الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

٦١ ـ ٦٥ ـ لما تقدم ذكر ما أوتوا من زينة الحياة الدنيا عقّبه سبحانه بالفرق بين من أوتي نعيم الدنيا وبين من أوتي نعيم الآخرة ، فقال (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) من ثواب الجنة ونعيمها جزاء على طاعته (فَهُوَ لاقِيهِ) أي فهو واصل إليه ومدركه لا محالة (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) من الأموال وغيرها (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للجزاء والعقاب ، والمعنى : أيكون حال هذا كحال ذاك؟ أي لا يكون حالهما سواء لأن نعم الدنيا مشوبة بالغموم ، وتعرض الزوال والفناء ، ونعم الآخرة خالصة صافية دائمة لا تتكدر بالشوب ، ولا تتنقص بالإنقضاء (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي واذكر يوم ينادي الله الكفار وهو يوم القيامة (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركاء في الإلهية وتعبدونهم ، وتدّعون أنهم ينفعونكم (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي حق عليهم الوعيد بالعذاب من الجن والشياطين ، والذين اغووا الخلق من الأنس (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) يعنون أتباعهم (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي أضللناهم عن الدين بدعائنا إياهم إلى الضلال كما ضللنا أنفسنا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم ومن أفعالهم. قال الزجاج : برىء بعضهم من بعض وصاروا أعداء كما قال سبحانه : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أي لم يكونوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون الشياطين الذين زيّنوا لهم عبادتنا (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي ويقال للأتباع : ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله وزعمتم أنهم شركائي لينصروكم ، ويدفعوا عنكم عذاب الله وانما أضاف الشركاء اليهم لأنه لا يجوز أن يكون لله شريك ، ولكنهم كانوا يزعمون انهم شركاء لله بعبادتهم إيّاهم (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي فيدعونهم فلا يجيبونهم إلى ملتمسهم (وَرَأَوُا الْعَذابَ) أي ويرون العذاب (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) جواب لو محذوف تقديره : لو أنهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب ، أي لاعتقدوا أن العذاب حق (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين ؛ وهذا سؤال تقرير بالذنب وهو نداء يجمع العلم والعمل معا فإن الرسل يدعون إلى العلم والعمل جميعا فكأنه قيل لهم : ماذا علمتم وماذا عملتم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي فخفيت واشتبهت عليهم طرق الجواب يومئذ فصاروا كالعمي لإنسداد طرق الاخبار عليهم كما تنسد طرق الأرض على العمي وقيل معناه : فالتبست عليهم الحجج عن مجاهد ، وسميت حججهم أنباء لأنها أخبار يخبر بها ، فهم لا يحتجون ولا ينطقون بحجة لأن الله تعالى أدحض حجتهم وأكلّ ألسنتهم فسكتوا فذلك قوله (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج وقيل : أي لا يسأل بعضهم بعضا عن العذر الذي يعتذر به في الجواب فلا يجيبون.

٦٧ ـ ٧٠ ـ ثم ذكر سبحانه التائبين ، ورغّب في التوبة بعد التخويف فقال : (فَأَمَّا مَنْ تابَ) أي رجع عن المعاصي والكفر (وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي وأضاف إلى إيمانه الأعمال الصالحة (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) وإنما أتى بلفظة عسى مع أنه مقطوع بفلاحه لأنه على رجاء أن يدوم على ذلك فيفلح ، وقد يجوز أن يزل فيما بعد فيهلك ، على انه قد قيل : ان عسى من الله سبحانه لفظة وجوب في جميع القرآن (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) الخيرة اسم من الأخيار أقيم مقام المصدر ، والخيرة اسم للمختار أيضا ومعناه : وربك يخلق ما يشاء من الخلق ، ويختار تدبير عباده على ما هو الأصلح لهم ، ويختار للرسالة ما هو الأصلح لعباده ثم قال : ما كان لهم الخيرة ، أي ليس لهم الإختيار على الله بل لله الخيرة عليهم ؛ وفيه ردّ على المشركين الذين قالوا : لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ، فاختاروا الوليد بن المغيرة من مكة ، وعروة بن مسعود الثقفي من

٥٢١

الطائف (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تقدّس وتنزّه عن أن يكون له شريك في خلقه واختياره. ثم أقام سبحانه البرهان على صحة اختياره بقوله : (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي وربك يعلم ما يخفونه وما يظهرونه فإليه الاختيار ، وفي هذا دلالة على أن من لا يعلم السر والجهر فلا اختيار إليه. ثم أكد سبحانه ذلك بقوله (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا يستحق العبادة سواه (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) أي له الثناء والمدح والتعظيم على ما أنعم به على خلقه في الدنيا والعقبى (وَلَهُ الْحُكْمُ) بينهم بما يميز به الحق من الباطل قال ابن عباس يحكم لأهل طاعته بالمغفرة والفضل ولأهل معصيته بالشقاء والويل (وَإِلَيْهِ) أي وإلى جزائه وحكمه (تُرْجَعُونَ).

٧١ ـ ٧٥ ـ ثم بيّن سبحانه ما يدلّ على توحيده فقال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قُلْ) يا محمد لأهل مكة الذين عبدوا معي آلهة تنبيها لهم على خطئهم (أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) أي دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لا يكون معه نهار (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) كضياء النهار تبصرون فيه ، فإنهم لا يقدرون على الجواب عن ذلك إلا بأنه لا يقدر على ذلك سوى الله ، فحينئذ تلزمهم الحجة بأنه لا يستحق العبادة غيره (أَفَلا تَسْمَعُونَ) أي أفلا تقبلون ما وعظتم به وقيل أفلا تسمعون ما بيّنه الله لكم من أدلته وتتفكرون فيه (قُلْ) يا محمد لهم (أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً) أي دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) لا يكون معه ليل (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) أي تستريحون فيه من الحركة والنصب (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي أفلا تعلمون من البصيرة وقيل : أي أفلا تشاهدون الليل والنهار وتتدبرون فيهما فتعلموا أنهما من صنع مدبر حكيم؟ ثم قال : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي ومن نعمته عليكم ، وإحسانه إليكم ان جعل لكم الليل والنهار (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي في النهار (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعم الله في تصريف الليل والنهار وفي سائر أنواع النعم (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) مضى تفسيره فإنما كرّر ذكر النداء للمشركين بأين شركائي تقريعا لهم بعد تقريع وقيل : لأن النداء الأول لتقرير إقرارهم على أنفسهم بالغي الذي كانوا عليه ودعوا إليه ، والثاني للتعجيز عن إقامة البرهان على ما طولبوا به بحضرة الأشهاد (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي وأخرجنا من كل أمة من الأمم رسولها الذي يشهد عليهم بالتبليغ وبما كان منهم ، عن مجاهد وقتادة وقيل : هم عدول الآخرة ولا يخلو كل زمان منهم يشهدون على الناس بما علموا (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي حججكم على صحة ما ذهبتم إليه (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي فبهتوا وتحيّروا لما لم يكن لهم حجة يقيمونها ، وعلموا يقينا أن الحق ما أنتم عليه وما أنزله الله ، وان الحجة لله ولرسوله ، فلزمتهم الحجة لأن المشهود عليه إذا لم يأت بمخلص عن بينة الخصم توجهت القضية عليه ولزمه الحكم (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي ذهب عنهم (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الكذب ، وبطل ما عبدوه من دون الله تعالى.

النظم

إنما اتصلت هذه الآيات بما قبلها بأنه جرى ذكر معبودي الكفار ، وأنهم لم يغنوا من الله شيئا ، فعقّبه سبحانه بأن وصف نفسه بأنه المنعم المالك للنفع والضر. وقيل : انه لما تقدم ان الحمد لله سبحانه في الدارين ذكر عقيبه ما يوجب الحمد من النعم السابقة وقيل : يتصل بقوله يخلق ما يشاء ويختار ، أي ويختار لعباده ما هو الأصلح لهم والأنفع.

٧٦ ـ ٨٢ ـ (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) أي كان من

٥٢٢

بني إسرائيل ، ثم من سبط موسى وهو ابن خالته ، (فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي استطال عليهم بكثرة كنوزه ، وقيل : كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل فكان يبغي عليهم ويطالبهم لما كانوا بمصر (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) قال عطا : أصاب كنزا من كنوز يوسف (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي أعطيناه من الأموال المدخرة قدر الذي ينيء مفاتحه العصبة ، والمفاتح هنا الخزائن في قول أكثر المفسرين كما في قوله سبحانه. (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) ، فيكون المراد بمفاتحه : خزائن ماله وقيل : هي المفاتح التي تفتح بها الأبواب. واختلف في معنى العصبة فقيل : ما بين عشرة إلى خمسة عشر ، وقيل ما بين عشرة إلى أربعين ، وقيل : أربعون رجلا ، وقيل : إنهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) من بني إسرائيل (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي لا تأشر ولا تمرح ولا تتكبر بسبب كنوزك ، إن الله لا يحب من كان بهذه الصفة (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) وهذا أيضا من مقالة المؤمنين من قوم قارون له ومعناه : اطلب فيما أعطاك الله من الأموال الدار الآخرة بأن تنفقها في سبيل الخير ، ووجوه البرّ (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) وهو أن تعمل في الدنيا للآخرة ومعناه : لا تنس أن تعمل لآخرتك ، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي أفضل على الناس كما أفضل الله عليك (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ) أي لا تطلب العمل (فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ظاهر المعنى (قالَ) قارون (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) معناه : ان المال حصل له على علم عندي بوجوه المكاسب ، وبما لا يتهيأ لأحد أن يكتسبه من التجارات والزراعات وغيرهما (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) الكافرة بنعمته (مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) كقوم عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم. ثم بيّن سبحانه ان اغتراره بماله وعدده من الخطأ العظيم ، لأنه لا ينتفع بذلك عند نزول العذاب به ، كما ان من كانوا أقوى وأغنى منه لم تغن أموالهم وجموعهم عنهم شيئا عند ذلك (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) ان الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا يسألون عنهم لعلامتهم ، ويأخذونهم بالنواصي والاقدام فيصيرونهم إلى النار (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ) أي خرج قارون على بني إسرائيل (فِي زِينَتِهِ) التي كان يتزين بها وحشمه وتبعه وقيل : انه خرج في أربعة آلاف دابة عليها أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) من الكفار والمنافقين وضعيفي الإيمان بما للمؤمنين عند الله من ثواب الجنة لما رأوه في تلك الزينة والجمال (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي ذو نصيب وافر من الدنيا والمعنى : انهم تمنّوا مثل منزلته ومثل ماله (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم المصدّقون بوعد الله المؤمنون (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) مما أوتي قارون (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) أي ولا يلقى مثل هذه الكلمة ولا يوفّق لها إلّا الصابرون على أمر الله (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) قال السدي : دعا قارون امرأة من بني إسرائيل بغيا فقال لها : إني أعطيك ألفين على أن تجيئي غدا إذا اجتمعت بنو إسرائيل عندي فتقولي : يا معشر بني إسرائيل مالي ولموسى قد آذاني قالت : نعم ، فأعطاها خريطتين عليهما خاتمه ، فلما جاءت بيتها ندمت وقالت : يا ويلتي قد عملت كل فاحشة فما بقي إلا أن أفتري على نبيّ الله ، فلما أصبحت أقبلت ومعها الخريطتان حتى قامت بين بني إسرائيل فقالت : ان قارون قد أعطاني هاتين الخريطتين على ان آتي جماعتكم فأزعم أن موسى يراودني عن نفسي ، ومعاذ الله أن أفتري على نبيّ الله ، وهذه دراهمه عليها خاتمه ؛ فعرف بنو إسرائيل خاتم قارون. فغضب موسى فدعا الله عليه فأوحى الله إليه : اني أمرت الأرض أن تطيعك وسلّطتها عليه فمرها ، فقال موسى : يا أرض خذيه وهو

٥٢٣

على سريره وفرشه ، فأخذته حتى غيبت سريره ، فلما رأى قارون ذلك ناشده الرحم فقال : خذيه فأخذته حتى غيبت قدميه ، ثم أخذته حتى غيبت ركبتيه ، ثم أخذته حتى غيبت حقويه وهو يناشده الرحم ، فأخذته حتى غيبته ، فأوحى الله إليه يا موسى ناشدك الرحم واستغاثك فأبيت أن تغيثه ، لو إيّاي دعا واستغاثني لأغثته (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي فما كان له من جماعة منقطعة إليه يدفعون عنه عذاب الله تعالى الذي نزل به. وإنما قال سبحانه ذلك لأنه كان يقدّر مع نفسه الإمتناع بحاشيته وجنوده (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) بنفسه لنفسه (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) حين خرج عليهم في زينته (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) وهذه كلمة تندم واعتراف ، يقول القائل إذا تبين له الخطأ : وي كنت على خطأ ، أي قالوا ذلك : ان الله يبسط الرزق لمن يشاء لا لكرامته كما بسط لقارون ، ويقدر أن يضيق على من يشاء لا لهوان لكن بحسب المصلحة (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) أي لو لا أنه أنعم علينا بنعمه فلم يعطنا ما أعطى قارون لخسف بنا كما خسف به (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي لا يفوز بثواب الله ، وينجو من عقابه الجاحدون لنعمه ، العابدون معه سواه.

٨٣ ـ ٨٩ ـ (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) يعني الجنة (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) أي تجبّرا وتكبّرا على عباد الله ، واستكبارا عن عبادة الله (وَلا فَساداً) أي عملا بالمعاصي عن ابن جريج ومقاتل ، وروى زاذان عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو دالّ يرشد الضال ، ويعين الضعيف ، ويمرّ بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) ويقول : نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس ؛ قال الكلبي : يعني بقوله : فسادا : الدعاء إلى عبادة غير الله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) معناه : الجنة لمن اتقى عقاب الله بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) مضى تفسيره (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لا يزاد في عقابهم على قدر استحقاقهم بخلاف الزيادة في الفضل على الثواب المستحق ، فإنه يكون تفضلا فهو مثل قوله : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) خطاب للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمعنى : ان الذين أوجب عليك الإمتثال بما تضمّنه القرآن وأنزله عليك (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي يردّك إلى مكة ، وفي الآية دلالة على صحة النبوة ، لأنه أخبر به من غير شرط ولا استثناء ، وجاء المخبر مطابقا للخبر. قال القتيبي : معاد الرجل بلده لأنه يتصرف في البلاد ثم يعود إليه. ثم ابتدأ سبحانه كلاما آخر فقال (قُلْ) يا محمد (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) الذي يستحق به الثواب (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ومن لم يجىء بالهدى وضلّ عنه ، أي لا يخفى عليه المؤمن والكافر ، ومن هو على الهدى ومن هو ضال عنه. ثم ذكر نعمه فقال (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي وما كنت يا محمد ترجو فيما مضى أن يوحي الله إليك ويشرفك بإنزال القرآن عليك (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) معناه : إلا أن ربك رحمك وأنعم به عليك ، وأراد بك الخير ، كذلك ينعم عليك بردّك إلى مكة ، فاعرف هذه النعم وقيل معناه : وما كنت ترجو أن تعلم كتب الأولين وقصصهم تتلوها على أهل مكة ولم تشهدها ولم تحضرها بدلالة قوله : (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) ، أي أنك تتلو على أهل مكة قصص مدين وموسى ولم تكن هناك ثاويا مقيما ، وكذلك قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) وأنت تتلو قصصهم وأمرهم ، فهذه رحمة من ربك (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي : معينا لهم. وفي

٥٢٤

هذا دلالة على وجوب معاداة أهل الباطل. وفي هذه الآية وما بعدها وإن كان الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالمراد غيره ، وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول : القرآن كله إياك أعني واسمعي يا جارة (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي ولا يمنعك هؤلاء الكفار عن اتباع آيات الله التي هي القرآن والدين بعد إذ نزلت إليك تعظيما لذكرك ، وتفخيما لشأنك (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي إلى طاعة ربك الذي خلقك وأنعم عليك ، وإلى توحيده (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي لا تمل إليهم ، ولا ترض بطريقتهم ، ولا توال أحدا منهم (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا تعبد معه غيره ، ولا تستدع حوائجك من جهة ما سواه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود إلّا هو وحده لا شريك له (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي كل شيء فان بائد إلّا ذاته وفي هذا دلالة على أن الأجسام تفنى ثم تعاد (لَهُ الْحُكْمُ) أي له القضاء النافذ في خلقه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي تردون في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.

سورة العنكبوت

مكية وعدد آياتها تسع وستون آية

النزول

قيل : نزلت الآية في عمّار بن ياسر كان يعذّب في الله ، عن ابن جريج. وقيل : نزلت في أناس مسلمين كانوا بمكة فكتب اليهم من كان بالمدينة انه لا يقبل منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا ، فخرجوا الى المدينة فاتبعهم المشركون فآذوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا.

١ ـ ٥ ـ (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي أظنّ الناس أن يقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط ويقتصر منهم على هذا القدر ولا يمتحنون بما تبيّن به حقيقة إيمانهم؟ هذا لا يكون ، وهذا استفهام إنكار وتوبيخ وقيل : ان معنى يفتنون : يبتلون في أنفسهم وأموالهم عن مجاهد ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ويكون المعنى : ولا يشدّد عليهم التكليف والتعبد ولا يؤمرون ولا ينهون وقيل معناه : ولا يصابون بشدائد الدنيا ومصائبها ، أي أنها لا تندفع بقولهم : آمنا وقال الحسن : معناه : أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا لا إله إلا الله ولا يختبروا أصدقوا أم كذبوا ، يعني أن مجرد الإقرار لا يكفي ، والأولى حمله على الجميع إذ لا تنافي فإن المؤمن يكلف بعد الإيمان بالشرائع ، ويمتحن في النفس والمال ، ويمنى بالشدائد والهموم والمكاره فينبغي أن يوطن نفسه على هذه الفتنة ليكون الأمر أيسر عليه إذا نزل به ثم أقسم سبحانه فقال : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ولقد ابتلينا الذين من قبل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سالف الأمم بالفرائض التي افترضناها عليهم ، أو بالشدائد والمصائب على حسب اختلافهم ، وذكر ذلك تسلية للمؤمنين. قال ابن عباس : منهم إبراهيم خليل الرحمن وقوم كانوا معه ومن بعده نشروا بالمناشير على دين الله فلم يرجعوا عنه وقال غيره يعني بني إسرائيل ابتلوا بفرعون يسومهم سوء العذاب (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) فيه وإنما قال فليعلمن مع أن الله سبحانه كان عالما فيما لم يزل بأن المعلوم سيحدث ، لأنه لا يصح وصفه سبحانه فيما لم يزل بأنه عالم بأنه حادث وإنما يعلمه حادثا إذا حدث وقيل معناه : فليميزن الله الذين صدقوا من الذين كذبوا بالجزاء والمكافأة ، وعبّر عن الجزاء والتمييز بالعلم ، لأن كل ذلك إنما يحصل بالعلم فأقام السبب مقام المسبب ، ومثله في إقامة السبب مقام المسبب قوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) ، فهذا سبب قضاء الحاجة ، فكنّى بذكره عنها ، ومعنى صدقوا : أي ثبتوا على الشدائد ، وكذبوا : أي لم يثبتوا ومنه قول زهير «إذا

٥٢٥

ما اللّيث كذّب عن أقرانه صدقا» (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) المعنى : أحسب الذين يفعلون الكفر والقبائح أن يفوتونا فوت السابق لغيره ، ويعجزونا فلا نقدر على أخذهم والإنتقام منهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس الشيء الذين يحكمون ظنّهم أنهم يفوتوننا. وروى العياشي بالاسناد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : جاء العباس الى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له : امش حتى يبايع لك الناس ، فقال : أتراهم فاعلين ، قال : نعم ، فأين قول الله (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أي يخاف الجزاء والحساب ، أو يأمل الثواب فليبادر بالطاعة قبل أن يلحقه الأجل (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) أي الوقت الذي وقّته الله للثواب والعقاب جاء لا محالة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بما في ضمائركم.

٦ ـ ١٠ ـ لما رغّب سبحانه في تحقيق الرجاء والخوف بفعل الطاعة عقّبه بالترغيب في المجاهدة فقال : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي ومن جاهد الشيطان بدفع وسوسته وإغوائه ، وجاهد أعداء الدين لإحيائه ، وجاهد نفسه التي هي اعدى أعدائه ، فإنما يجاهد لنفسه ، لأن ثواب ذلك عائد عليه ، وواصل إليه دون الله تعالى (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) غير محتاج إلى طاعتهم ، فلا يأمرهم ولا ينهاهم لمنفعة ترجع إليه بل لمنفعتهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التي اقترفوها قبل ذلك (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يجزيهم بأحسن أعمالهم ، وهو ما أمروا به من العبادات والطاعات والمعنى : لنكفرن سيئاتهم السابقة منهم في حال الكفر ، ولنجزينهم بحسناتهم التي عملوها في الإسلام ، ولما أمر سبحانه بمجاهدة الكفار ومباينتهم بيّن حال الوالدين في ذلك فقال : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي أمرناه أن يفعل بوالديه (حُسْناً) وألزمناه ذلك. ثم خاطب سبحانه كل واحد من الناس فقال : (وَإِنْ جاهَداكَ) أي وإن جاهداك أبواك أيها الإنسان ، وألزماك واستفرغا مجهودهما في دعائك (لِتُشْرِكَ بِي) في العبادة (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي وليس لأحد به علم (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك ، فأمر سبحانه إطاعة الوالدين في الواجبات حتما ، وفي المباحات ندبا ، ونهى عن طاعتهما في المحظورات ، ونفى العلم به كأنه كناية عن تعريه من الأدلة ، لأنه إذا لم يكن عليه حجة ودليل لم يحصل العلم به فلا يحسن اعتقاده (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي إلى حكمي مصيركم (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي أخبركم بأعمالكم فأجازيكم عليها. وروي عن بهر بن أبي حكيم عن أبيه عن جدّه قال : قلت للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله من أبرّ؟ قال : أمّك قلت : ثم من؟ قال : ثم أمّك ، قلت : ثم من؟ قال : ثم أمك قلت : ثم من؟ قال : ثم أباك ، ثم الأقرب فالأقرب. وعن أنس بن مالك عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الجنة تحت أقدام الأمهات. ثم قال سبحانه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بوحدانية الله تعالى ، وإخلاص العبادة له (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي في زمرتهم وجملتهم في الجنة. ولما ذكر سبحانه خيار المؤمنين عقّبه بذكر المنافقين (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) بلسانه (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي في دين الله ، أو في ذات الله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) والمعنى : فإذا أوذي بسبب دين الله رجع عن الدين مخافة عذاب الناس ، كما ينبغي للكافر أن يترك دينه مخافة عذاب الله ، فيسوي بين عذاب فإن منقطع ، وبين عذاب دائم غير منقطع أبدا لقلة تمييزه ؛ وسمي أذية الناس فتنة لما في احتمالها من المشقة (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) يا محمد ، أي ولئن جاء نصر من الله للمؤمنين ، ودولة لأولياء الله على الكافرين (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي ليقولن هؤلاء المنافقون للمؤمنين : إنا كنا معكم على عدوّكم طمعا في الغنيمة ، ثم كذّبهم الله فقال : (أَوَلَيْسَ

٥٢٦

اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) من الإيمان والنفاق فلا يخفى عليه كذبهم فيما قالوا.

١١ ـ ١٥ ـ ثم أقسم سبحانه فقال : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله على الحقيقة ظاهرا وباطنا (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) فيجازيهم بحسب أعمالهم قال الجبائي : معناه : وليميزنّ الله المؤمن من المنافق ، فوضع العلم موضع التمييز توسعا وقد مرّ بيانه ، وفي هذه الآية تهديد للمنافقين بما هو معلوم من حالهم التي استهزؤا بها ، وتوهّموا أنهم قد نجوا من ضررها بإخفائها ، فبيّن أنها ظاهرة عند من يملك الجزاء عليها (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) نعم الله وجحدوها (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بتوحيده وصدق رسله (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي ونحن نحمل آثامكم عنكم إن قلتم : إن لكم في اتباع ديننا إثما ، ويعنون بذلك أنه لا إثم عليكم باتباع ديننا ، ولا يكون بعث ولا نشور فلا يلزمنا شيء مما ضمنا ، والمأمور في قوله : ولنحمل هو المتكلم به نفسه في مخرج اللفظ ، والمراد به إلزام النفس هذا المعنى كما يلزم الشيء بالأمر ، وفيه معنى الجزاء وتقديره : ان تتبعوا ديننا حملنا خطاياكم عنكم. ثم قال سبحانه (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي لا يمكنهم حمل ذنوبهم عنهم يوم القيامة ، فإن الله سبحانه عدل لا يعذّب أحدا بذنب غيره ، فلا يصحّ إذا أن يتحمل أحد ذنب غيره ، وهذا مثل قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ، ولا يجري هذا مجرى تحمل الديّة عن الغير ، لأنّ الغرض في الديّة أداء المال عن نفس المقتول ، فلا فرق لأنّ الغرض في الديّة أداء المال عن نفس المقتول ، فلا فرق بين أن يؤدي زيد عنه وبين أن يؤدّيه عمرو ، فإنه بمنزلة قضاء الدين (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) بما ضمنوا من حمل خطاياهم (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) يعني انهم يحملون خطاياهم وأوزارهم في أنفسهم التي لم يعملوها بغيرهم ، ويحملون الخطايا التي ظلموا بها غيرهم ، وقيل معناه : يحملون عذاب ضلالهم وعذاب اضلالهم غيرهم ، ودعائهم لهم إلى الكفر ، وهذا كقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) ومعناه : انهم يسألون سؤال تعنيف وتوبيخ وتبكيت وتقريع لا سؤال استعلام واستخبار (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) يدعوهم إلى توحيد الله عزوجل (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) فلم يجيبوه وكفروا به (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) جزاء على كفرهم فهلكوا (وَهُمْ ظالِمُونَ) لأنفسهم بما فعلوه من الشرك والعصيان (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي فأنجينا نوحا من ذلك الطوفان والذين ركبوا معه في السفينة من المؤمنين به (وَجَعَلْناها) أي وجعلنا السفينة (آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي علامة للخلائق أجمعين يعتبرون بها إلى يوم القيامة ، لأنها فرّقت بين المؤمنين والكافرين ، والأبرار والفجار ، وهي دلالة على صدق نوح وكفر قومه.

١٦ ـ ٢٠ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال : (وَإِبْراهِيمَ) أي وأرسلنا إبراهيم (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) أي أطيعوا الله وخافوه بفعل طاعاته ، واجتناب معاصيه (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي ذلك التقوى خير لكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما هو خير مما هو شر لكم (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) المعنى : أنكم تعبدون أصناما من حجارة لا تضر ولا تنفع (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي تفتعلون كذبا بأن تسمّوا هذه الأوثان آلهة (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أي لا يقدرون على أن يرزقوكم ، والملك : قدرة القادر على ماله أن يتصرف في ماله أتمّ التصرف ، وليس ذلك إلا لله على الحقيقة ، فإن الإنسان إنما يملك ما يملّكه الله تعالى ويأذن له في التصرف فيه ، فأصل الملك لجميع الأشياء لله تعالى ، فمن لا يملك أن يرزق غيره لا يستحق العبادة لأن العبادة تجب بأعلى مراتب النعمة ولا يقدر على ذلك غير الله تعالى فلا يستحق العبادة سواه (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أي اطلبوا الرزق من عنده دون من

٥٢٧

سواه (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) على ما أنعم به عليكم من أصول النعم من الحياة والرزق وغيرهما (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي إلى حكمه تصيرون يوم القيامة فيجازيكم على قدر أعمالكم. ثم خاطب العرب فقال : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) أي وان تكذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أنبياءهم الذين بعثوا إليهم (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي ليس عليه إلا التبليغ الظاهر البيّن ، وليس عليه حمل من أرسل إليه على الإيمان (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) يعني كفار مكة الذين أنكروا البعث ، وأقرّوا بأن الله هو الخالق فقال : أو لم يتفكروا فيعلموا كيف بدأ الله الخلق بعد العدم ، ثم يعيدهم ثانيا إذا أعدمهم بعد وجودهم (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) غير متعذر ، لأن من قدر على الإنشاء والإبتداء فهو على الإعادة أقدر (قُلْ) لهؤلاء الكفار (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) وتفكروا في آثار من كان فيها قبلكم ، وإلى أيّ شيء صار أمرهم لتعتبروا بذلك ، ويؤدّيكم ذلك إلى العلم بربكم (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) أي ثم الله الذي خلقها وأنشأ خلقها ابتداء ينشئها نشأة ثانية ، ومعنى الإنشاء : الإيجاد من غير سبب (إِنَّ اللهَ) تعالى (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ان الله على الإنشاء والإفناء والإعادة وعلى كل شيء يشاؤه قدير.

٢١ ـ ٢٥ ـ ثم ذكر سبحانه الوعد والوعيد فقال (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) معناه : أنه المالك للثواب والعقاب وإن كان لا يشاء إلّا الحكمة والعدل وما هو الأحسن من الأفعال ، فيعذب من يشاء ممن يستحق العقاب (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) ممن هو مستحق للرحمة بأن يغفر له بالتوبة وغير التوبة (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) معاشر الخلق ، أي إليه ترجعون يوم القيامة ، والقلب هو الرجوع والردّ فمعناه : أنكم تردّون إلى حال الحياة في الآخرة حيث لا يملك فيه النفع والضر إلّا الله وهذا يتعلق بما قبله ، كأن المنكرين للبعث قالوا : إذا كان العذاب غير كائن في الدنيا فلا نبالي به فقال : وإليه تقلبون ، وكأنهم قالوا : إذا صرفنا إلى حكم الله فررنا فقال (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي ولستم بفائتين عن الله في الدنيا ولا في الآخرة فاحذروا مخالفته ومتى قيل : كيف وصفهم بذلك وليسوا من أهل السماء فالجواب عنه من وجهين (أحدهما) أن المعنى لستم بمعجزين فرارا في الأرض ولا في السماء لو كنتم في السماء؟ كقولك ما يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة يعني ولا بالبصرة لو صار إليها عن قطرب وهو معنى قول مقاتل (والآخر) أن المعنى ولا من في السماء بمعجزين فحذف من لدلالة الكلام عليه كما قال حسّان :

امن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ينصركم ويدفع عذاب الله عنكم فلا تغتروا بأن الأصنام تشفع لكم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي جحدوا بالقرآن وبأدلة الله (وَلِقائِهِ) أي وجحدوا بالبعث بعد الموت (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أخبر أنه سبحانه آيسهم من رحمته وجنته ، أو يكون معناه : يجب أن ييأسوا من رحمتي (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم وفي هذا دلالة على أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا ييأس من رحمة الله. ثم عاد سبحانه إلى قصة إبراهيم فقال : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) يعني حين دعاهم إلى الله تعالى ، ونهاهم عن عبادة الأصنام (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) وفي هذا تسفيه لهم إذ قالوا حين انقطعت حجّتهم : لا تحاجّوه ولكن اقتلوه أو حرّقوه ليتخلّصوا منه (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) وهاهنا حذف وتقديره : ثم اتفقوا على إحراقه فأجّجوا نارا فألقوه فيها ، فأنجاه الله منها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي علامات واضحات ، وحجج بيّنات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بصحة ما أخبرناه به ، وبتوحيد الله وكمال

٥٢٨

قدرته (وَقالَ) إبراهيم لقومه (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) أي لتتوادوا بها (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وقد تقدّم بيانه في الحجة (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) أي يتبرأ القادة من الأتباع (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي ويلعن الأتباع القادة لأنهم زيّنوا لهم الكفر وقال قتادة كل خلة تنقلب يوم القيامة عداوة إلا خلة المتقين قال سبحانه : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أي ومستقركم النار (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون عنكم عذاب الله.

٢٦ ـ ٣٠ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدّم بأن قال (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي فصدّق بإبراهيم لوط وهو ابن أخته ، وهو أول من صدق بإبراهيم عليه‌السلام (وَقالَ) إبراهيم (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أي خارج من جملة الظالمين على جهة الهجر لهم لقبيح أعمالهم من حيث أمرني ربي وقيل معناه : قال لوط اني مهاجر إلى ربي عن الجبائي. خرج إبراهيم عليه السلام ومعه لوط وامرأته سارة وكانت ابنة عمه من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة إلى أرض الشام عن قتادة ومثل هذا هجرة المسلمين من مكة إلى أرض الشام عن قتادة ومثل هذا هجرة المسلمين من مكة إلى أرض الحبشة أولا ثم إلى المدينة ثانيا لأنهم هجروا ديارهم وأوطانهم بسبب أذى المشركين لهم (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يذلّ من نصره (الْحَكِيمُ) الذي لا يضيع من حفظه (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم من بعد إسماعيل (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) من وراء إسحاق (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) وذلك ان الله سبحانه لم يبعث نبيا من بعد إبراهيم إلا من صلبه ، فالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان كلها أنزلت على أولاده (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) وهو الذكر الحسن ، والولد الصالح. عن ابن عباس ، وقيل : هو رضى أهل الأديان به ، فكلهم يحبونه ويتولونه ، عن قتادة ، وقيل : انه أري مكانه في الجنة ، عن السدي ، وقال بعض المتأخرين : هو بقاء ضيافته عند قبره ، وليس ذلك لغيره من الأنبياء (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) يعني ان إبراهيم مع ما أعطي من الأجر والثواب في الدنيا يحشره الله في جملة الصالحين العظيمي الأقدار مثل آدم ونوح (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) أي واذكر لوطا حين قال لقومه (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) قال ذلك لقومه منكرا لفعلهم. والفاحشة هاهنا ما كانوا يفعدونه من إتيان الذكران (ما سَبَقَكُمْ بِها) أي بهذه الفاحشة (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أي أحد من الخلائق. ثم فسّر الفاحشة بقوله (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) أي تنكحونهم (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) قيل فيه وجوه (أحدها) تقطعون سبيل الولد باختياركم الرجال على النساء (وثانيها) انكم تقطعون الناس عن الأسفار بإتيان هذه الفاحشة ، فإنهم كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم وكانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالحذف فأيهم أصابه كان أولى به ويأخذون ماله وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم وكان لهم قاض يقضي بذلك (وثالثها) انهم كانوا يقطعون الطريق على الناس كما يفعل قطاع الطريق في زماننا (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قيل فيه أيضا وجوه (أحدها) هو أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة ولا حياء عن ابن عباس وروي ذلك عن الرضا عليه‌السلام (وثانيها) أنهم كانوا يأتون الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا عن مجاهد (وثالثها) وكانت مجالسهم تشتمل على أنواع من المناكير والقبائح مثل : الشتم والسخف والصفع والقمار وضرب المخراق ، وحذف الأحجار على من مرّ بهم ، وضرب المعازف والمزامير ، وكشف العورات واللواط. ولما أنكر لوط على قومه ما كانوا يأتونه من الفضائع قالوا له استهزاء : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) وذلك قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وعند ذلك (قالَ) لوط (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) الذين فعلوا المعاصي ،

٥٢٩

وارتكبوا القبائح ، وأفسدوا في الأرض.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثم بيّن سبحانه أنه استجاب دعاء لوط ، وبعث جبرائيل ومعه الملائكة لتعذيب قومه بقوله : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي يبشرونه بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) يعنون قرية قوم لوط عليه‌السلام وإنما قالوا هذا لأن قريتهم كانت قريبة من قرية قوم إبراهيم (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) أي مشركين مرتكبين الفواحش (قالَ) إبراهيم (إِنَّ فِيها لُوطاً) فكيف تهلكونها (قالُوا) في جوابه (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) أي لنخلصنّ لوطا من العذاب بإخراجه منها ، ولنخلصن أيضا أهله المؤمنين منهم (إِلَّا امْرَأَتَهُ) فإنّها تبقى في العذاب لا تنجو منه وذلك قوله (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي من الباقين في العذاب (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) معناه : سيء لوط بالملائكة ، أي ساءه مجيئهم لما رآهم في أحسن صورة لما كان يعلمه من خبث فعل قومه عن قتادة وقيل معناه سيء بقومه لما علم من عظيم البلاء النازل بهم (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي ضاق قلبه وقيل : ضاقت حيلته فيما أراد من حفظهم وصيانتهم عن الجبائي ؛ فلما رأى الملائكة حزنه وضيق صدره (وَقالُوا لا تَخَفْ) علينا وعليك (وَلا تَحْزَنْ) بما نفعله بقومك وقيل لا تخف ولا تحزن علينا فإنا رسل الله لا يقدرون علينا (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) من العذاب (إِلَّا امْرَأَتَكَ) الكافرة (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في العذاب (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) أي عذابا من السماء (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي يخرجون من طاعة الله إلى معصيته ، أي جزاء بفسقهم (لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً) أي تركنا من تلك القرية عبرة واضحة ، ودلالة على قدرتنا قال قتادة : هي الحجارة التي أمطرت عليهم وقال ابن عباس : هي آثار منازلهم الخربة وقال مجاهد هي الماء الأسود على وجه الأرض (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ذلك ويبصرونه ويتفكرون فيه ويتّعظون به ، فيزجرهم ذلك عن الكفر بالله ، واتخاذ شريك معه في العبادة

٣٦ ـ ٤٠ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدّم فقال : (وَإِلى مَدْيَنَ) أي وأرسلنا إلى مدين (أَخاهُمْ شُعَيْباً) وهذا مفسر فيما مضى (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) بدأ بالدعاء إلى التوحيد والعبادة (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) أي وأمّلوا ثواب اليوم الآخر ، واخشوا عقابه بفعل الطاعات ، وتجنّب السيئات (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي لا تسعوا في الأرض بالفساد. ثم أخبر ان قومه كذّبوه ولم يقبلوا منه. فعاقبهم الله وذلك قوله : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وقد مرّ بيانه (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي باركين على ركبهم ميتين (وَعاداً وَثَمُودَ) أي وأهلكنا أيضا عادا وثمود جزاء لهم على كفرهم (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ) معاشر الناس كثير (مِنْ مَساكِنِهِمْ) معناه : وقد ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجر واليمن آية في هلاكهم

__________________

قال الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : هو حبل الله المتين ، وعروته الوثقى ، وطريقته المثلى ، المؤدّي إلى الجنّة ، والمنجي من النار ، لا يخلق (خلق ـ الثوب ـ : بلى) من الأزمنة ، ولا يغث (غثّ ـ حديث القوم ـ ردؤ وفسد) على الألسنة ، لأنه لم يجعل لزمان دون زمان ، بل جعل دليل البرهان ، والحجّة على كل إنسان (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (النحل : ١٨). بحار الأنوار : ٩٢ / ١٤.

١ ـ خلق ـ النوب ـ بلى.

٢ ـ غث ـ حديث القوم ـ رمو وقد.

٣ ـ النحل : ١٨.

٥٣٠

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي فمنعهم عن طريق الحق (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي وكانوا عقلاء يمكنهم التمييز بين الحق والباطل بالإستدلال والنظر ولكنّهم اغفلوا ولم يتدبّروا وقيل معناه : انهم كانوا مستبصرين عند أنفسهم فيما كانوا عليه من الضلالة ، يحسبون أنهم على هدى ، عن قتادة (وَقارُونَ) أي وأهلكنا قارون (وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحات : من قلب العصا حية ، واليد البيضاء ، وفلق البحر وغيرها (فَاسْتَكْبَرُوا) أي طلبوا التجبر (فِي الْأَرْضِ) ولم ينقادوا للحق (وَما كانُوا سابِقِينَ) أي فائتين الله كما يفوت السابق (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أي فائتين الله كما يفوت السابق (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أي فأخذنا كلّا من هؤلاء بذنبه ، وعاقبناهم بتكذيبهم الرسل (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي حجارة ، وقيل : ريحا فيها حصى ، وهم قوم لوط ، عن ابن عباس وقتادة ، وقيل : هم عاد (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم ثمود وقوم شعيب ، عن ابن عباس وقتادة. والصيحة : العذاب ، وقيل : صاح بهم جبرائيل فهلكوا (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) وهو قارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) يعني قوم نوح وفرعون وقومه (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) فيعذّبهم على غير ذنب (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بكفرهم وتكذيبهم الرسل. وفي هذا دلالة واضحة على فساد مذهب أهل الجبر فإن الظلم لو كان من فعل الله كما يزعمون لما كان هؤلاء هم الظالمين لنفوسهم ، بل كان الظالم لهم من فعل فيهم الظلم ، تعالى الله عن ذلك.

٤١ ـ ٤٥ ـ ثم شبّه سبحانه حال الكفار الذين اتخذوا من دونه آلهة بحال العنكبوت فقال : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي شبه من اتخذ الأصنام آلهة يريدون نصرها ونفعها وضرها والرجوع إليها عند الحاجة (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) لنفسها لتأوي إليه ، فكما أن بيت العنكبوت لا يغني عنها شيئا لكونه في غاية الوهن والضعف ولا يجدي نفعا ، كذلك الأصنام لا تملك لهم خيرا وشرا ونفعا وضرا والولي : هو المتولي للنصرة وهو أبلغ من الناصر ، لأن الناصر قد يكون ناصرا بأن يأمر غيره بالنصرة ، والولي هو الذي يتولى النصرة بنفسه (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) أي أضعفها (لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) صحة ما أخبرناهم به ويتحققون ولو متعلقة بقوله اتخذوا ، أي لو علموا أن اتخاذهم الأولياء كاتخاذ العنكبوت بيتا سخيفا لم يتخذوهم أولياء ، ولا يجوز أن تكون متعلقة بقوله : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) لأنهم كانوا يعلمون أن بيت العنكبوت واه ضعيف (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) هذا وعيد منه سبحانه ومعناه : أنه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار ، وما يتخذونه من دونه أربابا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب فيما يريده (الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) وهي الأشباه والنظائر ، يعني أمثال القرآن (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي نذكرها لهم لندعوهم إلى المعرفة والتوحيد ، ونعرفهم قبح ما هم فيه من عبادة الأصنام (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أي وما يفهمها إلا من يعلم وجه الشبه بين المثل والممثل به وقيل معناه : وما يعقل الأمثال إلّا العلماء الذين يعقلون عن الله. وروى الواحدي بالإسناد عن جابر قال : تلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية وقال : العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته ، واجتنب سخطه. ثم

__________________

عن الزهري قال : قلت لعلي بن الحسين عليهما‌السلام : أي الأعمال أفضل؟ قال الحال المرتحل قلت : ما الحال المرتحل؟ قال : فتح القرآن وختمه ، كلّما جاء بأوله ارتحل في آخره ، وقال : قال رسول الله (ص): من أعطاه الله القرآن. فرأى ان رجلا أعطي أفضل مما أعطي فقد صغّر عظيما ، وعظّم صغيرا. أصول الكافي ٢ / ٥٧٩.

٥٣١

بيّن سبحانه ما يدلّ على إلهيته واستحقاقه العبادة فقال (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي أخرجهما من العدم إلى الوجود ولم يخلقهما عبثا ، بل خلقهما ليسكنهما خلقه ، وليستدلّوا بهما على اثباته ووحدانيته (بِالْحَقِ) أي على وجه الحكمة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنهم المنتفعون بذلك. ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) يعني القرآن أي اقرأه على المكلفين ، واعمل بما تضمنه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدّها بحدودها في مواقيتها (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) في هذا دلالة على ان فعل الصلاة لطف للمكلف في ترك القبيح والمعاصي التي ينكرها العقل والشرع ، وروى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فبقدر ما منعته قبلت منه (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وعن معاذ قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّ الأعمال أحب إلى الله؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عزوجل (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من خير وشرّ فيجازيكم بحسبه.

٤٦ ـ ٥٠ ـ لمّا تقدّم الأمر بالدعاء إلى الله سبحانه بيّن عقيبه كيف يدعونهم ، وكيف يجادلونهم فقال : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) وهم نصارى نجران وقيل اليهود والنصارى (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالطريق التي هي أحسن ؛ وإنما يكون أحسن إذا كانت المناظرة برفق ولين لإرادة الخير والنفع بها ، ومثله قوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى). وفي هذا دلالة على وجوب الدعاء إلى الله تعالى على أحسن الوجوه وألطفها ، واستعمال القول الجميل في التنبيه على آيات الله وحججه (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي الذين ظلموك في جدالهم أو في غيره مما يقتضي الاغلاظ لهم فيجوز أن يسلكوا معهم طريقة الغلظة (وَقُولُوا) لهم في المجادلة وفي الدعوة إلى الدين (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) أي بالكتاب الذي أنزل إلينا وبالكتاب الذي أنزل إليكم (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) لا شريك له (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي مخلصون طائعون (وَكَذلِكَ) أي ومثل ما أنزلنا الكتاب على موسى وعيسى (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) وهو القرآن (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي علم الكتاب فحذف المضاف (يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعني مؤمني أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام ونظرائه (وَمِنْ هؤُلاءِ) يعني كفار مكة (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) يعني من أسلم منهم (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) أي وما ينكر دلالاتنا إلا الكافرون ، ولا يضرّك جحودهم ، ثم خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) أي وما كنت يا محمد تقرأ قبل القرآن كتابا والمعنى : انك لم تكن تحسن القراءة قبل أن يوحى إليك بالقرآن (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) معناه : وما كنت أيضا تكتبه بيدك (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي ولو كنت تقرأ كتابا أو تكتبه لوجد المبطلون طريقا إلى اكتساب الشك في أمرك ، وإلقاء الريبة لضعفة الناس في نبوتك ولقالوا : إنما تقرأ علينا ما جمعته من كتب الأولين ، فلما ساويتهم في المولد والمنشأ ثم أتيت بما عجزوا عنه وجب أن يعلموا أنه من عند الله تعالى وليس من عندك ، إذ لم تجر العادة أن ينشأ الإنسان بين قوم يشاهدون أحواله من عند صغره إلى كبره ، ويرونه في حضره وسفره لا يتعلم شيئا من غيره ، ثم يأتي من عنده بشيء يعجز الكل عنه وعن بعضه ويقرأ عليهم أقاصيص الأولين (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني : ان القرآن دلالات واضحات في صدور العلماء وهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون به لأنهم حفظوه ووعوه ، ورسخ معناه في قلوبهم (وَما يَجْحَدُ

٥٣٢

بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بترك النظر فيها ، والعناد لها بعد حصول العلم لهم بها (وَقالُوا) يعني كفار مكة (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) أراد به الآيات التي اقترحوها في قوله : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الآيات ، وأن يجعل الصفا ذهبا ، وقيل : انهم سألوا آية كآية موسى من فلق البحر ، وقلب العصا حيّة ، وجعلوا ما أتى به من المعجزات والآيات غير آية وحجة إلقاء للشبهة بين العوام. فقال الله تعالى : (قُلْ) يا محمد لهم (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزلها ويظهرها بحسب ما يعلم من مصالح عباده ، وينزل على كل نبي منها ما هو أصلح له ولأمته. ولذلك لم تتفق آيات الأنبياء كلها ، وإنما جاء كل نبي بفن منها (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي منذر مخوّف من معصية الله ، مظهر طريق الحق والباطل ، وقد فعل الله سبحانه ما يشهد بصدقي من المعجزات.

٥١ ـ ٥٥ ـ لما تقدّم طلبهم للآيات أجابهم سبحانه فقال : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ) أي القرآن (يُتْلى عَلَيْهِمْ) بيّن سبحانه أن في إنزال القرآن دلالة واضحة ، ومعجزة لائحة ، وحجّة بالغة ، تنزاح معه العلة ، وتقوم به الحجة ، فلا يحتاج في الوصول إلى العلم بصحة نبوته إلى غيره ، على ان إظهار المعجزات مع كونها إزاحة للعلة تراعى فيه المصلحة ، فإذا كانت المصلحة في إظهار نوع منها لم يجز إظهار غيرها ، ولو أظهر الله سبحانه الآيات التي اقترحوها ثم لم يؤمنوا لاقتضت الحكمة إهلاكهم بعذاب الإستئصال كما اقتضت ذلك في الأمم السالفة (إِنَّ فِي ذلِكَ) معناه : ان في القرآن (لَرَحْمَةً) أي نعمة عظيمة الموقع لأن من تبعه وعمل به نال الثواب ، وفاز بالجنة (وَذِكْرى) أي وتذكيرا وموعظة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي يصدّقون به (قُلْ) يا محمد (كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) لي بالصدق والإبلاغ ، وعليكم بالتكذيب والعناد ؛ وشهادة الله له قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ، وهو في كلام معجز قد ثبت أنه من الله سبحانه (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيعلم أني على الهدى ، وانكم على الضلالة (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) أي صدقوا بغير الله (وَكَفَرُوا بِاللهِ) أي جحدوا وحدانية الله (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسروا ثواب الله بارتكاب المعاصي ، والجحود بالله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) يا محمد ، أي يسألونك نزول العذاب عاجلا لجحودهم صحة ما توعدهم به كما قال النضر بن الحرث : امطر علينا حجارة من السماء (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) أي وقت قدره الله تعالى أن يعاقبهم فيه وهو يوم القيامة (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) الذي استحقوه (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ) العذاب (بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه ووقت مجيئه. ثم ذكر أن موعد عذابهم النار فقال : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) يعني ان العذاب وإن لم يأتهم في الدنيا فإن جهنم محيطة بهم ، أي جامعة لهم وهم معذّبون فيها لا محالة (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) يعني ان العذاب يحيط بهم ، فلا يبقى جزء منهم إلا وهو معذب في النار ، وهذا كقوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) (وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء أعمالكم وأفعالكم القبيحة.

٥٦ ـ ٦٠ ـ ثم بيّن سبحانه أنه لا عذر لعباده في ترك طاعته فقال : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) ببعد أقطارها ؛ فاهربوا من أرض يمنعكم أهلها من الإيمان والإخلاص في عبادتي (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي اعبدوني خالصا ولا تطيعوا أحدا من خلقي في معصيتي. أمر سبحانه المؤمنين إذا كانوا في بلد لا يلتئم فيه لهم أمر دينهم أن ينتقلوا عنه إلى غيره ، ثم خوّفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة فقال : (كُلُ

٥٣٣

نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل نفس أحياها الله بحياة خلقها فيه ذائقة مرارة الموت بأيّ أرض كان ، فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) بعد الموت فنجازيكم بأعمالكم. ثم ذكر سبحانه ثواب من هاجر فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يعني المهاجرين (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي لننزلنّهم (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) عاليات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قال ابن عباس : لنسكننهم غرف الدر والزبرجد والياقوت ، ولننزلنهم قصور الجنة (خالِدِينَ فِيها) يبقون فيها ببقاء الله (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) لله تلك الغرف. ثم وصفهم فقال : (الَّذِينَ صَبَرُوا) على دينهم يتركوه لشدة نالتهم ، وأذى لحقهم (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في مهمات أمورهم ، ومهاجرة دورهم. ثم قال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي وكم من دابة لا يكون رزقها مدخرا معدا ، عن الحسن ، وقيل معناه : لا تطيق حمل رزقها لضعفها ، وتأكل بأفواهها ، عن مجاهد ، وقيل إنّ الحيوان أجمع من البهائم والطيور وغيرهما مما يدبّ على وجه الأرض ، لا تدّخر القوت لغدها إلّا ابن آدم ، والنملة والفأرة ، بل تأكل منه قدر كفايتها فقط ، عن ابن عباس (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) أي يرزق تلك الدابة الضعيفة التي لا تقدر على حمل رزقها ويرزقكم أيضا فلا تتركوا الهجرة بهذا السبب ؛ وعن عطا عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل فقال : يا ابن عمر مالك لا تأكل؟ فقلت : لا أشتهيه يا رسول الله قال : لكنّي أشتهيه ، وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ، ولو شئت لدعوت ربّي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر ، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت مع قوم يخبئون رزق سنتهم لضعف اليقين ، فو الله ما برحنا حتى نزلت هذه الآية : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لأقوالكم عند مفارقة أوطانكم ، العليم بأحوالكم لا يخفى عليه شيء من سرّكم وإعلانكم.

٦١ ـ ٦٩ ـ ثم عجّب سبحانه ورسوله والمؤمنون من إيمان المشركين بالباطل مع اعترافهم بأن الله هو الخالق الفاعل فقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي إن سألت يا محمد هؤلاء المشركين (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي من أنشأهما وأخرجهما من العدم إلى الوجود (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي من ذلّلهما وسيّرهما في دورانهما على طريقة واحدة لا تختلف (لَيَقُولُنَ) في جواب ذلك (اللهُ) الفاعل لذلك ، لأنهم كانوا يقولون بحدوث العالم والنشأة الأولى (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة حجر لا ينفع ولا يضرّ؟! (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي ويضيق ذلك على قدر ما تقتضيه المصلحة ؛ وإنما خصّ بذكر الرزق على الهجرة لئلا يخلفهم عنها خوف العيلة (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم مصالح عباده فيرزقهم بحسبها (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَ) في الجواب عن ذلك (اللهُ) قل يا محمد عند ذلك (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على كمال قدرته ، وتمام نعمته ، وعلى ما وفقنا للإعتراف بتوحيده ، والإخلاص في عبادته. ثم قال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) توحيد ربهم مع إقرارهم بأنه خالق الأشياء ، ومنزل المطر من السماء ، لأنهم لا يتدبرون ، وعن الطريق المفضي إلى الحق يعدلون ، فكأنهم لا يعقلون (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) لأنها تزول كما يزول اللهو واللعب ، ويستمتع بها الإنسان مدة ثم تنصرم وتنقطع (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ) يعني الجنة (لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي الحياة على الحقيقة ، لأنها الدائمة الباقية التي لا زوال لها ولا موت فيها وتقديره وان الدار الآخرة لهي دار الحيوان أو ذات الحيوان لأن الحيوان مصدر كالنزوان والغليان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والمعنى : ان حياة الدار الآخرة هي

٥٣٤

الحياة التي لا تنغيص فيها ولا تكدير (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الفرق بين الحياة الفانية والحياة الباقية الدائمة ، أي لو علموا لرغبوا في الباقي ، وزهدوا في الفاني ، ولكنّهم لا يعلمون (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أخبر الله سبحانه عن حال هؤلاء الكفار فقال : انهم إذا ركبوا في السفن في البحر وهاجت به الرياح ، وتلاطمت به الأمواج ، وخافوا الهلاك ، أخلصوا الدعاء لله مستيقنين أنه لا يكشف السوء إلا هو ، وتركوا شركاءهم فلم يطلبوا منهم انجاءهم (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) إي فلما خلّصهم إلى البر ، وأمنوا الهلاك ، عادوا إلى ما كانوا عليه من الإشراك معه في العبادة (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) إن جعلت اللام للأمر فمعناه التهديد أي ليجحدوا نعم الله في انجائه إياهم ، وليتمتعوا بباقي عمرهم ، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم وان جعلتها لام كي فالمعنى انهم يشركون ليكفروا وقد مرّ معناه (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم يعلم هؤلاء الكفار (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) يأمن أهله فيه من القتل والغارة (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أي يقتل بعضهم بعضا فيما حولهم وهم آمنون في الحرم. ذكّرهم سبحانه النعمة بذلك ليذعنوا له بالطاعة ، وينزجروا عن عبادة غيره ؛ ثم قال مهدّدا لهم (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي يصدقون بعبادة الأصنام وهي باطلة مضمحلة (وَبِنِعْمَةِ اللهِ) التي أنعم بها عليهم (يَكْفُرُونَ) ثم قال (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا ظالم أظلم ممن أضاف إلى الله ما لم يقله من عبادة الأصنام وغيرها (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) أي بالقرآن وقيل : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) هذا استفهام تقرير أي أما لهؤلاء الكفار المكذبين مثوى في جهنم؟ وهذا مبالغة في انجاز الوعيد لهم (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) أي جاهدوا الكفار ابتغاء مرضاتنا ، وطاعة لنا ، وجاهدوا أنفسهم في هواها خوفا منا وقيل مرضاتنا ، وطاعة لنا ، وجاهدوا أنفسهم في هواها خوفا منا وقيل معناه : اجتهدوا في عبادتنا رغبة في ثوابنا ، ورهبة من عقابنا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي لنهدينهم السبل الموصلة إلى ثوابنا عن ابن عباس وقيل : لنوفقنهم لإزدياد الطاعات فيزداد ثوابهم وقيل معناه والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينّهم سبل الجنة وقيل معناه : والذين يعملون بما يعلمون لنهدينهم إلى ما لا يعلمون (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) بالنصر والمعونة في دنياهم ، والثواب والمغفرة في عقباهم.

سورة الروم

مكية وعدد آياتها ستون آية

١ ـ ٧ ـ (الم) مر تفسيره (غُلِبَتِ الرُّومُ) قال المفسرون : غلبت فارس الروم وظهروا عليهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفرح بذلك كفار قريش من حيث ان أهل فارس لم يكونوا أهل كتاب ، وساء ذلك المسلمين ، وكان بيت المقدس لأهل الروم كالكعبة للمسلمين فدفعتهم فارس عنه (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي في أدنى الأرض من أرض العرب ، عن الزجاج ، وقيل في أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس يريد الجزيرة ، وهي أقرب أرض الروم إلى فارس ، عن مجاهد ، وقيل : يريد اذرعات وكسكر ، عن عكرمة (وَهُمْ) يعني الروم (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) أي من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وهذه من الآيات الدالة على ان القرآن من عند الله عزوجل لأن فيه أنباء ما سيكون وما يعلم ذلك إلا الله عزوجل وروى أبو عبد الله الحافظ بالاسناد عن ابن عباس في قوله ((الم غُلِبَتِ الرُّومُ)) قد مضى ، كان ذلك في أهل فارس والروم ، وكانت فارس قد غلبت عليهم ، ثم غلبت الروم بعد ذلك ، ولقي النبيّ الله مشركي العرب ، والتقت الروم وفارس ،

٥٣٥

فنصر الله النبي (ص) ومن معه من المسلمين على مشركي العرب ، ونصر أهل الكتاب على مشركي العجم ، ففرح المسلمون بنصر الله إيّاهم ، ونصر أهل الكتاب على العجم (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي من قبل ان غلبت الروم ومن بعد أن غلبت ، فإن شاء جعل الغلبة لأحد الفريقين على الآخر ، وان شاء جعل الغلبة للفريق الآخر عليهم ، وإن شاء أهلكهما جميعا (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي ويوم يغلب الروم فارسا يفرح المؤمنون بدفع الروم فارسا عن بيت المقدس ، لا بغلبة الروم على بيت المقدس فإنهم كفار ، ويفرحون أيضا لوجوه أخر وهو : اغتمام المشركين بذلك ، ولتصديق خبر الله عزوجل وخبر رسوله ، ولأنه مقدمة لنصرهم على المشركين (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) من عباده (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في الانتقام من أعدائه (الرَّحِيمُ) بمن أناب إليه من خلقه (وَعْدَ اللهِ) أي وعد الله ذلك (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) بظهور الروم على فارس (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) يعني كفار مكة (لا يَعْلَمُونَ) صحة ما أخبرناه لجهلهم بالله تعالى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي يعلمون منافع الدنيا ومضارها ، ومتى يزرعون ، ومتى يحصدون ، وكيف يجمعون ، وكيف يبنون ، وهم جهال بالآخرة ، فعمروا دنياهم ، وخربوا آخرتهم عن ابن عباس وقال الحسن بلغ والله من علم أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظهره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي وسئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قوله : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فقال : منه الزجر والنجوم.

٨ ـ ١٠ ـ ثم حثّ سبحانه على التفكّر والتدبّر فيما يدل على توحيده من خلق السماوات والأرض ، ثم في أحوال القرون الخالية والأمم الماضية فقال : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي في حال الخلوة لأن في تلك الحالة يتمكن الإنسان من نفسه ، ويحضره ذهنه وقيل معناه : أو لم يتفكروا في خلق الله أنفسهم والمعنى أو لم يتفكروا فيعلموا وحذف لأن في الكلام دليلا عليه (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) قال الزجاج معناه : إلا للحق ، أي لإقامة الحق ، ومعناه للدلالة على الصانع ، والتعريض للثواب (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي ولوقت معلوم توفى فيه كل نفس ما كسبت وقيل معناه : خلقها في أوقات قدرها اقتضت المصلحة خلقها فيها ولم يخلقها عبثا عن الجبائي (سؤال) قالوا : كيف يعلم المتفكر في نفسه أن الله سبحانه لم يخلق شيئا إلا بالحق ، وكيف يعلم الآخرة؟ (جواب) قلنا : إذا علم بالنظر في نفسه أنه محدث مخلوق ، وأن له محدثا قادرا عالما ، وأنه حكيم ، علم أنه لم يخلقه عبثا ، وإنما خلقه لغرض وهو التعريض للثواب ، ولا يتم إلا بالتكليف ، فلا بد إذا من الجزاء (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) أي بلقاء جزاء ربهم ، وبالبعث ، وبيوم القيامة لجاحدون غير معترفين. ثم نبّههم سبحانه دفعة أخرى فقال : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فهلكوا وبادوا فيعتبروا بهم لعلمهم أنهم

__________________

قال الإمام الصّادق عليه‌السلام : إنّ الله عزوجل أنزل في القرآن تبيانا لكل شيء حتّى والله ما ترك شيئا يحتاج إليه العبد ، حتّى والله ما يستطيع عبد أن يقول : لو كان في القرآن هذا إلّا وقد أنزله الله فيه. المحاسن : ١ / ٤١٦.

قال الإمام الصّادق عليه‌السلام ؛ إنّ الله أنزل عليكم كتابه الصادق البارّ ، فيه خبركم وخبر ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وخبر السماء ، وخبر الأرض ، فلو أتاكم من يخبركم عن ذلك لعجبتم. المحاسن : ١ / ٤١٦.

٥٣٦

أهلكوا بتكذيبهم (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي وقلبوها وحرثوها بعمارتها (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي أكثر مما عمرها هؤلاء الكفار لأنهم كانوا أكثر أموالا ، وأطول أعمارا ، وأكثر اعدادا فحفروا الأنهار ، وغرسوا الأشجار ، وبنوا الدور ، وشيّدوا القصور ، ثم تركوها وصاروا إلى القبور ، وإلى الهلاك والثبور (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي أتتهم رسلهم بالدلالات من عند الله فجحدوا الرسل وكذبوا ، فأهلكهم الله بالعذاب (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بأن يهلكهم من غير استحقاق (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بأن يهلهكم من غير استحقاق (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بأن جحدوا رسل الله ، وأشركوا معه في العبادة سواه حتى استحقوا العذاب عاجلا وآجلا (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) إلى نفوسهم بالكفر بالله وتكذيب رسله ، وارتكاب معاصيه (السُّواى) أي الخلة التي تسوء صاحبها إذا أدركها وهي عذاب الناء عن ابن عباس وقتادة (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أي لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها.

١١ ـ ٢٠ ـ ثم ذكر سبحانه قدرته على الإعادة فقال : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت احياء كما كانوا (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيهم بأعمالهم (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي يوم تقوم القيامة ييأس الكافرون من رحمة الله تعالى ونعمه التي يفيضها على المؤمنين وقيل يتحيرون وتنقطع حججهم بظهور جلائل آيات الآخرة التي يقع عندها علم الضرورة (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي لم يكن لهم من أوثانهم التي عبدوها ليشفعوا لهم ، شفعاء تشفع لهم ، أو تدفع عنهم كما زعموا : انا نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) يعني : ان المشركين يتبرؤون من الأوثان وينكرون كونها آلهة ، ويقرّون بأن الله لا شريك له عن الجبائي وأبي مسلم (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي تظهر القيامة (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) فيصير المؤمنون أصحاب اليمين ، والمشركون أصحاب الشمال ، فيتفرقون تفرقا لا يجتمعون بعده وقال الحسن : لئن كانوا اجتمعوا في الدنيا ليتفرقنّ يوم القيامة : هؤلاء في أعلى عليّين ، وهؤلاء في أسفل السافلين وهو قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي في الجنة ينعمون ويسرون سرورا يبين ما عليهم عن قتادة ومجاهد ، ومنه قيل : كل حبرة تتبعها عبرة والروضة : البستان المتناهي منظرا وطيبا ، وقال ابن عباس ويحبرون : أي يكرمون وقيل : يلذذون بالسماع عن يحيى بن ابي كثير والأوزاعي ، أخبرنا أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن أحمد البيهقي قال : أخبرنا جدّي الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي قال : حدّثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن بندار قال : حدّثنا جعفر بن محمد بن الحسن القرباني قال : حدّثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال : حدّثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه ، عن خالد بن معدان ، عن أبي أمامة الباهلي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما من عبد يدخل الجنة إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين تغنيانه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن ، وليس بمزمار الشيطان لكن بتمجيد الله وتقديسه ، وعن أبي الدرداء قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكر الناس فذكر الجنة وما فيها من الأزواج والنعيم ، وفي القوم أعرابي فجثا لركبتيه وقال : يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال نعم يا أعرابي ان في الجنة نهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها قط ، فذلك أفضل نعيم الجنة ثم أخبر عن حال الكافرين فقال : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي بدلائلنا وبالبعث يوم القيامة (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي فيه محصلون ، ولفظة الإحضار لا تستعمل إلّا فيما يكرهه الإنسان ، ومنه حضور الوفاة (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ

٥٣٧

تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) وهذا خبر والمراد به الأمر ، أي فسبّحوه ونزّهوه عما لا يليق به أو ينافي تعظيمه من صفات النقص بأن تصفوه بما يليق به من الصفات والأسماء (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي يخرج الإنسان من النطفة ، ويخرج النطفة من الإنسان (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بالنبات بعد جدوبها (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي كما أحيا الأرض بالنبات كذلك يحييكم بالبعث ، وتخرجون من قبوركم أحياء (وَمِنْ آياتِهِ) أي من دلالاته على وحدانيته وكمال قدرته (أَنْ خَلَقَكُمْ) أي خلق آدم الذي هو أبوكم وأصلكم (مِنْ تُرابٍ) ثم خلقكم منه وذلك قوله (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) أي ثم إذا أنتم ذرية بشر من لحم ودم تنبسطون في الأرض ، وتتصرفون على ظهرها ، وتتفرقون في أطرافها فهلا دلّكم ذلك على أنه لا يقدر على ذلك غيره تعالى ، وأنه لا يستحق العبادة سواه.

٢١ ـ ٢٥ ـ ثم عطف سبحانه على ما قدّمه من تنبيه العبيد على دلائل التوحيد فقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي جعل لكم من شكل أنفسكم ومن جنسكم (أَزْواجاً) وإنما منّ سبحانه علينا بذلك لأن الشكل إلى الشكل أميل (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي لتطمئنوا إليها ، وتألفوا بها ، ويستأنس بعضكم ببعض (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) يريد بين المرأة وزوجها جعل سبحانه بينهما المودّة والرحمة فهما يتوادان ويتراحمان ، وما شيء أحبّ إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في خلق الأزواج مشاكلة للرجال (لَآياتٍ) أي لدلالات واضحات (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في ذلك ويعتبرون به ، ثم نبّه سبحانه على آية أخرى فقال (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على توحيده (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما من عجائب خلقه ، وبدائع صنعه ، مثل ما في السماوات من النجوم والشمس والقمر وجريها في مجاريها على غاية الإتساق والنظام ، وما في الأرض من أنواع الجماد والنبات والحيوان المخلوقة على وجه الاحكام (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) فالألسنة : جمع لسان ، واختلافها هو أن ينشئها الله تعالى مختلفة في الشكل والهيئة والتركيب ، فتختلف نغماتها وأصواتها حتى أنه لا يشتبه صوتان من نفسين هما اخوان (وَأَلْوانِكُمْ) أي واختلاف ألوانكم من البياض والحمرة والصفرة والسمرة وغيرها ، فلا يشبه أحد أحدا مع التشاكل في الخلقة وما ذلك إلا للتراكيب البديعة ، واللطائف العجيبة الدالة على كمال قدرته وحكمته ، واللطائف العجيبة الدالة على كمال قدرته وحكمته ، حتى لا يشتبه اثنان من الناس ولا يلتبسان مع كثرتهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي أدلة واضحات (لِلْعالِمِينَ) أي للمكلفين (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على توحيده وإخلاص العبادة له (مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) معناه : ومن دلائله النوم الذي جعله الله راحة لأبدانكم بالليل وقد تنامون بالنهار ، فإذا انتبهتم انتشرتم لابتغاء فضل الله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ذلك فيقبلونه ويتفكرون فيه ، لأن من لا يتفكر فيه لا ينتفع به فكأنه لم يسمعه (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) معناه : ومن دلالاته أن يريكم النار تنقدح من السحاب يخافه المسافر ، ويطمع فيه المقيم (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي غيثا ومطرا (فَيُحْيِي بِهِ) أي بذلك الماء (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد انقطاع الماء عنها وجدوبها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي للعقلاء المكلفين (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) بلا دعامة تدعمها ، ولا علاقة تتعلق بها ، بأمره لهما بالقيام ، كقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ) أي من القبر. يأمر الله عزّ اسمه إسرافيل عليه‌السلام فينفخ في الصور فيخرج الخلائق كلهم من قبورهم (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) من الأرض احياء ، وقيل : انه سبحانه جعل النفخة دعاء ، لأن

٥٣٨

إسرافيل يقول : أجيبوا داعي الله ، فيدعو بأمر الله سبحانه ، وقيل ان معناه : أخرجكم من قبوركم بعد ان كنتم أمواتا فيها ، فعبر عن ذلك بالدعاء. وإنما ذكر سبحانه هذه المقدورات على اختلافها ليدلّ عباده على أنه القادر الذي لا يعجزه شيء.

٢٦ ـ ٣٠ ـ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من العقلاء يملكهم ويملك التصرف فيهم ، وإنما خصّ العقلاء لأن ما عداهم في حكم التبع لهم. ثم أخبر سبحانه عن جميعهم فقال (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) يخلقهم إن شاء ، ويخترعهم ابتداء ، ثم يعيدهم بعد الإفناء ؛ فجعل سبحانه ما ظهر من ابتداء خلقه دليلا على ما خفي من إعادته استدلالا بالشاهد على الغائب. ثم أكّد ذلك بقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) المعنى : والإعادة أهون ؛ وإنما قال : أهون لما تقرّر في العقول : ان إعادة الشيء أهون من ابتدائه ، ومعنى أهون : أيسر وأسهل ، وهم كانوا مقرّين بالإبتداء ؛ فكأنه قال لهم : كيف تقرّون بما هو أصعب عندكم ، وتنكرون ما هو أهون عندكم؟ (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي وله الصفات العليا (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هي جميع ما يختص به عز اسمه من الصفات العلى التي لا يشاركه فيها سواه ، والأسماء الحسنى التي تفيد التعظيم كالقاهر والإله (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في ملكه (الْحَكِيمُ) في خلقه. ثم احتجّ سبحانه على عبدة الأوثان فقال : (ضَرَبَ لَكُمْ) أيها المشركون (مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي بيّن لكم شبها لحاكم ذلك المثل من أنفسكم. ثم بيّنه فقال (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي من عبيدكم وإمائكم (مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) من المال والأملاك والنعم أي هل يشاركونكم في أموالكم ، وهو قوله : (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي فأنتم وشركاؤكم من عبيدكم وإمائكم فيما رزقناكم شرع سواء (تَخافُونَهُمْ) أن يشاركوكم فيما ترثونه من آبائكم (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي كما يخاف الرجل الحرّ شريكه الحرّ في المال يكون بينهما ان ينفرد دونه فيه بأمر ، وكما يخاف الرجل شريكه في الميراث أن يشاركه لأنه يحب أن ينفرد به ، فهو يخاف شريكه ، يعني ان هذه الصفة لا تكون بين المالكين والمملوكين كما تكون بين الأحرار ؛ ومعنى أنفسكم هاهنا أمثالكم من الأحرار كقوله : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ، والمعنى : انكم إذا لم ترضوا في عبيدكم أن يكونوا شركاء لكم في أموالكم وأملاككم ، فكيف ترضون لربكم أن يكون له شركاء في العبادة (كَذلِكَ) أي كما ميّزنا لكم هذه الأدلة (نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي الأدلة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فيتدبرون ذلك (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أشركوا بالله (أَهْواءَهُمْ) في الشرك (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يعلمونه جاءهم من الله (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) قيل معناه : من أضلّ عن الله الذي هو خالقه ورازقه والمنعم عليه مع ما نصبه له من الأدلة فمن يهديه بعد ذلك (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم ويدفعون عنهم عذاب الله تعالى إذا حلّ بهم. ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد جميع المكلفين وقال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) أي أقم قصدك للدين والمعنى : كن معتقدا للدين (حَنِيفاً) أي مائلا إليه ، ثابتا عليه ، مستقيما فيه ، لا يرجع عنه إلى غيره (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) فطرة الله : الملة ، وهي الدين والإسلام والتوحيد التي خلق الناس عليها ولها وبها ، أي لأجلها والتمسك بها (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي لا تغيير لدين الله الذي أمر الناس بالثبات عليه في التوحيد والعدل ، وإخلاص العبادة لله (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ذلك الدين المستقيم الذي يجب اتباعه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) صحّة ذلك لعدولهم عن النظر فيه.

٣١ ـ ٣٥ ـ (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي راجعين إلى كل ما أمر به مع التقوى ، وأداء الفرض وهو قوله : (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ثم أخبر سبحانه أنه لا ينفع ذلك إلا بالإخلاص في التوحيد

٥٣٩

فقال : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) أي لا تكونوا من أهل الشرك من جملة الذين فرّقوا دينهم (وَكانُوا شِيَعاً) معناه : الذين أوقعوا في دينهم الإختلاف ، وصاروا ذوي أديان مختلفة ، فصار بعضهم يعبد وثنا ، وبعضهم يعبد نارا ، وبعضهم شمسا إلى غير ذلك ، (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي كل أهل ملة بما عندهم من الدين راضون (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ) أي إذا أصابهم مرض أو فقر أو شدّة دعوا الله تعالى (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي منقطعين إليه ، مخلصين في الدعاء له (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) بأن بعافيهم من المرض ، أو يغنيهم من الفقر ، أو ينجيهم من الشدة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) أي يعودون إلى عبادة غير الله على خلاف ما يقتضيه العقل من مقابلة النعم بالشكر. ثم بيّن سبحانه أنهم يفعلون ذلك (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من النعم ، إذ لا غرض في الشرك إلا كفران نعم الله سبحانه. ثم قال سبحانه يخاطبهم مهددا لهم (فَتَمَتَّعُوا) بهذه الدنيا ، وانتفعوا بنعيمها الفاني كيف شئتم (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة كفركم (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) معناه : بل أنزلنا عليهم برهانا وحجة يتسلطون بذلك على ما ذهبوا إليه (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي فذلك البرهان كأنه يتكلم بصحة شركهم ، ويحتجّ لهم به ، والمعنى : انهم لا يقدرون على تصحيح ذلك ولا يمكنهم ادّعاء برهان وحجة عليه.

٣٦ ـ ٤٠ ـ لمّا تقدّم ذكر المشركين عقّبه سبحانه بذكر أحوالهم في البطر عند النعمة ، واليأس عند الشدة فقال : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أي إذا آتيناهم نعمة من عافية وصحة جسم أو سعة رزق أو أمن ودعة (فَرِحُوا بِها) أي سرّوا بتلك الرحمة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي وإن أصابهم بلاء وعقوبة بذنوبهم التي قدّموها ، وسمى ذلك سيّئة توسعا لكونه جزاء على السيئة عن الجبائي وقيل : ان يصبهم قحط وانقطاع مطر وشدة وسميت سيئة لأنها تسوء صاحبها (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) أي ييأسون من رحمة الله وإنما قال : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ولم يقل : بما قدموا على التغليب للأظهر الأكثر ، فإن أكثر العمل لليدين والعمل للقلب وإن كان كثيرا فإنه أخفى. ثم نبّههم سبحانه على توحيده فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي يوسّعه (لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي ويضيق لمن يشاء على حسب ما تقتضيه مصالح العباد (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في بسط الرزق لقوم ، وتضييقه لقوم آخرين (لَآياتٍ) أي دلالات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله. ثم خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أي واعط ذوي قرباك يا محمد حقوقهم التي جعلها الله لهم من الأخماس عن مجاهد والسدي ، وروى أبو سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى فاطمة عليه‌السلام فدكا وسلّمه إليها ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام وقيل : انه خطاب له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولغيره والمراد بالقربى قرابة الرجل ، وهو أمر بصلة الرحم بالمال والنفس ، عن الحسن (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) معناه : وآت المسكين والمسافر المحتاج ما فرض الله لهم في مالك (ذلِكَ خَيْرٌ) أي إعطاء الحقوق مستحقيها خير (لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) بالإعطاء دون الرياء والسمعة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بثواب الله (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) قيل في الربا المذكور في الآية قولان (أحدهما) انه ربا حلال ، وهو أن يعطي الرجل العطية ، أو يهدي الهدية ليثاب أكثر منها ، فليس فيه أجر ولا وزر ، عن ابن عباس وطاووس وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام (والقول الآخر) انه الربا المحرم ، عن الحسن والجبائي ، فعلى هذا يكون هو كقوله : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أي وما أعطيتموه أهله على وجه الزكاة

٥٤٠