ونعمة ، يقولون ذلك استهزاء بهم ، هذا قول قتادة وقيل لعلكم تسألون ، أي يسألكم رسولكم أن تؤمنوا كما سئل قبل نزول العذاب لكم ، وهذا استهزاء بهم ايضا ، وقيل : لكي تسألوا عن أعمالكم وعن تنعمكم في الدنيا بغير الحق ، وعما استحققتم به العذاب ، عن الجبائي وأبي مسلم (قالُوا) على سبيل التندم لما رأوا العذاب (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا حيث كذّبنا رسل ربنا ، والمعنى : انهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب والويل : الوقوع في الهلكة (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) أي لم يزالوا يقولون : يا ويلنا وتلك دعواهم (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي محصودا مقطوعا (خامِدِينَ) ساكني الحركات ميتين كما تخمد النار إذا انطفأت ، والمعنى : استأصلناهم بالعذاب وأهلكناهم (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) بل خلقناهما لغرض صحيح وهو أن يكون دلالة ونعمة وتعريضا للثواب (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) اللهو المرأة عن الحسن ومجاهد وقيل : هو الولد عن ابن عباس وقيل معناه : اللهو الذي هو داعي الهوى ونازع الشهوة ، والمعنى : لو اتخذنا نساء أو ولدا لاتخذناه من أهل

٤٢٦

السماء ولم نتخذه من أهل الأرض ، وتأويل الآية : ان النصارى لما قالت في المسيح وأمه ما قالت قال الله عزوجل : لو أردنا أن نتّخذ صاحبة وولدا لاتخذنا ذلك من عندنا ، ولم نتخذ من عندكم ، وانكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) أي ما كنّا فاعلين (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) معناه : بل نورد الأدلة القاهرة على الباطل (فَيَدْمَغُهُ) أي يعلوه ويبطله (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي هالك مضمحل. عن قتادة وتأويله : ان الله سبحانه يظهر الحق بأدلته ، ويبطل الباطل (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي الهلاك لكم يا معشر الكفار مما تصفون الله تعالى به من اتخاذ الصاحبة والولد (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا ؛ وهذا ردّ أيضا على من أثبت له الولد والشريك (وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني الملائكة الذين لهم عند الله تعالى المنزلة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي لا يأنفون ولا يترفعون عن عبادته (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) لا يملون ولا ينقطعون (يُسَبِّحُونَ) أي ينزهون الله تعالى عن جميع ما لا يليق بصفاته على الدوام (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي في الليل والنهار (لا يَفْتُرُونَ) أي لا يضعفون عنه.

٢١ ـ ٣٠ ـ (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) هذا استفهام معناه الجحد ، أي لم يتخذوا آلهة من الأرض (هُمْ يُنْشِرُونَ) أي يحيون الأموات والمعنى في ذلك : ان هؤلاء إذا كانوا لا يقدرون على الاحياء الذي من قدر عليه قدر على أن ينعم بالنعم التي يستحق بها العبادة فكيف يستحقون العبادة؟ ثم ذكر سبحانه الدلالة على توحيده وأنه لا يجوز أن يكون معه إله سواه فقال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ومعناه : لو كان في السماء والأرض آلهة سوى الله لفسدتا وما استقامتا ، وفسد من فيهما ولم ينظم أمرهم. وهذا هو دليل التمانع الذي بنى عليه المتكلمون مسألة التوحيد ، وتقرير ذلك : انه لو كان مع الله سبحانه إله آخر لكانا قديمين ، والقدم من أخص الصفات ، فالإشتراك فيه يوجب التماثل ، فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيّين ، ومن حق كل قادرين أن يصح كون أحدهما مريدا لضد ما يريده الآخر من اماتة واحياء أو تحريك وتسكين أو افقار واغناء ونحو ذلك ، فإذا فرضنا ذلك فلا يخلو إما أن يحصل مرادهما وذلك محال ، واما أن لا يحصل مرادهما فينتقض كونهما قادرين ، واما أن يقع مراد أحدهما ولا يقع مراد الآخر فينتقض كون من لم يقع مراده من غير وجه منع معقول قادرا ، فإذا لا يجوز أن يكون الإله إلّا واحدا (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) وإنما خصّ العرش لأنه أعظم المخلوقات ، ومن قدر على أعظم المخلوقات كان قادرا على ما دونه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) معناه : ان جميع أفعاله حكمة وصواب ولا يقال للحكيم لم فعلت الصواب؟ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) وهذا استفهام انكار وتوبيخ أيضا (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي قل لهم يا محمد : هاتوا حجتكم على صحة ما فعلتموه لأنهم لا يقدرون على ذلك أبدا (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي وقل لهم يا محمد : هذا القرآن ذكر من معي بما يلزمهم من الأحكام ، وذكر من قبلي من الأمم من نجا بالإيمان أو هلك بالكفر (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن التأمل والتفكر (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (مِنْ رَسُولٍ) أي رسولا (إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ) أي يوحي الله إليه (أَنَّهُ لا إِلهَ) أي لا معبود على الحقيقة (إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) أي فوجهوا العبادة إليّ دون غيري (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) يعني من الملائكة (سُبْحانَهُ) نزّه نفسه عن ذلك لأن اتخاذ الولد اما أن يكون على سبيل التوالد أو على سبيل التبنّي وكلاهما لا يجوز عليه لأن الأول يقتضي أن يكون من قبيل الأجسام والثاني وهو التبني يكون بأن يقيم غير ولده مقام ولده وإذا كان حقيقة الولد مستحيلا منه فالمشبه به كذلك وليس ذلك كالخلة لأنه من الإختصاص

٤٢٧

وحقيقته جائزة عليه (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي ليسوا أولاد الله كما يزعمون ، بل هم عباد مكرمون ، أكرمهم الله واصطفاهم (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم فكل أقوالهم طاعة لربهم ، وناهيك بذلك جلالة قدرهم (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ومن كان بهذه الصفة لا يوصف بأنه ولده (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي ما قدموا من أعمالهم وما أخّروا منها (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الله دينه وقال مجاهد : إلّا لمن رضي الله عنه ، وقيل : إنهم أهل شهادة أن لا إله إلا الله ، عن ابن عباس. وقيل : هم المؤمنون المستحقون للثواب وحقيقته أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله أن يشفع فيه فيكون في معنى قوله (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) أي من خشيتهم منه (مُشْفِقُونَ) خائفون وجلون من التقصير في عبادته (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) أي من يقل من هؤلاء الملائكة اني إله تحق لي العبادة من دون الله (فَذلِكَ) أي فذلك القائل (نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) يعني ان حالهم مثل حال سائر العبيد في استحقاق الوعيد بالشرط وقيل : إنّه عنى به ابليس ، لأنّه الذي دعا الناس الى عبادته (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) يعني المشركين الذين يصفون الله بما لا يليق به (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) استفهام يراد به التقريع والمعنى : أو لم يعلموا أنه سبحانه الذي يفعل هذه الأشياء ولا يقدر عليها غيره فهو الإله المستحق للعبادة دون غيره (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) كانت السماء رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، ففتقنا السماء بالمطر ، والأرض بالنبات ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي وأحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء حيّ. وسئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن طعم الماء فقال : سل تفقها ولا تسأل تعنتا ، طعم الماء طعم الحياة ، قال الله سبحانه : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) أي أفلا يصدّقون بالقرآن وبما يشاهدون من الدليل والبرهان.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثم بيّن سبحانه كمال قدرته ، وشمول نعمته بأن قال (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت تمنع الأرض من الحركة والإضطراب (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي تتحرك وتميل وتضطرب بهم وقيل لتستقر عن قتادة (وَجَعَلْنا فِيها) أي في الرواسي (فِجاجاً) أي طرقا واسعة بينها ، لولا ذلك لما أمكن أن يهتدوا إلى مقاصدهم في الأسفار. ثم بيّن الفجاج فقال (سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) بها إلى طريق بلادهم ومواطنهم وقيل ليهتدوا بالإعتبار بها إلى دينهم (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) أي رفعنا السماء فوق الخلق كالسقف محفوظا من الشياطين بالشهب التي ترمي بها كما قال : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) عن الجبائي. وقيل : محفوظا من أن تسقط إلى الأرض كما قال : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) الآية وقيل محفوظا من أن يطمع أحد في أن يتعرض لها بنقض أو أن يلحقها بلى أو هدم على طول الدهر عن الحسن (وَهُمْ عَنْ آياتِها) أي عن الإستدلال بما فيها من دلائل الحدوث والحاجة إلى المحدث (مُعْرِضُونَ) أي أعرضوا عن التفكر فيها (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي يجرون وقيل يدورون ، وأراد الشمس والقمر والنجوم لأن قوله الليل يدلّ على النجوم وقال ابن عباس يسبحون بالخير والشر بالشدة والرخاء. وقيل : معناه : انه سبحانه جعل لكل واحد منهما فلكا يدور فيه بسرعة كالسباحة وإنما قال يسبحون لأنه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (الْخُلْدَ) أي دوام البقاء في الدنيا (أَفَإِنْ مِتَ) أنت على ما يتوقعونه وينتظرون (فَهُمُ الْخالِدُونَ) أي أفهم يخلدون بعدك؟ يعني مشركي مكّة حين قالوا : نتربص بمحمد ريب المنون. فقال : لئن متّ فإنهم أيضا يموتون ،

٤٢٨

فأيّ فائدة لهم في تمنّي موتك (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي لا بدّ لكل نفس حيّة بحياة أن يدخل عليها الموت وتخرج عن كونها حيّة (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) أي نعاملكم معاملة المختبر بالفقر والغنى ، وبالضراء والسراء ، وبالشدة والرخاء عن ابن عباس (فِتْنَةً) أي ابتلاء واختبار ، أو شدة تعبد (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي إلى حكمنا تردّون للجزاء بالأعمال حسنها وسيئها.

٣٦ ـ ٤٠ ـ ثم خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال (وَإِذا رَآكَ) أي إذا رآك يا محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا) وأنت تعيب آلهتهم وتدعوهم إلى التوحيد (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) أي ما يتخذونك (إِلَّا هُزُواً) أي سخرية يقول بعضهم لبعض (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي يعيب آلهتكم ، وذلك قوله : إنها جماد لا ينفع ولا يضرّ (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي بتوحيده وقيل بكتابه المنزل (هُمْ كافِرُونَ) أي جاحدون. عجب الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم حيث جحدوا الحي المنعم القادر العالم الخالق الرزاق ، واتخذوا ما لا ينفع ولا يضرّ ثم ان من دعاهم إلى تركها اتخذوه هزوا وهم أحق بالهزوء عند من يدبّر حالهم (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) قيل فيه قولان (أحدهما) ان المعني بالإنسان آدم ثم أنه قيل في عجل ثلاث تأويلات منها : أنه خلق بعد خلق كل شيء آخر نهار يوم الجمعة وهو آخر أيام السنة على سرعة معاجلا به غروب الشمس عن مجاهد ومنها أن معناه : في سرعة من خلقه لأنه لم يخلقه من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة كما خلق غيره ، وإنما أنشأه إنشاء ، فكأنه سبحانه نبّه بذلك على الآية العجيبة في خلقه ومنها : أن آدم عليه‌السلام لما خلق وجعلت الروح في أكثر جسده وثب عجلان مبادرا إلى ثمار الجنة ، وقيل : همّ بالوثوب ، فهذا معنى قوله : من عجل عن ابن عباس والسدي ، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام والقول الثاني : ان المعني بالإنسان الناس كلهم (سَأُرِيكُمْ آياتِي) الدالة على وحدانيتي ، وعلى صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يوعدكم به من العذاب (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) في حلول العذاب بكم فإنه سيدرككم (وَيَقُولُونَ) يعني ويقول المشركون للمسلمين (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدوننا ، يريدون وعد القيامة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون : إن كنتم صادقين في هذا الوعد فمتى يكون ذلك. ثم قال سبحانه (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) أي لو علموا الوقت الذي لا يدفعون فيه عذاب النار عن وجوههم (وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) يعني أن النار تحيط بهم من جميع جوانبهم (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) وجواب لو محذوف وتقديره لعلموا صدق ما وعدوا به ولما استعجلوا ولا قالوا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ). ثم قال (بَلْ تَأْتِيهِمْ) الساعة (بَغْتَةً) أي فجأة (فَتَبْهَتُهُمْ) أي فتحيّرهم (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) أي فلا يقدرون على دفعها (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يؤخرون إلى وقت آخر ولا يمهلون لتوبة أو معذرة.

٤١ ـ ٤٥ ـ لمّا تقدّم ذكر استهزاء الكفار بالنبي والمؤمنين سلّى الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذلك بقوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما استهزأ هؤلاء (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي حلّ بهم وبال استهزائهم وسخريتهم وقوله منهم يعني من الرسل (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي يحفظكم من بأس الرحمن وعذابه ، وقيل : من عوارض الآفات ، وهو استفهام معناه النفي تقديره : لا حافظ لكم من الرحمن (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) أي بل هم عن كتاب ربّهم معرضون لا يؤمنون به ولا يتفكرون فيه ، وقيل معناه : انهم لا يلتفتون إلى شيء من المواعظ والحجج

٤٢٩

ثم قال على وجه التوبيخ لهم والتقريع (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) تقديره : أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم من عذابنا وعقوباتنا وتمّ الكلام ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) فكيف ينصروهم ، وقيل : معناه ان الكفار لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا يقدرون على دفع ما ينزل بهم عن نفوسهم (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي ولا الكفار يجارون من عذابنا عن ابن عباس ، قال ابن قتيبة أي لا يجيرهم منا أحد لأن المجير صاحب الجار ، يقول العرب صحبك الله ، أي حفظك الله وأجارك وقيل : يصحبون أي ينصرون ويحفظون عن مجاهد وقيل : لا يصحبون من الله بخير عن قتادة (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) في الدنيا بنعمها فلم نعاجلهم بالعقوبة (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي طالت أعمارهم فغرّهم طول العمر وأسباب الدنيا حتى أتوا ما أتوا (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي ألم ير هؤلاء الكفار أن الأرض يأتيها أمرنا فننقصها بتخريبها ، وبموت أهلها ، وقيل : بموت العلماء ، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : نقصانها ذهاب عالمها وقيل معناه : ننقصها من أطرافها بظهور النبي على من قاتله أرضا فأرضا وقوما قوما فيأخذهم : قراهم وأراضيهم ، عن الحسن وقتادة ومعناه انا ننقصها من جانب المشركين ، ونزيدها في جانب المسلمين (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) أي أفهؤلاء الغالبون أم نحن؟ ومعناه : ليسوا بغالبين ولكنهم المغلوبون ، ورسول الله الغالب ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة الرعد (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي قل يا محمد : إنما أنذركم من عذاب الله ، وأخوّفكم بما أوحى الله إليّ (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) شبّههم بالصم الذين لا يسمعون النداء إذا نودوا لأنّهم لم ينتفعوا بالسمع والمعنى : انهم يستثقلون القرآن وسماعه وذكر الحق فهم في ذلك بمنزلة الأصم الذي لا يسمع (إِذا ما يُنْذَرُونَ) أي يخوفون.

٤٦ ـ ٥٠ ـ لمّا تقدّم الإنذار بالعذاب ذكر عقيبه (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) أي أصابهم بعض ما يستحقونه من العقوبة (مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي يدعون بالويل والثبور عند نزوله. ثم قال سبحانه : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) أي نحضر الموازين التي لا جور فيها بل كلها عدل وقسط لأهل يوم القيامة ، وقال قتادة : معناه نضع العدل في المجازاة بالحق لكل أحد على قدر استحقاقه فلا يبخس المثاب بعض ما يستحقه ، ولا يفعل بالمعاقب فوق ما يستحقه (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي لا ينقص من احسان محسن ، ولا يزاد في إساءة مسيء (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها) أي جئنا بها والمراد : أحضرناها للمجازاة بها (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) أي عالمين حافظين (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) أي أعطيناهما التوراة يفرّق بين الحق والباطل (وَضِياءً) أي وآتيناهما ضياء وهو من صفة التوراة أيضا مثل قوله : (فِيها هُدىً وَنُورٌ) ، والمعنى : انهم استضاؤوا بها حتى اهتدوا في دينهم (وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) يذكرونه ويعملون بما فيه ، ويتّعظون بمواعظه. ثم وصف المتقين فقال : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي في حال الخلوة والغيبة عن الناس (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ) أي من القيامة وأهوالها (مُشْفِقُونَ) أي خائفون (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) أراد به القرآن انه ذكر ثابت نافع دائم نفعه إلى يوم القيامة ؛ سمّاه مباركا لوفور فوائده من المواعظ والزواجر والأمثال الداعية إلى مكارم الأخلاق والأفعال. لمّا وصف التوراة أتبعه ذكر القرآن الذي آتاه نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) استفهام على معنى التوبيخ أي فلماذا تنكرونه وتجحدونه مع كونه معجزا.

٥١ ـ ٦٠ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدّم من قصة موسى وهارون بقصة إبراهيم عليه‌السلام فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي

٤٣٠

أعطينا (إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) يعني الحجج التي توصله إلى الرشد من معرفة الله وتوحيده (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل موسى (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) انه أهل لإيتاء الرشد ، وصالح للنبوة (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) حين رآهم يعبدون الأصنام (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) والعامل في إذ قوله : آتينا ، أي آتيناك رشدك في ذلك الوقت ، والتمثال : إسم لشيء مصنوع مشبّها بخلق من خلق الله ، وأصله من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به ، واسم ذلك الممثل تمثال ، وجمعه تماثيل ، وقيل : أنه جعلوها أمثلة لعلمائهم الذين انقرضوا ، وقيل : إنهم جعلوها أمثلة للاجسام ، ما هذه الصور التي أنتم مقيمون على عبادتها. وروى العياشي بإسناده عن الأصبغ بن نباتة : أن عليا عليه‌السلام مرّ بقوم يلعبون الشطرنج فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، لقد عصيتم الله ورسوله (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) فاقتدينا بهم ؛ اعترفوا بالتقليد إذ لم يجدوا حجة لعبادتهم إياها سوى اتباع الآباء (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في ذهاب عن الحق ظاهر ، ذمّهم على تقليد الآباء ونسبهم في ذلك إلى الضلال (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) معناه : أجادّ أنت فيما تقول محقّ عند نفسك أم لاعب مازح؟ وإنما قالوا ذلك لاستبعادهم انكار عبادة الأصنام عليهم إذ ألفوا ذلك واعتادوه (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) أي بل إلهكم إله السماوات والأرض الذي خلقهنّ وابتدأهنّ فدلّ على الله سبحانه بصنعه (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ومعنى هذه الشهادة تحقيق الإخبار ، فإبراهيم عليه‌السلام شاهد ، ثم أقسم إبراهيم عليه‌السلام فقال : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) أي لأدبرن في بابهم تدبيرا خفيا يسوءكم ذلك وقيل إنما قال ذلك في سرّ من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل منهم فأفشاه عن قتادة ومجاهد (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي بعد أن تنطلقوا ذاهبين. قالوا : كان لهم في كل سنة مجمع وعيد إذا رجعوا منه دخلوا على الأصنام وسجدوا لها ، فقالوا لإبراهيم عليه‌السلام ألا تخرج معنا؟ فخرج فلما كان ببعض الطريق قال أشتكي رجلي وانصرف (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) أي فجعل أصنامهم قطعا قطعا عن قتادة وقيل : حطاما عن ابن عباس (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) تركه على حاله ويجوز أن يكون كبيرهم في الخلقة ، ويجوز أن يكون أكبرهم عندهم في التعظيم. قالوا : جعل يكسرهم بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الكبير علّق الفأس في عنقه وخرج (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي لعلهم يرجعون إلى إبراهيم فيسألونه عن حال الأصنام لينبههم على جهلهم وقيل : لعلّهم يرجعون إلى الكبير يسألونه وهو لا ينطق فيعلمون جهل من اتخذوه إلها ، وفي الكلام هاهنا حذف تقديره : فلما رجع قومه من عيدهم فوجدوا أصنامهم مكسّرة (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) من هذه الموصولة ، استفموا عمن صنع ذلك وأنكروا عليه فعله بقولهم : (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) إذ فعل ما لم يكن له أن يفعله (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) قالوا : سمعنا فتى يعيب آلهتنا ويقول : انها لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع ، فهو الذي كسرها.

٦١ ـ ٧٠ ـ ثم ذكر سبحانه ما جرى بين إبراهيم وقومه في أمر الأصنام بقوله : (قالُوا) يعني قوم إبراهيم (فَأْتُوا بِهِ) أي فجيئوا به (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي : بحيث يراه الناس ويكون بمشهد منهم (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) عليه بما قاله ، فيكون ذلك حجّة عليه بما فعل ، عن الحسن وقتادة قالوا : كرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة وقيل معناه : لعلّهم يشهدون عقابه وما يصنع به أي يحضرونه عن ابن إسحاق والضحاك (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) المعنى : فما جاءوا به قالوا له هذا القول مقررين له على ذلك ، فأجابهم إبراهيم عليه‌السلام (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) انه

٤٣١

مقيّد بقوله : (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، والتقدير : فقد فعله كبيرهم إن نطقوا فاسألوهم ؛ فقد علّق الكلام بشرط لا يوجد فلا يكون كذبا (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) معناه : فرجعوا إلى عقولهم وتدبّروا في ذلك إذ علموا صدق إبراهيم فيما قاله ، وحاروا عن جوابه فأنطقهم الله بالحق تحيّروا وعلموا أنها لا تنطق ، ثم اعترفوا بما هو حجة عليهم (فَقالُوا : إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) إذ تحيّروا وعلموا أنها لا تنطق ، ثم اعترفوا بما هو حجة عليهم فقالوا (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا إبراهيم (ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف نسألهم؟ فأجابهم إبراهيم بعد اعترافهم بالحجة (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) أي أفتوجّهون عبادتكم إلى الأصنام التي لا تنفعكم شيئا إن عبدتموها ، ولا تضركم إن تركتموها ، لأنها لو قدرت على نفعكم وضرّكم لدفعت عن أنفسها. ثم قال إبراهيم عليه‌السلام مهجنا لأفعالهم ، مستقذرا لها (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) قال الزجاج : معنى أفّ لكم : تبّا لأعمالكم وأفعالكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تتفكرون بعقولكم في أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة (قالُوا حَرِّقُوهُ) والمعنى : فلما سمعوا منه هذا القول قال بعضهم لبعض : حرّقوه بالنار (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) أي وادفعوا عنها وعظّموها (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي إن كنتم ناصريها والمعنى : فلا تنصرونها إلا بتحريقه بالنار (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) معناه جعلنا النار بردا عليه وسلامة لا يصيبه من أذاها شيء قال أبو عبد الله عليه‌السلام لما أجلس إبراهيم في المنجنيق وأرادوا أن يرموا به في النار أتاه جبرائيل عليه‌السلام فقال : السلام عليك يا إبراهيم ورحمة الله وبركاته ألك حاجة فقال : أما إليك فلا ، فلما طرحوه دعا الله فقال : يا الله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؟ فحسرت النار عنه وانه لمحتب ومعه جبرائيل عليه‌السلام وهما يتحدثان في روضة خضراء. وقيل : إن إبراهيم عليه‌السلام ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) معناه : ان الكفار أرادوا بإبراهيم عليه‌السلام كيدا : أي شرّا وتدبيرا في إهلاكه (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) قال ابن عباس هو أن سلّط الله على نمرود وخيله البعوض حتى أخذت لحومهم ، وشربت دماءهم ، ووقعت واحدة في دماغه حتى أهلكته.

٧١ ـ ٧٥ ـ (وَنَجَّيْناهُ) أي من نمرود وكيده (وَلُوطاً) من الهلكة ، وهو ابن أخي إبراهيم فآمن به (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) اختلف فيها فقيل : هي أرض الشام أي نجيناه من كوثى إلى الشام عن قتادة قال : وإنما قال : باركنا فيها لأنها بلاد خصب ، وقيل : إلى أرض بيت المقدس لأن بها مقام الأنبياء عن الجبائي وقيل نجاهما إلى مكة كما قال ان أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا عن ابن عباس (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) أي وهبنا لإبراهيم إسحاق حين سأل الولد فقال : رب هب لي من الصالحين (وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) قال ابن عباس : وقتادة نافلة راجع إلى يعقوب ، فإنه زاده من غير دعاء فهو نافلة (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) أي وجعلنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب صالحين للنبوة والرسالة وقيل : معناه حكمنا بكونهم صالحين وهو غاية ما يوصف به من الثناء الجميل (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) يقتدى بهم في أفعالهم وأقوالهم ، يهدون الخلق إلى طريق الحق وإلى الدين المستقيم (بِأَمْرِنا) فمن اهتدى بهم في أقوالهم وأفعالهم فالنعمة لنا عليه (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) قال ابن عباس : شرائع النبوة (وَإِقامَ الصَّلاةِ) أي إقامة الصلاة (وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) أي اعطاء الزكاة (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) أي مخلصين في العبادة (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ومعناه : وأعطينا لوطا حكمة وعلما وقيل : الحكم النبوة وقيل : هو الفصل بين الخصوم بالحق ، أي جعلناه حاكما وعلّمناه ما يحتاج إلى العلم به (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي

٤٣٢

كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) وهي قرية سدوم على ما روي ، والخبائث التي كانوا يعملونها هي أنهم كانوا يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم وقيل : هي ما حكى الله تعالى : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) ، وغير ذلك من القبائح ، وأراد بالقرية أهلها. ثم ذمّهم فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله تعالى (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي في نعمتنا ومنّتنا (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي بسبب أنه من الصالحين الذين أصلحوا أفعالهم فعملوا بما هو الحسن منها دون القبيح ، وقيل : أراد بكونه من الصالحين انه من الأنبياء.

٧٦ ـ ٨٠ ـ ثم عطف سبحانه قصة نوح وداود على قصة إبراهيم عليه‌السلام ولوط فقال (وَنُوحاً إِذْ نادى) أي دعا ربّه فقال ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، وقال : إني مغلوب فانتصر وغير ذلك (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل إبراهيم ولوط (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي : أجبناه إلى ما التمسه (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي : من الغم الذي يصل حرّه إلى القلب وهو ما كان يلقاه من الأذى طول تلك المدة ، وتحمل الإستخفاف من السقاط من أعظم الكرب (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي منعناه منهم بالنصرة حتى لم يصلوا إليه بسوء (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) صغارهم وكبارهم ، وذكورهم وإناثهم (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) أي وآتينا داود وسليمان حكما وعلما إذ يحكمان (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) أي بحكمهم عالمين ، لم يغب عنّا منه شيء. والحكم الذي حكما به زرع وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته ، وكان كرما وقد بدت عناقيده ، فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان : غير هذا يا نبيّ الله قال : وما ذاك؟ قال يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) أي علّمناه الحكومة في ذلك ، ان سليمان قضى بذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة ، وروي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا ، وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهارا (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أي وكل واحد من داود وسليمان أعطيناه حكمة ، ومعناه : النبوة وعلم الدين والشرع (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) قيل معناه : سيّرنا الجبال مع داود حيث سار ، فعبّر عن ذلك بالتسبيح لما فيه من الآية العظيمة التي تدعو إلى تسبيح الله وتعظيمه وتنزيهه عن كل ما لا يليق به ، وكذلك تسخير الطير له تسبيح يدل على أن مسخرها قادر لا يجوز عليه مما يجوز على العباد عن الجبائي وعلي بن عيسى. وقيل : ان الجبال كانت تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير يسبح معه بالغداة والعشي ، معجزة له عن وهب (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي قادرين على فعل هذه الأشياء ، ففعلناها دلالة على نبوته (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) أي علّمناه كيف يصنع الدرع ، قال قتادة أول من صنع الدرع داود عليه‌السلام وإنما كانت صفائح جعل الله سبحانه الحديد في يده كالعجين ، فهو أول من سردها وحلقها فجمعت الخفة والتحصين وهو قوله : (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي ليحرزكم ويمنعكم من وقع السلاح فيكم (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) لنعم الله تعالى عليكم.

٨١ ـ ٨٦ ـ ثم عطف سبحانه بقصة سليمان على ما تقدّم فقال : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي وسخّرنا لسليمان الريح (عاصِفَةً) أي شديدة الهبوب. قال ابن عباس : إذا أراد ان تعصف الريح عصفت ، وإذا أراد أن ترخي أرخيت ، وذلك قوله : رخاء حيث أصاب (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) أي بأمر سليمان

٤٣٣

(إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي أرض الشام لأنها كانت مأواه ، وكانت الريح تجري في الغداة مسيرة شهر ، وفي الرواح كذلك ، وكان يسكن بعلبك ويبنى له بيت المقدس ، ويحتاج إلى الخروج إليها وإلى غيرها ، ويجتمع معه جنوده ثم تحمله الريح إلى حيث أراد (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) فإنما أعطيناه ما أعطيناه لما علمناه من المصلحة (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) أي وسخّرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر فيخرجون له الجواهر واللآلىء والغوص : النزول إلى تحت الماء (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي سوى ذلك من الأبنية كالمحاريب والتماثيل وغيرهما (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) لئلا يهربوا منه ، ويمتنعوا عليه (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ) أي واذكر يا محمد أيوب حين دعا ربّه لما امتدت المحنة به (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) أي نالني الضرّ ، وأصابني الجهد (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي ولا أحد أرحم منك. وهذا تعريض منه بالدعاء لإزالة ما به من البلاء وهو من لطيف الكنايات في طلب الحاجات ، ومثله قول موسى : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي أجبنا دعاءه ونداءه (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) أي أزلنا ما به من الأوجاع والأمراض (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قال ابن عباس وابن مسعود : ردّ الله سبحانه عليه أهله الذين هلكوا بأعيانهم ، وأعطاه مثلهم معهم ، وكذلك ردّ الله عليه أمواله ومواشيه بأعيانها ، وأعطاه مثلها معها (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي نعمة منّا عليه (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي : موعظة لهم في الصبر والإنقطاع إلى الله تعالى ، والتوكل عليه ، لأنّه لم يكن في عصر أيوب أحد أكرم على الله منه فابتلاه بالمحن العظيمة فأحسن الصبر عليها ، فينبغي لكل عاقل إذا أصابته محنة أن يصبر عليها ولا يجزع ، ويعلم أن عاقبة الصبر محمودة (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) أي : واذكر هؤلاء الأنبياء وما أنعمت عليهم من فنون النعمة ، ثم قال : (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) صبروا على بلاء الله ، والعمل بطاعته ، فأما إسماعيل فإنه صبر ببلد لا زرع به ولا ضرع وقام ببناء الكعبة ، وأما إدريس فإنه صبر على الدعاء إلى الله وكان أول من بعث إلى قومه فدعاهم إلى الدين فأبوا فأهلكهم الله تعالى ورفعه إلى السماء السادسة (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) أي وأدخلنا هؤلاء الذين ذكرناهم من الأنبياء في نعمتنا ، وأراد غمرناهم بالرحمة (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي إنما أدخلناهم في رحمتنا لأنهم كانوا ممن صلحت أعمالهم.

٨٧ ـ ٩٠ ـ ثم ذكر سبحانه قصة يونس عليه‌السلام فقال : (وَذَا النُّونِ) أي واذكر ذا النون ، والنون الحوت ، وصاحبها يونس بن متّى (إِذْ ذَهَبَ) أي حين ذهب مغاضبا لقومه ، أي مراغما لهم من حيث انه دعاهم إلى الإيمان مدة طويلة فلم يؤمنوا حتى أوعدهم الله بالعذاب فخرج من بينهم مغاضبا لهم قبل أن يؤذن له (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي لن نضيق عليه. عن عطاء وجماعة من المفسرين ، وقيل : ظن أن لا نقضي عليه ما قضيناه ، والقدر بمعنى القضاء ، عن مجاهد وقتادة والكلبي والجبائي ضيّق الله عليه الطريق حتى ألجأه إلى ركوب البحر ، ثم قذف فيه فابتلعته السمكة (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، عن ابن عباس وقتادة ، قيل : كان حوت في بطن حوت ، عن سالم بن أبي الجعد (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ) لما أراد السؤال والدعاء قدّم ذكر التوحيد والعدل ثم قال : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي من الذين يقع منهم الظلم ، وإنما قاله على سبيل الخشوع والخضوع لأن جنس البشر لا يمتنع منه وقوع الظلم (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أي من بطن الحوت (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي ننجيهم إذا دعونا به كما أنجينا ذا النون. ثم قال سبحانه (وَزَكَرِيَّا) أي واذكر زكريا (إِذْ نادى رَبَّهُ) ودعاه يا (رَبِّ لا

٤٣٤

تَذَرْنِي فَرْداً) بغير وارث ولا ولد يعينني على أمر الدين والدنيا في حياتي ، ويرثني بعد وفاتي (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) هذا ثناء على الله سبحانه بأنه الباقي بعد فناء خلقه ، وأنه خير من بقي حيّا بعد ميت ، وأن الخلق كلهم يموتون ويبقى هو سبحانه (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) روى الحرث بن المغيرة قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني من أهل بيت قد انقرضوا وليس لي ولد فقال : ادع وأنت ساجد : (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ،) (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ). قال : ففعلت فولد لي علي والحسين (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) بأن كانت عقيمة فجعلناها ولودا ، عن قتادة وقيل : كانت هرمة فرددنا عليها شبابها ، عن أبي مسلم وقيل : كانت سيئة الخلق فجعلناها حسنة الخلق (إِنَّهُمْ) يعني زكريا ويحيى ، وقيل معناه : ان الأنبياء الذين تقدّم ذكرهم (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي يبادرون إلى الطاعات والعبادات (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أي للرغبة والرهبة ، رغبة في الثواب ، ورهبة من العقاب وقيل : راغبين وراهبين عن الضحاك وقيل : رغبا ببطون الأكف ورهبا بظهور الأكف (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) أي متواضعين عن ابن عباس ، وقيل : الخشوع المخافة الثابتة في القلب عن الحسن.

٩١ ـ ٩٥ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدّم بقصة عيسى عليه‌السلام فقال : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) يعني مريم ابنة عمران أي : واذكر مريم التي حفظت فرجها وحصنته وعفت وامتنعت من الفساد (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي أجرينا فيها روح المسيح كما يجري الهواء بالنفخ ، فأضاف الروح إلى نفسه على وجه الملك تشريفا له في الإختصاص بالذكر (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) الآية فيها أنها جاءت به من غير فحل ، فتكلم في المهد بما يوجب براءة ساحتها من العيب (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي هذا دينكم دين واحد (وَأَنَا رَبُّكُمْ) الذي خلقكم (فَاعْبُدُونِ) ولا تشركوا بي شيئا. ثم ذكر اليهود والنصارى بالإختلاف فقال (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي فرّقوا دينهم فيما بينهم يلعن بعضهم بعضا ، ويتبرأ بعضهم من بعض. ثم قال مهددا لهم (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) أي كل ممن اجتمع وافترق راجع إلى حكمنا في الوقت الذي لا يقدر على الحكم سوانا فنجازيهم بأعمالهم (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) مثل صلة الرحم ، ومعونة الضعيف ، ونصر المظلوم ، والتنفيس عن المكروب ، وغير ذلك من أنواع الطاعات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) شرط الإيمان لأن هذه الأشياء لو فعلها الكافر لم ينتفع بها عند الله تعالى (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) أي فلا جحود لإحسانه في عمله ، بل يشكر ويثاب عليه (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي نأمر ملائكتنا أن يكتبوا ذلك ويثبتوه فلا يضيع منه شيء (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) المراد : ان الله تعالى كتب على من أهلك أن لا يرجع إلى الدنيا قضاء منه حتما ، وفي ذلك تخويف لكفار مكة بأنهم إن أهلكوا لم يرجعوا إلى الدنيا كغيرهم من الأمم المهلكة.

٩٦ ـ ١٠٣ ـ لمّا تقدّم أنهم لا يرجعون إلى الدنيا وعدهم بالرجوع إلى الآخرة وبيّن علامة ذلك فقال : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) أي فتحت جهتهم والمعنى : انفرج سدّ يأجوج ومأجوج بسقوط أو هدم أو كسر وذلك من أشراط الساعة (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) يريد يأجوج ومأجوج من كل نشز من الأرض يسرعون ، يعني أنهم يتفرقون في الأرض فلا ترى أكمة إلا وقوم منهم يهبطون منها مسرعين (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) الصدق ومعناه : اقترب قيام الساعة (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) معناه أن أبصار الذين كفروا تشخص في ذلك اليوم ، أي لا تكاد تطرف من شدّة ذلك اليوم وهو له ينظرون إلى تلك الأهوال (يا وَيْلَنا) أي يقولون يا ويلنا (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) اشتغلنا بأمور الدنيا

٤٣٥

وغفلنا عن هذا اليوم فلم نتفكر فيه (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) بأن عصينا الله تعالى وعبدنا غيره. ثم قال سبحانه (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي وقودها (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) خطاب للكفار ، أي أنتم في جهنّم داخلون (لَوْ كانَ هؤُلاءِ) الأصنام والشياطين (آلِهَةً) كما تزعمون (ما وَرَدُوها) أي : ما دخلوا النار ولامتنعوا منها (وَكُلٌ) من العابد والمعبود (فِيها) أي في النار (خالِدُونَ) دائمون (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي صوت كصوت الحمار وهو شدة تنفسهم في النار عند احراقها لهم (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) أي لا يسمعون ما يسرّهم ولا ما ينتفعون به ، وإنما يسمعون صوت المعذّبين ، وصوت الملائكة الذين يعذّبونهم ، ويسمعون ما يسوءهم. وقيل : يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون شيئا ، ولا يرى أحد منهم أنّ في النار أحدا يعذّب غيره (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) أي الموعدة بالجنة (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي يكونون بحيث لا يسمعون صوتها الذي يحسّ (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) من نعيم الجنة وملاذها (خالِدُونَ) أي دائمون. والشهوة : طلب النفس اللذة يقال : اشتهى شهوة وقيل ان الذين سبقت لهم منا الحسنى عيسى وعزير ومريم والملائكة الذين عبدوا من دون الله وهم كارهون استثناهم من جملة ما يعبدون من دون الله عن الحسن ومجاهد وقيل إن الآية عامة في كل من سبقت له الموعدة بالسعادة (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أي : الخوف الأعظم وهو عذاب النار إذا أطبقت على أهلها عن سعيد بن جبير وابن جريج وقيل هو النفخة الأخيرة لقوله ونفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله عن ابن عباس وقيل هو حين يؤمر بالعبد إلى النار عن الحسن وقيل هو حين يذبح الموت على صورة كبش أملح وينادى يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت ؛ وروى أبو سعيد الخدري عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ثلاثة على كثبان من مسك لا يحزنهم الفزع الأكبر ولا يكترثون للحساب : رجل قرأ القرآن محتسبا ثم أمّ به قوما ، ورجل أذّن محتسبا ، ومملوك أدّى حقّ الله عزوجل وحق مواليه (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي تستقبلهم الملائكة بالتهنئة يقولون لهم (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا فأبشروا بالأمن والفوز.

١٠٤ ـ ١١٢ ـ (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) المراد بالطي هنا هو الطي المعروف ، وأن الله سبحانه يطوي السماء بقدرته ، (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) والسجل صحيفة فيها الكتب ، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والكلبي ، وعلى هذا فمعناه : نطويها كما تطوى الصحيفة المجعولة للكتاب ، ويجوز أن يكون المراد بالكتاب المكتوب ، وقيل : إن السجّل ملك يكتب أعمال العباد ، عن أبي عمرو والسدّي (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة ، كذلك نعيدهم ، أي قدرتنا إلى الإعادة كقدرتنا على الإبتداء عن ابن عباس (وَعْداً عَلَيْنا) أي وعدناكم ذلك وعدا (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) ما وعدناكم من ذلك (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) ان الزبور : كتب الأنبياء ، ومعناه : كتبنا في الكتب التي أنزلناها على الأنبياء من بعد كتابته في الذكر ، أي أم الكتاب الذي في السماء وهو اللوح المحفوظ عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) قيل : يعني أرض الجنة يرثها عبادي المطيعون عن ابن عباس وسعيد بن جبير وابن زيد ، فهو مثل قوله : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) ، وقوله (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ). وقيل : هي الأرض المعروفة يرثها أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفتوح بعد اجلاء الكفار كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها عن ابن عباس في رواية أخرى ، وقال أبو جعفر عليه‌السلام : هم أصحاب المهدي عليهم‌السلام في

٤٣٦

آخر الزمان ؛ ويدل على ذلك ما رواه الخاص والعام عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا صالحا من أهل بيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما قد ملئت ظلما وجورا وقد أورد الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب البعث والنشور أخبارا كثيرة في هذا المعنى (إِنَّ فِي هذا) يعني في هذا الذي أخبرناكم به مما توعدنا به الكفار من النار والخلود فيها ، وما وعدنا به المؤمنين من الجنة والكون فيها. وقيل : معناه : إن في هذا القرآن ودلائله (لَبَلاغاً) أي كفاية ووصلة إلى البغية ، والبلاغ : سبب الوصول إلى الحق (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) لله مخلصين له قال كعب : هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين يصلّون الصلوات الخمس ، ويصومون شهر رمضان ، سمّاهم عابدين (وَما أَرْسَلْناكَ) يا محمد (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أي نعمة عليهم قال ابن عباس : رحمة للبرّ والفاجر ، والمؤمن والكافر ، فهو رحمة للمؤمن في الدنيا والآخرة ، ورحمة للكافر بأن عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والمسخ (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي مستسلمون منقادون لذلك بأن تتركوا عبادة غير الله (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا ولم يسلموا (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي أعلمتكم بالحرب (عَلى سَواءٍ) أي ايذانا على سواء اعلاما نستوي نحن وأنتم في علمه لا استيذانا به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم ومثله قوله فانبذ إليهم على سواء وقيل معناه : أعلمتكم بما يجب الإعلام به على سواء في الإيذان ، لم أبيّن الحق لقوم دون قوم ، ولم أكتمه لقوم دون قوم ، وفي هذه دلالة على بطلان قول أصحاب الرموز وان للقرآن بواطن خصّ بالعلم بها أقوام (وَإِنْ أَدْرِي) أي وما أدري (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) يعني أجل يوم القيامة ، فإن الله تعالى هو العالم بذلك ، وقيل معناه : أذنتكم بالحرب ولا أدري متى أؤذن فيه (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي ان الله يعلم السر والعلانية (وَإِنْ أَدْرِي) أي وما أدري (لَعَلَّهُ) كناية عن غير مذكور (فِتْنَةٌ لَكُمْ) أي لعل ما أذنتكم به اختبار لكم وشدة تكليف ليظهر صنيعكم عن الزجاج وقيل : لعل هذه الدنيا فتنة لكم عن الحسن وقيل : أي لعل تأخير العذاب محنة واختبار لكم لترجعوا عما أنتم عليه (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي تتمتّعون به إلى وقت انقضاء آجالكم (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي فوّض أمورك يا محمد إلى الله وقل : يا ربّ احكم بيني وبين من كذبني بالحق (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) الذي يرحم عباده (الْمُسْتَعانُ) الذي يعينهم في أمورهم ، فجمع بين الرحمة والمعونة اللتين تضمنتا أصول النعم (عَلى ما تَصِفُونَ) من كذبكم وباطلكم في قولكم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، وقولكم : (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً).

سورة الحج

مدنيّة

وعدد آياتها ثمان وسبعون آية

لما ختم الله سورة الأنبياء بالدعاء الى التوحيد ، والإعلام بأنّ نبيّه رحمة للعالمين ، افتتح هذه السورة بخطاب المكلّفين ، ليتقوا الشرك ومخالفة الدين.

١ ـ ٥ ـ خاطب الله سبحانه جميع المكلفين فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) معناه يا أيّها العقلاء المكلفون اتقوا عذاب ربكم ، واخشوا معصية ربكم (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) أي زلزلة الأرض يوم القيامة ، والمعنى : أنها تقارن قيام الساعة وتكون معها (شَيْءٌ عَظِيمٌ) أي أمر عظيم هائل لا يطاق (يَوْمَ تَرَوْنَها) معناه : يوم ترون الزلزلة أو الساعة (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي : تشغل كل مرضعة عن ولدها وتنساه (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي تضع الحبالى ما

٤٣٧

في بطونها. وفي هذا دلالة على أن الزلزلة تكون في الدنيا ، فإن الرضاع ووضع الحمل إنما يتصور في الدنيا قال الحسن تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام ومن قال ان المراد به يوم القيامة قال : انه تهويل لأمر القيامة ، وتعظيم لما يكون فيه من الشدائد ، أي لو كان ثم مرضعة لذهلت ، أو حامل لوضعت ، وإن لم يكن هناك حامل ولا مرضعة (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) من شدة الخوف والفزع (وَما هُمْ بِسُكارى) معناه : كأنّهم سكارى من ذهول عقولهم لشدة ما يمرّ بهم لأنهم يضطربون اضطراب السكران. ثم علّل سبحانه ذلك فقال (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فمن شدّته يصيبهم ما يصيبهم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) هذا إخبار عن المشركين الذين يخاصمون في توحيد الله سبحانه ونفي الشرك عنه بغير علم منهم ، بل للجهل المحض وقيل ان المراد به النضر بن الحرث فإنه كان كثير الجدال وكان يقول : الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين وينكر البعث (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) يغويه عن الهدى ، ويدعوه إلى الضلال (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) معناه : انه يتبع كل شيطان كتب الله على ذلك الشيطان في اللوح المحفوظ انه يضل من تولاه فكيف يتبع مثله ، ويعدل بقوله عمن دعاه إلى الرحمة وقيل معناه : كتب على الشيطان انه من تولاه أضله الله تعالى (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ثم ذكر سبحانه الحجة في البعث لأن أكثر الجدال كان فيه فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي في شكّ (مِنَ الْبَعْثِ) والنشور ، والريب أقبح الشك (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) معناه : فالدليل على صحته انا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه‌السلام من تراب فمن قدر على أن يصيّر التراب بشرا سويا حيّا في الابتداء قدر على أن يحيي العظام ، ويعيد الأموات (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) معناه : ثم خلقنا اولاده ونسله من نطفة في ارحام الامهات ، وهي الماء القليل يكون من الذكر والانثى (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) بأن تصير النطفة علقة ، وهي القطعة من الدم الجامد (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) أي شبه قطعة من اللحم ممضوغة ، فإن معنى المضغة مقدار ما يمضغ من اللحم (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي تامة الخلق وغير تامة ، وقيل : مصورة وغير مصورة (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) معناه : لنبيّن لكم أن من قدر على الإبتداء قدر على الإعادة (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) معناه : ونبقي في أرحام الأمهات ما نشاء إلى وقت تمامه (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي نخرجكم من بطون أمهاتكم وأنتم أطفال (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) وهو حال اجتماع العقل والقوة وتمام الخلق (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي قبل بلوغ الأشدّ ، أي يقبض روحه فيموت في حال صغره أو شبابه (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي أسوأ العمر وأخبثه ، وإنما صار أرذل العمر لأن الإنسان لا يرجو بعده صحة وقوة ، وإنما يرتقب الموت والفناء ، بخلاف حال الطفولية والضعف الذي يرجى له الكمال والتمام بعدها (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) معناه : لكي يصير إلى حال ينعدم عقله ، أو يذهب عنه علومه هرما فلا يعلم شيئا مما كان علمه ثم ذكر سبحانه دلالة أخرى على البعث فقال (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) يعني هالكة ، أي يابسة دارسة من أثر النبات (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) وهو المطر (اهْتَزَّتْ) أي تحركت بالنبات ، والاهتزاز : شدة الحركة في الجهات (وَرَبَتْ) أي : زادت أي أضعفت نباتها وقيل انتفخت لظهور نباتها عن الحسن (وَأَنْبَتَتْ) يعني الأرض (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي من كل صنف (بَهِيجٍ) مؤنق للعين ، حسن الصورة واللون.

٦ ـ ١٠ ـ لمّا قدّم سبحانه ذكر الأدلة عقّبه بما يتصل به فقال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) معناه : ذلك الذي سبق ذكره من تصريف الخلق على هذه الأحوال ، وإخراج النبات بسبب

٤٣٨

أن الله هو الحق ، أي ليعلموا أنه الذي يحقّ له العبادة دون غيره وقيل : هو الذي يستحق صفات التعظيم (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) لأن من قدر على انشاء الخلق فإنه يقدر على اعادته (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أما المعدومات فيقدر على ايجادها ، وأما الموجودات فيقدر على افنائها وإعادتها ويقدر على جميع الأجناس ومن كل جنس على ما لا نهاية له (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي وليعلموا ان القيامة آتية لا شكّ فيها (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي يحييهم للجزاء لأن ما ذكرناه يدل على البعث على الوجه الذي بيّناه (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) سبق تفسيره (وَلا هُدىً) أي لا يرجع فيما يقوله إلى علم ولا دلالة (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي مضيء له نور يؤدّي من تمسّك به إلى الحق والمعنى : أنه لا يتبع أدلة العقل ولا أدلة السمع ، وإنما يتبع الهوى والتقليد وفي هذا دلالة على أن الجدال بالعلم صواب وبغير العلم خطأ ، لأن الجدال بالعلم يدعو إلى اعتقاد الحق ، وبغير العلم يدعو إلى اعتقاد الباطل (ثانِيَ عِطْفِهِ) أي متكبرا في نفسه ، عن ابن عباس ، يقول العرب : ثنى فلان عطفه إذا تكبر وتجبّر ، وعطفا الرجل جانباه من عن يمين أو شمال وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي يلويه ويميله عند الإعراض عن الشيء وقيل معناه لاوي عنقه إعراضا وتكبرا على الله ورسوله عن قتادة ومجاهد (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ليضلّ الناس عن الدين ومن فتح الياء أراد ليضل هو عن طريق الحق المؤدّي إلى توحيد الله (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي هوان وذلّ وفضيحة بما يجري له على ألسنة المؤمنين من الذم وبالقتل وغير ذلك (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي النار التي تحرقهم (ذلِكَ) أي يقال له ذلك العذاب (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي بما كسبت يداك (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) في تعذيبه ، لأن الله لا يظلم ولا يعاقب ابتداء ، ولا يزيد على الجزاء وفي هذا دلالة واضحة على بطلان مذهب المجبرة الذين ينسبون كل ظلم في العالم إلى الله تعالى.

١١ ـ ١٥ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف ، أي طرف حبل أو نحوه عن عليّ بن عيسى قال : وذلك من اضطرابه في طريق العلم إذا لم يتمكن من الدلائل المؤدّية إلى الحق فينقاد لأدنى شبهة لا يمكنه حلّها. وقيل : على حرف : أي على شك عن مجاهد. وقيل : معناه أنه يعبد الله بلسانه دون قلبه عن الحسن قال : الدين حرفان : أحدهما اللسان ، والثاني القلب ، فمن اعترف بلسانه ولم يساعده قلبه فهو على حرف (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) أي أصابه رخاء وعافية وخصب وكثرة مال اطمأنّ على عبادة الله بذلك الخير (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) أي اختبار بجدب وقلة مال (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي رجع عن دينه إلى الكفر والمعنى : انصرف إلى وجهه الذي توجّه منه وهو الكفر (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أي خسر الدنيا بفراقه ، وخسر الآخرة بنفاقه (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي الضرر الظاهر لفساد عاجله وآجله وقيل : خسر في الدنيا العز والغنيمة وفي الآخرة الثواب والجنة (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) أي يدعو هذا المريد بعبادته سوى الله ما لا يضرّه إن لم يعبده ، وما لا ينفعه إن عبده (ذلِكَ) الذي فعل (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن الحق والرشد (يَدْعُوا) الذي هو الضلال البعيد (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) قال السدي يعني الذي ضرّه في الآخرة بعبادته إياه أقرب من النفع وإن كان لا نفع عنده ولكن العرب تقول لما لا يكون هذا بعيد ونفع الصنم بعيد لأنه لا يكون فلما كان نفعه بعيدا قيل لضره انه أقرب من نفعه على معنى أنه كائن (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أي لبئس الناصر هو (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي الصاحب المعاشر المخالط هو ، يعني الصنم يخالطه العابد ويصاحبه. ولما ذكر الشاك في الدين

٤٣٩

بالخسران ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان فقال (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وصدّقوا رسله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة ، وبأعدائه وأهل معصيته من الإهانة ، لا يدفعه دافع ، ولا يمنعه مانع. ثم قال : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) الهاء في ينصره عائدة إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ابن عباس وقتادة والمعنى : من كان يظن أن الله لن ينصر نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يعينه على عدوّه (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي فليشدد حبلا في سقفه (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أي ليمدد ذلك الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا والمعنى : فليختنق غيضا حتى يموت فإن الله ناصره ولا ينفعه غيظه وهو قوله (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) أي صنعه وحيلته (ما يَغِيظُ) ما بمعنى المصدر أي : هل يذهبن كيده غيظه عن قتادة وأكثر المفسرين. وقيل : فليمدد بسبب إلى السماء معناه : فليطلب شيئا يصل به إلى السماء المعروفة ثم ليقطع نصر الله ووحي الله عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليزل بكيده ما يغيظه من نصر الله له ونزول الوحي عليه ، أي لا يتهيأ له ذلك ولا سبيل له إليه فليتجرع ما يغيظه ، وإنما قال سبحانه ذلك على وجه التبعيد ، أي كما لا يتهيأ لهم الوصول إلى السماء كذلك لا يتهيأ لهم ازالة ما يغيظهم من أمر رسول الله ونصره على أعدائه دائما وإنما ذكر السماء لأن النصر يأتيه من قبل السماء ومن الملائكة عن أبي علي الجبائي وهذا مثل ضربه الله لهذا الجاهل الذي يسخط لما أعطاه الله ، أي مثله مثل من فعل بنفسه هذا.

١٦ ـ ١٨ ـ ثم بيّن سبحانه أنه نزل الآيات حجّة على الخلق فقال : (وَكَذلِكَ) أي ومثل ما تقدّم من آيات القرآن (أَنْزَلْناهُ) يعني القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي حججا واضحات على التوحيد والعدل والشرائع (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي وأنزلنا إليك أن الله يهدي إلى الدين من يريد وقيل إلى النبوة وقيل إلى الثواب وقيل : يهدي من يهتدي بهداه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالَّذِينَ هادُوا) وهم اليهود (وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) ظاهر المعنى (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يبيّن المحق من المبطل بما يضطر إلى العلم بصحة الصحيح فيبيض وجه المحقّ ، ويسودّ وجه المبطل والفصل : التمييز بين الحق والباطل (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي عليم مطّلع على ما من شأنه أن يشاهد يعلمه قبل أن يكون لأنه علّام الغيوب. ثم خاطب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد به جميع المكلفين فقال : (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من العقلاء (وَالشَّمْسُ) أي ويسجد الشمس (وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) وصف سبحانه هذه الأشياء بالسجود وهو الخضوع والذل والإنقياد لخالقها فيما يريد منها (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) يعني المؤمنين الذين يسجدون لله تعالى ؛ وانقطع ذكر الساجدين ثم ابتدأ فقال (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي ممن أبى السجود ولا يوحّده سبحانه قال الفراء قوله وكثير حقّ عليه العذاب يدل على أن المعنى وكثير أبى السجود لأنه لا يحق عليه العذاب إلا بتركه السجود (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) معناه : من يهنه الله بأن يشقيه ويدخله جهنم فما له من مكرم بالسعادة ، أي بإدخاله الجنة لأنه لا يملك العقوبة والمثوبة سواه (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من الإنعام والإنتقام بالفريقين من المؤمنين والكافرين.

١٩ ـ النزول

نزلت الآية هذان خصمان اختصموا في ستة نفر من المؤمنين والكفار تبارزوا يوم بدر وهم : حمزة بن عبد المطلب

٤٤٠