الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) قد مات بالجدب ، وأراد بالبلدة البلد أو المكان فلذلك قال ميتا بالتذكير والمعنى : لنحيي بالمطر بلدة ليس فيها نبت قال ابن عباس لنخرج به النبات والثمار (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً) أي ولنسقي من ذلك الماء انعاما جمّة ، أو نجعله سقيا لأنعام (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أي أناسا كثيرة (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) أي صرفنا المطر بينهم يدور في جهات الأرض وقيل : قسمناه بينهم يعني المطر فلا يدوم على مكان فيهلك ، ولا ينقطع عن مكان فيهلك ، ويزيد لقوم وينقص لآخرين على حسب المصلحة (لِيَذَّكَّرُوا) أي ليتفكروا ويستدلّوا به على سعة مقدورنا ، ولأنه لا يستحق العبادة غيرنا (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا لما عدّدناه من النعم ، وإنكارا فيقولون مطرنا بنوء كذا وكذا عن عكرمة وقيل : فأبوا إلا كفورا بالبعث والنشور.

٥١ ـ ٦٠ ـ (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) ينذرهم ، ولكن بعثناك يا محمد إلى القرى كلها رسولا لعظيم منزلتك لدينا ، والنذير : هو الداعي إلى ما يؤمن معه الخوف من العقاب (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) فيما يدعونك إليه من المداهنة والإجابة إلى ما يريدون (وَجاهِدْهُمْ) في الله (بِهِ) أي بالقرآن (جِهاداً كَبِيراً) أي تاما شديدا ؛ وفي هذا دلة على أن من أجلّ الجهاد واعظمه منزلة عند الله سبحانه جهاد المتكلمين في حلّ شبه المبطلين وأعداء الدين ويمكن ان يتأول عليه قوله رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي أرسلهما في مجاريهما ، وخلاهما كما يرسل الخيل في المرج ، وهما يلتقيان فلا يختلط الملح بالعذب ، ولا العذب بالملح وهو قوله (هذا) يعني أحد البحرين (عَذْبٌ فُراتٌ) أي طيب شديد الطيب (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) شديد الملوحة (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) أي حجابا من قدرة الله تعالى يمنعها من الاختلاط (وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي حراما محرما أن يفسد الملح العذب (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) أي خلق من النطفة إنسانا وقيل : أراد به آدم عليه‌السلام فإنه خلق من التراب الذي خلق من الماء وقيل أراد به أولاد آدم فإنهم المخلوقون من الماء (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) أي فجعله ذا نسب وصهر والصهر : حرمة الختونة وقيل : النسب الذي يحلّ نكاحه كبنات العم والخال ، عن الفراء وقيل : النسب سبعة أصناف ، والصهر خمسة ، ذكرهم الله في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ، وقال ابن سيرين : نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي بن أبي طالب ، زوّج فاطمة عليها‌السلام عليا عليه‌السلام فهو ابن عمه وزوج ابنته فكان نسبا وصهرا (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) أي قادرا على ما أراد. ثم أخبر سبحانه عن الكفار فقال (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) من الأصنام والأوثان (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) الظهير : العون والمعين ، أي معينا للشيطان على ربه بالمعاصي عن الحسن ومجاهد. قال الزجاج : لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله ، فإن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان وقيل ظهيرا أي هينا كالمطرح من قولهم ظهر فلان بحاجته إذا جعلها خلف ظهره فلم يلتفت إليها واستهان بها والظهير بمعنى المظهور وهو المتروك المستخف به ومنه قوله واتخذتموه ورائكم ظهريا والأول أوجه وقالوا عنى بالكافر أبا جهل (وَما أَرْسَلْناكَ) يا محمد (إِلَّا مُبَشِّراً) بالجنة (وَنَذِيراً) من النار وقد سبق معناه. قل يا محمد لهؤلاء الكفار (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على القرآن وتبليغ الوحي (مِنْ أَجْرٍ) تعطونيه (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) بإنفاقه في طاعة الله واتباع مرضاته والمعنى : إني لا أسألكم لنفسي أجرا ولكني لا أمنع من انفاق المال في طلب مرضاة الله سبحانه ، بل أرغب فيه ، وأحثّ عليه (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) أي فوّض أمورك

٤٨١

إليه فإنه ينتقم لك ولو بعد حين ، فإنه الحي الذي لا يموت فلن يفوته الانتقام (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي أحمده منزّها له عمّا لا يجوز عليه في صفاته بأن تقول : الحمد لله ربّ العالمين ، الحمد لله على نعمه وإحسانه الذي لا يقدر عليه غيره ، الحمد لله حمدا يكافىء نعمه في عظيم المنزلة ، وعلوّ المرتبة ، وما أشبه ذلك (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي عليما فيحاسبهم ويجازيهم بها ، فحقيق بهم أن يخافوه ويراقبوه (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) أي ما بين هذين الصنفين (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ) قد سبق تفسيره في سورة الأعراف (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) فاسأل عنه خبيرا ، والباء بمعنى عن ، والخبير ها هنا هو الله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لهؤلاء المشركين (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) أي وأيّ شيء الرحمن؟ والمعنى : إنا لا نعرف الرحمن (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) مرّ تفسيره (وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي زادهم ذكر الرحمن تباعدا من الإيمان.

٦١ ـ ٧٠ ـ ثم مدح سبحانه نفسه بأن قال (تَبارَكَ) وقد مرّ معناه في أول السورة (الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) يريد منازل النجوم السبعة السيارة التي هي : زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر ، وهي اثنا عشر برجا : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت ؛ وسميت بروجا لظهورها (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) يعني الشمس (وَقَمَراً مُنِيراً) أي مضيئا بالليل اذ لم تكن شمس (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي يخلف كل واحد منهما صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه ، فمن فاته عمل الليل استدركه بالنهار ، ومن فاته عمل النهار استدركه بالليل (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) أي يتفكر ويستدل بذلك على ان لهما مدبّرا ومصرّفا لا يشبههما ولا يشبهانه ، فيوجّه العبادة إليه (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي أراد شكر نعمة ربه عليه فيهما (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) يريد أفاضل عباده وهذه اضافة التخصيص والتشريف كما يقال : إبني من يطيعني ، أي ابني الذي أنا عنه راض ، ويكون توبيخا لأولاده الذين لا يطيعونه (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي بالسكينة والوقار والطاعة غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين ولا مفسدين عن ابن عباس ومجاهد ؛ وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : هو الرجل يمشي بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر وقيل معناه حلماء علماء لا يجهلون وان جهل عليهم عن الحسن وقيل : أعفّاء اتقياء عن الضحاك (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) بما يكرهونه أو يثقل عليهم (قالُوا) في جوابه (سَلاماً) أي سدادا من القول لا يقابلونهم بمثل قولهم من الفحش ، عن مجاهد وقيل : سلاما أي قولا يسلمون فيه من الاثم ، أو سلموا عليهم ، ودليلهم قوله (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ، وقال قتادة : كانوا لا يجاهلون أهل الجهل وقال إبن عباس : لا يجهلون مع من يجهل ، قال الحسن : هذه صفة نهارهم اذا انتشروا في الناس ، وليلهم خير ليل إذا خلوا فيما بينهم وبين ربهم يراوحون بين أطرافهم وهو قوله (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) قال الزجاج : كل من أدركه الليل فقد بات نام أو لم ينم. المعنى : يبيتون لربهم بالليل في الصلاة ساجدين وقائمين طالبين لثواب ربهم ، فيكونون سجّدا في مواضع السجود ، وقياما في مواضع القيام (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي يدعون بهذا القول وغراما : أي لازما ملحّا دائما غير مفارق (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي إن جهنم بئس موضع قرار وإقامة هي (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) واختلف في معنى الإسراف فقيل : هو النفقة في المعاصي ، والاقتار الإمساك عن حق الله تعالى عن ابن عباس ، وقيل : السرف :

٤٨٢

مجاوزة الحد في النفقة ، والاقتار : التقصير عما لا بدّ منه. وروي عن معاذ انه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فقال : من اعطى في غير حقّ فقد أسرف ، ومن منع عن حق فقد قتر (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي وكان انفاقهم بين الإسراف والإقتار ، لا إسرافا يدخلون به في حدّ التبذير ، ولا تضييقا يصيرون به في حدّ المانع لما يجب ، وهذا هو المحمود ، والقوام من العيش ما أقامك وأغناك ، وقيل : القوام بالفتح هو العدل والاستقامة ، وبالكسر : ما يقوم به الأمر ويستقر ، عن تغلب ؛ وقال أبو عبد الله (ع): القوام : هو الوسط (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا يجعلون لله سبحانه شريكا بل يوجّهون عبادتهم إليه وحده (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) أي حرّم الله قتلها (إِلَّا بِالْحَقِ) والنفس المحرم قتلها نفس المسلم والمعاهد ، والمستثناة قتلها نفس الحربي ومن يجب قتلها على وجه القود والارتداد ، أو للزناء بعد الإحصان ، وللسعي في الأرض بالفساد (وَلا يَزْنُونَ) والزنا : هو الفجور بالمرأة ، وفي هذا دلالة على ان اعظم الذنوب بعد الشرك القتل والزنا. وعن عبد الله بن مسعود قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّ الذنب أعظم؟ قال : ان تجعل لله ندّا وهو خلقك قلت : ثم أيّ؟ قال : ان تزاني حليلة جارك ؛ فأنزل الله تصديقها : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآية (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) هذه الخصال جميعا (يَلْقَ أَثاماً) أي عقوبة وجزاء لما فعل. ثم فسّر سبحانه لقي الآثام بقوله (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يريد سبحانه مضاعفة أجزاء العذاب لا مضاعفة الاستحقاق ، لأنه تعالى لا يجوز أن يعاقب بأكثر من الاستحقاق لأن ذلك ظلم وهو منفي عنه (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) أي ويدوم في العذاب مستحقا به. ثم استثنى من جملتهم التائب بقوله (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) معناه ان يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) أي ساترا لمعاصي عباده (رَحِيماً) أي منعما عليهم بالرحمة.

٧١ ـ ٧٧ ثم قال سبحانه (وَمَنْ تابَ) أي أقلع عن معاصيه وندم عليها (وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) أي يرجع إليه مرجعا عظيما جميلا. ثم عاد سبحانه إلى وصف عباده المخلصين فقال (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي لا يحضرون مجالس الباطل ، ويدخل فيه مجالس الغناء والفحش والخناء (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) واللغو : المعاصي كلها ، أي مرّوا به مرّ الكرماء الذين لا يرضون باللغو لأنهم يجلون عن الدخول فيه ، والاختلاط بأهله ، والتقدير : إذا مرّوا بأهل اللغو وذوي اللغو مرّوا منزّهين أنفسهم ، معرضين عنهم ، فلم يجاروهم فيه ، ولم يخوضوا معهم في ذلك ؛ فهذه صفة الكرام بقال : تكرم فلان عما يشينه اذا تنزّه وأكرم نفسه عنه (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ) (رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي إذا وعظوا بالقرآن والأدلة التي نصبها الله لهم نظروا فيها ، وتفكّروا في مقتضاها ، ولم يقعوا عليها صمّا كأنهم لم يسمعوها ، وعميانا كأنّهم لم يروها (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) معناه : أرزقنا من أزواجنا أولادا ، ومن ذريتنا أعقابا قرة أعين : أي أهل طاعة تقرّ بهم أعيننا في الدنيا بالصلاح ، وفي الآخرة بالجنة (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي اجعلنا ممن يقتدي بنا المتقون ؛ طلبوا العزّ بالتقوى لا بالدنيا (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) أي يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة (بِما صَبَرُوا) على أمر ربهم ، وطاعة نبيهم ، وعلى مشاقّ الدنيا ، وصعوبة التكليف ؛ والغرفة اسم لأعلى منازل الجنة وأفضلها (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي تتلقاهم الملائكة فيها بالتحية ، وهي : كل قول يسرّ به الإنسان ، وبالسلام بشارة لهم بعظيم الثواب (خالِدِينَ) أي مقيمين (فِيها) من غير موت ولا زوال (حَسُنَتْ) الغرفة

٤٨٣

(مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي موضع قرار واستقامة (قُلْ) يا محمد (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) أي ما يصنع بكم ربي (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي لولا دعاؤه إياكم إلى الدين والإسلام والمعنى : قل للمشركين : ما يفعل بكم ربي ، أي أيّ نفع له فيكم ، وأيّ ضرر يعود إليه من عدمكم ، وأيّ قدر لكم عند الله حتى يدعوكم إلى الإيمان ، لكن الواجب في الحكمة دعاؤكم إلى الدين ، وإرسال الرسول وقد فعل (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) يا معاشر الكفار الرسول (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي فسوف يكون عقابه لتكذيبكم إياه لازما لكم ، قال الزجاج : تأويله : فسوف يكون تكذيبكم إياه لازما لكم ، قال الزجاج : تأويله : فسوف يكون تكذيبكم لزاما يلزمكم ، فلا تعطون التوبة وتلزمكم به العقوبة ، وقال أبو عبيدة : لزاما : فيصلا ، وقيل في تفسير اللزام : انه القتل يوم بدر ، عن ابن مسعود وابي بن كعب ، وقيل : هو عذاب الآخرة.

سورة الشعراء

مكية وعدد وآياتها مائتان

وسبع وعشرون آية

١ ـ ٩ ـ (طسم) قد بيّنا معاني هذه الحروف المقطعة في أول البقرة فلا معنى لإعادته وقال مجاهد والضحاك ان طسم وطس من أسماء القرآن. وقال ابن عباس في رواية الوالبي طسم قسم وهو من أسماء الله عزوجل وقال القرطي أقسم الله بطوله وسنائه وملكه وروي عن ابن الحنفية عن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لما نزلت طسم قال الطاء طور سيناء وسين الإسكندرية والميم مكة وقيل الطاء شجرة طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أشار بتلك إلى ما ليس بحاضر لكنه متوقع فهو كالحاضر لحضور المعنى في النفس ، والتقدير : تلك الآيات التي وعدتم بها هي آيات الكتاب ، أي القرآن ، والمبين : الذي يبيّن الحق من الباطل (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي لعلك مهلك نفسك ، وقاتل نفسك بأن لا يكونوا مؤمنين ، بأن يقيموا على الكفر ؛ إنما قال ذلك سبحانه تسلية لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتخفيفا عنه بعض ما كان يصيبه من الاغتمام لذلك (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) أي دلالة وعلامة تلجئهم وتضطرهم إلى الإيمان (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها) أي لتلك الآية (خاضِعِينَ) منقادين وقيل في ذلك وجوه (أحدها) ان المراد فظل أصحاب الأعناق لها خاضعين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه (وثانيها) انه جعل الفعل أولا للأعناق ثم جعل خاضعين للرجال لأن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون (وثالثها) ان الخضوع مردود إلى المضمر الذي أضيف الأعناق إليه عن الأخفش والمبرد وأبي عبيدة (ورابعها) ان المراد بالأعناق الرؤساء والجماعات يقال جاءني عنق من الناس أي جماعة (وخامسها) انه لما وصف الأعناق بصفة ما يعقل نسب إليها ما يكون من العقلاء ، وذكر أبو حمزة الثمالي في هذه الآية انها صوت يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان وتخرج له العواتق من البيوت وقال إبن عباس نزلت فينا وفي بني أمية قال سيكون لنا عليهم الدولة

__________________

أخرج الترمذي وحسّنه ، والحاكم ، عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ولن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما. إحياء الميت بفضائل أهل البيت : ٤٤

٤٨٤

فتخضع لنا أعناقهم بعد صعوبتها وتلين (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار انه لا يأتيهم ذكر من الرحمن محدث : أي جديد يعني القرآن كما قال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وقال ان هو إلا ذكر ، الا أعرضوا عن الذكر ولم يتدبّروا فيه (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ) فيما بعد ، يعني يوم القيامة (أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهي مفسّرة في سورة الأنعام (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) معناه : من كل نوع معه قرينه (كَرِيمٍ) أي حسن وقيل : نافع محمود مما يحتاج إليه وقيل : من كل صنف يكرم على أهله وقيل كريم مما يأكل الناس والأنعام ، عن مجاهد وقال الشعبي : الناس نبات الأرض كما قال سبحانه : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) ، فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) لدلالة على وحدانيتنا وكمال قدرتنا (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) لا يصدّقون بذلك ، ولا يعترفون به عنادا وتقليدا لأسلافهم ، وهربا من مشقة التكليف (وَإِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي القادر والذي لا يعجز ، والغالب الذي لا يغلب (الرَّحِيمُ) أي المنعم على عباده بأنواع النعم.

١٠ ـ ٣٠ ـ ثم ذكر سبحانه أقاصيص رسله تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتحريضا له على الصبر ثقة بنزول النصر ، وابتدأ بقصة موسى وفرعون فقال (وَإِذْ نادى رَبُّكَ) أي واذكر يا محمد واتل عليهم الوقت الذي نادى فيه ربك الذي خلقك (مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) هذا أمر بعد النداء وتقديره : قال له : يا موسى ان ائت القوم الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي ، وظلموا بني إسرائيل بأن ساموهم سوء العذاب ، ثم بين القوم الموصوفين بهذه الصفة فقال (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) وهو عطف بيان (أَلا يَتَّقُونَ) معناه : أما آن لهم أن يتّقوا ويصرفوا عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته؟ والتقوى : مجانبة القبائح بفعل المحاسن (قالَ) موسى (رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) بالرسالة ، ولا يقبلوا مني ، والخوف : انزعاج النفس بتوقع الضر ، ونقيضه الأمن : وهو سكون النفس إلى خلوص النفع (وَيَضِيقُ صَدْرِي) بتكذيبهم إياي (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) أي لا ينبعث بالكلام للعقدة التي كانت فيه وقد مرّ بيانها وقد يتعذر ذلك لآفة في اللسان ، وقد يتعذر لضيق الصدر وغروب المعاني التي تطلب للكلام (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) يعني ليعاونني كما يقال : اذا نزلت بنا نازلة أرسلنا اليك اي لتعيننا ؛ وانما طلب المعاونة حرصا على القيام بالطاعة ، وقال الجبائي : لم يسأل موسى عليه‌السلام ذلك إلا بعد أن أذن الله له في ذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله إلّا ما يؤذن لهم في مسألته (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) يعني قتل القبطي الذي قتله موسى عليه‌السلام (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) خاف ان يقتلوه بتلك النفس لا لإبلاغ الرسالة ، فإنه علم ان الله تعالى اذا بعث رسولا تكفل بمعونته على تبليغ رسالته (قالَ) الله (كَلَّا) وهو زجر ، أي لا يكون ذلك ولن يقتلوك به فإني لا اسلّطهم عليك (فَاذْهَبا) أنت وأخوك (بِآياتِنا) أي بدلالاتنا ومعجزاتنا التي خصّصناكما بها (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي نحن نحفظكم ، ونحن سامعون ما يجري بينكم (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أرسلنا الله إليك لندعوك إلى عبادته ، وترك الإشراك به (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أمرك الله بأن ارسلهم وأطلقهم من الاستعباد ، وخلّ عنهم (قالَ) فرعون لموسى (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) معناه : ألم تكن فينا صبيا صغيرا فربّيناك (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) أي أقمت سنين كثيرة عندنا ، وهي ثماني عشرة سنة وقيل ثلاثين سنة وقيل أربعين سنة ، وإنما قال ذلك امتنانا عليه بإحسانه إليه (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) يعني قتل القبطي (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) لنعمتنا وحق تربيتنا ،

٤٨٥

عن ابن عباس وعطا ومقاتل (قالَ) موسى (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي فعلت هذه الفعلة وأنا من الجاهلين ، لم أعلم بأنها تبلغ القتل ، لأني ما تعمدته وإنما وقع مني خطأ كمن يرمي طائرا فيصيب إنسانا (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) أي ذهبت من بينكم إلى مدين لما خفتكم ان تقتلوني بمن قتلته (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي نبوة (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي نبيّا من جملة الأنبياء (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يقال : عبده وأعبده إذا اتخذه عبدا وقيل في معناه أقوال (أحدها) ان فيه اعترافا بأن تربيته له كانت نعمة منه على موسى ، وانكارا للنعمة في ترك استعباده ، ويكون ألف التوبيخ مضمرا فيه فكأنه يقول : أو تلك نعمة تمنها عليّ ان عبدت بني اسرائيل ولم تعبدني (وثانيها) انه انكار للمنة أصلا ومعناه : أتمنّ عليّ بأن ربّيتني مع استعبادك قومي؟ هذه ليست بنعمة ، يريد ان اتخاذك بني إسرائيل الذين هم قومي عبيدا أحبط نعمتك التي تمنّ بها عليّ (وثالثها) معناه : انك لو كنت لا تستعبد بني إسرائيل ، ولا تقتل أبناءهم لكانت أمّي مستغنية عن قذفي في اليم ، فكأنك تمتن عليّ بما كان بلاؤك سببا له عن الزجاج ، وزاد الأزهري لهذا بيانا فقال : ان فرعون لما قال لموسى عليه‌السلام ألم نربك فينا وليدا فاعتد عليه بأن رباه وليدا منذ ولد إلى ان كبر ، فكان من جواب موسى عليه‌السلام له تلك نعمة تعتد بها عليّ لأنك عبدت بني إسرائيل ولو لم تعبدهم لكفلني أهلي فلم يلقوني في اليم ، فإنما صارت لك علي نعمة لما أقدمت عليه مما حظره الله عليك (ورابعها) ان فيه بيان انه ليس لفرعون عليه نعمة لأن الذي تولى تربيته أمه وغيرها من بني إسرائيل بأمر فرعون لما استعبدهم ، فيكون معناه : انك تمنّ عليّ بأن استعبدت بني إسرائيل حتى ربوني وحفظوني عن الجبائي (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : أيّ جنس رب العالمين الذي تدعوني إلى عبادته (قالَ) موسى في جوابه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما ومنشئهما وخالقهما (وَما بَيْنَهُمَا) من الحيوان والجماد والنبات (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) بأن الرب من كان بهذه الصفة (قالَ) فرعون (لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) يريد ألا تستمعون مقالة موسى؟ فجرى موسى عليه‌السلام على عادته في الرفق وتأكيد الحجة وتكريرها (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وانما ذكره تأييدا لما قبله ، وتوكيدا له ، فإن فرعون كان يدّعي الربوبية على أهل عصره دون من قبله ، فبيّن ان المستحق للربوبية من هو رب أهل كل عصر ، ومالك تدبيرهم ؛ فعند ذلك (قالَ) فرعون إذ لم يقدر على جواب لكلام موسى عليه‌السلام يموّه عليهم (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) لأنّي أسأله عن ماهية رب العالمين فيجيبني عن غير ذلك كما يفعل المجنون ؛ فعند ذلك لم يشتغل موسى عليه‌السلام بالجواب عما نسبه إليه من الجنون ولكن اشتغل بتأكيد الحجة ، والزيادة في الإبانة بأن (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ذلك وتدبرونه ، وقيل : ان كنتم تعلمون انه إنما يستحق العبادة من كان بهذه الصفة. فلما طال على فرعون الاحتجاج (قالَ) مهدّدا له (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي من المحبوسين ، قالوا : وكان إذا سجن أحدا لم يخرجه حتى يموت ؛ فلما توعده بالسجن (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) معناه : أتسجنني ولو جئتك بأمر ظاهر تعرف به صدقي وكذبك ، وحجة ظاهرة تدل على نبوتي؟!!.

٣١ ـ ٥٠ ـ (قالَ) فرعون لموسى (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي هات ما أدّعيت من المعجزات ان كنت صادقا (فَأَلْقى) حينئذ موسى (عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ) أي حيّة عظيمة وقيل : الثعبان الذكر من الحيات (مُبِينٌ) ثعبان لا شبهة فيه (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي واخرج يده من كمه

٤٨٦

أو جيبه على ما روي فإذا هي بيضاء بياضا نوريا كالشمس في إشراقها للناظرين إليها (قالَ) فرعون (لِلْمَلَإِ) الاشراف من قومه (حَوْلَهُ إِنَّ هذا) يعني موسى (لَساحِرٌ عَلِيمٌ) بالسحر والحيل (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) ودياركم ويتغلب عليها (بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ) في بابه. وانما شاور قومه في ذلك مع انه كان يقول لهم : انه إله ، لأنه يجوز ان يكون ذهب عليه وعلى قومه ان الإله لا يجوز أن يشاور غيره ، كما ذهب عليهم ان الإله لا يجوز أن يكون جسما محتاجا ، فاعتقدوا إلهيته مع ظهور حاجته (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي قالوا لفرعون أخّره وأخاه هارون ولا تعجل بالحكم فيهما بشيء فتكون عجلتك حجّة عليك ، عن الزجّاج ، وقيل : أخّره ، أي احبسه ، والأوّل أصح ، لأنه كان يعلم أنّه لا يقدر على حبسه مع ما رأى من تلك الآيات (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) يحشرون الناس من جميع البلدان (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) وفي الكلام حذف تقديره : انه انفذ الحاشرين في البلدان فحشروهم (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي لوقت يوم بعينه اختاروه وعينوه وهو يوم عيدهم ، يوم الزينة (وَقِيلَ لِلنَّاسِ) أي لأهل مصر (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) لموسى وأخيه (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) وحضروا بين يدي فرعون (قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) أي هل لنا اجرة وجزاء على غلبتنا إياه ان نحن غلبناه؟ (قالَ) فرعون (نَعَمْ) لكم على ذلك الأجر الجزيل (وَإِنَّكُمْ) مع ما تعطون من الجزاء والأجر (إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) والمقرب : المدني من مجلس الكرامة (قالَ لَهُمْ) أي للسحرة (مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) هذا بصورة الأمر والمراد به التحدي (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) أي طرحوا ما كان معهم من الحبال والعصي (وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) والعزة : القوة التي يمتنع بها من لحاق ضيم لعلو منزلتها ، وهذا القول قسم منهم وإن كان غير مبرور (فَأَلْقى) عند ذلك (مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي ان العصا تتناول جميع ما موّهوا به في أوجز مدة من الزمان (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) لما بهرهم ما أظهره موسى عليه‌السلام من قلب العصا حية ، وتلقفها جميع ما أتعبوا به نفوسهم فيه ، وعلموا ان ذلك من عند الله ، إذ أحد من البشر لا يقدر عليه (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) فعند ذلك (قالَ) فرعون مهدّدا لهم (آمَنْتُمْ) أي صدّقتم له فيما يدعو إليه (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي انا في تصديقه (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ) اي استاذكم وعالمكم (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) فيما بعد ما أفعله بكم عقوبة لكم على تصديقكم إياه ، ثم فسّر ذلك بقوله (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) يعني قطع اليد من جانب ، والرجل من الجانب الآخر ، كقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) مع ذلك على الجذوع ، ولا اترك احدا منكم لا تناله عقوبتي (قالُوا) في جوابه عن ذلك (لا ضَيْرَ) أي لا ضرر علينا فيما تفعله يقال ضاره يضيره ضيرا وضرّه يضرّه ضررا (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي إلى ثواب ربنا راجعون فيجازينا على إيماننا وصبرنا بالنعيم الدائم الذي لا ينقضي ، ولا يضرّنا قطعك وصلبك فإنه ألم ساعة عن قريب ينقضي ، قال الحسن : لم يصل فرعون إلى قتل واحد منهم ولا قطعه.

القصة

لما أمنت السحرة ورجع فرعون مغلوبا ، وأبى هو وقومه إلّا الإقامة على الكفر ، قال هامان لفرعون : إن الناس قد آمنوا بموسى ، فانظر من دخل في دينه فاحبسه ، فحبس كل من آمن به من بني إسرائل ، فتابع الله عليهم بالآيات ، وأخذهم بالسنين ، ونقص من الثمرات ، ثم بعث عليهم الطوفان فخرّب دورهم ومساكنهم ، وامتلأت بيوت القبط ماء ، فقالوا لموسى :

٤٨٧

ادع لنا ربك يكشف عنا فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم الطوفان فلم يؤمنوا ، فأنزل الله عليهم في السنة الثانية الجراد ، فجردت زروعهم وأشجارهم ، حتى كانت تجرد شعورهم ولحاهم ، فعجّوا وضجّوا ، وجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا ، وقال : (يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ) يكشف عنا الجراد حتى أخلّي عن بني إسرائيل ، فدعا موسى ربه فكشف عنه الجراد ، فلم يؤمنوا فأنزل الله عليهم في السنة الثالثة القمل ـ وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له ـ وهو شر ما يكون وأخبثه ، فأتى على زروعهم كلها وأجتثها من أصلها ، فصرخوا وصاحوا. فقال فرعون لموسى أدع لنا ربك لئن كشفت عنا القمل لأكفن عن بني إسرائيل فدعا موسى حتى ذهب القمل فنكثوا ، فأنزل الله عليهم في السنة الرابعة الضفادع ، فكانت تكون في طعامهم وشرابهم ، وامتلأت منها بيوتهم وأبنيتهم ، فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى ، وقالوا : هذه المرة نتوب ولا نعود ، فأخذ عهودهم ومواثيقهم ، ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع ، ثم نقضوا العهد وعادوا لكفرهم ، فلما كان السنة الخامسة أرسل عليهم الدم ، فسال ماء النيل عليهم دما ، فمكثوا سبعة أيام لا يأكلون إلّا الدم ، ولا يشربون إلّا الدم ، ثم أخبر سبحانه عنهم أيضا فقال (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) وهو الطاعون ، مات من القبط سبعون ألف انسان ، قالوا يا موسى أدع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل. فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون. فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم.

٥١ ـ ٦٨ ـ (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) أي ما فعلناه من السحر وغيره (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي لأنا كنّا أول من صدّق موسى وأقرّ بنبوّته ، وبما دعانا إليه من التوحيد ونفي التشبيه (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) سبق تفسيره في سورة طه (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وجنوده ليحولوا بينكم وبين الخروج من أرض مصر (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) يحشرون إليه الناس ، ويجمعون له الجيوش ليقبضوا على موسى وقومه لمّا ساروا بأمر الله عزوجل ، فلما حضروا عنده (قالَ) لهم (إِنَّ هؤُلاءِ) يعني أصحاب موسى (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) أي عصابة من الناس قليلة قال الفراء : يقال : عصبة قليلة وقليلون ، وكثيرة وكثيرون ، وقال المفسرون : وكان الشرذمة الذين قلّلهم فرعون ستمائة ألف ، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) يقال : غاظة واغتاظه وغيظه إذا أغضبه ، أي انّهم غاظونا لمخالفتهم إيانا في الدين ، ثم لخروجهم من أرضنا على كره منّا وذهابهم

__________________

عن عبد الله بن مسكان ، عن يعقوب الأحمر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك إنه أصابتني هموم وأشياء لم يبق شيء من الخير إلّا وقد تفلّت منّي منه طائفة حتّى القرآن ، لقد تفلت منّي طائفة منه. قال : ففزع عند ذلك حين ذكرت القرآن ، ثم قال : إنّ الرجل لينسى السورة من القرآن فتأتيه يوم القيامة حتّى تشرف عليه من درجة من بعض الدرجات ، فتقول : السلام عليك ، فيقول : وعليك السلام ، من أنت؟ فتقول : أنا سورة كذا وكذا ، ضيّعتني وتركتني ، أما لو تمسّكت بي بلغت بك هذه الدرجة ، ثم أشار بإصبعه ، ثم قال : عليكم بالقرآن فتعلّموه ، فإنّ من الناس من يتعلّم القرآن ليقال : فلان قارىء ، ومنهم من يتعلّمه فيطلب به الصوت ، فيقال : فلان حسن الصوت ، وليس في ذلك خير ، ومنهم من يتعلّمه فيقوم به في ليله ونهاره ، لا يبالي من علم ذلك ومن لم يعلمه. أصول الكافي : ٢ / ٥٨٢.

٤٨٨

بالحلي التي استعاروها ، وخلوصهم من استعبادنا (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي خائفون شرّهم ، وحاذرون : أي مؤدّون مقوون : أي ذوو أداة وقوة ، مستعدّون شاكون في السلاح ، وقال الزجاج : الحاذر المستعد والحذر المتيقظ. ثم أخبر سبحانه عن كيفية إهلاكهم بقوله (فَأَخْرَجْناهُمْ) يعني آل فرعون (مِنْ جَنَّاتٍ) أي بساتين (وَعُيُونٍ) جارية فيها (وَكُنُوزٍ) أي أموال مخبأة ، وخزائن ودفاين (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي منابر يخطب عليها الخطباء عن ابن عباس وقيل هو مجالس الأمراء والرؤساء التي كان يحفّ بها الإتباع فيأتمرون بأمرهم أي المنازل الحسان التي كانوا مقيمين فيها في كرامة وقيل يريد مرابط الخيل لتفرد الرؤوساء بارتباطها عدة وزينة فصار مقامها أكرم مقام متروك (كَذلِكَ) أي كما وصفنا لك أخبارهم (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) وذلك ان الله سبحانه ردّ بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه ، وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والعقار والمساكن والديار (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) يعني قوم فرعون أدركوا موسى وأصحابه حين شرقت الشمس وظهر ضؤوها وذلك قوله (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي سيدركنا جمع فرعون ولا طاقة لنا بهم (قالَ) موسى ثقة بنصر الله تعالى (كَلَّا) لن يدركونا ولا يكون ما تظنون ، فانتهوا عن هذا القول (إِنَّ مَعِي رَبِّي) بنصره (سَيَهْدِينِ) أي سيرشدني إلى طريق النجاة (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) وهو نهر النيل (فَانْفَلَقَ) أي : فانشق البحر وظهر فيه اثنا عشر طريقا ، وقام الماء عن يمين الطريق ويساره كالجبل العظيم وذلك قوله (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي فكان كل قطعة من البحر كالجبل العظيم والفرق الاسم لما انفرق والفرق مصدر (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي قربنا إلى البحر فرعون وقومه حتى أغرقناهم عن ابن عباس وقتادة وقيل معناه : جمعنا في البحر فرعون وقومه عن أبي عبيدة ، وقيل معناه : وقرّبناهم إلى المنية لمجيء وقت هلاكهم (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) يعني بني إسرائيل أنجينا جميعهم من الغرق والهلاك (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) فرعون وجنوده (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) معناه : إن في فرق البحر وإنجاء موسى وقومه ، واغراق فرعون وقومه لدلالة واضحة على توحيد الله وصفاته التي لا يشاركه فيها غيره (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) معناه : انهم مع هذا السلطان الظاهر ، والبرهان الباهر ، والمعجز القاهر ، ما آمن أكثرهم ، فلا تستوحش يا محمد من قعود قومك عن الحق الذي تأتيهم به ، وتدلّهم عليه ، فقد جروا على عادة أسلافهم في إنكار الحق ، وقبول الباطل (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الرَّحِيمُ) بخلقه ، وقيل : العزيز في انتقامه مع أعدائه ، الرحيم في انجائه من الهلاك لأوليائه وقيل : انه لم يؤمن من أهل مصر غير آسية امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون ، ومريم التي دلّته على عظام يوسف.

__________________

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين ، ومن قرأ ثلثمائة آية كتب من الفائزين ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين ، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من تبر ، القنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب ، والمثقال أربعة وعشرون قيراطا ، أصغرها مثل جبل أحد ، وأكبرها ما بين السماء إلى الأرض. أصول الكافي : ٢ / ٥٨٥.

٤٨٩

٦٩ ـ ١٠٤ ثم قال سبحانه (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) يا محمد (نَبَأَ إِبْراهِيمَ) أي خبر إبراهيم ، فإنه شجرة الأنبياء ، وبه افتخار العرب ، وفيه تسلية لك ، وعظة لقومك (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) على وجه الإنكار عليهم (ما تَعْبُدُونَ) أي أيّ شيء تعبدون من دون الله (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي فنظل لها مصلين عن ابن عباس وقيل معناه : فنقيم على عبادتها مداومين (قالَ) ابراهيم (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) أي هل يسمعون دعاءكم (إِذْ تَدْعُونَ) معناه : هل يستجيبون دعاءكم اذا دعوتموهم (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) إذا عبدتموهم (أَوْ يَضُرُّونَ) ان تركتم عبادتها وفي هذا بيان ان الدين انما يثبت بالحجة ولو لا ذلك لم يحاجّهم إبراهيم عليه‌السلام هذا الحجاج (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) وهذا اخبار عن تقليدهم آباءهم في عبادة الأصنام (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام منكرا عليهم التقليد (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) أي الذي كنتم تعبدونه من الأصنام (أَنْتُمْ) الآن (وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) أي المتقدمون ، أي والذين كان آباؤكم يعبدونهم وانما دخل لفظة كان لأنه جمع بين الحال والماضي (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) معناه : ان عبادة الأصنام عدوّ لي مع الأصنام عدوّ لي إلا انه غلب ما يعقل وقيل انه يعني الأصنام وانما قال فإنهم فجمعها جمع العقلاء لما وصفها بالعداوة التي لا تكون إلا من العقلاء وجعل الأصنام كالعدو في الضرر من جهة عبادتها ويجوز أن يكون قال فإنهم لأنه كان منهم من يعبد الله مع عبادته الأصنام فغلب ما يعقل ولذلك استثنى فقال (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء من جميع المعبودين. ثم وصف ربّ العالمين فقال (الَّذِي خَلَقَنِي) وأخرجني من العدم إلى الوجود (فَهُوَ يَهْدِينِ) أي يرشدني إلى ما فيه نجاتي وقيل : الذي خلقني لطاعته فهو يهديني إلى جنته (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) معناه : انه يرزقني ما أتغذى به ، ويفعل ما يصحّ بدني (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أي يميتني بعد أن كنت حيّا ، ويحييني يوم القيامة بعد أن أكون ميتا (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي يوم الجزاء ؛ وإنما قال ذلك على سبيل الانقطاع منه إلى الله تعالى لا على سبيل أنّ له خطيئة يحتاج إلى أن يغفر له يوم القيامة ، لأن عندنا لا يجوز أن يقع من الأنبياء شيء من القبائح ، وعند جميع أهل العدل وان جوّزوا عليهم الصغائر فإنها تقع عندهم محبطة مكفرة فليس شيء منها غير مغفور فيحتاج إلى أن يغفر يوم القيامة وقيل معناه : أطمع ان يغفر لمن يشفعني فيه فأضافه إلى نفسه كقوله سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ، وانما قال : (وَإِذا مَرِضْتُ) ، فأضاف المرض إلى نفسه وان كان من الله استعمالا لحسن الأدب ، فإن المقصود شكر نعمة الله تعالى ، ولو كان المقصود بيان القدرة لاضافه إلى الله تعالى ، ونظيره قول الخضر عليه‌السلام فأردت ان أعيبها ثم قال : فأراد ربك ان يبلغا أشدهما. وهذا الكلام من إبراهيم (ع) إنما صدر على وجه الاحتجاج على قومه ، والإخبار بأنه لا يصلح للإلهية إلا من فعل هذه الأفعال. ثم حكى الله عنه انه سأله وقال (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) والحكم : بيان الشيء على ما تقتضيه الحكمة وقيل : انه النبوة (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي بمن قبلي من النبيين في الدرجة والمنزلة وقيل معناه : افعل بي من اللطف ما يؤديني إلى الصلاح ، والاجتماع مع النبيين في الثواب (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي ثناء حسنا في آخر الأمم ، وذكرا جميلا ، وقبولا عاما في الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة ؛ فأجاب الله سبحانه دعاه فكل أهل الأديان يثنون عليه ، ويقرّون بنبوته (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي من الذين يرثون الفردوس (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي من الذاهبين عن الصواب (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي لا تفضحني ولا تعيرني

٤٩٠

بذنب يوم تحشر الخلائق ؛ وهذا الدعاء كان منه عليه‌السلام على وجه الانقطاع إلى الله تعالى لما بيّنا ان القبيح لا يجوز وقوعه من الأنبياء عليهم‌السلام. ثم فسّر ذلك اليوم بأن قال (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) أي لا ينفع المال والبنون أحدا إذ لا يتهيأ لذي المال ان يفتدي من شدائد ذلك اليوم به ، ولا يتحمل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من الشرك والشك ؛ وانما خصّ القلب بالسلامة لأنه اذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد ، من حيث ان الفساد بالجارحة لا يكون إلا عن قصد بالقلب الفاسد وروي عن الصادق عليه‌السلام انه قال هو القلب الذي سلم من حب الدنيا ويؤيده قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبّ الدنيا رأس كل خطيئة (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي قربت لهم ليدخلوها (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أي أظهرت وكشف الغطاء عنها للضالين عن طريق الحق والصواب (وَقِيلَ لَهُمْ) في ذلك اليوم على وجه التوبيخ (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام والأوثان وغيرهما (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع العذاب عنكم في ذلك اليوم (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) لكم إذا عوقبتم (فَكُبْكِبُوا فِيها) أي جمعوا وطرح بعضهم على بعض عن ابن عباس (هُمْ) يعني الآلهة التي تعدونها (وَالْغاوُونَ) أي والعابدون والمعنى : اجتمع المعبودون من دون الله والعابدون لها في النار (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) أي وكبكب معهم جنود إبليس ، يريد من اتبعه من ولده وولد آدم (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) أي قال هؤلاء وهم في النار يخاصم بعضهم بعضا (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وان هذه هي المخففة من الثقيلة أي إنا كنا في ضلال ومعناه : لقد كنا في ضلال عن الحق بيّن ، وذهاب عن الصواب ظاهر ، إذ سوّيناكم بالله ، وعدلناكم به في توجيه العبادة إليكم (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) أي إلّا أولونا الذين اقتدينا بهم عن الكلبي وقيل : إلا الشياطين عن مقاتل وقيل : الكافرون الذين دعونا إلى الضلال ؛ ثم أظهروا الحسرة فقالوا (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) يشفعون لنا ، ويسألون في أمرنا (وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أي ذي قرابة يهمّه أمرنا والمعنى : ما لنا من شفيع من الأباعد ، ولا صديق من الأقارب ، وذلك حين يشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون. وروى العياشي بالإسناد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : والله لنشفعن لشيعتنا ، والله لنشفعن لشيعتنا حتى يقول الناس : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) إلى قوله (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، ثم قالوا (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي رجعة إلى الدنيا (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المصدّقين ، فتحلّ لنا الشفاعة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما قصصناه (لَآيَةً) أي دلالة لمن نظر فيها واعتبر بها (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) فيها تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإعلام له بأن الشرّ قديم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) مضى معناه.

١٠٥ ـ ١٢٢ ـ ثم ذكر سبحانه حديث نوح عليه‌السلام فقال (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) أي كذبت جماعة نوح المرسلين ، لأن من كذب رسولا واحدا من رسل الله فقد كذب الجماعة ، لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل وقال أبو جعفر (ع): يعني بالمرسلين نوحا والأنبياء الذين كانوا بينه وبين آدم (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) أي في النسب لا في الدين (أَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله تعالى في تكذيبي ومخالفتي (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) على الرسالة فيما بيني وبين ربكم (فَاتَّقُوا اللهَ) بطاعته وعبادته (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به من الإيمان والتوحيد (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على الدعاء إلى التوحيد (مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ) ما جزائي وثوابي (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وخالق الخلائق أجمعين. ثم كرّر عليهم قوله (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) لاختلاف المعنى ، لأن التقدير : فاتقوا

٤٩١

الله وأطيعون لأني رسول أمين ، واتقوا الله وأطيعون لأني لا أسألكم عليه أجرا فتخافوا تلف أموالكم به ، وكل واحد من هذين المعنيين يقوي الداعي إلى قبول قول الغير ويبعد عن التهمة (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ) أي نصدّقك فيما تقول (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) يعنون المساكين الذين ليس لهم مال ولا عز والمعنى : ان أتباعك أراذلنا وفقراؤنا (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما أعلم أعمالهم وصنائعهم ، ولم أكلّف ذلك ، وإنما كلفت أن أدعوهم إلى الله وقد أجابوني إليه (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) أي ليس حسابهم إلّا على ربّي الذي خلقني وخلقهم ، لو تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما أنا بالذي لا يقبل الإيمان من الذين تزعمون انهم الأرذلون لأني لست إلا نذيرا مخوّفا من معصية الله ، داعيا إلى طاعته مبيّنا لها (قالُوا) له عند ذلك (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ) أي إن لم ترجع عما تقوله وتدعو إليه (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) بالحجارة عن قتادة وقيل من المرجومين بالشتم عن الضحاك (قالَ) نوح (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) أي فاقض بيننا قضاء بالعذاب لأنه قال (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من ذلك العذاب (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي فخلّصناه ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة من الناس وغيرهم من الحيوانات (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ) أي بعد نجاة نوح ومن معه (الْباقِينَ) أي الخارجين عن السفينة ، الكافرين به (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) واضحة على توحيد الله (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) وليس هذا بتكرار ، وإنما كل واحد في قصة على حدة ، فهذا ذكر آية في قصة نوح وما كان من شأنه ، بعد ذكر آية مما كان في قصة إبراهيم ، وذكر آية أخرى في قصة موسى وفرعون ، فبين انه ذكر كلا من ذلك لما فيه من الآية الباهرة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في اهلاك قوم نوح بالغرق (الرَّحِيمُ) في انجائه نوحا ومن معه في الفلك.

١٢٣ ـ ١٤٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن عاد فقال (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) والتأنيث لمعنى القبيلة ، لأنه أراد بعاد القبيلة (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) في النسب (هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) الله باجتناب معاصيه (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) إلى قوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) مرّ تفسيره (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) أي بكل مكان مرتفع وقيل : بكل شرف عن ابن عباس وقيل : بكل طريق عن الكلبي والضحاك (آيَةً تَعْبَثُونَ) أي بناء لا تحتاجون إليه لسكناكم ، وإنما تريدون العبث بذلك واللعب واللهو ، كأنّه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثا منهم ، عن ابن عباس في رواية عطا ، ويؤيده الخبر المأثور عن أنس بن مالك ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج فرأى قبة مشرفة فقال : ما هذه؟ قال له أصحابه : هذه لرجل من الأنصار ، فمكث حتى اذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه ، وصنع ذلك به مرارا حتى عرف الرجل الغضب والإعراض عنه ، فشكا ذلك إلى أصحابه وقال : والله إني لأنكر نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أدري ما حدث فيّ وما صنعت؟ قالوا : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرأى قبتك فقال : لمن هذه؟ فأخبرناه ، فرجع إلى قبته فسوّاها بالأرض ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم فلم ير القبة

__________________

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حملة القرآن عرفاء أهل الجنّة. أصول الكافي : ٢ / ٦٠٦.

قال الإمام الصّادق عليه‌السلام : ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتّى يتعلّم القرآن ، أو يكون في تعليمه. أصول الكافي : ٢ / ٦٠.

٤٩٢

فقال : ما فعلت القبة التي كانت ههنا؟ قالوا : شكا إلينا صاحبها اعراضك عنه فأخبرناه فهدمها فقال : إن لكل بناء يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا بدّ منه. وقيل معناه : انهم كانوا يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ، ويعبثوا بهم عن الكلبي والضحاك وقيل : إن هذا بنيان الحمام ، أنكر هود عليهم اتخاذهم بروجا للحمام عبثا عن سعيد بن جبير ومجاهد (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) أي حصونا وقصورا مشيدة عن مجاهد وقيل : مأخذا للماء تحت الأرض عن قتادة (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) كأنكم تخلدون فيها فلا تموتون ، فإن هذه الأبنية بناء من يطمع في الخلود ، قال الزجاج : معناه : تتخذون مباني للخلود لا تتفكرون في الموت (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) البطش : الأخذ باليد ، أي اذا بطشتم بأحد تريدون إنزال عقوبة به عاقبتموه عقوبة من يريد التجبر بارتكاب العظائم كما قال : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) وقيل معناه : وإذا عاقبتم قتلتم فمعنى الجبار : القتال على الغضب بغير حق (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) مرّ معناه (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) أي اعطاكم ما تعلمون من الخير ، والامداد : اتباع الثاني ما قبله شيئا بعد شيء على انتظام ، وهؤلاء أمدّوا بأنواع من النعم وهو قوله (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) فأعطاهم رزقهم على ادرار (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن عصيتموني (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يريد يوم القيامة ، وصفه بالعظم لما فيه من الأهوال العظيمة (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) أي أنهيتنا أم لم تكن من الناهين لنا عن الكلبي والمعنى : انا لا نقبل ما تدعونا إليه على كل حال ، أوعظت أم سكت ، أي حصول الوعظ منك وارتفاعه مستويان عندنا. ثم قالوا (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين الذين ادّعوا النبوة ولم يكونوا أنبياء وأنت مثلهم وقيل معناه ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين في انهم كانوا يحيون ويموتون ولا بعث ولا حساب وقيل معناه : ما الذي تدّعيه من النبوة والرسالة إلا عادة الأولين (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) على ما تدعيه ، لا في الدنيا ولا بعد الموت (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) بعذاب الاستئصال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) قد مرّ تفسيره.

١٤١ ـ ١٥٩ ـ ثم أخبر سبحانه عن ثمود فقال (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) وهو مفسر في هذه السورة إلى قوله (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) معناه : أتظنون انكم تتركون فيما أعطاكم الله من الخير في هذه الدنيا آمنين من الموت والعذاب؟ وهذا اخبار بأن ما هم فيه من النعم لا يبقى عليهم وانها ستزول عنهم. ثم عدّد نعمهم التي كانوا فيها فقال (فِي

__________________

قصّة صالح عليه‌السلام

وكان من قصة صالح وقومه على ما ذكره أصحاب التواريخ أن عادا لما هلكت وتقضى أمرها عمرت ثمود بعدها ، واستخلفوا في الأرض فكثروا وعمروا وكانوا في سعة من معائشهم ، فعتوا على الله وافسدوا في الأرض وعبدوا غير الله ، فبعث الله إليهم صالحا وكان من أوسطهم نسبا ، وكانوا قوما عربا ، وروي في الخبر أنه لما بعث كان ابن ست عشرة سنة فلبث فيهم يدعوهم إلى الله تعالى حتى بلغ عشرين ومائة سنة لا يجيبونه إلى خير ، وكان لهم سبعون صنما يعبدونها ، فلما رأى ذلك منهم قال لهم أنا أعرض عليكم أمرين ، إن شئتم فاسألوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم فيما تسألون ، وإن شئتم سألت آلهتكم فإن أجابوني خرجت عنكم فقد شنئتكم وشنئتموني ، قالوا قد انصفت فاتعدوا ليوم يخرجون فيه ،

٤٩٣

جَنَّاتٍ) أي بساتين يسترها الشجر (وَعُيُونٍ) جارية (وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) الطلع : مشتق من الطلوع لأنه يطلع من النخل والهضيم : اليانع النضيج عن ابن عباس وقيل : هو الرطب اللين عن عكرمة وقيل هو الضامر بدخول بعضه في بعض عن الضحاك وقيل هو الذي إذا مس تفتت عن مجاهد وقيل هو الذي ليس فيه نوى عن الحسن (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) أي حاذقين بنحتها من فره الرجل فراهة فهو فاره ، وفرهين : اشرين بطرين عن ابن عباس (فَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفته (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) يعني الرؤوساء منهم وهم تسعة رهط من ثمود الذين عقروا الناقة. ثم وصفهم فقال (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قالُوا) في جوابه (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) قد أصبت بسحر ففسد عقلك فصرت لا تدري ما تقول وهو بمعنى المسحورين والمراد سحرت مرة بعد اخرى وقيل معناه من المخدوعين وقيل من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب عن ابن عباس وقيل معناه انت مخلوق مثلنا لك سحر أي رئة تأكل وتشرب فلم صرت أولى منا بالنبوة (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي آدمي مثلنا (فَأْتِ بِآيَةٍ) أي بمعجزة تدل على صدقك. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ) وهي الناقة التي أخرجها الله تعالى من الصخرة عشراء ترغو على ما اقترحوه (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي لها حظّ من الماء لا تزاحموها فيه ، ولكم حظّ لا تزاحكم فيه وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام انه قال ان أول عين نبعت في الأرض هي التي فجرها الله لصالح فقال لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هذا مع ما بعده مفسّر في سورة الأعراف والقصة مشروحة هناك.

١٦٠ ـ ١٧٥ ـ ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط فقال : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) وقد فسّرناه إلى قوله : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) أي تصيبون الذكور من جملة الخلائق (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي وتتركون ما خلقه الله لكم من الأزواج (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) أي ظالمون معتدون (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) وترجع عما تقوله ، ولم تمتنع عن دعوتنا وتقبيح أفعالنا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) عن بلدنا (قالَ) لوط لهم عند ذلك (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) أي من المبغضين الكارهين. ثم دعا ربه فقال : (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي من عاقبة ما يعملون وهو العذاب النازل بهم ؛ وأجاب الله سبحانه دعاءه قال : (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) يعني من العذاب الذي وقع بهم (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) وأراد بالعجوز امرأته لأنها كانت تدل أهل الفساد على أضيافه ، فكانت من الباقين في العذاب وهلكت فيما بعد مع من خرج من القرية بما أمطره الله من الحجارة (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أهلكناهم بالخسف وقيل بالإئتفاك ، وهو

__________________

فخرجوا بأصنامهم إلى عيدهم وأكلوا وشربوا ، فلما فرغوا دعوه فقالوا يا صالح سل فسألها فلم تجبه. قال لا أرى آلهتكم تجيبني ، فاسألوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم الساعة ، فقالوا يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة ، وأشاروا إلى صخرة منفردة ، ناقة مخترجة جوفاء وبراء والمخترجة ما شاكل البخت من الإبل ، فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فسأل الله سبحانه ذلك صالح ، فانصدعت الصخرة صدعا كادت عقولهم تطير منه ، ثم اضطربت كالمرأة يأخذها الطلق ، ثم انصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء ، كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله عظما ، وهم ينظرون ثم نتجت سقبا مثلها في العظم ، فآمن به رهط من قومه ، ولم يؤمن أكابرهم فقال لهم صالح هذه لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ؛ وقد بيّنا ذلك

٤٩٤

الإنقلاب ، ثم أمطر على من كان غائبا منهم عن القرية الحجارة من السماء وهو قوله (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي بئس واشتد مطر الكافرين مطرهم ، وما بعده مفسر قبل.

١٧٦ ـ ١٩١ ـ ثم أخبر سبحانه عن شعيب فقال (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) وهم أهل مدير (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) ولم يقل أخوهم لأنّه لم يكن من نسبهم ، وكان من أهل مدين فلذلك قال في ذلك الموضع : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) (أَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله في تكذيبي ومخالفتي (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) على الرسالة فيما بيني وبين ربكم (فَاتَّقُوا اللهَ) بطاعته وعبادته (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به من الإيمان والتوحيد (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على الدعاء والتوحيد (مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ) ما جزائي وثوابي (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وخالق الخلق أجمعين وإنما حكى الله سبحانه دعوة كل نبي بصيغة واحدة ولفظ واحد إشعارا بأن الحق الذي تأتي به الرسل ويدعون إليه واحد : من اتقاء الله تعالى ، واجتناب معاصيه ، والإخلاص في عبادته ، وطاعة رسله ، وان أنبياء الله تعالى لا يكونون إلا أمناء الله في عباده ، فإنه لا يجوز على واحد منهم أن يأخذ الأجرة على رسالته لما في ذلك من التنفير عن قبولهم. ثم قال : (أَوْفُوا الْكَيْلَ) أي أعطوا الكيل وافيا غير ناقص ، ويدخل الوفاء في الكيل والوزن والذرع والعدد (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي من الناقصين للكيل والوزن (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي بالعدل الذي لا حيف فيه (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي ولا تنقصوا الناس حقوقهم ولا تمنعوها (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تسعوا في الأرض بالفساد ، والعثي : أشد الفساد والخراب عن أبي عبيدة (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي أوجدكم بعد العدم (وَالْجِبِلَّةَ) أي الخليقة (الْأَوَّلِينَ) يعني وخلق الأمم المتقدمين (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) مرّ معناه (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) أي وإنا نظنّك كاذبا من جملة الكاذبين وإن هذه مخففة من الثقيلة ولذلك لزمها اللام في الخبر (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي قطعا من السماء جمع كسفة عن ابن عباس (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك (قالَ) شعيب (رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) ومعناه : انه إن كان في معلومه أنه إن بقّاكم تبتم أو تاب بعضكم لم يقتطعكم بالعذاب ، وإن كان في معلومه أنه لا يفلح واحد منكم فسيأتيكم عذاب الإستئصال. ثم قال : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) أصابهم حرّ شديد سبعة أيام ، وحبس عنهم الريح ، ثم غشيتهم سحابة فلما خرجوا

__________________

قبل. فإذا كان يومها وضعت رأسها في مائهم فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيه ، ثم ترفع رأسها فتفجح لهم فيحتلبون ما شاءوا من لبن فيشربون ويدخرون ، حتى يملأوا أوانيهم كلها. قال الحسن بن محبوب : حدّثني رجل من أصحابنا يقال له سعيد بن يزيد قال : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة بين الجبلين ورأيت أثر جنبيها فوجدته ثمانين ذراعا ؛ وكانت تصدر من غير فج الذي وردت ، لا تقدر على أن تصدر من حيث ترد ، لأنه يضيق عنها ، فكانوا في سعة ودعة منها ، وكانوا يشربون الماء يوم الناقة من الجبال والمغارات ، فشقّ ذلك عليهم ، وكانت مواشيهم تنفر عنها لعظمها ، فهمّوا بقتلها. قالوا : وكانت امرأة جميلة يقال لها صدوف ذات مال من إبل وبقر وغنم ، وكانت أشد الناس عداوة لصالح فدعت رجلا من ثمود يقال له مصدع بن مهرج ، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة ، وامرأة أخرى يقال لها عنيزة دعت قدار بن سالف ، وكان أحمر أزرق قصيرا وكان ولد زنا ، ولم يكن لسالف الذي يدعى إليه ، ولكنه ولد على فراشه ، وقالت

٤٩٥

إليها طلبا للبرد من شدّة الحر الذي أصابهم أمطرت عليهم نارا فأحرقتهم ، فكان من أعظم الأيام في الدنيا عذابا وذلك قوله : (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ومعنى الظلة هاهنا : السحابة التي قد أظلتهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) واضحة على توحيد الله (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) فيها تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإعلام له بأن الشر قديم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) سلطانه (الرَّحِيمُ) بخلقه وقيل : العزيز في انتقامه من أعدائه ، الرحيم في انجائه من الهلاك لأوليائه.

١٩٢ ـ ٢١٢ ـ ثم بيّن سبحانه أمر القرآن بعد أن قصّ أخبار الأنبياء عليهم‌السلام ليتصل بها حديث نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ) أي نزل الله بالقرآن (الرُّوحُ الْأَمِينُ) يعني جبرائيل عليه‌السلام ، وهو أمين الله لا يغيره ولا يبدّله ، وسمّاه روحا لأنه يحيي به الدين وقيل : لأنه يحيي به الأرواح بما ينزل من البركات وقيل لأنه جسم روحاني (عَلى قَلْبِكَ) يا محمد ، وهذا على سبيل التوسع ، لأن الله تعالى يسمعه جبرائيل عليه‌السلام فيحفظه ، وينزل به على الرسول ويقرأه عليه فيعيه ويحفظه بقلبه ، فكأنّه نزل به على قلبه وقيل معناه لقنك الله حتى تلقنته وثبته على قلبك ، وجعل قلبك وعاء له (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي لتخوّف به الناس وتنذرهم بآيات الله (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) أي بلغة العرب ، مبين للناس ما بهم إليه الحاجة في دينهم وقيل أراد به لسان قريش ليفهموا ما فيه ولا يقولوا ما نفهم ما قال محمد عن مجاهد وقيل لسان جرهم ، وإنما جعله عربيا لأن المنزل عليه عربي ، والمخاطبون به عرب ، ولأنه تحدّى بفصاحته فصحاء العرب ، وقد تضمنت هذه الآية تشريف هذه

__________________

له أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة.

وكان قدار عزيزا منيعا في قومه ، فانطلق قدار بن سالف ومصدع فاستغويا غواة ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر واجتمعوا على عقر الناقة. قال السدّي وغيره : أوحى الله تعالى إلى صالح : أنّ قومك سيعقرون ناقتك ، فقال ذلك لقومه فقالوا : ما كنّا لنفعل ، فتقاسموا بالله لنبيتنّه وأهله ، قالوا : نخرج فيرى الناس أنّا قد خرجنا الى سفر ، فنأتي الغار فنكون فيه ، حتّى إذا كان الليل ، وخرج صالح الى مسجده أتيناه فقتلناه ، ثم رجعنا الى الغار فكنّا فيه ، ثم رجعنا فقلنا : ما شهدنا مهلك أهله ، فيصدّقوننا ، يعلمون أنّا قد خرجنا الى سفرنا ، وكان صالح لا ينام معهم في القرية ، ويبيت في مسجد يقال له مسجد صالح ، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم ، وإذا أمسى خرج الى المسجد فبات فيه ، فانطلقوا فلما دخلوا الغار وأرادوا أن يخرجوا في الليل سقط عليهم الغار فقتلهم ، فانطلق رجال ممن اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ فرجعوا وجعلوا يصيحون في القرية ... فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة.

وقال ابن إسحاق : إنما كان تقاسم التسعة على تبييت صالح بعد عقر الناقة ، وإنذار صالح إياهم بالعذاب. قالوا فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما السبعة فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء ، وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها ، وكمن لها مصدع في أصل أخرى ، فمرت على مصدع فرمى بسهم فانتظم به عضلة ساقها ، وخرجت عنيزة وأمرت ابنتها ، وكانت من أحسن الناس ، فاسفرت لقدار ثم زمرته ، فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها ، فخرت ورغت رغاة واحدة وتحذر سقبها ، ثم طعن في لبتها فنحرها ، وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه. فلما رأى الفصيل ما فعل بأمه ، ولى هاربا حتى صعد جبلا ثم رغا رغاء تقطع منه قلوب القوم ، وأقبل صالح فخرجوا يعتذرون إليه : إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا ، فقال صالح : انظروا هل تدركون

٤٩٦

اللغة لأنه سمّاها مبينا ولذلك اختارها لأهل الجنة (وَإِنَّهُ) أي وان ذكر القرآن وخبره (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي في كتب الأولين على وجه البشارة به وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا بمعنى أن الله أنزله على غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) معناه : أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل بمجيئه على ما تقدّمت البشارة دلالة لهم على صحة نبوته ، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم ، وكانت اليهود تبشّر به وتستفتح على العرب به ، وكان ذلك سبب إسلام الأوس والخزرج على ما مرّ بيانه ؛ وعلماء بني إسرائيل عبد الله بن سلام ، وابن يامين ، وثعلبة وأسد وأسيد عن عطية (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) أي ولو نزلنا القرآن على رجل ليس من العرب ، وعلى من لا يفصح (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) أي على العرب (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي لم يؤمنوا به ، وانفوا من اتباعه ، لكنا أنزلناه بلسان العرب على أفصح رجل منهم ، من أشرف بيت ليتدبّروا فيه ، وليكونوا أدعى إلى اتباعه وتصديقه (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي كما أنزلنا القرآن عربيا مبينا أمررناه وأدخلناه وأوقعناه في قلوب الكافرين بأن أمرنا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قرأه عليهم ، وبيّنه لهم. ثم بيّن أنهم مع ذلك (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) فيلجئهم إلى الإيمان به ، وهذا خبر عن الكفار الذين علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا (فَيَأْتِيَهُمْ) أي العذاب الذي يتوقعونه ويستعجلونه (بَغْتَةً) أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بمجيئه (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي مؤخرون لنؤمن ولنصدق. قال مقاتل : لما أوعدهم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعذاب استعجلوا العذاب تكذيبا له. فقال الله (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) توبيخا لهم. ثم قال (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي : أرأيت إن أنظرناهم وأخّرناهم سنين ، ومتّعناهم بشيء من الدنيا ، ثم أتاهم العذاب لم يغن عنهم ما متّعوا في تلك السنين من النعيم لإزديادهم في الآثام ، واكتسابهم من الإجرام وهو استفهام في معنى التقرير (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي وما أهلكنا قرية (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) أي إلا بعد إقامة الحجج عليهم بتقديم الإنذار ، وإرسال الرسل (ذِكْرى) أي تذكيرا وموعظة لهم ليتّعظوا ويصلحوا ، فإذا لم يصلحوا مع التخويف والتحذير ، واستحقوا عذاب الإستئصال بإصرارهم على الكفر والعناد أهلكناهم (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي وما ظلمناهم بالإهلاك لأنا لا نظلم أحدا ؛ نفى سبحانه عن نفسه الظلم (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ) أي بالقرآن (الشَّياطِينُ) كما يزعمه بعض المشركين (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) انزال ذلك ، أي الشياطين (وَما يَسْتَطِيعُونَ) ذلك ولا يقدرون عليه لأن الله تعالى يحرس المعجزة عن أن يموه بها المبطل (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي مصروفون عن استماع القرآن ، أي ممنوعون عنه بالشهب الثاقبة ، وقيل معناه : ان الشياطين عن سمع القرآن منحون ، عن قتادة ، فإن العزل

__________________

فصيلها؟ فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب ، فخرجوا يطلبونه في الجبل فلم يجدوه ، وكانوا عقروا الناقة ليلة الأربعاء ، فقال لهم صالح تمتعوا في داركم ، يعني في محلتكم في الدنيا ثلاثة أيام ، فإن العذاب نازل بكم. ثم قال يا قوم إنكم تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة ، واليوم الثاني تصبحون ووجوهكم محمرة ، واليوم الثالث وجوهكم مسودة ، فلما كان أول يوم أصبحت وجوههم مصفرة ، فقالوا جاءكم ما قال لكم صالح ، ولما كان اليوم الثاني احمرت وجوههم ، واليوم الثالث اسودت وجوههم. فلما كان نصف الليل أتاهم جبرائيل عليه‌السلام فصرخ بهم صرخة خرقت أسماعهم ،

٤٩٧

تنحية الشيء عن موضع إلى خلافه ، وإزالته عن أمر إلى نقيضه.

٢١٣ ـ ٢٢٠ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به سائر المكلفين فقال : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) بسبب ذلك ؛ وإنما أفرده بالخطاب ليعلم أن العظيم الشأن إذا أوعد فمن دونه كيف حاله؟ وإذا حذر هو فغيره أولى بالتحذير (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أي رهطك الأدنين أي أنذرهم بالإفصاح من غير تليين بالقول كما تدعو إليه مقاربة العشيرة ، وإنما خصّهم بالذكر تنبيها على أنه ينذر غيرهم وأنه لا يداهنهم لأجل القرابة ليقطع طمع الأجانب عن مداهنته في الدين وقيل انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بأن يبدأ بهم في الإنذار والدعاء إلى الله ثم بالذين يلونهم ، لأن ذلك هو الذي يقتضيه حسن الترتيب وقيل : انه إنما خصّهم لأنه يمكنه أن يجمعهم ثم ينذرهم ، وقد فعل ذلك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واشتهرت القصة بذلك عند الخاص والعام (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ألن جانبك وتواضع لهم ، وحسن أخلاقك معهم (فَإِنْ عَصَوْكَ) يعني أقاربك بعد إنذارك إياهم ، وخالفوك فيما تدعوهم إليه (فَقُلْ) لهم (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي من أعمالكم القبيحة ، وعبادتكم الأصنام (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي فوّض أمرك إلى العزيز المنتقم من أعدائه ، الرحيم بأوليائه ، ليكفيك كيد أعدائك الذين عصوك فيما أمرتهم به (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) أي الذي يبصرك حين تقوم من مجلسك أو فراشك إلى الصلاة. وقيل : حين تقوم بالليل لأنه لا يطلع عليه أحد غيره (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي ويرى تصرفك في المصلين بالركوع والسجود والقيام والقعود والمعنى : يراك حين تقوم إلى الصلاة مفردا ، وتقلبك في الساجدين إذا صلّيت في جماعة ، وقيل معناه : وتقلبك في أصلاب الموحدين من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك نبيّا (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع ما تتلو في صلاتك ، ويعلم ما تضمر فيها.

٢٢١ ـ ٢٢٧ ـ (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي هل أخبركم (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي إنما يتنزل الشياطين على كل كذاب فاجر عامل بالمعاصي وهم الكهنة ، ولست بكذاب ولا أثيم فلا يتنزل عليك الشياطين ، وإنما يتنزل عليك الملائكة (يُلْقُونَ السَّمْعَ) معناه : أن الشياطين يلقون ما يسمعونه إلى الكهنة والكذابين ، ويخلطون به كثيرا من الأكاذيب ويوحونه إليهم (وَأَكْثَرُهُمْ) أي وأكثر الشياطين (كاذِبُونَ) وقيل : أكثر الكهنة كاذبون. وهذا كان قبل أن أوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد ذلك فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) قال ابن عباس يريد شعراء المشركين ، تكلّموا بالكذب والباطل وقالوا : نحن نقول مثل ما قال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا الشعر ، واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم ، ويروون عنهم حين يهجون النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه فذلك قوله : (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) أي في كل فن من الكذب يتكلّمون ، وفي كل لغو يخوضون ، يمدحون ويذمّون بالباطل (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) أي يحثّون على أشياء لا يفعلونها ، وينهون عن أشياء يرتكبونها. ثم استثنى من جملتهم فقال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وهم شعراء المؤمنين الذين مدحوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

وفلقت قلوبهم ، وصدعت أكبادهم ، وكانوا قد تحنطوا وتكفنوا وعلموا أن العذاب نازل بهم ، فماتوا أجمعين في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم.

٤٩٨

وردّوا هجاء من هجاه (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ، ولم يجعلوا الشعر همّهم (وَانْتَصَرُوا) من المشركين للرسول والمؤمنين (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي ردّوا على المشركين ما كانوا يهجون به المؤمنين. ثم هدّد الظالمين فقال : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أي سوف يعلم أيّ مرجع يرجعون ، وأيّ منصرف ينصرفون ، لأن منصرفهم إلى النار نعوذ بالله منها.

سورة النمل

مكية وعدد آياتها ثلاث وتسعون آية

١ ـ ١٠ ـ (طس) سبق تفسيره (تِلْكَ) إشارة إلى ما وعدوا بمجيئه من القرآن (آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) أضاف الآيات إلى القرآن ، وآيات القرآن هي القرآن ، والقرآن والكتاب معناهما واحد ، وصفه بالصفتين ليفيد أنه مما يظهر بالقراءة ويظهر بالكتابة ، وهو بمنزلة الناطق بما فيه من الأمرين جميعا ، ووصفه بأنه مبين تشبيه له بالناطق بكذا ومعناه : أن الله بيّن فيه أمره ونهيه ، وحلاله وحرامه ، ووعده ووعيده ؛ وإذا وصفه بأنه بيان فإنه يجري مجرى وصفه له بالنطق بهذه الأشياء في ظهور المعنى به للنفس ، والبيان : هو الدلالة التي تبيّن بها الأشياء ، والمبين : المظهر (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي هدى من الضلالة إلى الحق بالبيان الذي فيه والبرهان ، وباللطف فيه من جهة الإعجاز الدال على صحة أمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبشرى للمؤمنين بالجنة والثواب. ثم وصف المؤمنين فقال (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بحدودها وواجباتها ويداومون على أوقاتها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي ويخرجون ما يجب عليهم من الزكاة في أموالهم إلى من يستحقها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالنشأة الآخرة والبعث والجزاء (هُمْ يُوقِنُونَ) لا يشكّون فيه. ثم وصف من خالفهم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) اختلف في معناه فقيل : ان المعنى : زيّنا لهم أعمالهم التي أمرناهم بها بأحسن وجوه التزيين والترغيب ، فهم يتحيّرون بالذهاب عنها ، عن الحسن والجبائي وأبي مسلم ، وقيل : زيّنا لهم أعمالهم بأن خلقنا فيهم شهوة القبيح الداعية لهم إلى فعل المعاصي ليجتنبوا المشتهى ، فهم يعمهون عن هذا المعنى ، ويترددون في الحيرة ، وقيل معناه : حرمناهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم ، فتزينت أعمالهم في أعينهم ، وحليت في صدورهم (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) أي شدة العذاب وصعوبته (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي لا أحد أخسر صفقة منهم لأنهم يخسرون الثواب ، ويحصل لهم بدلا منه العقاب (وَإِنَّكَ) يا محمد (لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي لتعطى (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) في أمره (عَلِيمٍ) بخلقه ، أي من عند الله ، لأن الملك يلقيه من قبل الله سبحانه وقيل معناه : لتلقن قال علي بن عيسى عليم بمعنى عالم ، إلا ان في عليم مبالغة فهو مثل سامع وسميع ، لأن في قولنا : عالم يفيد أن له معلوما ، كما ان قولنا : سامع يفيد أن له مسموعا وإذا وصفناه بأنه عليم أفاد أنه متى يصح معلوم فهو عالم به ، كما ان سميعا يفيد أنه متى وجد مسموع فلا بدّ أن يكون سامعا له (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) قال الزجاج العامل في إذ أذكر أي : أذكر في قصة موسى إذ قال لأهله ، أي امرأته وهي بنت شعيب (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرت ورأيت نارا ومنه اشتقاق الإنس لأنهم مرئيون وقيل : آنست أي : أحسست بالشيء من جهة يؤنس بها ، وما أنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) معناه : فالزموا مكانكم لعلي آتيكم من هذه النار بخبر الطريق ، وأهتدي بها إلى الطريق ، لأنه كان أضلّ الطريق (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) أى بشعلة نار ، والشهاب : نور كالعمود من النار ، وكل نور

٤٩٩

يمتد مثل العمود يسمى شهابا وإنما قال لامرأته آتيكم على لفظ خطاب الجمع لأنه أقامه مقام الجماعة في الأنس بها والسكون إليها في الأمكنة الموحشة (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي لكي تستدفئوا بها ، وذلك لأنهم كانوا قد أصابهم البرد وكانوا شاتين عن الحسن وقتادة (فَلَمَّا جاءَها) أي جاء موسى إلى النار ، يعني التي ظنّ أنها نار وهي نور (نُودِيَ) لما رأى موسى عليه‌السلام النار وقف قريبا منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة ، لا تزداد النار إلا اشتعالا ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا ، فلم تكن النار بحرارتها تحرق الشجرة ، ولا الشجرة برطوبتها تطفىء النار ، فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها فمالت إليه فخافها فتأخر عنها ، ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن نودي ؛ والمراد به نداء الوحي (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي بورك فيمن في النار : وهم الملائكة ، وفيمن حولها : يعني موسى ، وذلك أن النور الذي رأى موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتقديس والتسبيح ، ومن حولها هو موسى لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها ، فكأنه قال : بارك الله على من في النار وعليك يا موسى. وهذا تحية من الله سبحانه (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي تنزيها له عما لا يليق بصفاته تعالى عن أن يكون جسما يحتاج إلى جهة ، أو عرضا يحتاج إلى محل ، أو يكون ممن يتكلم بآلة ، ثم أخبر سبحانه موسى عن نفسه ، وتعرف إليه بصفاته فقال (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي ان الذي يكلّمك هو الله العزيز ، أي القادر الذي لا يغالب ولا يمتنع عليه شيء الحكيم في أفعاله ، المحكم لتدابيره ، ثم أراه سبحانه آية يعلم بها صحة النداء فقال : (وَأَلْقِ عَصاكَ) فألقاها فصارت حيّة (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) أي تتحرّك كما يتحرّك الجان ، وهو الحية التي ليست بعظيمة ، وإنما شبّهها بالجان في خفة حركتها واهتزازها (وَلَّى مُدْبِراً) أي رجع إلى ورائه (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يرجع ، فقال الله سبحانه (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) وهذا تسكين من الله سبحانه لموسى ، ونهي له عن الخوف يقول له : إنك مرسل ، والمرسل لا يخاف لأنه لا يفعل قبيحا ، ولا يخلّ بواجب فيخاف عقابي على ذلك.

١١ ـ ١٤ ـ ثم قال سبحانه (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) المعنى : لكن من ظلم نفسه بفعل القبيح من غير المرسلين ، لأن الأنبياء لا يقع منهم ظلم لكونهم معصومين من الذنوب والقبائح ، فيكون هذا استثناء منقطعا ، وإنما حسن ذلك لاجتماع الأنبياء وغيرهم في معنى شملهم وهو التكليف (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أي بدّل توبة وندما على ما فعله من القبيح ، وعزما أن لا يعود إليه في المستقبل (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ساتر لذنبه ، قابل لتوبته (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أعطاه آية أخرى وقد سبق بيانها (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي مع تسع آيات أخر أنت مرسل بها (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) تقديره : مرسلا بها إلى فرعون ، ومبعوثا إليه. والآيات التسع مفسرة في سورة بني إسرائيل (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله إلى أقبح وجوه الكفر (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا) أي حججنا ومعجزاتنا (مُبْصِرَةً) أي واضحة بيّنة خارجة عن قدرة البشر ، وهو مثل قوله : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) وقد مرّ بيانه (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر بيّن (وَجَحَدُوا بِها) وأنكروها ولم يقرّوا بأنها من عند الله تعالى (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي عرفوها وعلموها يقينا بقلوبهم ، وإنما جحدوها بألسنتهم (ظُلْماً) على أنفسهم (وَعُلُوًّا) أي طلبا للعلو والرفعة ، وتكبّرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى عليه‌السلام (فَانْظُرْ) يا محمد أو أيها السامع (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض بالمعاصي.

٥٠٠