الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

على سائر نساء النبي وتقول : زوّجني الله من النبي وانتنّ إنما زوّجكنّ أولياؤكن. ثم قال سبحانه (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أي ما كان على النبي من اثم وضيق فيما فرض وأوجب عليه من التزويج بها ليبطل حكم الجاهلية في الادعياء (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي كسنة الله في الأنبياء الماضين ، وطريقته وشريعته فيهم في زوال الحرج عنهم وعن أممهم بما أحلّ سبحانه لهم من ملاذهم (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) معناه : جاريا على مقدار لا يكون فيه تفاوت من جهة الحكمة (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) أي يؤدّونها إلى من بعثوا إليهم ولا يكتمونها (وَيَخْشَوْنَهُ) أي ويخافون الله مع ذلك في ترك ما أوجبه عليهم (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) ولا يخافون من سوى الله فيما يتعلق بالأداء والتبليغ (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي حافظا لأعمال خلقه ، ومحاسبا مجازيا عليها (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) الذين لم يلدهم ، وفي هذا بيان أنه ليس بأب لزيد فتحرم عليه زوجته ، فإن تحريم زوجة الإبن معلق بثبوت النسب ، فمن لا نسب له لا حرمة لامرأته ، ولهذا أشار إليهم فقال : من رجالكم ، وقد ولد له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولاد ذكور إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر فكان أباهم ، وقد صحّ أنه قال للحسن : ان ابني هذا سيّد ، وقال أيضا للحسن والحسين : ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) أي ولكن كان رسول الله ، لا يترك ما أباحه الله تعالى بقول الجهال (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي وآخر النبيين ختمت النبوة به ، فشريعته باقية إلى يوم الدين. وهذا فضيلة له صلوات الله عليه وآله اختصّ بها من بين سائر المرسلين (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) لا يخفى عليه شيء من مصالح العباد.

٤١ ـ ٤٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) روى ابن عباس عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من عجز عن الليل أن يكابده ، وجبن عن العدو أن يجاهده ، وبخل بالمال ان ينفقه ، فليكثر ذكر الله عزوجل. ثم اختلف في معنى الذكر الكثير فقيل : هو أن لا ينساه أبدا ، وقيل : هو أن يقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، على كل حال (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي ونزّهوه سبحانه عن جميع ما لا يليق به بالغداة والعشي ، وقيل يعني صلاة الصبح وصلاة العصر (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) الصلاة من الله هي المغفرة والرحمة ، وأما صلاة الملائكة فهي طلبهم انزال الرحمة من الله تعالى (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) اي من الجهل بالله سبحانه إلى معرفته ؛ فشبّه الجهل بالظلمات ، وشبّه المعرفة بالنور ، لأن هذا يقود إلى الجنة ، وذلك يقود إلى النار (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) خصّ المؤمنين بالرحمة دون غيرهم لأنه سبحانه جعل الايمان بمنزلة العلة في إيجاب الرحمة ، والنعمة العظيمة التي هو الثواب (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) أي يحيّي بعضهم بعضا يوم يلقون ثواب الله بأن يقولوا : السلامة لكم من جميع الآفات ، ولقاء الله سبحانه معناه : لقاء ثوابه كما سبق القول فيه (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) أي ثوابا جزيلا. ثم خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على أمتك فيما يفعلونه من طاعة أو معصية ، وإيمان أو كفر ، لتشهد لهم وعليهم يوم القيامة ، ونجازيهم بحسبه (وَمُبَشِّراً) أي ومبشّرا لمن أطاعني وأطاعك بالجنة (وَنَذِيراً) لمن عصاني وعصاك بالنار (وَداعِياً إِلَى اللهِ) أي وبعثناك داعيا إلى الله ، والإقرار بوحدانيته ، وامتثال أوامره ونواهيه (بِإِذْنِهِ) أي بعلمه وأمره (وَسِراجاً مُنِيراً) يهتدى بك في الدين كما يهتدى بالسراج ، والمنير : الذي يصدر النور من جهته (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) زيادة على ما يستحقونه من الثواب (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) هو مفسّر في أول السورة (وَدَعْ أَذاهُمْ)

٥٦١

أي واعرض عن أذاهم فإني سأكفيك أمرهم إذا توكلت عليّ ، وعملت بطاعتي ، فإن جميعهم في سلطاني (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي وأسند أمرك إلى الله ينصرك عليهم (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي كافيا ومتكفلا بما يسند إليه.

٤٩ ـ ٥٠ ـ ثم عاد سبحانه إلى ذكر النساء فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) أي من قبل أن تدخلوا بهن (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) أي تستوفونها بالعدد ، وتحصون عليها بالإقراء وبالأشهر ؛ اسقط الله سبحانه العدة عن المطلقة قبل المسيس لبراءة رحمها ، فإن شاءت تزوجت من يومها (فَمَتِّعُوهُنَ) قال ابن عباس : هذا إذا لم يكن سمّى لها صداقا ، فإذا فرض لها صداقا فلها نصفه ولا تستحق المتعة ، فالآية محمولة عندنا على التي لم يسم لها مهرا فيجب لها المتعة (وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) أي طلّقوهن طلاقا للسنة من غير ظلم عليهن ، بغير جفوة ولا أذية. ثم خاطب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) أي أعطيت مهورهن (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي وأحللنا لك ما ملكت يمينك من الإماء (مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) من الغنائم والأنفال فكانت من الغنائم مارية القبطية أم ابنه إبراهيم ، ومن الأنفال صفية وجويرية اعتقهما وتزوجهما (وَبَناتِ عَمِّكَ) أي وأحللنا لك بنات عمك (وَبَناتِ عَمَّاتِكَ) يعني نساء قريش (وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) يعني نساء بني زهرة (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) إلى المدينة وهذا إنما كان قبل تحليل غير المهاجرات ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) أي وأحللنا لك امرأة مصدقة بتوحيد الله تعالى وهبت نفسها منك بغير صداق وغير المؤمنة ان وهبت نفسها منك لا تحل لك (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) أي آثر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نكاحها ورغب فيها (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي خالصة لك دون غيرك. قال ابن عباس : يقول : لا يحل هذا لغيرك وهو لك حلال ، وهذا من خصائصه في النكاح ، فكان ينعقد النكاح له بلفظ الهبة ولا ينعقد ذلك لأحد غيره واختلف في انه هل كانت عند النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امرأة وهبت نفسها له أم لا فقيل انه لم يكن عنده امرأة وهبت نفسها له عن ابن عباس ومجاهد وقيل : بل كانت عنده ميمونة بنت الحرث بلا مهر قد وهبت نفسها للنبي في رواية أخرى عن ابن عباس وقتادة وقيل : هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار عن الشعبي وقيل : هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار عن الشعبي وقيل : هي امرأة من بني أسد يقال لها أم شريك بنت جابر وقيل هي خولة بنت حكيم عن عروة بن الزبير وقيل انها لما وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت عائشة ما بال النساء يبذلن أنفسهن بلا مهر فنزلت الآية فقالت عائشة ما بال النساء يبذلن أنفسهن بلا مهر فنزلت الآية فقالت عائشة ما أرى الله تعالى إلا يسارع في هواك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانك إن أطعت الله سارع في هواك (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) معناه : قد علمنا ما أخذنا على المؤمنين في أزواجهم من المهر والحصر بعدد محصور ، ووضعناه عنك تخفيفا عنك (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي وما أخذنا عليهم في ملك اليمين أن لا يقع لهم الملك إلّا بوجوه معلومة من الشراء والهبة والإرث والسبي ، وأبحنا لك غير ذلك وهو الصفي الذي تصطفيه لنفسك من السبي ، وإنما خصّصناك على علم منّا بالمصلحة فيه من غير محاباة ولا جزاف (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) أي ليرتفع عنك الحرج ، وهو الضيق والإثم (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لذنوب عباده (رَحِيماً) بهم ، أو رحيما بك في رفع الحرج عنك.

٥١ ـ ٥٥ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله

٥٦٢

وسلم يخيره في نسائه فقال (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي تؤخر وتبعد من تشاء من أزواجك ، وتضم إليك من تشاء منهن واختلف في معناه على أقوال (أحدها) ان المراد : تقدم من تشاء من نسائك في الإيواء إليك وهو الدعاء إلى الفراش وتؤخر من تشاء في ذلك وتدخل من تشاء منهن في القسم ، ولا تدخل من تشاء ، عن قتادة قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم بين أزواجه وأباح الله له ترك ذلك (وثانيها) ان المراد تعزل من تشاء منهن بغير طلاق ، وترد إليك من تشاء منهن بعد عزلك إياها بلا تجديد عقد ، عن مجاهد والجبائي وأبي مسلم (وثالثها) ان المراد تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء ، عن ابن عباس (ورابعها) ان المراد تترك نكاح من تشاء من نساء امتك ، وتنكح منهن من تشاء عن الحسن قال : وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خطب امرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يتزوجها أو يتركها (وخامسها) تقبل من تشاء من المؤمنات اللائي يهبن أنفسهن لك. فتؤويها إليك وتترك من تشاء منهن فلا تقبلها عن زيد بن أسلم والطبري ، قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليه‌السلام : من أرجى لم ينكح ، ومن أوى فقد نكح (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) أي إن أردت ان تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن عن ذلك وتضمّها إليك فلا سبيل عليك بلوم ولا عتب ، أباح الله سبحانه له ترك القسم في النساء ، وله أن يعزل من يشاء ، وله ان يرد المعزولة ان شاء ، فضّله الله تعالى بذلك على جميع الخلق (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) معناه : ذلك أطيب لنفوسهن ، وأقل لحزنهن إذا علمن أنّ لك الرخصة بذلك من الله تعالى ، ويرضين بما يفعله النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التسوية والتفضيل وقرة العين : عبارة عن السرور (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) من الرضا والسخط ، والميل إلى بعض النساء دون بعض (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بمصالح عباده (حَلِيماً) في ترك معاجلتهم بالعقوبة (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي من بعد النساء اللواتي أحللناهن لك في قوله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) الآية ، ولا يحلّ له غيرهنّ من النساء (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) أي وقع في قلبك حسنهن (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) من الكتابيات ولا أن تبدل الكتابيات بالمسلمات ، لأنه لا ينبغي أن يكنّ أمهات المؤمنين (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) أي عالما حافظا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) نهاهم سبحانه عن دخول دار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير إذن وهو قوله : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) ، أي في الدخول ، يعني إلا أن يدعوكم إلى طعام فادخلوا غير ناظرين اناه : أي غير منتظرين إدراك الطعام فيطول مقامكم في منزله ، والمعنى : لا تدخلوها بغير إذن (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) أي فإذا أكلتم الطعام فتفرّقوا واخرجوا (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي ولا تدخلوا فتقعدوا بعد الأكل متحدثين ، يحدث بعضكم بعضا ليؤنسه. ثم بيّن المعنى في ذلك فقال (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) أي طول مقامكم في منزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤذيه لضيق منزله ، فيمنعه الحياء أن يأمركم بالخروج من المنزل (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أي لا يترك إبانة الحق فيأمركم بتعظيم رسوله ، وترك دخول بيته من غير إذن ، والامتناع عمّا يؤدّي إلى أذاه وكراهيته (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) يعني فإذا سألتم أزواج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا تحتاجون إليه فاسألوهن من وراء الستر قال مقاتل : أمر الله المؤمنين ألا

__________________

قال الإمام الصّادق عليه‌السلام : الحافظ للقرآن ، العامل به مع السفرة الكرام البررة. أصول الكافي ؛ ٢ / ٦٠٣

٥٦٣

يكلّموا نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا من وراء حجاب (ذلِكُمْ) أي سؤالكم إياهن المتاع من وراء حجاب (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) من الريبة ومن خواطر الشيطان التي تدعو إلى ميل الرجال إلى النساء ، والنساء إلى الرجال (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أي ليس لكم إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمخالفة ما أمر به في نسائه ، ولا في شيء من الأشياء (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) أي من بعد وفاته ، المعنى : ولا يحلّ لكم أن تزوّجوا واحدة من نسائه بعد مماته ، كما لا يحلّ لكم أن تؤذوه في حال حياته (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) أي إيذاء الرسول بما ذكرنا كان ذنبا عظيم الموقع عند الله تعالى (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ) أي تظهروا شيئا أو تضمروه مما نهيتم عنه من تزويجهنّ (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) من الظواهر والسرائر ؛ وهذا تهديد. ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : يا رسول الله ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب ، فأنزل الله تعالى قوله (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ) أن يروهن ، ولا يحتجبن عنهم (وَلا نِسائِهِنَ) يريد نساء المؤمنين (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) يعني العبيد والإماء (وَاتَّقِينَ اللهَ) أي اتركن معاصيه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي حفيظا لا يغيب عنه شيء.

٥٦ ـ ٥٩ ـ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) معناه : إن الله يصلي على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويثني عليه بالثناء الجميل ، ويبّجله بأعظم التبجيل ، وملائكته يصلّون عليه ، يثنون عليه بأحسن الثناء ، ويدعون له بأزكى الدعاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) عن كعب ابن عجرة قال : لما نزلت هذه الآية قلنا : يا رسول الله هذا السّلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك؟ قال : قولوا : اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. ومعنى قوله : (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) : انقادوا لأوامره ، وابذلوا الجهد في طاعته وفي جميع ما يأمركم به (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) معناه : يؤذون رسول الله ، فتقدّم ذكر الله على وجه التعظيم ، إذ جعل أذى رسوله أذى له تشريفا له وتكريما ، ثم أوعد عليه بقوله (لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي يبعدهم الله من رحمته ، ويحل بهم وبال نقمته بحرمان زيادات الهدى في الدنيا والخلود في النار في الآخرة (وَأَعَدَّ لَهُمْ) في الآخرة (عَذاباً مُهِيناً) أي مذلا لهم. حدّثنا السيد أبو الحمد قال : حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال : حدّثنا أبو عبد الله الحافظ قال : حدّثنا أحمد العجلي قال : حدّثنا عباد بن يعقوب قال : حدّثنا أرطاة بن حبيب قال : حدّثنا أبو خالد الواسطي وهو آخذ بشعره قال : حدّثني زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام وهو آخذ بشعره قال : حدّثني عليّ بن الحسين وهو آخذ بشعره قال : حدّثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بشعره فقال : من آذى شعرة منك فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فعليه لعنة الله (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي يؤذونهم من غير أن عملوا ما يوجب أذاهم (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) أي فقد فعلوا ما هو أعظم الإثم مع البهتان وهو الكذب على الغير يواجهه به (وَإِثْماً مُبِيناً) أي ومعصية ظاهرة ثم خاطب النبي (ص) فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) أي قل لهؤلاء فليسترن موضع الجيب بالجلباب ، وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة

٥٦٤

عن الحسن وقيل : الجلباب : مقنعة المرأة ، أي يغطين جباههنّ ورؤوسهنّ إذا خرجن لحاجة ، وقيل : أراد بالجلابيب الثياب والقميص وما تستر به المرأة ، عن الجبائي وأبي مسلم (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) معناه : ذلك أقرب إلى أن يعرفن بالستر والصلاح فلا يتعرض لهن ، لأن الفاسق إذا عرف امرأة بالستر والصلاح لم يتعرض لها عن الجبائي (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) أي ستارا لذنوب عباده (رَحِيماً) بهم. ثم أوعد سبحانه هؤلاء الفساق فقال (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) أي لئن لم يمتنع المنافقون (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي فجور وضعف في الإيمان وهم الذين لا دين لهم عما ذكرناه من مراودة النساء وإيذائهن (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) وهم المنافقون أيضا الذين كانوا يرجفون في المدينة بالأخبار الكاذبة المضعفة لقلوب المسلمين بأن يقولوا : اجتمع المشركون في موضع كذا قاصدين لحرب المسلمين ، ونحو ذلك ويقولوا لسرايا المسلمين : إنهم قتلوا وهزموا وفي الكلام حذف وتقديره : لئن لم ينته هؤلاء عن أذى المسلمين وعن الارجاف بما يشغل قلوبهم (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) أي لنسلطنّك عليهم يا محمد عن ابن عباس والمعنى : أمرناك بقتلهم حتى تقتلهم وتخلي عنهم المدينة وقد حصل الإغراء بهم بقوله : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) عن أبي مسلم وقيل : لم يحصل الإغراء بهم لأنهم انتهوا ، عن الجبائي قال : ولو حصل الإغراء لقتلوا وشردوا واخرجوا عن المدينة (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) أي ثم لا يساكنونك في المدينة إلّا يسيرا ، وهو ما بين الأمر بالقتل وما بين قتلهم (مَلْعُونِينَ) أي مطرودين منفيين عن المدينة ، مبعدين عن الرحمة وقيل : ملعونين على ألسنة المؤمنين (أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) أي أينما وجدوا وظفر بهم اخذوا وقتلوا أبلغ القتل (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) والسنة الطريقة في تدبير الحكم ، وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طريقته التي أجراها بأمر الله تعالى فأضيفت إليه ولا يقال سنّته إذا فعلها مرّة أو مرّتين ، لأن السنة الطريقة الجارية والمعنى : سنّ الله في الذين ينافقون الأنبياء ، ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا عن الزجاج (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي تحويلا وتغييرا ، أي لا يتهيأ لأحد تغييرها ولا قلبها من جهتها ، لأنه سبحانه القادر الذي لا يتهيأ لأحد منعه مما أراد فعله.

٦٣ ـ ٦٩ ـ ثم قال سبحانه (يَسْئَلُكَ) يا محمد (النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) يعني القيامة (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) لا يعلمها غيره (وَما يُدْرِيكَ) يا محمد ، أي أيّ شيء يعلمك من أمر الساعة ومتى يكون قيامها ، أي أنت لا تعرفه ، ثم قال (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي قريبا مجيئها ، ويجوز أن يكون أمره ان يجيب كل من يسأله عن الساعة بهذا فيقول : لعل ما تستبطئه قريب ، وما تنكره كائن ، ويجوز أن يكون تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي فاعلم انه قريب فلا يضيقن صدرك باستهزائهم باخفائها (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) أي نارا تستعر وتلتهب (خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي وليا ينصرهم ، ونصيرا يدفع عنهم (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) التقليب : تصريف الشيء في الجهات ومعناه : تقلب وجوه هؤلاء السائلين عن الساعة وأشباههم من الكفار فتسودّ وتصفرّ وتصير كالحة بعد أن لم تكن وقيل معناه : تنقل وجوههم من جهة إلى جهة في النار. فيكون أبلغ فيما يصل إليها من العذاب (يَقُولُونَ) متمنّين متأسّفين (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ) فيما أمرنا به ونهانا عنه (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) فيما دعانا إليه (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا) فيما فعلناه (سادَتَنا وَكُبَراءَنا) والسيد المالك المعظّم الذي يملك تدبير السواد الأعظم وهو الجمع الأكثر ، والمراد جميع قادة الكفر ، وأئمة الضلال (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) أي أضلّنا هؤلاء عن سبيل

٥٦٥

الحق وطريق الرشاد (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) بضلالهم في نفوسهم ، واضلالهم إيانا ، أي عذّبهم مثلي ما تعذب غيرهم (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) مرة بعد أخرى ، وزدهم غضبا إلى غضبك ، وسخطا إلى سخطك. ثم خاطب سبحانه المظهرين للإيمان فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) أي لا تؤذوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى ، فإن حق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعظّم ويبجّل لا أن يؤذى وما أوذي به موسى : ان موسى وهارون صعدا الجبل فمات هارون ، فقالت بنو إسرائيل : أنت قتلته ، فأمر الله الملائكة فحملته حتى مرّوا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرفوا انه قد مات ، وبرّأه الله من ذلك ؛ عن عليّ عليه‌السلام. (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) عظيم القدر ، رفيع المنزلة.

٧٠ ـ ٧٣ ـ ثم أمر الله سبحانه أهل الإيمان والتوحيد بالتقوى والقول السديد فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي اتقوا عقاب الله باجتناب معاصيه ، وفعل واجباته (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) أي صوابا بريئا من الفساد خالصا من شائبة الكذب واللغو ، موافق الظاهر للباطن وقال الحسن وعكرمة : صادقا ، يعني كلمة التوحيد لا إله إلا الله وقال مقاتل : هذا يتصل بالنهي عن الإيذاء ، أي قولوا قولا صوابا ولا تنسبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ما لا يجمل ولا يليق به (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) معناه : إن فعلتم ذلك يصلح لكم أعمالكم بأن يلطف لكم فيها حتى تسقيموا على الطريقة المستقيمة السليمة من الفساد ، ويوفّقكم لما فيه الصلاح والرشاد (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) باستقامتكم في الأقوال والأفعال (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأوامر والنواهي (فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) أي فقد أفلح افلاحا عظيما (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) اختلف في معنى الأمانة فقيل : هي ما أمر الله به من طاعته ، ونهى عنه من معصيته وقيل : هي الأحكام والفرائض التي أوجبها الله تعالى على العباد وقيل : هي أمانات الناس ، والوفاء بالعهود ومعنى عرض الأمانة العرض على أهلها ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وعرضها عليهم : هو تعريفه إياهم ان في تضييع الأمانة الإثم العظيم ، وكذلك في ترك أوامر الله تعالى وأحكامه ؛ فبيّن سبحانه جرأة الإنسان على المعاصي وإشفاق الملائكة من ذلك فيكون المعنى : عرضنا الأمانة على أهل السماوات والأرض والجبال من الملائكة والجن والإنس (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) أي فأبى أهلهن أن يحملوا تركها وعقابها والمأثم فيها (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي وأشفق أهلهن من حملها (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) لنفسه بارتكاب المعاصي (جَهُولاً) بموضع الأمانة في استحقاق العقاب على الخيانة فيها ، عن أبي علي الجبائي وقال : إذا لم يصح حمله على نفس السماوات والأرض والجبال ، فلا بد أن يكون المراد به أهلها ، لأنه يجب أن يكون المراد به المكلفين دون غيرهم ، لأن ذلك لا يصح إلّا فيهم ، ثم بيّن سبحانه الغرض الصحيح والحكمة البالغة في عرضه هذه الأمانة فقال (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) يعني بتضييع الأمانة (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بحفظهم الأمانة ووفائهم ، وهذا هو الغرض بالتكليف فالمعنى : انا عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق ، وشرك المشرك فيعذّبهم الله ، ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) أي ستّارا لذنوب المؤمنين (رَحِيماً) بهم.

٥٦٦

سورة سبأ

مكية وعدد آياتها أربع وخمسون آية

١ ـ ٥ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) معناه : قولوا : الحمد لله ، وهو تعريف لوجوب الشكر على نعم الله سبحانه ، وتعليم لكيفية الشكر (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الذي يملك التصرف في جميع ما في السموات وجميع ما في الأرض ، ليس لأحد الاعتراض عليه ولا منعه (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) أي هو المستحق للحمد على أفعاله الحسنى في الدارين لكونه منعما فيهما ، والآخرة وإن كانت ليست بدار تكليف فلا يسقط فيها الحمد والاعتراف بنعم الله تعالى ، بل العباد ملجأون إلى ذلك لمعرفتهم الضرورية بنعم الله عليهم من الثواب والعوض وضروب التفضل ، ومن حمد أهل الجنة قولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) ، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) وقيل : إنما يحمده أهل الجنة لا على جهة التعبد ، لكن على جهة السرور والتلذذ بالحمد ، ولا يكون بالحمد عليهم فيه تعب ولا مشقة وقيل : يحمده أهل الجنة على نعمه وفضله ، ويحمده أهل النار على عدله (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله لأنها كاملة واقعة على وجه الحكمة (الْخَبِيرُ) بجميع المعلومات (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي ما يدخل فيها من مطر أو كنز أو ميت (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من زرع ونبات ، أو جواهر أو حيوان (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من مطر أو رزق أو ملك (وَما يَعْرُجُ) أي يصعد (فِيها) من الملائكة وأعمال العباد ، فهو يجري جميع ذلك على تقدير تقتضيه الحكمة ، وتدبير توجبه المصلحة (وَهُوَ الرَّحِيمُ) بعباده مع علمه بما يعملون من المعاصي فلا يعاجلهم بالعقوبة ، ويمهلهم للتوبة (الْغَفُورُ) أي الساتر عليهم ذنوبهم في الدنيا ، المتجاوز عنها في العقبى (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني منكري البعث (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) يعني القيامة (قُلْ) لهم يا محمد (بَلى وَرَبِّي) أي وحق الله ربي الذي خلقني وأوجدني (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) القيامة (عالِمِ الْغَيْبِ) يعلم كل شيء بغيب عن العباد علمه (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) أي لا يفوته (مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) بل هو عالم بجميع ذلك (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) يعني اللوح المحفوظ ؛ وقد مضى هذا مفسرا في سورة يونس. كذّب الله سبحانه في هذه الآية الكفار الجاحدة للبعث ، وبيّن أن القيامة آتية كائنة لا محالة ، وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يحلف على ذلك تأكيدا له ، ثم مدح نفسه بأنه يعلم ما غاب عن العباد علمه مما هو كائن أو سيكون ولم يوجد بعد ، ثم قال (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي إنما أثبت ذلك في الكتاب المبين ليكافئهم بما يستحقونه من الثواب على صالح أعمالهم (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم وستر لها

__________________

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعلّموا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شاب جميل ، شاحب اللون ، فيقول له القرآن : أنا الذي كنت أسهرت ليلك ، وأظمأت هو اجرك ، وأجففت ريقك ، وأسلت دمعتك ، أؤول معك حيثما ألت ، وكل تاجر من وراء تجارته ، وأنا اليوم لك من وراء تجارة كل تاجر ، وسيأتيك كرامة من الله عزوجل فأبشر ؛ فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه ، ويعطى الأمان بيمينه ، والخلد في الجنان بيساره ، ويكسى حلتين ، ثم يقال له : اقرأ وارقه ، فكلّما قرأ آية صعد درجة ؛ ويكسى أبواه حلّتين ان كانا مؤمنين ثم يقال لهما : هذا لما علمتماه القرآن. أصول الكافي : ٢ / ٥٧٧.

٥٦٧

(وَ) مع ذلك (رِزْقٌ كَرِيمٌ) أي هنيء لا تنغيص فيه ولا تكدير (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي والذين عملوا بجهدهم وجدّهم في ابطال حججنا ، وفي تزهيد الناس عن قبولها ، مقدرين اعجاز ربهم ، وظانين انهم يفوتونه وقيل : معاجزين : مسابقين ، ومعجزين : مثبطين ، وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة الحج (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) أي سيىء العذاب (أَلِيمٌ) أي مؤلم.

٦ ـ ١٠ ـ ثم ذكر سبحانه المؤمنين واعترافهم بما جحده من تقدّم ذكرهم من الكافرين فقال (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي ويعلم الذين أعطوا المعرفة بوحدانية الله تعالى وهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يعني القرآن (هُوَ الْحَقَ) أي يعلمونه الحق لأنهم يتدبّرونه ويتفكّرون فيه ، فيعلمون بالنظر والاستدلال انه ليس من قبل البشر ، فهؤلاء لطف الله سبحانه لهم بما أدّاهم إلى العلم فكأنه سبحانه قد آتاهم العلم (وَيَهْدِي) أي ويعلمون انه يهدي إلى القرآن ويرشد (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي دين القادر الذي لا يغالب ، المحمود على جميع أفعاله وهو الله تعالى. وفي هذه الآية دلالة على فضيلة العلم وشرف العلماء وعظم أقدارهم. ثم عاد سبحانه إلى الحكاية عن الكفار فقال (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بعضهم لبعض ، أو القادة للأتباع على وجه الاستبعاد والتعجب (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يزعم انكم تبعثون بعد أن تكونوا عظاما ورفاتا وترابا وهو قوله : (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ، أي فرّقتم كل تفريق ، وقطعتم كل تقطيع ، وأكلتكم الأرض والسباع والطيور ؛ والجديد : المستأنف المعاد ، والمعنى : انكم يجدّد خلقكم بأن تنشروا وتبعثوا (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) معناه : هل كذب على الله متعمدا حين زعم انا نبعث بعد الموت؟ وهو استفهام تعجب وانكار (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون فهو يتكلم بما لا يعلم. ثم ردّ سبحانه عليهم قولهم فقال (بَلِ) ليس الأمر على ما قالوا من الافتراء والجنون (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي هؤلاء الذين لا يصدّقون بالبعث والجزاء والثواب والعقاب (فِي الْعَذابِ) في الآخرة (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) من الحق في الدنيا. ثم وعظهم سبحانه ليعتبروا فقال (أَفَلَمْ يَرَوْا) أي أفلم ينظر هؤلاء الكفار (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) كيف أحاطت بهم ، وذلك ان الانسان حيث ما نظر رأى السماء والأرض قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يقدر على الخروج منها ، وقيل معناه : أفلم يتدبروا ويتفكروا في السماء والأرض فيستدلوا بذلك على قدرة الله تعالى. ثم ذكر سبحانه قدرته على اهلاكهم فقال (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسفنا بقارون (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي قطعة من السماء تغطّيهم وتهلكهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) معناه : ان فيما ترون من السماء والأرض لدلالة على قدرة الله على البعث ، وعلى ما يشاء من الخسف بهم (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أناب إلى الله ورجع إلى طاعته ، أفلا يرتدع هؤلاء عن التكذيب بآيات الله والإنكار لقدرته.

١٠ ـ ١٤ ـ لمّا تقدّم ذكر عباد الله المنيبين إليه وصله سبحانه بذكر داود وسليمان فقال (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) معناه : ولقد أعطينا داود من عندنا نعمة وإحسانا ، أي فضّلناه على غيره بما أعطيناه من النبوة والكتاب وفصل الخطاب والمعجزات. ثم فصّل سبحانه ما أعطاه فقال (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) معناه : سيري معه ، فكانت الجبال والطير تسير معه أينما سار ، وكان ذلك معجزا له ، والتأويب : السير بالنهار (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) فصار في يده كالشمع يعمل به ما شاء من

٥٦٨

غير ان يدخله النار ، ولا ان يضربه بالمطرقة (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أي قلنا له : اعمل من الحديد دروعا تامات ؛ وانما ألان الله تعالى الحديد لداود لأنه احبّ أن يأكل من كسب يده ، فألان الحديد له ، وعلّمه صنعة الدرع وكان أول من اتّخذها ، وكان يبيعها ويأكل من ثمنها ويطعم عياله ويتصدق منه (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي عدل في نسج الدروع ومنه قيل لصانعها : سراد وزراد ، والمعنى : لا تجعل المسامير دقاقا فتفلق ، ولا غلاظا فتكسر الحلق (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي وقلنا اعمل انت وأهلك الصالحات ، وهي الطاعات شكرا لله سبحانه على عظيم نعمه (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي أنا عالم بما تفعلونه لا يخفى عليّ شيء من أعمالكم. ثم ذكر سبحانه سليمان وما أتاه من الفضل والكرامة فقال (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي وسخّرنا لسليمان الريح (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي مسير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر ، ومسير رواح تلك الريح مسيرة شهر والمعنى : انها كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين للراكب (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي أذبنا له عين النحاس وأظهرناها له (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) المعنى : وسخّرنا له من الجن من يعمل له بحضرته وأمام عينه ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الآدمي بين يدي الآدمي بأمر ربّه تعالى ، وكان يكلّفهم الأعمال الشاقة مثل عمل الطين وغيره (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) معناه : نذيقه العذاب في الدنيا ، وان الله سبحانه وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) وهي بيوت الشريعة والمساجد يتعبد فيها ، وكان ممّا عملوه بيت المقدس (وَتَماثِيلَ) يعني صورا من نحاس وشبه وزجاج ورخام كانت الجن تعملها (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) أي صحاف كالحياض التي يجبى فيها الماء : أي يجمع ، وكان سليمان عليه‌السلام يصلح طعام جيشه في مثل هذه الجفان فإنه لم يمكنه ان يطعمهم في مثل قصاع الناس لكثرتهم ، كان يجمع على كل جفنة ألف رجل يأكلون بين يديه (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي ثابتات لا يزلن عن أمكنتهن لعظمهن (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي قلنا لهم : يا آل داود اعملوا بطاعة الله شكرا له على ما آتاكم من النعم ، وفي هذا دلالة على وجوب شكر النعمة ، وانّ الشكر طاعة المنعم وتعظيمه ، وفيه اشارة أيضا إلى ان لقرابة أنبياء الله تعالى أثرا في القرب إلى رضى الله حين خصّ آل داود بالأمر (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) والفرق بين الشكور والشاكر ان الشكور من تكرر منه الشكر ، والشاكر من وقع منه الشكر (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أي فلما حكمنا على سليمان بالموت (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) أي ما دلّ الجن على موته إلّا الأرضة ، ولم يعلموا موته حتى أكلت عصاه فسقط ، فعلموا انه ميت (فَلَمَّا خَرَّ) أي سقط سليمان ميتا (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أي ظهرت الجن فانكشف للناس (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) معناه : في الأعمال الشاقة ، وإنما سمّاها عذابا للمشاق التي فيها لا انه كان عذابا.

١٥ ـ ١٩ ـ (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) وهو أبو عرب اليمن كلها وقد تسمى به القبيلة (فِي مَسْكَنِهِمْ) أي في بلدهم (آيَةٌ) أي حجة على وحدانية الله عزّ اسمه وكمال قدرته ، وعلامة على سبوغ نعمه. ثم فسّر سبحانه الآية فقال (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أي بساتين عن يمين من أتاهما وشماله (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) أي كلوا مما رزقكم الله في هذه الجنان واشكروا له يزيدكم من نعمه ، واستغفروه يغفر لكم (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أراد به صحة هواها ، وعذوبة مائها ، وسلامة تربتها ، وانه ليس فيها حرّ يؤذي في القيظ ، ولا برد يؤذي في الشتاء (وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي كثير المغفرة للذنوب (فَأَعْرَضُوا) عن

٥٦٩

الحق ولم يشكروا الله سبحانه ، ولم يقبلوا ممن دعاهم إلى الله من أنبيائه (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وذلك ان الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن ، وكان هناك جبلان يجتمع ماء المطر والسيول بينهما ، فسدّوا ما بين الجبلين ؛ فإذا احتاجوا إلى الماء نقبوا السدّ بقدر الحاجة فكانوا يسقون زروعهم وبساتينهم ، فلما كذّبوا رسلهم وتركوا أمر الله بعث الله جرذا نقبت ذلك الردم وفاض الماء عليهم فأغرقهم وقال إبن الاعرابي : العرم : السيل الذي لا يطاق (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ) اللتين فيهما أنواع الفواكه والخيرات (جَنَّتَيْنِ) أخراوين ، سمّاها جنّتين لازدواج الكلام كما قال : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) ، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ) أي صاحبتي اكل ، وهو اسم لثمر كل شجرة ، والخمط : هو كل شجر له شوك ، والاثل : الطرفاء (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) يعني ان الاثل والخمط كانا أكثر فيهما من السدر ، وهو النبق قال قتادة : كان شجرهم خير شجر فصيّره الله شرّ شجر بسوء أعمالهم (ذلِكَ) أي ما فعلنا بهم (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) أي بكفرهم (وَهَلْ نُجازِي) بهذا الجزاء (إِلَّا الْكَفُورَ) الذي يكفر نعم الله (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) أي وقد كان من قصتهم أنا جعلنا بينهم وبين قرى الشام التي باركنا فيها بالماء والشجر قرى متواصلة ، ومعنى الظاهرة : ان الثانية كانت ترى من الأولى لقربها منها (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارا واحدا نصف يوم ، وقلنا لهم (سِيرُوا فِيها) أي في تلك القرى (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) أي ليلا شئتم المسير أو نهارا (آمِنِينَ) من الجوع والعطش والتعب ، ومن السباع وكل المخاوف. ثم اخبر سبحانه انهم بطروا وبغوا (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) أي اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب إليها الرواحل ، ونقطع المنازل ، وهذا كما قالت بنو إسرائيل لما ملوا النعمة : اخرج الينا مما تنبت الأرض من بقلها بدلا من المن والسلوى (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بارتكاب المعاصي والكفر (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ، ويضربون بهم المثل فيقولون : تفرقوا أيادي سبأ إذا تشتتوا أعظم التشتت (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرّقناهم في كل وجه من البلاد كل تفريق (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي دلالات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على الشدائد (شَكُورٍ) على النعماء.

٢٠ ـ ٢٥ ـ ثم قال سبحانه (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الضمير في عليهم يعود إلى أهل سبأ والمعنى : ان إبليس كان قال لأغوينّهم ولأضلّنهم وما كان ذلك عن علم وتحقيق وانما قاله ظنّا ، فلما تابعه أهل الزيغ والشرك صدّق ظنّه وحقّقه (فَاتَّبَعُوهُ) فيما دعاهم إليه (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعني المؤمنين كلهم عن ابن عباس ، أي علموا قبح متابعته فلم يتبعوه واتبعوا أمر الله تعالى (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي ولم يكن لإبليس عليهم من سلطنة ولا ولاية يتمكن بها من اجبارهم على الغي والضلال ، وإنما كان يمكنه الوسوسة فقط كما قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) المعنى : انا لم نمكنه من اغوائهم ووسوستهم إلا لنميّز بين من يقبل منه ومن يمتنع ويأبى متابعته ، فنعذّب من تابعه ونثيب من خالفه (وَرَبُّكَ) يا محمد (عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي عالم لا يفوته علم شيء من أحوالهم. ثم قال سبحانه (قُلِ) يا محمد لهؤلاء المشركين (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) انهم آلهة ، وانهم شركاء لله تعالى ، وانهم شفعاؤكم ، وانها تستحق الإلهية ، هل يستجيبون لكم إلى ما تسألونهم؟ وهذا نوع توبيخ لا أمر ليعلموا ان أوثانهم لا تنفعهم ولا تضرّهم (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا

٥٧٠

فِي الْأَرْضِ) أي لا يملكون زنة ذرة من خير وشرّ ونفع وضرّ فيهما (وَما لَهُمْ فِيهِما) أي وليس لهم في خلق السماوات والأرض (مِنْ شِرْكٍ) ونصيب (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) أي ليس لله سبحانه منهم معاون على خلق السماوات والأرض ، ولا على شيء من الأشياء (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) المعنى : انه لا تنفع الشفاعة عند الله تعالى إلا لمن رضيه الله وارتضاه وأذن له في الشفاعة مثل الملائكة والأنبياء والأولياء ، وانما قال سبحانه ذلك لأن الكفار كانوا يقولون : نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فحكم الله تعالى ببطلان اعتقاداتهم (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) أي كشف الفزع عن قلوبهم (قالُوا) أي قالت الملائكة لهم (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا) أي قال هؤلاء المشركون مجيبين لهم (الْحَقَ) أي قال : الحق ، فيعترفون ان ما جاء به الرسل كان حقا (وَهُوَ الْعَلِيُ) أي السيد القادر المطاع (الْكَبِيرُ) في قدرته (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنهم لا يمكنهم أن يقولوا : ترزقنا آلهتنا التي نعبدها ثم عند ذلك (قُلِ اللهُ) الذي يرزقكم (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إنما قال ذلك على وجه الانصاف في الحجاج دون الشك كما يقول القائل لغيره : أحدنا كاذب وان كان هو عالما بالكاذب وقيل : إنما قاله على وجه الاستعطاف والمداراة ليسمع الكلام ، وهذا من أحسن ما ينسب به المحق نفسه إلى الهدى ، وخصمه إلى الضلال ، لأنه كلام من لا يكاشف خصمه بالتضليل بل ينسبه إليه على أحسن وجه ، ويحثّه على النظر ، ولا يجب النظر إلا بعد التردّد (قُلْ) يا محمد إذا لم ينقادوا للحجة (لا تُسْئَلُونَ) أيّها الكفار (عَمَّا أَجْرَمْنا) أي اقترفنا من المعاصي (وَلا نُسْئَلُ) نحن (عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي تعملونه أنتم ، بل كل إنسان يسأل عما يعمله ، ويجازى على فعله دون فعل غيره ، وفي هذا دلالة على ان أحدا لا يجوز أن يؤخذ بذنب غيره.

٢٦ ـ ٣٠ ـ ثم أمر سبحانه أن يحاكمهم إلى الله لاعراضهم عن الحجة فقال (قُلْ) يا محمد (يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) أي يحكم (بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ) أي الحاكم (الْعَلِيمُ) بالحكم ، لا يخفى عليه شيء منه (قُلْ) يا محمد (أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) إنما ذكر هذا سبحانه على وجه التعظيم والتعجيب ، أي أروني الذين زعمتم أنهم شركاء لله تعبدونهم معه ، وهذا كالتوبيخ لهم فيما اعتقدوه من الإشراك مع الله كما يقول القائل لمن أفسد عملا : أرني ما عملته ، توبيخا له بما أفسده ، فإنهم سيفتضحون بذلك إذا أشاروا إلى الأصنام. ثم قال سبحانه (كَلَّا) معناه : ارتدعوا عن هذا المقال ، وتنبّهوا من الغي والضلال (بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ) أي القادر الذي لا يغالب (الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله فكيف يكون له شريك. ثم بيّن سبحانه نبوة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (وَما أَرْسَلْناكَ) يا محمد بالرسالة التي حملناكها (إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) أي عامة للناس كلهم العرب والعجم وسائر الأمم ، وقيل معناه : جامعا للناس بالإنذار والدعوة وقيل : كافّا للناس ، أي مانعا لهم عما هم عليه من الكفر والمعاصي بالأمر والنهي والوعيد والإنذار والهاء للمبالغة ، عن أبي مسلم (بَشِيراً) لهم بالجنة (وَنَذِيراً) بالنار (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) رسالتك ، لا يعلمون ما لهم في الآخرة في اتباعك من الثواب ، وما عليهم في مخالفتك من العذاب (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي يعدوننا به (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تقولونه يا معشر المؤمنين. ثم أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجابتهم فقال (قُلْ) يا محمد (لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) أي ميقات يوم ينزل بكم ما وعدتم به وهو يوم القيامة وقيل : يوم وفاتهم وقبض أرواحهم عن أبي مسلم (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي

٥٧١

لا تتأخرون عن ذلك اليوم ولا تتقدمون عليه بأن يزاد في آجالكم أو ينقص منها.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثم بيّن سبحانه حالهم في القيامة فقال حكاية عنهم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم اليهود وقيل : هم مشركو العرب (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) أي لا نصدق بأنه من الله تعالى (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من أمر الآخرة وقيل : يعنون به التوراة والانجيل وذلك انه لما قال مؤمنو أهل الكتاب : ان صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتابنا ، وهو نبي مبعوث ، كفر المشركون بكتابهم ثم قال (وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي محبوسون للحساب يوم القيامة (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي يرد بعضهم إلى بعض القول في الجدال (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم الاشراف والقادة (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) مصدقين بتوحيد الله أي أنتم منعتمونا من الإيمان والمعنى : لو لا دعاؤكم إيانا إلى الكفر لآمنا بالله في الدنيا (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي قال المتبوعون للاتباع على طريق الإنكار (نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) أي لم نصدّكم نحن عن قبول الهدى (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي بل أنتم كفرتم ولم نحملكم على الكفر قهرا ، فكل واحد من الفريقين ورّك الذنب على صاحبه واتّهمه ، ولم يضف واحد منهم الذنب إلى الله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) يعني الاتباع للمتبوعين (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي مكركم في الليل والنهار صدّنا عن قبول الهدى (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي حين أمرتمونا ان نجحد وحدانية الله تعالى ، ودعوتمونا إلى أن نجعل له شركاء في العبادة (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) فيه وجهان (أحدهما) ان معناه أظهروا الندامة (والآخر) ان المعنى أخفوها وقد فسّر الاسرار في بيت أمرىء القيس :

تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا

عليّ حراضا لو يسرّون مقتلي

على الوجهين فمن قال بالأول قال معناه أظهر المتبوعون الندامة على الإضلال ، وأظهر الاتباع الندامة على الضلال وقيل معناه : أقبل بعضهم على بعض يلومه ويظهر ندمه ومن قال بالثاني قال معناه أخفوا الندامة في أنفسهم خوف الفضيحة وقيل معناه ان الرؤساء أخفوا الندامة عن الاتباع (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي حين رأوا نزول العذاب بهم (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال ابن عباس : غلوا بها في النيران (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لا يجزون إلّا بأعمالهم التي عملوها على قدر استحقاقهم (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) أي من نبيّ مخوّف بالله تعالى (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أي جبابرتها وأغنياؤها المتنعمون فيها (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) وفي هذا بيان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان أهل قريته جروا على منهاج الأولين ، وإشارة إلى انه كان اتباع الأنبياء فيما مضى الفقراء وأوساط الناس دون الأغنياء. ثم بيّن سبحانه علة كفرهم بأن قال (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) أي افتخروا بأموالهم وأولادهم ظنّا بأن الله سبحانه إنما خوّلهم المال والولد كرامة

__________________

من حديث الامام الرضا عليه‌السلام : إن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام ، فأتاهم من عند الله من مواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجة عليهم. الاحتجاج ٢ / ٢٢٥

٥٧٢

لهم عنده فقالوا : إذا رزقنا وحرمتم فنحن أكرم منكم وأفضل عند الله تعالى فلا يعذبنا على كفرنا بكم وذلك قوله (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ولم يعلموا ان الأموال والأولاد عطاء من الله تعالى يستحق به الشكر عليهم وليس ذلك للإكرام والتفضل.

٣٦ ـ ٤٠ ـ لمّا حكى الله سبحانه عن الكفار انهم قالوا : (ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) لأن الله تعالى أغنانا في الدنيا فلا يعذّبنا في الآخرة قال رادّا عليهم (قُلْ) يا محمد (إِنَّ رَبِّي) الذي خلقني (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) على ما يعلمه من مصلحته ومصلحة غيره (وَيَقْدِرُ) أي ويضيق أيضا على حسب المصلحة فبسط الرزق : هو الزيادة فيه على قدر الكفاية ، والقدر : تضييقه عن قدر الكفاية (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك بجهلهم بالله وبحكمته ، فيظنون ان كثرة مال الإنسان يدلّ على كرامته عند الله تعالى. ثم صرّح بهذا المعنى فقال (وَما أَمْوالُكُمْ) أي ليس أموالكم التي خوّلتموها (وَلا أَوْلادُكُمْ) التي رزقتموها (بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) أي قربى (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) معناه : لكن من آمن بالله وعرفه ، وصدّق نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأطاعه فيما أمر به ، وانتهى عمّا نهاه عنه (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) أي يضاعف الله حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشرا إلى ما زاد ، والضعف اسم جنس يدل على الكثير والقليل ، ويجوز أن يكون الأموال والأولاد تقرّب الى الله تعالى ، باب يكسب المؤمن المال مستعينا به على القيام بحق التكليف ، ويستولد الولد كذلك ، فيقرّب بأنه عند الله زلفى ، فعلى هذا يكون الإستثناء متصلا ولا يكون بمعنى لكن. وقيل : إنّ جزاء الضعف أن يعطيهم من الآخرة مثل ما كان لهم في الدنيا من النعيم (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) أي في غرف الجنة وهي البيوت فوق الأبنية (آمِنُونَ) فيها لا يخافون شيئا مما يخاف مثله في دار الدنيا من الموت والغير والآفات والأحزان (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) أي يجتهدون في ابطال آياتنا وتكذيبها (مُعاجِزِينَ) لأنبيائنا ، ومعاجزين : أي مثبطين غيرهم عن أفعال البر (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) مرّ تفسيره وإنما كرّره سبحانه لاختلاف الفائدة ، فالأول توبيخ للكافرين وهم المخاطبون به ، والثاني وعظ للمؤمنين ، فكأنه قال : ليس إغناء الكفار وإعطاؤهم بدلالة على كرامتهم وسعادتهم ، بل يزيدهم ذلك عقوبة ، وإغناء المؤمنين يجوز ان يكون زيادة في سعادتهم بأن ينفقوها في سبيل الله ، ويدلّ على ذلك قوله (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي وما أخرجتم من أموالكم في وجوه البرّ فإنه سبحانه يعطيكم خلفه وعوضه إما في الدنيا بزيادة النعمة ، وإما في الآخرة بثواب الجنة ، يقال : أخلف الله له وعليه : إذا أبدل له ما ذهب عنه (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأنه يعطي لمنافع عباده لا لدفع ضرر أو جرّ نفع لاستحالة المنافع والمضار عليه (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) يعني يوم القيامة يجمع العابدين لغير الله ، والمعبودين من الملائكة للحساب (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ) الكفار (إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) أي كانوا يعبدونكم ويقصدونكم بالعبادة؟ وعلى هذا وجه التقرير والاستشهاد للملائكة على اعتقادات الكفار حتى تتبرأ الملائكة منهم ومن عبادتهم كما قال سبحانه : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ).

٤١ ـ ٤٥ ـ (قالُوا) أي قالت الملائكة (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك عن أن نعبد سواك ، ونتخذ معبودا غيرك (أَنْتَ) يا الله (وَلِيُّنا) أي ناصرنا وأولى بنا (مِنْ دُونِهِمْ) أي دون هؤلاء الكفار ودون كل أحد ، وما كنا نرضى بعبادتهم إيانا مع علمنا بأنك ربنا وربهم (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) بطاعتهم إياهم

٥٧٣

فيما دعوهم إليه من عبادة الملائكة ، وقيل : المراد بالجن إبليس وذريته وأعوانه (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي مصدّقون بالشياطين ، مطيعون لهم (فَالْيَوْمَ) يعني في الآخرة (لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ) يعني العابدين والمعبودين (نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي نفعا بالشفاعة ، ولا ضرا بالتعذيب (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بأن عبدوا غير الله (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي لا تعترفون بها وتجحدونها. ثم عاد سبحانه إلى الحكاية عن حال الكفار في الدنيا فقال (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي تقرأ عليهم حججنا (بَيِّناتٍ) أي واضحات من القرآن الذي أنزلناه على نبيّنا (قالُوا) عند ذلك (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ) أي يمنعكم (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) فزعوا إلى تقليد الآباء لما أعوزتهم الحجة (وَقالُوا ما هذا) القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) أي كذب (مُفْتَرىً) قد تخرصه وافتراه (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) أي للقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا) أي ليس هذا (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر. ثم أخبر سبحانه انهم لم يقولوا ذلك عن بيّنة فقال (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) أي وما أعطينا مشركي قريش كتابا قطّ يدرسونه فيعلمون بدرسه أنّ ما جئت به حق أو باطل ، وإنما يكذّبونك بهواهم من غير حجة (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي رسول أمرهم بتكذيبك ، وأخبرهم ببطلان قولك ، يعني انهم لا يرجعون في تكذيبك إلّا إلى الجهل والعناد واتباع الهوى. ثم أخبر سبحانه عن عاقبة من كذب الرسل قبلهم تخويفا لهم فقال (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بمن بعث إليهم من الرسل ، وما آتاهم الله من الكتب (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي وما بلغ قومك يا محمد معشار ما أعطينا من قبلهم من القوة ، وكثرة المال ، وطول العمر ، فأهلكهم الله عن ابن عباس وقتادة (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي عقوبتي وتغييري حالهم وقيل معناه : انظر في آثارهم كيف كان إنكاري عليهم بالهلاك عن أبي مسلم والمراد إنا كما أهلكنا أولئك حين كذّبوا رسلنا : فليحذر هؤلاء مثل ما نزل بهم من الهلاك والإستئصال.

٤٦ ـ ٥٠ ـ ثم خاطب سبحانه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (قُلْ) يا محمد لهم (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي آمركم وأوصيكم بخصلة واحدة وقيل : بكلمة واحدة وهي كلمة التوحيد وقيل : بطاعة الله عن مجاهد ومن قال بالأول قال انه فسّر الواحدة بما بعده فقال (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) أي اثنين اثنين ، وواحدا واحدا (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) معناه : أن يقوم الرجل منكم وحده أو مع غيره ثم تتساءلون هل جرّبنا على محمد كذبا؟ أو هل رأينا به جنة؟ ففي ذلك دلالة على بطلان ما ذكرتم فيه ؛ وليس معنى القيام هنا القيام على الأرجل وإنما المراد به القصد للإصلاح والإقبال عليه مناظرا مع غيره ، ومتفكرا في نفسه ، لأن الحق إنما يتبين للإنسان بهما وقد تمّ الكلام عند قوله تتفكروا ، وما للنفي قال قتادة : أي ليس بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنون ، وان جعلت تمام الكلام آخر الآية فالمعنى : ثم تتفكروا أي شيء بصاحبكم من الجنون ، أي هل رأيتم من منشأه إلى مبعثه وصمة تنافي النبوة من كذب ، أو ضعف في العقل ، أو اختلاف في القول والفعل ، فيدلّ ذلك على الجنون (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ) أي مخوّف من معاصي الله (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) يعني عذاب القيامة. ثم قال للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قُلْ) لهم يا محمد (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) يعني لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئا من عرض الدنيا فتتهموني ، فما طلبته منكم من أجر على اداء الرسالة ، وبيان الشريعة فهو لكم ، وهذا كما يقول الرجل لمن لا يقبل نصحه : ما أعطيتني من أجر فخذه (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي ليس ثواب عملي إلّا على الله ، فهو يثيبني عليه ولا يضيعه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي عليم به لم يغب عنه شيء فيعلم ما

٥٧٤

يلحقني من أذاكم (قُلْ) يا محمد (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) ويلقيه إلى أنبيائه عن قتادة ومقاتل (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) علم جميع الخفيات ، وما غاب عن خلقه في الأرضين والسموات (قُلْ) يا محمد (جاءَ الْحَقُ) وهو أمر الله تعالى بالإسلام والتوحيد (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي ذهب الباطل ذهابا لم يبق منه إبداء ولا إعادة ولا إقبال ولا إدبار ، لأن الحق إذا جاء لا يبقى للباطل بقية (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ) عن الحق كما تدعون (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) أي فإنما يرجع وبال ضلالي عليّ لأني مأخوذ به دون غيري (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ) إلى الحق (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) أي بفضل ربي حيث أوحى إليّ فله المنة بذلك عليّ دون خلقه (إِنَّهُ سَمِيعٌ) لأقوالنا (قَرِيبٌ) منّا فلا يخفى عليه المحق والمبطل.

٥١ ـ ٥٤ ـ ثم قال سبحانه (وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذْ فَزِعُوا) أي عند البعث (فَلا فَوْتَ) أي فلا يفوتني منهم أحد ، ولا ينجو مني ظالم (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) يعني القبور ، وحيث كانوا فهم من الله قريب لا يفوتونه وقيل : إذ فزعوا في الدنيا حين رأوا بأس الله عند معاينة الملائكة لقبض أرواحهم ، وقيل : هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم فلم يستطيعوا فرارا من العذاب ، ولا رجوعا إلى التوبة ، عن الضحاك والسدي. وقال أبو حمزة الثمالي : سمعت علي ابن الحسين عليهما‌السلام والحسن بن الحسن بن علي عليه‌السلام يقولان : هو جيش البيداء يؤخذون من تحت أقدامهم (وَقالُوا) أي ويقولون في ذلك الوقت وهو يوم القيامة أو عند رؤية البأس أو عند الخسف في حديث السفياني (آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) أي ومن أين لهم الانتفاع بهذا الإيمان الذي الجئوا إليه؟ بيّن سبحانه انهم لا ينالون به نفعا كما لا ينال أحد التناوش (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وقيل معناه : انهم طلبوا المردّ إلى الدنيا ، فالمراد انهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال ، ولم يرد بعد المكان وانما أراد بعد انتفاعهم بذلك وبعدهم عن الصواب (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) المعنى : وكيف تقبل توبتهم أو يردّون إلى الدنيا وقد كفروا بالله من قبل ذلك (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي ويرجمون بالظن فيقولون : لا جنّة ولا نار ولا بعث ، وهذا أبعد ما يكون من الظن عن قتادة وقيل معناه : يرمون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالظنون من غير يقين وذلك قولهم : هو ساحر ، وهو شاعر ، وهو مجنون ، وجعله قذفا لخروجه في غير حقّ وقيل معناه : ويبعدون أمر الآخرة فيقولون لأتباعهم هيهات هيهات لما توعدون ، وذلك كالشيء يرى في موضع بعيد المرمى (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) أي وفرّق بينهم وبين مشتهياتهم بالموت الذي حلّ بهم كما حلّ بأمثالهم عن أبي مسلم وقيل : مشتهاهم هو التوبة والإيمان أو الردّ إلى الدنيا وقد منعوا منه وقيل : هو نعيم الجنة عن الجبائي وقيل معناه : منعوا من كل مشتهى فيلحق الله تعالى فيهم النفار فلا يدركون شيئا إلّا ويتألمون (كَما فُعِلَ) مثل ذلك (بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي بأمثالهم من الكفار وأهل دينهم من الأمم الماضية حين لم تقبل التوبة وقت رؤية البأس والعذاب قال الضحاك : المراد بذلك أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ) من البعث والنشور (مُرِيبٍ) أي مشكّك.

سورة فاطر

وتسمى أيضا سورة الملائكة

مكية وعدد آياتها خمس وأربعون آية

لمّا ختم الله سبحانه السورة المتقدمة بالرد على أهل الشرك والشك والعنود ، افتتح هذه السورة بذكر كمال قدرته ووحدانيته ، ودلائل التوحيد فقال :

٥٧٥

١ ـ ٥ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما مبتدئا على غير مثال سبق ، حمد سبحانه نفسه ليعلمنا كيف نحمده ، وليبيّن لنا أن الحمد كله له (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) إلى الأنبياء بالرسالات والوحي (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) تقدّم تفسيرها ، وإنما جعلهم أولي أجنحة ليتمكّنوا بها من العروج إلى السماء ، ومن النزول إلى الأرض ، فمنهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة أجنحة ، ومنهم من له أربعة أجنحة عن قتادة قال ويزيد فيها ما يشاء وهو قوله (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) قال ابن عباس : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرائيل ليلة المعراج وله ستمائة جناح ، وهذا اختيار الزجاج والفراء وقيل : أراد بقوله : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : حسن الصوت عن الزهري وابن جريج وقيل : هو الملاحة في العينين عن قتادة ، وروى أبو هريرة عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : هو الوجه الحسن ، والصوت الحسن ، والشعر الحسن (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا شيء إلا وهو قادر عليه بعينه أو قادر على مثله. ثم بيّن سبحانه انعامه على خلقه فقال (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) أي ما يأتيهم به من مطر أو عافية أو أيّ نعمة شاء فإن أحدا لا يقدر على امساكه (وَما يُمْسِكْ) من ذلك (فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) أي فإنّ أحدا لا يقدر على ارساله وقيل معناه : ما يرسل الله من رسول إلى عباده في وقت دون وقت فلا مانع له ، لأنّ ارسال الرسول رحمة من الله كما قال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ، وما يمسكه في زمان الفترة أو عمن يقترحه من الكفار فلا مرسل له ، عن الحسن ، واللفظ محتمل للجميع (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي القادر الذي لا يعجز (الْحَكِيمُ) في أفعاله إن أنعم وإن أمسك ، لأنه يفعل ما تقتضيه الحكمة. ثم خاطب المؤمنين فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) الظاهرة والباطنة التي من جملتها انه خلقكم وأوجدكم وأحياكم وأقدركم ، وشهّاكم وخلق لكم أنواع الملاذّ والمنافع (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) هذا استفهام تقرير لهم ومعناه النفي ليقرّوا بأنه لا خالق إلّا الله يرزق من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات ، وهل يجوز اطلاق لفظ الخالق على غير الله سبحانه؟ فيه وجهان (أحدهما) انه لا تطلق هذه اللفظة على أحد سواه وإنما يوصف به غيره على جهة التقييد وان جاز اطلاق لفظ الصانع والفاعل نحوهما على غيره (والآخر) ان المعنى : لا خالق يرزق ويخلق الرزق إلّا الله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود يستحق العبادة سواه سبحانه (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي كيف تصرفون عن طريق الحق إلى الضلال وقيل معناه : أنّى يعدل بكم عن هذه الأدلة التي أقمتها لكم على التوحيد مع وضوحها. ثم سلّى سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تكذيب قومه إياه فقال (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا محمد (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازي من كذّب رسله. وينصر من كذّب من رسله. ثم خاطب الخلق فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) من البعث والنشور والجنة والنار والجزاء والحساب (حَقٌ) صدق كائن لا محالة (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فتغترون بملاذّها ونعيمها ، ولا يخدعنكم حبّ الرياسة وطول البقاء فإن ذلك عن قليل نافذ بائد ويبقى الوبال والوزر (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وهو الذي عادته أن يغر غيره ، والدنيا وزينتها بهذه الصفة لأن الخلق يغترون بها وقيل : إن الغرور الشيطان الذي هو إبليس عن الحسن ومجاهد.

٦ ـ ١٠ ـ ثم انه سبحانه حذّرهم الشيطان فقال (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) يدعوكم إلى ما فيه الهلاك والخسر ، ويصرفكم عن أفعال الخير والبرّ ويدعوكم إلى الشرّ (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي فعادوه ولا تتّبعوه بأن تعملوا على وفق مراده ،

٥٧٦

وتذعنوا لانقياده (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) أي أتباعه وأولياءه وأصحابه (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي النار المسعرة والمعنى : انه لا سلطان له على المؤمنين ولكنّه يدعو أتباعه إلى ما يستحقّون به النار. ثم بيّن سبحانه حال من أجابه ، وحال من خالفه فقال (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) جزاء على كفرهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من الله لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي ثواب عظيم. ثم قال سبحانه مقرّرا لهم (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) يعني الكفار زيّنت لهم نفوسهم أعمالهم السيئة فتصوّروها حسنة ، أو زيّنها الشيطان لهم بأن أمالهم إلى الشبه المضلّة ، وترك النظر في الأدلة ، وأغواهم حتى تشاغلوا بما فيه عاجل اللذة (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) مرّ بيانه (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي لا تهلك نفسك يا محمد عليهم حسرة ، ولا يغمّك حالهم إذ كفروا واستحقّوا العقاب ، وهو مثل قوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) والحسرة : شدة الحزن على ما فات من الأمر (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) فيجازيهم عليه. ثم عاد سبحانه إلى ذكر أدلة التوحيد فقال (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) أي تهيّجه وتزعجه من حيث هو (فَسُقْناهُ) أي فسقنا السحاب (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) أي قحط وجدب لم يمطر فيمطر على ذلك البلد (فَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بذلك المطر والماء (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بأن أنبتنا فيها الزرع والكلاء بعد أن لم يكن (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي كما فعل هذا بهذه الأرض الجدبة من إحيائها بالزرع والنبات ينشر الخلائق بعد موتهم ، ويحشرهم للجزاء من الثواب والعقاب (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) معناه : من أراد العزّة فليتعزّز بطاعة الله فإن الله تعالى يعزّه ، عن قتادة يعني ان قوله (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) معناه الدعاء إلى طاعة من له العزة كما يقال : من أراد المال فالمال لفلان ، أي فليطلبه من عنده ، يدل على صحة هذا ما رواه أنس عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : إن ربكم يقول كل يوم : أنا العزيز فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) والكلم : جمع الكلمة يقال : هذا كلم وهذه كلم ، ومعنى الصعود هاهنا القبول من صاحبه ، والإثابة عليه ، وكلما يتقبّله الله سبحانه من الطاعات يوصف بالرفع والصعود لأن الملائكة يكتبون أعمال بني آدم ويرفعونها إلى حيث شاء الله تعالى ، وهذا كقوله : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) وقيل : معنى إليه يصعد : إلى سمائه ، وإلى حيث لا يملك الحكم سواه ، فجعل صعوده إلى سمائه صعودا إليه تعالى كما يقال ارتفع أمرهم إلى السلطان ؛ والكلم الطيب الكلمات الحسنة من التعظيم والتقديس ، وأحسن الكلم لا إله إلا الله (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) المعنى : العمل الصالح يرفعه الله لصاحبه ، أي يقبله. ثم ذكر سبحانه من لا يوحّد الله سبحانه فقال (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي يعملون السيئات عن الكلبي وقيل : يمكرون أي يشركون بالله وقيل : يعني الذين مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دار الندوة عن أبي العالية وهو قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة. ثم أخبر سبحانه ان مكرهم يبطل فقال (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي يفسد ويهلك ولا يكون شيئا ، ولا ينفذ فيما أرادوه.

١١ ـ ١٧ ـ ثم نسّق سبحانه على ما تقدم من دلائل التوحيد فقال (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) بأن خلق أباكم آدم منه ، فإن الشيء يضاف إلى أصله وقيل أراد به آدم عليه‌السلام نفسه (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ماء الرجل والمرأة (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي ذكورا وإناثا وقيل ضروبا وأصنافا (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي وما تحمل من الإناث حاملة ولدها في بطنها إلا بعلم الله تعالى ، والمعنى : إلا وهو عالم بذلك (وما

٥٧٧

وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) معناه : وما يمدّ في عمر معمّر ، أي ولا يطول عمر أحد (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) أي من عمر ذلك المعمّر بانقضاء الأوقات عليه عن أبي مالك ، يعني ولا يذهب بعض عمره بمضيّ الليل والنهار وقيل معناه : ولا ينقص من عمر غير ذلك المعمر ، عن الحسن والضحاك وابن زيد وقيل : هو ما يعلمه الله تعالى ان فلانا لو أطاع لبقي إلى وقت كذا وإذا عصى نقص عمره فلا يبقى فالنقصان على ثلاثة أوجه أما ان يكون من عمر المعمر أو من عمر معمر آخر أو يكون بشرط (إِلَّا فِي كِتابٍ) أي إلا وذلك مثبت في الكتاب ، وهو الكتاب المحفوظ أثبته الله تعالى قبل كونه. قال سعيد بن جبير : مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا سنة ، ثم يكتب أسفل ذلك ذهب يوم ، ذهب يومان ، ذهب ثلاثة أيام ، حتى يأتي على آخر عمره (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يعني ان تعمير من يعمره ، ونقصان من ينقصه ، واثبات ذلك في الكتاب سهل على الله تعالى غير متعذر. ثم قال (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) يعني العذب والمالح ، ثم ذكرهما فقال (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) أي طيب بارد (سائِغٌ شَرابُهُ) أي جائز في الحلق هنيء (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) شديد الملوحة ، عن ابن عباس (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً) أي لتصطادوا منه أنواع السمك وتأكلوا لحمه (طَرِيًّا) ولا يجوز أن يهمز طريا لأنه من الطراوة (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً) يعني اللآلىء التي تخرج من البحر بالغوص (تَلْبَسُونَها) تتزينون بها وتلبسونها نساءكم ، ولو لا تسخيره سبحانه ذلك لكم لما قدرتم على الدنو منه ، والغوص فيه (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) أي وترى أيها الانسان السفن شواق في البحر ، وقواطع لمائه ، عن عكرمة ، وقيل : جواري ، عن ابن عباس (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ولتركبوه للتجارة ، وتطلبوا من فضل الله تعالى (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي ولكي تشكروا الله على نعمه ليزيدكم منها ويثيبكم. والواو إنما دخلت في ذلك للدلالة على ان الله سبحانه أراد جميع ما ذكره انعاما منه على عباده (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل أحدهما في الآخر بالزيادة والنقصان (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي يجريهما كما يريد (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي كل واحد منهما يجري الى وقت معلوم ، وهو فناء الدنيا ، وقيام الساعة ، التي تكوّر عندها الشمس ، ويخسف القمر ، وتنكدر النجوم ، عن الحسن ، وقال ابن عباس : أراد بالأجل المسمّى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهيان إليها ، ولا يجاوزانها (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي مدبّر هذه الأمور هو الله خالقكم (لَهُ الْمُلْكُ) في الدنيا والآخرة (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي تدعونهم آلهة من الأصنام والأوثان ، وتوجّهون عبادتكم إليهم (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي قشر نواة عن ابن عباس ، أي لا يقدرون من ذلك على قليل ولا كثير (إِنْ تَدْعُوهُمْ) لكشف ضرّ (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) لأنها جماد لا تنفع ولا تضرّ (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) لأنها جماد لا تنفع ولا تضرّ (وَلَوْ سَمِعُوا) بأن يخلق الله لها سمعا (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي يتبرّأون من عبادتكم ، ينطقهم الله يوم القيامة لتوبيخ عابديها فيقولون : لم عبدتمونا وما دعوناكم إلى ذلك قال البلخي : ويجوز أن يكون المراد به الملائكة وعيسى ويكون معنى قوله : (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) : انهم بحيث لا يسمعونه ، أو انهم مشتغلون عنهم لا يلتفتون إليهم ، ويجوز أن يكون المراد به الأصنام ، ويكون ما يظهر من بطلان ما ظنّوه كفرا بشركهم وجحودا له كما ان ما يحصل في الجماد من الدلالة على الله تسبيح منهم (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي لا يخبرك بما فيه الصلاح والفساد ، والمنافع والمضار ، مثل الله سبحانه العليم بالأشياء كلّها (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) المحتاجون (إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُ) عن عبادتكم لا يحتاج إلى شيء (الْحَمِيدُ) المستحق للحمد على جميع أفعاله فلا يفعل إلّا ما يستحق به حمدا. ثم أخبر عن كمال قدرته فقال

٥٧٨

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) ويفنكم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) سواكم كما خلقكم ولم تكونوا شيئا (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي ممتنع ، بل هو عليه هيّن يسير.

١٨ ـ ٢٦ ـ ثم أخبر سبحانه عن عدله في حكمه فقال (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى ، أي لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، وإنما يؤاخذ كل بما يقترفه من الآثام (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها) أي وان تدع نفس مثقلة بالآثام غيرها إلى أن يتحمل عنها شيئا من اثمها (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) أي لا يحمل غيرها شيئا من ذلك الحمل (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي ولو كان المدعو إلى التحمل ذا قرابة منها ، وأقرب الناس إليها ما حمل عنها شيئا ، فكل نفس بما كسبت رهينة ، قال ابن عباس : يقول الأب والأم : يا بني احمل عني فيقول : حسبي ما عليّ (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي وهم غائبون عن أحكام الآخرة وأهوالها ، وهذا كقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) والمعنى : ان انذارك لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم فكأنّك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار وقيل : الذين يخشون ربهم في خلواتهم وغيبتهم عن الخلق (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أداموها وقاموا بشرائطها ، وإنما عطف الماضي على المستقبل اشعارا باختلاف المعنى لأن الخشية لازمة في كل وقت والصلاة لها أوقات مخصوصة (وَمَنْ تَزَكَّى) أي فعل الطاعات ، وقام بما يجب عليه من الزكاة وغيرها من الواجبات وقيل تطهر من الآثام (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) لأن جزاء ذلك يصل إليه دون غيره (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي مرجع الخلق كلّهم إلى حيث لا يملك الحكم إلّا الله سبحانه فيجازي كلّا على قدر عمله (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي لا يتساوى الأعمى عن طريق الحق والذي اهتدى إليه قط وقيل المشرك والمؤمن (وَلَا الظُّلُماتُ) أي ظلمات الشرك والضلال (وَلَا النُّورُ) أي نور الإيمان والهداية ، وفي قوله (ولا النور) وما بعده من زيادة (لا) قولان : أحدهما : أنها زائدة مؤكّدة للنفي ، والثاني : أنّها نافية ، لاستواء كل واحد منهما لصاحبه على التفصيل (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) يعني الجنة والنار وقيل : يعني ظل الليل والسموم بالنهار (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) يعني المؤمنين والكافرين وقيل : يعني العلماء والجهال وقال بعضهم : أراد نفس الأعمى والبصير ، والظل والحرور ، والظلمات والنور ، على طريق ضرب المثل ، أي كما لا يستوي هذه الأشياء ولا يتماثل ولا يتشاكل ، فكذلك عبادة الله لا تشبه عبادة غيره ، ولا يستوي المؤمن والكافر ، والحق والباطل ، والعالم والجاهل (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي ينفع بالإسماع من يشاء أن يلطف له ويوفّقه ولم يرد به نفي حقيقة السماع لأنهم كانوا يسمعون آيات الله (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي انك لا تقدر على أن تنفع الكفار باسماعك إيّاهم إذ لم يقبلوا كما لا تسمع من في القبور من الأموات (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما أنت إلا مخوّف لهم بالله (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) أي بالدين الصحيح (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي مبشّرا للمؤمنين ، ونذيرا للكافرين (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) أي وما من أمة من الأمم الماضية (إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) أي مضى فيها مخوّف يخوّفهم وينذرهم فأنت مثلهم نذير لمن جحد ، بشير لمن وحد. قال الجبائي : وفي هذا دلالة على انه لا أحد من المكلفين إلّا وقد بعث إليه الرسول ، وانه سبحانه أقام الحجة على جميع الأمم. ثم قال تعالى تسلية لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا محمد ولم يصدّقوك (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الكفار أنبياء أرسلهم الله إليهم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الباهرات ، والحجج الواضحات (وَبِالزُّبُرِ) أي وبالكتب (وَبِالْكِتابِ

٥٧٩

الْمُنِيرِ) أي الواضح البيّن وإنما كرّر ذكر الكتاب وعطفه على الزبر لاختلاف الصفتين فإن الزبور أثبت في الكتاب من الكتاب لأنه يكون منقرا منقشا فيه كالنقر في الحجر (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فلما كذّبوا رسلهم ، ولم يعترفوا بنبوتهم أخذتهم بالعذاب ، وأهلكتهم ودمّرت عليهم فكيف كان تعييري وانكاري عليهم وإنزالي العقاب بهم.

٢٧ ـ ٣٠ ـ ثم عاد الكلام إلى ذكر دلائل التوحيد فقال سبحانه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي غيثا ومطرا (فَأَخْرَجْنا) أخبر عن نفسه بنون الكبرياء والعظمة (بِهِ) أي بذلك الماء (ثَمَراتٍ) جمع ثمرة وهي ما تجتني من الشجر (مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) وطعومها وروائحها ؛ اقتصر على ذكر الألوان لأنها أظهر ، ولدلالة الكلام على الطعوم والروائح (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) أي ومما خلقنا من الجبال جدد (بِيضٌ وَحُمْرٌ) أي طرق بيض وطرق حمر (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) أي ومن الجبال غرابيب سود على لون واحد لا خطط فيها (وَمِنَ النَّاسِ) أيضا (وَالدَّوَابِ) التي تدبّ على وجه الأرض (وَالْأَنْعامِ) كالإبل والغنم والبقر خلق (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي كاختلاف الثمرات والجبال وتمّ الكلام. ثم قال (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي ليس يخاف الله حق خوفه ، ولا يحذر معاصيه خوفا من نقمته إلّا العلماء الذين يعرفونه حقّ معرفته ، وروي عن الصادق عليه‌السلام انه قال : يعني بالعلماء من صدّق قوله فعله ، ومن لم يصدّق فعله قوله فليس بعالم ؛ وعن ابن عباس قال : يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزّتي وسلطاني ، وفي الحديث : ان أعلمكم بالله أخوفكم لله. قال مسروق : كفى بالمرء علما أن يخشى الله ، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه ؛ وإنما خص سبحانه العلماء بالخشية لأن العالم أحذر لعقاب الله من الجاهل حيث يختص بمعرفة التوحيد والعدل ، ويصدّق بالبعث والحساب ، والجنة والنار ، ومتى قيل : فقد نرى من العلماء من لا يخاف الله ، ويرتكب المعاصي ، فالجواب : انه لا بدّ من أن يخافه مع العلم به وان كان يؤثر المعصية عند غلبة الشهوة لعاجل اللذة (إِنَّ اللهَ) تعالى (عَزِيزٌ) في انتقامه من أعدائه (غَفُورٌ) لزلّات أوليائه. ثم وصف سبحانه العلماء فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي يقرؤون القرآن في الصلاة وغيرها ؛ أثنى سبحانه عليهم بقراءة القرآن في الصلاة وغيرها ؛ أثنى سبحانه عليهم بقراءة القرآن (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي ملكناهم التصرف فيه (سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي في حال سرّهم وفي حال علانيتهم (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) أي راجين بذلك تجارة لن تكسد ولن تفسد ولن تهلك (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) أي قصدوا بأعمالهم الصالحة وفعلوها لأن يوفّيهم الله أجورهم بالثواب (وَيَزِيدَهُمْ) على قدر استحقاقهم (مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ) لذنوبهم (شَكُورٌ) لحسناتهم. عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال في قوله : (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه معروفا في الدنيا وقيل معنى شكور : انه يقبل اليسير ، ويثيب عليه الكثير.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمد وأنزلناه (مِنَ الْكِتابِ) وهو القرآن (هُوَ الْحَقُ) أي الصحيح الذي لا يشوبه فساد ، والصدق الذي لا يمازجه كذب ، والعقل يدعو إلى الحق ، ويصرف عن الباطل (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما قبله من الكتب ، لأنه جاء موافقا لما بشّرت به تلك الكتب من حاله وحال من أتى به (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) أي عالم

٥٨٠