الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

على جهة الوعد والوعيد ، أي انّه لذو مغفرة لمن آمن بك ، وذو عقاب أليم لمن كذّب بك (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) أي لو جعلنا هذا الكتاب الذي تقرؤه على الناس بغير لغة العرب (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هلّا بيّنت بلسان العرب حتى نفهمه (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أي كتاب أعجمي ونبي عربي ، وهذا استفهام على وجه الإنكار ، والمعنى : انهم كانوا يقولون المنزل عليه عربي ، والمنزّل أعجمي. وكان ذلك أشدّ لتكذيبهم ، فبيّن الله سبحانه أنّه أنزل الكتاب بلغتهم ، وأرسل الرسول من عشيرتهم ، ليكون أبلغ في الحجة ، وأقطع للمعذرة (قُلْ) يا محمد لهم (هُوَ) أي القرآن (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) من الضلالة (وَشِفاءٌ) من الأوجاع وقيل : وشفاء للقلوب من كلّ شكّ وريب وشبهة ، وسمّى اليقين شفاء كما سمّى الشك مرضا في قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي ثقل وصمم عن سماعه من حيث يثقل عليهم استماعه فلا ينتفعون به فكأنهم صمّ عنه (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) عميت قلوبهم عنه ، يعني انهم لما ضلّوا عنه ، وحاروا عن تدبّره فكأنّه عمى لهم (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي انهم لا يسمعون ولا يفهمون كما انّ من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم ؛ وإنما قال ذلك لبعد افهامهم وشدّة إعراضهم عنه وقيل : لبعده عن قلوبهم عن مجاهد (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) لأنه آمن به قوم ، وكذّب به آخرون ؛ وهذه تسلية للنبي (ص) أيضا عن جحود قومه له ، وانكارهم لنبوّته (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في تأخير العذاب عن قومك ، وأنّه لا يعذبهم وأنت فيهم (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لفرغ من عذابهم واستئصالهم (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وانّ قومك لفي شك مما ذكرناه ، موقع لهم الريبة ، وهو أفظع الشكّ.

٤٦ ـ ٥٠ ـ ثم احتجّ سبحانه عليهم بأن قال : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) أي من عمل طاعة فلنفسه ، لأنّ ثواب ذلك واصل إليه ، ومنفعته تكون له دون غيره (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي من عمل معصية فعلى نفسه وبال ذلك ، وعقابه يلحقه دون غيره (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وهذا على وجه المبالغة في نفي الظلم عن نفسه للعبيد. وإنّما قال ذلك مع انّه لا يظلم مثقال ذرّة لأمرين : (أحدهما) انّ من فعل الظلم وانّ قلّ وهو عالم بقبحه وبأنّه غنيّ عنه لكان ظلّاما (والآخر) انه على طريق الجواب لمن زعم أنه يظلم العباد ، فيأخذ أحدا بذنب غيره ، ويثيبه بطاعة غيره (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) التي يقع فيها الجزاء للمطيع والعاصي وهو يوم القيامة (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) أي وما تخرج ثمرة من أوعيتها وغلفها (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي ولا تحمل أنثى من حمل ذكرا كان أو أنثى ، ولا تضع أنثى إلّا في الوقت الذي علم سبحانه أنها تحمل فيه وتضع فيه ، فيعلم سبحانه قدر الثمار وكيفيتها وأجزاءها وطعومها وروائحها ، ويعلم ما في بطون الحبالى وكيفية انتقالها حالا بعد حال حتى يصير بشرا سويّا (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي ينادي الله المشركين (أَيْنَ شُرَكائِي) أي في قولكم وزعمكم كما قال : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي يقولون : أعلمناك ما منّا شاهد بأنّ لك شريكا ؛ يتبرأون يومئذ من أن يكون مع الله شريك (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي بطل عنهم وذهب ما كانوا أملوه من أصنامهم (وَظَنُّوا) أي أيقنوا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي من مهرب وملجأ من عذاب الله (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) قال الكلبي : الإنسان ها هنا يراد به الكافر ، أي لا يملّ الكافر من دعائه الخير ، ولا يزال يسأل ربه الخير الذي هو المال والغنى والصحة والولد (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) أي البلاء والشدّة والفقر (فَيَؤُسٌ) أي فهو يؤوس شديد اليأس من الخير (قَنُوطٌ) من الرحمة ، سيّء الظنّ به (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا) أي خيرا وعافية وغنى (مِنْ بَعْدِ

٦٤١

ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي هذا بعملي وأنا محقوق به ، وهذا لي دائما أبدا (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي كائنة على ما يقوله المسلمون (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي لست على يقين من البعث ، فإن كان الأمر على ذلك ورددت إلى ربّي إنّ لي عنده المنزلة الحسنى وهي الجنة ، سيعطيني في الآخرة مثل ما أعطاني في الدنيا ، ثم هدّد سبحانه من هذه صفته بأن قال : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) أي لنقفنّهم يوم القيامة على مساوىء أعمالهم عن ابن عباس (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي شديد متراكم.

٥١ ـ ٥٤ ـ ثم أخبر سبحانه عن جهل الإنسان الذي تقدّم وصفه بمواقع نعم الله سبحانه فقال : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) عن الشكر (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي بعد بجانبه تكبّرا وتجبّرا عن الاعتراف بنعم الله تعالى.

(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي الضرّ أو الفقر أو المرض (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي فهو ذو دعاء كثير عند ذلك. عن السدّي ، وإنما قال ((فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)) ولم يقل طويل ، لأنّه أبلغ ، فإن العرض يدلّ على الطول ، والطول لا يدلّ على العرض. والمراد بالآية : أنّ الكافر يسأل ربّه بالتضرع والدعاء أن يكشف ما به من الضرّ والبلاء ، ويعرض عن الدعاء في الرخاء (قُلْ) يا محمد (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ) وقيل : إن كان هذا الإنعام من عند الله (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) وجحدتموه (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في خلاف للحق بعيد عنه وهو أنتم ، والشقاق : الميل إلى العداوة ، أيّ فلا أحد أضلّ منكم (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) اختلف في معناه على أقوال (أحدها) ان المعنى : سنريهم حججنا ودلائلنا على التوحيد في آفاق العالم وأقطار السماء والأرض من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والبحار والجبال ، وفي أنفسهم وما فيها من لطائف الصنعة ، وبدائع الحكمة (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) أي يظهر لهم (أَنَّهُ الْحَقُ) أي أنّ الله هو الحق عن عطاء وابن زيد.

(وثانيها) ان معناه سنريهم آياتنا ودلائلنا على صدق محمّد (ص) وصحّة نبوته في الآفاق ، أي بما يفتح من القرى عليه وعلى المسلمين في أقطار الأرض وفي أنفسهم يعني فتح مكة عن السدّي والحسن ومجاهد وقالوا هو ظهور محمد (ص) على الآفاق وعلى مكّة حتّى يعرفوا أنّ ما أتى به من القرآن حقّ ومن عند الله لأنّهم بذلك يعرفون أنه مؤيّد من قبل الله تعالى بعد أن كان واحدا لا ناصر له.

(وثالثها) انّ المراد بقوله في الآفاق وقائع الله في الأمم وفي أنفسهم وقعة يوم بدر عن قتادة.

(ورابعها) انّ معناه سنريهم آياتنا في الآفاق بصدق ما كان يخبرهم به النبي (ص) من الحوادث فيها وفي أنفسهم يعني ما كان بمكّة من انشقاق القمر حتّى يعلموا أنّ خبره حقّ من قبل الله سبحانه.

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) موضع قوله بربّك رفع ، والمعنى : أو لم يكف ربّك و ((أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) في موضع رفع أيضا ، على البدل ، وإن حملته على اللفظ فهو في موضع جرّ أيضا ، والمفعول محذوف وتقديره : أو لم يكف شهادة ربّك على كلّ شيء ، ومعنى الكفاية هنا أنه سبحانه بيّن للناس ما فيه كفاية من الدلالة على توحيده ، وتصحيح نبوّة رسله ، قال مقاتل : معناه : أو لم يكف ربّك شاهدا أنّ القرآن من عند الله ، وقيل معناه : أو لم يكف ربّك لأنّه على كل شيء شهيد (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) الا كلمة تنبيه وتأكيد أن الكفار في شك من لقاء ثواب ربّهم وعقابه (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي أحاط علمه بكل شيء فلا يخفى عليه شيء.

٦٤٢

سورة الشورى

عدد آياتها ثلاث وخمسون آية

١ ـ ٥ ـ (حم) قد مضى تفسيره (عسق) إنما فضلت هذه السورة من بين سائر الحواميم بعسق لأن جميعها استفتح بذكر الكتاب على التصريح به إلا هذه فذكر عسق ليكون دلالة على الكتاب دلالة التضمين ، وإن لم يدل عليه دلالة التصريح وهو معنى قول قتادة فإنه قال : هو اسم من أسماء القرآن ، وقيل : لأن هذه السورة انفردت بأنّ معانيها أوحيت إلى سائر الأنبياء ، فلذلك خصّت بهذه التسمية.

وقال عطا : هي حروف مقطعة من حوادث آتية ، فالحاء من حرب ، والميم من تحويل ملك ، والعين من عدوّ مقهور ، والسين من الاستئصال بسنين كسني يوسف ، والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض وسائر الأقوال في ذلك مذكورة في أوّل البقرة (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) أي كالوحي الذي تقدّم يوحي إليك أخبار الغيب وما يكون قبل أن يكون ، وإلى الذين من قبلك من الأنبياء.

عن عطا عن ابن عباس قال : وما من نبيّ أنزل الله عليه الكتاب ، إلا أنزل عليه معاني هذه السورة بلغاتهم ، وقيل معناه : كهذا الوحي الذي يأتي في هذه السورة يوحي إليك ، لأنّ ما لم يكن حاضرا تراه صلح فيه هذا لقرب وقته ، وذلك لبعده في نفسه ، ومعنى التشبيه في كذلك أنّ بعضه كبعض في أنّه حكمة وصواب بما تضمنه من الحجج والمواعظ والفوائد (اللهُ) الذي تحقّ له العبادة (الْعَزِيزُ) القادر الذي لا يغالب (الْحَكِيمُ) المحكم لأفعاله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُ) المستعلي على كلّ قادر (الْعَظِيمُ) شأنه (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) أي تكاد كلّ واحدة من السماوات تنشقّ من فوق التي تليها من قول المشركين اتخذ الله ولدا استعظاما لذلك عن ابن عباس والحسن.

وقيل معناه : تكاد السموات يتشقّقن فرقا من عظمة الله وجلاله من فوقهن وتقديره : ممّن فوقهن ، أي من عظمة من فوقهنّ ، عن الضحاك وقتادة والزجاج.

وقيل : (مِنْ فَوْقِهِنَ) أي من فوق الأرضين ، وهذا على طريق التمثيل ، والمعنى : لو كانت السماوات تنفطر لشيء لانفطرت لهذا (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ينزّهونه عمّا لا يجوز عليه في صفاته ، ويعظّمونه عمّا لا يليق به في ذاته وأفعاله (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) من المؤمنين (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) والمعنى ظاهر.

٦ ـ ١٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن امهاله الكفار بعد تقديم الإنذار فقال (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي آلهة عبدوها من دون الله ، يعني كفّار مكة (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي حافظ عليهم أعمالهم ، لا يعزب شيء منها عنه ليجازيهم على ذلك كله (وَما أَنْتَ) يا محمد (عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنت بمسلّط عليهم لتدخلهم في الإيمان قهرا وقيل معناه : إنّك لم توكّل بحفظ أعمالهم ، وإنما بعثت نذيرا لهم ، داعيا إلى الله مبيّنا سبيل الرشد ، أي فلا يضيقنّ صدرك بتكذيبهم إياك ، وفيه تسلية للنبي (ص) (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي ومثل ما أوحينا إلى من تقدّمك من الأنبياء بالكتب التي أنزلناها عليهم بلغة قومهم أوحينا إليك قرآنا بلغة العرب ليفقهوا ما فيه (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي لتنذر أهل أمّ القرى وهي مكة ومن حولها من سائر الناس ، وقرى الأرض كلّها (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أي وتنذرهم يوم الجمع وهو يوم القيامة ، يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين ، وأهل السماوات والأرضين (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك في كونه ؛ ثم قسّم سبحانه أهل يوم

٦٤٣

الجمع فقال : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي فريق منهم في الجنة بطاعتهم ، وفريق منهم في النار بمعصيتهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي ولو شاء الله أن يحملهم على دين واحد وهو الإسلام بأن يلجئهم إليه لفعله ، ولكنه لم يفعله لأنه يؤدّي إلى إبطال التكليف ، والتكليف إنما يثبت مع الاختيار عن الجبائي.

وقيل انّ معناه : ولو شاء الله لسوى بين الناس في المنزلة بأن يخلقهم في الجنة ، ولكنّه أختار لهم أعلى الدرجتين وهو استحقاق الثواب (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) وهم المؤمنون (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ) يواليهم (وَلا نَصِيرٍ) يمنع عنهم عذاب الله (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي بل اتّخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام والأوثان يوالونهم (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) معناه : انّ المستحق للولاية في الحقيقة هو الله تعالى دون غيره لأنه المالك للنفع والضرّ (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى) أي يبعثهم للجزاء (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من الإحياء والإماتة وغير ذلك (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) معناه : انّ الذي تختلفون فيه من أمور دينكم ودنياكم ، وتتنازعون فيه فحكمه إلى الله فإنه الفاصل بين المحقّ والمبطل فيه ؛ فيحكم للمحق بالثواب والمدح ، وللمبطل بالعقاب والذمّ وقيل معناه : فبيان الصواب إلى الله بنصب الأدلة وقيل : فحكمه إلى الله يوم القيامة فيجازي كلّ واحد بما يستحقّه (ذلِكُمُ اللهُ) الذي يحكم بين المختلفين (رَبِّي) أي هو ربّي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في مهمّاتي (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي إليه أرجع في جميع أموري.

١١ ـ ١٥ ـ ثم وصف سبحانه نفسه بما يوجب أن لا يعبد غيره فقال : (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومبدعهما ابتداء (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي اشكالا مع كل ذكر أنثى يسكن إليها ويألفها (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي ذكورا وإناثا لتكمل منافعكم بها (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعل الأزواج ، فالهاء في فيه تعود إلى الجعل المراد بقوله (جَعَلَ لَكُمْ) ، وقيل معناه : يذرؤكم في التزاوج لتكثروا به لدلالة الكلام عليه وهو ذكر الأزواج وقال الزجاج والفراء : معناه يذرؤكم به : أي يكثركم بأن جعل من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي ليس مثله شيء ، والكاف مؤكدة لمعنى النفي ، وقال الشاعر :

سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم

ما إن كمثلهم في الناس من احد

وقيل معناه : لو قدّر الله تعالى مثل لم يكن لذلك المثل مثل (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) لما نفى أن يكون له نظير وشبيه على وجه من الوجوه ، بيّن أنه مع ذلك سميع بصير فإنما المدحة في أنّه لا مثل له مع كونه سميعا بصيرا لجميع المسموعات والمبصرات (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مفاتيح أرزاق السماوات والأرض وأسبابها فتمطر السماء بأمره ، وتنبت الأرض بإذنه عن مجاهد ، وقيل معناه : خزائن السماوات والأرض ، عن السدي (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسّع الرزق لمن يشاء ، ويضيّق على من يشاء على ما يعلمه من المصالح للعباد (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيفعل ذلك بحسب المصالح. ثم خاطب سبحانه خلقه فقال (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) أي بيّن لكم ونهج وأوضح من الدين والتوحيد والبراءة من الشرك ما وصّى به نوحا (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي وهو الذي أوحينا إليك يا محمد (وَ) هو (ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) ثم بيّن ذلك بقوله : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) وإقامة الدين : التمسّك به ، والعمل بموجبه ، والدوام عليه والدعاء إليه ، ولا تتفرّقوا : أي ولا تختلفوا فيه ، وائتلفوا فيه ، واتّفقوا

٦٤٤

وكونوا عبادا لله إخوانا (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من توحيد الله والإخلاص له ، ورفض الأوثان ، وترك دين الآباء ، لأنهم قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) ، ومعناه : ثقل عليهم وعظم اختيارنا لك بما تدعوهم إليه ، وتخصيصك بالوحي والنبوّة دونهم (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) أي ليس إليهم الاختيار ، لأن الله يصطفي لرسالته من يشاء على حسب ما يعلم من قيامه بأعباء الرسالة ، وتحمّله لها ، فاجتباك الله لها كما اجتبى من قبلك من الأنبياء (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي ويرشد إلى دينه من يقبل إلى طاعته ، وهذا كقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) معناه : وإنّ هؤلاء الكفار لم يختلفوا عليك إلا بعد أن أتاهم طريق العلم بصحّة نبوّتك فعدلوا عن النظر فيه (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي فعلوا ذلك للظلم والحسد والعداوة والحرص على طلب الدنيا (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) معناه : ولو لا وعد الله تعالى وإخباره بتبقيتهم إلى وقت معلوم ، وتأخّر العذاب عنهم في الحال لفصل بينهم الحكم ، وأنزل عليهم العذاب الذي استحقّوه عاجلا (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) معناه : وإنّ اليهود والنصارى الذين أورثوا الكتاب من بعد قوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لفي شك من القرآن أو من محمد (ص) بيّن بذلك أنّ أحبارهم أنكروا الحق عن معرفة ، وأن عوّامهم كانوا شاكين فيه ، يدلّ عليه قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) (فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي فإلى ذلك فادع ، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد ومعناه : فإلى الدين الذي شرعه الله تعالى ، ووصّى به أنبياءه فادع الخلق يا محمد (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي فاثبت على أمر الله ، وتمسّك به ، واعمل بموجبه (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) يعني أهواء المشركين في ترك التبليغ (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي آمنت بكتب الله التي أنزلها على الأنبياء قبلي كلّها (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي كي أعدل بينكم ، أي أسوّي بينكم في الدين والدعاء إلى الحقّ ولا أحابي أحدا ، وقيل معناه : امرت بالعدل بينكم في جميع الأشياء ، وفي الحديث : ثلاث منجيات ، وثلاث مهلكات ، فالمنجيات : العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وخشية الله في السر والعلانية ، والمهلكات : شحّ مطاع ، وهوى متبع ، واعجاب المرء بنفسه (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي وقل لهم أيضا : الله مدبّرنا ومدبّركم ، ومصرّفنا ومصرّفكم ، والمنعم علينا وعليكم ، وإنّما قال ذلك لأن المشركين قد اعترفوا بأن الله هو الخالق (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لا يضرّنا إصراركم على الكفر ، فإنّ جزاء أعمالنا لنا ، وجزاء أعمالكم لكم ، لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا خصومة بيننا وبينكم ، والمعنى انّ الحق قد ظهر فسقط الجدال والخصومة وقيل معناه : لا حجّة بيننا وبينكم لظهور أمركم في البغي علينا ، والعداوة لنا والمعاندة (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) يوم القيامة لفصل القضاء (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يحكم بيننا بالحق ، وفي هذا غاية التهديد.

١٦ ـ ٢٠ ـ لمّا تقدّم ظهور الحجة وانقطاع المحاجّة عقّبه بذكر من يحاجّ بالباطل فقال سبحانه : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) أي يخاصمون النبي (ص) والمسلمين في دين الله ، وتوحيده وهم اليهود والنصارى (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي من بعد ما دخل الناس في الإسلام ، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي خصومتهم باطلة حيث زعموا أنّ دينهم أفضل من الإسلام ، ولأنّ ما ذكروه لا يمنع من صحّة نبوّة نبيّنا بأن ينسخ الله كتابهم وشريعة نبيّهم (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) أي غضب الله عليهم لأجل كفرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) دائم يوم القيامة (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ) أي القرآن (بِالْحَقِ) أي بالصدق فيما أخبر به من ماض ومستقبل

٦٤٥

(وَالْمِيزانَ) أي وأنزل الله العدل ، والميزان : عبارة عن العدل كنّى به عنه ، وإنما سمّي العدل ميزانا لأنّ الميزان آلة الأنصاف والتسوية بين الخلق. ولمّا ذكر العدل أتبعه بذكر الساعة فقال : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي وما يدريك يا محمد ولا غيرك لعلّ مجيء الساعة قريب ، وإنّما أخفى الله الساعة ووقت مجيئها على العباد ليكونوا على خوف ، وليبادروا إلى التوبة ، ولو عرّفهم مجيئها لكانوا مغرين بالقبائح قبل ذلك تعويلا على التلافي بالتوبة (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) لجهلهم بأحوالها وأهوالها فلا يخافون ما فيها (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) أي خائفون من مجيئها وهم غير متأهّبين لها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي انّ مجيئها الحق الذي لا خلف فيه (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ) أي تدخلهم المرية والشك (فِي السَّاعَةِ) فيخاصمون في مجيئها على وجه الانكار لها (لَفِي ضَلالٍ) عن الصواب (بَعِيدٍ) حين لم يذكروا فيعلموا أنّ الذي خلقهم أوّلا قادر على بعثهم. ثم قال : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) أي حفيّ بارّ بهم رفيق ، موصل المنافع إلى العباد من وجه يدقّ إدراكه وذلك في الأرزاق التي قسمها الله لعباده ، وصرف الآفات عنهم ، وإيصال السرور والملاذّ إليهم ، وتمكينهم بالقدرة والآلات إلى غير ذلك من ألطافه التي لا يوقف على كنهها لغموضها : ثم قال سبحانه : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي : يوسّع الرزق على من يشاء (وَهُوَ الْقَوِيُ) القادر الذي لا يعجز (الْعَزِيزُ) الغالب الذي لا يغالب (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) معنى الحرث في اللغة الكسب ، وفلان يحرث لعياله ويحترث أي يكتسب ، أي من كان يريد بعمله نفع الآخرة ويعمل لها نجازه بعمله ، ونضاعف له ثواب عمله ، فنعطيه على الواحد عشرة ونزيد على ذلك ما نشاء (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) أي ومن كان يريد بعمله نفع الدنيا نعطه نصيبا من الدنيا لا جميع ما يريده ، بل على حسب ما تقتضيه الحكمة كما قال سبحانه : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال من كانت نيته الدنيا فرّق الله عليه أمره ، وجعل الفقر بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلّا ما كتب له ، ومن كانت نيته الآخرة جمع الله شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا راغمة. وقيل : من كان يعمل للآخرة نال الدنيا والآخرة ، ومن عمل للدنيا فلا حظّ له في ثواب الآخرة ، لأن الأعلى لا يجعل تبعا للأدون.

٢١ ـ ٢٥ ـ لمّا أخبر الله سبحانه أنّ من يطلب الدنيا بأعماله فلا حظّ له في خير الآخرة قال : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي بل لهؤلاء الكفار شركاء فيما كانوا يفعلونه (شَرَعُوا لَهُمْ) أي بيّنوا لهم ، ونهجوا لهم (مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) أي ما لم يأمر به الله ولا أذن فيه ، أي شرعوا لهم دينا غير دين الإسلام (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لو لا أنّ الله حكم في كلمة الفصل بين الخلق بتأخير العذاب لهذه الأمة إلى الآخرة لفرغ من عذاب الذين يكذّبونك في الدنيا (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) الذين يكذبونك (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ) أي خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) أي من جزاء ما كسبوا من المعاصي وهو العقاب الذي استحقّوه (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) لا محالة ، لا ينفعهم منه خوفهم من وقوعه ، والإشفاق : الخوف من جهة الرقة على المخوف عليه من وقوع الأمر (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) فالروضة : الأرض الخضرة بحسن النبات ، والجنة : الأرض التي يحفّها الشجر (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي لهم ما يتمنّون ويشتهون يوم القيامة الذي لا يملك فيه الأمر والنهي غير ربهم ، ولا يريد ب (عند) قرب المسافة ، لأنّ ذلك من صفات الأجسام ، وقيل ((عِنْدَ رَبِّهِمْ)) أي في حكم ربّهم

٦٤٦

(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ذلك الثواب هو الفضل العظيم من الله إذ نالوا نعيما لا ينقطع بعمل قليل منقطع. ثم قال (ذلِكَ) الفضل الكبير (الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ليستعجلوا بذلك السرور في الدنيا (قُلْ) لهم يا محمد (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) إلّا أن تودّوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم. وعن ابن عباس قال : لمّا نزلت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) الآية قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودتهم؟ قال (ص) : عليّ وفاطمة وولدهما.

وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره : حدّثني عثمان بن عمير ، عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عباس : أنّ رسول الله (ص) حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها : نأتي رسول الله (ص) فنقول له : إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك ، فأتوه في ذلك فنزلت : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقرأها عليهم وقال (ص) : تودّون قرابتي من بعدي ، فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله ، فقال المنافقون : إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذلك أن يذلّلنا لقرابته من بعده ، فنزلت (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا واشتدّ عليهم ، فأنزل الله : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) الآية ، فأرسل في أثرهم فبشّرهم وقال : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) وهم الذين سلّموا لقوله. ثم قال سبحانه : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً).

عن السدّي قال : إن اقتراف الحسنة المودّة لآل محمد (ص) ، وصحّ عن الحسن بن علي (ع) أنّه خطب الناس فقال في خطبته : أنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) ، فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي غفور للسيئات ، شكور للطاعات ، يعامل عباده معاملة الشاكر في توفية الحق حتى كأنّه ممّن وصل إليه النفع فشكره (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي بل يقولون : افترى محمد على الله كذبا في ادعائه (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي لو حدّثت نفسك بأن تفتري على الله كذبا لطبع الله على قلبك ولأنساك القرآن ، فكيف تقدر أن تفتري على الله؟ وهذا كقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). ثم أخبر سبحانه أنه يذهب ما يقولون باطلا فقال : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) أي يزيله ويرفعه بإقامة الدلائل على بطلانه (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي يثبت الحقّ بأقواله التي ينزلها على نبيه (ص) وهو هذا القرآن المعجز (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بضمائر القلوب (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) وإن جلّت معاصيهم (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من خير وشرّ فيجازيهم على ذلك.

٢٦ ـ ٣٠ ـ لمّا تقدّم وعيد أهل العصيان عقبه سبحانه بالوعد لأهل الطاعة فقال : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) معناه : يقبل طاعاتهم وعباداتهم ، ويزيدهم من فضله على ما يستحقّونه من الثواب (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ويشفّعهم في إخوان إخوانهم (وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) ظاهر المعنى. ولمّا بيّن سبحانه أنه يزيد المؤمنين من فضله أخبر عقيبه أن الزيادة في الأرزاق في الدنيا تكون على حسب المصالح فقال : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي : لو وسّع الرزق على عباده على حسب ما يطلبونه لبطروا النعمة ، وتنافسوا وتغالبوا وظلموا في الأرض ، وتغلّب بعضهم على بعض ، وخرجوا عن الطاعة ، قال ابن عباس : بغيهم في الأرض طلبهم منزلة بعد منزلة ، ودابة بعد دابة ، وملبسا بعد ملبس (وَلكِنْ يُنَزِّلُ

٦٤٧

بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي ولكنه ينزّل من الرزق قدر صلاحهم ما يشاء نظرا منه لهم ، والمعنى : أنه يوسّع الرزق على من تكون مصلحته فيه ، ويضيّق على من يكون مصلحته فيه ، ويؤيده الحديث الذي رواه أنس عن النبي (ص) عن جبرائيل (ع) عن الله : إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا السقم ولو صححته لأفسده ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الصحة ولو أسقمته لأفسده ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى ولو أفقرته لأفسده ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده ، وذلك انّي أدبّر عبادي لعلمي بقلوبهم (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي عليم بأحوالهم ، بصير بما يصلحهم وما يفسدهم.

ثمّ بين سبحانه حسن نظره بعباده فقال : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي ينزله عليهم من بعد ما يئسوا من نزوله ، والغيث : ما كان نافعا في وقته ، والمطر قد يكون نافعا وقد يكون ضارّا في وقته وغير وقته ، ووجه إنزاله بعد القنوط أنّه ادعى إلى شكر الآتي به وتعظيمه ، والمعرفة بموقع إحسانه (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي ويفرّق نعمته ويبسطها بإخراج النبات والثمار التي يكون سببها المطر (وَهُوَ الْوَلِيُ) الذي يتولى تدبير عباده ، وتقدير أمورهم ومصالحهم ، المالك لهم (الْحَمِيدُ) المحمود على جميع أفعاله لكون جميعها إحسانا ومنافع (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وحدانيته وصفاته التي باين بها خلقه (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنه لا يقدر على ذلك غيره لما فيهما من العجائب والأجناس (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) والدابة : ما تدبّ فيدخل فيه جميع الحيوانات (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) أي : وهو على حشرهم إلى الموقف بعد اماتتهم قادر لا يتعذّر عليه ذلك.

ثم قال سبحانه : (وَما أَصابَكُمْ) معاشر الخلق (مِنْ مُصِيبَةٍ) من بلوى في نفس أو مال (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) من المعاصي (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) منها فلا يعاقب بها.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثم قال سبحانه : (وَما أَنْتُمْ) يا معشر المشركين (بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي لا تعجزونني حيث ما كنتم فلا تسبقونني هربا في الأرض ، وفي هذا استدعاء إلى العبادة ، وترغيب فيما أمر به ، وترهيب عمّا نهى عنه (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يدفع عنكم عقابه (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم عليه (وَمِنْ آياتِهِ) أي ومن حججه الدالّة على اختصاصه بصفات لا يشركه فيها غيره (الْجَوارِ) أي السفن الجارية (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي كالجبال الطوال (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي إن يشأ الله يسكن الريح فتبقى السفن راكدة واقفة على ظهر الماء لا يبرحون من المكان لأنّ ماء البحر يكون راكدا ، فلو لم تجىء الريح لوقفت السفينة في البحر ولم تجر فالله سبحانه جعل الريح سببا لجريها فيه ، وجعل هبوبها في الجهة التي تسير إليها السفينة (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر (لَآياتٍ) أي حججا واضحات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على أمر الله (شَكُورٍ) على نعمته (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) معناه : إن يشأ إسكان الريح يسكن الريح ، أو إن يشأ يجعل الريح عاصفة فيهلك السفن ، أي أهلها بالغرق في الماء عقوبة لهم بما كسبوا من المعاصي (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) من أهلها فلا يغرقهم ولا يعاجلهم بعقوبة معاصيهم (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) إي في إبطال آياتنا ودفعها (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي ملجأ يلجأون إليه.

٣٦ ـ ٤٠ ـ ثم خاطب سبحانه من تقدّم وصفهم فقال : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي الذي أعطيتموه من شيء من الأموال (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي فهو متاع الحياة الدنيا تتمتّعون به أيّاما ثم تموتون فيبقى عنكم ، أو يهلك المال قبل موتكم (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب والنعيم ، وما أعدّه للجزاء

٦٤٨

على الطاعة (خَيْرٌ وَأَبْقى) من هذه المنافع القليلة (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا بتوحيد الله وبما يجب التصديق به (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) والتوكل على الله ، تفويض الأمور إليه باعتقاد أنها جارية من قبله على أحسن التدبير ، مع الفزع إليه بالدعاء من كل ما ينوب (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) يجوز أن يكون موضع الذين جرا عطفا على قوله للذين آمنوا فيكون المعنى : وما عند الله خير وأبقى للمؤمنين المتوكلين على ربهم ، المجتنبين كبائر الإثم (وَالْفَواحِشَ) ويجوز أن يكون في موضع رفع بالإبتداء ويكون الخبر محذوفا فيكون المعنى : والذين يجتنبون الكبائر والفواحش (وَإِذا ما غَضِبُوا) ممّا يفعل بهم من الظلم (هُمْ يَغْفِرُونَ) ويتجاوزون عنه لهم مثل ذلك.

والفواحش جمع فاحشة وهي أقبح القبيح ، والمغفرة في الآية المراد بها ما يتعلّق بالإساءة إلى نفوسهم ، فمتى عفوا عنها كانوا ممدوحين ، فأمّا ما يتعلق بحقوق الله وواجبات حدوده فليس للإمام تركها ولا العفو عنها ، ولا يجوز له العفو عن المرتدّ وعمن جرى مجراه.

ثم زاد سبحانه في صفاتهم فقال : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي أجابوه فيما دعاهم إليه من أمور الدين (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي أداموها في أوقاتها بشرائطها (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) يقال : صار هذا الشيء شورى بين القوم إذا تشاوروا فيه ، وهو فعلى من المشاورة ، وهي المفاوضة في الكلام ليظهر الحقّ ، أي لا يتفرّدون بأمر حتى يشاوروا غيرهم فيه وقيل : ان المعني بالآية الأنصار ، كانوا إذا أرادوا أمرا قبل الإسلام ، وقبل قدوم النّبيّ (ص) اجتمعوا وتشاوروا ثم عملوا عليه ، فأثنى الله عليهم بذلك ، وقيل : هو تشاورهم حين سمعوا بظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وورود النقباء عليه ، حتى اجتمعوا في دار أبي أيوب على الإيمان به ، والنصرة له ، عن الضحّاك.

وروي عن النبي (ص) أنه قال : ما من رجل يشاور أحدا إلا هدي إلى الرشد (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في طاعة الله تعالى وسبيل الخير (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) من غيرهم (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ممّن بغى عليهم من غير أن يعتدوا عن السدّي. وقيل ينتصرون : أي يتناصرون ، ينصر بعضهم بعضا ، نحو يختصمون ويتخاصمون عن أبي مسلم وقيل : يعني به المؤمنين الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم ، ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممّن ظلمهم ، عن عطاء (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله تقول : أخزاك الله من غير أن تعتدي. ثم ذكر سبحانه العفو فقال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي فمن عفا عما له المؤاخذة به وأصلح أمره فيما بينه وبين ربّه فثوابه على الله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ثم بيّن سبحانه أنه لم يرغب المظلوم في العفو عن الظالم لميله إلى الظالم أو لحبّه إياه ، ولكن ليعرضه بذلك لجزيل الثواب ولحبّه الإحسان والفضل.

٤١ ـ ٤٥ ـ ثم ذكر سبحانه المنتصر فقال : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) معناه : من انتصر لنفسه ، وانتصف من ظالمه بعد ظلمه ، أي بعد أن ظلم وتعدى عليه ، فأخذ لنفسه بحقّه ، فالمنتصرون ما عليهم من إثم وعقوبة وذمّ (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي الإثم والعقاب (عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) ابتداء (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع (وَلَمَنْ صَبَرَ) أي تحمّل المشقّة في رضاء الله (وَغَفَرَ) فلم ينتصر ف (إِنَّ ذلِكَ) الصبر والتجاوز (لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) هو الأخذ بأعلاها في باب نيل الثواب والأجر (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي ومن يضلله الله عن رحمته وجنته (فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍ) أي معين (مِنْ بَعْدِهِ) أي سواه. وقيل : من عذبه الله عقوبة له على عناده وجحوده فما له

٦٤٩

من وليّ يلي أمره ويدفع عذاب الله عنه (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي ترى الظالمين يا محمد إذا شاهدوا عذاب النار (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ) أي رجوع وردّ إلى دار الدنيا (مِنْ سَبِيلٍ) تمنّيا منهم لذلك (وَتَراهُمْ) يا محمد (يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي على النار قبل دخولهم النار (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) أي ساكنين متواضعين في حال العرض (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) أي خفّي النظر لما عليهم من الهوان ، يسارقون النظر إلى النار خوفا منها ، وذلّة في نفوسهم ، عن الحسن وقتادة ، وقيل خفّي ذليل ، عن ابن عباس ومجاهد ، وقيل : من عين لا تفتح كلها ، وإنما نظروا ببعضها إلى النار. (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا) لما رأوا عظيم ما نزل بالظالمين (إِنَّ الْخاسِرِينَ) في الحقيقة هم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن فوّتوها الانتفاع بنعيم الجنة (وَأَهْلِيهِمْ) أي وأولادهم وأزواجهم وأقاربهم لا ينتفعون بهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لما حيل بينهم وبينهم ، وقيل : وأهليهم من الحور العين في الجنة لو آمنوا (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) هذا من قول الله تعالى : والمقيم الدائم الذي لا زوال له.

٤٦ ـ ٥٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن الظالمين الذين ذكرهم فقال : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ) لا فيما عبدوه من دونه ، ولا فيمن أطاعوه في معصيته ، أي نصّار (يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) ويدفعون عنهم عقابه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) يوصله إلى الجنة.

ثم قال سبحانه : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) أي أجيبوا داعي ربكم يعني محمدا (ص) فيما دعاكم إليه ، ورغّبكم فيه من المصير إلى طاعته ، والانقياد لأمره (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي لا رجوع بعده إلى الدنيا وقيل معناه : لا يقدر أحد على ردّه ودفعه وهو يوم القيامة ، عن الجبائي ، وقيل معناه : لا يردّ ولا يؤخّر عن وقته وهو يوم الموت ، عن أبي مسلم (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي معقل يعصمكم من العذاب (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) اي انكار وتغيير للعذاب ، وقيل : من نصير منكر ما يحل بكم ثم قال لنبيه (ص) : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) يعني الكفّار ، أي عدلوا عمّا دعوتهم إليه (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي مأمورا بحفظهم لئلا يخرجوا عمّا دعوتهم إليه كما يحفظ الراعي غنمه لئلا يتفرّقوا ، أي فلا تحزن لإعراضهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي ليس عليك إلا إيصال المعنى إلى أفهامهم ، والبيان لما فيه رشدهم (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) وأوصلنا إليه نعمة (فَرِحَ بِها) أي بطر ، لأن الفرح المراد هنا ما قارنه أشر أو جحود أو إنكار لأنّه خرج مخرج الذم. وقيل ان الرحمة هنا العافية (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) قحط أو فقر أو مرض أو غير ذلك ممّا يسوؤهم (فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) يعدّد المصيبة ، ويجحد النعم.

ثمّ بيّن سبحانه أن النعم كلها منه فقال : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف فيهما وفيما بينهما وسياستهما بما تقتضيه الحكمة (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من أنواع الخلق (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ) من خلقه (إِناثاً) فلا يولد له ذكور

__________________

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القرآن هدى من الضلالة ، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة ، ونور من الضلالة وضياء من الأحداث ، وعصمة من الهلكة ، ورشد من الغواية ، وبيان من الفتن ، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة ؛ وفيه كمال دينكم ، وما عدل أحد عن القرآن إلّا إلى النار. أصول الكافي : ٢ / ٦٠١.

٦٥٠

(وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) البنين فلا يولد له أنثى (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) معناه : أو يجمع لهم بين البنين والبنات ، تقول العرب : زوجت ابلي ، أي جمعت بين صغارها وكبارها ، قال مجاهد : هو أن تلد المرأة غلاما ثم جارية ، ثمّ غلاما ، ثم جارية ، (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ) من الرجال والنساء (عَقِيماً) لا يلد ولا يولد له (إِنَّهُ عَلِيمٌ) بما خلق (قَدِيرٌ) على خلق من يشاء.

٥١ ـ ٥٣ ـ ثم ذكر سبحانه أجلّ النعم وهي النبوّة فقال : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) أي ليس لأحد من البشر أن يكلّمه الله (إِلَّا) أن يوحي إليه (وَحْياً) وهو داود ، أوحى في صدره فزبر الزبور (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي ويكلّمه من وراء حجاب وهو موسى (ع) (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) وهو جبرائيل ، أرسل إلى محمد (ص) عن مجاهد.

وقيل معناه : ما كان لبشر أن يكلّمه إلا بمثل ما يكلم به عباده من الأمر بطاعته والنهي عن معاصيه وتنبيهه إيّاهم على ذلك من جهة الخاطر أو المنام وما أشبه ذلك على سبيل الوحي وسمّاه وحيا لأن الوحي في اللغة ما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به أو من وراء حجاب وهو أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلا من يريد أن يكلّمه به نحو كلامه لموسى (ع) لأنه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا عن موسى عليه‌السلام وحده (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) ارساله ملائكته بكتبه وكلامه إلى أنبيائه ليبلغوا ذلك عنه عباده ، على سبيل ما كلّم به موسى ، وهو خلاف الوحي الذي ذكر في أول الآية لأنه تنبيه خاطر وليس فيه إفصاح.

وقال الزجاج معناه : انّ كلام الله للبشر إما أن يكون بإلهام يلهمهم ، أو بكلام من وراء حجاب كما كلم موسى ، أو برسالة ملك إليهم فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله ما يشاء الله (إِنَّهُ عَلِيٌ) عن الإدراك بالأبصار (حَكِيمٌ) في جميع أفعاله (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي مثل ما أوحينا إلى الأنبياء قبلك أوحينا إليك (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) يعني الوحي بأمرنا ومعناه : القرآن لأنّه يهتدى به ، ففيه حياة من موت الكفر عن قتادة والجبائي وغيرهما.

وقيل : هو روح القدس عن السدّي. وقيل : هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله (ص) عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) قالا : ولم يصعد إلى السماء (ما كُنْتَ تَدْرِي) يا محمد قبل الوحي (مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي ما القرآن ، ولا الشرائع ومعالم الإيمان. وقيل : معناه ولا أهل الإيمان أي من الذي يؤمن ، ومن الذي لا يؤمن ، وهذا من باب حذف المضاف (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) أي جعلنا الروح الذي هو القرآن نورا لأنّ فيه معالم الدين عن السدي. وقيل : جعلنا الإيمان نورا لأنه طريق النجاة عن ابن عباس (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي نرشده إلى الجنة (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ترشد وتدعو إلى طريق مفض إلى الحق وهو الإيمان. ثم فسّر ذلك الصراط بقوله : (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي إليه ترجع الأمور والتدبير يوم القيامة ، فلا يملك ذلك غيره.

سورة الزخرف مكية

عدد آياتها تسع وثمانون

١ ـ ٥ ـ (حم) مر معناه (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أقسم بالقرآن

٦٥١

المبين للحلال والحرام ، المبين ما يحتاج إليه الأنام من شرائع الإسلام (إِنَّا جَعَلْناهُ) أي أنزلناه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي بلسان العرب والمعنى : جعلناه على طريقة العرب في مذاهبهم في الحروف والمفهوم ، ومع ذلك فإنّه لا يتمكّن أحد منهم من إنشاء مثله ، والابتداء بما يقاربه من علو طبقته في البلاغة والفصاحة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تعقلوا وتتفكروا فيه فتعلموا صدق من ظهر على يده (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي في اللوح المحفوظ ؛ وإنما سمّي أمّا لأنّ سائر الكتب تنسخ منه. وقيل : لأنّ أصل كل شيء أمه ، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ ، كما قال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) عن الزجاج ، وهو الكتاب الذي كتب الله فيه ما يكون إلى يوم القيامة لما رأى في ذلك من صلاح ملائكته بالنظر فيه ، وعلم فيه من لطف المكلفين بالاخبار عنه (لَدَيْنا) أي الذي عندنا (لَعَلِيٌ) أي عال في البلاغة ، مظهر ما بالعباد إليه من الحاجة. وقيل : معناه يعلو كل كتاب مما اختصّ به من كونه معجزا وناسخا للكتب وبوجوب إدامة العمل به وبما تضمّنه من الفوائد ، وقيل : علي أيّ عظيم الشأن ، رفيع الدرجة تعظّمه الملائكة والمؤمنون (حَكِيمٌ) أي مظهر للحكمة البالغة. وقيل : حكيم : دلالة على كل حق وصواب ، فهو بمنزلة الحكيم الذي لا ينطق إلّا بالحق وصف الله تعالى القرآن بهاتين الصفتين على سبيل التوسع لأنّهما من صفات الحي.

ثم خاطب سبحانه من لم يعتبر بالقرآن ، وجحد ما فيه من الحكمة والبيان فقال : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) والمراد بالذكر هنا القرآن ، أي أفنترك عنكم الوحي صفحا فلا نأمركم ولا ننهاكم ، ولا نرسل إليكم رسولا (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) أي لأن كنتم ، والمعنى : أفنمسك عن إنزال القرآن ونهملكم فلا نعرّفكم ما يجب عليكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم؟ وهذا استفهام انكار ومعناه : إنّا لا نفعل ذلك.

٦ ـ ١٠ ـ ثم عزّى سبحانه نبيّه (ص) بقوله : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) أي في الأمم الماضية (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني أنّ الأمم الخالية التي ذكرناها كفرت بالأنبياء وسخرت منهم لفرط جهالتهم وغباوتهم ، واستهزأت بهم كما استهزأ قومك بك ، أي فلم نضرب عنهم صفحا لاستهزائهم برسلهم ، بل كرّرنا الحجج ، وأعدنا الرسل (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي فأهلكنا من أولئك الأمم بأنواع العذاب من كان أشدّ قوة ومنعة من قومك ، فلا يغترّ هؤلاء المشركون بالقوة والنجدة (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي سبق فيما أنزلنا إليك شبه حال الكفار الماضية بحال هؤلاء في التكذيب ، ولما أهلكوا أولئك بتكذيبهم رسلهم فعاقبة هؤلاء أيضا الإهلاك (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي إن سألت قومك يا محمد (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي أنشأهما واخترعهما (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي لم يكن جوابهم في ذلك إلا أن يقولوا خلقهن يعني السماوات والأرض العزيز القادر الذي لا يقهر ، العليم بمصالح الخلق وهو الله تعالى لأنهم لا يمكنهم أن يحيلوا في ذلك على الأصنام والأوثان ، وهذا إخبار عن غاية جهلهم إذ اعترفوا بأنّ الله خلق السماوات والأرض ثم عبدوا معه غيره ، وأنكروا قدرته على البعث.

ثم وصف سبحانه نفسه فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) وقد مضى ذكره في طه (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) تسلكونها (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في أسفاركم.

١١ ـ ١٥ ـ ثم أكّد سبحانه ما قدّمه بقوله : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ

٦٥٢

السَّماءِ ماءً) أي غيثا ومطرا (بِقَدَرٍ) أي بقدر الحاجة لا زائدا عليها فيفسد ، ولا ناقصا عنها فيضرّ ولا ينفع ، وفي ذلك دلالة على أنه واقع من قادر مختار قدّره على ما تقتضيه الحكمة لعلمه بذلك (فَأَنْشَرْنا) أي فأحيينا (بِهِ) أي بذلك المطر (بَلْدَةً مَيْتاً) أي جافّة يابسة بإخراج النبات والأشجار والزروع والثمار (كَذلِكَ) أي مثل ما أخرج النبات من الأرض اليابسة (تُخْرَجُونَ) من قبوركم يوم البعث (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) يعني أزواج الحيوان من ذكر وأنثى ، وقيل معناه : خلق الاشكال جميعها من الحيوان والجماد ، فمن الحيوان : الذكر والأنثى ، ومن غير الحيوان مما هو كالمقابل كالحلو والمرّ ، والرطب واليابس ، وغير ذلك ، وقيل : الأزواج : الشتاء والصيف ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والسماء والأرض ، والجنّة والنار ، عن الحسن (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ) أي السفن (وَالْأَنْعامِ) من الإبل (ما تَرْكَبُونَ) في البحر والبر (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) بيّن سبحانه أنّ الغرض في خلق ما ذكر لتستووا على ظهور ما جعل لكم (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) فتشكروا على تلك النعمة التي هي تسخير ذلك المركب (وَتَقُولُوا) معترفين بنعمه ، منزّهين له عن شبه المخلوقين (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) المركب أي ذلله لنا حتى ركبناه (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مطيقين مقاومين في القوّة (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي ولتقولوا أيضا ذلك ومعناه : وإنّا إلى الله راجعون في آخر عمرنا على مركب آخر وهو الجنازة.

وروي أنّ رسول الله (ص) كان إذا استوى على بعيره خارجا في سفر كبّر ثلاثا وقال : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ، (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ، اللهمّ إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ، والعمل بما ترضى ، اللهمّ هوّن علينا سفرنا ، واطو عنّا بعده ، اللهمّ أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل والمال ، اللهمّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المطر في الأهل والمال ، وإذا رجع قال : آئبون تائبون لربّنا حامدون. وروى العياشي بإسناده عن أبي عبد الله (ع) قال : ذكر النعمة أن تقول : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، وعلّمنا القرآن ، ومنّ علينا بمحمد (ص) وتقول بعده : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) إلى آخره ، ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدم ذكرهم فقال : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي نصيبا ، يعني حكموا بأنّ بعض عباده وهم الملائكة له أولاد ومعنى الجعل هنا الحكم (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي جاحد لنعم الله ، مظهر لكفره ، غير مستتر به.

١٦ ـ ٢٠ ـ ثم أنكر سبحانه عليهم قولهم فقال (أَمِ) وهذا استفهام إنكار وتوبيخ ومعناه : بل (اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) أي اتّخذ ربكم لنفسه البنات (وَأَصْفاكُمْ) أي أخلصكم (بِالْبَنِينَ) وهذا كقوله : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) الآية ، ثم زاد في الاحتجاج عليهم بأن قال : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي بما جعل لله شبيها ، والمعنى : وإذا بشر أحدهم بولادة ابنة له (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) بما يلحقه من الغمّ بذلك (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي مملوء كربا وغيظا ثم وبّخهم بما افتروه فقال : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) أي أو جعلوا من ينشّؤ في الحلية ـ أي في زينة النساء ـ لله عزوجل يعني البنات (وَهُوَ فِي الْخِصامِ) يعني المخاصمة (غَيْرُ مُبِينٍ) للحجة أي لا يمكنها أن تبين الحجة عند الخصومة لضعفها (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) بأن زعموا أنّهم بنات الله (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) هذا ردّ عليهم ، أي : أحضروا خلقهم حتى علموا أنهم إناث وهذا كقوله : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً

٦٥٣

وَهُمْ شاهِدُونَ) (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) بذلك (وَيُسْئَلُونَ) عنها يوم القيامة (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي لو شاء الرحمن أن لا نعبدهم ما عبدناهم ، فإنّما عبدناهم بمشيئة الله (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي لا يعلمون صحّة ما يقولون. هذا إشارة إلى بطلان قولهم لما لم يصدر عن دليل وعلم (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلا كاذبون.

٢١ ـ ٢٥ ـ لمّا حكى الله سبحانه تخرّص من أضاف عبادة الأصنام والملائكة إلى مشيئة الله قال : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) وهو استفهام بمعنى التقرير لهم على خطئهم والتقدير : أهذا الذي ذكروه شيء تخرّصوه وافتعلوه؟ أم آتيناهم كتابا (مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أي مستمسكون بذلك ، فإذا لم يمكنهم ادعاء أنّ الله تعالى أنزل بذلك كتابا علم أن ذلك من تخرّصهم (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على ملة وطريقة. عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدّي وقيل : على جماعة ، أي كانوا مجتمعين موافقين على ما نحن عليه ، عن الجبائي (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) نهتدي بهداهم.

ثم قال سبحانه (وَكَذلِكَ) أي ، ومثل ما قال هؤلاء في الحوالة على تقليد آبائهم في الكفر (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (فِي قَرْيَةٍ) ومجمع من الناس (مِنْ نَذِيرٍ) أي نذيرا (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) وهم المتنعّمون الذين آثروا الترفّه على طلب الحجة ، يريد الرؤساء (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) نقتدي بهم فلا نخالفهم ، وأحال جميعهم على التقليد للآباء فحسب دون الحجة. والتقليد قبيح في العقول ، إذ لو كان جائزا لكان يلزم في ذلك أن يكون الحق في الشيء ونقيضه ، فكلّ فريق يقلّد أسلافه ، مع أنّ كلّا منهم يعتقد أن من سواه على خطأ وضلال وهذا باطل لا شبهة في بطلانه ، فإذا لا بدّ من الرجوع إلى حجة عقلية أو سمعية.

ثم قال سبحانه للنذير (قالَ) لهم (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) تتّبعون ما وجدتم عليه آباءكم ولا تقبلون ما جئتكم به ؛ وفي هذا أحسن التلطف في الاستدعاء إلى الحق ، وهو أنّه لو كان ما يدّعونه حقا وهدى ، وكان ما جئتكم به من الحق أهدى منه كان أوجب أن يتّبع ويرجع إليه. ثم أخبر أنهم أبوا أن يقبلوا ذلك (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أيها الرسل (كافِرُونَ) ثم ذكر سبحانه ما فعل بهم فقال : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بأن أهلكناهم وعجّلنا عقوبتهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أنبياء الله والجاحدين لهم. وفي هذا إشارة إلى انّ العاقبة المحمودة تكون لأهل الحق والمصدّقين لرسل الله.

٢٦ ـ ٣٠ ـ (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) حين رآهم يعبدون الأصنام والكواكب (إِنَّنِي بَراءٌ) أي بريء (مِمَّا تَعْبُدُونَ) ثم استثنى خالقه من جملة ما كانوا يعبدونه فقال : (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) أي سوى الله الذي خلقني وابتدأني وتقديره إلا من الذي فطرني.

قال قتادة : كانوا يقولون الله ربّنا مع عبادتهم الأوثان (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) إلى طريق الجنة بلطف من ألطافه ، وقيل : سيهدين إلى الحق بما نصب لي من الأدلة ، وفيه بيان ثقته بالله تعالى ، ودعاء لقومه إلى أن يطلبوا الهداية من عنده (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أي جعل كلمة التوحيد وهي قول : لا إله إلا الله كلمة باقية في ذرّيّة إبراهيم ونسله فلم يزل فيهم من يقولها عن قتادة ومجاهد والسدّي ، وقيل : جعل هذه الكلمة التي قالها إبراهيم وهو براءة من الشرك باقية في ولده من بعده ، وقيل : الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة الى يوم الدين ؛ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وعن السدّي قال : هم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٦٥٤

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لعلهم يتوبون ويرجعون عما هم عليه إلى الاقتداء بأبيهم إبراهيم في توحيد الله تعالى كما اقتدى الكفار بآبائهم عن الفرّاء والحسن.

ثم ذكر سبحانه نعمه على قريش (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) المشركين بأنفسهم وأموالهم وأنواع النعم ولم أعاجلهم بالعقوبة لكفرهم (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) أي القرآن ، عن السدّي ، وقيل : الآيات الدالة على الصدق (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) يبين الحق ويظهره وهو محمد (ص) (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) أي القرآن (قالُوا هذا سِحْرٌ) أي حيلة خفيّة وتمويه (وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) جاحدون لكونه من قبل الله تعالى.

٣١ ـ ٣٥ ـ (وَقالُوا) أي وقال هؤلاء الكفار (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يعنون بالقريتين : مكة والطائف. ويعنون بالرجل العظيم من إحدى القريتين : الوليد بن المغيرة من مكة ، وأبا مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. وإنما قالوا ذلك لأنّ الرجلين كانا عظيمى قومهما ، وذوي الأموال الجسيمة فيهما (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعني النبوة بيّن الخلق بين سبحانه أنه هو الذي يقسم النبوة لا غيره ، والمعنى : أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟!

ثم قال سبحانه : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي نحن قسمنا الرزق في المعيشة على حسب ما علمناه من مصالح عبادنا ، فليس لأحد أن يتحكم في شيء من ذلك ، فكما فضّلنا بعضهم على بعض في الرزق فكذلك اصطفينا للرسالة من نشاء (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) معناه : أفقرنا البعض وأغنينا البعض ، فتلقى ضعيف الحيلة ، عيّي اللسان وهو مبسوط له ، وتلقى شديد الحيلة ، بسيط اللسان ، وهو مقترّ عليه ، ولم نفوّض ذلك إليهم مع قلّة خطره ، بل جعلناه على ما توجبه الحكمة والمصلحة ، فكيف نفوّض اختيار النبوة إليهم مع عظم محلّها ، وشرف قدرها؟ (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) معناه : ان الوجه في اختلاف الرزق بين العباد في الضيق والسعة زيادة على ما فيه من المصلحة انّ في ذلك تسخيرا من بعض العباد لبعض بإحواجهم إليهم ، يستخدم بعضهم بعضا فينتفع أحدهم بعمل الآخر له فينتظم بذلك قوام أمر العالم (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي ورحمة الله سبحانه ونعمته من الثواب والجنة خير مما يجمعه هؤلاء من حطام الدنيا (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي لو لا أن يجتمع الناس على الكفر فيكونوا كلّهم كفّارا على دين واحد لميلهم إلى الدنيا ، وحرصهم عليها (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن سقفا من فضّة ، فالسقف إذا كان من فضّة فالحيطان من فضّة (وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) أي وجعلنا درجا وسلاليم من فضّة لتلك السقف عليها يعلون ويصعدون (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً) أي وجعلنا لبيوتهم أبوابا وسررا من فضّة (عَلَيْها) أي على تلك السرر (يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً) أي وجعلنا لهم مع ذلك ذهبا. والمعنى : لأعطي الكافر في الدنيا غاية ما يتمناه فيها لقلّتها وحقارتها عنده ، ولكنّه سبحانه لم يفعل ذلك لما فيه من المفسدة ، ثم أخبر سبحانه أنّ جميع ذلك إنما يتمتع به في الدنيا فقال : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) وقد مرّ بيانه (وَالْآخِرَةُ) أي الجنة الباقية (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) خاصّة لهم.

٣٦ ـ ٤٠ ـ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي يعرض عنه ، عن قتادة والسدي ، وقيل معناه : ومن يعم عنه ، عن ابن عباس وابن زيد.

قال الجبائي : شبههم بالأعمى لما لم يبصروا الحق ،

٦٥٥

والذكر : هو القرآن (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) معناه : نخلّ بينه وبين الشيطان الذي يغويه ويدعوه الى الضلالة ، فيصير قرينه عوضا عن ذكر الله ، عن الحسن وأبي مسلم ، قال الحسن : وهو الخذلان عقوبة له عن الإعراض حين علم أنّه لا يفلح ، وقيل معناه : نقرن به شيطانا في الآخرة يلزمه فيذهب به الى النار ، كما أن المؤمن يقرن به ملك فلا يفارقه حتى يصير الى الجنة (وَإِنَّهُمْ) يعني وانّ الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ) أي يصرفون هؤلاء الكفار (عَنِ السَّبِيلِ) أي عن طريق الجنة (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي ويحسب الكفار أنّهم على الهدى فيتبعونهم (حَتَّى إِذا جاءَنا) المعنى : حتى إذا جاءنا الكافر وعلم ما يستحقه من العقاب (قالَ) في ذلك الوقت لقرينه الذي أغواه (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) يعني المشرق والمغرب ، والمراد : يا ليت بيني وبينك هذا البعد مسافة فلم أرك ، ولا أغتررت بك (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) كنت لي في الدنيا حيث أضللتني وأوردتني النار ، وبئس القرين أنت لي اليوم ، فإنهما يكونان مشدودين في سلسلة واحدة زيادة عقوبة وغمّ. ويقول الله سبحانه في ذلك اليوم للكفار : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي لا يخفّف الاشتراك عنكم شيئا من العذاب لأنّ لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب. ثم قال لنبيه (ص) (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) شبّه الكفار في عدم انتفاعهم بما يسمعونه ويرونه بالصم وبالعمي (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي بيّن ظاهر معناه : لا يضيقنّ صدرك فإنّك لا تقدر على إكراههم على الإيمان.

٤١ ـ ٤٥ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه (ص) فقال : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) أي فإمّا نتوفينّك فإنا منهم منتقمون من أمتّك بعدك (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) معناه : أو نبقينّك ونرينّك في حياتك ما وعدناهم من العذاب (فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي قادرون على الانتقام منهم وعقوبتهم في حياتك وبعد وفاتك.

وروى جابر بن عبد الله الأنصاري قال إني لأدناهم من رسول الله (ص) في حجّة الوداع بمنى حتى قال : لا ألفينكم ترجعون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.

ثم أمره سبحانه بالتمسك بالقرآن فقال : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) من القرآن بأن تتلوه حقّ تلاوته ، وتتبع أوامره ، وتنتهي عما نهى فيه عنه (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي على دين حق وصواب وهو دين الإسلام (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي وإن القرآن الذي أوحي اليك لشرف لك ولقومك : أي للعرب ، لأنّ القرآن نزل بلغتهم (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) وقيل : تسألون عن القرآن وعما يلزمكم من القيام بحقّه (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) معناه : سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلنا إليهم الرسل هل جاءتهم الرسل إلّا بالتوحيد ، وهو قول أكثر المفسّرين والتقدير : سل أمم من أرسلنا أو اتباع من أرسلنا فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقيل : إنّ المراد سل أهل الكتابين التوراة والإنجيل وإن كانوا كفّارا فإنّ الحجّة تقوم بتواتر خبرهم ، والخطاب وان توجه إلى النبي (ص) فالمراد به الأمة أي سلوا من ذكرنا (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي هل جعلنا فيما مضى معبودا سوى الله يعبد؟ وقيل معناه : وسل الأنبياء وقد جمعوا له ليلة الاسراء وكانوا تسعين نبيّا منهم موسى وعيسى.

٤٦ ـ ٥٤ ـ ثم ذكر سبحانه حديث موسى (ع) فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي بالحجج الباهرة ، والمعجزات القاهرة (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي اشراف قومه ؛

٦٥٦

وخصّ الملأ بالذكر وإن كان أيضا مرسلا إلى غيرهم لأنّ من عداهم تبع لهم (فَقالَ) موسى (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أرسلني إليكم (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا) أي فلما أظهر المعجزات التي هي اليد البيضاء والعصا (إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) استهزاء واستخفافا وجهلا منهم بما عليهم من ترك النظر فيها ، وبما لهم من النفع بحصول العلم بها (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) المراد بذلك ما ترادف عليهم من الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والطمس ، وكانت كل آية من هذه الآيات أكبر من التي قبلها (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لأنهم عذّبوا بهذه الآيات وكانت عذابا لهم ، ومعجزات لموسى (ع) ، فغلب عليهم الشقاء ولم يؤمنوا (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) يعنون بذلك يا أيّها العالم ، وكان الساحر عندهم عظيما ، يعظمونه ، ولم يكن صفة ذم ، عن الكلبي والجبائي ، وقيل : إنما قالوا استهزاء بموسى عليه‌السلام ، عن الحسن ، وقيل معناه : يا أيها الذي غلبنا بسحره ، وأرادوا أنه غالب السحرة فغلبهم بسحره (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بما زعمت انه عهد عندك ، وهو انه ضمن لنا أنّا إذا آمنّا بك ان يكشف العذاب عنّا (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي راجعون إلى الحق الذي تدعونا إليه متى كشف عنّا العذاب (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي يغدرون وينقضون العهد ، وفي هذا تسلية للنبي (ص) والمعنى : فاصبر يا محمد على أذى قومك فإنّ حالك معهم كحال موسى مع قومه ، فيؤول أمرك إلى الاستعلاء على قومك كما آل أمره إلى ذلك (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) معناه : انّه لما رأى أمر موسى يزيد على الأيام ظهورا واعتلاء خاف على مملكته فأظهر الخداع ، فخطب الناس بعد ما اجتمعوا (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) أتصرّف فيها كما أشاء أراد بذلك اظهار بسطته في الملك والمال (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) مثل النيل وغيرها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي انّها كانت تجري تحت قصره وهو مشرف عليها (أَفَلا تُبْصِرُونَ) هذا الملك العظيم وقوّتي ، وضعف موسى (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي ضعيف حقير ، يعني به موسى (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي ولا يكاد يفصح بكلامه وحججه للعقدة التي في لسانه.

قال الحسن : كانت العقدة زالت عن لسانه حين أرسله الله كما قال مخبرا عن نفسه : وأحلل عقدة من لساني ثم قال : قد أوتيت سؤلك يا موسى ، وإنما عيّره بما كان في لسانه.

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي هلّا طرح عليه أسورة من ذهب ان كان صادقا في نبوّته. وكان إذا سوّدوا رجلا سوّروه بسوار من ذهب ، وطوّقوه بطوق من ذهب (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) متتابعين يعينونه على أمره الذي بعث له ، ويشهدون له بصدقه. وقيل : متعاضدين متناصرين كلّ واحد منهم يمالىء صاحبه (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) ومعناه : ان فرعون استخفّ عقول قومه (فَأَطاعُوهُ) فيما دعاهم إليه لأنه احتجّ عليهم بما ليس بدليل وهو قوله : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) إلى آخره ولو عقلوا لقالوا : ليس في ملك الإنسان دلالة على انه محقّ ، وليس يجب أن يأتي مع الرسل ملائكة لأنّ الذي يدل على صدق الرسل هو المعجز دون غيره (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله تعالى.

٥٥ ـ ٦٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن انتقامه من فرعون وقومه فقال : (فَلَمَّا آسَفُونا) أي أغضبونا ، عن ابن عباس ومجاهد ، وغضب الله سبحانه على العصاة : إرادة عقوبتهم ، ورضاه عن المطيعين : إرادة ثوابهم الذي يستحقّونه على طاعتهم ، وقيل معناه : آسفوا رسلنا ، لأن الأسف بمعنى الحزن لا يجوز على الله سبحانه (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي انتقمنا لأوليائنا منهم (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) ما نجا منهم أحد (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً)

٦٥٧

أي متقدّمين إلى النار (وَمَثَلاً) أي عبرة وموعظة (لِلْآخِرِينَ) أي لمن جاء بعدهم يتعظون بهم والمعنى : انّ حال غيرهم يشبه حالهم إذا أقاموا على العصيان (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) اختلف بالمراد به على وجوه (أحدها) ان معناه : ولما وصف ابن مريم شبها في العذاب بالآلهة فيما قالوه على زعمهم ، وذلك انه لما نزل قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال المشركون : قد رضينا بأن تكون آلهتنا حيث يكون عيسى وذلك قوله (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي يضجّون ضجيج المجادلة حيث خاصموك وهو قوله (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) أي ليست آلهتنا خيرا من عيسى ، فإن كان عيسى في النار بأنه يعبد من دون الله ، فكذلك آلهتنا.

(وثانيها) عن على عليه أفضل الصلوات قال : جئت إلى رسول الله (ص) يوما فوجدته في ملإ من قريش ، فنظر إليّ ثم قال : يا علي إنّما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم ، أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا ، وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا ، واقتصد فيه قوم فنجوا ، فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا : يشبّهه بالأنبياء والرسل فنزلت الآية (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي ما ضربوا هذا المثل لك إلّا ليجادلوك به ويخاصموك ، ويدفعوك به عن الحقّ ، لأنّ المتجادلين لا بدّ وأن يكون أحدهما مبطلا بخلاف المتناظرين ، لأن المناظرة قد تكون بين المحقّين (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي جدلون في دفع الحقّ بالباطل.

ثم وصف سبحانه المسيح فقال : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) أي ما هو إلّا عبد أنعمنا عليه بالخلق من غير أب وبالنبوّة (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي آية لهم ودلالة يعرفون بها قدرة الله تعالى على ما يريد حيث خلقه من غير أب ، فهو مثل لهم يشبّهون به ما يرون من أعاجيب صنع الله. ثم قال سبحانه دالا على كمال قدرته ، وعلى أنّه لا يفعل إلّا الأصلح (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) أي بدلا منكم معاشر بني آدم (مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) بني آدم ، أي يكونون خلفاء منهم والمعنى : لو نشاء أهلكناكم وجعلنا الملائكة بدلكم سكّان الأرض يعمرونها ويعبدون الله.

٦١ ـ ٦٥ ـ ثم رجع سبحانه إلى ذكر عيسى (ع) فقال : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) يعني أنّ نزول عيسى (ع) من أشراط الساعة ، يعلم بها قربها (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أي بالساعة ، فلا تكذّبوا بها ، ولا تشكّوا فيها (وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) معناه : واتّبعوني فيما آمركم به هذا الذي أنا عليه طريق واضح قيّم (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي ولا يصرفنّكم الشيطان بوساوسه عن دين الله (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) بيّن العداوة يدعوكم إلى الضلال الذي هو سبب هلاككم. ثم أخبر سبحانه عن حال عيسى (ع) حين بعثه الله نبيّا فقال : (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الدالة على نبوّته (قالَ) لهم (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أي بالعلم بالتوحيد والعدل والشرائع (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) المعنى : كلّ الذي تختلفون فيه (فَاتَّقُوا اللهَ) بأن تجتنبوا معاصيه ، وتعملوا بالطاعات (وَأَطِيعُونِ) فيما أدعوكم إليه (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) الذي تحقّ له العبادة (فَاعْبُدُوهُ) خالصا ولا تشركوا به شيئا (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) يفضي بكم إلى الجنة وثواب الله (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) يعني اليهود والنصارى اختلفوا في أمر عيسى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) قد مرّ تفسير الآية في سورة مريم.

٦٦ ـ ٧٥ ـ قال سبحانه موبّخا لهم (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي : هل ينتظر هؤلاء الكفار بعد ورود الرسل والقرآن (إِلَّا السَّاعَةَ) أي القيامة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يدرون وقت مجيئها (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ

٦٥٨

عَدُوٌّ) معناه : انّ الذين تخالّوا وتواصلوا في الدنيا يكون بعضهم أعداء لبعض ذلك اليوم ، يعني يوم القيامة ، وهم الذين تخالّوا على الكفر والمعصية ، ومخالفة النبي (ص) لما يرى كل واحد منهم من العذاب بسبب تلك المصادقة ، ثم استثنى من جملة الأخلّاء المتقين فقال : (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) من المؤمنين الموحّدين الذين خالّ بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى ، فإن تلك الخلّة تتأكد بينهم يوم القيامة ولا تنقلب عداوة.

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي يقال لهم وقت الخوف : يا عبادي لا خوف عليكم من العذاب اليوم (وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) من فوات الثواب ثم وصف سبحانه عباده وميّزهم عن غيرهم ، فقال (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) أي صدّقوا بحججنا ودلائلنا واتبعوها (وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أي مستسلمين لأمرنا ، خاضعين منقادين ، والذين آمنوا في محل النصب على البدل من عبادي والصفة لهم ثمّ بيّن سبحانه ما يقال لهم بقوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) اللاتي كنّ مؤمنات مثلكم (تُحْبَرُونَ) أي تسرّون وتكرمون ، وقد مرّ تفسيره في سورة الروم (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ) أي بقصاع (مِنْ ذَهَبٍ) فيها ألوان الأطعمة (وَأَكْوابٍ) أي كيزان لا عرى لها ، وقيل : بآنية مستديرة الرأس.

اكتفى سبحانه بذكر الصحاف والأكواب عن ذكر الطعام والشراب (وَفِيها) أي وفي الجنة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) من أنواع النعيم المشروبة والمطعومة والملبوسة والمشمومة وغيرها (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) أي وما تلذّه العيون بالنظر إليه ، وإنما أضاف الالتذاذ إلى الأعين وإنما الملتذّ على الحقيقة هو الإنسان ، لأنّ المناظر الحسنة سبب من أسباب اللذّة ، فإضافة اللذّة إلى الموضع الذي يلذّ الإنسان به أحسن لما في ذلك من البيان مع الإيجاز.

وقد جمع الله سبحانه بقوله ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ما لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان (وَأَنْتُمْ فِيها) أي في الجنة وأنواع من الملاذ (خالِدُونَ) أي دائمون مؤبدون (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي أعطيتموها بأعمالكم.

قال إبن عباس : الكافر يرث نار المؤمن ، والمؤمن يرث جنّة الكافر ، وهذا كقوله (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) جمع لهم بين الطعام والشراب والفواكه ، وبين دوام ذلك ، فهذه غاية الأمنيّة.

ثم أخبر سبحانه عن أحوال أهل النار فقال : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) دائمون (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) العذاب ، أي لا يخفّف عنهم (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) آيسون من كلّ خير.

٧٦ ـ ٨٥ ـ لمّا بيّن سبحانه ما يفعله بالمجرمين ، بيّن أنه لم يظلمهم بذلك فقال : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) نفوسهم بما جنوا عليها من العذاب (وَنادَوْا يا مالِكُ) أي ويدعون خازن جهنّم فيقولون : يا مالك (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أي ليمتنا ربّك حتى نتخلص ونستريح من هذا العذاب (قالَ) أي فيقول مالك مجيبا لهم (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي لابثون دائمون في العذاب.

(لَقَدْ جِئْناكُمْ) أي يقول الله تعالى : لقد أرسلنا إليكم الرسل (بِالْحَقِ) أي جاءكم رسلنا بالحق ، وأضافه إلى نفسه لأنه كان بأمره (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ) معاشر الخلق (لِلْحَقِ

٦٥٩

كارِهُونَ) لأنكم ألفتم الباطل فكرهتم مفارقته (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي بل أحكموا أمرا في كيد محمد (ص) والمكر به فإنّا مبرمون : محكمون أمرا في مجازاتهم (أَمْ يَحْسَبُونَ) أي بل أيظنّ هؤلاء الكفار (أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي ما يسرّونه من غيرهم ويتناجون به بينهم والسرّ : ما يضمره الإنسان في نفسه ولا يظهره لغيره ، والنجوى ما يحدث به المحدّث غيره في الخفية (بَلى) نسمع ذلك وندركه (وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) ما يقولونه ويفعلونه ، يعني الحفظة (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) إن بمعنى ما النفي والمعنى : ما كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين لله ، المقرّين بذلك عن ابن عباس.

ثم نزّه سبحانه نفسه عن ذلك فقال : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزيها لمالك السماوات والأرض وخالقهن ، وخالق العرش ومدبّره عما يصفونه به من اتّخاذ الولد ، لأنّ من قدر على ذلك استغنى عن اتخاذ الولد.

ثم خاطب سبحانه نبيه (ص) على وجه التهديد للكفار فقال : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) في باطلهم (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) فيه بعذاب الأبد ، وهو يوم القيامة (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أي هو الذي تحقّ له العبادة في السماء وتحقّ له العبادة في الأرض.

وإنما كرر لفظ إله لأمرين : (أحدهما) التأكيد ليتمكن المعنى في النفس (والثاني) لأن المعنى هو إله في السماء يجب على الملائكة عبادته ، وإله في الأرض يجب على الإنس والجن عبادته (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله (الْعَلِيمُ) بمصالح عباده (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي دامت بركته ، فمنه البركات وإيصال السعادات ، وجلّ عن أن يكون له ولد أو شبيه من له التصرف في السماوات والأرض وفيما بينهما بلا دافع وبلا منازع (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي علم يوم القيامة لأنه لا يعلم وقته على التعيين غيره (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة فيجازي كلّا على قدر عمله.

٨٦ ـ ٨٩ ـ ثمّ ذكر سبحانه انه لا شفاعة لمعبوديهم فقال : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي الذين يدعوه الكفار إلها ، ويوجّهون عبادتهم إليه من الأصنام وغيرها (الشَّفاعَةَ) لمن يعبدهم كما توهّمه الكفار ، وهي مسألة الطالب العفو عن غيره وإسقاط العقاب عنه (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) وهم عيسى ابن مريم ، وعزير ، والملائكة ، استثناهم سبحانه ممن عبد من دون الله فإنّ لهم عند الله منزلة الشفاعة ، عن قتادة.

وقيل معناه : لا يملك أحد من الملائكة وغيرهم الشفاعة إلا لمن شهد بالحق ، أي شهد أن لا إله إلا الله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم ، وفي هذا دلالة على أنّ حقيقة الإيمان هو الاعتقاد بالقلب والمعرفة ، لأنّ الله شرط مع الشهادة العلم وهو ما اقتضى طمأنينة القلب إلى ما اعتقده بحيث لا يتشكك إذا شكّك ، ولا يضطرب إذا حرّك (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) يا محمد (مَنْ خَلَقَهُمْ) أي أخرجهم من العدم إلى الوجود (لَيَقُولُنَّ اللهُ) لأنّهم يعلمون ضرورة أن أصنامهم لم تخلقهم (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ).

قال قتادة : هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربّه وينكر عليهم تخلفهم عن الإيمان (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أي فأعرض عنهم يا محمد بصفح وجهك ، كما قال : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (وَقُلْ سَلامٌ) أي مداراة ومتاركة وقيل : هو سلام هجران ومجانبة ، لا

٦٦٠