الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

ويحشرهم إلى وقت يوم معلوم عنده وهو يوم القيامة (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) الذين ضللتم عن طريق الحق وجزتم عن الهدى (الْمُكَذِّبُونَ) بتوحيد الله وإخلاص العبادة له ، ونبوة نبيّه (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) مفسر في سورة الصافات (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أي كشرب الهيم وهي الإبل التي أصابها الهيام : وهو شدة العطش فلا تزال تشرب الماء حتى تموت (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) النزل الأمر الذي ينزل عليه صاحبه ، والمعنى : هذا طعامهم وشرابهم يوم الجزاء في جهنم.

٥٧ ـ ٧٤ ـ ثم احتج سبحانه عليهم في البعث بقوله (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) أي نحن خلقناكم ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون ذلك (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي فهلا تصدقون؟ ولم لا تصدقون بالبعث؟ لأن من قدر على الإنشاء والابتداء قدر على الإعادة. ثم نبههم سبحانه على وجه الاستدلال على صحة ما ذكره فقال (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) أي ما تقذفون وتصبّون في أرحام النساء من النطف فيصير ولدا (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أيءأنتم تخلقون ما تمنون بشرا (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) فإذا لم تقدروا أنتم وأمثالكم على ذلك فاعلموا أن الله سبحانه الخالق لذلك ، وإذا ثبت أنه قادر على خلق الولد من النطفة وجب أن يكون قادرا على إعادته بعد موته ، لأنه ليس بأبعد منه. ثم بيّن سبحانه أنه كما بدأ الخلق فإنه يميتهم فقال (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي نحن أجرينا الموت بين العباد كما تقتضيه الحكمة ، فمنهم من يموت صبيا ومنهم من يموت شابا ، ومنهم من يموت كهلا وشيخا وهرما (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي لا يسبقنا أحد منكم على ما قدرناه من الموت حتى يزيد في مقدار حياته (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أي نأتي لخلق مثلكم بدلا منكم (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) من الصور ، أي ان أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم نسبق ولا فاتنا ذلك وتقديره : كما لم نعجز عن تغيير أحوالكم بعد خلقكم لا نعجز عن أحوالكم بعد موتكم وقيل : أراد النشأة الثانية أي ننشئكم فيما لا تعلمون من الهيئات المختلفة ، فإن المؤمن يخلق على أحسن هيئة وأجمل صورة ، والكافر على أقبح صورة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) أي المرة الأولى من الإنشاء ، وهو إبتداء الخلق حين خلقتم من نطفة وعلقة ومضغة (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي فهلا تعتبرون (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) أي ما تعملون في الأرض وتلقون فيها من البذر (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أيءأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا أم نحن المنبتون؟ فإن من قدر على انبات الزرع من الحبة الصغيرة وأن يجعلها حبوبا كثيرة قدر على إعادة الخلق إلى ما كانوا عليه (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ) أي جعلنا ذلك الزرع (حُطاماً) أي هشيما لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم ، عن عطاء والكلبي ومقاتل ، وقيل معناه : تندمون وتتأسفون على ما أنفقتم فيه ، عن عكرمة وقتادة والحسن وقيل معناه يتلاومون ، أي يلوم بعضكم بعضا على التفريط في طاعة الله (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي تقولون : إنا لمغرمون ، والمعنى : انا قد ذهب مالنا كله ونفقتنا وضاع وقتنا ولم نحصل على شيء ثم يستدركون فيقولون (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي مبخوسو الحظ ، ممنوعون من الرزق والخير. ثم قال سبحانه منبّها على دلالة أخرى (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) أي من السحاب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) نعمة منا عليكم ، ورحمة بكم. ثم قال (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) أي مرّا شديد المرارة (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي فهلا تشكرون على هذه النعمة السنية التي لا يقدر عليها أحد غير الله. ثم نبّه سبحانه على دلالة أخرى فقال (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) أي تستخرجونها وتقدحونها بزنادكم من الشجر (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) التي تنقدح النار منها ، أيءأنتم أنبتموها

٧٢١

وابتدأتموها (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) لها فلا يمكن لأحد أن يقول انه أنشأ تلك الشجرة غير الله تعالى. والعرب تقدح بالزند وهو خشب يحك بعضه ببعض فتخرج منه النار (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) أي نحن جعلنا هذه النار تذكرة للنار الأخرى الكبرى ، فإذا رآها الرائي ذكر جهنّم واستعاذ بالله منها وقيل معناه : تذكرة يتذكر بها ويتفكر فيها فيعلم ان من قدر عليها وعلى إخراجها من الشجر الرطب قدر على النشأة الثانية (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) أي وجعلناها بلغة ومنفعة للمسافرين ، يعني الذين نزلوا الأرض ، ولما ذكر سبحانه ما يدل على توحيده وإنعامه على عبيده قال (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فبرّىء الله تعالى مما يقولونه في وصفه ، ونزهه عما لا يليق بصفاته ، وقيل معناه : قل : سبحان ربي العظيم ، فقد صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه لما نزلت هذه الآية قال : اجعلوها في ركوعكم.

٧٥ ـ ٨٧ ـ ثم أكّد سبحانه ما تقدم ذكره بقوله (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) ولا زائدة والمعنى : فأقسم واختلف في معنى مواقع النجوم فقيل : هي مطالع النجوم ومساقطها وقيل معناه : أقسم بنزول القرآن فإنه نزل متفرقا قطعا نجوما (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) قال الزجاج والفراء : وهذا يدل على ان المراد بمواقع النجوم نزول القرآن ، والضمير في إنه يعود إلى القسم ودل عليه قوله أقسم والمعنى : ان القسم بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون ، ثم ذكر المقسم به فقال (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) معناه : إن الذي تلوناه عليك قرآن كريم ، أي عام المنافع ، كثير الخير ، ينال الأجر العظيم بتلاوته والعمل بما فيه ، وقيل : كريم عند الله تعالى ، أكرمه الله تعالى وأعزّه لأنه كلامه ، وقيل : كريم لأنه كلام ربّ العزة ، ولأنه محفوظ عن التغيير والتبديل ، ولأنه معجز ، ولأنه يشتمل على الأحكام والمواعظ ، وكل جليل خطير وعزيز فهو كريم (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي مستور من خلقه عند الله وهو اللوح المحفوظ ، أثبت الله فيه القرآن (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) معناه : لا يمسّه إلّا الملائكة الذين وصفوا بالطهارة من الذنوب (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي هذا القرآن منزل من عند الله تعالى الذي خلق العباد ودبّرهم على ما أراد ، ثم خاطب سبحانه أهل مكة فقال (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) الذي حدثناكم به ، وأخبرناكم فيه عن حوادث الأمور وهو القرآن (أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي مكذبون. قال مؤرج : هو الذي يلين جانبه ليخفي كفره ، وأصله من الدهن (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون حظكم من الخير الذي هو كالرزق لكم أنكم تكذبون به (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أي فهلا إذا بلغت النفس الحلقوم عند الموت (وَأَنْتُمْ) يا أهل الميت (حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) معناه : لا يمكنكم الدفع ، ولا تملكون شيئا (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) بالعلم والقدرة (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) ذلك ولا تعلمونه (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعني فهلا ترجعونها ، أي فهلا ترجعون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم وتردونها إلى موضعها إن كنتم غير مجزيين بثواب وعقاب ، وغير محاسبين ، والمراد : ان الأمر إن كان كما تقولونه من انه لا بعث ولا حساب ولا جزاء ولا إله يحاسب ويجازي فهلا رددتم الأرواح والنفوس من حلقومكم إلى أبدانكم إن كنتم صادقين في قولكم؟ فإذا لم تقدروا على ذلك فاعلموا أنه من تقدير مقدر حكيم ، وتدبير مدبر عليم.

٨٨ ـ ٩٦ ـ ثم ذكر سبحانه صفات الخلق عند الموت فقال (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي فإن كان ذلك المحتضر الذي بلغت روحه الحلقوم من المقربين عند الله ، وهم السابقون الذين ذكروا في أول السورة (فَرَوْحٌ) وهو الهواء الذي تستلذه النفس ويزيل عنها الهم (وَرَيْحانٌ) هو الريحان المشموم من

٧٢٢

ريحان الجنة يؤتى به عند الموت فيشمه (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) يدخلونها (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي قد كان المتوفى من أصحاب اليمين (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) قيل معناه : فسلام لك أيها الإنسان الذي هو من أصحاب اليمين من عذاب الله ، وسلمت عليك ملائكة الله (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) بالبعث والرسل وآيات الله (الضَّالِّينَ) عن الهدى ، الذاهبين عن الصواب والحق (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي فنزلهم الذي أعد لهم من الطعام والشراب من حميم جهنم (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي إدخال نار عظيمة كما قال (وَيَصْلى سَعِيراً) في قراءة من شدد (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أضاف الحق إلى اليقين وهما واحد للتأكيد ، أي هذا الذي أخبرتك به من منازل هؤلاء الأصناف الثلاثة هو الحق الذي لا شك فيه ، واليقين الذي لا شبهة معه (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي نزّه الله سبحانه عن السوء والشرك ، وعظمه بحسن الثناء عليه وقيل معناه : قولوا سبحان ربّي العظيم والعظيم في صفة الله تعالى معناه : ان كل شيء سواه يقصر عنه فإنه القادر العالم الغني الذي لا يساويه شيء ، ولا يخفى عليه شيء ، جلت آلاؤه وتقدست أسماؤه.

سورة الحديد

مدنية وآياتها تسع وعشرون آية

١ ـ ٦ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ) أي نزهه وأثنى عليه بما هو أهله ، وبرأه من كل سوء (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال مقاتل : يعني كل شيء من ذي الروح وغيره ، وكل خلق فيهما ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، وتحقيقه : ان العقلاء يسبحونه قولا واعتقادا ولفظا ومعنى ، وما ليس بعاقل من سائر الحيوانات والجمادات فتسبيحه ما فيه من الأدلة الدالة على وحدانيته ، وعلى الصفات التي باين بها جميع خلقه ، وما فيه من الحجج على أنه لا يشبه خلقه وأن خلقه لا يشبهه ، فعبر سبحانه عن ذلك بالتسبيح (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي القادر الذي لا يمتنع عليه شيء ، المحكم لأفعاله العليم بوجوه الصواب في التدبير (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف في جميع ما في السموات والأرض من الموجودات بما يشاء من التصرف ، وليس لأحد منعه منه ، وذلك هو الملك الأعظم (يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يحيي الأموات للبعث ، ويميت الأحياء في الدنيا (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر على المعدومات بإيجادها وإنشائها ، وعلى الموجودات بتغييرها وإفنائها وعلى أفعال العباد ومقدوراتهم بالإقدار عليها ، وسلبهم القدرة عليها (هُوَ الْأَوَّلُ) أي أول الموجودات وتحقيقه : أنه سابق لجميع الموجودات بما لا يتناهى من تقدير الأوقات لأنه قديم وما عداه محدث ، والقديم يسبق المحدث بما لا يتناهى من تقدير الأوقات (وَالْآخِرُ) بعد فناء كل شيء ، لأنه يفني الأجسام كلها وما فيها من الأعراض ويبقى وحده (وَالظَّاهِرُ) وهو الغالب العالي على كل شيء ، فكل شيء دونه (وَالْباطِنُ) العالم بكل شيء فلا أحد أعلم منه عن ابن عباس وقيل : الظاهر بالأدلة والشواهد ، والباطن الخبير العالم بكل شيء وقيل : معنى الظاهر والباطن : أنه العالم بما ظهر ، والعالم بما بطن وقيل : الظاهر بأدلته ، والباطن من إحساس خلقه وقيل : الأول بلا ابتداء ، والآخر بلا انتهاء ، والظاهر بلا اقتراب ، والباطن بلا احتجاب وقيل : الأول ببره إذ هداك ، والآخر بعفوه إذ قبل توبتك ، والظاهر بإحسانه وتوفيقه إذا أطعته ، والباطن بستره إذا عصيته وقيل : إن الواوات مقحمة والمعنى : هو الأول الآخر الظاهر الباطن ، لأن كل من كان منا أولا لا يكون آخرا ، ومن كان منّا ظاهرا لا يكون باطنا ، عن عبد العزيز بن يحيى ، وقيل : هو الأول القديم ، والآخر الرحيم ، والظاهر الحكيم ، والباطن العليم ، عن يمان ، وقال البلخي : هو كقول القائل :

٧٢٣

فلان أول هذا الأمر وآخره ، وظاهره وباطنه ، أي عليه يدور الأمر ، وبه يتم (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ) يصح أن يكون معلوما (عَلِيمٌ) لأنه عالم لذاته (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) لما في ذلك من اعتبار الملائكة بظهور شيء بعد شيء من جهته ، ولما في الاخبار به من المصلحة للمكلفين ، ولو لا ذلك لكان يخلقهما في لحظة واحدة لأنه القادر لذاته (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) المعروف في السماء ، واستواؤه عليه كونه قادرا على خلقه وإفنائه وتصريفه (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم ما يدخل في الأرض ويستتر فيها ، ويعلم ما يخرج من الأرض من سائر أنواع النبات والحيوان والجماد ، لا يخفى عليه شيء منها (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) أي ويعلم ما ينزل من السماء من مطر وغير ذلك من أنواع ما ينزل منها ، ويعلم ما يعرج في السماء من الملائكة ، وما يرفع إليها من أعمال الخلق (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) بالعلم الذي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأحوالكم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من خير وشر (بَصِيرٌ) أي عليم (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يتصرف فيهما كيف يشاء (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) يوم القيامة ، يعني أن جميع من ملّكه شيئا في الدنيا يزول ملكه عنه ، وينفرد سبحانه بالملك كما كان كذلك قبل أن خلق الخلق (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل ما نقص من الليل في النهار ، وما نقص من النهار في الليل ، أي حسب ما دبّره فيه من مصالح عباده عن عكرمة وإبراهيم (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي هو عالم بأسرار خلقه وما يخفونه من الضمائر والاعتقادات والإرادات والكراهات والعزائم في قلوبهم ، لا يخفى عليه شيء منها ؛ وفي هذا تحذير من المعاصي.

٧ ـ ١٠ ـ ثم خاطب سبحانه المكلفين فقال (آمِنُوا بِاللهِ) معاشر العقلاء ، أي صدّقوا الله وأقرّوا بوحدانيته ، وإخلاص العبادة له (وَرَسُولِهِ) أي وصدقوا رسوله واعترفوا بنبوته (وَأَنْفِقُوا) في طاعة الله والوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها (مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي من المال الذي استخلفكم الله فيه بوراثتكم إياه عمن قبلكم ؛ ونبه سبحانه بهذا على ان ما في أيدينا يصير لغيرنا كما صار إلينا ممّن قبلنا ، وحثّنا على استيفاء الحظ منه قبل أن يصير لغيرنا. ثم بيّن سبحانه ما يكافيهم على ذلك إذا فعلوه فقال (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بالله ورسوله (وَأَنْفِقُوا) في سبيله (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي جزاء وثواب عظيم دائم لا يشوبه كدر ولا تنغيص (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي وأيّ شيء يمنعكم من الإيمان بالله مع وضوح الدلائل على وحدانيته (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) إلى ما ركب الله في عقولكم من معرفة الصانع وصفاته (لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) بما أودع الله في قلوبكم من دلالات العقل الموصلة إلى الإيمان به ؛ فإن الميثاق هو الأمر المؤكد الذي يجب العمل به (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مصدقين بحق ، فالآن فقد ظهرت أعلامه ، ووضحت براهينه والمعنى : أي عذر لكم في ترك الإيمان وقد انزاحت العلل ، وارتفعت الشبه ، ولزمتكم الحجج العقلية والسمعية ، فالعقلية : ما في فطرة العقول ، والسمعية : دعوة الرسول المؤيدة بالأدلة المؤدية إلى المدلول (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي حججا منيرة ، وبراهين واضحة (لِيُخْرِجَكُمْ) الله بالقرآن والأدلة ، وقيل : ليخرجكم الرسول بالدعوة (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من الكفر إلى الإيمان بالتوفيق والهداية والألطاف والأدلة (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حين بعث الرسول ، ونصب الأدلة ، والرأفة والرحمة واحد وإنما جمع بينهما للتأكيد ، وقيل : الرأفة : النعمة على المضرور ، والرحمة : النعمة على المحتاج ؛ وفي هذا دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر ، فإنه بيّن أن الغرض

٧٢٤

في إنزال القرآن الإيمان به. ثم حثّهم سبحانه على الإنفاق فقال (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي أيّ شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقرّب إلى الله تعالى (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني يفني الخلق ويبقى هو ، والمعنى فيه : أن الدنيا وأموالها ترجع إلى الله فلا يبقى لأحد فيها ملك ولا أمر كما يرجع الميراث إلى مستحقّيه ، فاستوفوا حظكم من أموالكم قبل أن تخرج من أيديكم. ثم بيّن سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله فقال (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) بيّن سبحانه أن الإنفاق قبل فتح مكة إذا انضم إليه الجهاد أكثر ثوابا عند الله من النفقة والجهاد بعد ذلك ، وذلك أن القتال قبل الفتح كان أشد ، والحاجة إلى النفقة وإلى الجهاد كان أكثر ثوابا عند الله من النفقة والجهاد بعد ذلك ، وذلك أن القتال قبل الفتح كان أشد ، والحاجة إلى النفقة وإلى الجهاد كان أكثر وأمسّ. ثم سوّى سبحانه بين الجميع في الوعد بالخير والثواب في الجنة فقال (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي الجنة والثواب فيها وان تفاضلوا في مقادير ذلك (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي لا يخفى عليه شيء من إنفاقكم وجهادكم فيجازيكم بحسب نياتكم وبصائركم وإخلاصكم في سرائركم.

١١ ـ ١٥ ـ ثم حثّ سبحانه على الإنفاق فقال (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي طيبة به نفسه (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) أي يضاعف له الجزاء من بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي جزاء خالص لا يشوبه صفة نقص ، فالكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير ، فلما كان ذلك الأجر يعطي النفع العظيم وصف بالكريم ، والأجر الكريم : هو الجنة (يَوْمَ تَرَى) يا محمد (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) على الصراط يوم القيامة وهو دليلهم إلى الجنة (يَوْمَ تَرَى) يا محمد (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) على الصراط يوم القيامة وهو دليلهم إلى الجنة ؛ ويريد بالنور الضياء الذي يرونه ويمرّون فيه ، وقال قتادة : ان المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء ودون ذلك ، حتى ان من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلّا موضع قدميه ، وقال عبد الله بن مسعود : ويؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من نوره مثل الجبل ، وأدناهم نورا نوره على ابهامه ، يطفأ مرة ويوقد أخرى ، وقال الضحاك : وبأيمانهم : يعني كتبهم التي اعطوها ، ونورهم بين أيديهم ؛ وتقول لهم الملائكة (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي الذي تبشرون به اليوم جنات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي مؤبدين دائمين لا تفنون (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الظفر بالمطلوب ، ثم ذكر حال المنافقين في ذلك اليوم فقال (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ظاهرا وباطنا (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي انهم إذا خرجوا من قبورهم اختلطوا ، فيسعى المنافقون في نور المؤمنين ، فإذا ميّزوا بقوا في الظلمة فيستغيثون ويقولون هذا القول (قِيلَ) أي فيقال للمنافقين (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) أي ارجعوا إلى المحشر حيث أعطينا النور (فَالْتَمِسُوا نُوراً) فيرجعون فلا يجدون نورا وذلك أنه تغشى الجميع ظلمة شديدة ثم يقسم النور ويعطى المؤمن نورا ، ويترك الكافر والمنافق ، وقيل معنى قوله : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) : ارجعوا إلى الدنيا إن أمكنكم فاطلبوا النور منها بالإيمان والطاعات ، وعند ذلك يقول المؤمنون : ربّنا أتمم لنا نورنا (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) أي ضرب بين المؤمنين والمنافقين سور والمعنى : حيل بينهم وبينهم بسور وهو حائط بين الجنة والنار عن قتادة وقيل هو سور على الحقيقة (لَهُ بابٌ) أي لذلك السور باب (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ) أي من قبل ذلك الظاهر (الْعَذابُ) وهو النار وقيل : باطنه : أي باطن ذلك السور فيه الرحمة أي : الجنة التي فيها المؤمنون ، وظاهره : أي وخارج السور من قبله يأتيهم العذاب ، يعني أن المؤمنين يسبقونهم ويدخلون الجنة ، والمنافقون يجعلون في النار والعذاب ، وبينهم السور الذي

٧٢٥

ذكره الله (يُنادُونَهُمْ) أي ينادي المنافقون المؤمنين (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الدنيا نصوم ونصلي كما تصومون وتصلون ، ونعمل كما تعملون (قالُوا بَلى) أي يقول المؤمنون لهم بلى كنتم معنا (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي استعملتموها في الكفر والنفاق وكلها فتنة وقيل معناه : تعرضتم للفتنة بالكفر والرجوع عن الإسلام وقيل معناه : أهلكتم أنفسكم بالنفاق (وَتَرَبَّصْتُمْ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموت وقلتم : يوشك أن يموت فنستريح منه عن مقاتل وقيل : تربصتم بالمؤمنين الدوائر (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في الدين (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) التي تمنيتموها بأن تعود الدائرة على المؤمنين (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي الموت وقيل : القاؤهم في النار ، عن قتادة (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) يعني الشيطان غركم بحلم الله وإمهاله وقيل : الغرور الدنيا (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أيها المنافقون ، أي بدل بأن تفدوا أنفسكم من العذاب (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ولا من سائر الكفار الذين أظهروا الكفر (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي مقركم وموضعكم الذي تأوون إليه النار (هِيَ مَوْلاكُمْ) أي هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس المأوى والمرجع الذي تصيرون إليه.

١٦ ـ ٢٠ ـ ثم دعاهم سبحانه إلى الطاعة بقوله (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي أما حان للمؤمنين (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) أي ترقّ وتلين قلوبهم (لِذِكْرِ اللهِ) أي لما يذكّرهم الله به من مواعظه (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) يعني القرآن ومن شدد فالمراد وما نزّله الله من الحق (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى (مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي طال الزمان بينهم وبين أنبيائهم وقيل : طال عليهم الأمد للجزاء ، أي لم يعاجلوا بالجزاء فاغتروا بذلك (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي فغلظت قلوبهم وزال خشوعها ، ومرنوا على المعاصي واعتادوها وقيل : طالت أعمارهم ، وساءت أعمالهم ، فقست قلوبهم ، وينبغي أن يكون هذا متوجها إلى جماعة مخصوصة لم يوجد منهم الخشوع التام فحثّوا على الرقة والخشوع ، فأما من وصفهم الله تعالى بالخشوع والرقة والرحمة فطبقة من المؤمنين فوق هؤلاء عن الزجاج ، ومن كلام عيسى (ع) : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم ، فإن القلب القاسي بعيد من الله ، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد ، والناس رجلان مبتلى ومعافى ، فارحموا أهل البلاء ، واحمدوا الله على العافية (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي خارجون عن طاعة الله تعالى إلى معصيته : أي فلا تكونوا مثلهم فيحكم الله فيكم بمثل ما حكم فيهم (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي يحييها بالنبات بعد اليبس والجدوبة ، أي فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالضلال والكفر ، بأن يلطف له ما يؤمن عنده وقيل معناه : إن الله يلين القلوب بعد قسوتها بالألطاف والتوفيقات (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أي الحجج الواضحات ، والدلائل الباهرات (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فترجعون إلى طاعتنا وتعملون بما أمرناكم به (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي وانفقوا في وجوه الخير (يُضاعَفُ لَهُمْ) ذلك القرض الحسن ، أي يجازون أمثال ذلك (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) مر معناه (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي صدقوا بتوحيد الله ، واقروا بنبوة رسله (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسله فهو صديق وشهيد وقرأ هذه الآية ؛ والصديق : الكثير الصدق المبالغ فيه ، وهو اسم مدح وتعظيم (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي وأولئك الشهداء عند ربهم والتقدير : أولئك الصديقون عند ربهم ، والشهداء عند ربهم ثم قال (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي لهم ثواب طاعاتهم ، ونور إيمانهم الذي يهتدون به إلى طريق الجنة ، وروى العياشي بالإسناد عن

٧٢٦

منهال القصاب قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : ادع الله أن يرزقني الشهادة فقال : إن المؤمن شهيد وقرأ هذه الآية ، وعن الحرث بن المغيرة قال : كنا عند أبي جعفر عليه‌السلام فقال : العارف منكم هذا الأمر ، المنتظر له ، المحتسب فيه الخير ، كمن جاهد والله مع قائم آل محمد (ع) بسيفه ، ثم قال بل والله كمن جاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيفه ، ثم قال الثالثة : والله كمن استشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في فسطاطه ، وفيكم آية من كتاب الله ، قلت : وأيّ آية جعلت فداك؟ قال قول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، ثم قال : صرتم والله صادقين شهداء عند ربكم. والمراد بالشهداء الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم ، وهو قول ابن عباس ومسروق (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) يبقون فيها دائمين. ثم زهد سبحانه المؤمنين في الدنيا والركون إلى لذاتها فقال (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) يعني ان الحياة في هذه الدار الدنيا (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي بمنزلة اللهو واللعب إذ لا بقاء لذلك ولا دوام ، ويزول عن وشيك كما يزول اللهو واللعب (وَزِينَةٌ) تتزينون بها في الدنيا (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) أي يفاخر الرجل بها قرينه وجاره عن ابن عباس (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) يجمع ما لا يحل له تكاثرا به ، ويتطاول على أولياء الله بماله وولده وخدمه والمعنى : أنه يفني عمره في هذه الأشياء. ثم بيّن سبحانه لهذه الحياة شبها فقال (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) أي أعجب الزراع ما ينبت من ذاك الغيث (ثُمَّ يَهِيجُ) أي ييبس (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) وهو إذا قارب اليبس (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) يتحطم ويتكسر بعد يبسه (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) لأعداء الله (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لأوليائه وأهل طاعته (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) لمن اغترّ بها ولم يعمل لآخرته. قال سعيد بن جبير : متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة ، ومن اشتغل بطلبها فهي له متاع بلاغ الى ما هو خير منه. وقيل معناه : والعمل للحياة الدنيا متاع الغرور ، وانّه كهذه الأشياء التي مثّل بها الزوال والفناء.

٢١ ـ ٢٥ ـ ثمّ رغّب سبحانه في المسابقة لطلب الجنة فقال (سابِقُوا) أي بادروا العوارض القاطعة عن الأعمال الصالحة ، وسارعوا إلى ما يوجب الفوز في الآخرة (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى التوبة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي وسابقوا إلى استحقاق ثواب جنة هذه صفتها وذكر العرض دون الطول ، ان الطول قد يكون بلا عرض ولا يكون عرض بلا طول ، والمراد به : ان العرض مثل السموات والأرض ، وطولها لا يعلمه إلا الله تعالى (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي أدّخرت وهيئت للمؤمنين (بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) وقيل معناه : ان أحدا لا ينال خيرا في الدنيا والآخرة إلا بفضل الله ، فإنه سبحانه لو لم يدعنا إلى الطاعة ، ولم يبين لنا الطريق ، ولم يوفقنا للعمل الصالح لما اهتدينا إليه ، وذلك كله من فضل الله ، وأيضا فإنه سبحانه تفضل بالأسباب التي يفعل بها الطاعة : من التمكين ، والألطاف ، وكمال العقل ، وعرض المكلف للثواب ، فالتكليف أيضا تفضل وهو السبب الموصل إلى الثواب ، وقال أبو القاسم البلخي : ان الله سبحانه وتعالى لو اقتصر لعباده في طاعاتهم على مجرد إحساناته السالفة إليهم لكان عدلا ، فلهذا جعل سبحانه الثواب والجنة فضلا. وفي هذه الآية أعظم رجاء لأهل الإيمان ، لأنه ذكر ان الجنة معدّة للمؤمنين ولم يذكر مع الإيمان شيئا آخر (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي ذو الافضال العميم ، والإحسان الجسيم إلى عباده (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) مثل قحط المطر ، وقلة النبات ، ونقص الثمرات

٧٢٧

(وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) من الأمراض ، والثكل بالأولاد (إِلَّا فِي كِتابٍ) يعني إلّا وهو مثبت مذكور في اللوح المحفوظ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي من قبل أن نخلق الأنفس ، والمعنى : أنه تعالى أثبتها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الأنفس ليستدل ملائكته به على أنه عالم لذاته ، يعلم الأشياء بحقائقها (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي اثبات ذلك على كثرته هيّن على الله ، يسير سهل غير عسير. ثم بيّن سبحانه لم فعل لذلك فقال (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) أي فعلنا ذلك لئلا تحزنوا على ما يفوتكم من نعم الدنيا (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي بما أعطاكم الله منها ؛ والذي يوجب نفي الأسى والفرح من هذا ان الإنسان إذا علم أن ما فات منها ضمن الله تعالى عليه العوض في الآخرة ، فلا ينبغي أن يحزن لذلك ، وإذا علم أن ما ناله منها كلف الشكر عليه ، والحقوق الواجبة فيه ، فلا ينبغي أن يفرح به ، وأيضا فإذا علم أن شيئا منها لا يبقى فلا ينبغي أن يهتم له ، بل يجب أن يهتم لأمر الآخرة التي تدوم ولا تبيد (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي متكبر بما أوتي ، فخور على الناس بالدنيا (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بمنع الواجبات (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل عن سيّد بني عوف فقالوا : جد بن قيس على أنه يزنّ بالبخل فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأيّ داء أدوى من البخل ، سيدكم البراء بن معرور. ومعنى يزن يتهم ويقرف (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي يعرض عما دعاه الله إليه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عنه وعن طاعته وصدقته (الْحَمِيدُ) في جميع أفعاله. ثم أقسم سبحانه فقال (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلائل والمعجزات (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) المكتوب الذي يتضمن الأحكام ، وما يحتاج إليه الخلق من الحلال والحرام كالتوراة والإنجيل والقرآن (وَالْمِيزانَ) أي وأنزلنا معهم من السماء الميزان ذا الكفتين الذي يوزن به (لِيَقُومَ النَّاسُ) في معاملاتهم (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، والمراد : وأمرنا بالعدل كقوله : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد والنار والماء والملح ، وقال أهل المعاني : معنى أنزلنا الحديد أنشأناه وأحدثناه كقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ؛ وإلى هذا ذهب مقاتل فقال معناه : بأمرنا كان الحديد ، وقال قطرب : معنى أنزلنا هنا : هيأنا وخلقنا ، من النزل وهو ما يهيأ للضيف ، أي أنعمنا بالحديد وهيأناه لكم ، وقيل : أنزل مع آدم من الحديد العلاة ـ وهي السندان ـ والكلبتان والمطرقة (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي يمتنع به ، ويحارب به والمعنى : أنه يتخذ منه آلتان : آلة للدفع ، وآلة للضرب (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) يعني ما ينتفعون به في معاشهم مثل السكين والفأس والإبرة وغيرها مما يتخذ من الحديد من الآلات وقوله (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي وليعلم الله نصرة من ينصره موجودة ، وجهاد من جاهد مع رسوله موجودا ، وقوله : بالغيب : أي بالعلم الواقع بالاستدلال والنظر من غير مشاهدة بالبصر (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على الانتقام من أعدائه (عَزِيزٌ) أي منيع من أن يعترض عليه في أرضه وسمائه.

٢٦ ـ ٢٩ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم من ذكر الأنبياء بقصة إبراهيم (ع) ونوح (ع) فقال سبحانه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) وإنّما خصهما بالذكر لفضلهما ، ولأنهما أبوا الأنبياء (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) يعني أن الأنبياء كلهم من نسلهما وذريتهما ، وعليهم أنزل الكتاب. ثم أخبر عن حال ذريتهما فقال (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) إلى طريق الحق (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي خارجون عن طاعة الله إلى معصيته (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي ثم أتبعنا بالإرسال على آثار من ذكرناهم من الأنبياء برسل آخرين إلى قوم آخرين ، وأنفذناهم

٧٢٨

رسولا بعد رسول (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) بعدهم فأرسلناه رسولا (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أي وأعطينا عيسى بن مريم الإنجيل (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في دينه يعني الحواريين وأتباعهم اتبعوا عيسى عليه‌السلام (رَأْفَةً) وهي أشد الرقة (وَرَحْمَةً) وإنما أضاف الرأفة والرحمة إلى نفسه لأنه سبحانه جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة بالأمر به ، والترغيب فيه ، ووعد الثواب عليه (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) وهي الخصلة من العبادة يظهر فيها معنى الرهبة ، أما في كنيسة أو انفراد عن الجماعة أو غير ذلك من الأمور التي يظهر فيها نسك صاحبه والمعنى : ابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم وقيل : إن الرهبانية التي ابتدعوها هي رفض النساء ، واتخاذ الصوامع (إِلَّا) أنهم اتبعوها (ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) وقوله فما رعوها على ضربين أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم والآخر أن يكونوا حين بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يؤمنوا به ، كانوا تاركين لطاعة الله فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها ، ودليل ذلك قوله (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) يعني الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي كافرون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي اعترفوا بتوحيد الله ، وصدقوا بموسى وعيسى (ع) (اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) أي يؤتكم نصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) نصيبا لإيمانكم بمن تقدم من الأنبياء ونصيبا لايمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ابن عباس (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) أي هدى تهتدون به عن مجاهد وقيل : النور القرآن وفيه الأدلة على كل حق ، والبيان لكل خير ، وبه يستحق الضياء الذي يمشي به يوم القيامة. عن ابن عباس (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي ويستر عليكم ذنوبكم (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال سعيد بن جبير : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه ، فقدم عليه ودعاه فاستجاب له وآمن به ، فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا : ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به ، فقدموا مع جعفر ، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : يا نبيّ الله إن لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها ، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين ، فأنزل الله فيهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) ، إلى قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين ، فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) ، فخروا على المسلمين فقالوا : يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم وكتابنا فله أجران ، ومن آمن منا بكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟ فنزل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) الآية ، فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة ثم قال : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ). وعن رسول الله (ص) قال : أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه (ع) وآمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فله أجران وأيما مملوك أدّى حقّ الله وحقّ مواليه فله أجران (لِئَلَّا يَعْلَمَ) أي لأن يعلم (أَهْلُ الْكِتابِ) يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحسدوا المؤمنين منهم (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) ومعناه : جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعلم الذين لم يؤمنوا أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في فضل الله (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فآتى المؤمنين منهم أجرين (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يتفضل على من يشاء من عباده المؤمنين وقيل : ان المراد بفضل الله هنا النبوة ، أي لا يقدرون على نبوة الأنبياء ، ولا على صرفها عمن شاء الله أن يخصه بها فيصرفونها عن محمد صلّى الله

٧٢٩

عليه وآله وسلم إلى من يحبونه بل هي بيد الله يعطيها من يشاء ممن هو أهلها ويعلم أنه يصلح لها ، وقيل : إنما تدخل لا صلة في كل كلام دخل في أواخره أو أوائله جحد وإن لم يكن مصرّحا به نحو قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ، (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ).

سورة المجادلة

مدنية وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية

لما ختم الله سورة الحديد بذكر فضله على من يشاء من عباده ، افتتح هذه السورة بذكر بيان فضله في إجابة الدعوة كما أجاب دعاء تلك المرأة فقال :

١ ـ ٥ ـ (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) أي تراجعك في أمر زوجها ، عن أبي العالية (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) أي وتظهر شكواها وما بها من المكروه فتقول : اللهم إنك تعلم حالي فارحمني ، فإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) أي تخاطبكما ومراجعتكما الكلام (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي يسمع المسموعات ، ويرى المرئيات. ثم قال سبحانه يذم الظهار (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) أي يقولون لهن : أنتن كظهور أمهاتنا (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) أي ما اللواتي تجعلونهن من الزوجات كالأمهات بأمهات ، أي لسن بأمهاتهم (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي ما أمهاتهم إلا الوالدات (وَإِنَّهُمْ) يعني المظاهرين (لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) لا يعرف في الشرع (وَزُوراً) أي كذبا ، لأن المظاهر إذا جعل ظهر امرأته كظهر أمه وليست كذلك كان كاذبا (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) عفا عنهم وغفر لهم وأمرهم بالكفارة. ثم بيّن سبحانه حكم الظهار فقال (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) يعني الذين يقولون القول الذي حكيناه (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) قال الأخفش : تقدير الآية : والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم ، أي فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به من ذكر التحريم (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فعليهم تحرير رقبة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي من قبل أن يجامعها فيتماسّا والتحرير : هو أن يجعل الرقبة المملوكة حرة بالعتق بأن يقول المالك لمن يملكه : أنت حرّ (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) أي ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به ، أي أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار قاله الزجاج (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم بأعمالكم فلا تدعوا ما وعظكم به من الكفارة قبل الوطء فيعاقبكم عليه (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين قبل الجماع والتتابع عند أكثر الفقهاء أن يوالي بين أيام الشهرين الهلاليين أو يصوم ستين يوما. وقال أصحابنا : انه إذا صام شهرا ومن الثاني شيئا ولو يوما واحدا ثم أفطر لغير عذر فقد أخطأ إلا أنه يبني عليه ولا يلزمه الاستئناف ، وإن أفطر قبل ذلك استأنف ، ومتى بدأ بالصوم وصام بعض ذلك ثم وجد الرقبة لا يلزمه الرجوع إليها وإن رجع كان أفضل ، وقال قوم : إنه يلزمه الرجوع إلى العتق وقوله (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي فمن لم يطق الصوم لعلة أو كبر فإطعام ستين مسكينا فعليه إطعام ستين فقيرا لكل مسكين نصف صاع ، فإن لم يقدر فمد (ذلِكَ) أي افترض ذلك الذي وصفناه (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي لتصدقوا بما أتى به الرسول ، وتصدقوا بأن الله أمر به (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) يعني ما وصفه من الكفارات في الظهار ، أي هي شرائع الله وأحكامه (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وللجاحدين المتعدين حدود الله عذاب مؤلم في الآخرة (إِنَّ الَّذِينَ

٧٣٠

يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يخالفون أمر الله ، ويعادون رسوله (كُبِتُوا) أي أذلوا واخزوا (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كما أخزي الذين من قبلهم من أهل الشرك (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) أي حججا واضحات من القرآن وما فيه من الأدلة والبيان (وَلِلْكافِرِينَ) الجاحدين لما أنزلناه (عَذابٌ مُهِينٌ) يهينهم ويخزيهم.

النزول

قال ابن عباس : نزل قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) الآية في اليهود والمنافقين ، انهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين ، وينظرون إلى المؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا : ما نراهم إلّا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو مصيبة أو هزيمة ، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم ، فلما طال ذلك شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك ، وعادوا إلى مناجاتهم فنزلت الآية.

٦ ـ ١٠ ـ ثم بيّن سبحانه وقت ذلك العذاب فقال (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي يحشرهم إلى أرض المحشر ويعيدهم أحياء (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي يخبرهم ويعلمهم بما عملوه من المعاصي في دار الدنيا (أَحْصاهُ اللهُ) عليهم وأثبته في كتاب أعمالهم (وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) معناه : أنه يعلم الأشياء كلها من جميع وجوهها لا يخفى عليه شيء منها ومنه قوله شهد الله أنه لا إله إلا هو ، أي علم الله. ثم بيّن سبحانه أنه يعلم ما يكون في العالم فقال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يعني جميع المعلومات ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد جميع المكلفين وهو استفهام معناه التقرير ؛ أي ألم تعلم وقيل : ألم تر إلى الدلالات المرئية من صنعته الدالة على أنه عالم بجميع المعلومات (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) بالعلم ، يعني أن نجواهم معلومة عنده كما تكون معلومة عند الرابع الذي هو معهم وقيل : السرار : ما كان بين اثنين ، والنجوى : ما كان بين ثلاثة وقال بعضهم : النجوى كل حديث كان سرا أو علانية وهو اسم للشيء الذي يتناجى به (وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) أي ولا يتناجى خمسة إلّا وهو عالم بسرهم كسادس معهم (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) المعنى : أنه عالم بأحوالهم وجميع متصرفاتهم فرادى وعند الاجتماع ، لا يخفى عليه شيء منها ، فكأنما هو معهم ومشاهد لهم وعلى هذا يقال : إن الله مع الإنسان حيثما كان لأنه إذا كان عالما به لا يخفى عليه شيء من أمره ، حسن هذا الإطلاق لما فيه من البيان ، فأما أن يكون معهم على طريق المجاورة فذلك محال ، لأنه من صفات الأجسام وقد دلت الأدلة على انه ليس بصفات الأجسام (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يخبرهم بأعمالهم (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه خافية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) أي ألم تعلم حال الذين نهوا عن المناجاة واسرار الكلام بينهم دون المسلمين بما يغم المسلمين ويحزنهم وهم اليهود والمنافقون (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) يعني إلى ما نهوا عنه ، أي يرجعون إلى المناجاة بعد النهي (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) في مخالفة الرسول وهو قوله (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) وذلك أنه نهاهم عن النجوى فعصوه ، ويجوز أن يكون الإثم والعدوان ذلك السر الذي يجري بينهم لأنه شيء يسوء المسلمين ، ويوصي بعضهم بعضا بترك أمر الرسول والمعصية له (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) وذلك أن اليهود كانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقولون السام عليك ، والسام الموت ، وهم يوهمونه أنهم

٧٣١

يقولون : السلام عليك ، وكان النبيّ يرد على من قال ذلك فيقول وعليك وقال الحسن كان اليهودي يقول : السأم عليك ، أي انكم ستسأمون دينكم هذا وتملونه فتدعونه ، ومن قال السأم الموت فهو سام الحياة بذهابها (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي يقول بعضهم لبعض (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي يقولون : لو كان هذا نبيا كما يزعم فهلا يعذبنا الله ولا يستجيب له فينا قوله : وعليكم ، يعني السام وهو الموت. فقال سبحانه (حَسْبُهُمْ) أي كافيهم (جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها) يوم القيامة ويحترقون فيها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي فبئس المرجع والمآل جهنم لما فيها من أنواع العذاب والنكال. ثم نهى المؤمنين عن مثل ذلك فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي لا تفعلوا كفعل المنافقين واليهود (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي بأفعال الخير والطاعة والخوف من عذاب الله ، واتقاء معاصي الله (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ) أي إلى جزائه (تُحْشَرُونَ) يوم القيامة (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) يعني نجوى المنافقين والكفار بما يسوء المؤمنين ويغمهم من وساوس الشيطان وبدعائه وإغوائه يفعل ذلك النجوى (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً) أي نجواهم لا يضرهم شيئا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) يعني بعلم الله وقيل : بأمر الله لأنه يلحقهم الآلام والأمراض عقيب ذلك (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) في جميع أمورهم دون غيره. وورد في الخبر عن عبد الله بن مسعود قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه.

١٢ ـ النزول

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) ، فإنها نزلت في الأغنياء ، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ، فأمر الله بالصدقة عند المناجاة ، فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة. وقال أمير المؤمنين صلوات الرحمان عليه : إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) ، كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكلما أردت أن أناجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدّمت درهما ، فنسختها الآية الأخرى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) ، فقال صلوات الله عليه : بي خفف الله عن هذه الأمة ، ولم ينزل في أحد قبلي ، ولم ينزل في أحد بعدي.

١١ ـ ١٥ ـ لما قدّم سبحانه النهي عن النجوى لما فيه من إيذاء المؤمنين ، عقّبه بالأمر بالتفسح لما في تركه من إيذائهم أيضا فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) أي اتسعوا فيه ، وهو مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي فتوسعوا يوسع الله لكم مجالسكم في الجنة (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) أي ارتفعوا وقوموا ووسعوا على إخوانكم (فَانْشُزُوا) أي فافعلوا ذلك (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) قال ابن عباس : يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم. ثم خاطب سبحانه المؤمنين مرة أخرى وقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي إذا ساررتم الرسول فقدموا قبل أن تسارّوه صدقة. وأراد بذلك تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يكون ذلك سببا لأن يتصدقوا فيؤجروا عنه ، وتخفيفا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال المفسرون : فلما نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا ضنّ كثير من الناس فكفوا عن المسألة فلم يناجه أحد إلا عليّ بن أبي طالب (ذلِكَ) أي ذلك التصدق بين يدي مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (خَيْرٌ لَكُمْ) لأن فيه

٧٣٢

أداء واجب ، وتحصيل ثواب (وَأَطْهَرُ) أي وادعى لكم إلى مجانبة المعاصي وتركها ، وأزكى لكم تتطهرون بذلك بمناجاته كما تقدم الطهارة على الصلاة (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) ما تتصدقون به (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يستر عليكم ترك ذلك (رَحِيمٌ) يرحمكم وينعم عليكم ، ثم قال سبحانه ناسخا لهذا الحكم (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) يعني أخفتم الفاقة يا أهل الميسرة وبخلتم بالصدقة بين يدي نجواكم؟ وهذا توبيخ لهم على ترك الصدقة اشفاقا من العيلة (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) لتقصيركم فيه (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه (وَرَسُولَهُ) أي وأطيعوا رسوله أيضا (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي عالم بأعمالكم من طاعة ومعصية ، وحسن وقبيح ، فيجازيكم بها. ثم قال سبحانه (أَلَمْ تَرَ) يا محمد (إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) والمراد به قوم من المنافقين كانوا يوالون اليهود ، ويفشون إليهم أسرار المؤمنين ، ويجتمعون معهم على ذكر مساءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) يعني انهم ليسوا من المؤمنين في الدين والولاية ولا من اليهود (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) أي ويحلفون انهم لم ينافقوا (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم منافقون (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أي في الآخرة (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس العمل عملهم وهو النفاق ، وموالاة أعداء الله.

١٦ ـ ٢٢ ـ ثم ذكر سبحانه تمام الخبر عن المنافقين فقال (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ) التي يحلفون بها (جُنَّةً) أي سترة وترسا يدفعون بها عن نفوسهم التهمة والظنة إذا ظهرت منهم الريبة (فَصَدُّوا) نفوسهم وغيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الذي هو الحق والهدى (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يهينهم ويذلهم ويخزيهم (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) التي جمعوها (وَلا أَوْلادُهُمْ) الذين خلفوهم (مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ظاهر المعنى (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أي يقسمون لله (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في دار الدنيا بأنهم كانوا مؤمنين في الدنيا في اعتقادهم وظنهم لأنهم كانوا يعتقدون أن ما هم عليه هو الحق (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي ويحسب المنافقون في الدنيا أنهم مهتدون ، لأن في الآخرة تزول الشكوك ، وقال الحسن : في القيامة مواطن ، فموطن يعرفون فيه قبح الكذب ضرورة فيتركونه ، وموطن يكونون فيه كالمدهوش ، فيتكلمون بكلام الصبيان الكذب وغير الكذب ، ويحسبون أنهم على شيء في ذلك الموضع الذي يحلفون فيه بالكذب (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) في أيمانهم وأقوالهم في الدنيا ، وقيل معناه : أولئك هم الخائبون ، كما يقال : كذب ظنه : أي خاب أمله (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي استولى عليهم وغلب عليهم لشدة اتباعهم إياه (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) حتى لا يخافون الله ولا يذكرونه (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) أي جنوده (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) يخسرون الجنة ويحصل لهم بدلها النار (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يخالفونه في حدوده ويشاقونه ، وهم المنافقون (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) فلا أحد أذل منهم في الدنيا ولا في الآخرة قال عطاء : يريد الذل في الدنيا ، والخزي في الآخرة (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي كتب الله في اللوح المحفوظ وما كتبه فلا بد من أن يكون. أجرى قوله : (كَتَبَ اللهُ) مجرى القسم ، فأجابه بجواب القسم. قال الحسن : ما أمر الله نبيا قط بحرب إلّا غلب ، أما في الحال أو فيما بعد وقال قتادة : كتب الله كتابا فأمضاه : لأغلبن أنا ورسلي ويجوز أن يكون المعنى : قضى الله ووعد لأغلبن أنا ورسلي بالحجج والبراهين وإن جاز أن يغلب بعضهم في الحرب (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي غالب قاهر لمن نازع أولياءه. ويروى أن المسلمين قالوا لما رأوا ما يفتح الله عليهم من القرى : ليفتحنّ الله علينا الروم

٧٣٣

وفارس ، فقال المنافقون : أتظنون أن فارسا والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها ، فأنزل الله هذه الآية. ثم قال سبحانه (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يوالون من خالف الله ورسوله والمعنى : لا تجتمع موالاة الكفار مع الإيمان ، والمراد به الموالاة في الدين (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي وإن قربت قرابتهم منهم فإنهم لا يوالونهم إذا خالفوهم في الدين وقيل : إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة ينذرهم بمجيء رسول الله إليهم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله أخفى ذلك ، فلما عوتب على ذلك قال : أهلي بمكة ، أحببت أن يحوطوهم بيد تكون لي عندهم وقيل : انها نزلت في عبد الله بن أبيّ وابنه عبيد الله بن عبد الله وكان هذا الابن عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ابق فضلة من شرابك اسقها أبي لعل الله يطهر قلبه ، فأعطاه فأتى بها أباه فقال : ما هذا؟ فقال : بقية شراب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جئتك بها لتشربها لعل الله يطهر قلبك فقال : هلا جئتني ببول أمك ، فرجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ائذن لي في قتله فقال : بل ترفق به عن السدّيّ ثم قال سبحانه (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي ثبت في قلوبهم الإيمان بما فعل بهم من الألطاف فصار كالمكتوب عن الحسن وقيل : كتب في قلوبهم علامة الإيمان ، ومعنى ذلك : انها سمة لمن يشاهدهم من الملائكة على أنهم مؤمنون ، كما ان قوله في الكفار : وطبع الله على قلوبهم ، علامة يعلم من شاهدها من الملائكة أنه مطبوع على قلبه عن أبي علي الفارسي (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي قوّاهم بنور الإيمان ، ويدل عليه قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) عن الزجاج وقيل معناه : وقوّاهم بنور الحجج والبراهين حتى اهتدوا للحق وعملوا به وقيل قواهم بالقرآن الذي هو حياة القلوب من الجهل عن الربيع وقيل : أيدهم بجبرائيل في كثير من المواطن ينصرهم ويدفع عنهم (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بإخلاص الطاعة والعبادة منهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بثواب الجنة وقيل : رضوا عنه بقضائه عليهم في الدنيا فلم يكرهوه (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أي جند الله وأنصار دينه ، ودعاة خلقه (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ألا كلمة تنبيه ان جنود الله وأولياءه هم المفلحون الناجون الظافرون بالبغية.

سورة الحشر

مدنية وآيها أربع وعشرون آية

النزول

نزلت السورة في اجلاء بني النضير من اليهود ، فمنهم من خرج إلى خيبر ، ومنهم من خرج إلى الشام ، وذلك أن النبي (ص) لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، فقبل ذلك منهم ، فلما غزا رسول الله (ص) بدرا وظهر على المشركين قالوا : والله انه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة ، لا ترد له راية ، فلما غزا غزاة أحد ، وهزم المسلمون ارتابوا ونقضوا العهد ، فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة ، فأتوا قريشا وحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد ، ثم دخل أبو سفيان في أربعين ، وكعب في أربعين من اليهود المسجد ، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة ، ثم رجع كعب بن الأشرف وأصحابه إلى المدينة ، ونزل جبرائيل فأخبر النبي (ص) بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان ، وأمره بقتل كعب ، فقتله محمد بن مسلمة الأنصاري ، وكان أخاه من الرضاعة.

٧٣٤

١ ـ ٥ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مضى تفسيره (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني يهود بني النضير (مِنْ دِيارِهِمْ) بأن سلّط الله المؤمنين عليهم ، وأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإخراجهم من منازلهم وحصونهم وأوطانهم (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) لأول الجلاء ، لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب ، ثم أجلى إخوانهم من اليهود وقيل : إنما قال لأول الحشر لأن الله فتح على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أول ما قاتلهم عن يمان بن رباب (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي لم تظنوا أيها المؤمنون أنهم يخرجون من ديارهم لشدتهم وشوكتهم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) أي وظن بنو النضير أن حصونهم لوثاقتها تمنعهم من سلطان الله ، وإنزال العذاب بهم على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث حصنوها ، وهيّأوا آلات الحرب فيها (فَأَتاهُمُ اللهُ) أي فأتاهم أمر الله وعذابه (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي لم يتوهموا أن يأتيهم لما قدروا في أنفسهم من المنعة ؛ جعل الله سبحانه امتناعهم من رسوله امتناعا منه (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) وألقى سبحانه في قلوبهم الرعب بقتل سيدهم كعب بن الأشرف (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يهدمون بيوتهم بأيديهم من داخل ليهربوا ، لا أنهم خربوا ما استحسنوا منها حتى لا يكون للمسلمين ، ويخربها المؤمنون من خارج ليصلوا إليهم (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فاتعظوا يا أولي العقول والبصائر وتدبروا وانظروا فيما نزل بهم ؛ ومعنى الاعتبار : النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها ، والمراد : استدلوا بذلك على صدق الرسول إذ كان وعد المؤمنين أن الله سبحانه سيورثهم ديارهم وأموالهم بغير قتال ، فجاء المخبر على ما أخبر فكان آية دالة على نبوته (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) أي حكم عليهم أنهم يجلون عن ديارهم ، وينقلون عن أوطانهم (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بعذاب الاستئصال ، أو القتل والسبي كما فعل ببني قريظة لأنه تعالى علم أن كلا الأمرين في المصلحة سواء ، وقد سبق حكمه بالجلاء (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) مع الجلاء عن الأوطان (عَذابُ النَّارِ) لأن أحدا منهم لم يؤمن (ذلِكَ) الذي فعلنا بهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي خالفوا الله ورسوله. ثم توعد من حذا حذوهم ، وسلك سبيلهم في مشاقة الله ورسوله فقال (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ) أي يخالفه (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) يعاقبهم على مشاقّتهم أشد العقاب (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) أي نخلة كريمة من أنواع النخيل (أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها) فلم تقطعوها ولم تقلعوها (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره كل ذلك سائغ لكم ، علم الله سبحانه ذلك وأذن فيه ليذل به أعداءه (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) من اليهود ويهينهم به لأنّهم إذا رأوا عدوهم يتحكم في أموالكم كان ذلك خزيا لهم.

٦ ـ ١٠ ـ ثم بيّن سبحانه حال أموال بني النضير فقال (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي من اليهود الذين أجلاهم وإن كان الحكم ساريا في جميع الكفار الذين حكمهم حكمهم (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي فما أوجفتم عليه خيلا ولا إبلا والمعنى : لم تسيروا إليها على خيل ولا إبل وإنما كانت ناحية من المدينة مشيتم إليها مشيا (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي يمكنهم من عدوهم من غير قتال بأن يقذف الرعب في قلوبهم. جعل الله أموال بني النضير لرسوله خالصة يفعل بها ما يشاء ، فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلّا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم : أبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثم ذكر سبحانه حكم الفيء فقال (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ

٧٣٥

الْقُرى) أي من أموال كفار أهل القرى (فَلِلَّهِ) يأمركم فيه بما أحب (وَلِلرَّسُولِ) بتمليك الله إياه (وَلِذِي الْقُرْبى) يعني أهل بيت رسول الله وقرابته وهم بنو هاشم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) منهم ، لأن التقدير : ولذي قرباه ويتامى أهل بيته ومساكينهم وابن السبيل منهم ؛ وروى المنهال بن عمرو عن علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : قلت : (وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)؟ قال : قلت : ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل؟ قال : قربانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا ، وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : كان أبي يقول : لنا سهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسهم ذي القربى ، ونحن شركاء الناس فيما بقي وقيل : ان مال الفيء للفقراء من قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب.

فقال (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) والدولة : اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم ، يكون لهذا مرة ولهذا مرة ، أي لئلا يكون الفيء متداولا بين الرؤساء منكم يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية ؛ وهذا خطاب للمؤمنين دون الرسول وأهل بيته عليهم‌السلام (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه وارضوا به ، وما أمركم به فافعلوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا عنه ، فإنّه لا يأمر ولا ينهى إلّا عن أمر الله ؛ وهذا عام في كل ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهى عنه وإن نزل في آية الفيء ، وروى زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما أعطى الله نبيا من الأنبياء شيئا إلا وقد أعطى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لسليمان (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) ، وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (وَاتَّقُوا اللهَ) في ترك المعاصي ، وفعل الواجبات (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصاه وترك أوامره (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) الذين هاجروا من مكة إلى المدينة ، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) التي كانت لهم (يَبْتَغُونَ) أي يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ) أي وينصرون دين الله (وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في الحقيقة عند الله. ثم ثنّى سبحانه بوصف الأنصار ومدحهم حتى طابت أنفسهم عن الفيء فقال (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) يعني المدينة وهي دار الهجرة ، تبوأها الأنصار قبل المهاجرين (وَالْإِيمانَ) التقدير : وآثروا الإيمان (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم ، والمراد به أصحاب ليلة العقبة وهم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حرب الأبيض والأحمر (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) لأنّهم أحسنوا إلى المهاجرين وأسكنوهم دورهم ، واشركوهم في أموالهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أي لا يجدون في قلوبهم حسدا وحزازة وغيظا مما أعطي المهاجرون دونهم من مال بني النضير (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي ويؤثرون المهاجرين ويقدمونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي فقر وحاجة. بيّن سبحانه إن ايثارهم لم يكن عن غنى عن المال ، ولكن كان عن حاجة ، فيكون ذلك أعظم لأجرهم وثوابهم عند الله (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي ومن يدفع عنه ، ويمنع عنه بخل نفسه (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي المنجحون الفائزون بثواب الله ونعيم جنته وقيل : من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه ، ولم يمنع شيئا أمره الله بأدائه ، فقد وقي شحّ نفسه ، ثم ثلث سبحانه بوصف التابعين فقال (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني من بعد المهاجرين والأنصار ، وهم جميع التابعين لهم إلى يوم القيامة ، عن الحسن ، وقيل : هم كل من أسلم بعد انقطاع الهجرة ، وبعد إيمان الأنصار ، عن الأصم وأبي مسلم (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي يدعون ويستغفرون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا

٧٣٦

لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي حقدا وغشا وعداوة ؛ سألوا الله سبحانه أن يزيل ذلك بلطفه وها هنا احتراز لطيف وهو أنهم أحسنوا الدعاء للمؤمنين ولم يرسلوا القول إرسالا ، والمعنى : اعصمنا ربنا من إرادة السوء بالمؤمنين ، ولا شك أن من أبغض مؤمنا وأراد به السوء لأجل إيمانه فهو كافر ، وإذا كان لغير ذلك فهو فاسق (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي متعطف على العباد ، منعم عليهم.

١١ ـ ١٥ ـ لما وصف سبحانه المهاجرين الذين هاجروا الديار والأوطان ، ثم مدح الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان ، ثم ذكر التابعين بإحسان وما يستحقونه من النعيم في الجنان ، عقب ذلك بذكر المنافقين وما أسرّوه من الكفر والعصيان فقال : (أَلَمْ تَرَ) يا محمد (إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) فأبطنوا الكفر ، وأظهروا الإيمان (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني يهود بني النضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من دياركم وبلادكم (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) مساعدين لكم (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي في قتالكم ومخاصمتكم (أَحَداً أَبَداً) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ووعدوهم النصر بقولهم (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) أي لندفعن عنكم. ثم كذّبهم الله في ذلك بقوله (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يقولونه من الخروج معهم ، والدفاع عنهم. ثم أخبر سبحانه أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من النصر والخروج بقوله (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي ولئن قدّر وجود نصرهم ـ لأن ما نفاه الله تعالى لا يجوز وجوده ـ (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) أي ينهزمون ويسلمونهم (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي ولو كان لهم هذه القوة وفعلوا لم ينتفع أولئك بنصرتهم. نزلت الآية قبل إخراج بني النضير ، واخرجوا بعد ذلك وقوتلوا فلم يخرج معهم منافق ولم ينصروهم كما أخبر الله تعالى بذلك ، ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً) أي خوفا (فِي صُدُورِهِمْ) أي في قلوب هؤلاء المنافقين (مِنَ اللهِ) المعنى : ان خوفهم منكم أشد من خوفهم من الله ، لأنهم يشاهدونكم ويعرفونكم ولا يعرفون الله وهو قوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) الحق ، ولا يعلمون عظمة الله وشدة عقابه (لا يُقاتِلُونَكُمْ) معاشر المؤمنين (جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) أي ممتنعة حصينة والمعنى : انهم لا يبرزون لحربكم وإنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي يرمونكم من وراء الجدران بالنبل والحجر (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) معناه : قوتهم فيما بينهم شديدة ، فإذا لاقوكم جبنوا ويفزعون منكم بما قذف الله في قلوبهم من الرعب (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) أي مجتمعين في الظاهر (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي مختلفة متفرقة ، خذلهم الله باختلاف كلمتهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ما فيه الرشد مما فيه الغي (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) أي مثلهم في اغترارهم بعددهم وقوتهم وبقول المنافقين كمثل الذين من قبلهم ، يعني المشركين الذين قتلوا ببدر ، وذلك قبل غزاة بني النضير لستة أشهر ، عن الزهري وغيره ، وقيل : إن الذين من قبلهم قريبا هم بنو قينقاع ، وذلك أنهم نقضوا العهد مرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بدر ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرجوا ، وقال عبد الله بن أبيّ : لا تخرجوا فإني آتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاكلمه فيكم أو أدخل معكم الحصن ، ثم ترك نصرتهم كأولئك (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي عقوبة كفرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة.

١٦ ـ ٢٠ ـ (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) أي مثل المنافقين في غرورهم لبني النضير وخذلانهم إياهم كمثل الشيطان (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) وهو عابد بني إسرائيل ، عبد الله زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوّذهم فيبرؤون على يده ، وأنه أتي بامرأة في شرف قد جنت وكان لها اخوة

٧٣٧

فأتوه بها ، فكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت ، فلما استبان حملها قتلها ودفنها ، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد أخوتها فاخبره بالذي فعل الراهب وأنه دفنها في مكان كذا ، وبلغ ذلك ملكهم ، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقر لهم بالذي فعل ، فأمر به فصلب ، فلما رفع على خشبته تمثل له الشيطان فقال : أنا الذي ألقيتك في هذا فهل أنت مطيعي فيما أقول لك أخلصك مما أنت فيه ، قال : نعم قال : أسجد لي سجدة واحدة فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة؟ فقال : أكتفي منك بالإيماء ، فأومى له بالسجود فكفر بالله ، وقتل الرجل ، فهو قوله : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) ضرب الله هذه القصة لبني النضير حين اغتروا بالمنافقين ثم تبرأوا منهم عند الشدة وأسلموهم (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) يوم القيامة (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) يعني عاقبة الفريقين : الداعي والمدعو من الشيطان ومن أغواه من المنافقين واليهود أنهما معذبان في النار (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي وذلك جزاؤهم. ثم رجع إلى موعظة المؤمنين فقال سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) يعني ليوم القيامة والمعنى : لينظر كل امرىء ما الذي قدّمه لنفسه أعملا صالحا ينجيه ، أم سيئا يوبقه ويرديه؟ فإنه وارد عليه (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) إنما كرر الأمر بالتقوى لأن الأولى للتوبة عما مضى من الذنوب ، والثانية لاتقاء المعاصي في المستقبل (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) أي تركوا أداء حق الله (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) بأن حرمهم حظوظهم من الخير والثواب. وقيل : نسوا الله بترك ذكره بالشكر والتعظيم ، فأنساهم أنفسهم بالعذاب الذي نسي بعضهم بعضا كما قال : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) : أي ليسلّم بعضكم على بعض ، عن الجبائي ، ويريد بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع ، عن ابن عباس (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الذين خرجوا من طاعة الله إلى معصيته (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي لا يتساويان ، لأن هؤلاء يستحقون النار ، وأولئك يستحقون الجنة (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) بثواب الله ، الظافرون بطلبتهم.

٢١ ـ ٢٤ ـ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) تقديره : لو كان الجبل مما ينزل عليه القرآن ، ويشعر به مع غلظه ، وجفاء طبعه ، وكبر جسمه ، لخشع لمنزله ، وتصدّع من خشية الله تعظيما لشأنه ، فالإنسان أحق بهذا لو عقل الأحكام التي فيه ، وقيل معناه : لو كان الكلام ببلاغته يصدع الجبل لكان هذا القرآن يصدعه وقيل : إن المراد به ما يقتضيه الظاهر بدلالة قوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وهذا وصف للكافر بالقسوة حيث لم يلن قلبه لمواعظ القرآن الذي لو نزل على جبل لتخشع ويدل على ان هذا تمثيل قوله (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي ليتفكروا ويعتبروا. ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته فقال (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي هو المستحق للعبادة الذي لا تحق العبادة إلّا له (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم بما يشاهده العباد ، وعالم بما يغيب عنهم علمه وقيل : (عالِمُ الْغَيْبِ) معناه : عالم بما لا يقع عليه الحس من المعدوم والموجود الذي لا يدرك مما هو غائب عن الحواس كأفعال القلوب وغيرها ، والشهادة : أي عالم بما يصح عليه الإدراك بالحواس ، وقيل معناه : عالم السر والعلانية ، عن الحسن ، وفي هذا وصفه سبحانه بأنه عالم بجميع المعلومات لأنها لا تعدوا القسمين ، وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : الغيب ما لم يكن ، والشهادة ما كان (هُوَ الرَّحْمنُ) أي المنعم على جميع خلقه (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين. ثم أعاد سبحانه قوله (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) يعني السيد المالك لجميع الأشياء ، الذي له التصرف فيها على وجه ليس لأحد

٧٣٨

منعه منه (الْقُدُّوسُ) أي الطاهر من كل عيب ونقص وآفة ، المنزه عن القبائح وقيل : هو المطهر عن الشريك والولد ، لا يوصف بصفات الأجسام ، ولا بالتجزئة والانقسام وقيل : هو المبارك الذي تنزل البركات من عنده (السَّلامُ) أي الذي سلم عباده من ظلمه وقيل : هو الذي من عنده ترجى السلامة (الْمُؤْمِنُ) الذي أمن خلقه من ظلمه لهم إذ قال : لا يظلم مثقال ذرة (الْمُهَيْمِنُ) أي الأمين حتى لا يضيع لأحد عنده حق عن ابن عباس والضحاك ، وقيل : هو الشاهد (الْعَزِيزُ) أي القادر الذي لا يصح عليه القهر (الْجَبَّارُ) وهو العظيم الشأن في الملك والسلطان ، ولا يستحق أن يوصف به على هذا الإطلاق إلا الله تعالى (الْمُتَكَبِّرُ) أي المستحق لصفات التعظيم (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزيها له عما يشرك به المشركون من الأصنام وغيرها (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) للأجسام المقدّر للأشياء بحكمته ، المحدث للأشياء على إرادته (الْبارِئُ) المنشىء للخلق ، الفاعل للأجسام والأعراض (الْمُصَوِّرُ) الذي صور الأجسام على اختلافها مثل الحيوان والجماد (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) نحو الله الرحمن الرحيم القادر العالم الحي وقد مرّ بيانه في سورة الأعراف (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ينزهه جميع الأشياء ، فالحي يصفه بالتنزيه ، والجماد يدل على تنزيهه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسم الله الأعظم في ست آيات في آخر سورة الحشر.

سورة الممتحنة

مدنية وآيها ثلاث عشرة آية

١ ـ النزول

نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، كتب إلى أهل مكة : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يريدكم فخذوا حذركم ، ونزل جبرائيل فاخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما فعل ، فبعث رسول الله (ص) عليا وعمارا وعمر والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد ، وقال لهم : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها ، فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي ذكره رسول الله (ص) فقالوا لها : أين الكتاب ، فحلفت بالله ما معها من كتاب ، نحوها وفتّشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا ، فهمّوا بالرجوع ، فقال عليّ عليه‌السلام : والله ما كذبنا ولا كذبنا ، وسلّ سيفه وقال لها اخرجي الكتاب وإلا والله لأضربن عنقك ، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها ، فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأرسل إلى حاطب فقال له : فما حملك على ما صنعت؟ قال يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّا وله بمكة من يمنع عشيرته ، وكنت عريرا فيهم ـ أي غريبا ـ وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا ، فصدّقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعذره.

١ ـ ٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) خاطب سبحانه المؤمنين ونهاهم أن يتخذوا الكافرين أولياء يوالونهم ويستنصرون بهم وينصرونهم (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تلقون إليهم المودة ، وتبذلون لهم النصيحة يقال : ألقيت إليك بسرّي ، وقيل معناه : تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمودة التي بينكم وبينهم عن الزجاج (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) وهو القرآن والإسلام (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من مكة (أَنْ تُؤْمِنُوا

٧٣٩

بِاللهِ رَبِّكُمْ) أي لأن تؤمنوا فكأنه قال : يفعلون ذلك لإيمانكم بالله ربكم الذي خلقكم (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) والمعنى : إن كان غرضكم في خروجكم وهجرتكم الجهاد وطلب رضاي فأوفوا خروجكم حقه من معاداتهم ، ولا تلقوا إليهم بالمودة ، ولا تتخذوهم أولياء (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تعلمونهم بأحوال الرسول في السر بالمودة التي بينكم وبينهم ، فعل من يظن أنه يخفى عليّ ما يفعله (وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) لا يخفى عليّ شيء من ذلك ، فاطلع رسولي عليه (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) أي ومن أسر إليهم بالمودة ، وألقى إليهم أخبار رسولي منكم يا جماعة المؤمنين بعد هذا البيان (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي عدل عن طريق الحق ، وجار عن سبيل الرشد (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يعني ان هؤلاء الكفار ان يصادفوكم مقهورين ويظفروا بكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي يمدّوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل ، ويبسطوا إليكم ألسنتهم بالشتم والمعنى : أنهم يعادونكم ولا ينفعكم ما تلقون إليهم ، ولا يتركون غاية في الحاق السوء بكم باليد واللسان (وَوَدُّوا) مع ذلك (لَوْ تَكْفُرُونَ) بالله كما كفروا ، وترجعون عن دينكم (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) أي ذوو أرحامكم والمعنى : قراباتكم (وَلا أَوْلادُكُمْ) أي لا يحملنكم قراباتكم ولا أولادكم التي بمكة على خيانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، فلن ينفعكم أولئك الذين عصيتم الله لأجلهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ) الله (بَيْنَكُمْ) فيدخل أهل الإيمان والطاعة الجنة ، وأهل الكفر والمعصية النار ، ويميز بعضكم من بعض (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي عليم بأعمالكم ؛ علم الله سبحانه بما عمله حاطب من مكاتبة أهل مكة حتى أخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، ثم ضرب سبحانه لهم إبراهيم مثلا في ترك موالاة الكفار فقال (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي اقتداء حسن (فِي إِبْراهِيمَ) خليل الله (وَالَّذِينَ مَعَهُ) ممن آمن به واتبعه (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) الكفار (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) فلا نواليكم (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي وبراء من الأصنام التي تعبدونها (كَفَرْنا بِكُمْ) أي يقولون لهم : جحدنا دينكم ، وأنكرنا معبودكم (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) فلا يكون بيننا موالاة في الدين (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) أي تصدقوا بوحدانية الله ، واخلاص التوحيد والعبادة له. قال الفراء : يقول الله تعالى : أفلا تأتسي يا حاطب بإبراهيم وقومه فتبرأ من أهلك كما تبرؤوا منهم؟ أي من قومهم الكفار (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) فإنه عليه‌السلام إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه بالإيمان ، فلما تبين له أنه عدوّ الله تبرأ منه ، وقيل : كان آزر ينافق إبراهيم ، ويريه أنه مسلم ، ويعده اظهار الإسلام ، فستغفر له ، عن الحسن والجبائي ثم قال (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إذا أراد عقابك ، ولا يمكنني دفع ذلك عنك (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) أي وكانوا يقولون ذلك (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي إلى طاعتك رجعنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي إلى حكمك المرجع ، وهذه حكاية لقول إبراهيم وقومه ، ويحتمل أن يكون تعليما لعباده أن يقولوا ذلك فيفوضوا أمورهم إليه ، ويرجعون إليه بالتوبة (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) معناه : لا تعذبنا بأيديهم ، ولا ببلاء من عندك فيقولوا : لو كان هؤلاء على حق لما أصابهم هذا البلاء عن مجاهد ، وقيل معناه : ولا تسلطهم علينا فيفتنونا عن دينك وقيل معناه : ألطف لنا حتى نصبر على أذاهم ولا نتبعهم فنصير فتنة لهم وقيل معناه : ولا تسلطهم علينا فيفتنونا عن دينك وقيل معناه : اعصمنا من موالاة الكفار فانا إذا واليناهم ظنوا أنا صوبناهم وقيل معناه لا تخذلنا إذا حاربناهم فلو خذلتنا لقالوا : لو كان هؤلاء على الحق لما خذلوا (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا) ذنوبنا (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل إلّا الحكمة والصواب. وفي هذا تعليم للمسلمين أن يدعوا بهذا الدعاء.

٧٤٠