الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

سورة مريم مكية

عدد آياتها ثمان وتسعون آية

١ ـ ٦ ـ (كهيعص) قد بيّنا في أول البقرة اختلاف العلماء في حروف المعجم التي في أوائل السور ، وشرحنا أقوالهم هناك وحدّث عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس انه قال : ان كاف من كريم ، وها من هاد ، وياء من حكيم ، وعين من عليم ، وصاد من صادق ومعناه : كاف لخلقه ، هاد لعباده ، يده فوق أيديهم ، عالم ببريته صادق في وعده ، وعلى هذا فان كل واحد من هذه الحروف يدل على صفة من صفات الله عزوجل ، (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) أي هذا خبر رحمة ربك زكريا عبده ، ويعني بالرحمة إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) أي حين دعا ربه دعاء خفيا خافيا سرا غير جهر يخفيه في نفسه ، لا يريد به رياء ، وفي هذا دلالة على أن المستحب في الدعاء الإخفاء ، وان ذلك أقرب إلى الإجابة ، وفي الحديث : خير الدعاء الخفي ، وخير الرزق ما يكفي (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعف ، وإنما أضاف الوهن إلى العظم لأن العظم مع صلاتبه إذا ضعف وتناقص فكيف باللحم والعصب (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) معناه : ان الشيب قد عمّ الرأس ، وهو نذير الموت (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي ولم أكن بدعائي إياك فيما مضى مخيّبا محروما ، والمعنى : انك قد عوّدتني حسن الإجابة وما خيبتني فيما سألتك ، ولا حرمتني الإستجابة فيما دعوتك ، فلا تخيبنى فيما أسألك ، ولا تحرمني إجابتك فيما أدعوك (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) هم العمومة وبنو العم عن أبي جعفر (ع) ، وكانوا اشرار بني اسرائيل (مِنْ وَرائِي) أي من خلفي (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي عقيما لا تلد (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) أي ولدا يليني فيكون أولى بميراثي (يَرِثُنِي) فالمعنى : انه تهبه لي يرثني (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) هو يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم ، واستدل أصحابنا بالآية على ان الأنبياء يورثون المال ، وأن المراد بالإرث المذكور فيها المال دون العلم والنبوة بأن قالوا : إن لفظ الميراث في اللغة والشريعة لا يطلق إلّا على ما ينتقل من الموروث إلى الوارث كالأموال ، ولا يستعمل في غير المال إلّا على طريق المجاز والتوسع ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة أيضا فإن زكريا (ع) قال في دعائه (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي اجعل يا رب ذلك الولي الذي يرثني مرضيا عندك ، ممتثلا لأمرك ، ومتى حملنا الإرث على النبوة لم يكن لذلك معنى وكان لغوا عبثا ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد : اللهم ابعث لنا نبيا واجعله عاقلا مرضيا في اخلاقه ، لأنه اذا كان نبيا فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في النبوة ، ويقوي ما قلناه أن زكريا صرّح بأنه يخاف بني عمه بعده بقوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) ، إنما يطلب وارثا لأجل خوفه ، ولا يليق خوفه منهم إلّا بالمال دون النبوة والعلم ، لأنه (ع) كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا من ليس بأهل للنبوة ، وأن يورث علمه وحكمته من ليس لهما بأهل ، ولأنه إنما بعث لاذاعة العلم ونشره في الناس ، فكيف يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته.

٧ ـ ١١ ـ (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) معناه : فاستجاب الله دعاء زكريا ، وأوحى إليه : يا زكريا إنا نخبرك على ألسنة الملائكة بخبر يرى السرور به في وجهك وهو أن يولد لك ابن (اسْمُهُ يَحْيى) وقد تقدّم تفسيره في سورة آل عمران (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي لم يسم أحد قبله باسمه ، وقيل : ان معنى قوله : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) : لم تلد العواقر مثله ولدا ؛ وهو كقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) فسّرناه في سورة آل عمران (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً)

٤٠١

قال الحسن إنما قال ذلك على جهة الإستخبار ، أي أتعيدنا شابين ، أم ترزقنا الولد شيخين (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) معناه : وقد بلغت من كبر السن إلى حال اليبس والجفاف ونحول العظم (قالَ كَذلِكَ) أي قال الله سبحانه الأمر على ما أخبرتك من هبة الولد على الكبر (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أردّ عليك قوتك حتى تقوى على الجماع ، وأفتق رحم امرأتك بالولد (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل يحيى (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) أي أنشأتك وأوجدتك ولم تك شيئا موجودا ، فإزالة عقر زوجتك ، وإزالة ما يمنع قبول الولد أيسر في الإعتبار من ابتداء الإنشاء (قالَ) زكريا (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي دلالة وعلامة استدّل بها على وقت كونه (قالَ) الله تعالى (آيَتُكَ) أي علامتك على ذلك (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) أي وأنت سويّ صحيح سليم من غير علة. قال ابن عباس : اعتقل لسانه من غير مرض ثلاثة أيام قال قتادة : اعتقل لسانه من غير بأس ولا خرس فإنه كان يقرأ الزبور ، ويدعو الى الله ويسبحه ولا يمكنه ان يكلم الناس ، وهذا أمر خارج عن العادة (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) أي من مصلاه ، وسمي المحراب محرابا لأن المتوجه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته ، والأصل فيه مجلس الاشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله. قالوا : وكان زكريا قد أخبر قومه بما بشّر به ، فلما خرج عليهم وامتنع من كلامهم علموا إجابة دعائه فسرّوا به (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي أشار إليهم وأومى بيده (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي صلّوا بكرة وعشيا ، وتسمى الصلاة سبحة وتسبيحا لما فيها من التسبيح.

١٢ ـ ١٥ ـ ثم قال سبحانه (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) ههنا اختصار عجيب تقديره : فوهبنا له يحيى ، وأعطيناه الفهم والعقل وقلنا له : يا يحيى ، خذ الكتاب ـ يعني التوراة ـ بما قواك الله عليه ، وأيدك به (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي آتيناه النبوة في حال صباه وهو ابن ثلاث سنين (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) والحنان : العطف والرحمة ، أي وآتيناه رحمة من عندنا (وَزَكاةً) أي وعملا صالحا زكيا (وَكانَ تَقِيًّا) أي مخلصا مطيعا متقيا لما نهى الله عنه (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي بارا بوالديه ، محسنا إليهما ، مطيعا لهما ، لطيفا بهما ، طالبا مرضاتهما (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) أي متكبرا متطاولا على الخلق (عَصِيًّا) أي عاصيا لربه (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي سلام عليه منا في هذه الأيام وقيل : وسلامة وأمان له منا ، ومعناه : وأمن له يوم ولد من عبث الشيطان به واغوائه إياه ، ويوم يموت من عذاب القبر ، ويوم يبعث حيا من هول المطلع وعذاب النار.

١٦ ـ ٢٠ ـ ثم عطف سبحانه قصة مريم وعيسى (ع) على قصة زكريا ويحيى (ع) فقال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) أي في كتابك هذا وهو القرآن (مَرْيَمَ) أي حديث مريم وولادتها عيسى وصلاحها ليقتدي الناس بها ، ولتكون معجزة لك (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) أي انفردت من أهلها إلى مكان في جهة المشرق وقعدت ناحية منهم وقيل : اتخذت مكانا تنفرد فيه للعبادة لئلا تشتغل بكلام الناس ، عن الجبائي ، وقيل : تباعدت عن قومها حتى لا يرونها ، عن الأصم وأبي مسلم ، وقيل : خرجت في يوم شديد البرد فجلست في مشرقة الشمس ، عن عطا (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أي فضربت من دون أهلها لئلا يروها سترا وحاجزا بينها وبينهم (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) يعني جبرائيل (ع) وسمّاه الله روحا لأنه روحاني ، وأضافه إلى نفسه تشريفا له (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) معناه : فأتاها جبرائيل فانتصب بين يديها في صورة آدمي صحيح (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) معناه : إني اعتصم بالرحمن من شرك فاخرج من عندي ان كنت تقيا

٤٠٢

(قالَ) لها (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ) وقد بيّنا معنى القرائتين (غُلاماً زَكِيًّا) أي ولدا طاهرا من الأدناس (قالَتْ) مريم (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي كيف يكون لي ولد (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أحد على وجه الزوجية (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي ولم أكن زانية ، وإنما قالت ذلك لأن الولد في العادة يكون من إحدى هاتين الجهتين.

٢١ ـ ٣٠ ـ (قالَ كَذلِكِ) أي قال لها جبرائيل حين سمع تعجبها من هذه البشارة : الأمر كذلك أي كما وصفت لك (قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي احداث الولد من غير زوج للمرأة سهل متأت لا يشق عليّ (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) معناه : ولنجعله علامة ظاهرة ، وآية باهرة للناس على نبوته ، ودلالة على براءة أمه (وَرَحْمَةً مِنَّا) له ولنجعله نعمة منا على الخلق يهتدون بسببه (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي وكان خلق عيسى من غير ذكر أمرا كائنا مفروغا عنه محتوما ، قضى الله سبحانه بأن يكون وحكم به (فَحَمَلَتْهُ) أي فحملت مريم في الحال قيل : إن جبرائيل أخذ ردن قميصها بأصبعه فنفخ فيه ، فحملت مريم من ساعتها ووجدت حس الحمل وقيل نفخ في كمها فحملت عن ابن جريج ، وروي عن الباقر (ع) انه تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر ، فخرجت من المستحم وهي حامل مثقل ، فنظرت إليها خالتها فأنكرتها ومضت مريم على وجهها مستحية من خالتها ومن زكريا (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد ، ومدة حملها ساعة واحدة ، (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) أي الجأها الطلق (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) فالتجأت إليها لتستند اليها فلما ولدت (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أي شيئا حقيرا متروكا قال ابن عباس : فسمع جبرائيل كلامها ، وعرف جزعها (فَناداها مِنْ تَحْتِها) وكان أسفل منها تحت أكمة (أَلَّا تَحْزَنِي) وهو قول السدي وقتادة والضحاك ان المنادي جبرائيل ، ناداها من سفح الجبل وقيل : ناداها عيسى عن مجاهد والحسن ووهب (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي ناداها جبرائيل ـ ليزول ما عندها من الغم والجزع ـ لا تغتمي قد جعل ربك تحت قدميك نهرا تشربين منه ، وتتطهرين من النفاس قالوا : وكان نهرا قد انقطع الماء عنه ، فأرسل الله الماء فيه لمريم ، واحيى ذلك الجذع حتى أثمر وأورق وقيل : ضرب جبرائيل عليه‌السلام برجله فظهر ماء عذب ، وقيل : بل ضرب عيسى برجله ، فظهرت عين ماء ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وقيل : السري : عيسى عليه‌السلام ، عن الحسن وابن زيد والجبائي ، والسري : هو الشريف الرفيع قال الحسن : كان والله عبدا سريا (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) معناه : اجذبي اليك بجذع النخلة (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) مرّ معناه ، وقال الباقر (ع): لم تستشف النفساء بمثل الرطب ، ان الله أطعمه مريم في نفاسها وقيل ان تلك النخلة كانت برنية وقيل كانت عجوة وهو المروي عن أبي عبد الله (ع) (فَكُلِي وَاشْرَبِي) أي كلي يا مريم من هذا الرطب ، واشربي من هذا الماء (وَقَرِّي عَيْناً) جاء في التفسير وطيبي نفسا وقيل معناه : لتقرّ عينك سرورا بهذا الولد الذي ترين لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة وقيل معناه لتسكن عينك سكون سرور برؤيتك ما تحبين (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) فسألك عن ولدك (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي صمتا والمعنى : أوجبت على نفسي لله ان لا أتكلم وإنما أمرت بالصمت ليكفيها الكلام ولدها بما يبرىء به ساحتها (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) أي اني صائمة فلن أكلم اليوم أحدا (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) أي فأتت مريم بعيسى حاملة له وذلك انها لفّته في خرقه وحملتة إلى قومها (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي أمرا عظيما إذ لم تلد أنثى قبلك من غير رجل وقيل :

٤٠٣

أمرا قبيحا منكرا من الافتراء وهو الكذب (يا أُخْتَ هارُونَ) ان هارون هذا كان رجلا صالحا في بني اسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح عن ابن عباس وقتادة وكعب وابن زيد ، والمغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي (ص) وقيل : انه لما مات شيع جنازته أربعون الفا كلهم يسمى هارون ، فقولهم : (يا أُخْتَ هارُونَ) معناه : يا شبيهة هارون في الصلاح ما كان هذا معروفا منك (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي كان أبواك صالحين فمن أين جئت بهذا الولد (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أي فأومت إلى عيسى (ع) بأن كلموه واستشهدوه على براءة ساحتي ، فتعجّبوا من ذلك ثم (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) معناه : كيف نكلم صبيا في المهد؟ (قالَ) عيسى (ع) (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) قدّم اقراره بالعبودية ليبطل به قول من يدعي له الربوبية ، وكأن الله سبحانه انطقه بذلك لعلمه بما يقوله الغالون فيه ، ثم قال (آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ان الله تعالى أكمل عقله في صغره ، وأرسله إلى عباده ، وكان نبيا مبعوثا إلى الناس في ذلك الوقت مكلفا عاقلا ولذلك كانت له تلك المعجزة.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثم بيّن سبحانه تمام كلام عيسى (ع) فقال (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) أي وجعلني معلما للخير والبركة : نماء الخير ، والمبارك : الذي ينتمي الخير به (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أي بإقامة الصلاة ، وأداء الزكاة (ما دُمْتُ) أي ما بقيت (حَيًّا) مكلفا (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) أي وجعلني بارا بها ، أؤدي شكرها فيما قاسته بسببي (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) أي متجبرا (شَقِيًّا) والمعنى : اني بلطفه وتوفيقه كنت محسنا إلى والدتي ، متواضعا في نفسي ، حتى لم أكن من الجبابرة الأشقياء (وَالسَّلامُ عَلَيَ) أي والسلامة عليّ من الله (يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) أي في هذه الأحوال الثلاث وقد مرّ تفسيرها قبل في قصة يحيى وفي هذه الآيات دلالة على انه يجوز ان يصف الإنسان نفسه بصفات المدح اذا أراد تعريفها إلى غيره لا على وجه الافتخار ؛ قالوا : ولما كلمهم عيسى (ع) بهذا علموا براءة مريم (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) معناه : ذلك الذي قال : إني عبد الله عيسى ابن مريم لا ما يقوله النصارى من انه ابن الله ، وأنه إله (قَوْلَ الْحَقِ) معناه : أحق الحق (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يشكون ، يعني اليهود والنصارى ، فزعمت اليهود انه ساحر كذاب ، وزعمت النصارى انه ابن الله وثالث ثلاثة (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) معناه : ما كان ينبغي لله ان يتخذ من ولد ، أي ما يصلح له ولا يستقيم ثم نزّه سبحانه نفسه عن ذلك فقال (سُبْحانَهُ) ثم بيّن السبب في كون عيسى من غير اب فقال (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقد مرّ تفسيره فيما مضى والمعنى : انه لا يتعذر عليه إيجاد شيء على الوجه الذي أراده.

٣٦ ـ ٤٠ ـ (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) المعنى : وقضى أن الله ربي وربكم (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) معناه : هذا طريق واضح فالزموه (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الإختلاف في المذهب : ان يعتقد كل قوم خلاف ما يعتقده الآخرون ، والأحزاب : جمع حزب ، وهو الجمع المنقطع في رأيه عن غيره ، وتحزبوا : أي صاروا احزابا ، والمعنى : ان الأحزاب من أهل الكتاب اختلفوا في عيسى (ع) فقال قوم منهم : هو الله وهم اليعقوبية ، وقال آخرون. هو ابن الله وهم النسطورية ، وقال آخرون : هو ثالث ثلاثة وهم الاسرائيلية ، وقال المسلمون : هو عبد الله ، عن قتادة ومجاهد ، وإنما قال : من بينهم لأن منهم من ثبت على الحق (فَوَيْلٌ) أي فشدة عذاب ، وهي كلمة وعيد (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بالله بقولهم في المسيح (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) المشهد بمعنى الشهود والحضور ، أي من حضورهم ذلك اليوم وهو يوم القيامة ، وسمي عظيما لعظم اهواله (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا)

٤٠٤

صاروا ذوي سمع وبصر والمعنى : ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة وان كانوا في الدنيا صما وبكما عن الحق (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعني ان الكافرين في الدنيا آثروا الهوى على الهدى فهم في ذهاب عن الدين ، وعدول عن الحق والمراد : انهم في الدنيا جاهلون ، وفي الآخرة عارفون حيث لا تنفعهم المعرفة (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) الخطاب للنبي (ص) والمعنى : خوّف يا محمد كفار مكة يوم يتحسر المسيء هلا أحسن العمل ، والمحسن هلا ازداد من العمل ، وهو يوم القيامة ؛ وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، قيل : يا أهل الجنة ، فيشرئبون ينظرون ، وقيل : يا أهل النار ، فيشرئبون فينظرون ، فيجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيقال : هل تعرفون الموت؟ فيقولون : هذا هذا ، وكل قد عرفه ، قال : فيقدم فيذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، قال : وذلك قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) الآية ، ورواه اصحابنا عن أبي جعفر (ع) (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) أي فرغ من الأمر ، وانقطعت الآمال ، وأدخل قوم النار وقوم الجنة وقيل معناه : انقضى أمر الدنيا فلا يرجع إليها الإستدراك الفائت وقيل : معناه حكم بين الخلائق بالعدل ، وقيل : قضي على أهل الجنة بالخلود ، وقضي على أهل النار بالخلود (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) في الدنيا عن ذلك ، ومعناه : انهم مشغولون اليوم بما لا يعنيهم ، غافلون عن أحوال الآخرة (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدقون بذلك ، ثم أخبر سبحانه عن نفسه فقال (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) نميت سكانها فنرثها ومن عليها ، فلا يبقى فيها مالك ومتصرّف (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي إلينا يردّون بعد الموت ، أي إلى حيث لا يملك الأمر والنهي غيرنا.

٤١ ـ ٥٠ ـ ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم (ع) فقال (وَاذْكُرْ) يا محمد (فِي الْكِتابِ) أي القرآن (إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) أي كثير التصديق في أمور الدين (نَبِيًّا) أي عليا رفيع الشأن برسالة الله تعالى (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) آزر (يا أَبَتِ) أي يا أبي (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) دعاء من يدعوه (وَلا يُبْصِرُ) من يتقرب إليه ويعبده (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) من أمور الدنيا ، أي لا يكفيك شيئا فلا ينفعك ولا يضرّك (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) بالله والمعرفة (ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي) على ذلك واقتد بي فيه (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي أوضح لك طريقا مستقيما معتدلا غير جائر بك عن الحق إلى الضلال (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) أي لا تطعه فيما يدعوك إليه فتكون بمنزلة من عبده (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) أي عاصيا (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) أي يصيبك عذاب من جهة الله سبحانه لاصرارك على الكفر (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أي فتكون موكولا إلى الشيطان وهو لا يغني عنك شيئا. ان هذا الخطاب من إبراهيم (ع) لجده لأمه ، وان أباه الذي ولده كان اسمه تارخ لاجماع الطائفة على ان آباء نبينا (ص) إلى آدم عليه‌السلام كلهم مسلمون موحدون (قالَ) آزر مجيبا لإبراهيم (ع) حين دعاه إلى الإيمان (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) أي أمعرض أنت عن عبادة آلهتي التي هي الأصنام (يا إِبْراهِيمُ) وتارك لها ، وزاهد فيها (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) أي لئن لم تمتنع عن هذا (لَأَرْجُمَنَّكَ) بالحجارة (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي فارقني دهرا طويلا (قالَ) إبراهيم (سَلامٌ عَلَيْكَ) سلام توديع وهجر على الطف الوجوه ، وهو سلام متاركة ومباعدة منه (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) وعده بالاستغفار على ما يصح ويجوز من ترك عبادة الأصنام وإخلاص العبادة لله تعالى (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) أي بارا (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي واتنحى منكم جانبا ، واعتزل عبادة ما تدعون من دونه

٤٠٥

من الأصنام (وَأَدْعُوا) أي وأعبد (رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) كما شقيتم بدعاء الأصنام ، وإنما ذكر عسى على وجه الخضوع وقيل : معناه : لعله يقبل طاعتي وعبادتي ولا أشقى بالردّ فإن المؤمن بين الرجاء والخوف (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي فارقهم وهاجرهم إلى الأرض المقدسة (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) ولدا (وَيَعْقُوبَ) ولد ولد (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) أي أنسنا وحشته من فراقهم بأولاد كرام عل الله ، وكلا من هذين جعلناه نبيا يقتدى به في الدين (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) أي نعمتنا سوى الأولاد والنبوة من نعم الدين والدنيا (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) أي ثناء حسنا في الناس ، عليا مرتفعا سائرا في الناس ، وكل أهل الأديان يتولون إبراهيم وذريته ، ويثنون عليهم ، ويدّعون انهم على دينهم وقيل معناه : واعلينا ذكرهم بأن محمدا (ص) وأمته يذكرونهم بالجميل إلى قيام القيامة وقيل : وهو ما يتلى في التشهد كما صليت على ابراهيم.

٥١ ـ ٥٥ ـ ثم ذكر سبحانه حديث موسى (ع) فقال (وَاذْكُرْ) يا محمد (فِي الْكِتابِ) الذي هو القرآن (مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) أخلص العبادة لله تعالى ، وأخلص نفسه لأداء الرسالة (وَكانَ رَسُولاً) إلى فرعون وقومه (نَبِيًّا) رفيع الشأن ، عالي القدر (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) الطور : جبل بالشام ناداه الله تعالى من جانبه اليمين ، وهي يمين موسى (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) أي مناجيا كليما (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) أي أنعمنا عليه بأخيه هارون حيث قال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ) ، وجعلناه نبيا ، أشركناه في أمره ، وشددنا به أزره (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) الذي هو القرآن (إِسْماعِيلَ) بن إبراهيم أيضا (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) إذا وعد بشيء وفى به ولم يخل (وَكانَ) مع ذلك (رَسُولاً نَبِيًّا) إلى جرهم وقد مضى معناه. قال ابن عباس : انه واعد رجلا أن ينتظره في مكان ونسي الرجل فانتظره سنة حتى أتاه الرجل ، وقيل : ان إسماعيل بن إبراهيم عليه‌السلام مات قبل أبيه إبراهيم عليه‌السلام ، وإن هذا هو إسماعيل بن حزقيل ، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة وجهه ، وفروة رأسه ، فخيّره الله فيما شاء من عذابهم ، فاستعفاه ، ورضي بثوابه ، وفوّض أمرهم إلى الله تعالى في عفوه وعقابه ، رواه أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ) أي قومه وعترته وعشيرته (بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) قيل : انه كان يأمر أهله بصلاة الليل ، وصدقة النهار (وَكانَ) مع ذلك (عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) قد رضي أعماله لأنها كلها طاعات لم تكن فيها قبائح وقيل : مرضيا معناه : صالحا زكيّا رضيّا ، فحصل له عنده المنزلة العظيمة.

٥٦ ـ ٦٠ ـ ثم ذكر سبحانه حديث إدريس فقال : (وَاذْكُرْ) يا محمد (فِي الْكِتابِ) الذي هو القرآن (إِدْرِيسَ) وهو جداب نوح (ع) واسمه في التوراة اخنوخ ، وقيل : انه سمي إدريس لكثرة درسه الكتب ، وهو أول من خط بالقلم وكان خياطا ، وأول من خاط الثياب وقيل : إن الله تعالى علمه النجوم والحساب وعلم الهيأة وكان ذلك معجزة له (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) مرّ معناه (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) أي عاليا رفيعا ، وقيل : إلى السماء السادسة عن ابن عباس والضحاك قال مجاهد : رفع إدريس عليه‌السلام كما رفع عيسى (ع) وهو حيّ لم يمت وقال آخرون انه قبض روحه بين السماء الرابعة والخامسة ، وروي ذلك عن أبي جعفر وقيل ان معناه : ورفعنا محله ومرتبته بالرسالة كقوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) ، ولم يرد به رفعة المكان ، عن الحسن والجبائي وأبي مسلم. ولما فصّل سبحانه ذكر النبيين ، ووصف كلا منهم بصفة تخصه ، جمعهم في المدح والثناء فقال : (أُولئِكَ) تقدّم ذكرهم (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بالنبوة وقيل : بالثواب وبسائر

٤٠٦

النعم الدينية والدنيوية (مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) إنما فرّق سبحانه ذكر نسبهم مع ان كلهم كانوا من ذرية آدم (ع) لتبيان مراتبهم في شرف النسب ، فكان لإدريس شرف القرب لآدم لأنه جد نوح (ع) ، وكان إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه من ولد سام بن نوح ، وكان إسماعيل وإسحاق ويعقوب من ذرية إبراهيم لما تباعدوا من آدم حصل لهم شرف إبراهيم ، وكان موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من ذرية إسرائيل (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) أي هديناهم إلى الحق فاهتدوا ، واخترناهم من بين الخلق ، ثم وصفهم فقال : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي تقرأ عليهم (آياتُ الرَّحْمنِ) وهو القرآن (خَرُّوا سُجَّداً) أي ساجدين لله (وَبُكِيًّا) أي باكين متضرعين إليه ، بيّن الله سبحانه أنهم مع جلالة قدرهم كانوا يبكون عند ذكر آيات الله ، وهؤلاء العصاة ساهون لاهون مع إحاطة السيئات بهم ، ثم أخبر سبحانه فقال : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) والخلف : البدل السيء ، معناه : من بعد النبيين المذكورين قوم سوء ، هم اليهود ومن تبعهم لأنهم من ولد إسرائيل (أَضاعُوا الصَّلاةَ) أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن تركوها أصلا (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) أي أنفذوا الشهوات فيما حرّم الله عليهم (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي يلقون مجازاة الغي ، وهذا كقوله : (مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) : أي مجازاة الآثام (إِلَّا مَنْ تابَ) أي ندم على ما سلف (وَآمَنَ) في مستقبل عمره (وَعَمِلَ صالِحاً) من الواجبات والمندوبات (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) أراد أنهم يدخلونها بأمر الله ولا يبخسون شيئا من ثوابهم ، بل يوفيه الله إليهم على التمام والكمال ، وفي هذا دلالة على ان الله لا يمنع أحدا ثواب عمله ولا يبطله ، لأنه سبحانه سمى ذلك ظلما.

٦١ ـ ٦٥ ـ ثم وصف سبحانه الجنة فقال : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي جنات إقامة ، يقال : عدن بالمكان إذا قام به (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) المراد بالعباد المؤمنون كما قال : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) وقال : بالغيب لأنهم غابوا عما فيها مما لا عين رأت ولا اذن سمعت (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ) أي موعوده (مَأْتِيًّا) أي آتيا لا محالة (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي لا يسمعون في تلك الجنات القول الذي لا معنى له يستفاد وهو اللغو (إِلَّا سَلاماً) أي إلّا سلام الملائكة عليهم ، وسلام بعضهم على بعض (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال المفسرون : ليس في الجنة شمس ولا قمر فيكون لهم بكرة وعشيا ، والمراد انهم يؤتون برزقهم على ما يعرفونه من مقدار الغداء والعشاء (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي) هي مذكورة في قوله فأولئك يدخلون الجنة التي (نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) أي إنما نملّك تلك الجنة من كان تقيا في دار الدنيا بترك المعاصي ، وفعل الطاعات (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) قال ابن عباس : إن النبي (ص) قال لجبرائيل : ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزل : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) الآية ، أي إذا أمرنا نزلنا عليك (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) معناه : له ما بين أيدينا من أمر الآخرة ، (وَما خَلْفَنا) : أي ما مضى من أمر الدنيا ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) : أي ما بين النفختين ، عن ابن عباس وقتادة والضحاك والربيع. قال مقاتل : وما بين النفختين أربعون سنة ، وقيل معناه : ابتداء خلقنا ، ومنتهى آجالنا ، ومدة حياتنا ، وقيل : ما بين أيدينا : أي الأرض عند نزولنا ، وما خلفنا : ما مضى من الدنيا وما بين ذلك من حياتنا أي هو المدبر لنا في الأوقات الماضية والآتية والذاهبة وقيل : ما بين أيدينا : أي الأرض عند نزولنا ، (وَما خَلْفَنا) : السماوات إذ نزلنا منها ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) : السماء والأرض (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أخبر الله سبحانه عن نفسه ومعناه : أنه سبحانه ليس ممن ينسى ويخرج عن كونه عالما لذاته وتقديره : وما نسيك يا محمد وإن أخّر الوحي عنك (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما

٤٠٧

ومدبرهما (وَما بَيْنَهُما) من الخلائق والأشياء (فَاعْبُدْهُ) وحده لا شريك له (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) أي اصبر على تحمل مشقة عبادته ، ثم قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي مثلا وشبيها يستحق أن يسمى إلها إلّا هو ، عن الكلبي وقيل : هل تعلم أحدا يسمى إلها خالقا رازقا محييا مميتا قادرا على الثواب والعقاب سواه حتى تعبده؟ إذا لم تعلم ذلك فالزم عبادته ، وهذا استفهام بمعنى النفي ، أي لا تعلم من يسمى بلفظة الله.

٦٦ ـ ٧٠ ـ لما تقدّم ذكر الوعد والوعيد ، والبعث والنشور ، حكى سبحانه عقيبه قول منكري البعث ، وردّ عليهم بأوضح بيان ، وأجلى برهان فقال : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) هذا استفهام المراد به الإنكار والإستهزاء ، أي أاذا ما متّ أعادني الله حيا؟ فقال سبحانه مجيبا لهذا الكافر (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي أولا يتذكر هذا الجاحد حال ابتداء خلقه فيستدل بالإبتداء على الإعادة (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) معناه : ولم يك شيئا كائنا أو مذكورا ثم حقق سبحانه أمر الإعادة فقال (فَوَ رَبِّكَ) يا محمد (لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) أي لنجمعنهم ونبعثنهم من قبورهم مقرنين بأوليائهم من الشياطين (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) أي مستوفزين على الركب ، والمعنى : يجثون حول جهنم متخاصمين ، ويتبرأ بعضهم من بعض ، لأن المحاسبة تكون بقرب جهنم وقيل : جثيا : أي جماعات جماعات ، عن ابن عباس ، كأنه قال : زمرا ، وهو جمع جثوة ، وجثوة هو المجموع من التراب والحجارة ، وقيل : قياما على الركب ، وذلك لضيق المكان بهم لا يمكنهم أن يجلسوا عن السدي (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أي لنستخرجن من كل جماعة (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) أي الأعتى فالأعتى منهم قال قتادة لننزعن من كل أهل دين قادتهم ورؤوسهم في الشر (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) أي لنحن أعلم بالذين هم أولى بشدة العذاب ، وأحق بعظيم العقاب ، وأجدر بلزوم النار.

٧١ ـ ٧٥ ـ ثم بيّن سبحانه أحوالهم يوم الحشر فقال : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) أي ما منكم أحد إلّا واردها ، والهاء في واردها راجعة إلى جهنم وورودها هو الوصول إليها ، والإشراف عليها لا الدخول فيها ، وهو قول ابن مسعود والحسن وقتادة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) ، وقوله تعالى : (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ) ، وبأنك تقول وردت بلد كذا وماء كذا : أي أشرفت عليه دخلته أو لم تدخله قال الزجاج والحجة القاطعة في ذلك قوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) ، فهذا يدل على أن أهل الحسنى لا يدخلونها قالوا : فمعناه : انهم واردون حول جهنم للمحاسبة ، ويدل عليه قوله : (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) ، ثم يدخل النار من هو اهلها (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أي كائنا واقعا لا محالة قد قضى بأنه يكون (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك وصدّقوا (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) أي ونقرّ المشركين والكفار على حالهم (فِيها) أي في جهنم (جِثِيًّا) أي باركين على ركبهم (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) ومعناه : وإذا يتلى على الكافرين آياتنا المنزلة في القرآن (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً) أي قال الذين جحدوا وحدانية الله ، وكذّبوا أنبياءه ، للذين صدقوا بذلك مستفهمين لهم وغرضهم الإنكار : أي الفريقين : أي أنحن أم أنتم خير منزلا ومسكنا : أي موضع إقامة (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أي مجلسا ، وإنما تفاخروا بالمال وزينة الدنيا ولم يتفكروا في العاقبة ، ولبسوا على الضعفة بأن من كان ذا مال في الدنيا فكذلك يكون في الآخرة ، ثم نبّههم سبحانه على فساد هذا الإعتقاد بأن قال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) قال ابن عباس : الأثاث : المتاع وزينة الدنيا ، والرءي : المنظر والهيئة ، والمعنى : ان الله

٤٠٨

تعالى قد أهلك قبلهم أمما وجماعات كانوا أكثر أموالا ، وأحسن منظرا منهم. (قُلْ) يا محمد (مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) عن الحق ، والعدول عن اتباعه (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) معناه : ان الله سبحانه جعل جزاء ضلالته أن يمدّ له بأن يتركه فيها كما قال : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي فليعش ما شاء الله من السنين والأعوام فإنه لا ينفعه طول عمره (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ) أي عذاب الإستئصال (وَإِمَّا السَّاعَةَ) أي القيامة وعذاب النار (فَسَيَعْلَمُونَ) حين يرون العذاب (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) أي أهم أم المؤمنون؟ لأن مكانهم جهنم ، ومكان المؤمنين الجنة (وَأَضْعَفُ جُنْداً) أي ويعلمون أجندهم أضعف أم جند النبي (ص) والمسلمين ، وهذا ردّ لقولهم : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).

٧٦ ـ ٨٢ ـ ثم بيّن سبحانه حال المؤمن فقال سبحانه (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) معناه : يزيدهم هدى بالمعونة على طاعاته ، والتوفيق لابتغاء مرضاته ، وهو ما يفتحه لم من الدلالات ، وما يفعله بهم من الألطاف المقربة من الحسنات (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) قد مرّ تفسيره في سورة الكهف وجملته : ان الأعمال الصالحة التي تبقى ببقاء ثوابها ، وتنفع صاحبها في الدنيا والآخرة ، خير ثوابا من مقامات الكفارات التي يفتخرون بها كل الإفتخار (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي خير عاقبة ومنفعة ، يقال : هذا الشيء أرد عليك : أي أنفع وأعود عليك ، لأن العمل الصالح ذاهب عنه بفقده له ، فيرده الله تعالى عليه برد ثوابه إليه حتى يجده في نفسه (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) أفرأيت كلمة تعجيب ومعناه : أرأيت هذا الكافر الذي كفر بأدلتنا من القرآن وغيره وهو العاص بن وائل ، عن ابن عباس ومجاهد (وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) استهزاء ، أي لأعطين مالا وولدا في الجنة عن الكلبي ، وقيل : أعطي في الدنيا ، أي أن أقمت على دين آبائي ، وعبادة آلهتي ، أعطيت مالا وولدا (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) هذه همزة الإستفهام دخلت على همزة الوصل فسقطت همزة الوصل ، ومعناه : أعلم الغيب حتى يعلم أهو في الجنة أم لا؟ (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أي اتخذ عند الله عهدا بعمل صالح قدّمه ، عن قتادة ، وقيل معناه : أم عهد الله إليه أن يدخل الجنة ، عن الكلبي ، وقيل معناه : أم قال : لا إله إلّا الله فيرحمه‌الله بها ، عن ابن عباس (كَلَّا) أي ليس الأمر على ما قال من أنه يؤتى المال والولد (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) أي سنأمر الحفظة بإثباته عليه لنجازيه به في الآخرة (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) أي نصل له بعض العذاب بالبعض ، ونزيده عذابا فوق العذاب فلا ينقطع عذابه أبدا (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أي ما عنده من المال والولد باهلاكنا إياه ، وإبطال ملكه (وَيَأْتِينا فَرْداً) أي يأتي الآخرة وحيدا بلا مال ولا ولد ، ولا عدة ولا عدد (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) يعني أن هؤلاء الكفار الذين وصفتهم اتخذوا آلهة ، أي أصناما عبدوها (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) أي ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة وذلك أنهم رجوا منها الشفاعة والنصرة (كَلَّا) أي ليس الأمر كما ظنوا ، بل صاروا بهم إلى الذل والعذاب (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) أي سيجحدون بأن يكونوا عبدوها ، ويتبرؤون منها لما يشاهدون من سوء عاقبة أمرهم ويقولون والله ربنا ما كنا مشركين (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) ويكونون قرناء لهم في النار ويلعنونهم ويتبرؤون منهم.

٨٣ ـ ٩٢ ـ (أَلَمْ تَرَ) يا محمد (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي خلينا بينهم وبين الشياطين إذا وسوسوا إليهم ، حتى اغووهم ، ولم نحل بينهم وبينهم بالإلجاء ولا بالمنع (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أي تزعجهم من الطاعة إلى المعصية ، أي تغريهم بالشر حتى توقعهم في النار (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) معناه : فلتطب نفسك يا محمد ، ولا تستعجل لهم العذاب فإن مدة بقائهم قليلة ، فإنا نعد لهم الأيام والسنين (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) أي اذكر لهم يا محمد اليوم الذي

٤٠٩

نجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته ، واجتنب معاصيه إلى الرحمن : أي إلى جنته ودار كرامته وفودا وجماعات ، ركبانا يؤتون بنوق لم ير مثلها ، عليها رحائل الذهب ، وأزمتها الزبرجد ، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة عن أمير المؤمنين (ع) (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) أي ونحثّ المجرمين على المسير إلى جهنم عطاشا كالإبل التي ترد عطاشا مشاة على أرجلهم وسمى العطاش وردا لأنهم يردون لطلب الماء (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) أي لا يقدرون على الشفاعة فلا يشفعون ، ولا يشفع لهم حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أي لا يملكون الشفاعة إلّا هؤلاء والعهد : هو الإيمان والإقرار بوحدانية الله تعالى وتصديق أنبيائه (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) هذا اخبار عن اليهود والنصارى ومشركي العرب ، فإن اليهود قالوا : عزير بن الله وقالت النصارى : المسيح بن الله. وقال مشركو العرب : الملائكة بنات الله (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) تقديره : قل لهم يا محمد : لقد جئتم بشيء منكر عظيم شنيع فظيع (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أي أرادت السماوات أن تنشق لعظم فريتهم إعظاما لقولهم ، ومعناه : لو انشقت السماوات بشيء عظيم لكانت تنشق من هذا (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) أي وكادت الأرض تنشق (وَتَخِرُّ الْجِبالُ) أي كادت الجبال تسقط (هَدًّا) أي هدما (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) أي بسبب دعوتهم ، أو تسميتهم له ولدا (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي ما يصلح للرحمن ، ولا يليق به اتخاذ الولد وليس من صفته ذلك ، لأن إثبات الولد له يقتضي حدوثه وخروجه من صفة الإليهة ، واتخاذ الولد يدل على الحاجة ، تعالى عن ذلك وتقدس.

٩٣ ـ ٩٨ ـ ثم قال سبحانه : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) أي كل من في السماوات والأرض من الملائكة والانس والجن إلّا ويأتي الله سبحانه عبدا مملوكا خاضعا ذليلا ، والمعنى : ان الخلق عبيده خلقهم وجرى عليهم حكمه ، وان عيسى وعزيرا والملائكة من جملة العبيد (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) أي علم تفاصيلهم واعدادهم فكأنه سبحانه عدّهم إذ لا يخفى عليه شيء من أحوالهم (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي كل واحد منهم يأتي المحشر والموضع الذي لا يملك الأمر فيه إلّا الله فردا وحيدا مفردا ليس له مال ولا ولد ولا ناصر ، مشغولا بنفسه لا يهمّه هم غيره. ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) انها خاصة في علي بن أبي طالب (ع) فما من مؤمن إلّا وفي قلبه محبة لعلي (ع) عن ابن عباس : وفي تفسير أبي حمزة الثمالي حدثني أبو جعفر الباقر (ع) قال : قال رسول الله (ص) لعلي (ع) قل : اللهم اجعل لي عندك عهدا ، واجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا ، فقالهما علي (ع) فنزلت هذه الآية ، وروي نحوه عن جابر بن عبد الله الأنصاري ثم قال سبحانه لنبيه (ص) (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أي يسرنا القرآن بأن أنزلناه بلسانك وهي لغة العرب ليسهل عليهم معرفته ، ولو كان بلسان آخر ما عرفوه (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) أي لتبشر بالقرآن الذين يتقون الشرك والكبائر ، أي تخبرهم بما تسرهم مما أعده الله لهم (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) أي شدادا في الخصومة ثم أنذرهم سبحانه وخوّفهم بقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي قبل هؤلاء من قرن. مكذبين للرسل ، وفيه تسلية للنبي (ص) والمعنى : لا يهمنك كفرهم وشقاقهم فإن وبال ذلك راجع إليهم ، وقد أهلكنا قبلهم من كان مثلهم (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي هل تبصر منهم أحدا (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي صوتا ، عن ابن عباس وقتادة ، وقيل : حسّا ، عن ابن زيد والمعنى أنهم ذهبوا فلا يرى لهم عين ، ولا يسمع لهم صوت ، وكانوا أكثر أموالا ، وأعظم أجساما ، وأشد خصاما من

٤١٠

هؤلاء فلم يغنهم ذلك لما أردنا إهلاكهم ، فحكم هؤلاء الكفار حكم أولئك في أنه لا يبقى منهم عين ولا أثر.

سورة طه

مكية وعدد آياتها مائة وخمس وثلاثون آية

١ ـ ٨ ـ (طه) قد بيّنا في أول البقرة تفسير حروف المعجم في أوائل السور والإختلاف فيه وقد قيل ان معنى طه يا رجل (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) لكن لتسعد به وتنال الكرامة به في الدنيا والآخرة. قال قتادة : وكان يصلي الليل كله ويعلق صدره بحبل حتى لا يغلبه النوم ، فأمره الله سبحانه بأن يخفف على نفسه وذكر أنه ما أنزل عليه الوحي ليتعب كل هذا التعب (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) معناه : لكن أنزلناه تذكرة (تَنْزِيلاً) أي أنزلناه تنزيلا (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) أي الرفيعة العالية. نبّه بذلك على عظم حال خالقهما ، ثم أكّد ذلك بقوله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أي هو الرحمن لأنه لما قال ممن خلق بيّنه بعد ذلك فقال : هو الرحمن (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي له ملك ما في السماوات وما في الأرض وتدبيرهما وعلمهما ، يعني أنه مالك كل شيء ومدبّره (وَما بَيْنَهُما) يعني الهواء (وَما تَحْتَ الثَّرى) والثرى : التراب الندي يعني وما وارى الثرى من كل شيء (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) أي ان ترفع صوتك به (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أي فلا تجهد نفسك برفع الصوت فإنك وإن لم تجهر علم الله السر وأخفى من السر ؛ والسر ما حدث به العبد غيره في خفية ، واخفى منه ما أضمره في نفسه ما لم يحدث به غيره عن ابن عباس وقيل السر ما أضمره العبد في نفسه ، وأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد عن قتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وقيل السر ما تحدث به نفسك واخفى منه ما تريد أن تحدث به نفسك في ثاني الحال وقيل السر : العمل الذي تستره عن الناس وأخفى منه الوسوسة عن مجاهد وقيل معناه يعلم السر أي يعلم أسرار الخلق وأخفى أي سرّ نفسه عن زيد بن أسلم جعله فعلا ماضيا وروي عن السيدين الباقر والصادق عليهما‌السلام السر ما أخفيته في نفسك وأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا معبود تحق له العبادة غيره (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي الأسماء الدالة على توحيده وعلى انعامه على العباد ، وعلى المعاني الحسنة فبأيّها دعوت جاز ؛ وروي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : ان لله تعالى تسعة وتسعين إسما من أحصاها دخل الجنة قال الزجاج : تأويله من وحّد الله تعالى وذكر هذه الأسماء الحسنى يريد بها توحيد الله وإعظامه دخل الجنة ، وقد جاء في الحديث : من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة.

٩ ـ ١٦ ـ ثم خاطب الله سبحانه نبيّه تسلية له مما ناله من أذى قومه ، وتثبيتا له بالصبر على أمر ربّه كما صبر موسى عليه‌السلام حتى نال الفوز في الدنيا والآخرة فقال (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) هذا ابتداء إخبار من الله تعالى على وجه التحقيق إذ لم يبلغه حديث موسى فهو كما يخبر الإنسان غيره بخبر على وجه التحقيق فيقول : هل سمعت بخبر فلان وقيل انه استفهام تقرير بمعنى الخبر أي وقد أتاك حديث موسى (إِذْ رَأى ناراً) عن ابن عباس قال : وكان موسى رجلا غيورا لا يصحب الرفقة لئلا ترى امرأته فلما قضى الأجل وفارق مدين خرج ومعه غنم له ، وكان أهله على أتان وعلى ظهرها جوالق فيها أثاث البيت ، فأضلّ الطريق في ليلة مظلمة وتفرقت ماشيته ، ولم ينقدح زنده ، وامرأته في الطلق ، فرأى نارا من بعيد كانت عند الله نورا وعند موسى نارا (فَقالَ) عند ذلك (لِأَهْلِهِ) وهي بنت شعيب كان تزوجها بمدين (امْكُثُوا) أي الزموا مكانكم قال مقاتل : وكانت ليلة الجمعة ، في الشتاء والفرق بين المكث والإقامة أن الإقامة تدوم والمكث لا يدوم (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرت نارا (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ)

٤١١

أي بشعلة اقتبسها من معظم النار تصطلون بها (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أي أجد على النار هاديا يدلّني على الطريق ، وقيل علامة استدل بها على الطريق ، والهدى ما يهتدى به فهو اسم ومصدر قال السدي لأن النار لا تخلو من أهل لها وناس عندها (فَلَمَّا أَتاها) قال ابن عباس : لما توجّه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب فوقف متعجبا من حسن ضوء تلك النار ، وشدة خضرة تلك الشجرة ، فسمع النداء من الشجرة وهو قوله (نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) والنداء الدعاء على طريقة يا فلان ؛ فالمعنى : نودي انّي أنا ربّك الذي خلقك ودبّرك ، وإنّما علم موسى عليه‌السلام أن ذلك النداء من قبل الله تعالى لمعجز أظهره الله سبحانه ، انه رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها تتوقد فيها نار بيضاء ، وسمع تسبيح الملائكة ، ورأى نورا عظيما لم تكن الخضرة تطفىء النار ، ولا النار تحرق الخضرة تحيّر وعلم أنه معجز خارق للعادة ، وأنه لأمر عظيم ، فألقيت عليه السكينة ثم نودي : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي انزعهما. والسبب الذي أمر بخلع النعلين ان الحفاء من علامة التواضع ولذلك كانت السلف تطوف حفاة (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أي المبارك ، بورك فيه بسعة الرزق والخصب (طُوىً) هو اسم الوادي (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أي اصطفيتك بالرسالة (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) إليك من كلامي ، واصغ إليه وتثبت. لما بشره الله سبحانه بالنبوة أمره باستماع الوحي ثم ابتدأ بالتوحيد فقال : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أي لا إله يستحق العبادة غيري (فَاعْبُدْنِي) خالصا ولا تشرك في عبادتي أحدا ، أمره سبحانه بأن يبلغ ذلك قومه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) أي لأن تذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم لأن الصلاة لا تكون إلا بذكر الله (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) يعني أن القيامة جائية قائمة لا محالة (أَكادُ أُخْفِيها) أي أريد أن أخفيها عن عبادي ؛ وفائدة الإخفاء التهويل والتخويف فإن الناس إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) أي بما تعمل من خير وشر ، ولينتصف من الظالم للمظلوم (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) معناه : لا يمنعك عن الإيمان بالساعة من لا يؤمن بها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) الهوى : ميل النفس إلى الشيء ، ومعناه : ومن بنى الأمر على هوى النفس دون الحق وذلك أن الدلالة قد قامت على قيام الساعة (فَتَرْدى) أي فتهلك كما هلك ، أي ان صددت عن الساعة بترك التأهب لها هلكت ؛ والخطاب وإن كان لموسى عليه‌السلام فهو في الحقيقة لسائر المكلفين.

١٧ ـ ٣٦ ـ ثم بيّن سبحانه ما أعطى موسى من المعجزات فقال : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) سأله عما في يده من العصا تنبيها له عليها ليقع المعجز بها بعد التثبت فيها ، والتأمل لها (قالَ) موسى (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أعتمد عليها إذا مشيت ، والتوكؤ : التحامل على العصا في المشي (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أي واخبط بها ورق الشجر لترعاه غنمي (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أي حاجات أخرى (قالَ) الله سبحانه (أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أي تمشي بسرعة ، وقيل : صارت حيّة صفراء لها عرف كعرف الفرس ، وقيل : إنّه ألقاها وحانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون وعيناه تتوقدان نارا ، فلما عاين ذلك ولّى مدبرا ولم يعقّب ، ثم ذكر ربّه فوقف استحياء منه ، ثم نودي يا موسى ارجع إلى حيث كنت ، فرجع وهو شديد الخوف (قالَ خُذْها) بيمينك (وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) أي سنعيدها إلى الحالة الأولى عصا (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) معناه : واجمع يدك إلى ما تحت عضدك (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) لها نور ساطع يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر وأشدّ ضوءا (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير برص ، ففعل فخرجت يده كما قال الله ، ثم ردّها فعادت إلى لونها الذي كانت عليه (آيَةً أُخْرى) أي فنزيدك بها آية أخرى (لِنُرِيَكَ

٤١٢

مِنْ آياتِنَا) وحججنا (الْكُبْرى) معناه : لنريك من دلالاتنا الكبرى سوى هاتين الدلالتين. فلما حمله سبحانه الرسالة ، وأراه المعجزات أمره بالتبليغ فقال (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) فادعه إليّ (إِنَّهُ طَغى) أي تجبّر وتكبّر في كفره (قالَ) موسى عند ذلك (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) أي وسّع لي صدري حتى لا أضجر ولا أخاف ولا أغتمّ (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) أي سهّل عليّ أداء ما كلّفتني من الرسالة ، والدخول على الطاغي ودعائه إلى الحق (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) أي واطلق عن لساني العقدة التي فيها حتى يفقهوا كلامي ؛ وكان سبب تلك العقدة في لسانه جمرة طرحها في فيه وذلك لما أراد فرعون قتله لأنه أخذ بلحية فرعون ونتفها وهو طفل ، فقالت آسية بنت مزاحم : لا تفعل فإنه صبي لا يعقل ، وعلامة جهله أنه لا يميز بين الدرة والجمرة ، فأمر فرعون حتى أحضر الدرة والجمرة بين يديه فأراد موسى أن يأخذ الدرة فصرف جبرائيل يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه. استجاب الله تعالى دعاءه فأحلّ العقدة عن لسانه (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً) يؤازرني على المضي إلى فرعون ويعاضدني عليه (مِنْ أَهْلِي) لأنه إذا كان الوزير من أهله كان أولى ببذل النصح له ؛ ثم بيّن الوزير وفسّره فقال : (هارُونَ أَخِي) وكان أخاه لأبيه وأمه وكان بمصر (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) أي قوّ به ظهري وأعنّي به (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي اجمع بيني وبينه في النبوة ليكون احرص على مؤازرتي (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) أي ننزّهك عما لا يليق بك. بيّن عليه‌السلام أنه إنما سأل هذه الحاجات ليتوصل بها إلى طاعة ربّه وعبادته ، وتأدية رسالته لا للرياسة (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) أي نحمدك ونثني عليك بما أوليتنا من نعمك ، ومننت به علينا من تحميل رسالتك (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أي بأحوالنا وأمورنا عالما (قالَ) الله سبحانه اجابة له (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ) أي قد أعطيت مناك وطلبتك (يا مُوسى) فيما سألته ، والسؤال : المنى والمراد فيما يسأله الإنسان.

٣٧ ـ ٤٤ ـ (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) أي أنعمنا عليك من صغرك إلى كبرك جارية ، ونعمتنا عليك متوالية ، ثم قال (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) أي حين أوحينا إلى أمّك : أي ألهمناها ما يلهم ، وهو ما كان فيه سبب نجاتك من القتل (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) أي اجعليه فيه (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) يريد النيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) وهو شط البحر (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) يعني فرعون ، كان عدوا لله ولأنبيائه ، وعدوا لموسى خاصة لتصوره أن ملكه ينقرض على يده (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي جعلتك بحيث يحبّك من يراك حتى أحبّك فرعون فسلمت من شرّه ، وأحبّتك امرأته آسية بنت مزاحم فتبنّتك وربّتك في حجرها ، وحببتك إلى عبادي فلا يلقاك أحد مؤمن ولا كافر إلّا أحبّك (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي لتربى وتغذى بحياطتي وكلاءتي وحفظي (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ) المعنى : قدرنا مشي أختك وقولها (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) لأنّ هذا كان من أسباب تربية موسى على ما أراده الله ، وذلك أن أم موسى اتخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا ووضعته فيه وألقته في النيل ، وكان يشرع من النيل نهر كبير في باغ فرعون ، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذ التابوت يجيء على رأس الماء ، فأمر بإخراجه فلما فتحوا رأسه إذا صبّي به من أحسن الناس وجها ، فأحبّه فرعون بحيث لا يتمالك ، وجعل موسى يبكي ويطلب اللبن ، فأمر فرعون حتى أتته النساء اللاتي كنّ حول داره فلم يأخذ موسى من لبن واحدة منهن ، وكانت أخت موسى واقفة هناك إذ أمرتها أمها أن تتبع التابوت ، فقالت : إني آتي بامرأة ترضعه ، وذلك قوله : (فَتَقُولُ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) ، أي أدلّكم على امرأة تربيه وترضعه وهي ناصحة له؟ فقالوا : نعم ، فجاءت بالأم فقبل ثديها ، فذلك قوله : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) برؤيتك وبقائك (وَلا تَحْزَنَ) من خوف قتله أو غرقه وذلك

٤١٣

انها حملته إلى بيتها آمنة مطمئنة قد جعل لها فرعون أجرة على الرضاع (وَقَتَلْتَ نَفْساً) قتل قبطيا كافرا عن ابن عباس (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) أي من غمّ القتل وكربه لأنه خاف أن يقتصوا منه بالقبطي (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) معناه : وخلّصناك من محنة بعد محنة منها : انه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال فيها ، ثم القاؤه في اليم ، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم جرّه لحية فرعون حتى همّ بقتله ، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة ، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون ، ثم مجيء رجل من شيعته يسعى ليخبره بما عزموا عليه من قتله ، فيكون المعنى : وخلّصناك من المحن تخليصا وقيل معناه وشددنا عليك التعمد في أمر المعاش حتى رعيت لشعيب (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي لبثت فيهم حين كنت راعيا لشعيب (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أي في الوقت الذي قدر لارسالك نبيّا (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) معناه : اخترتك لإقامة حجتي ، وجعلتك بيني وبين خلقي (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) أي بحججي ودلالاتي (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) أي ولا تضعفا في رسالتي (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) كرّر الأمر بالذهاب للتأكيد (إِنَّهُ طَغى) أي جاوز الحدّ في الطغيان (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أي ارفقا به في الدعاء والقول ولا تغلظا له في ذلك ، وقيل : معناه كنياه ، وكنيته أبو الوليد وقيل : هو أن موسى أتاه فقال له : تسلم وتؤمن برب العالمين على أن لك شبابك فلا تهرم ، وتكون ملكا لا ينزع الملك منك حتى تموت ، ولا تنزع منك لذة الطعام والشراب والجماع حتى تموت ، فإذا متّ دخلت الجنة ، فأعجبه ذلك وكان لا يقطع أمرا دون هامان وكان غائبا ، فلما قدم هامان أخبره بالذي دعاه إليه ، وأنه يريد أن يقبل منه ، فقال هامان : قد كنت أرى أن لك عقلا ، وأن لك رأيا ، بينا أنت ربّ وتريد أن تكون مربوبا ، وبينا أنت تعبد وتريد أن تعبد ، فقلبه عن رأيه (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) أي ادعواه على الرجاء والطمع لا على اليأس من فلاحه فوقع التعبد لهما على هذا الوجه لأنه أبلغ لهما في دعائه إلى الحق. قال الزجاج والمعنى في هذا عند سيبويه : اذهبا على رجائكما وطمعكما والعلم من الله قد أتى من وراء ما يكون ، وإنما يبعث الرسل وهم يرجون ويطمعون أن يقبل منهم ، والمراد : بيان الغرض بالبعثة ، أي ليتذكر ما أغفل عنه من ربوبية الله تعالى ، وعبودية نفسه ويخشى العقاب والوعيد في قوله سبحانه : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً).

٤٥ ـ ٥٦ ـ لمّا أمر الله سبحانه موسى وهارون أن يمضيا إلى فرعون ويدعواه إليه (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي نخشى أن يتقدم فينا بعذاب ويعجّل علينا (أَوْ أَنْ يَطْغى) أي يجاوز الحدّ في الإساءة بنا (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما) معناه : إني ناصركما وحافظكما (أَسْمَعُ) ما يسأله منكما فألهمكما جوابه (وَأَرى) ما يقصدكما به فأدفعه عنكما. ثم فسّر سبحانه ما أجمله فقال (فَأْتِياهُ) أي فأتيا فرعون (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) أي أرسلنا إليك خالقك بما ندعو إليه (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي اطلقهم واعتقهم عن الإستعباد (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالإستعمال في الأعمال الشاقة (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) أي بدلالة واضحة ومعجزة لائحة من ربّك تشهد لنا بالنبوة (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) معناه : ان من اتبع الهدى سلم من عذاب الله (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي إنما يعذب الله سبحانه من كذب بما جئنا به واعرض عنه ، فأما من اتبعه فإنه يسلم من العذاب (قالَ) لهما فرعون (فَمَنْ رَبُّكُما) أي فمن ربّك وربّه (يا مُوسى) وتقديره : فمن ربّكما يا موسى وهارون (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) معناه : أعطى كل شيء خلقته ، أي صورته التي قدّرها له (ثُمَّ هَدى) أي هداه إلى مطعمه ومشربه

٤١٤

ومنكحه وغير ذلك من ضروب هدايته عن مجاهد وعطية ومقاتل ، وقيل معناه : أعطى كلّ شيء مثل خلقته ، أي زوجه من جنسه ، ثم هداه لنكاحه ، عن ابن عباس والسدي (قالَ) فرعون (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) أي فما حال الأمم الماضية فإنها لم تقرّ بالله وما تدعو إليه ، بل عبدت الأوثان. ويعني بالقرون الأولى مثل قوم نوح وعاد وثمود (قالَ) موسى (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي أعمالهم محفوظة عند الله يجازيهم بها والتقدير : علم أعمالهم لها عند ربّي (فِي كِتابٍ) يعني اللوح المحفوظ ؛ والمعنى أن أعمالهم مكتوبة مثبتة عليهم وقيل : المراد بالكتاب ما يكتبه الملائكة (لا يَضِلُّ رَبِّي) أي لا يذهب عليه شيء وقيل معناه : لا يخطىء ربّي (وَلا يَنْسى) من النسيان عن أبي مسلم ، أي لا ينسى ما كان من أمرهم بل يجازيهم بأعمالهم وقيل معناه : لا يغفل ولا يترك شيئا عن السدي. ثم زاد في الإخبار عن الله تعالى فقال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي فرشا ومهادا أي فراشا (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) والسلك إدخال الشيء في الشيء ، والمعنى أدخل لكم أي لأجلكم في الأرض طرقا تسلكونها وقال ابن عباس : سهل لكم فيها طرقا (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني المطر. وتمّ الإخبار عن موسى ، ثم أخبر الله سبحانه عن نفسه فقال موصولا بما قبله من الكلام (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بذلك الماء (أَزْواجاً) أي أصنافا (مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي مختلفة الألوان : أحمر وأبيض وأخضر وأصفر وكل لون منها زوج ، وقيل : مختلفة الألوان والطعوم والمنافع (كُلُوا) أي مما أخرجنا لكم بالمطر من النبات والثمار (وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) أي وأسيموا مواشيكم فيما أنبتناه بالمطر واللفظ للأمر والمراد الإباحة والتذكير بالنعمة (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر (لَآياتٍ) أي دلالات (لِأُولِي النُّهى) أي لذوي العقول الذين ينتهون عمّا حرّم الله عليهم عن الضحاك وقيل لذوي الورع عن قتادة وقيل لذوي التقى عن ابن عباس (مِنْها خَلَقْناكُمْ) أي من الأرض خلقنا أباكم آدم عليه‌السلام (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) أي وفي الأرض نعيدكم إذا أمتناكم (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) أي دفعة أخرى إذا حشرناكم (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ) يعني فرعون (آياتِنا كُلَّها) يعني الآيات التسع ، أي معجزاتنا الدالة على نبوة موسى (فَكَذَّبَ) بجميع ذلك (وَأَبى) أن يؤمن به وقيل معناه فجحد الدليل وأبى القبول ولم يرد سبحانه بذلك جميع آياته التي يقدر عليها ولا كل آية خلقها وإنما أراد كل الآيات التي أعطاها موسى.

٥٧ ـ ٦٦ ـ ثم حكى سبحانه عن فرعون أنه نسب موسى إلى السحر تلبيسا على قومه بأن قال (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) أي من أرض مصر (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) أي مثل ما أتيت به (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) أي اضرب بيننا وبينك موعدا مكانا يعد لحضورنا ذلك المكان لا يقع منا في حضوره خلاف ؛ ثم وصف المكان بأنه تستوي مسافته على الفريقين ومكانا بدل عن موعد وقيل مكانا سوى أي عدلا بيننا وبينك عن قتادة وقيل منصفا بكون النصف بيننا وبينك عن مجاهد (قالَ) موسى (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) وكان يوم لهم فسمي يوم الزينة لأن الناس يتزيّنون فيه ويزينون به الأسواق ، عن مجاهد وقتادة والسدي (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) يعني ضحى ذلك اليوم ، ويريد بالناس أهل مصر يقول يحشرون إلى العيد ضحى فينظرون إلى أمري وأمرك فيكون ذلك أبلغ في الحجة ، وأبعد من الشبهة (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) أي انصرف وفارق موسى على هذا الوعد (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) أي حيلته ومكره وذلك جمع السحرة (ثُمَّ أَتى) أي حضر الموعد (قالَ لَهُمْ مُوسى) أيّ قال للسحرة لأنهم احضروا ما عملوا من السحر ليقابلوا بمعجزة موسى فوعظهم فقال (وَيْلَكُمْ) وهي كلمة وعيد وتهديد معناه : ألزمكم الله الويل والعذاب ، ويجوز أن يكون

٤١٥

على النداء نحويا ويلنا فيكون الدعاء بالويل عليهم (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا تشركوا مع الله أحدا عن ابن عباس وقيل : لا تكذبوا على الله بأن تنسبوا معجزاتي إلى السحر (فَيُسْحِتَكُمْ) أي يستأصلكم (بِعَذابٍ) يهلككم (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) أي خسر من كذب على الله ونسب إليه باطلا (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي تشاور القوم وتفاوضوا في حديث موسى وهارون وفرعون وجعل كل واحد منهم ينازع لكلام صاحبه (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) يعني أن السحرة أخفوا كلامهم وتناجوا فيما بينهم سرّا من فرعون فقالوا : إن غلبنا موسى اتبعناه : (قالُوا إِنْ هذانِ) يعني موسى وهارون (لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما) قال فرعون وجنوده للسحرة ويريدون بالأرض أرض مصر (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي يريدان أن يصرفا وجوه الناس إليهما وقيل : ان طريقتهم المثلى بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عددا وأموالا ، أي يريدان أن يذهبا بهم لأنفسهم وقيل : يذهبا بطريقتكم التي أنتم عليها في السيرة والدين (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) أي لا تدعون من كيدكم شيئا إلا جئتم به (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأموركم ، وأشد لهيبتكم ، عن ابن عباس وأكثر المفسرين ؛ وقيل : ثم ائتوا موضع الجمع ، ويسمى المصلى الصف ، عن أبي عبيدة ، والمعنى : ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) أي وقد سعد اليوم من غلب وعلا (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) هذا قول السحرة خيّروه بين أن يلقوا أولا ما معهم أو يلقي موسى عصاه ثم يلقون ما معهم (قالَ) موسى (بَلْ أَلْقُوا) أنتم ما معكم ، أمرهم بالإلقاء أولا ليكون معجزة أظهر إذا ألقوا ما معهم ثم يلقي هو عصاه فتبتلع ذلك (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) أي يرى الحبال من سحرهم أنها تسير وتعدوا مثل سير الحيات ؛ وإنما قال (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) لأنها لم تكن تسعى حقيقة ، وإنما تحركت لأنّهم جعلوا داخلها الزئبق فلما حميت الشمس طلب الزئبق الصعود فحركت الشمس ذلك فظنّ أنّها تسعى.

٦٧ ـ ٧٦ ـ (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) معناه فأحسّ موسى ووجد في نفسه ما يجده الخائف ويقال : أوجس القلب فزعا أي أضمر ، والسبب في ذلك أنه خاف أن يلتبس على الناس أمرهم فيتوهموا أنهم فعلوا مثل فعله ويظنّوا المساواة فيشكوا ولا يتّبعونه عن الجبائي وقيل : انه خوف الطباع إذا رأى الإنسان أمرا فظيعا فإنّه يحذره ويخافه في أول وهلة وقيل : انه خاف أن يتفرق الناس قبل إلقائه العصا وقبل أن يعلموا ببطلان السحرة فيبقوا في شبهة (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) عليهم بالظفر والغلبة (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) يعني العصا (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) أي تبتلع ما صنعوا من الحبال والعصي لأن الحبال والعصي أجسام ليست من صنعهم. قالوا : ولما ألقى عصاه صارت حية وطافت حول الصفوف حتى رآها الناس كلهم ثم قصدت الحبال والعصي فابتلعتها كلها على كثرتها ، ثم أخذها موسى فعادت عصا كما كانت (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) أي أن الذي صنعوه أو أن صنيعهم كيد ساحر : أي مكره وحيلته (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أي لا يظفر الساحر ببغيته إذ لا حقيقة للسحر (حَيْثُ أَتى) أي حيث كان من الأرض وقيل لا يفوز الساحر حيث أتى بسحره ، لأن الحق يبطله (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) هاهنا محذوف وهو فألقى عصاه وتلقف ما صنعوا فألقي السحرة سجدا أي سجدوا و (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) أضافوه سبحانه إليهما لدعائهما إليه ، وكونهما رسولين له (قالَ) فرعون للسحرة (آمَنْتُمْ لَهُ) أي لموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي من غير إذني

٤١٦

لأنه بلغ من جهله أنه لا يعتقد دين إلّا بإذنه والفرق بين الأذن والأمر أنّ في الأمر دلالة على إرادة الأمر الفعل المأمور به وليس في الإذن ذلك وقوله (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) إذن وقوله (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أمر (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) معناه : انه لاستاذكم وأنتم تلامذته وقد يعجز التلميذ عمّا يعمله الأستاذ وقيل انه لرئيسكم ومتقدمكم وأنتم أشياعه وأتباعه ما عجزتم عن معارضته ، ولكنكم تركتم معارضته احتشاما له واحتراما ؛ وإنما قال ذلك ليوهم العوام أن ما أتوا به إنما هو لتواطؤ من جهتهم ليصرفوا وجوه الناس إليهم (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي على جذوع النخل (وَلَتَعْلَمُنَ) أيها السحرة (أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً) لكم (وَأَبْقى) وأدوم أنا على إيمانكم أم ربّ موسى على ترككم الإيمان به (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) أي لن نفضلك ولن نختارك على ما أتانا من الأدلة الدالة على صدق موسى وصحّة نبوته والمعجزات التي تعجز عنها قوى البشر (وَالَّذِي فَطَرَنا) أي وعلى الذي فطرنا أي خلقنا وقيل معناه لن نؤثرك والله الذي فطرنا على ما جاءنا من البينات وما ظهر لنا من الحق (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) أي فاصنع ما أنت صانعه على إتمام وإحكام وقيل معناه فاحكم ما أنت حاكم وليس هذا بأمر منهم ولكن معناه أي شيء صنعت فإنا لا نرجع عن الإيمان (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي انما تصنع بسلطانك أو تحكم في هذه الحياة الدنيا دون الآخرة فلا سلطان لك فيها ولا حكم وقيل معناه انما تقضي وتذهب هذه الحياة الدنيا دون الحياة الآخرة (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) من الشرك والمعاصي (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) إنما قالوا ذلك لأن الملوك كانوا يجبرونهم على تعليم السحر كيلا يخرج السحر من أيديهم وقيل ان السحرة قالوا لفرعون أرنا موسى إذا نام فأراهم إياه فإذا هو نائم وعصاه تحرسه ، فقالوا : ليس هذا بسحر ، ان الساحر إذا نام بطل سحره ؛ فأبى عليهم إلا أن يعملوا فذلك إكراههم عن عبد العزيز بن أبان (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي والله خير لنا منك ، وثوابه أبقى لنا من ثوابك وقيل معناه والله خير ثوابا للمؤمنين وأبقى عقابا للعاصين منك وهذا جواب لقوله (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى). وها هنا انتهى الأخبار عن السحرة ثم قال الله سبحانه : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) وقيل : انه قول السحرة. قال ابن عباس في رواية الضحاك المجرم الكافر وفي رواية عطا يعني الذي أجرم وفعل مثل ما فعل فرعون (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح من العذاب (وَلا يَحْيى) حياة فيها راحة ، بل هو معاقب بأنواع العقاب (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) مصدقا بالله وبأنبيائه (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) أي أدّى الفرائض عن ابن عباس (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) يعني درجات الجنة وبعضها أعلى من بعض والعلى جمع العليا وهي تأنيث الأعلى (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي إقامة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) معناه أن الثواب الذي تقدّم ذكره جزاء من تطهّر بالإيمان والطاعة عن دنس الكفر والمعصية وقيل تزكى طلب الزكاء بإرادة الطاعة والعمل بها.

٧٧ ـ ٨٦ ـ ثم أخبر سبحانه عن حال بني إسرائيل فقال : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى) بعد ما رأى فرعون من الآيات فلم

__________________

من خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام : تعلّموا القرآن فإنه أحسن الحديث ، وتفقّهوا فيه فإنه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور ، وأحسنوا تلاوته فإنّه أحسن القصص ، فإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله ، بل الحجّة عليه أعظم ، والحسرة له ألزم ، وهو عند الله الوم. نهج البلاغة. خطبة : ١٠٦

٤١٧

يؤمن هو ولا قومه (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) أي سر بهم ليلا من أرض مصر (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) أي اجعل لهم طريقا في البحر يابسا بضربك العصا لينفلق البحر فعدّى الضرب إلى الطريق لما دخله هذا المعنى فكأنه قد ضرب الطريق كما يضرب الدينار (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) أي لا تخاف أن يدركك فرعون من خلفك ولا تخشى شيئا من أمر البحر مثل قوله (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ويجوز أن يكون في موضع الجزم على نحو ما ذكرناه في الحجة (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) معناه الحق جنوده بهم وبعث بجنوده خلفهم وفي أثرهم وفي الكلام حذف أنهم فعلوا ذلك فدخل موسى وقومه البحر ثم أتبعهم فرعون بجنوده (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) أي جاءهم من البحر ما جاءهم ، ولحقهم منه ما لحقهم ، وفيه تعظيم للأمر ، ومعناه : غشيهم الذي عرفتموه وسمعتم به ومثله قول أبي النجم «أنا أبو النجم وشعري شعري» أي شعري الذي سمعت به وعلمته ؛ أي هلك فرعون ونجا موسى ، هذا كان عاقبة أمرهم فليعتبر المعتبرون بهم (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) أي صرفهم عن الهدى والحق وما هداهم إلى الخير والرشد وطريق النجاة. ثم خاطب سبحانه بني إسرائيل وعدّد نعمه عليهم فقال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون بمرأى منكم (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) وهو أن الله تعالى وعد موسى بعد أن أغرق فرعون ليأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة فيها بيان الشرائع والأحكام وما يحتاجون إليه (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) يعني في التيه وقد مرّ بيان ذلك في سورة البقرة (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) صورته صورة الأمر والمراد به الإباحة (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) أي فلا تتعدوا فيه فتأكلوه على الوجه المحرم عليكم وقيل ان المعنى أي لا تتجاوزوا عن الحلال إلى الحرام وقيل معناه لا تتناولوا من الحلال للإستعانة به على المعصية (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) أي فيجب عليكم عقوبتي ومن ضم الحاء فالمعنى فينزل عليكم عقوبتي (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) أي هلك لأن من هوى من علو إلى سفل فقد هلك. وقيل : فقد هوى إلى النار قال الزجاج فقد صار إلى الهاوية (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) وهو فعال من المغفرة (لِمَنْ تابَ) من الشرك (وَآمَنَ) بالله ورسوله (وَعَمِلَ صالِحاً) أي أدّى الفرائض (ثُمَّ اهْتَدى) أي ثم لزم الإيمان إلى أن يموت واستمر عليه وقيل ثم لم يشك في إيمانه عن ابن عباس وقيل ثم أخذ بسنة النّبيّ صلّى الله علي وآله وسلم لم يسلك سبيل البدعة ، عن ابن عباس أيضا والربيع بن أنس ، وقال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت عليهم‌السلام ، فو الله لو أنّ رجلا عبد الله عمره ما بين الركن والمقام ثم مات ولم يجىء بولايتنا لأكبّه الله في النار على وجهه (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) قال ابن إسحاق : كانت المواعدة أن يوافي الميعاد هو وقومه وقيل مع جماعة من وجوه قومه ، وهو متصل بقوله واعدناكم جانب الطور الأيمن ، فتعجل موسى من بينهم شوقا إلى ربه وخلّفهم ليلحقوا به ، فقيل له : (ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) ، أي بأيّ سبب خلّفت قومك وسبقتهم وجئت وحدك (قالَ) موسى في الجواب (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي هؤلاء من ورائي يدركونني عن قريب (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أي سبقتهم إليك حرصا على تعجيل رضاك ، أي لأزداد رضا إلى رضاك (قالَ) الله تعالى (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) أي امتحنّاهم وشددنا عليهم التكليف بما حدث فيهم من أمر العجل (مِنْ بَعْدِكَ) أي من بعد انطلاقك (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أي دعاهم إلى الضلال فقبلوا منه وضلوا عند دعائه (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) أي رجع موسى من الميقات إلى بني إسرائيل شديد الغضب حزينا (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) أي صدقا لإيتاء الكتاب وهو التوراة لتعلموا ما فيه

٤١٨

وتعملوا به فتستحقّوا الثواب (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي مدة مفارقتي إياكم (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ) أي يجب عليكم (غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) بعبادتكم العجل ، والمعنى : أم أردتم أن تصنعوا صنعا يكون سببا لغضب ربكم (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) أي ما وعدتموه لي من حسن الخلافة بعدي ؛ ويبين ذلك قوله (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) وقيل : إن إخلافهم موعده أنه أمرهم اللحاق به فتركوا المسير على أثره للميقات وقيل : هو أنه أمرهم أن يتمسّكوا بطريقة هارون وطاعته ويعملوا بأمره إلى أن يرجع فخالفوه.

٨٧ ـ ٩٦ ـ (قالُوا) أي قال الذين لم يعبدوا العجل (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي ونحن نملك من أمرنا شيئا ، والمعنى : انا لم نطق ردّ عبدة العجل عن عظيم ما ارتكبوه للرهبة لكثرتهم وقلتنا. وجاء في الرواية : ان الذين لم يعبدوا العجل كانوا إثني عشر ألفا ، والذين عبدوا كانوا ستمائة ألف رجل (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) معناه : ولكنا حملنا أثقالا من حلي آل فرعون وهو ما استعاروه من حليهم حين أرادوا السير. وقيل : هو ما ألقاه البحر على الساحل من ذهبهم وفضتم وحليهم بعد اغراقهم فأخذوه وقيل : هو من أثقال الذنوب والآثام أي حملنا آثاما من حلي القوم لأنهم استعاروا حليا من القبط ليتزيّنوا بها في عيد كان لهم ثم لم يردوها عليهم عند الخروج من مصر مخافة أن يعلموا بخروجهم ، فحملوها وكان ذلك ذنبا منهم إذ كانوا مستأمنين فيما بينهم (فَقَذَفْناها) أي ألقيناها في النار لتذوب (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) معناه : فمثل ما ألقينا نحن من هذا الحلي في النار ألقى السامري أيضا فاتبعناه (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً) أي أخرج لهم من ذلك عجلا جسيما (لَهُ خُوارٌ) أي صوت ، وقد ذكرنا صفة العجل في سورة الأعراف (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) أي قال السامري ومن تبعه من السفلة والعوام : هذا العجل معبودكم ومعبود موسى (فَنَسِيَ) أي فنسي السامري أي ترك ما كان عليه من الإيمان الذي بعث الله به موسى. ثم احتج سبحانه عليهم فقال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) أي أفلا يرى بنو إسرائيل أن العجل الذي عبدوه واتخذوه إلها لا يرد عليهم جوابا (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ومن كان بهذه الصفة فإنه لا يصلح للعبادة (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل عود موسى إليهم (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أراد فتنكم السامري به وأضلكم (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي) أي اتبعوني في ما أدعوكم إليه (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) في عبادة الله ولا تتبعوا السامري ولا تطيعوا أمره في عبادة العجل (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) معناه : لا نزال مقيمين على عبادته (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) فننظر أيعبد كما عبدناه أم لا ، فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا ، فلما رجع موسى عليه‌السلام وهو ممتلىء غيظا منهم ومن عبادتهم العجل وسمع الصياح والجلبة إذ كانوا يرقصون حول العجل ويضربون الدفوف والمزامير ، واستقبله هارون فألقى الألواح وأخذ يعاتب هارون (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي هلا تتبعني بمن أقام على إيمانه (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) فيما أمرتك به ، يريد قوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) ، فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم نسبه إلى عصيانه وقيل : ان صورته صورة الإستفهام والمراد به التقرير ، لأن موسى عليه‌السلام كان يعلم أن هارون لا يعصيه في أمره (قالَ) هارون (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) قد فسرناه في سورة الأعراف ، وقيل : كانت العادة جارية في القبض عليهما في ذلك الزمان كما أن العادة في زماننا هذا القبض على اليد والمعانقة وذلك مما تختلف العادة فيه بالأزمنة والأمكنة ، ثم بيّن عليه‌السلام عذره في مقامه معهم فقال : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يعني اني لو فارقتهم أو قاتلتهم لصاروا أحزابا وتفرقوا فرقا ففريق

٤١٩

يلحقون بك معي ، وفريق يقيمون مع السامري على عبادة العجل ، وفريق يتوقفون شاكين في أمره ، مع اني لم آمن ان تركتهم أن يصيروا بالخلاف إلى تسافك الدماء وشدة التصميم والثبات على اتباع السامري ، فإنهم كانوا يمتنعون بعض الإمتناع بمكاني فيهم ، وكنت أوجه إليهم من الإنكار مقدار ما يتحمله الحال وذلك قوله : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ، فاعتذر بما يقبل مثله لأنه وجه واضح من وجوه الرأي وقوله (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) معناه : ولم تحفظ وصيتي ولم تعمل به حين قلت : اخلفني في قومي واصلح ولما ظهرت براءة ساحة هارون اقبل على السامري (قالَ) له (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) أي ما شأنك وما دعاك إلى ما صنعت؟ فكأنّه قال : ما هذا الخطب والأمر العظيم الذي أحدثت وما حملك عليه؟ (قالَ) السامري (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي رأيت ما لم يروه ، وقيل : معناه علمت ما لم يعلموا من البصيرة (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أي قبضت قبضة تراب من أثر قدم جبرائيل (فَنَبَذْتُها) في العجل (وَكَذلِكَ) أي وكما حدّثتك يا موسى (سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي زيّنت لي نفسي من أخذ القبضة وإلقائها في صورة العجل.

٩٧ ـ ١٠٧ ـ ثم حكى سبحانه عن موسى عليه‌السلام (قالَ) للسامري (فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) انه أمر الناس أن لا يخالطوه ولا يجالسوه ولا يؤاكلوه تضييقا عليه ؛ ومعنى لا مساس : لا يمس بعضنا بعضا ، فصار السامري يهيم في البرية مع الوحش والسباع لا يمس أحدا ولا يمسه أحد عاقبه الله تعالى بذلك ، وكان إذا لقي أحدا يقول : لا مساس ، أي لا تقربني ولا تمسّني ، وصار ذلك ، عقوبة له ولولده ، حتى أنّ بقاياهم اليوم يقولون ذلك ، وإنّ مسّ واحد من غيرهم واحدا منهم حمّ كلاهما في الوقت (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) أي وعدا لعذابك ، يعني يوم القيامة لن تخلف ذلك الوعد ولن يتأخر عنك قال الزجاج المعنى يكافيك الله على ما فعلت يوم القيامة (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) معناه : وانظر إلى معبودك الذي ظلت على عبادته مقيما ، يعني العجل (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بالنار (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) أي لنذرينه في البحر قال ابن عباس فحرقه ثم ذراه في البحر وهذا يدل على انه كان حيوانا لحما ودما وقال الصادق عليه‌السلام ان موسى عليه‌السلام همّ بقتل السامري فأوحى الله سبحانه إليه لا تقتله يا موسى فإنه سخي ، ثم أقبل موسى على قومه فقال : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي هو الذي يستحق العبادة (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي يعلم كل شيء علما تاما ، وهي لفظة عجيبة في الفصاحة وفي ذلك دلالة على أن المعدوم يسمى شيئا لكونه معلوما. ثم قال الله لنبيّه صلّى الله علي وآله وسلم (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) أي مثل ما قصصنا عليك يا محمد من نبأ موسى وقومه نقصّ عليك من أخبار ما قد مضى وتقدم من الأمم والأمور (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) يعني القرآن ، لأن فيه ذكر كل ما يحتاج إليه من أمور الدين ، ثم أوعد سبحانه على الإعراض عنه وترك الإيمان به فقال : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) أي حملا ثقيلا من الإثم يشقّ عليه حمله لما فيه من العقوبة كما يشق حمل الثقيل (خالِدِينَ فِيهِ) أي في عذاب ذلك الوزر وجزائه وهو الخلود في النار (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) تقديره ساء الحمل حملا والحمل بمعنى المحمول أي بئس الوزر هذا الوزر لهم يوم القيامة قال الكلبي بئس ما حملوا على أنفسهم من المآثم كفرهم بالقرآن (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) هو بدل من يوم القيامة وقد سبق معناه (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) عميا (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يتسارّون بينهم فيقول المجرمون بعضهم لبعض (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) أي ما لبثتم في الدنيا ،

٤٢٠