الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

ما تقولونه من جهة العقل (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) انهم قالوا : صاهر الله الجنّ فحدثت الملائكة ، تعالى الله عن قولهم (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي علمت الملائكة ان هؤلاء الذين قالوا هذا القول محضرون للعذاب يوم القيامة (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) نزّه سبحانه نفسه عمّا وصفوه به ؛ وأضافوه إليه (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثنى عباده المخلصين من جملة الكفار القائلين فيه ما لا يليق به.

١٦١ ـ ١٧٠ ـ ثم خاطب سبحانه الكفار بأن قال لهم (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) والمعنى : انكم يا معشر الكفار والذي تعبدونه (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) والتقدير : انكم وما تعبدونه ما أنتم بفاتنين على عبادته أحدا إلا من يصلى الجحيم ويحترق بها بسوء اختياره (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) هذا قول جبرائيل للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيه مضمر : أي وما منا معشر الملائكة ملك إلّا له مقام معلوم في السماوات يعبد الله فيه وقيل معناه : انه لا يتجاوز ما أمر به ورتب له كما لا يتجاوز صاحب المقام مقامه الذي حدّ له فكيف يجوز أن يعبد من بهذه الصفة وهو عبد مربوب (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) حول العرش ننتظر الأمر والنهي من الله تعالى وقيل القائمون صفوفا في الصلاة قال الكلبي : صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض. وقال الجبائي : صافون بأجنحتنا في الهواء للعبادة والتسبيح (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي المصلون والمنزهون الرب عما لا يليق به ، ومنه قوله : فرغت من سبحتي ، أي من صلاتي وذلك لما في الصلاة من تسبيح الله تعالى وتعظيمه ؛ والمسبحون القائلون : سبحان الله على وجه التعظيم لله (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) ان هذه هي المخففة من الثقيلة ألا ترى ان اللام قد لزم خبرها والمعنى : وان هؤلاء الكفار يعني أهل مكة ـ كانوا يقولون (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً) أي كتابا (مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي من كتب الأولين التي أنزلها على أنبيائه وقيل : ذكرا أي علما من الأولين الذين تقدّمونا وما فعل الله بهم ، فسمّي العلم ذكرا لأن الذكر من أسباب العلم (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين يخلصون العبادة لله تعالى ؛ فجعلوا العذر في امتناعهم من الإيمان انهم لا يعرفون أخبار من تقدّمهم ، وهل حصلوا في جنة أو نار (فَكَفَرُوا بِهِ) في الكلام حذف تقديره فلما أتاهم الكتاب وهو القرآن كفروا به (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم ؛ وهذا تهديد لهم.

١٧١ ـ ١٨٢ ـ ثم أقسم سبحانه فقال (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) أي سبق الوعد منا لعبادنا الذين بعثناهم إلى الخلق (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) في الدنيا والآخرة على الأعداء بالقهر والغلبة ، وبالحجج الظاهرة. قال الحسن : المراد بالآية نصرتهم في الحرب فإنه لم يقتل نبيّ من الأنبياء قطّ في الحرب وإنما قتل من قتل منهم غيلة ، أو على وجه آخر في غير الحرب ، وإن مات نبيّ قبل النصرة أو قتل فقد اجرى الله تعالى العادة بأن ينصر قومه من بعده فيكون في نصرة قومه نصرة له ، فقد تحقق قوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أضاف المؤمنين إلى نفسه ووصفهم بأنهم جنده تشريفا وتنويها بذكرهم حيث قاموا بنصرة دينه. ثم قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي اعرض عن هؤلاء الكفار (حَتَّى حِينٍ) أي إلى وقت نأمركم فيه بقتالهم ، يعني يوم بدر (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي انظرهم وابصر ما ضيّعوا من أمر الله فسوف يرون العذاب ، عن ابن زيد ، وقيل : وأبصرهم إذا نزل بهم العذاب فسوف يبصرون ، وقيل : وابصر حالهم بقلبك فسوف يبصرون ذلك في القيامة معاينة وفي هذا اخبار بالغيب لأنه وعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بالنصر والظفر فوافق المخبر الخبر ؛ وكأنّهم قالوا : متى هذا العذاب؟ فأنزل الله (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) أي يطلبون تعجيل عذابنا

٦٠١

(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أي إذا نزل العذاب بأفنية دورهم كما يستعجلون (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فبئس الصباح صباح من خوف وحذر فلم يحذر ولم يخف والساحة : فناء الدار وفضاؤها الواسع ، فالمراد ان العذاب لعظمه لا يسعه إلا الساحة ذات الفضاء الواسع ، وقيل : نزل بساحتهم : أي بدارهم ، عن السدي ، وكانت العرب تفاجىء أعداءها بالغارات صباحا ، فخرج الكلام على عادتهم ، ولأن الله سبحانه أجرى العادة بتعذيب الأمم وقت الصباح كما قال : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) مضى تفسيره وإنما كرّر ما سبق للتأكيد ولأن المراد بأحدهما عذاب الدنيا ، وبالآخرة عذاب الآخرة ، أي فكن على بصيرة من أمرك فسوف يكونون على بصيرة من أمرهم حين لا ينفعهم ، ثم نزّه سبحانه نفسه عن وصفهم وبهتهم فقال (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزيها لربك مالك العزة يعزّ من يشاء من الأنبياء والأولياء ، لا يملك أحد اعزاز أحد سواه ، فسبحانه عما يصفونه مما لا يليق به من الصفات وهو قولهم باتخاذ الأولاد واتخاذ الشريك (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) أي سلامة وأمان لهم من أن ينصر عليهم أعداؤهم (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي احمدوا الله الذي هو مالك العالمين وخالقهم ، والمنعم عليهم ، واخلصوا له الثناء والحمد ، ولا تشركوا به أحدا ، فإن النعم كلها منه. وروى الاصبغ بن نباتة عن علي عليه‌السلام انه قال : من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

سورة ص

مكية وعدد آياتها ثمان وثمانون آية

١ ـ ٥ ـ (ص) اختلفوا في معناه فقيل : هو اسم للسورة وقيل غير ذلك على ما ذكرنا في أول البقرة ، وقال إبن عباس : هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم به ، وروي ذلك عن الصادق عليه‌السلام وقال الضحاك : معناه : صدق ، وقال قتادة : هو اسم من أسماء القرآن ، فعلى هذا يجوز أن يكون موضعه نصب ، على تقدير حذف حرف القسم ، ويجوز أن يكون رفعا على تقدير هذه صاد في مذهب من جعله اسما للسورة (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي ذي الشرف عن ابن عباس ، يوضحه قوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقيل معناه : ذي البيان الذي يؤدّي إلى الحق ، ويهدي إلى الرشد ، لأن فيه ذكر الأدلة التي إذا تفكّر فيها العاقل عرف الحق عقلا وشرعا وقيل ذي التذكر لكم عن قتادة ، وقيل فيه ذكر الله وتوحيده ، وأسماؤه الحسنى ، وصفاته العلى ، وذكر الأنبياء ، وأخبار الأمم ، وذكر البعث والنشور ، وذكر الأحكام ، وما يحتاج إليه المكلف من الأحكام عن الجبائي ويؤيّده قوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (فِي عِزَّةٍ) أي في تكبّر عن قبول الحق وحمية جاهلية ، عن قتادة ويدلّ عليه قوله : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) وقيل في ملكة واقتدار قوة بتمكين الله إياهم (وَشِقاقٍ) أي عداوة وعصيان ومخالفة لأنهم يأنفون عن متابعتك ، ويطلبون مخالفتك. ثم خوّفهم سبحانه فقال (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) بتكذيبهم الرسل (فَنادَوْا) عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي ليس الوقت حين منجى ولا فوت وقيل : لات حين نداء ينجي (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي جاءهم رسول من أنفسهم مخوّف من جهة الله تعالى يحذّرهم المعاصي ، وينذرهم النار (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) حين يزعم انه رسول الله (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) هذا استفهام انكار وتعجيب ، وذلك ان النّبيّ صلّى

٦٠٢

الله عليه وآله وسلم أبطل عبادة ما كانوا يعبدونه من الآلهة مع الله ، ودعاهم إلى عبادة الله وحده فتعجّبوا من ذلك وقالوا : كيف جعل لنا إلها واحدا بعد ما كنا نعبد آلهة؟! (إِنَّ هذا) الذي يقوله محمد من انّ الإله واحد (لَشَيْءٌ عُجابٌ) لأمر عجيب مفرط في العجب.

٦ ـ ١٠ ـ (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) هذا تمام الحكاية عن الكفار الذين تقدّم ذكرهم ، أي وانطلق الاشراف منهم (أَنِ امْشُوا) أي يقول بعضهم لبعض امشوا (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) يعني انهم خرجوا من مجلسهم وهم يقولون : اثبتوا على عبادة آلهتكم ، واصبروا على دينكم ، وتحمّلوا المشاق لأجله (إِنَّ هذا) الذي نراه من زيادة أصحاب محمد (لَشَيْءٌ يُرادُ) أي أمر يراد بنا. ثم حكى عنهم أيضا بأنهم قالوا (ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد وخلع الأنداد من دون الله (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) يعنون في النصرانية لأنها آخر الملل ، عن ابن عباس قال : ان النصارى لا يوحّدون لأنهم يقولون : ثالث ثلاثة (إِنْ هذا) أي ما هذا الذي يقول محمد (إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي تخرص وكذب وافتعال. ثم أنكروا تخصيص الله إياه بالقرآن والنبوة بأن قالوا (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) أي كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا وليس بأكبر سنا منّا ، ولا بأعظم شرفا. فقال سبحانه (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أي ليس يحملهم على هذا القول إلا الشك في الذكر الذي أنزلته على رسولي (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) وهذا تهديد لهم والمعنى : انهم سيذوقونه. ثم أجابهم عن انكارهم نبوته بقوله (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) يقول : أبأيديهم مفاتيح النبوة والرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟ أي انها ليست بأيديهم ولكنّها بيد (الْعَزِيزِ) في ملكه (الْوَهَّابِ) كثير الهبات والعطايا على حسب المصالح ، فيختار للنبوة من يشاء من عباده (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) فيتهيّأ لهم ان يمنعوا الله من مراده (فَلْيَرْتَقُوا) أي إن ادّعوا ذلك فليصعدوا (فِي الْأَسْبابِ) أي في أبواب السماء وطرقها ، أي فليحتالوا في أسباب توصلهم إلى السماوات ليأتوا بالوحي إلى من اختاروا.

١١ ـ ١٥ ـ ثم أخبر سبحانه عن الكفار إنهم سيهزمون ببدر فقال (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أخبر الله سبحانه نبيّه وهو بمكة انه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر ، أي هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند مهزومون مغلوبون من جملة الكفار الذين تحزّبوا على الأنبياء ، وأنت منصور عليهم مظفر غالب (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء الكفار (قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) قيل في معناه أقوال (أحدها) انه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها (والثاني) انه كان يعذب الناس بالأوتاد ، وذلك انه إذا غضب على احد وتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض (والثالث) ان معناه : ذو البنيان ، والبنيان أوتاد (والرابع) ان المعنى : ذو الجنود والجموع الكثيرة ، بمعنى انهم يشدون ملكه ، ويقوون أمره كما يقوّي الوتد الشيء (والخامس) إنما سمي ذو الأوتاد لكثرة جيوشه ، وكثرة أوتاد خيامهم ، فعبّر بكثرة الأوتاد عن كثرة الأجناد (وَثَمُودُ) يعني قوم صالح (وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) وهم قوم شعيب (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) لما ذكر سبحانه هؤلاء المكذّبين أعلمنا أنّ مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي كل حزب منهم كذّب الرسل (فَحَقَّ عِقابِ) أي فوجب عليهم عقابي بتكذيبهم رسلي (وَما يَنْظُرُ) أي وما ينتظر (هؤُلاءِ) يعني كفار مكة (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) وهي النفخة الأولى في الصور (ما لَها مِنْ فَواقٍ) أي لا يكون لتلك الصيحة افاقة بالرجوع إلى الدنيا ، والمراد انّ عقوبة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعذاب

٦٠٣

الإستئصال مؤخّرة إلى يوم القيامة ، وعقوبة سائر الأمم معجّلة في الدنيا كما قال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). ثم قيل لكل راحة وانظار للاستراحة فواق.

١٦ ـ ٢٠ ـ (وَقالُوا) يعني هؤلاء الكفار الذين وصفهم (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي قدّم لنا نصيبنا من العذاب (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) قالوه على وجه الاستهزاء بخبر الله عزوجل ، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقيل معناه : أرنا حظّنا من النعيم في الجنة حتى نؤمن ، عن السدي وسعيد بن جبير ، وقيل : لما نزل : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) ، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) قالت قريش : زعمت يا محمد أنّا نؤتى كتابنا بشمالنا فعجّل لنا كتبنا التي نقرؤها في الآخرة ، استهزاء منهم بالوعيد ، وتكذيبا به ، عن أبي العالية والكلبي ومقاتل ، فقال الله سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (اصْبِرْ) يا محمد ، أي احبس نفسك (عَلى ما يَقُولُونَ) من تكذيبك فإن وبال ذلك يعود عليهم (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) أي ذا القوة على العبادة ، وذكر انه يقوم نصف الليل ، ويصوم نصف الدهر ، كان يصوم يوما ويفطر يوما وذلك أشدّ الصوم ، وقيل : ذا القوّة على الأعداء وقهرهم ، وذلك أنّه رمى بحجر من مقلاعه صدر رجل فأنفذه من ظهره ، فأصاب آخر فقتله ، وقيل معناه : ذا التمكين العظيم ، والنعم العظيمة ، وذلك أنه يبيت كلّ ليلة حول محرابه ألوف كثيرة من الرجال (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي توّاب راجع عن كل ما يكره الله تعالى إلى كل ما يحب ، من آب يؤوب إذا رجع (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) لله إذا سبّح ، ويحتمل ان يكون الله سبحانه خلق في الجبال التسبيح (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أي بالرواح والصباح (وَالطَّيْرَ) أي وسخرنا الطير (مَحْشُورَةً) أي مجموعة إليه تسبّح الله تعالى معه (كُلٌ) يعني كل الطير والجبال (لَهُ أَوَّابٌ) رجّاع إلى ما يريد ، مطيع له بالتسبيح معه (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قوّينا ملكه بالحرس والجنود والهيبة ، وكثرة العدد والعدة (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) وهي النبوة (وَفَصْلَ الْخِطابِ) يعني الشهود والأيمان ، وأنّ البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر ، لأنّ خطاب الخصوم لا ينفصل ولا ينقطع إلّا بهذا ، وهو قول الأكثرين ، وقيل : هو العلم بالقضاء والفهم ، عن ابن مسعود والحسن ومقاتل وقتادة ؛ وقال البلخي : يجوز أن يكون المراد بتسبيح الجبال معه ما أعطاه الله تعالى من حسن الصوت بقراءة الزبور ، فكان إذا قرأ ردّت الجبال عليه مثله من الصدى ، فسمّى الله ذلك تسبيحا.

٢١ ـ ٢٥ ـ لمّا ذكر سبحانه انه آتى داود الحكمة وفصل الخطاب ، عقّبه بذكر من تخاصم إليه فقال (وَهَلْ أَتاكَ) يا محمد (نَبَأُ الْخَصْمِ) أي هل بلغك خبرهم؟ والمراد بالاستفهام هنا الترغيب في الاستماع ، والتنبيه على موضع اخلاله ببعض ما كان ينبغي ان يفعله (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) أي حين صعدوا إليه المحراب وأتوه من أعلى سوره وهو في مصلّاه (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) لدخولهم عليه في غير الوقت الذي يحضر فيه الخصوم ، من غير الباب الذي كان يدخل الخصوم منه ، ولأنهم دخلوا عليه بغير اذنه (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ) أي فقالوا لداود نحن خصمان (بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) فجئناك لتقضي بيننا وذلك قوله (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي دلّنا وأرشدنا إلى وسط الطريق الذي هو طريق الحق. ثم حكى سبحانه ما قاله أحد الخصمين لصاحبه بقوله (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) النعجة : هي الأنثى من الضأن والبقر الوحشية ، والشاة الجبلية (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي ضمّها إليّ واجعلني كافلها الذي يلزم نفسه القيام بها وحياطتها والمعنى : اعطنيها

٦٠٤

(وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) معناه : انه إذا تكلّم كان أبين منّي ، وان بطش كان أشدّ منّي ، وان دعا كان أكثر منّي (قالَ) داود (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) معناه : ان كان الأمر على ما تدّعيه لقد ظلمك بسؤاله إياك بضم نعجتك (إِلى نِعاجِهِ) فأضاف المصدر إلى المفعول به (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء المخالطين جمع الخليط (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) ثم استثنى من جملة الخلطاء الذين يبغي بعضهم على بعض الذين آمنوا فقال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي فإنهم لا يظلم بعضهم بعضا (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وقليل هم (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي وعلم داود انا اختبرناه وابتليناه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) أي سأل الله سبحانه المغفرة والستر عليه (وَخَرَّ راكِعاً) أي صلّى لله تعالى (وَأَنابَ) إليه ، قال الحسن : إنما قال : (وَخَرَّ راكِعاً) لأنه لا يصير ساجدا حتى يركع (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي قربى وكرامة (وَحُسْنَ مَآبٍ) في الجنة. واستغفار داود عليه‌السلام حصل منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى ، والخضوع له ، والتذلل بالعبادة والسجود كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه‌السلام بقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) ، وأما قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) فالمعنى : انا قبلناه منه وأثبناه عليه ، فأخرجه على لفظ الجزاء مثل قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) ، وقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ؛ فلما كان المقصود من الاستغفار والتوبة القبول قيل في جوابه : غفرنا ، وهذا قول من ينزه الأنبياء عن جميع الذنوب من الامامية وغيرهم.

٢٦ ـ ٢٩ ـ ثم ذكر سبحانه اتمام نعمته على داود عليه‌السلام (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي صيّرناك خليفة تدبر أمور العباد من قبلنا بأمرنا. وقيل معناه : جعلناك خلف من مضى من الأنبياء في الدعاء إلى توحيد الله تعالى وعدله ، وبيان شرائعه ، عن أبي مسلم (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي افصل أمورهم بالحق ، وضع كل شيء موضعه (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي ما يميل طبعك إليه ، ويدعو هواك إليه إذا كان مخالفا للحق (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) معناه : انك إذا اتبعت الهوى عدل الهوى بك عن سبيل الحق الذي هو سبيل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يعدلون عن العمل بما أمرهم الله (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي لهم عذاب شديد يوم الحساب بتركهم طاعات الله في الدنيا ، عن عكرمة والسدي ، ويكون على هذا يتعلق يوم الحساب بعذاب شديد ، وقيل معناه : لهم عذاب شديد باعراضهم عن ذكر يوم القيامة ، فيكون يوم متعلقا بنسوا (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) لا غرض فيه حكمي بل خلقناهما لغرض حكمي وهو ما في ذلك من اظهار الحكمة ، وتعريض أنواع الحيوان للمنافع الجليلة ، وتعريض العقلاء منهم للثواب العظيم وهذا ينافي قول أهل الجبر ان كل باطل وضلال فهو من فعل الله (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وجحدوا حكمته (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ظاهر المعنى. ثم قال سبحانه على وجه التوبيخ للكفار على وجه الاستفهام (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا) معناه : بل انجعل الذين صدقوا الله ورسله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) والطاعات (كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) العاملين بالمعاصي (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أي بل أنجعل المتقين الذين اتقوا المعاصي لله خوفا من عقابه كالفجار الذين عملوا بالمعاصي وتركوا الطاعات؟ أي ان هذا لا يكون أبدا. ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) أي هذا القرآن كتاب منزل إليك مبارك ، أي كثير نفعه وخيره ، فإن في التدبر به يستبين الناس ما انعم الله عليهم (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) أي ليتفكّر الناس ويتّعظوا بمواعظه (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أولو العقول فهم المخاطبون به.

٦٠٥

٣٠ ـ ٤٠ ـ ثم عطف سبحانه على قصة داود عليه‌السلام حديث سليمان فقال : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) أي وهبناه له ولدا (نِعْمَ الْعَبْدُ) أي نعم العبد سليمان (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجاع إلى الله تعالى في أمور دينه ابتغاء مرضاته (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ) يجوز أن يتعلّق إذ بنعم العبد ، أي نعم العبد هو حين عرض عليه ، ويجوز أن يتعلّق با ذكر يا محمد المحذوف لدلالة الكلام عليه (بِالْعَشِيِ) أي في آخر النهار بعد زوال الشمس (الصَّافِناتُ) الخيل الواقفة على ثلاث قوائم ، الواضعة طرف السنبك الرابع على الأرض (الْجِيادُ) السريعة المشي ، الواسعة الخطو. قال الكلبي : غزا سليمان دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) والمراد بالخير الخيل هنا فإن العرب تسمي الخيل الخير ، فالمعنى : آثرت حب الخيل عن ذكر ربي ، أي على ذكر ربي. قال الفراء : كل من أحب شيئا فقد آثره ؛ وقال الجبائي : لم يفته الفرض وإنما فاته نفل كان يفعله آخر النهار لاشتغاله بالخيل (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي غربت الشمس (رُدُّوها عَلَيَ) أي قال لأصحابه : ردّوا الخيل عليّ عن أكثر المفسرين (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) والمعنى : أنه أقبل يضرب سوقها وأعناقها لأنها كانت سبب فوت صلاته ، وإنما فعل ذلك لأنها كانت أعزّ ماله فتقرّب إلى الله تعالى بأن ذبحها ليتصدّق بلحومها ، ويشهد بصحته قوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي اختبرناه وابتليناه وشددنا المحنة عليه (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) أي وطرحنا عليه جسدا ، والجسد : الذي لا روح فيه (ثُمَّ أَنابَ) روي أن الجن والشياطين لما ولد لسليمان ابن قال بعضهم لبعض : ان عاش له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من البلاء ، فأشفق منهم عليه فاسترضعه في المزن وهو السحاب ، فلم يشعر إلّا وقد وضع على كرسيه ميتا ، تنبيها على أن الحذر لا ينفع عن القدر ، فإنما عوتب على خوفه من الشياطين. ثم حكى سبحانه دعاء سليمان حين أناب إلى الله تعالى بقوله : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ان الأنبياء لا يسألون إلا ما يؤذن لهم في مسألته ، وجائز أن يكون الله تعالى أعلم سليمان أنه ان سأل ملكا لا يكون لغيره كان أصلح له في الدين ، وأعلمه أنه لا صلاح لغيره في ذلك. ثم بيّن سبحانه أنه أجاب دعاه بقوله (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) أي طيبة سريعة تجري إلى حيث يشاء (حَيْثُ أَصابَ) أي حيث أراد سليمان من النواحي عن أكثر المفسرين ، قال الحسن : كان يغدو من إيليا ، ويقيل بقزوين ، ويبيت بكابل (وَالشَّياطِينَ) أي وسخّرنا له الشياطين أيضا (كُلَّ بَنَّاءٍ) في البرّ يبني له ما أراد من الأبنية الرفيعة (وَغَوَّاصٍ) في البحر على اللآلىء والجواهر فيستخرج له ما يشاء منها (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي وسخّرنا له آخرين من الشياطين مشدودين في الأغلال والسلاسل من الحديد ، وكان يجمع بين أثنين وثلاثة منهم في سلسلة لا يمتنعون عليه إذا أراد ذلك بهم عند تمردهم (هذا عَطاؤُنا) أي هذا الذي تقدّم ذكره من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك عطاؤنا (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) أي فاعط من الناس من شئت ، وامنع من شئت والمنّ : الإحسان إلى من لا يستثيبه (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي لا تحاسب يوم القيامة على من تعطي وتمنع فيكون أهنأ لك (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) معناه : وإن لسليمان عندنا لقربى وحسن مرجع في الآخرة.

٤١ ـ ٤٤ ـ (وَاذْكُرْ) يا محمد (عَبْدَنا أَيُّوبَ) شرّفه الله سبحانه بأنه أضافه إلى نفسه ، واقتد به في الصبر على الشدائد (إِذْ نادى رَبَّهُ) أي حين دعا ربّه رافعا صوته يقول : يا رب

٦٠٦

(أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي بتعب ومكروه ومشقة. فأجاب الله دعاءه وقال له (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) أي ادفع برجلك الأرض (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) نبعت عينان ، فاغتسل من أحدهما فبرىء ، وشرب من الاخرى فروي (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) هذا مفسّر في سورة الأنبياء ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أن الله تعالى أحيا له أهله الذين كانوا ماتوا قبل البلية ، وأحيا له أهله الذين ماتوا وهو في البلية (رَحْمَةً مِنَّا) أي فعلنا ذلك به لرحمتنا إياه (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ليتذكّر ويعتبر به ذوو الألباب : أي العقول ، ويعرفوا حسن عاقبة الصبر فيصبروا كما صبر ؛ قالوا : انه أطعم جميع أهل قريته سبعة أيام ، وأمرهم بأن يحمدوا الله ويشكروه (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) وهو ملء الكف من الشماريخ وما أشبه ذلك ، أي وقلنا له ذلك ، وذلك أنه حلف على امرأته لأمر أنكره من قولها لئن عوفي ليضربنها مائة جلدة فقيل له : خذ ضغثا بعدد ما حلفت به (فَاضْرِبْ بِهِ) أي واضربها به دفعة واحدة فإنك إذا فعلت ذلك برت يمينك (وَلا تَحْنَثْ) في يمينك ، نهاه عن الحنث. وروي عن ابن عباس أنه قال : كان السبب في ذلك أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب عليه‌السلام فقال : اداويه على انه إذا برىء قال : أنت شفيتني ، لا أريد جزاء سواه قالت : نعم ، فأشارت إلى أيوب بذلك فحلف ليضربنّها. ثم أخبر سبحانه عن حال أيوب وعظم منزلته فقال : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) على البلاء الذي ابتليناه به (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع إلى الله ، منقطع إليه.

٤٥ ـ ٥٤ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدّم حديث الأنبياء فقال : (وَاذْكُرْ) يا محمد لقومك وأمتك (عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ليقتدوا بهم في حميد أفعالهم ، وكريم خلالهم ، فيستحقّوا بذلك حسن الثناء في الدنيا ، وجزيل الثواب في العقبى كما استحق أولئك (أُولِي الْأَيْدِي) أي ذوي القوة على العبادة (وَالْأَبْصارِ) الفقه في الدين ، ومعناه : أولي العلم والعمل ، فالأيدي : العمل ، والأبصار : العلم (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أي جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار. والخالصة : بمعنى الخلوص ، والذكرى : بمعنى التذكير ، أي خلص لهم تذكير الدار ، وهو أنهم كانوا يتذكرونها بالتأهب لها ، ويزهدون في الدنيا كما هو عادة الأنبياء (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا) وبحسب ما سبق في عملنا (لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) للنبوة ، وتحمل أعباء الرسالة (الْأَخْيارِ) جمع خير ، وهو الذي يفعل الأفعال الكثيرة الحسنة (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) أي اذكر لأمتك هؤلاء أيضا ليقتدوا بهم ، ويسلكوا طريقتهم وقد تقدّم ذكرهم (وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) قد اختارهم الله للنبوة (هذا ذِكْرٌ) أي شرف لهم وذكر جميل ، وثناء حسن يذكرون به في الدنيا أبدا (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) أي حسن مرجع ومنقلب يرجعون في الآخرة إلى ثواب الله ومرضاته ؛ ثم فسّر حسن المآب بقوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي جنات إقامة وخلود (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أي يجدون أبوابها مفتوحة حين يردونها ، ولا يحتاجون إلى الوقوف عند أبوابها حتى تفتح (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي مستندين فيها إلى المساند ، جالسين جلسة الملوك (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) أي يتحكمون في ثمارها وشرابها فإذا قالوا لشيء منها أقبل : حصل عندهم (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي وعندهم في هذه الجنان أزواج قصرن طرفهن على أزواجهن ، راضيات بهم ، ما لهنّ في غيرهم رغبة (أَتْرابٌ) أي أقران على سنّ واحد ليس فيهن عجوز ولا هرمة ، أي متساويات في الحسن ومقادر الشباب (هذا) يعني ما ذكر فيما تقدّم (ما تُوعَدُونَ) أي يوعد به المتقون أو يخاطبون فيقال لهم هذا القول (لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي ليوم الجزاء (إِنَّ هذا)

٦٠٧

الذي ذكرنا (لَرِزْقُنا) أي عطاؤنا الجاري المتصل (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي فناء وانقطاع لأنه على سبيل الدوام.

٥٥ ـ ٦١ ـ لما بيّن سبحانه أحوال أهل الجنة وما أعدّ لهم من جزيل الثواب ، عقّبه ببيان أحوال أهل النار وما لهم من أليم العذاب فقال : (هذا) أي ما ذكرناه للمتقين ، ثم ابتدأ فقال (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) الذين طغوا على الله وكذّبوا رسله (لَشَرَّ مَآبٍ) وهو ضدّ مآب المتقين ، ثم فسرّ ذلك فقال (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها فيصيرون صلاء لها (فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي فبئس المسكن (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي هذا حميم وغساق فليذوقوه ، والحميم : الماء الحار ، والغساق : البارد الزمهرير ، فيكون المعنى : انهم يعذّبون بحار الشراب الذي انتهت حرارته ، وببارد الذي انتهت برودته ، فببرده يحرق كما يحرق النار وقيل : إن الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذات حمة من حية وعقرب ، وقيل : هو القيح الذي يسيل منهم يجمع ويسقونه وقيل : هو عذاب لا يعلمه إلا الله (وَآخَرُ) أي وضروب أخر (مِنْ شَكْلِهِ) أي من شكل هذا العذاب وجنسه (أَزْواجٌ) ألوان وأنواع متشابهة في الشدة لا نوع واحد (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) أي يقال لهم : هذا فوج ، وهم قادة الضلالة إذا دخلوا النار ، ثم يدخل الأتباع فيقول الخزنة للقادة : هذا فوج ، أي قطع من الناس وهم الأتباع مقتحم معكم في النار ، دخلوها كما دخلتم وقيل ، يعني بالأول أولاد إبليس ، وبالفوج الثاني بني آدم ، يقال لبني إبليس : هذا جمع من بني آدم مقتحم معكم النار (لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي لا اتسعت لهم أماكنهم لأنهم لازموا النار فيكون المعنى : ان القادة والرؤساء يقولون للأتباع : لا مرحبا بهؤلاء انهم يدخلون النار مثلنا ، فلا فرج لنا في مشاركتهم إيانا ، فيقول الأتباع لهم (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي لا نلتم رحبا وسعة (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي حملتمونا على الكفر الذي أوجب لنا هذا العذاب ، ودعوتمونا إليه. روي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أن النار تضيق عليهم كضيق الزج بالرمح (فَبِئْسَ الْقَرارُ) الذي استقررنا عليه (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) أي يدعون عليهم بهذا إذا حصلوا في نار جهنم ، أي من سبّب لنا هذا العذاب ودعانا إلى ما استوجبنا به ذلك (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً) أي مثلا مضاعفا إلى مثل ما يستحقه (فِي النَّارِ) أحد الضعفين لكفرهم بالله ، والضعف الآخر لدعائهم إيانا إلى الكفر.

٦٢ ـ ٧٠ ـ ثم حكى سبحانه عن أهل النار أيضا بقوله : (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) أي يقولون ذلك حين ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم فيها معهم وهم المؤمنون (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) معناه : أنهم يقولون لما لم يروهم في النار : اتخذناهم هزؤا في الدنيا فأخطأنا ، أم عدلت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم معنا في النار (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌ) أي ان ما ذكر قبل هذا لحق ، أي كائن لا محالة. ثم بيّن ما هو فقال : (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) يعني تخاصم الاتباع والقادة ، أو مجادلة أهل النار بعضهم لبعض على ما أخبر عنهم. ثم خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (قُلْ) يا محمد (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي مخوّف من معاصي الله ، ومحذّر من عقابه (وَما مِنْ إِلهٍ) يحقّ له العبادة (إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) لجميع خلقه ، المتعالي بسعة مقدوراته ، فلا يقدر أحد الخلاص من عقوبته إذا أراد عقابه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) من الإنس والجن وكل خلق (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه شيء ، ولا يمتنع منه شيء (الْغَفَّارُ) لذنوب عباده مع قدرته على عقابهم (قُلْ) يا محمد (هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) يعني القرآن ، هو حديث عظيم لأنه كلام الله المعجز ، ولأن فيه أنباء الأولين (أَنْتُمْ عَنْهُ) أي عن

٦٠٨

تدبّره والعمل به (مُعْرِضُونَ) عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وقيل : خبر القيامة خبر عظيم أنتم عنه معرضون : أي عن الاستعداد لها غافلون وبها مكذّبون ، عن الحسن وقيل معناه : النبأ الذي أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم ، عن الزجاج ، يعني ما أنبأهم به من قصص الأولين أنهم عنه معرضون لا يتفكرون فيه فيعلموا صدقي في نبوتي قال ويدل على صحة هذا المعنى قوله (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) يعني الملائكة (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يعني ما ذكر من قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) إلى آخر القصة وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي أي فما علمت ما كانوا فيه إلّا بوحي من الله تعالى. وروى ابن عباس عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قال لي ربّي أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت : لا قال : اختصموا في الكفارات والدرجات ، فأما الكفارات : فإسباغ الوضوء في السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ؛ وأمّا الدرجات فإفشاء السّلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة ؛ بالليل والناس نيام (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) معناه : ما كان لي من علم باختصام الملائكة فيما ذكرنا لو لا أن الله تعالى أخبرني به لم يمكنني إخباركم ولكن ما يوحى إليّ إلا الإنذار البيّن الواضح وقيل معناه ليس يوحى إليّ إلا أنّي نذير مبين مخوّف مظهر للحق.

٧١ ـ ٨٣ ـ ثم دلّ سبحانه على ان اختصام الملائكة كان في أمر آدم عليه‌السلام بقوله (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) فالظاهر ان إذ يتعلق بقوله يختصمون وإن اعترض بينهما كلام (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) يعني آدم (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي فإذا سوّيت خلق هذا البشر ، وتمّمت أعضاءه وصورته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي أحييته وجعلت فيه الروح ؛ وأضاف الروح إلى نفسه تشريفا له ومعنى نفخت فيه : أي توليت فعله من غير سبب وواسطة كالولادة المؤدّية إلى ذلك ، فإن الله شرّف آدم وكرّمه بهذه الحالة (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي فاسجدوا له أجمعين في الكلام حذف والتقدير ثم أن الله تعالى خلق ذلك البشر الذي وعدهم بخلقه (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) مفسّر في سورة البقرة (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) هذا سؤال توبيخ وتعريف للملائكة أنه لا عذر له في الامتناع عن السجود ومعنى قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، تولّيت خلقه بنفسي من غير واسطة عن الجبائي ، ومثله مما عملت أيدينا ، وذكر اليدين لتحقيق الإضافة لخلقه إلى نفسه وهو قول مجاهد ومثله قوله (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أي ربّك وقيل : معناه : خلقته بقدرتي ، عن أبي مسلم وغيره ، والعرب كما تطلق لفظ اليد للقدرة والقوة فقد تطلق لفظة اليدين ، قال عروة بن حزام :

فإن تحملي ودّي وودّك تفدحي

وما لك بالحمل الثقيل يدان

(أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) أي أرفعت نفسك فوق قدرك ، وتعظّمت عن امتثال أمري أم كنت من الذين تعلو أقدارهم عن السجود فتعاليت عنه (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فضّل النار على الطين (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي طريد مبعد (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ) إبليس عند ذلك (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي أخّرني إلى يوم يحشرون للحساب وهو يوم القيامة (قالَ) الله تعالى له (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي المؤخرين (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وقد فسّرنا جميع ذلك فيما تقدّم (قالَ) إبليس (فَبِعِزَّتِكَ) أي أقسم بقدرتك التي تقهر بها جميع خلقك (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) يعني بني آدم كلهم (أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أي أدعوهم إلى الغيّ وأزيّن لهم القبائح ، إلّا عبادك الذين

٦٠٩

استخلصتهم وآثرتهم وعصمتهم فلا سبيل لي عليهم.

٨٤ ـ ٨٨ ـ ثم حكى سبحانه ما أجاب به إبليس وأنه (قالَ) له (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) أي حقا لأملأن والحق قول اعترض بين القسم والمقسم عليه ، وجاز ذلك لأنه مما يؤكّد القصة كما قال الشاعر :

أراني ولا كفران لله آية

لنفسي لقد طالبت غير منيل

فاعترض بقوله : ولا كفران لله بين المفعول الأول والثاني ، ومن رفع فعلى معنى فأنا الحق ، أو الحق مني ، وأقول الحق (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) وقبل قولك (مِنْهُمْ) أي من بني آدم (أَجْمَعِينَ) ثم خاطب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (قُلْ) يا محمد لكفار مكة (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على تبليغ الوحي والقرآن والدعاء إلى الله سبحانه (مِنْ أَجْرٍ) أي مال تعطونيه (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) لهذا القرآن من تلقاء نفسي ، وقيل معناه : اني ما أتيتكم رسولا من قبل نفسي ، ولم أتكلف هذا الإتيان ، بل أمرت به ، وقيل معناه : لست ممن يتعسّف في طلب الأمر الذي لا يقتضيه العقل ؛ وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : يا أيّها الناس من علم شيئا فليقل ، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم ، فإن الله تعالى قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما القرآن إلّا موعظة للخلق أجمعين وقيل : ما القرآن إلا شرف لمن آمن به (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) أي ولتعلمن يا كفار مكة خبر صدقه بعد الموت ، عن ابن عباس وقتادة وقيل : بعد يوم بدر عن السدي وقيل : من عاش علم ذلك إذا ظهر أمره وعلا دينه ، ومن مات علمه بعد الموت ، عن الكلبي.

سورة الزمر

مكية وعدد آياتها خمس وسبعون آية

ختم الله سبحانه سورة ص بذكر القرآن وافتتح هذه السورة أيضا به.

١ ـ ٥ ـ عظّم الله سبحانه أمر القرآن ، وحثّ المكلفين على القيام بما فيه ، واتباع أوامره ونواهيه بأن قال (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) المتعال عن المثل والشبه (الْحَكِيمِ) في أفعاله وأقواله ؛ فوصف هنا نفسه بالعزة تحذيرا من مخالفة كتابه ، وبالحكمة اعلاما بأنه يحفظه حتى يصل إلى المكلفين من غير تغيير لشيء منه (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي لم ننزله باطلا بغير غرض ، وقيل معناه : بالأمر الحق أي بالدين الصحيح (فَاعْبُدِ اللهَ) أي توجّه بعبادتك إلى الله وحده (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) من شرك الأوثان والأصنام ، والإخلاص أن يقصد العبد بنيته وعمله إلى خالقه لا يجعل ذلك لغرض الدنيا (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) والخالص : هو الذي لا يشوبه الرياء والسمعة ، ولا وجه من وجوه الدنيا ، والدين الخالص الإسلام ، عن الحسن وقيل : هو شهادة أن لا إله إلا الله عن قتادة وقيل معناه : ألا لله الطاعة بالعبادة التي يستحق بها الجزاء ، فهذا لله وحده لا يجوز أن يكون لغيره وقيل : هو الاعتقاد الواجب في التوحيد والعدل والنبوة والشرائع ، والإقرار بها ، والعمل بموجبها ، والبراءة من كل دين سواها ، فهذا تفصيل قول الحسن انه الإسلام (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي زعموا أن لهم من دون الله مالكا يملكهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي ليشفعوا لنا إلى الله والزلفى : القربى وهو اسم أقيم مقام المصدر (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) يوم القيامة (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمور الدين ،

٦١٠

فيعاقب كلّا منهم على قدر استحقاقه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) إلى طريق الجنة أو لا يحكم بهدايته إلى الحق (مَنْ هُوَ كاذِبٌ) على الله وعلى رسوله (كَفَّارٌ) بما أنعم الله عليه ، جاحد لإخلاص العبادة لله ، ولم يرد به الهداية إلى الإيمان لقوله سبحانه وأما ثمود فهديناهم (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) على ما يقوله هؤلاء من ان الملائكة بنات الله ، أو ما يقوله النصارى من ان المسيح ابن الله ، أو اليهود ان عزيرا ابن الله (لَاصْطَفى) أي لاختار (مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي ما كان يتخذ الولد باختيارهم حتى يضيفوا إليه من شاءوا ، بل كان يختص من خلقه ما يشاء لذلك لأنه غير ممنوع من مراده ومثله قوله (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) ، ثم أخبر سبحانه أنه منزّه عن اتخاذ الأولاد بقوله (سُبْحانَهُ) أي تنزيها له عن ذلك (هُوَ اللهُ الْواحِدُ) لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد (الْقَهَّارُ) لخلقه بالموت وهو حيّ لا يموت. ثم نبّه سبحانه على كمال قدرته فقال (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي لم يخلقهما باطلا لغير غرض ، بل خلقهما للغرض الحكمي (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يدخل كل واحد منهما على صاحبه بالزيادة والنقصان ، فما يزيد في أحدهما ينقص من الآخر عن الحسن وجماعة من المفسرين وقيل : يغشى هذا هذا كما قال : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) ، (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) ، عن قتادة (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بأن أجراهما على وتيرة واحدة (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى مدة قدّرها الله لهما أن يجريا إليها وقيل : إلى قيام الساعة ، وقيل : لأجل مسمى : أي لوقت معلوم ، في الشتاء والصيف ، هو المطلع والمغرب لكل واحد منهما (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) مرّ معناه وفائدة الآية أن من قدر على خلق السماوات والأرض ، وتسخير الشمس والقمر ، وإدخال الليل في النهار ، فهو منزّه عن اتخاذ الولد والشريك ، فإن ذلك من صفة المحتاجين.

٦ ـ ١٠ ـ ثم أبان سبحانه عن كمال قدرته بخلق آدم وذريته فقال : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم عليه‌السلام لأن جميع البشر من نسله (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) يعني حواء ، أي من فضل طينته (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) المعنى : جعلها نزلا ورزقا لكم. ويعني بالأزواج الثمانية من الأنعام : الإبل والبقر والغنم والضأن والمعز ، من كل صنف اثنان هما زوجان ، وهو مفسّر في سورة الأنعام (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ، ثم يكسو العظام لحما ، ثم ينشىء خلقا آخر عن قتادة ومجاهد والسدي وقيل : خلقا في بطون الأمهات بعد الخلق في ظهر آدم (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة وقيل : ظلمة الليل أو ظلمة صلب الرجل وظلمة الرحم وظلمة البطن. ثم خاطب سبحانه خلقه فقال (ذلِكُمُ اللهُ) الذي خلق هذه الأشياء (رَبُّكُمْ) الذي يملك التصرف فيكم (لَهُ الْمُلْكُ) على جميع المخلوقات (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن طريق الحق بعد هذا البيان مثل قوله : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (إِنْ تَكْفُرُوا) ان تجحدوا نعمة الله تعالى ولم تشكروه (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) وعن شكركم : فلا يضرّه كفركم (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) وفي هذا أوضح دلالة على انه سبحانه لا يريد الكفر الواقع من العباد ، لأنه لو أراده لوجب متى وقع أن يكون راضيا به لعبده لأن الرضا بالفعل ليس إلا ما ذكرناه ، ألا ترى أنه يستحيل أن نريد من غيرنا شيئا ويقع منه على ما نريده فلا نكون راضين به أو أن نرضى شيئا ولم نرده البتة (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) أي وان تشكروا الله تعالى على نعمه ، وتعترفوا بها يرضه لكم ، ويرده منكم ، ويثبكم عليه والهاء في يرضه كناية عن المصدر الذي دلّ عليه وان تشكروا والتقدير يرضى الشكر لكم كقولهم من كذب كان

٦١١

شرّا له أي كان الكذب شرّا له (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى والمعنى : لا يؤاخذ بالذنب إلا من يرتكبه ويفعله (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي مصيركم (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يخبركم بما عملتموه ويجازيكم بحسب ذلك (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا يخفى عليه سرّ وعلانية (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) من شدة ومرض وقحط وغير ذلك (دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) أي راجعا إليه وحده لا يرجو سواه (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أي أعطاه (نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى أن يكشفه من قبل نيل هذه النعمة قال الزجاج : معناه : نسي الدعاء الذي كان يتضرع به إلى الله عزوجل من قبل ، وجائز أن يكون المعنى نسي الله الذي كان يتضرع إليه من قبل (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) أي سمّى له أمثالا في توجيه عبادته إليها من الأصنام والأوثان (لِيُضِلَ) الناس (عَنْ سَبِيلِهِ) أي عن دينه ، أو يضلّ هو عن الدين ، واللام لام العاقبة ، وذلك انهم لم يفعلوا ما فعلوه وغرضهم ذلك ، لكن عاقبتهم كانت إليه (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) هذا أمر معناه : الخبر كقوله : إذا لم تستح فاصنع ما شئت والمعنى : ان مدة تمتعه في الدنيا بكفره قليلة زائلة (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) تعذّب فيها دائما (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) أي أهذا الذي ذكرناه خير أم من هو دائم على الطاعة ، عن ابن عباس والسدي وقيل : على قراءة القرآن وقيام الليل عن ابن عمر وقيل : يعني صلاة الليل عن أبي جعفر عليه‌السلام (آناءَ اللَّيْلِ) أي ساعات الليل (ساجِداً وَقائِماً) يسجد تارة في الصلاة ويقوم أخرى (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) أي عذاب الآخرة (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي يتردّد بين الخوف والرجاء ، أي ليسا سواء ؛ وهو قوله (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يستوي الذين يعلمون ما وعد الله من الثواب والعقاب والذين لا يعلمون ذلك (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يتعظ ذوو العقول من المؤمنين ؛ وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال نحن الذين يعلمون ، وعدوّنا الذين لا يعلمون ، وشيعتنا أولو الألباب (قُلْ) يا محمد لهم (يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا بتوحيد الله تعالى (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أي عقاب ربكم باجتناب معاصيه (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي فعلوا الأعمال الحسنة وأحسنوا إلى غيرهم (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي لهم على ذلك في هذه الدنيا حسنة ، أي ثناء حسن ، وذكر جميل ، ومدح وشكر ، وصحة وسلامة (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) هذا حثّ لهم على الهجرة من مكة ، أي لا عذر لأحد في ترك طاعة الله ، فإن لم يتمكن منها في أرض فليتحوّل إلى أخرى يتمكن منها فيها كقوله : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ) أي ثوابهم على طاعاتهم ، وصبرهم على شدائد الدنيا (بِغَيْرِ حِسابٍ) لكثرته لا يمكن عدّه وحسابه ، وروى العياشي بالإسناد عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا نشرت الدواوين ، ونصبت الموازين ، لم ينصب لأهل البلاء ميزان ، ولم ينشر لهم ديوان ، ثم تلا هذه الآية : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

١١ ـ ٢٠ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار الذين تقدّم ذكرهم (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي موحّدا له لا أعبد معه سواه ؛ والعبادة الخالصة هي التي لا يشوبها شيء من المعاصي (وَأُمِرْتُ) أيضا (لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) فيكون لي فضل السبق وثوابه (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي عذاب يوم القيامة (قُلِ) لهم (اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) وطاعتي (فَاعْبُدُوا) أنتم معاشر الكفار

٦١٢

(ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) من الأصنام ؛ وهذا على وجه التهديد لهم بذلك (قُلْ) لهم (إِنَّ الْخاسِرِينَ) في الحقيقة هم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فلا ينتفعون بأنفسهم ، ولا يجدون في النار أهلا كما كان لهم في الدنيا أهل ، فقد فاتتهم المنفعة بأنفسهم وأهليهم عن مجاهد وابن زيد وقيل : خسروا أنفسهم بأن قذفوها بين أطباق الجحيم ، وخسروا أهليهم الذين أعدّوا لهم في جنة النعيم عن الحسن : قال ابن عباس : ان الله تعالى جعل لكل إنسان في الجنة منزلا وأهلا ، فمن عمل بطاعته كان له ذلك ، ومن عصاه صار إلى النار ، ودفع منزله وأهله إلى من أطاع فذلك قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي البيّن الظاهر الذي لا يخفى (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) أي سرادقات وأطباق من النار ودخانها. نعوذ بالله منها (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي فرش ومهد ، وقيل : إنما سمي ما تحتهم من النار ظللا لأنها ظلل من تحتهم إذ النار أدراك وهم بين أطباقها وقيل : إنما أجرى اسم الظل على قطع النار على سبيل التوسع والمجاز لأنها في مقابلة ما لأهل الجنة من الظلل والمراد : أن النار تحيط بجوانبهم (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) أي ذلك الذي وصف من العذاب يخوّف الله به عباده رحمة لهم ليتّقوا عذابه بامتثال أوامره ؛ ثم أمرهم بالاتقاء فقال : (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) فقد أنذرتكم وألزمتكم الحجة (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) أي الأوثان والشيطان وقيل : كل من دعا إلى عبادة غير الله تعالى (أَنْ يَعْبُدُوها) أي اجتنبوا عبادتها (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) أي تابوا إليه فأقلعوا عما كانوا عليه (لَهُمُ الْبُشْرى) أي البشارة وهي الإعلام بما يظهر به السرور في بشرة وجوههم جزاء على ذلك. وروى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أنتم هم ؛ ومن أطاع جبارا فقد عبده ، ثم قال سبحانه مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَبَشِّرْ) يا محمد (عِبادِ) اجتزأ بالكسرة عن الياء (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي أولاه بالقبول والعمل به ، وأرشده إلى الحق وقيل : فيتبعون أحسن ما يؤمرون به ويعملون به ، عن السدي ، وقيل معناه : يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن عن الزجاج وقيل : يستمعون ما في القرآن والسنة من الطاعات والمباحات ، فيتبعون الطاعة التي هي أحسن إذ يستحق الثواب عليه أكثر ، وهو أن يأخذ بأفضل الأمرين كما ان القصاص حق والعفو أفضل ، فيأخذون بالعفو (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) أي هؤلاء الذين هذه صفتهم هم الذين هداهم الله فاهتدوا به إلى الحق (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول الذين انتفعوا بعقولهم وقال عبد الرحمن بن زيد : نزل قوله (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) الآيتين في ثلاثة نفر كانوا يقولون في الجاهلية لا إله إلا الله زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) معناه : أفمن وجب عليه وعيد الله بالعقاب أفأنت تخلصه من النار؟ وإنما قال ذلك للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحرصه على اسلام المشركين والمعنى : انك لا تقدر على ادخال الإسلام في قلوبهم شاءوا أم أبوا ، فلا عليك إذا لم لم يؤمنوا فإنما أتوا ذلك من قبل نفوسهم ، وهذا كقوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) الآية. ثم بيّن سبحانه ما أعدّه للمؤمنين كما بيّن ما أعدّه للكفار فقال : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ) أي قصور في الجنة (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) قصور (مَبْنِيَّةٌ) وهذا في مقابلة قوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) ، فإنّ في الجنة منازل رفيعة بعضها فوق بعض ، وذلك ان النظر من الغرف إلى الخضر والمياه أشهى وألذّ (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت الغرف (وَعْدَ اللهِ) أي وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعدا (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ).

٦١٣

٢١ ـ ٢٥ ـ لمّا قدّم سبحانه ذكر الدعاء إلى التوحيد عقّبه بذكر دلائل التوحيد فقال يخاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان المراد جميع المكلفين (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (فَسَلَكَهُ) أي فأدخل ذلك الماء (يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) مثل العيون والأنهار والقني والآبار ونظيره قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ) أي بذلك الماء من الأرض (زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي مختلف الألوان من أخضر وأصفر وأبيض وأحمر (ثُمَّ يَهِيجُ) أي يجف وييبس (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) بعد خضرته (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) أي رفاتا منكسرا متفتّتا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) معناه : إن في إخراج هذه الزروع الوانا مختلفة بماء واحد ، ونقلها من حال إلى حال لتذكيرا لذوي العقول السليمة إذا تفكّروا في ذلك عرفوا الصانع المحدث ، وعلموا صحة الابتداء والبعث والإعادة (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أي فسح صدره ، ووسّع قلبه لقبول الإسلام والثبات عليه (فَهُوَ عَلى نُورٍ) أي على دلالة وهدى (مِنْ رَبِّهِ) شبّه الأدلة بالنور لأن بها يعرف الحق كما بالنور تعرف أمور الدنيا (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) وهم الذين ألفوا الكفر وتعصبوا له ، وتصلبت قلوبهم حتى لا ينجع فيها وعظ ولا ترغيب ولا ترهيب ، ولا ترقّ عند ذكر الله وقراءة القرآن (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ) أي عدول عن الحق (مُبِينٍ) أي ظاهر واضح (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) يعني القرآن ، سمّاه الله حديثا لأنه كلام الله ، والكلام سمّي حديثا كما يسمى كلام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثا ، ولأنه حديث التنزيل بعد ما تقدّمه من الكتب المنزلة على الأنبياء ، وهو أحسن الحديث لفرط فصاحته ، ولإعجازه واشتماله على جميع ما يحتاج المكلف إليه من التنبيه على أدلّة التوحيد والعدل ، وبيان أحكام الشرع وغير ذلك من المواعظ وقصص الأنبياء والترغيب والترهيب (كِتاباً مُتَشابِهاً) في حسن النظم ، وجزالة اللفظ ، وجودة المعاني (مَثانِيَ) سمّي بذلك لأنه يثنى فيه بعض القصص والأخبار والأحكام والمواعظ بتصريفها في ضروب البيان ، ويثنى أيضا في التلاوة فلا يملّ لحسن مسموعه (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي تأخذهم قشعريرة خوفا مما في القرآن من الوعيد (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) إذا سمعوا ما فيه من الوعد بالثواب والرحمة والمعنى : أن قلوبهم تطمئنّ وتسكن إلى ذكر الله الجنة والثواب ، وروي عن العباس بن عبد المطلب أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا إقشعرّ جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها (ذلِكَ) يعني القرآن (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) من عباده بما نصب فيه من الأدلة ، وهم الذين آتاهم القرآن من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيل : يهدي به من يشاء من الذين اهتدوا (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) عن طريق الجنة (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي لا يقدر على هدايته أحد (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) تقديره : أفحال من يدفع عذاب الله بوجهه يوم القيامة كحال من يأتي آمنا لا تمسّه النار ؛ وإنما قال بوجهه لأن الوجه أعزّ أعضاء الإنسان ، ثم أخبر سبحانه عما يقوله خزنة النار للكفار بقوله : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي جزاء ما كسبتموه من المعاصي ، ثم أخبر سبحانه عن أمثال هؤلاء الكفار من الأمم الماضية فقال (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بآيات الله ، وجحدوا رسله (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ) عاجلا (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي وهم آمنون غافلون.

٦١٤

٢٦ ـ ٣١ ـ ثم أخبر سبحانه عما فعله بالأمم المكذّبة بأن قال (فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ) أي الذل والهوان (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي أعظم وأشدّ (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) سمّى ذكر الأمم الماضية مثلا كما قال : ونبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال والمعنى : انا وصفنا وبيّنّا للناس في هذا القرآن كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي لكي يتذكروا ويتدبّروا فيعتبروا (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي غير ذي ميل عن الحق ، بل هو مستقيم موصل إلى الحق (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي لكي يتقوا معاصي الله. ثم ضرب سبحانه مثلا للكافر وعبادته الأصنام فقال (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) أي مختلفون سيّئو الأخلاق متنازعون ، وإنما ضرب هذا المثل لسائر المشركين ولكنه ذكر رجلا واحدا وصفه بصفة موجودة في سائر المشركين فيكون المثل المضروب له مضروبا لهم جميعا ، ويعني بقوله : (رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ) أي يعبد آلهة مختلفة ، وأصناما كثيرة ، وهم متشاجرون متعاسرون ، هذا يأمره وهذا ينهاه ، ويريد كل واحد منهم أن يفرده بالخدمة ، ثم يكل كل منهم أمره إلى الآخر ، ويكل الآخر إلى الآخر ، فيبقى هو خاليا عن المنافع ، وهذا حال من يخدم جماعة مختلفة الآراء والأهواء ؛ هذا مثل الكافر. ثم ضرب سبحانه مثل المؤمن الموحّد فقال (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) أي خالصا يعبد مالكا واحدا لا يشوب بخدمته خدمة غيره ، ولا يأمل سواه ، ومن كان بهذه الصفة نال ثمرة خدمته لا سيما إذا كان المخدوم حكيما قادرا كريما وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن عليّ عليه‌السلام أنه قال : أنا ذاك الرجل السلم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وروى العياشي بإسناده عن أبي خالد عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : الرجل السلم للرجل حقا عليّ وشيعته (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي هل يستوي هذان الرجلان صفة وشبها في حسن العاقبة وحصول المنفعة؟ أي لا يستويان ، فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وحياطته ما لا يستحقّه صاحب الشركاء المختلفين في أمره ؛ وتمّ الكلام ثم قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ) معناه : احمدوا الله حيث لطف بكم حتى عبدتموه وحده ، وأخلصتم الإيمان له والتوحيد ، فهي النعمة السابغة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة ذلك. ثم بيّن سبحانه المقام الذي يتبيّن فيه المحقّ والمبطل فقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) أي عاقبتك الموت وكذا عاقبة هؤلاء (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) يعني المحق والمبطل ، والظالم والمظلوم ، عن ابن عباس ، وقال : الاختصام يكون بين المهتدين والضالين والصادقين والكاذبين.

٣٢ ـ ٣٥ ـ ثم بيّن سبحانه حال الفريقين فقال : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) بأن ادّعى له ولدا وشريكا (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) بالتوحيد والقرآن (إِذْ جاءَهُ) ثم هدّد سبحانه من هذه صورته بأن قال (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي منزل ومقام للجاحدين ، وهذا استفهام يراد به التقرير ومعناه : انه لكذلك (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الذي جاء بالصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصدّق به علي بن أبي طالب عليه‌السلام عن مجاهد ، ورواه الضحاك عن ابن عباس ، وهو المروي عن أئمة الهدى عليهم‌السلام من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثم منّ سبحانه بما أعدّ لهم من النعيم فقال (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) من الثواب والنعيم في الجنة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ينالون من جهته (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم الذي فعلوه في الدنيا ، وأعمالهم الصالحة (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أي أسقط الله عنهم عقاب الشرك والمعاصي التي

٦١٥

فعلوها قبل ذلك بإيمانهم وإحسانهم ورجوعهم إلى الله تعالى (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ) أي ثوابهم (بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بالفرائض والنوافل فهي أحسن أعمالهم ، لأن المباح وإن كان حسنا فلا يستحق به ثواب ولا مدح.

٣٦ ـ ٤٠ ـ لمّا وعد الله سبحانه الصادق والمصدق عقّبه بأنه يكفيهم وإن كانت الأعداء تقصدهم وتؤذيهم فقال (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) استفهام يراد به التقرير ، يعني به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكفيه عداوة من يعاديه ويناوئه (وَيُخَوِّفُونَكَ) يا محمد (بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) كانت الكفار تخوّفه بالأوثان التي كانوا يعبدونها عن قتادة والسدي وابن زيد لأنهم قالوا له : إنا نخاف أن تهلكك آلهتنا (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي من أضلّه الله عن طريق الجنة بكفره ومعاصيه فليس له هاد يهديه إليها وقيل : معناه ان من وصفه بأنه ضال إذا ضل هو عن الحق فليس له من يسميه هاديا وقيل : من يحرمه الله من زيادات الهدى فليس له زائد (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) أي من يهده الله إلى طريق الجنة فلا أحد يضلّه عنها وقيل : من يهده الله فاهتدى فلا يقدر أحد على صرفه عنه وقيل : من بلغ استحقاق زيادات الهدى فقد ارتفع عن تأثير الوسواس (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ) أي قادر قاهر لا يقدر أحد على مغالبته (ذِي انْتِقامٍ) من أعدائه الجاحدين لنعمه. ثم قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) يا محمد (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وأوجدها وأنشأها بعد أن كانت معدومة (لَيَقُولُنَّ اللهُ) الفاعل لذلك ، لأنهم مع عبادتهم الأوثان يقرّون بذلك. ثم احتجّ عليهم بأن ما يعبدونه من دون الله لا يملك كشف الضر والسوء عنهم فقال : (قُلْ) لهم (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ) أي بمرض أو فقر أو بلاء أو شدة (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) أي هل يكشفن ضرّه (أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ) أي بخير أو صحة (هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) أي هل يمسكن ويحبسن عني رحمته؟

والمعنى : ان من عجز عن النفع والضر ، وكشف السوء والشر عمّن يتقرّب إليه كيف يحسن منه عبادته؟! وإنما يحسن العبادة لمن قدر على جميع ذلك ، ولا يلحقه العجز والمنع وهو الله تعالى (قُلْ) يا محمد (حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) وبه يثق الواثقون ، ومن توكل على غيره توكل على غير كاف (قُلْ) لهم يا محمد (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على قدر جهدكم وطاقتكم في إهلاكي ، وتضعيف أمري (إِنِّي عامِلٌ) قدر جهدي وطاقتي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) قد مضى مفسّرا ، وفي هذا غاية الوعيد والتهديد.

النظم

اتصل قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) بقوله : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ، والمعنى : انه لا ينبغي أن يخوفوك بها مع اعترافهم بأن الخالق هو الله دون غيره.

٤١ ـ ٤٥ ـ ثم بيّن سبحانه تحقيق وعيده بالعذاب المقيم

__________________

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تعلّم القرآن فلم يعمل به ، وآثر عليه حب الدنيا وزينتها ، استوجب سخط الله تعالى ، وكان في الدرجة مع اليهود والنصارى الذين ينبذون كتاب الله وراء ظهورهم. عقاب الأعمال : ٢٨٢.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله يوم القيامة أعمى فيقول : (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) فيؤمر به إلى النار. عقاب الأعمال : ٢٨٦.

٦١٦

بأن قال (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) يعني القرآن (لِلنَّاسِ) أي لجميع الخلق (بِالْحَقِ) معناه : بأنه الحق الذي يجب النظر في موجبه ومقتضاه ، فما صحّحه وجب تصحيحه ، وما أفسده وجب إفساده ، وما رغّب فيه وجب العمل به ، وما حذّر منه وجب اجتنابه ، وما دعا إليه فهو الرشد ، وما صرف عنه فهو الغيّ (فَمَنِ اهْتَدى) بما فيه من الأدلة (فَلِنَفْسِهِ) لأن النفع في عاقبته يعود إليه (وَمَنْ ضَلَ) عنه وحاد (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي على نفسه لأن مضرة عاقبته من العقاب تعود عليه (وَما أَنْتَ) يا محمد (عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي برقيب في ايصال الحق إلى قلوبهم ، وحفظه عليهم حتى لا يتركوه ولا ينصرفوا عنه ، إذ لا تقدر على اكراههم على الإسلام (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي يقبضها إليه وقت موتها وانقضاء آجالها (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، والتي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز ، وهي التي تفارق النائم فلا يعقل ، والتي تتوفى عند الموت هي نفس الحياة التي إذا زالت زال معها النفس ، والنائم يتنفس ؛ فالفرق بين قبض النوم وقبض الموت أن قبض النوم يضاد اليقظة ، وقبض الموت يضاد الحياة ، وقبض النوم يكون الروح معه في البدن ، وقبض الموت يخرج الروح معه من البدن (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) إلى يوم القيامة لا تعود إلى الدنيا (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) يعني الأنفس الأخرى التي لم يقض على موتها : يريد نفس النائم (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قد سمّي لموته (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي دلالات واضحات على توحيد الله وكمال قدرته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في الأدلة إذ لا يقدر على قبض النفوس تارة بالنوم وتارة بالموت غير الله تعالى قال ابن عباس : في بني آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها النفس والتحرك ، فإذا نام قبض الله نفسه ولم يقبض روحه ، وإذا مات قبض الله نفسه وروحه (أَمِ اتَّخَذُوا) أي بل اتخذوا (مِنْ دُونِ اللهِ) آلهة (شُفَعاءَ قُلْ) يا محمد (أَوَلَوْ كانُوا) يعني الآلهة (لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً) من الشفاعة (وَلا يَعْقِلُونَ) وجواب هذا الاستفهام محذوف تقديره : أو لو كانوا بهذه الصفة يتخذونهم شفعاء ويعبدونهم راجين شفاعتهم؟ ثم قال (قُلْ) لهم (لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي لا يشفع أحد إلّا بإذنه ، عن مجاهد ، والمعنى : لا يملك أحد الشفاعة إلّا بتمليكه كما قال : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) مضى معناه ، ثم أخبر سبحانه عن سوء اعتقادهم ، وشدّة عنادهم فقال (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) أي نفرت ، عن السدي والضحاك والجبائي ، وقيل : انقبضت ، عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل ، وقيل : كفرت واستكبرت (قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) كان المشركون إذا سمعوا قول لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، نفروا من هذا لأنهم كانوا يقولون : الأصنام آلهة (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأصنام التي عبدوها من دونه (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون ويسرّون حتى يظهر السرور في وجوههم.

٤٦ ـ ٥٠ ـ لمّا قدّم سبحانه ذكر الأدلة فلم ينظروا فيها ، والمواعظ فلم يتعظوا بها ، أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحاكمهم إليه ليفعل بهم ما يستحقونه فقال (قُلِ) يا محمد ادع بهذا الدعاء (اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يا خالقهما ومنشئهما (عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي يا عالم ما غاب علمه عن جميع الخلق ، وعالم ما يشهدوه وعلموه (أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) يوم القيامة (فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) في

٦١٧

دار الدنيا من أمر دينهم ودنياهم ، وتفصل بينهم بالحق في الحقوق والمظالم ، أي فاحكم بيني وبين قومي بالحق ؛ وفي هذا بشارة للمؤمنين بالظفر والنصر لأنه سبحانه إنما أمره به للإجابة لا محالة ؛ وعن سعيد بن المسيب أنه قال : إني لأعرف موضع آية لم يقرأها أحد قط فسأل الله شيئا إلا أعطاه ، قوله : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. ثم أخبر سبحانه عن وقوع العقاب بالكفار بأن قال : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) زيادة عليه (لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وقد مضى تفسيره (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي ظهر لهم يوم القيامة من صنوف العذاب ما لم يكونوا ينتظرونه ولا يظنونه واصلا إليهم ، ولم يكن في حسابهم قال السدي ظنّوا أعمالهم حسنات فبدت لهم سيئات وقيل ان محمد بن المنكدر جزع عند الموت فقيل له أتجزع؟ قال أخذتني آية من كتاب الله عزوجل وبدا لهم الآية أخذتني أن يبدو لي من الله ما لم أحتسب (وَبَدا لَهُمْ) أي وظهر لهم أيضا (سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي جزاء سيئات أعمالهم (وَحاقَ بِهِمْ) أي نزل بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو كل ما ينذرهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما كانوا ينكرونه ويكذبون به. ثم أخبر عن شدة تقلب الإنسان من حال إلى حال فقال (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) من مرض أو شدّة (دَعانا) واستغاث بنا مسلما مخلصا في كشفه علما بأنه لا يقدر غيرنا عليه (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) أي أعطيناه نعمة من الصحة في الجسم ، والسعة في الرزق ، أو غير ذلك من النعم (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) قيل فيه وجوه (أحدها) قال : إنما أوتيته بعلمي وجلدي وحيلتي عن الحسن والجبائي ، فيكون هذا إشارة إلى جهلهم بمواضع المنافع والمضار (وثانيها) على علم : على خير علمه الله عندي عن قتادة ومقاتل (وثالثها) على علم يرضاه عنّي فلذلك أتاني ما أتاني من النعمة ثم قال ليس الأمر على ما يقولونه (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أي بلية واختبار يبتليه الله بها فيظهر كيف شكره أو صبره في مقابلتها فيجازيه بحسبها وقيل معناه : هذه النعمة فتنة أي عذاب لهم إذا أضافوها إلى أنفسهم وقيل معناه : هذه المقالة التي قالوها فتنة لهم لأنهم يعاقبون عليها (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) البلوى من النعمى وقيل : لا يعلمون ان النعم كلها من الله وان حصلت بأسباب من جهة العبد (قَدْ قالَهَا) أي قد قال مثل هذه الكلمة وهذه المقالة (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مثل قارون حيث قال : إنّما أوتيته على علم عندي (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي فلم ينفعهم ما كانوا يجمعونه من الأموال ، بل صارت وبالا عليهم.

٥١ ـ ٥٥ ـ ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء الكفار فقال : (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي أصابهم عقاب سيئاتهم فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه وقيل : إنّما سمّي عقاب سيئاتهم سيئة لازدواج الكلام كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) أي من كفار قومك يا محمد (سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أيضا (وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي لا يفوتون الله تعالى وقيل : لا يعجزون الله بالخروج من قدرته (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسّع الرزق على من يشاء ، ويضيق على من يشاء بحسب ما يعلم من المصلحة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دلالات واضحات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدقون بتوحيد الله تعالى لأنّهم المنتفعون بها (قُلْ) يا محمد (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بارتكاب الذنوب (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) أي لا تيأسوا من مغفرة الله (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وعن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ، وعن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام أنه قال : ما في القرآن آية أوسع من (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية. فالله سبحانه يغفر جميع الذنوب للتائب لا

٦١٨

محالة ، فإن مات الموحد من غير توبة فهو في مشيئة الله إن شاء عذّبه بعدله ، وإن شاء غفر له بفضله كما قال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ؛ ثم دعا سبحانه عباده إلى التوبة وأمرهم بالإنابة إليه فقال : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) أي ارجعوا من الشرك والذنوب إلى الله فوحّدوه (وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي انقادوا له بالطاعة فيما يأمركم به وقيل معناه اجعلوا أنفسكم خالصة له قد حثّ سبحانه بهذه الآية على التوبة كيلا يرتكب الإنسان المعصية ويدع التوبة اتكالا على الآية المتقدمة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) عند نزول العذاب بكم (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي من الحلال والحرام والأمر والنهي والوعد والوعيد ، فمن أتى بالمأمور به وترك المنهي عنه فقد اتبع الأحسن عن ابن عباس وقيل : إنما قال أحسن ما أنزل لأنه أراد بذلك الواجبات والنوافل التي هي الطاعات دون المباحات. وقيل : أراد بالأحسن الناسخ دون المنسوخ ، عن الجبائي. قال علي بن عيسى : وهذا خطأ ، لأنّ المنسوخ لا يجوز العمل به ، فلا يكون حسنا بل هو قبيح ، ولا يكون الحسن أحسن من قبيح (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً) أي فجأة في وقت لا تتوقعونه (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي لا تعرفون وقت نزوله بكم.

٥٦ ـ ٦٠ ـ لمّا أمر الله سبحانه باتباع الطاعات ، واجتناب المقبحات تحذيرا من نزول العقوبات ، بيّن الغرض في ذلك بقوله (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) أي خوف أن تقول أو حذرا من أن تقول والمعنى : كراهة أن تصيروا إلى حال تقولون فيها (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أي يا ندامتي على ما ضيّعت من ثواب الله عن ابن عباس وقيل قصرت في أمر الله عن مجاهد والسدي وقيل : في طاعة الله ، عن الحسن قال الفراء بالجنب : القرب ، أي في قرب الله وجواره ، يقال : فلان يعيش في جنب فلان ، أي في قربه وجواره ، ومنه قوله تعالى : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) فيكون المعنى على هذا القول : على ما فرطت في طلب جنب الله ، أي في طلب جواره وقربه وهو الجنة ، وقال الزجاج : أي فرطت في الطريق الذي هو طريق الله ، فيكون الجنب بمعنى الجانب أي قصرت في الجانب الذي يؤدّي إلى رضا الله. وروى العياشي بالإسناد عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : نحن جنب الله (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي واني كنت لمن المستهزئين بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن ، وبالمؤمنين في دار الدنيا (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي فعلنا ذلك كراهة أن تقول : لو أراد الله هدايتي لكنت ممن يتّقي معاصيه خوفا من عقابه (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي لو أنّ لي رجعة إلى الدنيا فأكون من الموحّدين المطيعين. ثم قال سبحانه منكرا على هذا القائل (بَلى) أي ليس كما قلت (قَدْ جاءَتْكَ آياتِي) أي حججي ودلالاتي (فَكَذَّبْتَ بِها) وأنفت من اتباعها وذلك قوله (وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بها (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) فزعموا أن له شريكا وولدا (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) الذي تكبّروا عن الإيمان بالله. هذا استفهام تقرير ، أي فيها مثواهم ومقامهم ، وعن سودة بن كليب قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : كل من انتحل إمامة ليست له من الله.

٦١ ـ ٦٦ ـ لما أخبر الله سبحانه عن حال الكفار عقّبه بذكر حال الأتقياء الأبرار فقال (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) معاصيه خوفا من عقابه (بِمَفازَتِهِمْ) أي بمنجاتهم من النار (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) أي لا يصيبهم المكروه والشدة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما فاتهم من لذات الدنيا. ولما ذكر الوعد والوعيد بيّن سبحانه أنه القادر على كل شيء بقوله (اللهُ خالِقُ

٦١٩

كُلِّ شَيْءٍ) أي محدث كل شيء ومبدعه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي حافظ مدبّر (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) واحدها مقليد ومقلاد ، يريد مفاتيح السماوات والأرض بالرزق والرحمة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم يخسرون الجنة ونعيمها ، ويصلون النار وسعيرها. ثم أعلم سبحانه أنه المعبود لا معبود سواه بقوله (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) أي أتأمرونني أن أعبد غير الله (أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) فيما تأمرونني به بعبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضرّ. ثم قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) يا محمد (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من الأنبياء والرسل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) قال ابن عباس : هذا أدب عن الله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتهديد لغيره لأن الله تعالى قد عصمه من الشرك ومداهنة الكفار. ثم أمر سبحانه بالتوحيد فقال : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) أي وجّه عبادتك إليه تعالى وحده دون الأصنام (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الذين يشكرون الله على نعمه ، ويخلصون العبادة له.

٦٧ ـ ٧٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن أحوالهم فقال (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظّموا الله حقّ عظمته إذ عبدوا غيره (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) والقبضة في اللغة : ما قبضت عليه بجميع كفّك ، أخبر سبحانه عن كمال قدرته فذكر أن الأرض كلها مع عظمها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفّه فيكون في قبضته ؛ وهذا تفهيم لنا على عادة التخاطب فيما بيننا لأنا نقول : هذا في قبضة فلان ، وفي يد فلان ، إذا هان عليه التصرف فيه وإن لم يقبض عليه ؛ وكذا قوله (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي يطويها بقدرته كما يطوي الواحد منّا الشيء المقدور له طيّه بيمينه ؛ وذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار والتحقيق للملك كما قال : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، أي ما كانت تحت قدرتكم ، إذ ليس الملك يختص باليمين دون الشمال وسائر الجسد. ثم نزّه سبحانه نفسه عن شركهم فقال (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عمّا يضيفونه إليه من الشبيه والمثل (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وهو قرن ينفخ فيه إسرافيل ؛ ووجه الحكمة في ذلك أنها علامة جعلها الله ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف ، ثم تجديد الخلق. فشبّه ذلك بما يتعارفونه من بوق الرحيل والنزول ، ولا تتصوره النفوس بأحسن من هذه الطريقة وقيل : ان الصور جمع صورة فكأنّه نفخ في صورة الخلق (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي يموت من شدة تلك الصيحة التي تخرج من الصور جميع من في السماوات والأرض يقال : صعق فلان إذا مات بحال هائلة شبيهة بالصيحة العظيمة (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وقيل : هم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) يعني نفخة البعث وهي النفخة الثانية ، وإن ما بين النفختين أربعين سنة ، وقيل ان الله تعالى يفني الأجسام كلها بعد الصعق وموت الخلق ثم يعيدها وقوله (فَإِذا هُمْ قِيامٌ) إخبار عن سرعة إيجادهم لأنه سبحانه إذا نفخ النفخة الثانية أعادهم عقيب ذلك فيقومون من قبورهم أحياء (يَنْظُرُونَ) أي ينتظرون ما يفعل بهم ، وما يؤمرون به (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي أضاءت الأرض بعدل ربها يوم القيامة لأن نور الأرض بالعدل ، كما ان نور العلم بالعمل وقيل : بنور يخلقه الله عزوجل يضيء به أرض القيامة من غير شمس ولا قمر (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي كتب الأعمال التي كتبتها الملائكة على بني آدم توضع في أيديهم ليقرؤوا منها أعمالهم ، أي يوضع كتاب كل إنسان في يمينه أو شماله (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) أي يعطى بهم ؛ والشهداء هم الذين يشهدون للأنبياء على الأمم بأنهم قد

٦٢٠