الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

الله المطيعون في الدنيا (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وهو العظيم من النار. والمراد بالفجار هنا الكفار المكذبون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) أي يلزمونها بكونهم فيها (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي لا يكونون غائبين عنها بل يكونون مؤبدين فيها. وقد دلّ الدليل على أن أهل الكبيرة من المسلمين لا يخلدون في النار ، ولأنه سبحانه قد ذكر المكذبين بالدين فيما قبل هذه الآية ، فالأولى أن تكون لفظة الفجار مخصوصة بهم وأيضا فإذا احتمل الكلام ذلك بطل تعلق أهل الوعيد بعموم اللفظ. ثم عظم سبحانه يوم القيامة فقال (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) تعظيما له لشدته ، وتنبيها على عظم حاله وكثرة أهواله (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) كرّره تأكيدا لذلك وقيل : أراد ما أدراك ما في يوم الدين من النعيم لأهل الجنة ، وما أدراك ما في يوم الدين من العذاب لأهل النار عن الجبائي (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي لا يملك أحد الدفاع عن غيره ممن يستحق العقاب كما يملك كثير من الناس في دار الدنيا ذلك (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وحده ، أي الحكم له في الجزاء والثواب ، والعفو والانتقام. وروى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام انه قال : ان الأمر يومئذ واليوم كله لله يا جابر ، إذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلا الله ، وقيل : معناه : يوم لا تملك نفس لنفس كافرة شيئا من المنفعة عن مقاتل ، والمعنى الصحيح في الآية : ان الله سبحانه قد ملّك في الدنيا كثيرا من الناس أمورا وأحكاما ، وفي القيامة لا أمر لسواه ولا حكم ومتى قيل : فيجب أن لا يصح على هذا شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فالجواب ان ذلك لا يكون إلا بأمره تعالى وبإذنه هو من تدابيره.

سورة المطففين

مكية وآياتها ست وثلاثون آية

النزول

قيل : لمّا قدّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله عزوجل : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ، فاحسنوا الكيل بعد ذلك ، عن عكرمة عن ابن عباس ؛ وقيل انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم المدينة وبها رجل يقال له : أبو جهينة ومعه صاعان ، يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر ، فنزلت الآيات ، عن السدي.

ختم الله سبحانه تلك السورة بذكر القيامة وما أعدّ فيها للأبرار والفجّار ، وبيّن في هذه السورة أيضا ذكر أحوال الناس في القيامة فقال :

١ ـ ١٧ ـ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) وهم الذين ينقصون المكيال والميزان ، ويبخسون الناس حقوقهم في الكيل والوزن قال الزجاج : وإنما قيل له : مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان الا الشيء اليسير الطفيف ؛ ثم فسّر المطففين فقال (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) أي اذا كالوا ما على الناس ليأخذوه لأنفسهم (يَسْتَوْفُونَ) عليهم الكيل ، ولم يذكر اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فأحدهما يدل على الآخر (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) أي كالوا لهم أو وزنوا لهم (يُخْسِرُونَ) أي ينقصون والمعنى : انهم اذا كالوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا. ثم عجب الله خلقه من غفلة هؤلاء حيث فارقوا أمر الله وطريقة العدل فقال (أَلا يَظُنُ) أي ألا يعلم (أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) وهو يوم القيامة ، يريد ألا يستيقن من فعل هذا انه مبعوث محاسب عن ابن عباس ؛ ثم

٨٠١

أخبر عن ذلك اليوم فقال (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) والمعنى : يوم يقوم الناس من قبورهم لأمر ربّ العالمين ولجزائه وفي الحديث إنهم يقومون في رشحهم إلى انصاف آذانهم (كَلَّا) هو ردع وزجر ، أي ارتدعوا وانزجروا عن المعاصي فليس الأمر على ما أنتم عليه (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) يعني كتابهم الذي فيه ثبت أعمالهم من الفجور والمعاصي. وعن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سجين أسفل سبع أرضين والمعنى في الآية : ان كتاب عملهم يوضع هناك (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك ، ثم قال مفسرا لذلك (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي كتاب معلوم كتب فيه ما يسؤوهم ويسخن أعينهم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وهذا تهديد لمن كذّب بالجزاء والبعث ولم يصدق. ثم فسّر سبحانه المكذبين فقال (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي يوم الجزاء (وَما يُكَذِّبُ بِهِ) أي لا يكذب بيوم الجزاء (إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) أي متجاوز للحق إلى الباطل (أَثِيمٍ) كثير الإثم ، مبالغ في ارتكابه. ثم وصف المعتدي الأثيم بقوله (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) وهي القرآن (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أباطيل الأولين (كَلَّا) ليس الأمر على ما قالوه. ثم استأنف فقال (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي غلب عليها (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) والمعنى : غلب ذنوبهم على قلوبهم وقيل : ان معنى الرين هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب. وروى العياشي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ما من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء ، فإن تاب ذهب ذلك السواد ، وان تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض ، فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا وهو قول الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) الآية (كَلَّا) يريد لا يصدقون. ثم استأنف (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) يعني ان هؤلاء الذين وصفهم بالكفر والفجور محجوبون يوم القيامة عن رحمة ربهم واحسانه وكرامته ، وقيل محرومون عن ثوابه وكرامته عن عليّ عليه‌السلام (ثُمَّ إِنَّهُمْ) بعد أن منعوا من الثواب والكرامة (لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي لازموا الجحيم بكونهم فيها ، لا يغيبون عنها (ثُمَّ يُقالُ) لهم توبيخا وتبكيتا (هذَا الَّذِي) فعل بكم من العذاب والعقاب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) في دار التكليف. ويسمى مثل هذا الخطاب تقريعا لأنه خبر بما يقرع بشدة الغم على وجه الذم.

١٨ ـ ٣٦ ـ (كَلَّا) أي لا يؤمنون بالعذاب الذي يصلونه (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) أي المطيعين لله (لَفِي عِلِّيِّينَ) أي مراتب عالية محفوفة بالجلالة ، وعن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في عليين : في السماء السابعة تحت العرش (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) وهذا تعظيم لشأن هذه المنزلة ، وتفخيم لأمرها وتنبيه على ان تفصيل تفصيله لا يمكن العلم به إلّا بالمشاهدة ثم قال (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي هو كتاب مكتوب فيه جميع طاعاتهم ، وما تقرّ به أعينهم ، ويوجب سرورهم ، بضد الكتاب الذي للفجار لأن فيه ما يسوءهم وينوءهم ، ويسخن عيونهم (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يعني الملائكة الذين هم في عليين يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي يحصلون في ملاذ وأنواع من النعمة في الجنة (عَلَى الْأَرائِكِ) قال الحسن : ما كنا نعرف ما الأرائك حتى قدم إلينا رجل من أهل اليمن فزعم ان الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير (يَنْظُرُونَ) إلى ما أعطوا من النعيم والكرامة (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي إذا رأيتهم عرفت انهم من أهل النعمة بما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض والبهجة (يُسْقَوْنَ مِنْ

٨٠٢

رَحِيقٍ) أي خمر صافية خالصة من كل غش (مَخْتُومٍ) في الآنية بالمسك ، وهو غير الخمر التي تجري في الأنهار ، ثم فسّر المختوم بقوله (خِتامُهُ مِسْكٌ) اي آخر طعمه ريح المسك اذا رفع الشارب فاه عن آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك. ثم رغّب فيها فقال (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى ، ومثله قوله سبحانه : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) ؛ وفي الحديث : من صام لله في يوم صائف سقاه الله على الظمأ من الرحيق المختوم ، وفي وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام : من ترك الخمر لله سقاه الله من الرحيق المختوم (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي ومزاج ذلك الشراب الذين وصفناه وهو ما يمزج به من تسنيم ، وهو عين في الجنة وهو أشرف شراب في الجنة. وروى ميمون ابن مهران أن ابن عباس سئل عن تسنيم فقال : هذا مما يقول الله عزوجل فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ، ونحو هذا قول الحسن : خفايا أخفاها الله لأهل الجنة وقيل : هو شراب ينصبّ عليهم من علو انصبابا وقيل : هو نهر يجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنة بحسب الحاجة عن قتادة. ثم فسّره سبحانه فقال (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي هي خالصة للمقربين يشربونها صرفا ، ويمزج لسائر أهل الجنة (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) يعني كفار قريش ومترفيهم (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَضْحَكُونَ) على وجه السخرية بهم والاستهزاء في دار الدنيا (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ) يعني واذا مرّ المؤمنون بهؤلاء المشركين (يَتَغامَزُونَ) بأن يشير بعضهم إلى بعض بالأعين والحواجب استهزاء بهم وقيل : نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وذلك انه كان في نفر من المسلمين جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه فنزلت الآية قبل أن يصل عليّ عليه‌السلام وأصحابه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال : إن الذين أجرموا منافقو قريش ، والذين آمنوا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأصحابه (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) يعني واذا رجع هؤلاء الكفار إلى أهلهم رجعوا معجبين بما هم فيه ، يتفكهون بذكرهم (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) عن طريق الحق والصواب ، تركوا التنعم رجاء ثواب لا حقيقة له خدعهم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثم قال سبحانه (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي ولم يرسل هؤلاء الكفار حافظين على المؤمنين ما هم عليه ، وما كلفوا حفظ أعمالهم (فَالْيَوْمَ) يعني يوم القيامة الذي يجازي الله كل أحد على عمله (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) كما ضحك الكفار منهم في الدنيا ، وذلك انه يفتح للكفار باب إلى الجنة ويقال لهم : اخرجوا إليها فاذا وصلوا إليها اغلق دونهم ، يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم المؤمنون (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) يعني المؤمنين ينظرون إلى عذاب أعدائهم الكفار على سرر في الحجال. ثم قال سبحانه (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي هل جوزي الكفار إذا فعل بهم هذا الذي ذكره على ما كانوا يفعلونه من السخرية بالمؤمنين في الدنيا؟ وهو استفهام يراد به التقرير ، وثوب : بمعنى أثيب.

سورة الانشقاق

مكية آياتها خمس وعشرون آية

١ ـ ٢٥ ـ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أي تصدّعت وانفرجت ،

٨٠٣

وانشقاقها من علامات القيامة ، وذكر ذلك في مواضع من القرآن (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي سمعت وأطاعت في الانشقاق عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة ، وهذا توسّع أي كأنها سمعت وانقادت لتدبير الله (وَحُقَّتْ) أي وحقّ لها أن تأذن بالانقياد لأمر ربّها الذي خلقها وتطيع له (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي بسطت باندكاك جبالها وآكامها حتى تصير كالصحيفة الملساء (وَأَلْقَتْ ما فِيها) من الموتى والكنوز (وَتَخَلَّتْ) معناه : ألقت ما في بطنها من كنوزها ومعادنها ، وتخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) ليس هذا بتكرار ، لأن الأول في صفة السماء ، والثاني في صفة الأرض ، وهذا كله من اشراط الساعة ، وجلائل الأمور التي تكون فيها ، والتقدير : إذا كانت هذه الأشياء التي ذكرناها وعددناها رأى الإنسان ما قدّم من خير أو شرّ (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) أي ساع إليه في عملك ، وقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) خطاب لجميع المكلفين من ولد آدم يقول الله لهم سبحانه ولكل واحد منهم : يا أيّها الانسان انك عامل عملا في مشقة لتحمله إلى الله وتوصله إليه (فَمُلاقِيهِ) أي ملاق جزاءه ؛ جعل لقاء جزاء العمل لقاء له تفخيما لشأنه وقيل معناه : ملاق ربك أي صائر إلى حكمه حيث لا حكم إلا حكمه. ثم قسّم سبحانه أحوال الخلق يوم القيامة فقال (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أي من أعطي كتابه الذي ثبت فيه أعماله من طاعة أو معصية بيده اليمنى (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) يريد انه لا يناقش في الحساب ولا يواقف على ما عمل من الحسنات ، وما له عليها من الثواب ، وما حطّ عنه من الأوزار إما بالتوبة أو بالعفو وقيل : الحساب اليسير التجاوز عن السيئات ، والاثابة على الحسنات ومن نوقش الحساب عذّب ، في خبر مرفوع ، وفي رواية اخرى يعرف عمله ثم يتجاوز عنه ، وفي حديث آخر : ثلاث من كنّ فيه حاسبه الله حسابا يسيرا ، وأدخله الجنة برحمته ، قالوا : وما هي يا رسول الله؟ قال : تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك ، وتعفو عمّن ظلمك (وَيَنْقَلِبُ) بعد الفراغ من الحساب (إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) بما أوتي من الخير والكرامة. والمراد بالأهل هنا ما أعدّ الله له من الحور العين وقيل أهله أزواجه وأولاده وعشائره وقد سبقوه إلى الجنة ، والسرور : هو الاعتقاد والعلم بوصول نفع إليه ، أو دفع ضرّ عنه ، وقال قوم : هو معنى في القلب يلتذّ لأجله بنيل المشتهى ، يقال : سرّ بكذا من مال أو ولد أو بلوغ أمل فهو مسرور (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) لان يمينه مغلولة إلى عنقه ، وتكون يده اليسرى خلف ظهره. والوجه في ذلك أن تكون إعطاء الكتاب باليمين امارة للملائكة والمؤمنين لكون صاحبه من أهل الجنة ، وكناية عن قبول أعماله ، واعطاؤه على الوجه الآخر امارة لهم على ان صاحبه من أهل النار ، وعلامة المناقشة في الحساب وسوء المآب. ثم حكى سبحانه ما يحلّ به فقال (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) أي هلاكا اذا قرأ كتابه وهو أن يقول : واثبوراه ، واهلاكاه (وَيَصْلى سَعِيراً) أي يدخل النار ويعذب بها (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) في الدنيا ناعما لا يهمّه أمر الآخرة ، ولا يتحمل مشقة العبادة ، فأبدله الله بسروره غما باقيا لا ينقطع ، وكان المؤمن مهتما بأمر الآخرة فأبدله الله بهمّه سرورا لا يزول ولا يبيد ، وقيل : كان مسرورا بمعاصي الله تعالى لا يندم عليها وقيل : ان من عصى وسرّ بمعصية الله فقد ظنّ انه لا يرجع إلى البعث ولو كان موقنا بالبعث والجزاء لكان بعيدا عن السرور بالمعاصي (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي ظن في دار التكليف انه لن يرجع إلى حال الحياة في الآخرة للجزاء فارتكب المآثم ، وانتهك المحارم (بَلى) ليحورن وليبعثن وليس الأمر على ما ظنّه (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) من يوم خلقه إلى أن يبعثه ، ثم أقسم سبحانه فقال (فَلا أُقْسِمُ) سبق بيانه في سورة القيامة (بِالشَّفَقِ) أي بالحمرة التي تبقى عند المغرب في

٨٠٤

الأفق (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي وما جمع وضمّ مما كان منتشرا بالنهار في تصرفه ، وذلك ان الليل إذا أقبل أوى كل شيء إلى مأواه (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي اذا استوى واجتمع وتكامل وتمّ. قال الفراء : اتساقه امتلاؤه واجتماعه واستواؤه لثلاث عشرة إلى ست عشرة (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) هذا جواب القسم ، أي لتركبن يا محمد سماء بعد سماء تصعد فيها ، ويجوز أن يريد درجة بعد درجة ، ورتبة بعد رتبة في المقربة من الله ، ورفعة المنزلة عنده. ثم قال سبحانه على وجه التقريع لهم والتبكيت (فَما لَهُمْ) عني كفار قريش (لا يُؤْمِنُونَ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن والمعنى : أيّ شيء لهم إذا لم يؤمنوا؟ وهو استفهام إنكار ، أي لا شيء لهم من النعيم والكرامة إذا لم يؤمنوا وقيل معناه : فما وجه الارتياب الذي يصرفهم عن الإيمان ، وهو تعجب منهم في تركهم الإيمان ، والمراد : أيّ مانع لهم ، وأيّ عذر لهم في ترك الإيمان مع وضوح الدلائل (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) عطف على قوله : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي ما الذي يصرفهم عن الإيمان وعن السجود لله تعالى إذا تلي عليهم القرآن وقيل معنى لا يسجدون لا يصلون لله تعالى عن عطا والكلبي ؛ وفي خبر مرفوع عن أبي هريرة قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد ثم قال سبحانه (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي لم يتركوا الإيمان لقصور في البيان ، أو لانقطاع من البرهان ، لكنهم قلدوا أسلافهم ورؤساءهم في التكذيب بالرسول والقرآن (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي يجمعون في صدورهم ، ويضمرون في قلوبهم من التكذيب والشرك ، عن ابن عباس وقتادة ومقاتل وقيل : بما يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة عن ابن زيد. قال الفراء : أصل الإيعاء جعل الشيء في وعاء ، والقلوب أوعية لما يحصل فيها من علم أو جهل ؛ وفي كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها. ثم قال (فَبَشِّرْهُمْ) يا محمد (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي اجعل ذلك لهم بدل البشارة للمؤمنين بالرحمة. ثم استثنى سبحانه المؤمنين من جملة المخاطبين فقال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير منقوص ولا مقطوع ، لأن نعيم الآخرة غير منقطع عن ابن عباس ، وقيل ؛ غير منقص ولا مكدر بالمنّ. وقيل : ليس لأحد عليها منة فيما يكسب ، وفي قوله سبحانه : فما لهم لا يؤمنون ولا يسجدون. دلالة على ان الإيمان والسجود فعلهم ، لأن الحكيم لا يقول ما لك لا تؤمن ولا تسجد لمن يعلم انه لا يقدر على الإيمان والسجود ، ولو وجد ذلك لم يكن من فعله ، ويدلّ قوله : لا يسجدون على ان الكفار مخاطبون بالعبادات

سورة البروج

مكية آياتها اثنتان وعشرون آية

١ ـ ٢٢ ـ ان الله سبحانه أقسم بالسماء فقال (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) فالبروج : المنازل العالية ، والمراد هنا منازل الشمس والقمر والكواكب ، وهي اثنا عشر برجا يسير القمر في كل برج منها يومين وثلاث ، وتسير الشمس في كل برج شهرا (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) يعني يوم القيامة في قول جميع المفسرين ، وهو اليوم الذي يجازى فيه الخلائق ، ويفصل فيه القضاء (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة ، وسمي يوم الجمعة شاهدا لأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه ، وفي الحديث : ما طلعت الشمس على يوم ولا غربت على يوم أفضل منه ، وفيه ساعة لا يوافقها من يدعو فيها الله بخير إلّا استجاب له ، ولا استعاذ من شرّ إلّا أعاذه منه ،

٨٠٥

ويوم عرفة مشهود يشهد الناس فيه موسم الحج ، وتشهده الملائكة (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أخبار عن المسلمين الذين عذبوا بالنار في الأخدود والمعنى : انهم قتلوا بالاحراق في النار. ذكرهم الله سبحانه واثنى عليهم بحسن بصيرتهم ، وصبرهم على دينهم حتى أحرقوا بالنار (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) أي أصحاب النار الذين أوقدوها باحراق المؤمنين وقوله : (ذاتِ الْوَقُودِ) : اشارة إلى كثرة حطب هذه النار وتعظيم لأمرها ، فإن النار لا تخلو عن وقود (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) يعني الكفار اذ هم على أطراف هذه النار جلوس يعذّبون المؤمنين ، عن ابن عباس ، وقيل : يعني هم عندها قعود يعرضونهم على الكفر ، عن مقاتل. قال مجاهد ؛ كانوا قعودا على الكراسي عند الاخدود ، وهو قوله (وَهُمْ) يعني الملك وأصحابه الذين خدّوا الاخدود (عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ) من عرضهم على النار ، وارادتهم ان يرجعوا إلى دينهم (شُهُودٌ) أي حضور. قال الزجاج : أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم وحقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على ان احرقوا بالنار في الله (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) أي ما كرهوا منهم إلّا انهم آمنوا ، وهذا كقوله : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) (الْعَزِيزِ) القادر الذي لا يمتنع عليه شيء القاهر الذي لا يقهر (الْحَمِيدِ) المحمود في جميع أفعاله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف في السموات والأرض لا اعتراض لأحد عليه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي شاهد عليهم ، لم يخف عليه فعلهم بالمؤمنين ، فإنه يجازيهم وينتصف للمؤمنين منهم (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي الذين أحرقوهم وعذّبوهم بالنار (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) من فعلهم ذلك ، ومن الشرك الذي كانوا عليه (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) بما أحرقوا المؤمنين. يسأل فيقال : كيف فصّل بين عذاب جهنم وعذاب الحريق وهما واحد؟ اجيب عن ذلك : بأن لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا ، وذلك ان النار ارتفعت من الاخدود فأحرقتهم ، وقال الفراء : ارتفعت النار عليهم فأحرقتهم فوق الأخاديد ونجا المؤمنون. ثم ذكر سبحانه ما أعدّه للمؤمنين الذين احرقوا بالنار فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا بتوحيد الله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) النجاة العظيم ، والنفع الخالص ؛ وانما وصفه بالكبير لأن نعيم العاملين كبير بالإضافة إلى نعيم من لا عمل له من داخلي الجنة لما في ذلك من الإجلال والإكرام والتبجيل والإعظام. ثم قال سبحانه متوعدا للكفار والعصاة (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) يا محمد (لَشَدِيدٌ) يعني ان اخذه بالعذاب إذا اخذ الظلمة والجبابرة أليم شديد (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ) الخلق ، يخلقهم أولا في الدنيا (وَيُعِيدُ) هم أحياء بعد الموت للحساب والجزاء ، فليس امهاله لمن يعصيه لإهماله إياه (وَهُوَ الْغَفُورُ) لذنوب المؤمنين من أهل طاعته (الْوَدُودُ) يودّ أولياءه ويحبّهم (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) القراءة في المجيد الرفع ، لأن الله سبحانه هو الموصوف بالمجد ، ولأن المجيد لم يسمع في غير صفة الله تعالى (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا يعجزه شيء طلبه ، ولا يمتنع منه شيء أراده. ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) الذين تجنّدوا على أنبياء الله ، أي هل بلغك أخبارهم؟ ثم بيّن سبحانه أصحاب الجنود فقال (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) والمعنى : تذكر يا محمد حديثهم تذكّر معتبر كيف كذبوا أنبياء الله ، وكيف نزل بهم العذاب ، وكيف صبر الأنبياء وكيف نصروا؟ فاصبر كما صبر أولئك ليأتيك النصر كما أتاهم ؛ وهذا من الإيجاز البديع ، والتلويح الفصيح الذي لا يقوم مقامه التصريح (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني مشركي قريش (فِي تَكْذِيبٍ) لك والقرآن ، قد اعرضوا عما يوجبه الاعتبار ، واقبلوا على ما يوجبه الكفر والطغيان (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) معناه : إنهم في

٨٠٦

قبضة الله وسلطانه لا يفوتونه كالمحاصر المحاط به من جوانبه لا يمكنه الفوات والهرب ، وهذا من بلاغة القرآن (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي كريم لأنه كلام الرب ، أي ليس هو كما يقولون من انه شعر أو كهانة وسحر ، بل هو قرآن كريم عظيم الكرم فيما يعطي من الخير جليل الخطر والقدر (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) من التغيير والتبديل والنقصان والزيادة.

سورة الطارق

مكية وآياتها سبع عشرة آية

١ ـ ١٧ ـ أقسم الله سبحانه فقال (وَالسَّماءِ) أي بالسماء (وَالطَّارِقِ) وهو الذي يجيء ليلا (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) وذلك ان هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلا ولم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدري ما المراد لو لم يبيّنه بقوله (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي هو الكوكب المضيء ، ويريد به العموم وهو جماع النجوم عن الحسن وقيل : هو زحل ، والثاقب : العالي على النجوم وجواب القسم قوله (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) أي ما كلّ نفس إلّا عليها حافظ من الملائكة يحفظ عملها وقولها وفعلها ، ويحصي ما يكتسبه من خير وشرّ. ثم نبّه سبحانه على البعث بقوله (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) يعني المكذب بالبعث (مِمَّ خُلِقَ) أي فلينظر نظر التفكر والاستدلال من أيّ شيء خلقه الله ، وكيف خلقه وأنشأه؟ حتى يعرف ان الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته. ثم ذكر من أيّ شيء خلقه فقال (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) أي من ماء مهراق في رحم المرأة ، يعني المني الذي يكون منه الولد. ثم وصف سبحانه ذلك الماء فقال (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) وهو موضع القلادة من الصدر. قال عطاء : يريد صلب الرجل وترائب المرأة ، والولد لا يكون إلّا من المائين (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) يعني ان الذي خلقه ابتداء من هذا الماء يقدر على أن يرجعه حيّا بعد الموت (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي انه قادر على بعثه يوم القيامة ، ومعنى الرجع : ردّ الشيء إلى أول حاله ، والسرائر : أعمال بني آدم ، والفرائض التي أوجبت عليه ، وهي سرائر بين الله والعبد ، وتبلى : أي تختبر تلك السرائر يوم القيامة حتى يظهر خيرها من شرّها ، ومؤدّيها من مضيعها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ضمن الله خلقه أربع خصال ؛ الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهي السرائر التي قال الله : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) ؛ وعن معاذ ابن جبل قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة؟ فقال : سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكل مفروض ، لأن الأعمال كلها سرائر خفية فإن شاء قال الرجل : صليت ولم يصل ، وإن شاء قال : توضأت ولم يتوضأ ، فذلك قوله (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) وقيل : يظهر الله أعمال كل أحد لأهل القيامة حتى يعلموا على أيّ شيء أثابه ، ويكون فيه زيادة سرور له ، وان يكن من أهل العقوبة يظهر عمله ليعلموا على أيّ شيء عاقبه ، ويكون ذلك زيادة غم له ؛ والسرائر ما أسرّه من خير أو شرّ ، وما أضمره من إيمان أو كفر (فَما لَهُ) أي فما لهذا الإنسان المنكر للبعث والحشر (مِنْ قُوَّةٍ) يمتنع بها من عذاب الله (وَلا ناصِرٍ) ينصره من الله ، والقوة : هي القدرة. ثم ذكر سبحانه قسما آخر تأكيدا لأمر القيامة فقال (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي ذات المطر عن أكثر المفسرين ، وقيل : يعني بالرجع شمسها وقمرها ونجومها ، تغيب ثم تطلع ، عن ابن زيد ، ورجع السماء : إعطاؤها الخير الذي يكون من جهتها حالا بعد حال على مرور الأزمان فترجع

٨٠٧

بالغيث وأرزاق العباد وغير ذلك (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) تتصدّع بالنبات ، أي تنشقّ فيخرج منها النبات والاشجار (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) هذا جواب القسم ، يعني ان القرآن يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما وروي ذلك عن الصادق عليه‌السلام ، وقيل ان معناه : ان الوعد بالبعث والإحياء بعد الموت قول فصل ، أي مقطوع بلا خلاف ولا ريب فيه (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي هو الجدّ وليس باللعب ، ثم أخبر سبحانه عن مشركي قريش فقال (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) أي يحتالون في الإيقاع بك وبمن معك ، ويريدون اطفاء نورك (وَأَكِيدُ كَيْداً) أي أريد أمرا آخر على ضدّ ما يريدون ، وادبر ما ينقض تدابيرهم ومكايدهم ، فسمى ذلك كيدا من حيث يخفى ذلك عليهم (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي انتظر بهم يا محمد ولا تعاجلهم ، وارض بتدبير الله فيهم (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أي إمهالا قليلا ؛ وإنّما قلل الإمهال لأن ما هو كائن آت لا محالة فهو قليل ، والمراد به يوم القيامة ، وقيل : أراد يوم بدر ، والمعنى : لا تعجل عليّ في طلب هلاكهم ، بل اصبر عليهم قليلا فان الله مجزيهم لا محال إمّا بالقتل والذل في الدنيا ، أو بالعذاب في الآخرة.

سورة الأعلى

مكية وآياتها تسع عشرة آية

١ ـ ١٩ ـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) معناه : نزّه ربك عن كل ما لا يليق به من الصفات المذمومة ، والأفعال القبيحة ، لأن التسبيح هو التنزيه لله عما لا يليق به والأعلى معناه : القادر الذي لا قادر أقدر منه ، القاهر لكل احد (الَّذِي خَلَقَ) الخلق (فَسَوَّى) بينهم في باب الإحكام والإتقان ، وقيل : خلق كل ذي روح فسوّى يديه وعينيه ورجليه ، عن الكلبي ، وقيل : خلق الإنسان فعدّل قامته ، عن الزجاج ، يعني انه لن يجعله منكوسا كالبهائم والدواب ، وقيل : خلق الأشياء على موجب إرادته وحكمته ، فسوّى صنعها لتشهد على وحدانيته (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي قدّر الخلق على ما خلقهم فيه ، من الصور والهيئات ، وأجرى لهم أسباب معايشهم من الأرزاق والأقوات ، ثم هداهم إلى دينه بمعرفة توحيده بإظهار الدلالات والبينات (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي أنبت الحشيش من الأرض لمنافع جميع الحيوان وأقواتهم (فَجَعَلَهُ) بعد الخضرة (غُثاءً) أي هشيما جافا كالغثاء الذي تراه فوق السيل (أَحْوى) أي أسود بعد الخضرة ، وذلك ان الكلأ إذا يبس اسودّ (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) أي سنأخذ عليك قراءة القرآن فلا تنسى ذلك (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن ينسيكه بنسخه من رفع حكمه وتلاوته. قال الفراء : لم يشأ الله أن ينسى عليه‌السلام شيئا فهو كقوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ولا يشاء ، ففي الآية بيان لفضيلة النّبيّ (ص) واخبار انه مع كونه (ص) أميّا كان يحفظ القرآن ، وان جبرائيل عليه‌السلام كان يقرأ عليه سورة طويلة فيحفظه بمرّة واحدة ثم لا ينساه ، وهذه دلالة على الإعجاز الدالّ على نبوته (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) معناه : ان الله سبحانه يعلم العلانية والسرّ ، والجهر : رفع الصوت ، ونقيضه الهمس والمعنى : انه سبحانه يحفظ عليك ما جهرت به وما أخفيته مما تريد أن تعيه (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) اليسرى هي الفعلى من اليسر وهو سهولة عمل الخير والمعنى : نوفّقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية ، ونهون عليك الوحي ونسهله حتى تحفظه ولا تنساه ، وتعمل به ولا تخالفه وقيل معناه : نسهل لك من الألطاف والتأييد ما

٨٠٨

يثبتك على أمرك ويسهل عليك المستصعب من تبليغ الرسالة والصبر عليه عن أبي مسلم وهذا أحسن ما قيل فيه ، فإنه يتصل بقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ، فكأنّه سبحانه أمره بالتبليغ ، ووعده النصر ، وأمّره بالصبر (فَذَكِّرْ) أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث للاعذار والانذار فعليه التذكير في كل حال نفع أو لم ينفع (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي سيتعظ بالقرآن من يخشى الله تعالى ويخاف عقابه (وَيَتَجَنَّبُهَا) أي يتجنب الذكرى والموعظة (الْأَشْقَى) أي أشقى العصاة ، فإن للعاصين درجات في الشقاوة فأعظمهم درجة فيها الذي كفر بالله وتوحيده وعبد غيره (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) هي الطبقة السفلى من جهنم (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح (وَلا يَحْيى) حياة ينتفع بها ، بل صارت حياته وبالا عليه يتمنى زوالها لما هو معها من فنون العقاب ، وألوان العذاب (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي قد فاز من تطهر من الشرك وقال : لا إله إلا الله (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي وحّد الله (بَلْ تُؤْثِرُونَ) أي تختارون (الْحَياةَ الدُّنْيا) على الآخرة فتعملون لها وتعمرونها ولا تتفكرون في أمر الآخرة. ثم رغّب سبحانه في الآخرة فقال (وَالْآخِرَةُ) أي والدار الآخرة وهي الجنة (خَيْرٌ) أي أفضل (وَأَبْقى) وأدوم من الدنيا (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) يعني ان هذا الذي ذكر من قوله : قد أفلح إلى أربع آيات لفي الكتب الأولى التي انزلت قبل القرآن ، ذكر فيها فلاح المصلي والمتزكي ، وإيثار الخلق الدنيا على الآخرة ، وان الآخرة خير. ثم بيّن سبحانه ان الصحف الأولى ما هي فقال (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) وفي هذا دلالة على ان إبراهيم كان قد أنزل عليه الكتاب خلافا لمن يزعم انه لم ينزل عليه كتاب ؛ وروي عن أبي ذر أنه قال : قلت : يا رسول الله كم الأنبياء فقال : مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا ، قلت : يا رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيتهم أنبياء قلت : كان آدم عليه‌السلام نبيّا قال : نعم ، كلّمه الله وخلقه بيده ، يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب : هود وصالح وشعيب ونبيك قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال : مائة وأربعة كتب ، أنزل الله منها على آدم عليه‌السلام عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى اخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة ، وهو أول من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وفي الحديث : انه كان في صحف إبراهيم : ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه ، عارفا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، وقيل : ان كتب الله كلها أنزلت في شهر رمضان.

سورة الغاشية

مكية وآياتها ست وعشرون آية

١ ـ ٢٦ ـ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد : قد أتاك حديث يوم القيامة ، لأنها تغشى الناس بأهوالها بغتة وقيل : الغاشية النار تغشى وجوه الكفار بالعذاب ، وهذا كقوله (تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي ذليلة بالعذاب الذي يغشاها ، والشدائد التي تشاهدها ؛ والمراد بذلك أرباب الوجوه وإنما ذكر الوجوه لأن الذل والخضوع يظهر فيها وقيل : المراد بالوجوه الكبراء تقول : جاءني وجوه بني تميم ، أي ساداتهم وقيل : عنى به وجوه الكفار كلهم لأنها تكبرت عن عبادة الله تعالى (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) في الدنيا يعملون وينصبون ويتعبون على خلاف ما

٨٠٩

أمرهم الله تعالى به وهم الرهبان وأصحاب الصوامع ، وأهل البدع والآراء الباطلة ، لا يقبل الله أعمالهم في البدعة والضلالة ، وتصير هباء لا يثابون عليها (تَصْلى ناراً حامِيَةً) قال ابن عباس : قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي وتسقى أيضا من عين حارة قد بلغت اناها ، وانتهت حرارتها. قال الحسن : قد أوقدت عليها جهنم مذ خلقت فدفعوا إليها وردا عطاشا هذا شرابهم ، ثم ذكر طعامهم فقال (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وهو نوع من الشوك ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك ، أمرّ من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأشدّ حرّا من النار ، سمّاه الله الضريع (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) أي لا يدفع جوعا ، ولا يسمن احدا. ثم وصف سبحانه أهل الجنة فقال (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي منعمة في أنواع اللذات ، ظاهر عليها أثر النعمة والسرور ، ومضيئة مشرقة (لِسَعْيِها) في الدنيا (راضِيَةٌ) حين اعطيت الجنة بعملها والمعنى : لثواب سعيها وعملها من الطاعات راضية ؛ يريد انه لما ظهر نفع أعمالهم ، وجزاء عبادتهم رضوه وحمدوه (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي مرتفعة القصور والدرجات (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي كلمة ساقطة لا فائدة فيها (فِيها) أي في تلك الجنة (عَيْنٌ جارِيَةٌ) قيل : انه اسم جنس ولكل انسان في قصره من الجنة عين جارية من كل شراب يشتهيه (فِيها) أي في تلك الجنة (سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) قال ابن عباس : ألواحها من ذهب مكلّلة بالزبرجد والدّر والياقوت ، مرتفعة ما لم يجىء أهلها ؛ فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها ثم ترتفع إلى موضعها (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) على حافات العيون الجارية كلما أراد المؤمن شربها وجدها مملوءة ، وهي الأبارق ليس لها خراطيم ولا عرى تتخذ للشراب (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) أي وسائد يتصل بعضها ببعض على هيئة مجالس الملوك في الدنيا (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) وهي البسط الفاخرة ، والطنافس المخملة والمبثوثة : المبسوطة المنشورة (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) وكانت الإبل عيشا من عيشهم فيقول : أفلا يتفكرون فيها وما يخرج الله من ضروعها من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أي كيف رفعها الله فوق الأرض ، وجعل بينهما هذا الفضاء الذي به قوام الخلق وحياتهم ، ثم إلى ما خلقه فيها من بدائع الخلق من الشمس والقمر والكواكب ، وعلّق بها منافع الخلق وأسباب معايشهم (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أي أو لا يتفكرون في خلق الله سبحانه الجبال أوتادا للأرض ، ومسكنة لها ، وانه لولاها لمادت الأرض بأهلها (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أي كيف بسطها الله ووسعها ولولا ذلك لما صحّ الاستقرار عليها ، والانتفاع بها (فَذَكِّرْ) يا محمد والتذكير : التعريف للذكر بالبيان الذي يقع به الفهم (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) لهم بنعم الله تعالى عندهم ، وبما يجب عليهم في مقابلتها من الشكر والعبادة (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) معناه : لست عليهم بمتسلط تسليطا يمكّنك ان تدخل الإيمان في قلوبهم وتجبرهم عليه ، وإنما الواجب عليك الانذار ، فاصبر على الانذار والتبليغ والدعوة إلى الحق (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) أي اعرض عن الذكر ولم يقبل منك ، وكفر بالله وبما جئت به ، فكل أمره إلى الله (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو الخلود في النار ولا عذاب أعظم منها (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي مرجعهم ومصيرهم بعد الموت (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي جزاءهم على أعمالهم.

سورة الفجر

مكية وآياتها ثلاثون آية

٨١٠

١ ـ ٣٠ ـ (وَالْفَجْرِ) أقسم الله سبحانه بفجر النهار وهو انفجار الصبح كل يوم (وَلَيالٍ عَشْرٍ) وهي عشر ذي الحجة (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) يعني الزوج والفرد من العدد كله عن الحسن ، قال أبو مسلم : هو تذكير بالحساب لعظم ما فيه من النفع والنعم بما يضبط به من المقادير ، وقيل : الشفع والوتر كل ما خلقه الله تعالى ، لأن جميع الأشياء إما زوج واما فرد (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) انه أراد جنس الليالي كما قال : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) ، اقسم بالليل اذا يمضي بظلامه فيذهب حتى ينقضي بالضياء المبتدىء ، ففي سيره على المقادير المرتبة ، ومجيئه بالضياء عند تقضيه أدلّ دلالة على ان فاعله يختص بالعز والجلال ، ويتعالى عن الأشباه والأمثال وقيل : انه انما أضاف السير إليه لأن الليل يسير بمسير الشمس في الفلك وانتقالها من أفق إلى أفق (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي هل فيما ذكر من الأقسام مقنع لذي عقل ولبّ يعقل القسم والمقسم به ؛ وهذا تأكيد وتعظيم لما وقع القسم به والمعنى : ان من كان ذا لبّ علم ان ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على توحيد الله توضح عن عجائب صنعه ، وبدائع حكمته ؛ ثم اعترض بين القسم وجوابه بقوله (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) وهذا خطاب للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنبيه للكفار على ما فعله سبحانه بالأمم السالفة لما كفرت بالله وبأنبيائه ، وكانت أطول أعمارا ، وأشدّ قوة ، وعاد قوم هود ، وارم اسم لقبيلة (ذاتِ الْعِمادِ) معناه : ذات الطول والشدّة (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) أي لم يخلق في البلاد مثل تلك القبيلة في الطول والقوّة وعظم الأجسام ، وهم الذين قالوا : من أشد منا قوة ؛ وقيل : ذات العماد : أي ذات الأبنية العظام المرتفعة. ثم قال سبحانه (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) أي وكيف فعل بثمود الذين قطعوا الصخر ونقبوها بالوادي الذي كانوا ينزلونه ، يعني وادي القرى قال ابن عباس : كانوا ينحتون الجبال فيجعلون منها بيوتا كما قال الله تعالى وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين (وَفِرْعَوْنَ) أي وكيف فعل فرعون الذي أرسل إليه موسى (ذِي الْأَوْتادِ) كان يشدّ الرجل بأربعة أوتاد على الأرض إذا أراد تعذيبه ويتركه حتى يموت (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) يعني عادا وثمود وفرعون طغوا ، أي تجبروا في البلاد على أنبياء الله ، وعملوا فيها بمعصية الله (فَأَكْثَرُوا فِيهَا) أي في الأرض (الْفَسادَ) أي القتل والمعصية ، ثم بيّن سبحانه ما فعله بهم عاجلا بأن قال (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) أي فجعل سوطه الذي ضربهم به العذاب ؛ شبّه سبحانه العذاب الذي احلّه بهم ، وألقاه عليهم بانصباب السوط وتواتره على المضروب حتى يهلكه (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي عليه طريق العباد فلا يفوته أحد والمعنى : انه لا يفوته شيء من أعمالهم لأنه يسمع ويرى جميع أقوالهم وأفعالهم كما لا يفوت من هو بالمرصاد. وروي عن ابن عباس في هذه الآية قال : إن على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عندها : أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم ، فإن جاء به تاما جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج ، فإن جاء به تاما جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم ، فإن خرج منها والا يقال انظروا فإن كان له تطوع اكمل به اعماله ، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة. ثم قسّم سبحانه احوال البشر فقال (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أي اختبره وامتحنه بالنعمة (فَأَكْرَمَهُ) بالمال (وَنَعَّمَهُ) بما وسّع عليه من أنوع الإفضال (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) فيفرح بذلك ويسرّ ويقول : ربي أعطاني هذا لكرامتي عنده ، ومنزلتي لديه ،

٨١١

أي يحسب انه كريم على ربه حيث وسع الدنيا عليه (إِذا مَا ابْتَلاهُ) وجعله على قدر البلغة (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي فيظن ان ذلك هوان من الله ويقول : ربي أذلّني بالفقر ، ثم قال (كَلَّا) أي ليس كما ظن ، فإني لا أغني المرء لكرامته عليّ ولا افقره لمهانته عندي ، ولكني اوسع على من أشاء ، وأضيق على ما أشاء بحسب ما توجبه الحكمة ، ويقتضيه الصلاح ، ابتلاء بالشكر والصبر ، وإنما الإكرام على الحقيقة يكون بالطاعة ، والإهانة تكون بالمعصية. ثم بيّن سبحانه ما يستحق به الهوان فقال : بل إنما أهنت من أهنت لأنهم عصوني ، ثم فصّل العصيان فقال (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) وهو الطفل الذي لا أب له ، أي لا تعطونهم مما أعطاكم الله حتى تغنوهم عن ذلّ السؤال ؛ وخصّ اليتيم لأنهم لا كافل لهم يقوم بأمرهم وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ، وأشار بالسبابة والوسطى (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا تحثّون على اطعامه ، ولا تأمرون بالتصدق عليه (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ) أي الميراث ، قال الحسن : يأكل نصيبه ونصيب اليتيم وذلك انهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ، ويأكلون أموالهم (أَكْلاً لَمًّا) شديدا تلمون جميعه في الأكل (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي كثيرا شديدا والمعنى : تحبّون جمع المال وتولعون به فلا تنفقونه في خير. ثم قال سبحانه (كَلَّا) وقيل : كلّا زجر تقديره : لا تفعلوا هكذا ، ثم خوّفهم فقال (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي كسر كل شيء على ظهرها من جبل أو بناء أو شجر حتى زلزلت فلم يبق عليها شيء والمعنى : استوت في انفراشها ، وذهب دورها وقصورها وسائر أبنيتها حتى تصير كالصحراء الملساء (وَجاءَ رَبُّكَ) أي أمر ربك وقضاؤه ومحاسبته (وَالْمَلَكُ) أي وتجيء الملائكة (صَفًّا صَفًّا) يريد صفوف الملائكة ، وأهل كل سماء صفّ على حدة. وقال الضحاك : أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفا محيطين بالأرض وبمن فيها فيكون سبع صفوف ، فذلك قوله (صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أي واحضرت في ذلك اليوم جهنم ليعاقب بها المستحقون لها ، ويرى أهل الموقف هولها وعظم منظرها. ثم قال سبحانه (يَوْمَئِذٍ) يعني يوما يجاء بجهنم (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي يتّعظ ويتوب الكافر (وَأَنَّى لَهُ) (الذِّكْرى) أي ومن أين له التوبة أثبت ، له التذكر ثم نفاه بمعنى : انه لا ينتفع به ، فكأنّه لم يكن ، وكان ينبغي له أن يتذكر في وقت ينفعه ذلك فيه. ثم حكى سبحانه ما يقول الكافر والمفرط الجاني على نفسه ويتمنّاه بقوله (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي يتمنى أن يكون قد كان عمل الطاعات والحسنات لحياته بعد موته. ثم قال سبحانه (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) أي لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي وثاق الله أحد من الخلق فالمعنى : لا يعذب أحد في الدنيا مثل عذاب الله الكافر يومئذ ، ولا يوثق أحد في الدنيا بمثل وثاق الله الكافر يومئذ (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) بالإيمان ، المؤمنة الموقنة المصدقة بالثواب والبعث ، والمطمئنة : الآمنة بالبشارة بالجنة عند الموت ويوم البعث (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي يقال لها عند الموت : ارجعي إلى ثواب ربك وما أعدّه لك من النعيم (راضِيَةً) بثواب الله (مَرْضِيَّةً) أعمالها التي عملتها (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي في زمرة عبادي الصالحين المصطفين الذين رضيت عنهم ؛ وهذه نسبة تشريف وتعظيم (وَادْخُلِي جَنَّتِي) التي وعدتكم بها ، وأعددت نعيمكم فيها.

سورة البلد

مكية وآياتها عشرون آية

١ ـ ٢٠ ـ (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) أجمع المفسرون على ان

٨١٢

هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة ، وقد تقدّم بيان قوله لا أقسم في سورة القيامة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أي وأنت يا محمد مقيم به وهو محلّك ؛ وهذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حلّ به من الرسول الداعي إلى توحيده واخلاص عبادته ، وبيان ان تعظيمه له وقسمه به لأجله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكونه حالا فيه كما سميت المدينة طيبة لأنها طابت به حيّا وميتا ، ثم عطف على القسم فقال (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) يعني آدم وما ولد من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي في نصب وشدة ، يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) معناه : أيظن هذا الإنسان أنه لن يقدر على عقابه أحد اذا عصى الله تعالى وركب القبائح؟ فبئس الظن ذلك ، وهذا استفهام إنكار ، أي لا يظنن ذلك ، ثم أخبر سبحانه عن مقالة هذا الإنسان فقال (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي أنفقت مالا كثيرا في عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يفتخر بذلك (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) فيطالبه من أين اكتسبه ، وفي ماذا أنفقه ؛ وروي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة : عن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين جمعه وفيماذا أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به ، وعن حبّنا أهل البيت. ثم ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها عليه ليستدل بها على توحيده فقال (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) ليبصر بهما آثار حكمته (وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) لينطق بهما فيبين باللسان ، ويستعين بالشفتين على البيان. وروى عبد الحميد المدايني عن أبي حازم ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن الله تعالى يقول يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق ، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي سبيل الخير وسبيل الشر عن عليّ عليه‌السلام (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) المعنى : فلم يقتحم هذا الإنسان العقبة ولا جاوزها. وأما المراد بالعقبة ففيه وجوه (أحدها) انه مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال الخير والبرّ ، فجعل ذلك كتكليف صعود العقبة الشاقة الكؤود ، فكأنه قال : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام وهو قوله (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي ما اقتحام العقبة ثم ذكره فقال (فَكُّ رَقَبَةٍ) وهو تخليصها من اسار الرق إلى آخره (وثانيها) انها عقبة حقيقة ، قال الحسن وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله عزوجل ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : إن أمامكم عقبة كؤودا لا يجوزها المثقلون ، وانا اريد ان اخفف عنكم لتلك العقبة (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أي ذي مجاعة. قال ابن عباس : يريد بالمسغبة الجوع ، وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أشبع جائعا في يوم سغب أدخله الله يوم القيامة من باب من أبواب الجنة لا يدخلها إلّا من فعل مثل ما فعل (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي ذا قربى من قرابة النسب والرحم ؛ وهذا حثّ على تقديم ذوي القرابة المحتاجين على الأجانب في الإطعام والإنعام (أَوْ مِسْكِيناً) أي فقيرا (ذا مَتْرَبَةٍ) قد لصق بالتراب من شدة فقره وضرّه. ثم بيّن سبحانه ان هذه القربة إنما تنفع مع الإيمان فقال (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ثم كان مع هذا من جملة المؤمنين الذين استقاموا على إيمانهم (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) على فرائض الله ، والصبر عن معصية الله ، أي وصى بعضهم بعضا بذلك (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي وأوصى بعضهم بعضا بالمرحمة على أهل الفقر وذوي المسكنة والفاقة وقيل : تواصوا بالمرحمة فيما بينهم فرحموا الناس كلهم (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) يؤخذ بهم ناحية اليمين ، والبركة على أنفسهم عن الحسن وأبي مسلم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي بحججنا ودلالاتنا ،

٨١٣

وكذّبوا أنبياءنا (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي يأخذون كتبهم بشمالهم ، ويؤخذ بهم ذات الشمال وقيل : إنهم أصحاب الشؤم على أنفسهم (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة عن ابن عباس ومجاهد وقيل : يعني ان ابوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لهم باب ، ولا يخرج عنها غم ، ولا يدخل فيها روح إلى آخر الأبد عن مقاتل.

سورة الشمس

مكية وآياتها خمس عشرة آية

١ ـ ١٥ ـ (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) قد تقدّم ان لله سبحانه أن يقسم بما يشاء من خلقه تنبيها على عظيم قدره ، وكثرة الانتفاع به ، ولما كان قوام العالم من الحيوان والنبات بطلوع الشمس وغروبها أقسم الله سبحانه بها وبضحاها وهو امتداد ضوئها وانبساطه ، عن مجاهد والكلبي ، وقيل : هو النهار كله عن قتادة ، وقيل : حرّها ، عن مقاتل (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي إذا اتبعها فأخذ من ضوئها وسار خلفها ، قالوا : وذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور ، وقيل : تلاها ليلة الهلال ، وهي أول ليلة من الشهر ، إذا سقطت الشمس رؤي القمر عند غيبوبتها ، عن الحسن ، وقيل : في الخامس عشر يطلع القمر مع غروب الشمس الشهر كله ، فهو في النصف الأول يتلوها وتكون أمامه ، وهو وراؤها وفي النصف الأخير يتلو غروبها بالطلوع (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أي جلّى الظلمة وكشفها (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي يغشى الشمس حتى تغيب فتظلم الآفاق ويلبسها سواده (وَالسَّماءِ وَما بَناها) وقيل معناه : والسماء وبنائها مع أحكامها واتساقها وانتظامها (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) أي وطحوها وتسطيحها وبسطها ليمكن الخلق التصرف عليها (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) سواها : عدل خلقها وسوّى أعضاءها (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي عرّفها طريق الفجور والتقوى ، وزهدها في الفجور ، ورغبها في التقوى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) على هذا وقع القسم ، أي قد أفلح من زكى نفسه ، عن الحسن وقتادة أي طهّرها وأصلحها بطاعة الله وصالح الأعمال (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) بالعمل الطالح ، أي أخملها واخفى محلها وقيل : أضلها وأهلكها عن ابن عباس وقيل : أفجرها عن قتادة وقيل معناه قد أفلحت نفس زكّاها الله وخابت نفس دسّاها الله ، أي جعلها قليلة خسيسة ، وجاءت الرواية عن سعيد بن أبي هلال قال : كان رسول الله إذا قرأ هذه الآية : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) وقف ثم قال : اللهم آت نفسي تقواها أنت وليها ومولاها وزكها وأنت خير من زكاها ؛ وروى زرارة وحمران ومحمد ابن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام في قوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) قال : بيّن لها ما تأتي وما تترك ، وفي قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) قال : قد أفلح من أطاع ، (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) قال : قد خاب من عصى وقال ثعلب : (قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) قال : قد خاب من عصى وقال ثعلب : قد أفلح من زكّى نفسه بالصدقة والخير ، وخاب من دسّ نفسه في أهل الخير وليس منهم. ثم أخبر سبحانه عن ثمود وقوم صالح فقال (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) أي بطغيانها ومعصيتها عن مجاهد وابن زيد ، يعني ان الطغيان حملهم على التكذيب ، فالطغوى اسم من الطغيان كما ان الدعوى من الدعاء وقيل ان الطغوى اسم العذاب الذي نزل بهم فالمعنى : كذبت ثمود بعذابها عن ابن عباس ، وهذا كما قال : فاهلكوا بالطاغية والمراد : كذبت بعذابها الطاغية فأتاها ما كذبت به (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) أي كان تكذيبها حين انبعث اشقى ثمود للعقر ، ومعنى انبعث : انتدب وقام ؛ والأشقى : عاقر الناقة وهو أشقى الأولين على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسمه قدار بن سالف.

٨١٤

وقد صحّت الرواية بالإسناد عن عثمان بن صهيب عن أبيه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام : من أشقى الأولين؟ قال : عاقر الناقة قال : صدقت ، فمن اشقى الآخرين؟ قال : لا أعلم يا رسول الله قال : الذي يضربك على هذه ، وأشار إلى يافوخه وعن عمار بن ياسر قال كنت أنا وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في غزوة العسرة نائمين في صور من النخل ودقعاء من التراب فو الله ما أهبّنا إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحركنا برجله وقد تتربنا من تلك الدقعاء فقال ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين قلنا بلى يا رسول الله قال أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك بالسيف يا عليّ على هذه ووضع يده على قرنه حتى تبل منها هذه وأخذ بلحيته وقيل ان عاقر الناقة كان أشقر أزرق قصير ملتزق الحلق (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) صالح (ناقَةَ اللهِ) التقدير : احذروا ناقة الله فلا تعقروها كما يقال : الأسد الأسد ، أي احذروه (وَسُقْياها) أي وشربها من الماء أي فلا تزاحموها فيه كما قال سبحانه : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (فَكَذَّبُوهُ) أي فكذب قوم صالح صالحا ولم يلتفتوا إلى قوله وتحذيره إياهم بالعذاب بعقرها فعقروها ، أي فقتلوا الناقة (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي فدمّر عليهم ربهم (بِذَنْبِهِمْ) لأنهم رضوا جميعا به وحثّوا عليه ، وكانوا قد اقترحوا تلك الآية فاستحقوا بما ارتكبوه من العصيان والطغيان عذاب الإستئصال (فَسَوَّاها) أي فسوى الدمدمة عليهم وعمّهم بها فاستوت على صغيرهم وكبيرهم ولم يفلت منها احد منهم (وَلا يَخافُ عُقْباها) أي لا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم والمعنى : لا يخاف ان يتعقب عليه في شيء من فعله فلا يخاف عقبى ما فعل بهم من الدمدمة عليهم لأن أحدا لا يقدر على معارضته ، وهذا كقوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ). وقيل معناه : لا يخاف الذي يحقرها عقباها ، عن الضحّاك والسدّي والكلبي ، أي لا يخاف عقبى ما صنع بها ، لأنّه كان مكذّبا بصالح ، وقيل معناه : ولا يخاف صالح عاقبة ما خوّفهم به من العقوبات ، لأنّه كان على ثقة من نجاته.

سورة الليل

مكية وآياتها إحدى وعشرون آية

١ ـ ٢١ ـ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أقسم الله سبحانه بالليل إذا يغشى بظلمته النهار وقيل : إذا يغشى بظلمته الأفق وجميع ما بين السماء والأرض والمعنى : إذا أظلم وأدلهم وأغشى الأنام بالظلام لما في ذلك من الهول المحرك للنفس بالاستعظام (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أي بان وظهر من بين الظلمة ، وفيه أعظم النعم إذ لو كان الدهر كله ظلاما لما أمكن الخلق طلب معايشهم ، ولو كان ذلك كله ضياء لما انتفعوا بسكونهم وراحتهم ، فلذلك كرّر سبحانه ذكر الليل والنهار في السورتين لعظم قدرهما في باب الدلالة على مواقع حكمته (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي والذي خلق آدم وحواء (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هذا جواب القسم والمعنى : ان اعمالكم لمختلفة ، فعمل للجنة وعمل للنار (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) مما أتاه الله واتقى (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي بأن الله يعطي بالواحد عشرا إلى كثير من ذلك ، وفي رواية أخرى إلى مائة ألف فما زاد (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) لا يريد شيئا من الخير إلا يسره الله له (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بما أتاه الله أي ضنّ بماله الذي لا يبقى له ، وبخل بحق الله فيه (وَاسْتَغْنى) أي التمس الغنى بذلك المنع لنفسه (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي بالجنة والثواب والوعد وبالخلف (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي نخلي بينه وبين الأعمال الموجبة للعذاب والعقوبة (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي

٨١٥

سقط في النار (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) معناه : ان علينا لبيان الهدى بالدلالة عليه ، فأما الاهتداء فإليكم ، قال قتادة : معناه : ان علينا بيان الطاعة والمعصية (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) وان لنا ملك الآخرة وملك الأولى ، فلا يزيد في ملكنا اهتداء من اهتدى ، ولا ينقص منه عصيان من عصى ، ولو نشاء لمنعناهم عن ذلك قسرا وجبرا ولكن التكليف اقتضى ان نمنعهم بيانا وأمرا وزجرا. ثم خوّف سبحانه العادل عن الهدى فقال (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) أي خوّفتكم نارا تتلهب وتتوهج وتتوقد (لا يَصْلاها) أي لا يدخل تلك النار ولا يلزمها (إِلَّا الْأَشْقَى) وهو الكافر بالله (الَّذِي كَذَّبَ) بآيات الله ورسله (وَتَوَلَّى) أي أعرض عن الإيمان (وَسَيُجَنَّبُهَا) أي سيجنب النار ويجعل منها على جانب (الْأَتْقَى) المبالغ في التقوى (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) أي ينفقه في سبيل الله (يَتَزَكَّى) يطلب ان يكون عند الله زكيا لا يطلب بذلك رياء ولا سمعة. قال القاضي : قوله : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) لا يدل على انه تعالى لا يدخل النار إلّا الكافر على ما يقوله الخوارج وبعض المرجئة ، وذلك لأنه نكر النار المذكورة ولم يعرفها ، فالمراد بذلك ان نارا من جملة النيران لا يصلاها إلا من هذه حاله ، والنيران دركات على ما بيّنه سبحانه في سورة النساء في شأن المنافقين ، فمن أين عرف ان غير هذه النار لا يصلاها قوم آخرون ، وبعد فالظاهر من الآية يوجب أن لا يدخل النار إلّا من كذب وتولى ، وجمع بين الأمرين فلا بدّ للقوم من القول بخلافه لأنهم يوجبون النار لمن يتولى عن كثير من الواجبات ، وان لم يكذب. وقيل : ان الأتقى والأشقى المراد بهما التقي والشقي كما قال طرفة :

تمنى رجال ان أموت وان أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

ثم وصف سبحانه الأتقى فقال (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي ولم يفعل الأتقى ما فعله من إيتاء المال وانفاقه في سبيل الله ليد اسديت إليه يكافىء عليها ، ولا ليد يتخذها عند أحد من الخلق (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي ولكنه فعل ما فعل يبتغي به وجه الله ورضاه وثوابه ؛ وانما ذكر الوجه طلبا لشرف الذكر والمعنى : إلّا لله ولابتغاء ثواب الله (وَلَسَوْفَ يَرْضى) أي ولسوف يعطيه من الجزاء والثواب ما يرضى به ، فإنه يعطيه كل ما تمنى ولم يخطر بباله فيرضى به لا محالة.

سورة الضحى

مكية وآياتها احدى عشرة آية

النزول

قال : ابن عباس احتبس الوحي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة عشر يوما فقال المشركون : ان محمدا قد ودعه ربه وقلاه ولو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه فنزلت السورة.

١ ـ ١١ ـ (وَالضُّحى) أقسم سبحانه بنور النهار كله (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أي سكن واستقرّ ظلامه ، وقيل معناه وربّ الضحى ورب الليل إذا سجى وقيل : ان المراد بالضحى أول ساعة من النهار ، وقيل : صدر النهار ، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس واعتدال النهار في الحر والبرد في الشتاء والصيف (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) هذا جواب القسم ومعناه : ما تركك يا محمد ربك وما قطع عنك الوحي توديعا لك ، وما قلاك : أي ما أبغضك منذ اصطفاك (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) يعني ان ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها خير لك من الدنيا الفانية والكون فيها (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ

٨١٦

فَتَرْضى) معناه : وسيعطيك ربك في الآخرة من الشفاعة والحوض وسائر أنواع الكرامة فيك وفي أمتك ما ترضى به. ثمّ عدّد سبحانه عليه نعمه في دار الدنيا فقال (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) معناه : انه تقرير لنعمة الله عليه حين مات أبوه وبقي يتيما فآواه الله بأن سخر له أولا عبد المطلب ، ثم لما مات عبد المطلب قيّض له أبا طالب وسخّره للاشفاق عليه ، وحبّبه إليه حتى كان أحبّ إليه من اولاده فكفّله وربّاه ، واليتيم : من لا أب له ، ثم ذكر نعمة اخرى فقال (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) معناه : وجدك ضالا عما أنت عليه الآن من النبوة والشريعة ، أي كنت غافلا عنهما فهداك إليهما ونظيره : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) وقوله : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) ، فمعنى الضلال على هذا هو الذهاب عن العلم مثل قوله ؛ (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (وَوَجَدَكَ عائِلاً) أي فقيرا لا مال لك (فَأَغْنى) أي فأغناك بمال خديجة وقيل : فأغناك بالقناعة ، ورضاك بما أعطاك ، لم يكن غنيا عن كثرة المال لكن الله سبحانه أرضاه بما آتاه من الرزق وذلك حقيقة الغنى. ثم أوصاه سبحانه باليتامى والفقراء فقال (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي فلا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه كما كانت تفعل العرب في أمر اليتامى (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي لا تنهر السائل ولا تردّه إذا أتاك يسألك فقد كنت فقيرا ، فإما ان تطعمه ، واما أن تردّه ردّا لينا. وقال الجبائي : المراد به جميع المكلفين وان كان الخطاب للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) معناه : اذكر نعمة الله واظهرها ، وحدّث بها ، والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركه كفر.

سورة الانشراح

مكية وآياتها ثمان آيات

١ ـ ٨ ـ ثمّ أتمّ سبحانه تعداد نعمه على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) المعنى : ألم نفتح لك صدرك ، ونوسع قلبك بالنبوة والعلم حتى قمت بأداء الرسالة ، وصبرت على المكاره واحتمال الأذى ، واطمأننت إلى الإيمان فلم تضق به ذرعا (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) أي وحططنا عنك وزرك (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أي أثقله ، المراد به تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها ، سهّل الله ذلك عليه حتى تيسر له ، ومنّ عليه بذلك. قال المرتضى قدّس الله روحه : انما سميت الذنوب بأنها اوزارا لأنها تثقل كاسبها وحاملها ، فكلّ شيء أثقل الإنسان وغمّه وكدّه جاز ان يسمى وزرا ، فلا يمتنع أن يكون الوزر في الآية انما أراد به غمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كان عليه قومه من الشرك ، وانه وأصحابه بينهم مقهور مستضعف ، فلما أعلى الله كلمته ، وشرح صدره ؛ وبسط يده ، خاطبه بهذا الخطاب تذكيرا له بمواقع النعمة ليقابله بالشكر ، ويؤيّده ما بعده من الآيات فإن اليسر بإزالة الهموم أشبه ، والعسر بالشدائد والغموم أشبه (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أي قرنا ذكرك بذكرنا حتى لا أذكر إلّا وتذكر معي ، يعني في الأذان والإقامة والتشهّد والخطبة على المنابر. ثم وعد سبحانه اليسر والرخاء بعد الشدة وذلك انه كان بمكة في شدة قال (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) معناه : ان مع الشدّة التي أنت فيها من مزاولة المشركين يسرا ورخاء بأن يظهرك الله عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعا أو كرها ، ثم كرّر ذلك فقال (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) روى عطاء عن إبن عباس قال : يقول الله تعالى : خلقت عسرا واحدا وخلقت يسرين ، فلن يغلب عسر يسرين (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) معناه : فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء ، وارغب إليه في المسألة يعطك. ومعنى

٨١٧

انصب : من النصب وهو التعب ، أي لا تشتغل بالراحة.

سورة التين

مكية وآياتها ثمان آيات

١ ـ ٨ ـ (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) أقسم الله سبحانه بالتين الذي يؤكل ، والزيتون الذي يعصر منه الزيت ، وانما اقسم بالتين لأنه فاكهة مخلصة من شائب التنغيص ، وفيه أعظم عبرة لأنه عزّ اسمه جعلها على مقدار اللقمة ، وهيّأها على تلك الصفة (وَطُورِ سِينِينَ) يعني الجبل الذي كلّم الله عليه موسى ، وسينين وسيناء واحد (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) يعني مكة البلد الحرام يأمن فيه الخائف في الجاهلية والإسلام (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) هذا جواب القسم واراد جنس الإنسان وهو آدم وذريته خلقهم الله في أحسن صورة ، أي منتصب القامة وسائر الحيوان مكب على وجهه إلّا الانسان عن ابن عباس وقيل : أراد انه خلقهم على كمال في أنفسهم ، واعتدال في جوارحهم ، وابانهم عن غيرهم بالنطق والتمييز والتدبير إلى غير ذلك مما يختص به الانسان (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) يريد إلى الخرف وأرذل العمر والهرم ونقصان العقل. والسافلون : هم الضعفاء والزمنى والاطفال ، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعا. ثم استثنى فقال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بالله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي أخلصوا العبادة لله وأضافوا إلى ذلك الأعمال الصالحة (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) من ردّ منهم إلى أرذل العمر كتب له صالح ما كان يعمل في شبابه وذلك أجر غير ممنون. وعن ابن عباس قال : ومن قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال : الا الذين قرأوا القرآن وفي الحديث عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتب لوالديه ، فإن عمل سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه ، فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم أمر الله الملكين اللذين معه يحفظانه ويسددانه ، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه الله من البلايا الثلاث : الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ خمسين خفف الله حسابه ، فإذا بلغ ستين رزقه الإنابة إليه فيما يجب ، فإذا بلغ سبعين احبه أهل السماء ، فإذا بلغ ثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفعه في أهل بيته ، وكان اسمه أسير الله في الأرض ، فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا كتب الله له بمثل ما كان يعمل في صحته من الخير ، وان عمل سيئة لم تكتب عليه وأقول : لو صحّ الخبر فإنما لا تكتب عليه السيئة لزوال عقله ونقصان تمييزه في ذلك الوقت وقوله (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير منقوص (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) معناه : أيّ شيء يكذبك أيها الإنسان بعد هذه الحجج بالدين الذي هو الجزاء والحساب؟ والمراد : ما يحملك على ان لا تتفكر في صورتك وشبابك وهرمك فتعتبر وتقول : ان الذي فعل ذلك قادر على ان يبعثني ويحاسبني ويجازيني بعملي ، فيكون قوله : فما يكذبك يعني به ما الذي يجعلك تكذب؟ (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) هذا تقرير للإنسان على الاعتراف بأنه تعالى أحكم الحاكمين في صنائعه وأفعاله ، وانه لا خلل في شيء منها ولا اضطراب ، فكيف يترك هذه الخلائق ويهملهم فلا يجازيهم.

سورة العلق

مكية وآياتها تسع عشرة آية

٨١٨

١ ـ ١٩ ـ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) هذا أمر من الله سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقرأ باسم ربه ، وان يدعوه بأسمائه الحسنى ، وفي تعظيم الاسم تعظيم المسمى لأن الاسم ذكر المسمى بما يخصّه فلا سبيل إلى تعظيمه إلّا بمعناه ، ولهذا لا يعظم اسم الله حق تعظيمه إلّا من هو عارف به ، ومعتقد عبادته ، ولهذا قال سبحانه : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وقال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (الَّذِي خَلَقَ) أي خلق جميع المخلوقات على قتضى حكمته ، واخرجه من العدم إلى الوجود بكمال قدرته ، ثمّ خصّ الإنسان بالذكر تشريفا له وتنبيها على إبانته إياه عن سائر الحيوان فقال (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) أراد به جنس بني آدم ، أي خلقهم من دم جامد بعد النطفة ، وفي هذا إشارة إلى بيان النعمة بأن خلقه من الأصل الذي هو في الغاية القصوى من المهانة ، ثم بلغ به مبالغ الكمال حتى صار بشرا سويا مهيئا للنطق والتمييز ، مفرغا في قالب الاعتدال. ثم أكّد الأمر بالإعادة فقال (اقْرَأْ) وقيل : أمره في الأول بالقراءة لنفسه وفي الثاني بالقراءة للتبليغ ، ومعناه : اقرأ القرآن (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي الأعظم كرما فلا يبلغه كرم كريم ، لأنه يعطي من النعم ما لا يقدر على مثله غيره ، فكل نعمة توجد من جهته تعالى ، إمّا بأن اخترعها وإمّا بأن سبّبها وسهّل الطريق إليها (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي علّم الكاتب ان يكتب بالقلم ، أو علم الإنسان البيان بالقلم أو علّم الكتابة بالقلم. امتنّ سبحانه على خلقه بما علّمهم من كيفية الكتابة بالقلم لما في ذلك من كثرة الانتفاع فيما يتعلق بالدين والدنيا. قال قتادة : القلم نعمة من الله عظيمة لولاه لم يقم دين ، ولم يصلح عيش (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) من أنواع الهدى والبيان ، وأمور الدين والشرائع والأحكام ، فجميع ما يعلمه الإنسان من جهته سبحانه أما بأن اضطرّه إليه ، وأما بأن نصب الدليل عليه في عقله ، وأما بأن بيّنه له على ألسنة ملائكته ورسله ، فكل العلوم على هذا مضاف إليه ؛ وفي هذا دلالة على انه سبحانه عالم لأن العلم لا يقع إلّا من عالم (كَلَّا) أي حقا (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) أي يتجاوز حدّه ، ويستكبر على ربّه ، ويعدو طوره (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي لأن رأى نفسه مستغنية عن ربه بعشيرته وأمواله وقوته كأنه قال : انما يطغى من رأى انه مستغن عن ربه لا من كان غنيا (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي إلى الله مرجع كل احد ، أي فهذا الطاغي كيف يطغى بماله ويعصي ربه ورجوعه إليه؟ وهو قادر على إهلاكه وعلى مجازاته إذا رجع إليه (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) هذا تقرير للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعلام له بما يفعله بمن ينهاه عن الصلاة. ومعنى الآية أرأيت يا محمد من منع من الصلاة ، ونهى من يصلي عنها ماذا يكون جزاؤه ، وما يكون حاله عند الله تعالى ، وما الذي يستحقه من العذاب؟ والآية عامة في كل من ينهى عن الصلاة. ومعنى أرأيت ها هنا تعجيب للمخاطب ، ثم كرّر هذه اللفظة تأكيدا في التعجيب فقال (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) يعني العبد المنهي وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) يعني بالاخلاص والتوحيد ، ومخافة الله تعالى (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ) أبو جهل (وَتَوَلَّى) عن الإيمان ، واعرض عن قبوله والاصغاء إليه (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ما يفعله ويعلم ما يصنعه ثم قال سبحانه (كَلَّا) أي لا يعلم ذلك (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) يعني ان لم يمتنع أبو جهل عن تكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإيذائه (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) أي لنجرّنّ بناصيته إلى النار ، وهذا كقوله (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) ومعناه : لنذلّنه ونقيمنه مقام الأذلة ، ففي الأخذ بالناصية اهانة واستخفاف ، ثم اخبر سبحانه عنه بأنه فاجر خاطىء بأن قال (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) وصفها بالكذب والخطأ بمعنى ان صاحبها كاذب في أقواله ، خاطىء في أفعاله. قال ابن عباس

٨١٩

لما أتى أبو جهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتهره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال أبو جهل : أتنتهرني يا محمد فو الله لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني ، فأنزل الله سبحانه (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) وهذا وعيد ، أي فليدع أهل ناديه ، أي أهل مجلسه ـ يعني عشيرته ـ فليستنصر بهم إذا حلّ عقاب الله به ، والنادي : الفناء قال : وتأتون في ناديكم المنكر. ثم قال (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) يعني الملائكة الموكلين بالنار ، وهم الملائكة الغلاظ الشداد (كَلَّا) أي ليس الأمر على ما عليه أبو جهل (لا تُطِعْهُ) في النهي عن الصلاة (وَاسْجُدْ) له عز اسمه (وَاقْتَرِبْ) معناه : اسجد يا محمد للتقرب منه فإن أقرب ما يكون العبد من الله إذا سجد له. وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا وقيل : المراد به السجود لقراءة هذه السورة. والسجود هنا فرض وهو من العزائم. وروي عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال العزائم آلم تنزيل ، وحم السجدة ، والنجم إذا هوى ، واقرأ باسم ربك ، وما عداها في جميع القرآن مسنون وليس مفروض.

سورة القدر

مكية وآياتها خمس آيات

١ ـ ٥ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) الهاء كناية عن القرآن (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) قال ابن عباس : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم كان ينزله جبريل عليه‌السلام على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجوما ، وكان من أوله إلى آخره ثلاث وعشرون سنة. ومعنى ليلة القدر : أي ليلة الشرف والخطر وعظم الشأن من قولهم : رجل له قدر عند الناس ، أي منزلة وشرف ومنه : ما قدّروا الله حق قدره ، أي ما عظموه حق عظمته. ثم قال الله سبحانه تعظيما لشأن هذه الليلة ، وتنبيها لعظم قدرها وشرف محلها (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) فكأنه قال : وما أدراك يا محمد ما خطر ليلة القدر وما حرمتها ، وهذا حثّ على العبادة فيها ؛ ثم فسّر سبحانه تعظيمه وحرمته فقال (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أي قيام ليلة القدر والعمل فيها خير من قيام ألف شهر ليس فيه ليلة القدر ، وذلك أن الأوقات إنما يفضل بعضها على بعض بما يكون فيها من الخير من النفع ، فلما جعل الله الخير الكثير في ليلة القدر كانت خيرا من ألف شهر لا يكون فيها من الخير والبركة ما يكون في هذه الليلة. وذكر عطاء عن ابن عباس قال : ذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل من بني إسرائيل أنه حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله تعالى ألف شهر ، فعجب من ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عجبا شديدا ، وتمنى أن يكون ذلك في أمته فقال : يا رب جعلت أمتي أقصر الناس أعمارا ، وأقلها أعمالا ، فأعطاه الله ليلة القدر وقال : ليلة القدر خير من ألف شهر الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك من بعدك إلى يوم القيامة في كل رمضان. ثم أخبر سبحانه بما يكون في تلك الليلة فقال (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) أي تتنزل الملائكة (وَالرُّوحُ) يعني جبرائيل (فِيها) أي في ليلة القدر إلى الأرض ليسمعوا الثناء على الله ، وقراءة القرآن وغيرها من الأذكار (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بأمر ربهم (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي بكل أمر من الخير والبركة ، إلى مثلها من العام القابل (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي هذه الليلة إلى آخرها سلامة من الشرور والبلايا وآفات الشيطان.

٨٢٠