الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

الْقُرْآنَ) بأن يتفكروا فيه ، ويعتبروا به (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أراد قلوب هؤلاء ومن كان مثلهم (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) أي رجعوا عن الحق والإيمان (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) أي من بعد ما بان لهم طريق الحق وهم المنافقون ، كانوا يؤمنون عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم يظهرون الكفر فيما بينهم ، فتلك ردّة منهم وقيل : هم كفّار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد عرفوه ووجدوا نعته مكتوبا عندهم ، عن قتادة (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) أي زيّن لهم خطاياهم عن الحسن وقيل : اعطاهم سؤلهم وأمنيتهم إذ دعاهم إلى ما يوافق مرادهم ، وهواهم ، عن أبي مسلم (وَأَمْلى لَهُمْ) أي طول لهم أملهم فاغتروا به وقيل : أوهمهم طول العمر مع الأمن من المكاره ، وأبعد لهم في الأمل والأمنية.

٢٦ ـ ٣٠ ـ ثم بيّن سبحانه سبب استيلاء الشيطان عليهم فقال (ذلِكَ) أي التسويل والإملاء (بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) من القرآن ، والمروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) انهم بنو أميّة كرهوا ما نزل الله في ولاية علي ابن أبي طالب (ع) (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أي نفعل بعض ما تريدونه (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي ما أسره بعضهم إلى بعض من القول ، وما أسروه في أنفسهم من الاعتقاد (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي فكيف حالهم إذا قبضت الملائكة أرواحهم (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) على وجه العقوبة لهم. ثم ذكر الله سبحانه سبب نزول ذلك الضرب فقال (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من المعاصي التي يكرهها الله ، ويعاقب عليها (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أي سبب رضوانه من الإيمان وطاعة الرسول (فَأَحْبَطَ) الله (أَعْمالَهُمْ) التي كانوا يعملونها من صلاة وصدقة وغير ذلك لأنّها في غير إيمان. ثم قال سبحانه (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أي أحقادهم على المؤمنين ، ولا يبدي عوراتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) بأعيانهم يا محمد حتى تعرفهم (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بعلاماتهم التي ننصبها لك لكي تعرفهم بها (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي وتعرفهم الآن في فحوى كلامهم ومعناه ، ومقصده ومغزاه لأن كلام الإنسان يدل على ما في ضميره ؛ وعن أبي سعيد الخدري قال : لحن القول : بغضهم عليّ بن أبي طالب (ع) قال : وكنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببغضهم علي ابن أبي طالب (ع) ، وروي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، وعن عبادة بن الصامت ، قال : كنا نبور (١) أولادنا بحب علي (ع) فإذا رأينا أحدهم لا يحبه علمنا انه لغير رشدة وقال انس : ما خفي منافق على عهد رسول الله بعد هذه الآية (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) ظاهرها وباطنها.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثمّ أقسم سبحانه فقال (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي نعاملكم معاملة المختبر بما نكلفكم به من الأمور الشاقة (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) أي حتى يتميز المجاهدون في سبيل الله من جملتكم ، والصابرون على الجهاد وقيل معناه : حتى يعلم أولياؤنا المجاهدين منكم ، واضافهم إلى نفسه تعظيما لهم وتشريفا كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي يؤذون أولياء الله وقيل معناه : حتى نعلم جهادكم موجودا ، لأن الغرض أن تفعلوا الجهاد فيثيبكم على ذلك (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي نختبر أسراركم بما تستقبلونه

__________________

(١) نبور : نختبر.

٦٨١

من أفعالكم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي امتنعوا عن اتباع دين الله ، ومنعوا غيرهم عن اتباعه تارة ، وبالاغواء أخرى (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) أي عاندوه وعادوه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) أي من بعد ما ظهر لهم انه الحق ، وعرفوا انه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) بذلك (شَيْئاً) وإنّما ضرّوا أنفسهم (وَسَيُحْبِطُ) الله (أَعْمالَهُمْ) فلا يرون لها في الآخرة ثوابا. وفي هذه الآية دلالة على ان هؤلاء الكفار كانوا قد تبيّن لهم الهدى فارتدوا عنه فلم يقبلوه عنادا وهم المنافقون وقيل : انّهم أهل الكتاب ، ظهر لهم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يقبلوه وقيل : هم رؤساء الضلالة جحدوا الهدى طلبا للجاه والرياسة ، لأن العناد يضاف إلى الخواص (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) بتوحيده (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بتصديقه وقيل : أطيعوا الله في حرمة الرسول ، وأطيعوا الرسول في تعظيم أمر الله (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بالشك والنفاق عن عطاء وقيل بالرياء والسمعة عن الكلبي وقيل : بالمعاصي والكبائر عن الحسن (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) مضى معناه (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي أصروا على الكفر حتى ماتوا على كفرهم (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أبدا لأن لفظ لن للتأبيد (فَلا تَهِنُوا) أي فلا تتوانوا ولا تضعفوا عن القتال (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي ولا تدعوا الكفار إلى المسالمة والمصالحة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي وأنتم القاهرون والغالبون عن مجاهد وقيل : إن الواو للحال ، أي لا تدعوهم إلى الصلح في الحال التي تكون الغلبة لكم فيها وقيل : انه ابتداء اخبار من الله عن حال المؤمنين انهم الأعلون يدا ومنزلة آخر الأمر وان غلبوا في بعض الأحوال (وَاللهُ مَعَكُمْ) أي بالنصرة على عدوّكم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي لن ينقصكم شيئا من ثوابها ، بل يثيبكم عليها ويزيدكم من فضله عن مجاهد وقيل معناه لن يظلمكم عن ابن عباس وقتادة وإبن زيد.

٣٦ ـ ٣٩ ـ ثم حضّ الله سبحانه على طلب الآخرة فقال (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي سريعة الفناء والانقضاء ، ومن اختار الفاني على الباقي كان جاهلا ومنقوصا قال الحسن الذي خلقها هو أعلم بها (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بالله ورسوله (وَتَتَّقُوا) معاصيه (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أي جزاء أعمالكم في الآخرة (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) كلها في الصدقة وان أوجب عليكم الزكاة في بعض أموالكم وقيل : لا يسألكم الرسول على أداء الرسالة أموالكم أن تدفعوها إليه (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) أي يجهدكم بمسألة جميعها (تَبْخَلُوا) بها فلا تعطوها ، أي ان يسألكم جميع ما في أيديكم تبخلوا وقيل : فيحفكم : أي فيلطف في السؤال بأن يعد عليه الثواب الجزيل عن أبي مسلم (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي ويظهر بغضكم وعداوتكم لله ورسوله ، ولكنه فرض عليكم ربع العشر قال قتادة : علم الله ان في مسألة الأموال خروج الأضغان وهي الأحقاد التي في القلوب والعداوات الباطنة (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني ما فرض عليهم في أموالهم ، أي إنّما تؤمرون بإخراج ذلك وإنفاقه في طاعة الله (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) بما فرض عليه من الزكاة (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) لأنّه يحرمها مثوبة جسيمة ، ويلزمها عقوبة عظيمة وهذه اشارة إلى أن معطي المال أحوج إليه من الفقير الآخذ فبخله بخل على نفسه وذلك أشد البخل قال مقاتل : إنّما يبخل بالخير والفضل في الآخرة عن نفسه وقيل معناه : فإنما يبخل بداع عن نفسه يدعوه إلى البخل ، فإن الله تعالى نهى عن البخل وذمّه فلا يكون البخل بداع من جهته (وَاللهُ الْغَنِيُ) عما عندكم من الأموال (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إلى ما عند الله من الخير والرحمة ، أي لا يأمركم بالإنفاق لحاجته

٦٨٢

ولكن لتنتفعوا به في الآخرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي تعرضوا عن طاعته وعن أمر رسوله (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أمثل وأطوع لله منكم (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) بل يكونوا خيرا منكم وأطوع لله. وروى أبو هريرة ان ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه؟ وكان سلمان إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضرب يده على فخذ سلمان فقال : هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس وروى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال إن تتولوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني الموالي وعن أبي عبد الله (ع) قال قد والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي.

سورة الفتح

مدنية وآياتها تسع وعشرون آية

١ ـ ٥ ـ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) أي قضينا لك قضاءا ظاهرا عن قتادة وقيل معناه : يسرنا لك يسرا بينا ، عن مقاتل وقيل معناه أعلمناك علما ظاهرا فيما أنزلناه عليك من القرآن وأخبرناك به من الدين وقيل معناه أرشدناك إلى الإسلام وفتحنا لك أمر الدين عن الزجاج ثم اختلف في هذا الفتح على وجوه أحدها ان المراد به فتح مكّة ، وعدها الله ذلك عام الحديبية عند انكفائه منها عن أنس وقتادة وجماعة من المفسرين ، قال قتادة : نزلت هذه الآية عند مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبية ، بشّر في ذلك الوقت بفتح مكّة وتقديره : انّا فتحنا لك مكّة ، أي قضينا لك بالنصر على أهلها ، وعن جابر قال : ما كنّا نعلم فتح مكّة إلّا يوم الحديبية وثانيها ان المراد بالفتح هنا صلح الحديبية وكان فتحا بغير قتال ، قال الفراء : الفتح قد يكون صلحا ، ومعنى الفتح في اللغة : فتح المنغلق ، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا حتى فتحه الله ، وقال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام من قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، فكثر بهم سواد الإسلام (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنب أمّتك وما تأخّر بشفاعتك ؛ وأراد بذكر التقدم والتأخر ما تقدّم زمانه وما تأخّر ، كما يقول القائل لغيره : صفحت عن السالف والآنف من ذنوبك (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) معناه ويتمّ نعمته عليك في الدنيا باظهارك على عدوك ، وإعلاء أمرك ، ونصرة دينك وبقاء شرعك ، وفي الآخرة برفع محلك ، فإن معنى اتمام النعمة فعل ما يقتضيها وتبقيتها على صاحبها ، والزيادة فيها (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويثبتك على صراط يؤدي بسالكه إلى الجنة (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) النصر العزيز : هو ما يمتنع به من كل جبار عنيد ، وعات مريد ، وقد فعل ذلك بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ صيّر دينه أعزّ الأديان ، وسلطانه أعظم السلطان (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) هي النصرة للمؤمنين لتسكن بذلك قلوبهم ، ويثبتوا في القتال (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي يقينا إلى يقينهم بما يرون من الفتوح ، وعلو كلمة الإسلام على وفق ما وعدوا (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني الملائكة والجن والإنس والشياطين والمعنى : انه لو شاء لأعانكم بهم ، وفيه بيان انه لو شاء لأهلك المشركين لكنه عالم بهم وبما يخرج من أصلابهم ، فأمهلهم لعلمه وحكمته ، ولم يأمر بالقتال عن عجز واحتياج ، لكن ليعرض المجاهدين لجزيل الثواب (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) فكل أفعاله حكمة وصواب (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ

٦٨٣

وَالْمُؤْمِناتِ) تقديره : إنّا فتحنا لك ليغفر لك الله ، إنّا فتحنا لك ليدخل المؤمنين والمؤمنات (جَنَّاتٍ) ولذلك لم يدخل واو العطف في ليدخل اعلاما بالتفصيل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها الأنهار (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين مؤبدين لا يزول عنهم نعيمها (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي عقاب معاصيهم التي فعلوها في دار الدنيا (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) أي ظفرا يعظم الله به قدره.

٦ ـ ١٠ ـ لمّا تقدّم الوعد للمؤمنين عقبه سبحانه بالوعيد للكافرين فقال (وَيُعَذِّبَ) الله (الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) وهم الذين يظهرون الإيمان ، ويبطنون الشرك ، فالنفاق ، إسرار الكفر وإظهار الإيمان (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) وهم الذين يعبدون مع الله غيره (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي هو ظنّهم ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعود إلى موضع ولادته أبدا (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي يقع عليهم العذاب والهلاك ، والدائرة : هي الرجعة بخير أو شر (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) أي أبعدهم من رحمته (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ) يجعلهم فيها (وَساءَتْ مَصِيراً) أي مآلا ومرجعا (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إنّما كرر لأن الأول متصل بذكر المؤمنين ، أي فله الجنود التي يقدر أن يعينكم بها ، والثاني متصل بذكر الكافرين ، أي فله الجنود التي يقدر على الانتقام منهم بها (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) في قهره وانتقامه (حَكِيماً) في فعله وقضائه. ثم خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) يا محمد (شاهِداً) على أمّتك بما عملوه من طاعة ومعصية وقبول وردّ ، أو شاهدا عليهم بتبليغ الرسالة (وَمُبَشِّراً) بالجنة لمن أطاع (وَنَذِيراً) من النار لمن عصى.

ثمّ بيّن سبحانه الغرض بالإرسال فقال (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) أي تنصروه بالسيف واللسان ، والهاء تعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَتُوَقِّرُوهُ) أي تعظموه وتبجّلوه (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي وتصلوا بالغداة والعشي (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) المراد بالبيعة هنا بيعة الحديبية ، وهي بيعة الرضوان ، بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الموت (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) يعني أن المبايعة معك تكون مبايعة مع الله ، لأن طاعتك طاعة الله ، وإنّما سميت بيعة لأنها عقدت على بيع أنفسهم بالجنّة للزومهم في الحرب النصرة (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي عقد الله في هذه البيعة فوق عقدهم لأنهم بايعوا الله ببيعة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكأنّهم بايعوه من غير واسطة عن السدّي وقيل معناه : قوّة الله في نصرة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوق نصرتهم إياه ، أي ثق بنصرة الله لك لا بنصرتهم وإن بايعوك عن ابن كيسان وقيل : نعمة الله عليهم بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوق أيديهم بالطاعة والمبايعة عن الكلبي وقيل : يد الله بالثواب وما وعدهم على بيعتهم من الجزاء فوق أيديهم بالصدق والوفاء ، عن ابن عباس (فَمَنْ نَكَثَ) أي نقض ما عقد من البيعة (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي يرجع ضرر ذلك النقض عليه وليس له الجنة ولا كرامة (وَمَنْ أَوْفى) أي ثبت على الوفاء (بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) من البيعة (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ثوابا جزيلا.

١١ ـ ١٥ ـ ثم أخبر سبحانه عمن تخلف عن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) أي الذين تخلفوا عن صحبتك في وجهتك وعمرتك ، وذلك انه لما أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمرا وكان في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة استنفر من حول المدينة إلى الخروج معه ، حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو بصدّ ، واحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس انه لا يريد حربا ، فتثاقل عنه كثير من الأعراب فقالوا نذهب معه إلى قوم قد جاؤوه فقتلوا أصحابه ، فتخلفوا عنه واعتلوا بالشغل ، فقال

٦٨٤

سبحانه : انّهم يقولون لك إذا انصرفت إليهم فعاتبتهم على التخلف عنك (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) عن الخروج معك (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) في قعودنا عنك ، فكذّبهم الله تعالى فقال (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) كذبهم في اعتذارهم بما أخبر عن ضمائرهم وأسرارهم ، أي لا يبالون استغفر لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم لا (قُلْ) يا محمد (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي فمن يمنعكم من عذاب الله إن أراد بكم سوءا أو نفعا أي غنيمة عن ابن عباس ؛ وذلك انهم ظنوا انّ تخلّفهم عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدفع عنهم الضر ، أو يعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم ، فأخبرهم سبحانه انه ان أراد بهم شيئا من ذلك لم يقدر أحد على دفعه عنهم (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي عالما بما كنتم تعملون في تخلفكم (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) أي ظننتم أنهم لا يرجعون إلى من خلفوا بالمدينة من الأهل والأولاد ، لأن العدو يستأصلهم (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) أي زيّن الشيطان ذلك الظن في قلوبكم وسوله لكم (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) في هلاك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي هلكى لا تصلحون لخير ، عن مجاهد وقيل : قوما فاسدين عن قتادة (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) أي نارا تسعرهم وتحرقهم (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ذنوبه (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) اذا استحق العقاب (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ظاهر المعنى. ثم قال (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) يعني هؤلاء (إِذَا انْطَلَقْتُمْ) أيّها المؤمنون (إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) يعني غنائم خبير (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي اتركونا نجيء معكم ، وذلك انهم لما انصرفوا من عام الحديبية بالصلح وعدهم الله سبحانه فتح خيبر ، وخصّ بغنائمها من شهد الحديبية ، فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون : (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) ، فقال سبحانه (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) أي مواعيد الله لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة ، أرادوا تغيير ذلك بأن يشاركوهم فيها ، عن ابن عباس ، وقيل : يريد أمر الله لنبيّه أن لا يسير معه منهم أحد. عن مقاتل (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي قال الله بالحديبية قبل خيبر وقبل مرجعنا إليكم ان غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية لا يشركهم فيها غيرهم ، هذا قول ابن عباس ومجاهد وابن اسحاق وغيرهم من المفسرين ، وقال الجبائي : أراد بقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) قوله سبحانه : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) ، وهذا غلط فاحش ، لأن هذه السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية في سنة ست من الهجرة ، وتلك الآية نزلت في الذين تخلّفوا عن تبوك ، وكانت غزوة تبوك بعد فتح مكة ، وبعد غزوة حنين والطائف ، ورجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها إلى المدينة ، ومقامه ما بين ذي الحجة إلى رجب ، ثم تهيّأ في رجب للخروج إلى تبوك ، وكان منصرفه من تبوك في بقية رمضان من سنة تسع من الهجرة ، ولم يخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك لقتال ولا غزو إلى أن قبضه الله تعالى ، فكيف تكون هذه الآية مرادة بقوله كلام الله وقد نزلت بعده بأربع سنين لو لا ان العصبية ترين على القلوب ، ثم قال (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي فسيقول المخلفون عن

__________________

عن الزهري قال : قال علي بن الحسين عليهما‌السلام : لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي ؛ وكان عليه‌السلام إذا قرأ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يكرّرها حتى يكاد أن يموت. أصول الكافي : ٢ / ٦٠٢.

٦٨٥

الحديبية لكم إذا قلتم هذا : لم يأمركم الله تعالى به ، بل أنتم تحسدوننا ان نشارككم في الغنيمة. فقال سبحانه ليس الأمر على ما قالوه (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) الحق وما تدعونهم إليه (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلّا شيئا قليلا ، وقيل معناه : إلّا القليل منهم وهم المعاندون.

١٦ ـ ٢٠ ـ ثمّ قال سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قُلْ) يا محمد (لِلْمُخَلَّفِينَ) الذين تخلفوا عنك في الخروج إلى الحديبية (مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ) فيما بعد (إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) وهم هوازن وحنين عن سعيد بن جبير وعكرمة وقيل هم هوازن وثقيف عن قتادة وقيل : هم ثقيف عن الضحاك وقيل : هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب عن الزهري وقيل : هم أهل فارس عن ابن عباس وقيل : هم الروم عن الحسن وكعب وقيل : هم أهل صفين أصحاب معاوية ، والصحيح : ان المراد بالداعي في قوله : ستدعون هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه قد دعاهم بعد ذلك إلى غزوات كثيرة ، وقتال أقوام ذوي نجدة وشدّة ، مثل أهل حنين والطائف ومؤتة إلى تبوك وغيرها فلا معنى لحمل ذلك على ما بعد وفاته (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) معناه : ان احد الأمرين لا بدّ أن يقع لا محالة وتقديره : أو هم يسلمون ، أي يقرّون بالإسلام ويقبلونه وقيل : ينقادون لكم (فَإِنْ تُطِيعُوا) أي فإن تجيبوا إلى قتالهم (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) أي جزاءا صالحا (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن القتال وتقعدوا عنه (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) عن الخروج إلى الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) في الآخرة (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) أي ضيق في ترك الخروج مع المؤمنين في الجهاد ، والأعمى الذي لا يبصر بجارحة العين (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) في ترك الجهاد أيضا قال مقاتل : عذر الله أهل الزمانة والآفات الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) معناه في الأمر بالقتال (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن أمر الله وأمر رسوله فيقعد عن القتال (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً. لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) يعني بيعة الحديبية ، وتسمّى بيعة الرضوان لهذه الآية ، ورضاء الله سبحانه عنهم هو إرادته تعظيمهم وإثابتهم ، وهذا اخبار منه سبحانه انه رضي عن المؤمنين اذ بايعوا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديبية تحت الشجرة المعروفة وهي شجرة السمرة (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من صدق النية في القتال ، والكراهة له لأنّه بايعهم على القتال عن مقاتل وقيل : ما في قلوبهم من اليقين والصبر والوفاء (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) وهي اللطف القويّ لقلوبهم والطمأنينة (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) يعني فتح خيبر عن قتادة وأكثر المفسرين وقيل : فتح مكة عن الجبائي (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) يعني غنائم خيبر فإنّها كانت مشهورة بكثرة الأموال والعقار وقيل : يعني غنائم هوازن بعد فتح مكة عن الجبائي (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي غالبا على أمره (حَكِيماً) في أفعاله ، ولذلك أمر بالصلح وحكم للمسلمين بالغنيمة ، ولأهل خيبر بالهزيمة. ثم ذكر سبحانه سائر الغنائم التي يأخذونها فيما يأتي من الزمان فقال (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعده إلى يوم القيامة (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعني غنيمة خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) وذلك انّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قصد خيبر وحاصر أهلها همّت قبائل من أسد وغطفان ان يغيروا على أموال المسلمين وعيالهم بالمدينة فكفّ الله أيديهم عنهم بإلقاء الرعب في قلوبهم وقيل : إن مالك ابن عوف ، وعيينة بن حصين مع بني أسد وغطفان جاؤوا لنصرة اليهود من خيبر فقذف الله الرعب في قلوبهم وانصرفوا (وَلِتَكُونَ) الغنيمة التي عجلها لهم (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) على صدقك حيث وعدهم أن يصيبوها فوقع المخبر على وفق الخبر (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويزيدكم هدى بالتصديق

٦٨٦

بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء به مما ترون من عدة الله في القرآن بالفتح والغنيمة.

٢١ ـ ٢٥ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم يعد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين فتوحا أخر فقال (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) معناه : ووعدكم الله مغانم أخرى لم تقدروا عليها بعد ، وقيل معناه : وقرية اخرى لم تقدروا عليها قد أعدّها الله لكم وهي مكّة عن قتادة وقيل : هي ما فتح الله على المسلمين بعد ذلك إلى اليوم عن مجاهد وقيل : ان المراد بها فارس والروم ، عن ابن عباس والحسن والجبائي قال : كما ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشرهم كنوز كسرى وقيصر ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم وفتح مدائنهم ، بل كانوا خولا لهم حتى قدروا عليها بالإسلام (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أي قدر الله عليها وأحاط علما بها فجعلهم بمنزلة قوم قد أدير حولهم فما يقدر أحد منهم أن يفلت قال الفراء : أحاط الله بها لكم حتى يفتحها عليكم ، فكأنّه قال : حفظها عليكم ، ومنعها من غيركم حتى تفتحوها وتأخذوها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من فتح القرى وغير ذلك (قَدِيراً وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قريش يوم الحديبية يا معشر المؤمنين (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) منهزمين بنصرة الله إياكم ، وخذلان الله إياهم (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) يواليهم وينصرهم ويدافع عنهم ، وهذا من علم الغيب ، وفي الآية دلالة على انه يعلم ما لم يكن ان لو كان كيف يكون (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي هذه سنّتي في أهل طاعتي وأهل معصيتي ، انصر أوليائي ، وأخذل أعدائي عن ابن عباس (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ) في نصرة رسله (تَبْدِيلاً) أي تغييرا (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) بالرعب (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) بالنهي (بِبَطْنِ مَكَّةَ) يعني الحديبية (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) ذكر الله منته على المؤمنين بحجزه بين الفريقين حتى لم يقتتلا ، وحتى اتفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) مرّ تفسيره. ثم ذكر سبحانه سبب منعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك العام دخول مكّة فقال (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أن تطوفوا وتحلوا من عمرتكم ، يعني قريشا (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي وصدوا الهدي وهي البدن التي ساقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه وكانت سبعين بدنة حتى بلغ ذي الحليفة ، فقلد البدن التي ساقها وأشعرها ، وأحرم بالعمرة حتى نزل بالحديبية ومنعه المشركون وكان الصلح ، فلما تمّ الصلح نحروا البدن ، فذلك قوله معكوفا ، أي محبوسا عن ان يبلغ محله ، أي منحره ، وهو حيث يحل نحره ، يعني مكة لأن هدي العمرة لا يذبح إلّا بمكّة ، كما ان هدي الحج لا يذبح إلّا بمنى (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) يعني المستضعفين الذين كانوا بمكة بين الكفار من أهل الإيمان (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) بأعيانهم لاختلاطهم بغيرهم (أَنْ تَطَؤُهُمْ) بالقتل وتوقعوا بهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي اثم وجناية (بِغَيْرِ عِلْمٍ) موضعه التقديم لأن التقدير : لو لا ان تطؤهم بغير علم وقوله (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) متعلق بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام تقديره : فحال بينكم وبينهم ليدخل الله في رحمته من يشاء ، يعني من أسلم من الكفار بعد الصلح (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي لو تميز المؤمنون من الكافرين (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي من أهل مكة (عَذاباً أَلِيماً) بالسيف والقتل بأيديكم ، ولكن الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكفار ، فلحرمة اختلاطهم بهم لم يعذبهم.

النزول

سبب نزول قوله : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) الآية ، ان المشركين بعثوا أربعين رجلا عام الحديبية ليصيبوا من

٦٨٧

المسلمين ، فأتي بهم إلى النبي (ص) أسرى فخلّى سبيلهم.

٢٦ ـ ٢٩ ـ ثمّ قال سبحانه (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) أي حميت قلوبهم بالغضب ؛ ثمّ فسّر تلك الحميّة فقال (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) أي عادة آبائهم في الجاهلية أن لا يذعنوا لأحد ، ولا ينقادوا له ؛ وذلك أن كفار مكّة قالوا قد قتل محمد وأصحابه آباءنا وإخواننا ، ويدخلون علينا في منازلنا فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا ، واللات والعزى لا يدخلونها علينا ؛ فهذه الحمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم ، وقيل : هي أنفتهم من الإقرار لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة ، والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم ، حيث أراد أن يكتب كتاب العهد بينهم ، عن الزهري (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) وهي قول لا إله إلّا الله (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) أي كان المؤمنون أهل تلك الكلمة وأحق بها من المشركين (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) لما ذمّ الكفار بالحمية ، ومدح المؤمنين بلزوم الكلمة والسكينة ، بيّن علمه ببواطن سرائرهم ، وما ينطوي عليه عقد ضمائرهم (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) قالوا : إنّ الله تعالى أرى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أن المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا انهم داخلو مكة عامهم ذلك ، فلما انصرفوا ولم يدخلوا مكة قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام ، فأنزل الله هذه الآية واخبر انه أرى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصدق في منامه لا الباطل ، وانهم يدخلونه ، واقسم على ذلك فقال (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) يعني العام المقبل (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) تقديره : لتدخلن المسجد الحرام آمنين من العدو إن شاء الله (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) أي محرمين يحلق بعضكم رأسه ، ويقصر بعض ، وهو أن يأخذ بعض الشعر (لا تَخافُونَ) مشركا (فَعَلِمَ) من الصلاح في صلح الحديبية (ما لَمْ تَعْلَمُوا) علم في تأخير دخول المسجد الحرام من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم وهو خروج المؤمنين من بينهم (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي من قبل الدخول (فَتْحاً قَرِيباً) يعني فتح خيبر (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) يعني محمدا (بِالْهُدى) أي بالدليل الواضح ، والحجّة الساطعة (وَدِينِ الْحَقِ) أي الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليظهر دين الإسلام بالحجج والبراهين على جميع الأديان (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) بذلك. ثم قال سبحانه (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) نصّ سبحانه على اسمه ليزيل كل شبهة ؛ ثم أثنى على المؤمنين فقال (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) قال الحسن : بلغ من تشددهم على الكفار ان كانوا يتحرزون من ثياب المشركين حتى لا تلتزق بثيابهم ، وعن أبدانهم حتى لا تمس أبدانهم ، وبلغ تراحمهم فيما بينهم ان كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه وعانقه (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) هذا اخبار عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي يلتمسون بذلك زيادة نعمهم من الله ، ويطلبون مرضاته (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي علامتهم يوم القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشد بياضا ، عن ابن عباس وعطية. قال شهر بن حوشب : يكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر ، وقيل : هو التراب على الجباه لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب ، عن عكرمة وسعيد بن جبير وأبي العالية ، وقيل : هو الصفرة والنحول عن الضحاك ، قال الحسن : اذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى ، وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من صلّى الخمس (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) يعني انّ ما ذكر من

٦٨٨

وصفهم هو ما وصفوا به في التوراة أيضا. ثم ذكر نعتهم في الإنجيل فقال (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي فراخه (فَآزَرَهُ) أي شدّه وأعانه وقوّاه. قال المبرد : يعني ان هذه الأفراخ لحقت الأمهات حتى صارت مثلها (فَاسْتَغْلَظَ) أي غلظ ذلك الزرع (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) أي قام على قصبه وأصوله ، فاستوى الصغار مع الكبار والمعنى : انّه تناهى وبلغ الغاية (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي يروع ذلك الزرع الزراع ، أي الاكرة الذين زرعوه. قال الواحدي : هذا مثل ضربه الله تعالى بمحمد وأصحابه ، فالزرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والشطأ أصحابه والمؤمنون حوله ، وكانوا في ضعف وقلة كما يكون أول الزرع دقيقا ، ثم غلظ وقوي وتلاحق فكذلك المؤمنون قوّى بعضهم بعضا حتى استغلظوا واستووا على أمرهم (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي إنّما كثرهم الله وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين بتوافرهم وتظاهرهم واتفاقهم على الطاعة. ثم قال سبحانه (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي وعد من أقام على الإيمان والطاعة (مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) أي سترا على ذنوبهم الماضية (وَأَجْراً عَظِيماً) أي ثوابا جزيلا دائما.

سورة الحجرات

مدنية وآياتها ثماني عشرة آية

١ ـ ٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) روى زرارة عن أبي جعفر (ع) انه قال : ما سلّت السيوف ، ولا أقيمت الصفوف ، في صلاة ولا زحوف ، ولا جهر بأذان ، ولا أنزل الله يا أيّها الذين آمنوا ، حتى أسلم أبناء قبيلة الأوس والخزرج (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) بين اليدين عبارة عن الإمام ، لأنّ ما بين يدي الإنسان أمامه ومعناه : لا تقطعوا أمرا دون الله ورسوله ولا تعجلوا به وقيل معناه لا تقدموا أعمال الطاعة قبل الوقت الذي أمر الله ورسوله به حتى انه قيل : لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها عن الزجاج وقيل معناه : لا تمكنوا أحدا يمشي أمام رسول الله (ص) وآله بل كونوا تبعا له ، وأخروا أقوالكم وأفعالكم عن قوله وفعله ، وقال الحسن : نزل في قوم ذبحوا الأضحية قبل صلاة العيد فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإعادة وقال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا قبل كلامه ، أي إذا كنتم جالسين في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسئل عن مسألة فلا تسبقوه بالجواب حتى يجيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولا ، وقيل معناه لا تسبقوه بقول ولا فعل حتى يأمركم به عن الكلبي والسدّي ، والأولى حمل الآية على الجميع ، فإن كل شيء كان خلافا لله ورسوله إذا فعل فهو تقديم بين يدي الله ورسوله وذلك ممنوع (وَاتَّقُوا اللهَ) أي اجتنبوا معاصيه (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأعمالكم فيجازيكم بها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) لأن فيه أحد الشيئين : إما نوع استخفاف به فهو الكفر ، وإما سوء الأدب فهو خلاف التعظيم المأمور به (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي غضّوا أصواتكم عند مخاطبتكم إياه وفي مجلسه ، فإنّه ليس مثلكم إذ يجب تعظيمه وتوقيره من كل وجه (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) لئلا تحبط (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي وأنتم لا تعلمون أنّكم احبطتم أعمالكم بجهر صوتكم على صوته وترك تعظيمه قال أنس : لما نزلت هذه الآية قال ثابت بن قيس : أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأجهر له بالقول ، حبط عملي وأنا من أهل النار ـ وكان ثابت رفيع الصوت ـ فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : هو من أهل الجنة وقال أصحابنا : ان المعنى في قوله (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) : انه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

٦٨٩

وسلّم وتوقيره لاستحقوا الثواب ، فلما فعلوه على خلاف ذلك الوجه استحقوا العقاب ، وفاتهم ذلك الثواب ، فانحبط عملهم (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي يخفضون اصواتهم في مجلسه إجلالا (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي اختبرها فأخلصها للتقوى ، فخلصوا على الاختبار كما يخلص جيد الذهب بالنار وقيل معناه : انه علم خلوص نياتهم ، لأن الإنسان يمتحن الشيء ليعلم حقيقته (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من الله لذنوبهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) على طاعاتهم ثم خاطب النّبيّ (ص) فقال (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) وهم الجفاة من بني تميم ، لم يعلموا في أي حجرة هو فكانوا يطوفون على الحجرات وينادونه (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وصفهم الله سبحانه بالجهل وقلّة الفهم والعقل إذ لم يعرفوا مقدار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ما استحقه من التوقير (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) من أن ينادوك من وراء الحجرات باستعمالهم حسن الأدب في مخاطبة الأنبياء ، ليعدّوا بذلك من زمرة العقلاء (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب منهم.

٦ ـ ١٠ ـ ثمّ خاطب سبحانه المؤمنين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) أي بخبر عظيم الشأن ، والفاسق : الخارج عن طاعة الله إلى معصيته (فَتَبَيَّنُوا) صدقه من كذبه ولا تبادروا إلى العمل بخبره (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) أي حذرا من أن تصيبوا قوما في أنفسهم وأموالهم بغير علم بحالهم وما هم عليه من الطاعة والإسلام (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ) من إصابتهم بالخطأ (نادِمِينَ) لا يمكنكم تداركه وفي هذا دلالة على ان خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل لأن المعنى : إن جاءكم من لا تأمنون ان يكون خبره كذبا فتوقفوا فيه ، وهذا التعليل موجود في خبر من يجوز كونه كاذبا في خبره ، وقد استدل بعضهم بالآية على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من حيث ان الله سبحانه أوجب التوقف في خبر الفاسق ، فدل على ان خبر العدل لا يجب التوقف فيه ، وهذا لا يصح لأن دليل الخطاب لا يعول عليه عندنا وعند أكثر المحققين (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أي فاتقوا الله ان تكذبوه أو تقولوا باطلا عنده ، فإن الله تعالى يخبره بذلك فتفضحوا (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لو فعل ما تريدونه في كثير من الأمر لوقعتم في عنت : وهو الإثم والهلاك ، فسمّى موافقته لما يريدونه طاعة لهم مجازا ألا ترى أن الطاعة تراعى فيها الرتبة ، فلا يكون الإنسان مطيعا لمن دونه وإنما يكون مطيعا لمن فوقه إذا فعل ما أمره به. ثم خاطب المؤمنين الذين لا يكذبون فقال (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) أي جعله أحبّ الأديان إليكم بأن أقام الأدلة على صحته ، وبما وعد من الثواب عليه (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) بالألطاف الداعية إليه (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) بما وصف من العقاب عليه بوجوه الألطاف الصارفة عنه (وَالْفُسُوقَ) أي الخروج عن الطاعة إلى المعاصي (وَالْعِصْيانَ) أي جميع المعاصي وقيل : الفسوق الكذب عن ابن عباس وابن زيد وهو المروي عن أبي جعفر (ع). ثم عاد سبحانه إلى الخبر عنهم فقال (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) يعني الذين وصفهم بالإيمان وزينه في قلوبهم هم المهتدون إلى محاسن الأمور وقيل هم الذين أصابوا الرشد واهتدوا إلى الجنة (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) أي تفضلا منّي عليهم ، ورحمة منّي لهم عن ابن عباس (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالأشياء كلها (حَكِيمٌ) في جميع أفعاله وفي هذه الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر من وجوه منها انه اذا حبّب في قلوبهم الإيمان وكره الكفر فمن المعلوم انه لا يحبّب ما لا يحبه ، ولا يكرّه ما لا يكرهه ومنها انّه إذا ألطف في تحبيب الإيمان بألطافه دل ذلك على ما نقوله في اللطف ثم قال (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) أي فريقان من المؤمنين قاتل

٦٩٠

أحدهما صاحبه (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) حتى يصطلحا (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) بأن تطلب ما لا يجوز لها ، وتقاتل الأخرى ظالمة لها متعدية عليها (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) لأنّها هي الظالمة المتعدية دون الأخرى (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي حتى ترجع إلى طاعة الله ، وتترك قتال الطائفة المؤمنة (فَإِنْ فاءَتْ) أي رجعت وتابت ، واقلعت وأنابت إلى طاعة الله (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي بينها وبين الطائفة التي هي على الإيمان (بِالْعَدْلِ) أي بالقسط حتى يكونوا سواء ، لا يكون من أحديهما على الأخرى جور ولا شطط فيها يتعلق بالضمانات من الأروش (وَأَقْسِطُوا) أي اعدلوا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) العادلين الذين يعدلون فيما يكون قولا وفعلا (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) في الدين يلزم نصرة بعضهم بعضا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) أي بين كل رجلين تقاتلا ، أي كفّوا الظالم عن المظلوم ، وأعينوا المظلوم (وَاتَّقُوا اللهَ) في ترك العدل والإصلاح (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي ترحموا.

١١ ـ ١٤ ـ لما أمر سبحانه بإصلاح ذات البين ، ونهى عن التفرق عقب ذلك بالنهي عن أسباب الفرقة من السخرية والازدراء بأهل الفقر والمسكنة ونحو ذلك فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) المعنى : لا يسخر رجال من رجال والسخرية الاستهزاء قال مجاهد معناه : لا يسخر غني من فقير لفقره ، وربما يكون الفقير المهين في ظاهر الحال خيرا وأجلّ منزلة عند الله من الغني الحسن الحال (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) على المعنى الذي تقدم (عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يطعن بعضكم على بعض كما قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، لأنّ المؤمنين كنفس واحدة فكأنّه إذا قتل أخاه قتل نفسه واللمز : العيب في المشهد والهمز : العيب في المغيب (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) هو كل اسم لم يوضع له ، وإذا دعي به يكرهه ، وروي ان صفية بنت حيي بن أخطب جاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبكي ، فقال لها ما وراءك؟ فقالت : إنّ عائشة تعيّرني وتقول : يهودية بنت يهوديين فقال لها : هلا قلت : أبي هارون ، وعمّي موسى ، وزوجي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية عن ابن عباس (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الاسم ان يقول له : يا يهودي يا نصراني وقد آمن (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) من التنابز والمعاصي ، ويرجع إلى طاعة الله تعالى (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) نفوسهم بفعل ما يستحقون به العقاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) هو أن يظن بأخيه المسلم سوءا ، ولا بأس به ما لم يتكلم به ، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم وهو قوله (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) يعني ما أعلنه مما ظنّ بأخيه وقيل معناه : يجب على المؤمن أن يحسن الظن ولا يسيئه في شيء يجد له تأويلا جميلا وإن كان ظاهرا قبيحا (وَلا تَجَسَّسُوا) أي ولا تتبعوا عثرات المؤمنين (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الغيبة : ذكر العيب بظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة منه ، وفي الحديث اذا ذكرت الرجل بما فيه مما يكرهه الله فقد اغتبته ، واذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته. وعن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إيّاكم والغيبة فإن الغيبة أشدّ من الزنا ، ثم قال : إن الرجل يزني ثم يتوب فيتوب الله عليه ، وان صاحب الغيبة لا يغفر له صاحبه. ثم ضرب سبحانه للغيبة مثلا فقال (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) وتأويله : ان ذكرك بالسوء من لم يحضرك بمنزلة أن تأكل لحمه وهو ميت لا يحسّ بذلك. ولما قيل لهم : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً)؟ قالوا : لا ، فقيل (فَكَرِهْتُمُوهُ) فكما كرهتم لحمه ميتا فاكرهوا غيبته حيّا (وَاتَّقُوا اللهَ) معطوف على هذا الفعل المقدر ومثله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا) أي وقد شرحنا ووضعنا (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ) قابل التوبة (رَحِيمٌ)

٦٩١

بالمؤمنين (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) أي من آدم وحواء والمعنى : انّكم متساوون في النسب لأن كلكم يرجع في النسب إلى آدم وحواء. زجر الله سبحانه عن التفاخر بالأنساب ، ثم ذكر سبحانه انه انما فرق أنساب الناس ليتعارفوا لا ليتفاخروا فقال (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) وهي جمع شعب : وهو الحي العظيم مثل مضر وربيعة ، وقبائل ؛ هي دون الشعوب كبكر من ربيعة ، وتميم من مضر (لِتَعارَفُوا) أي جعلناكم كذلك لتعارفوا ، فيعرف بعضكم بعضا بنسبه وأبيه وقومه ، ولو لا ذلك لفسدت المعاملات وخربت الدنيا (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أي ان أكثركم ثوابا ، وأرفعكم منزلة عند الله أتقاكم لمعاصيه ، وأعملكم بطاعته. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : يقول الله تعالى يوم القيامة : امرتكم فضيعتم ما عهدت إليكم فيه ، ورفعتم انسابكم ، فاليوم ارفع نسبي وأضع أنسابكم ، أين المتقون؟ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ.) وروي ان رجلا سأل عيسى بن مريم عليه‌السلام : أي الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب فقال : أي هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب ، فأكرمهم أتقاهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأعمالكم (خَبِيرٌ) بأحوالكم لا يخفى عليه شيء من ذلك (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) وهم قوم من بني أسد أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في سنة جدبة وأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر ، إنّما كانوا يطلبون الصدقة والمعنى : انّهم قالوا صدّقنا بما جئت به ، فأمره الله سبحانه ان يخبرهم بذلك ليكون آية معجزة له فقال (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أي لم تصدقوا على الحقيقة في الباطن (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي انقدنا واستسلمنا مخافة السبي والقتل. ثمّ بيّن سبحانه ان الإيمان محله القلب دون اللسان فقال (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) الإسلام اظهار الخضوع والقبول لما أتى به الرسول ، وبذلك يحقن الدم ، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن المسلم حقّا ، فالمؤمن مبطن من التصديق مثل ما يظهر ، والمسلم التام الاسلام مظهر للطاعة وهو مع ذلك مؤمن بها ، والذي أظهر الإسلام تعوذا من القتل غير مؤمن في الحقيقة إلّا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

١٥ ـ ١٨ ـ ثمّ نعت سبحانه الصادقين في إيمانهم فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أي لم يشكوا في دينهم بعد الإيمان (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في أقوالهم دون من يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قالوا : فلما نزلت الآيتان أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحلفون انهم مؤمنون صادقون في دعواهم الايمان ، فأنزل الله سبحانه (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أي أتخبرون الله بالدين الذي أنتم عليه والمعنى : انّه سبحانه عالم بذلك فلا يحتاج إلى اخباركم به ، وهذا استفهام انكار وتوبيخ ، أي كيف تعلمون الله بدينكم؟ (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأنّ العالم لنفسه يعلم المعلومات كلها بنفسه فلا يحتاج إلى علم يعلم به ، ولا إلى من يعلمه ، كما انه اذا كان قديما موجودا في الأزل لنفسه استغنى عن موجد أوجده ؛ وكانوا يقولون : آمنا بك من غير قتال وقاتلك بنو فلان فقال سبحانه (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي بأن أسلموا والمعنى : انهم يمنون عليك بالإسلام (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي بإسلامكم (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي بأن هداكم للايمان ، وأرشدكم إليه ، بأن نصب لكم من الأدلة عليه ، وأزاح عللكم ، ووفقكم له (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في إدعائكم الإيمان (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من طاعة ومعصية وإيمان وكفر.

٦٩٢

سورة ق

مكية وآياتها خمس وأربعون آية

لما ختّم الله تلك السورة بذكر الإيمان وشرائطه للعبيد ، افتتح هذه السورة بذكر ما يجب الإيمان به من القرآن ، وأدلة التوحيد فقال :

١ ـ ٥ ـ (ق) قد مرّ تفسيره وقيل : انّه اسم من أسماء الله تعالى ، عن ابن عباس وقيل : هو اسم الجبل المحيط بالأرض من زمردة خضراء ، خضرة السماء منها ، عن الضحاك وعكرمة وقيل معناه قضي الأمر أو قضي ما هو كائن كما قيل في حم حمّ الأمر (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أي الكريم على الله ، العظيم في نفسه ، الكثير الخير والنفع لتبعثن يوم القيامة وقيل تقديره : والقرآن المجيد ان محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدلالة قوله (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي ما كذبك قومك لأنّك كاذب ، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وحسبوا أنّه لا يوحى إلّا إلى ملك (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي معجب ، عجبوا من كون محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولا إليهم فأنكروا رسالته ، وأنكروا البعث بعد الموت وهو قوله (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) أنبعث ونرد أحياء (ذلِكَ) أي ذلك الرد الذي يقولون (رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي ردّ بعيد عن الأوهام ، واعادة بعيدة عن الكون والمعنى : انه لا يكون ذلك لأنه غير ممكن. ثم قال سبحانه (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي ما تأكل الأرض من لحومهم ودمائهم ، وتبليه من عظامهم فلا يتعذر علينا ردهم (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي حافظ لعدتهم وأسمائهم وهو اللوح المحفوظ ، لا يشذّ عنه شيء وقيل : حفيظ : أي محفوظ عن البلى والدروس وهو كتاب الحفظة الذين يكتبون أعمالهم. ثم أخبر سبحانه بتكذيبهم (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) والحق القرآن وقيل : هو الرسول (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي مختلط ، فمرة قالوا : مجنون ، وتارة قالوا : ساحر وتارة قالوا : شاعر ، فتحيروا في أمرهم لجهلهم بحاله ولم يثبتوا على شيء واحد وقالوا للقرآن : انه سحر مرة ، ورجز مرة ، ومفترى مرة ، فكان أمرهم ملتبسا عليهم.

٦ ـ ١١ ـ ثم أقام سبحانه الدلالة على كونه قادرا على البعث فقال (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) أي ألم يتفكروا في بناء السماء مع عظمها ، وحسن ترتيبها وانتظامها (كَيْفَ بَنَيْناها) بغير علاقة ولا عماد (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب السيارة ، والنجوم الثوابت (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي شقوق وفتوق ، وقيل معناه : ليس فيها تفاوت واختلاف عن الكسائي ، وإنّما قال : فوقهم بنيناها على انهم يرونها ويشاهدونها ثم لا يتفكرون فيها (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي جبالا رواسخ تمسكها عن الميدان (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي من كل صنف حسن المنظر والبهجة : الحسن الذي له روعة عند الرؤية كالزهرة والأشجار النضرة ، والرياض الخضرة (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) أي فعلنا ذلك تبصيرا ليبصر به أمر

__________________

إنّ رجلا سأل أبا عبد الله عليه‌السلام : ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلّا غضاضة (١)

فقال عليه‌السلام : لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعند كل قوم غضّ إلى يوم القيامة. بحار الأنوار : ٨٩ / ١٥.

١ ـ غضاضة : بهجة ونضارة.

٦٩٣

الدين ، وتذكيرا وتذكرا (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) راجع إلى الله تعالى (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) وغيثا يعظم النفع به (فَأَنْبَتْنا بِهِ) أي بالماء (جَنَّاتٍ) أي بساتين فيها أشجار تشتمل على أنواع الفواكه المستلذة (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي حبّ البر والشعير وكل ما يحصد (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) أي وأنبتنا به النخل طويلات عاليات (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) أي لهذه النخل الموصوفة بالعلو طلع نضد بعضه على بعض ، وهو أول ما يظهر من ثمر النخل (رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي أنبتنا هذه الأشياء للرزق ، وكل رزق فهو من الله تعالى بأن يكون قد فعله أو فعل سببه (وَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بذلك الماء الذي أنزلناه من السماء (بَلْدَةً مَيْتاً) أي جدبا وقحطا لا تنبت شيئا فنبتت وعاشت. ثم قال (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) من القبور ، أي مثل ما أحيينا هذه الأرض الميتة بالماء نحيي الموتى يوم القيامة فيخرجون من قبورهم ، فإن من قدر على احدهما قدر على الآخر.

١٢ ـ ٢٠ ـ ثم ذكر سبحانه الأمم المكذبة تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتهديدا للكفار فقال (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) من الأمم الماضية (قَوْمُ نُوحٍ) فاغرقهم الله (وَأَصْحابُ الرَّسِ) وهم أصحاب البئر التي رسّوا نبيّهم فيها بعد أن قتلوه (وَثَمُودُ) وهم قوم صالح (وَعادٌ) وهم قوم هود (وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ) أي وكذب فرعون موسى ، وقوم لوط لوطا ؛ وسماهم اخوانه لكونهم من نسبه (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) وهم قوم شعيب (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وهو تبّع الحميري الذي ذكرناه عند قوله : اهم خير أم قوم تبع (كُلٌ) من هؤلاء المذكورين (كَذَّبَ الرُّسُلَ) المبعوثة إليهم ، وجحدوا نبوتهم (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي وجب عليهم عذابي الذي أوعدتهم به (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي أفعجزنا حين خلقناهم أولا ولم يكونوا شيئا ، فكيف نعجز عن بعثهم واعادتهم؟ وهذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بأن الله هو الخالق ثم انكروا البعث (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي بل هم في ضلال وشك من اعادة الخلق جديدا واللبس : منع من ادراك المعنى بما هو كالستر له ، والجديد : القريب الإنشاء (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أراد به الجنس ، يعني ابن آدم (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي ما يحدث به قلبه ، وما يخفي ويكنّ في نفسه ولا يظهره لأحد من المخلوقين (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) بالعلم (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) هو عرق متعلق بالقلب ، يعني نحن أقرب إليه من قلبه. ثم ذكر سبحانه انه مع علمه به وكل به ملكين يحفظان عليه عمله الزاما للحجة فقال (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) وهما الملكان يأخذان منه عمله فيكتبانه كما يكتب المملى عليه (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أراد عن اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد ، والمراد بالقعيد هنا الملازم الذي لا يبرح وقيل : عن اليمين كاتب الحسنات ، وعن الشمال كاتب السيئات وقيل : الحفظة أربعة : ملكان بالنهار ، وملكان بالليل (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي ما يتكلم بكلام فيلفظه : أي يرميه من فيه إلّا لديه حافظ حاضر معه يعني الملك الموكل به ، إما صاحب اليمين ، وإما صاحب الشمال ، يحفظ عمله لا يغيب عنه ، وفي رواية صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر امثالها ، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين : امسك ، فيمسك عنه سبع ساعات ، فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيء ، وإن لم يستغفر الله كتب عليه سيئة واحدة (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) أي جاءت غمرة الموت وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله ، بالحق : أي أمر الآخرة حتى عرفه ؛ والمراد : ان هذه السكرة قد قربت منكم فاستعدوا لها فهي لقربها كالحاصلة مثل قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) ، ويقال لمن جاءته سكرة الموت (ذلِكَ) أي ذلك الموت (ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي تهرب وتميل (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) قد

٦٩٤

مر تفسيره (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي ذلك اليوم يوم وقوع الوعيد الذي خوّف الله به عباده ليستعدّوا ويقدموا العمل الصالح له.

٢١ ـ ٣٠ ـ ثم اخبر سبحانه عن حال الناس بعد البعث فقال (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي وتجيء كل نفس من المكلفين في يوم الوعيد ومعها سائق من الملائكة يسوقها ، أي يحثها على السير إلى الحساب ، وشهيد من الملائكة يشهد عليها بما يعلم من حالها ، وشاهده منها ، وكتبه عليها ، فلا يجد إلى الهرب ولا إلى الجحود سبيلا (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ) أي يقال له : لقد كنت في سهو ونسيان (مِنْ هذا) اليوم في الدنيا والغفلة : ذهاب المعنى عن النفس (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك حتى ظهر لك الأمر ، وإنما تظهر الأمور في الآخرة بما يخلق الله تعالى من العلوم الضرورية فيهم فيصيروا بمنزلة كشف الغطاء لما يرى ، وإنّما يراد به جميع المكلّفين ، برّهم وفاجرهم ، لأنّ معارف الجميع ضرورية (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي فعينك اليوم حادة النظر لا يدخل عليها شك ولا شبهة (وَقالَ قَرِينُهُ) يعني الملك الشهيد عليه (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) معناه : هذا حسابه حاضر لديّ في هذا الكتاب ، أي يقول لربه : كنت وكلتني به فما كتبت من عمله حاضر عندي (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) روى أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن الأعمش انه قال : حدّثنا ابو المتوكل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى لي ولعليّ : القيا في النار من ابغضكما ، وادخلا الجنة من احبكما ، وذلك قوله (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) ، والعنيد : الذاهب عن الحق وسبيل الرشد (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) الذي أمر الله به من بذل المال في وجوهه (مُعْتَدٍ) ظالم متجاوز يتعدّى حدود الله (مُرِيبٍ) أي شاكّ في الله وفيما جاء من عند الله (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) من الأصنام والأوثان (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) هذا تأكيد للأول فكأنّه قال : افعلا ما امرتكما به فإنه مستحق لذلك (قالَ قَرِينُهُ) أي شيطانه الذي أغواه ، وإنّما سمي قرينه لأنه يقرن به في العذاب (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) أي ما أضللته وما أوقعته في الطغيان باستكراه ، أي لم أجعله طاغيا (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ) من الإيمان (بَعِيدٍ) أي ولكنه طغى باختياره السوء ، ومثل هذا قوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (قال) الله تعالى لهم (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) أي لا يخاصم بعضكم بعضا عندي (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) في دار التكليف ولم تنزجروا ، وخالفتم أمري (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) المعنى : ان الذي قدمته لكم في دار الدنيا من اني أعاقب من جحدني ، وكذب رسلي ، وخالفني في أمري ، لا يبدل بغيره ، ولا يكون خلافه (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لست بظالم أحدا في عقابي لمن استحقه ، بل هو الظالم لنفسه بارتكابه المعاصي التي استحق بها ذلك (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) اذكر يا محمد ذلك اليوم الذي يقول الله فيه لجهنّم : هل امتلأت من كثرة ما القي فيك من العصاة؟ (وَتَقُولُ) جهنّم (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قال انس : طلبت الزيادة.

٣١ ـ ٤٠ ـ لما اخبر سبحانه عما أعده للكافرين والعصاة عقبه بذكر ما أعده للمتقين فقال (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي قربت الجنة وأدنيت للذين اتقوا الشرك والمعاصي حتى يروا ما فيها من النعيم (غَيْرَ بَعِيدٍ) معناه : ليس ببعيد مجيء ذلك ، لأن كل آت قريب (هذا ما تُوعَدُونَ) أي هذا الذي ذكرناه هو ما وعدتم به من الثواب على السنة الرسل (لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي تواب رجّاع إلى الطاعة (حَفِيظٍ) لما أمر الله به ، متحفظ من

٦٩٥

الخروج إلى ما لا يجوز من سيئة تدنسه ، أو خطيئة تحط منه وتشينه (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي هو من خاف الله وأطاعه ، وآمن بثوابه وعقابه ولم يره وقيل : بالغيب ؛ أي في الخلوة بحيث لا يراه أحد (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي ودام على ذلك حتى وافى الآخرة بقلب مقبل على طاعة الله ، راجع إلى الله (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي يقال لهم : ادخلوا الجنة بأمان من كل مكروه ، وسلامة من كل آفة (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) الوقت الذي يبقون فيه في النعيم مؤبدين لا إلى غاية (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) أي لهم في الجنة ما تشتهيه أنفسهم ويريدونه من أنواع النعم (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) أي وعندنا زيادة على ما يشاؤونه مما لم يخطر ببالهم ، ولم تبلغه أمانيهم. ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء من القرون الذين كذبوا رسلهم (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) اي الذين اهلكناهم كانوا اشد قوة من هؤلاء ، وأكثر عدة ، ولم يتعذر علينا ذلك فما الذي يؤمّن هؤلاء من مثله (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) معناه : ساروا في البلاد وطوّفوا فيها بقوتهم ، وسلكوا كل طريق ، وسافروا في اعمار طويلة (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي هل من محيد عن الموت ، ومنجى من الهلاك؟ يعني : لم يجدوا في جميع ذلك من الموت والهلاك منجى ومهربا (إِنَّ فِي ذلِكَ) اي فيما أخبرته ، وقصصته (لَذِكْرى) أي ما يعتبر به ويتفكر فيه (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) معنى القلب هنا العقل عن ابن عباس من قولهم : اين ذهب قلبك؟ وفلان قلبه معه ، وانما قال ذلك لأن من لا يعي الذكر لا يعتد بماله من القلب (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع ، وهو شهيد لما يسمع فيفقهه ، غير غافل عنه ولا ساه (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي نصب وتعب. أكذب الله تعالى بهذا اليهود فإنهم قالوا : استراح الله يوم السبت فلذلك لا تعمل فيه شيئا (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) يا محمد من بهتهم وكذبهم وقولهم : انك ساحر أو مجنون ، واحتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي وصل واحمد الله تعالى ، سمّي الصلاة تسبيحا لأن الصلاة تشتمل على التسبيح والتحميد (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) يعني صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) يعني المغرب والعشاء الآخرة (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) انه الوتر من آخر الليل.

٤١ ـ ٤٥ ـ ثم قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به جميع المكلفين (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي اصغ إلى النداء وتوقعه ، يعني صيحة القيامة والبعث والنشور ينادي بها المنادي وهي النفخة الثانية ، ويجوز أن يكون المراد : واستمع ذكر حالهم يوم ينادي المنادي ، وقيل : إنه ينادي مناد من صخرة بيت المقدس : أيّها العظام البالية ، والأوصال المنقطعة ، واللحوم المتمزّقة ، قومي لفصل القضاء ، وما أعدّ الله لكم من الجزاء والمنادي هو اسرافيل يقول : يا معشر الخلائق قوموا للحساب ، وإنما قال : (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) ، لأنّه يسمعه الخلائق كلهم على حد واحد ، فلا يخفى على أحد قريب ولا بعيد ، فكأنّهم نودوا من مكان يقرب منهم (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) والصيحة : المرة الواحدة من الصوت الشديد ، وهذه الصيحة هي النفخة الثانية وقوله بالحق : أي بالبعث (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) من القبور إلى أرض الموقف وقيل : هو اسم من أسماء القيامة ، عن أبي عبيدة (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أخبر سبحانه عن نفسه انه هو الذي يحيي الخلق بعد ان كانوا جمادا أمواتا ، ثم يميتهم بعد ان كانوا احياء ، ثم يحييهم يوم القيامة ، وهو قوله (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ) أي تتشقق (الْأَرْضُ

٦٩٦

عَنْهُمْ) تتصدع فيخرجون منها (سِراعاً) يسرعون إلى الداعي بلا تأخير (ذلِكَ حَشْرٌ) والحشر : الجمع بالسوق من كل جهة (عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي سهل علينا غير شاقّ ، هين غير متعذر مع تباعد ديارهم وقبورهم. ثم عزّى سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي بما يقوله هؤلاء الكفار في تكذيبك ، وجحود نبوتك ، وانكار البعث ، لا يخفى علينا من أمرهم شيء (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بمسلط قادر على قلوبهم فتجبرهم على الإيمان ، وانما بعثت منذرا داعيا مرغبا وقيل : جبار من جبرته على الأمر ، بمعنى اجبرته ، وقيل معناه : ما أنت عليهم بفظ غليظ لا تحلم عنهم فاحتمل اذاهم (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) إنّما خصّ بالذكر من يخاف وعيد الله لأنه الذي ينتفع به.

سورة الذاريات

مكية وآياتها ستون آية

لمّا ختم الله تعالى سورة ق بالوعيد ، افتتح هذه السورة بتحقيق الوعيد فقال :

١ ـ ١٤ ـ (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) روي ان ابن الكوا سأل أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام وهو يخطب على المنبر فقال : (الذَّارِياتِ ذَرْواً)؟ قال : الرياح قال : (فَالْحامِلاتِ وِقْراً)؟ قال السحاب قال : (فَالْجارِياتِ يُسْراً)؟ قال : السفن قال : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً)؟ قال : الملائكة ، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد ، فالذاريات : الرياح تذرو التراب ، وهشيم النبات ، أي تفرّقه (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) السحاب تحمل ثقلا من الماء من بلد إلى بلد ، فتصير موقرة به ، والوقر : بالكسر ثقل الحمل على ظهر أو في بطن (فَالْجارِياتِ يُسْراً) السفن تجري ميسّرة على الماء جريا سهلا إلى حيث سيّرت ، وقيل : هي السحاب تجري يسرا إلى حيث سيّرها الله من البقاع ، وقيل : هي النجوم السبعة السيارة : الشمس ، والقمر ، وزحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الملائكة يقسّمون الأمور بين الخلق ، على ما أمروا به. أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لكثرة ما فيها من المنافع للعباد ، ولما تضمنه من الدلالة على وحدانية الله تعالى ، وبدائع صنعه وقال أبو جعفر وأبو عبد الله (ع): انه لا يجوز لأحد ان يقسم إلّا بالله تعالى ، والله سبحانه يقسم بما يشاء من خلقه ، ثم ذكر المقسم عليه فقال (إِنَّما تُوعَدُونَ) أي من الثواب والعقاب ، والجنة والنار (لَصادِقٌ) أي صدق لا بدّ من كونه (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) أي ان الحساب لكائن يوم القيامة. ، ثم انشأ قسما آخر فقال (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) أي ذات الطرائق الحسنة لكنا لا نرى تلك الحبك لبعدها عنا ، عن الحسن والضحاك ، وقيل : ذات الخلق الحسن المستوي ، عن ابن عباس وقتادة وعكرمة والربيع ، وقيل : ذات الحسن والزينة ، عن علي عليه‌السلام (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) هذا جواب القسم ، أي انكم يا أهل مكة في قول مختلف في قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبعضكم يقول : شاعر ، وبعضكم يقول : مجنون ، وفي القرآن يقولون : انه سحر وكهانة ورجز وما سطره الأولون (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي يصرف عن الايمان به من صرف عن الخير ، أي المصروف عن الخيرات كلها من صرف عن هذا الدين ، والصارف لهم رؤساء البدع ، وأئمة الضلال (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) أي لعن الكذابون ، يعني الذين يكذبون على الله وعلى رسوله. ثم وصف سبحانه هؤلاء الكفار فقال (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي في شبهة وغفلة ، غمرهم الجهل (ساهُونَ) أي لاهون عما يجب عليهم (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي متى وقت الجزاء؟ انكارا واستهزاءا لا على وجه الاستفادة لمعرفته ، فأجيبوا بما يسوؤهم من الحق الذي لا

٦٩٧

محالة انه نازل بهم فقيل (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يكون هذا الجزاء في يوم يعذبون فيها ويحرقون بالنار ، قال عكرمة : ألم تر أن الذهب إذا ادخل النار قيل فتن أي فهؤلاء يفتنون بالاحراق كما يفتن الذهب باحراق الغش الذي فيه ويقول لهم خزنة النار (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي عذابكم وحريقكم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) في الدنيا تكذيبا به ، واستبعادا له فقد حصلتم الآن فيه ، وعرفتم صحته.

١٥ ـ ٢٣ ـ ثم ذكر سبحانه ما أعده لأهل الجنة فقال (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) مرّ تفسيره (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي ما أعطاهم من الخير والكرامة (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) يعني في دار التكليف (مُحْسِنِينَ) يفعلون الطاعات ، ويحسنون إلى غيرهم بضروب الإحسان. ثم ذكر احسانهم في أعمالهم فقال (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) والهجوع : النوم بالليل ومعناه : كانوا قل ليلة تمرّ بهم إلّا صلّوا فيها ، وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) والمعنى : كان الذي ينامون فيه كله قليلا (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال أبو عبد الله (ع): كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرة ، ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) والسائل : هو الذي يسأل الناس ، والمحروم المتعفف الذي لا يسأل (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) أي دلالات بيّنات ، وحجج نيّرات (لِلْمُوقِنِينَ) الذين يتحققون توحيد الله ؛ وإنّما خصّ الموقنين لأنهم ينظرون فيها فيحصل لهم العلم بموجبها ، وآيات الأرض : ما فيها من أنواع المخلوقات من الجبال والبحار والنبات والأشجار كل ذلك دالّ على كمال قدرته وحكمته.

وفي كل شيء له آية

تدل على انه واحد

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ) أي وفي أنفسكم أيضا آيات دالات على وحدانيته (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي أفلا ترون انها مصرفة من حال إلى حال ، ومنتقلة من صفة إلى أخرى ، إذ كنتم نطفا فصرتم أحياءا ، ثم كنتم أطفالا فصرتم شبابا ، ثم كهولا فهلا دلكم ذلك على ان لها صانعا صنعها ، ومدبرا دبرها ، ومصرفا صرفها على مقتضى الحكمة؟ (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) ينزله الله اليكم بأن يرسل الغيث والمطر عليكم فيخرج به من الارض انواع ما تقتاتونه وتلبسونه وتنتفعون به (وَما تُوعَدُونَ) من الثواب والعقاب (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) أقسم سبحانه بنفسه ان ما ذكر من أمر الرزق والآيات حق لا شك فيه (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي مثل نطقكم الذي تنطقون به ، فكما لا تشكون فيما تنطقون فكذلك لا تشكوا في حصول ما وعدتم به والمعنى : انه في صدقه وتحقق وجوده كالذي تعرفه ضرورة.

٢٤ ـ ٣٧ ـ لمّا قدّم سبحانه الوعد والوعيد عقب ذلك بذكر بشارة إبراهيم ومهلك قوم لوط تخويفا للكفار أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك فقال (هَلْ أَتاكَ) يا محمد (حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) عند الله ، وذلك انهم كانوا ملائكة كراما ، ونظيره قوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) ، وكانوا ثلاثة : جبرائيل وميكائيل وملك آخر (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) أي حين دخلوا على إبراهيم فقالوا له على وجه التحية : سلاما ، أي أسلم سلاما فقال لهم : جوابا عن ذلك (قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي قال في نفسه : هؤلاء قوم لا نعرفهم ، وذلك انه ظنهم من الإنس ولم يعرفهم (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي ذهب إليهم خفيا ، وإنما راغ مخافة أن يمنعوه من تكلف مأكول كعادة الظرفاء (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) وكان مشويا لقوله في آية أخرى : حنيذ (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) ليأكلوا فلم يأكلوا ، فلما رآهم لا يأكلون عرض عليهم (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فلما امتنعوا من الأكل أوجس منهم خيفة والمعنى : خاف منهم وظن انهم يريدون به سوءا (قالُوا) أي قالت الملائكة

٦٩٨

(لا تَخَفْ) يا إبراهيم (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي يكون عالما إذا كبر وبلغ ، والغلام المبشر به هو إسحاق لأنه من سارة وهذه القصة لها عن أكثر المفسرين ، وهذا كله مفسر فيما مضى (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي فلما سمعت البشارة امرأته سارة أقبلت في ضجة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل : في جماعة عن الصادق (ع) وقيل : في رفقة عن سفيان والمعنى : اخذت تصيح وتولول كما قال : (قالَتْ يا وَيْلَتى) (فَصَكَّتْ وَجْهَها) أي جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبا ، عن مقاتل والكلبي وقيل : لطمت وجهها عن ابن عباس والصك : ضرب الشيء بالشيء العريض (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي انا عجوز عاقر فكيف ألد (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) أي كما قلنا لك قال ربك : انك ستلدين غلاما فلا تشكي فيه (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) بخفايا الأمور (قالَ) إبراهيم (ع) لهم (فَما خَطْبُكُمْ) أي فما شأنكم ولأي أمر جئتم؟ (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) وكأنه قال قد جئتم لأمر عظيم فما هو (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي عاصين لله ، كافرين لنعمه ، استحقوا العذاب والهلاك ؛ واصل الجرم القطع ، فالمجرم القاطع للواجب بالباطل ، فهؤلاء أجرموا بأن قطعوا الإيمان بالكفر (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) هذا مفسر في سورة هود (لِلْمُسْرِفِينَ) أي للمكثرين من المعاصي ، المتجاوزين الحد فيها وقيل : أرسلت الحجارة على الغائبين ، وقلبت القرية بالحاضرين (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) أي في قرى قوم لوط (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وذلك قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) الآية ؛ وذلك ان الله تعالى أمر لوطا بأن يخرج هو ومن معه من المؤمنين لئلا يصيبهم العذاب (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي غير أهل بيت من المسلمين ، يعني لوطا وبنتيه ، وصفهم الله بالإيمان والإسلام جميعا لأنّه ما من مؤمن إلّا وهو مسلم ، والإيمان : هو التصديق بجميع ما أوجب الله التصديق به ، والإسلام : هو الإستسلام لوجوب عمل الفرض الذي أوجبه الله والزمه ، ووجدان الضالة هو ادراكها بعد طلبها (وَتَرَكْنا فِيها) أي وأبقينا في مدينة قوم لوط (آيَةً) أي علامة (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي تدلهم على ان الله أهلكهم فيخافون مثل عذابهم ، والترك في الأصل ضد الفعل ، ينافي الأخذ في محل القدرة عليه ، والقدرة عليه قدرة على الأخذ ، وعلى هذا فالترك غير داخل في أفعال الله تعالى ، فالمعنى هنا : انا أبقينا فيها عبرة ، ومثله قوله : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) وقيل : انه الانقلاب ، لأن اقتلاع البلدان لا يقدر عليه إلّا الله تعالى.

٣٨ ـ ٤٦ ـ ثمّ بيّن سبحانه ما نزل بالأمم فقال (وَفِي مُوسى) أي وفي موسى أيضا آية (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة ظاهرة وهي العصا (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أي فأعرض فرعون عن قبول الحق بما كان يتقوى به من جنده وقومه كالركن الذي يقوى به البنيان ، والباء في قوله : بركنه للتعدية ، أي جعلهم يتولون (وَقالَ) لموسى (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي هو ساحر أو مجنون. وفي ذلك دلالة على جهل فرعون لأن الساحر هو اللطيف الحيلة ، وذلك ينافي صفة المجنون المختلط العقل ، فكيف يوصف شخص واحد بهاتين الصفتين (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي فطرحناهم في البحر كما يلقى الشيء في البر.

(وَهُوَ مُلِيمٌ) أتى بما يلام عليه من الكفر والجحود والعتوّ (وَفِي عادٍ) عطف على ما تقدم ، أي وفي عاد أيضا آية ، أي دلالة فيها عظة وعبرة (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ) أي حين أطلقنا عليهم (الرِّيحَ الْعَقِيمَ) وهي التي عقمت عن أن تأتي بخير من تنشئة سحاب ، أو تلقيح شجر ، أو تذرية طعام ، أو نفع حيوان ، هي ريح الإهلاك. ثم وصفها فقال (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي لم تترك هذه الريح شيئا تمر عليه (إلا جعلته

٦٩٩

كَالرَّمِيمِ) أي كالشيء الهالك البالي ، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس (وَفِي ثَمُودَ) أيضا آية (إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا) وذلك انهم لما عقروا الناقة قال لهم صالح : تمتعوا ثلاثة أيام وهو قوله (تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي فخرجوا عن أمر ربهم ترفعا عنه واستكبارا (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) بعد مضيّ الأيام الثلاثة وهو الموت والصاعقة : كل عذاب مهلك (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليها جهارا لا يقدرون على دفعها (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) أي من نهوض والمعنى : انهم لم ينهضوا من تلك الصرعة (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي ممتنعين من العذاب (وَقَوْمَ نُوحٍ) أي وأهلكنا قوم نوح (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل عاد وثمود (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله إلى معاصيه ، وعن الإيمان إلى الكفر ، فاستحقوا لذلك الإهلاك.

٤٧ ـ ٦٠ ـ (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) تقديره : وبنينا السماء بنيناها بقوة ، عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة ، أي خلقناها ورفعناها على حسن نظامها (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي قادرون على خلق ما هو أعظم منها عن ابن عباس وقيل معناه : وإنا لموسعون الرزق على الخلق بالمطر عن الحسن وقيل معناه : وإنا لذو سعة لخلقنا أي قادرون على رزقهم لا نعجز عنه ، فالموسع ذو الوسع ، والسعة أي الغنى والجدة (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي وفرشنا الأرض فرشناها ، أي بسطناها (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) نحن إذ فعلنا ذلك للمنافع ومصالح العباد ، لا لجر نفع ، ولا لدفع ضرر (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي وخلقنا من كل شيء صنفين مثل الليل والنهار ، والأرض والسماء والشمس والقمر ، والجن والإنس ، والبر والبحر ، والنور والظلمة ، عن الحسن ومجاهد وقيل : الزوجين : الذكر والأنثى ، عن ابن زيد (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تعلموا أن خالق الأزواج واحد فرد لا يشبهه شيء (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي فاهربوا من عقاب الله إلى رحمته وثوابه بإخلاص العبادة له وقيل ففروا إلى الله بترك جميع ما يشغلكم عن طاعته ، ويقطعكم عما أمركم به وقيل معناه : حجوا عن الصادق (ع) (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) أي من الله (نَذِيرٌ) مخوّف من عقابه (مُبِينٌ) لكم ما أرسلت به (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا تعبدوا معه معبودا آخر من الأصنام والأوثان (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) والوجه في تكريره : ان الثاني منعقد بغير ما انعقد به الأول إذ تقديره : إني لكم منه نذير في ترك الفرار إليه بطاعته ، فهو كقولك أنذرك أن تكفر بالله ، أنذرك أن تتعرض لسخط الله ؛ والنذير : المخبر بما يحذر منه وهو يقتضي المبالغة والمنذر : صفة جارية على الفعل والمبين الذي يأتي ببيان الحق من الباطل ثم قال (كَذلِكَ) أي الأمر كذلك وهو أنه (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي لم يأت الذين من قبلهم ، يعني كفار مكة من الأمم رسول إلّا قالوا ساحر محتال بالحيل اللطيفة ، أو مجنون به جنون فهو مغطّى على عقله بما لا يتوجه للإدراك به. ثم قال سبحانه (أَتَواصَوْا بِهِ) أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب؟ والاستفهام للتوبيخ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) معناه : لم يتواصوا بذلك لكنهم طاغون ، طغوا في معصية الله ، وحملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيب أنبيائي. ثم قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي فأعرض عنهم يا محمد فقد بلّغت وأنذرت وهو قوله (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي في كفرهم وجحودهم ، بل اللائمة والذم عليهم من حيث لا يقبلون ما تدعوهم إليه. قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون وظنوا أن الوحي قد انقطع ، وأن العذاب قد حل حتى نزلت الآية الثانية (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) طابت نفوسنا ومعناه : عظ

٧٠٠