الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

(تُرِيدُونَ) بذلك (وَجْهَ اللهِ) أي ثواب الله ورضاه ، ولا تطلبون بها المكافأة (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) هم المضعفون للمال في العاجل ، وللثواب في الآجل ، لأن الله سبحانه جعل الزكاة سببا لزيادة المال ، ومنه الحديث : ما نقص مال من صدقة ، ثم عاد إلى دليل التوحيد فقال : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي أوجدكم وأنشأ خلقكم (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) أي أعطاكم أنواع النعم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد ذلك ليصح إيصالكم إلى ما عرضكم له من الثواب الدائم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ليجازيكم على أفعالكم (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) التي عبدتموها من دونه (مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) أو يقدر عليه ، فيجوز لذلك توجه العبادة إليه. ثم نزّه سبحانه نفسه عن أن يشرك معه في العبادة فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

٤١ ـ ٤٥ ـ ثم ذكر سبحانه ما أصاب الخلق بسبب ترك التوحيد فقال : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ومعناه : ظهر قحط المطر ، وقلة النبات في البر حيث لا يجري نهر وهو البوادي ، والبحر وهو كل قرية على شاطىء نهر عظيم (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) يعني كفار مكة عن ابن عباس وليس المراد بالبر والبحر في الآية كل بر وبحر في الدنيا وإنما المراد به حيث ظهر القحط بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلى هذا يكون التقدير ظهر عقوبة الفساد في البر والبحر قال الفراء : أجدب البر ، وانقطعت مادة البحر بذنوبهم ، وكان ذلك ليذوقوا الشدة في العاجل (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي جزاء بما عمله الناس من الكفر والفسوق وقيل معناه (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي ليصيبهم الله بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوها من المعاصي (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ليرجعوا عنها في المستقبل (قُلْ) يا محمد (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ليس بأمر ولكنه مبالغة في العظة (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) من الملوك العاتية ، والقرون العاصية ، كيف أهلكهم الله ، وكيف صارت قصورهم قبورهم ، ومحاضرهم مقابرهم ، فلم يبق لهم عين ولا أثر. ثم بيّن أنه فعل ذلك بهم لسوء صنيعهم فقال (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) أي استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى الجنة ، أي لا تعدل عنه يمينا ولا شمالا فإنك متى فعلت ذلك أدّاك إلى الجنة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) أي لذلك اليوم وهو يوم القيامة (مِنَ اللهِ) أي لا يردّه أحد من الله (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يتفرّقون فيه ، فريق في الجنة وفريق في السعير (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي عقوبة كفره لا يعاقب أحد بذنبه (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي يوطئون لأنفسهم منازلهم يقال : مهدت لنفسي خيرا أي : هيّأته ووطأته. والمعنى : ان ثواب ذلك يصل إليهم ، ويتمهد أحوالهم الحسنة عند الله ، وروى منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنة فيمهد له كما يمهد لأحدكم خادمه فراشه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي ليجزيهم على قدر استحقاقهم ويزيدهم من فضله وقيل : من فضله يعني فضلا من فضله وثوابا لا ينقطع (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي لا يريد كرامتهم ومنفعتهم ، وإنما يريد عقابهم جزاء على كفرهم.

٤٦ ـ ٥٠ ـ ولمّا وعد الله سبحانه وأوعد فكأن قائلا قال ما أصل ما يجزي الله عليه بالخير فقيل العبادة وأصل عبادة الله معرفته ومعرفته إنما تكون بأفعاله فقال (وَمِنْ آياتِهِ) أي ومن افعاله الدالة على معرفته (أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) بالمطر ، فكأنها ناطقات بالبشارة لما فيها من الدلالة عليه ، وإرسال الرياح : تحريكها وإجراؤها في الجهات المختلفة ، تارة شمالا وتارة جنوبا ، ومرة صبا ، وأخرى دبورا ، على حسب ما يعلم الله في ذلك من المصلحة (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي وليصيبكم من نعمته وهي الغيث وتقديره : أنه يرسل الرياح للبشارة والإذاقة من الرحمة (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) بها (بِأَمْرِهِ

٥٤١

وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ولتطلبوا بركوب السفن الأرباح وقيل : لتطلبوا بالأمطار فيما تزرعونه من فضل الله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة الله. تلطّف سبحانه بلفظ لعلّكم في الدعاء إلى الشكر كما تلطف في الدعاء إلى البرّ بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً). ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسلية له في تكذيب قومه إياه فقال (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات والآيات الباهرات وها هنا حذف تقديره ، فكذّبوهم وجحدوا بآياتنا فاستحقوا العذاب (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي عاقبناهم بتكذيبهم (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) معناه : ودفعنا السوء والعذاب عن المؤمنين ، وكان واجبا علينا نصرهم بإعلاء الحجة ، ودفع الأعداء عنهم إلا أنه دلّ على المحذوف قوله : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ، وجاءت الرواية عن أم الدرداء أنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ما من امرىء مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة ، ثم قرأ : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). ثم قال سبحانه مفسرا لما أجمله في الآية المتقدمة (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) أي فتهيج سحابا فتزعجه (فَيَبْسُطُهُ) الله (فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) إن شاء بسطه مسيرة يوم ، وإن شاء بسطه مسيرة يومين يجريها إلى أيّ جهة شاء ، وإلى أيّ بلد شاء (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي قطعا متفرقة عن قتادة ، وقيل متراكبا بعضه على بعض حتى يغلظ عن الجبائي وقيل : قطعا تغطي ضوء الشمس عن أبي مسلم (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي القطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي من خلال السحاب (فَإِذا أَصابَ بِهِ) أي بذلك الودق (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي يفرحون ويبشر بعضهم بعضا به (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) معناه : وانهم كانوا من قبل إنزال المطر عليهم قانطين آيسين من نزول المطر عن قتادة ، وكرّر كلمة من قبل للتوكيد عن الأخفش وقيل : ان الأول من قبل الإنزال للمطر ، والثاني من قبل الإرسال للرياح (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ) حتى أنبتت شجرا ومرعى (بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد أن كانت مواتا يابسة ، جعل الله سبحانه اليبس والجدوبة بمنزلة الموت ، وظهور النبات فيها بمنزلة الحياة توسعا (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي ان الله تعالى يفعل ما ترون ، وهو الله تعالى ليحيي الموتى في الآخرة بعد كونهم رفاتا (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مرّ بمعناه.

٥١ ـ ٥٥ ـ ثم عاب سبحانه كافر النعمة فقال : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً) مؤذنة بالهلاك باردة (فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) أي فرأوا النبت والزرع الذي كان من أثر رحمة الله مصفرا من البرد بعد الخضرة والنضارة وقيل : ان الهاء يعود إلى السحاب ، ومعناه : فرأوا السحاب مصفرا ، لأنه إذا كان كذلك لم يكن فيه مطر (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي لصاروا من بعد أن كانوا راجين مستبشرين يكفرون بالله وبنعمته ، ولم يرضوا بقضاء الله تعالى فيه ، فعل من جهل صانعه ومدبّره ولا يعلم أنه حكيم لا يفعل إلا الأصلح فيشكر عند النعمة ، ويصبر عند الشدة. ثم قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ) يا محمد (الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) شبّه الكفار في ترك تدبّرهم فيما يدعوهم إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تارة بالأموات ، وتارة بالصم لأنّهم لا ينتفعون بدعاء الداعي فكأنّهم لا يسمعونه (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إذا أعرضوا عن أدلتنا ذاهبين إلى الضلال والفساد ، غير سالكين سبيل الرشاد (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) يعني انهم كالعمي لا

__________________

عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إن القرآن زاجر وآمر ، يأمر بالجنة ، ويزجر عن النار. أصول الكافي : ٢ / ٥٧٥.

٥٤٢

يهتدون بالأدلة ولا تقدر على ردّهم عن العمى إذ لم يطلبوا الإستبصار (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي ليس تسمع الا من يصدّق بآياتنا وأدلّتنا فإنهم المنتفعون بدعائك واسماعك (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) منقادون لأمر الله. ثم عاد سبحانه إلى ذكر الأدلة فقال : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي من نطف وقيل معناه خلقكم أطفالا لا تقدرون على البطش والمشي والتصرفات (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) أي شبابا (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) يعني حال الشيخوخة والكبر (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من ضعف وقوة (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بما فيه مصالح خلقه (الْقَدِيرُ) على فعله ، يفعل بحسب ما يعلمه من المصلحة. ثم بيّن سبحانه حال البعث فقال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي يحلف المشركون (ما لَبِثُوا) في القبور (غَيْرَ ساعَةٍ) واحدة عن الكلبي ومقاتل وقيل : يحلفون ما مكثوا في الدنيا غير ساعة لإستقلالهم مدة الدنيا وقيل : يحلفون ما لبثوا بعد انقطاع عذاب القبر غير ساعة عن الجبائي. ومتى قيل : كيف يحلفون كاذبين مع ان معارفهم في الآخرة ضرورية؟ قيل فيه أقوال (أحدها) انهم حلفوا على الظن ولم يعلموا لبثهم في القبور ، فكأنهم قالوا : ما لبثنا غير ساعة في ظنوننا عن أبي علي وأبي هاشم (وثانيها) انهم استقلوا الدنيا لما عاينوا من أمر الآخرة ، فكأنهم قالوا : ما الدنيا في الآخرة إلا ساعة ، فاستقلوا حيث اشتغلوا في المدة اليسيرة بما أوردهم تلك الأهوال الكثيرة (وثالثها) ان ذلك يجوز أن يقع منهم قبل إكمال عقولهم عن أبي بكر بن الأخشيد (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) في دار الدنيا ، أي يكذبون وقيل : يصرفون ، صرفهم جهلهم عن الحق في الدارين.

٥٦ ـ ٦٠ ـ (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) أي آتاهم الله العلم بما نصب لهم من الأدلة الموجبة له فنظروا فيها فحصل لهم العلم ، فلذلك أضافه إلى نفسه لما كان هو الناصب للأدلة على العلوم والتصديق بالله وبرسوله (لَقَدْ لَبِثْتُمْ) أي مكثتم (فِي كِتابِ اللهِ) ومعناه : ان لبثكم ثابت في كتاب الله ، ثبته الله فيه وهو قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، وهذا كما يقال : إن كل ما يكون فهو في اللوح المحفوظ ، أي هو مثبت فيه والمراد : لقد لبثتم في قبوركم (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) وقيل : (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) هم الملائكة وقيل : هم الأنبياء ، وقيل : هم المؤمنون وقال الزجاج : (فِي كِتابِ اللهِ) : أي في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم تنكرونه في الدنيا (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وقوعه في الدنيا فلم ينفعكم العلم به الآن ؛ ويدلّ على هذا المعنى قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر (مَعْذِرَتُهُمْ) فلا يمكنون من الإعتذار ، ولو اعتذروا لم يقبل عذرهم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم الإعتاب والرجوع إلى الحق (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي بالغنا في البيان للمكلفين في هذا القرآن الذي أنزلناه على نبيّنا من كل مثل يدعوهم إلى التوحيد والإيمان (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) أي معجزة باهرة مما اقترحوها منك (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي أصحاب أباطيل. وهذا إخبار عن عناد القوم وتكذيبهم بالآيات (كَذلِكَ) أي مثل ما طبع الله على قلوب هؤلاء (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) توحيد الله. والطبع والختم مفسّران في سورة البقرة (فَاصْبِرْ) يا محمد على أذى هؤلاء الكفار وإصرارهم على كفرهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) بالعذاب والتنكيل لأعدائك ، والنصر والتأييد لك ولدينك (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) أي لا يستفزنك (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) بالبعث والحساب ، فهم ضالون شاكّون وقيل : لا يستخفنّك أي لا يحملنّك كفر هؤلاء على الخفة والعجلة لشدة الغضب عليهم لكفرهم بآياتك فتفعل خلاف ما أمرت به من الصبر والرفق عن الجبائي.

٥٤٣

سورة لقمان

مكية وعدد آياتها أربع وثلاثون آية

١ ـ ١٠ ـ (الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) تقدّم تفسيره (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) أي بيان ودلالة ونعمة للمطيعين وقيل للموحّدين. وقيل : للذين يحسنون العمل.

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يؤدّونها بحدودها وفرائضها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) يعطون ما فرض الله عليهم في أموالهم (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالدار الآخرة ؛ وإنّما وصفت بالآخرة لتأخرها عن الدنيا ، كما سميت الدنيا لدنوها من الخلق ، وقيل لدناءتها (هُمْ يُوقِنُونَ) يعلمون ؛ وسمّي العلم يقينا لحصول القطع عليه ، وسكون النفس إليه لما وصفت المتقين بهذه الصفات بيّن ما لهم عند الله تعالى فقال : (أُولئِكَ) اشارة إلى الموصوفين بجميع الصفات المتقدمة وهم جملة المؤمنين (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) على دلالة وبيان من ربّهم ، وإنّما قال من ربّهم لأنّ كل خير وهدى فمن الله تعالى ، إمّا لأنه فعله ، وإما لأنه عرض له بالدلالة عليه ، والدعاء إليه ، والإثابة على فعله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الظافرون بالبغية ، والباقون في الجنّة. ثم وصف الذين حالهم تخالف حال هؤلاء فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) أي باطل الحديث ، وأكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء ، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن الرضا عليهم‌السلام ، قالوا منه الغناء وروي أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : هو الطعن بالحق والإستهزاء به وما كان أبو جهل وأصحابه يجيئون به إذ قال : يا معشر قريش ألا أطعمكم من الزقوم الذي يخوّفكم به صاحبكم ، ثم أرسل إلي زبد وتمر فقال : هذا هو الزقوم الذي يخوّفكم به قال : ومنه الغناء ، فعلى هذا فإنه يدخل فيه كل شيء يلهي عن سبيل الله وعن طاعته من الأباطيل والمزامير والملاهي والمعازف ، ويدخل فيه السخرية بالقرآن ، واللغو فيه كما قاله أبو مسلم ، والترهات والبسابس على ما قاله عطا ، وكل لهو ولعب على ما قاله قتادة ، والأحاديث الكاذبة ، والأساطير الملهية عن القرآن على ما قاله الكلبي وروى الواحدي بالإسناد عن نافع عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال : باللعب والباطل كثير النفقة سمح فيه ، ولا تطيب نفسه بدرهم يتصدق به وروي أيضا بالإسناد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيين يوم القيامة قيل : وما الروحانيون يا رسول الله؟ قال : قراء أهل الجنة (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي ليضلّ غيره ، ومن أضلّ غيره فقد ضلّ هو ومن قرأ بفتح الياء ، فالمعنى ليصير أمره إلى الضلال وهو ان لم يكن يشتري للضلال فإنه يصير أمره إلى ذلك قال قتادة : يحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق ، وسبيل الله : قراءة القرآن وذكر الله ، عن ابن عباس (بِغَيْرِ عِلْمٍ) معناه : أنه جاهل فيما يفعله لا يفعل عن علم (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) أي ويتخذ آيات القرآن هزوا (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي مضلّ يهينهم الله به (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي وإذا قرىء عليه القرآن (وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي أعرض عن سماعه اعراض من لا يسمعه (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي كأنّ في مسامعه ثقلا يمنعه عن سماع تلك الآيات (فَبَشِّرْهُ) يا محمد (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي مؤلم موجع في القيامة. ثم أخبر سبحانه عن صفة المؤمنين المصدقين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) يوم القيامة يتنعمون فيها (خالِدِينَ فِيها) أي مؤبّدين في تلك الجنات (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعدا وعده الله

٥٤٤

حقا لا خلف له (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه (الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله وأحكامه ، لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة. ثم أخبر سبحانه عن أفعاله الدالة على توحيده فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ) أي أنشأها واخترعها (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) إذ لو كان لها عمد لرأيتموها ، لأنها لو كانت تكون أجساما عظاما حتى يصح منها أن تقلّ السماوات ، ولو كانت كذلك لاحتاجت إلى عمد آخر فكان يتسلسل فإذا لا عمد لها ، وقيل : إن المراد بغير عمد مرثية ، والمعنى : أنّ لها عمدا فلا ترونها ، عن مجاهد ، والصحيح الأول (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثابتة (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) لئلا تميد بكم (وَبَثَّ فِيها) أي فرّق فيها أي في الأرض (مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) تدبّ على وجهها من أنواع الحيوانات (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) أي غيثا وجهها من أنواع الحيوانات (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) أي غيثا ومطرا (فَأَنْبَتْنا فِيها) أي في الأرض بذلك الماء (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي صنف (كَرِيمٍ) أي حسن النبتة ، طيب الثمرة.

١١ ـ ١٥ ـ ثم أشار سبحانه إلى ما تقدّم ذكره فقال (هذا خَلْقُ اللهِ) أي هذا الذي ذكرت من السماوات على عظمها وكبر حجمها ، والأرض وما فيها خلق الله الذي أوجده وأحدثه (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني آلهتهم التي يعبدونها (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) المعنى : انهم لا يجدون لهذا الكلام جوابا ، ولا يمكنهم أن يشيروا إلى شيء هو خلق آلهتهم ، فلم يحملهم على عبادتهم خلقها لشيء ولكنهم في عدول ظاهر عن الحق. ولما ذكر سبحانه الأدلة الدالة على توحيده وقدرته وحكمته ، بيّن عقيب ذلك قصة لقمان ، وأنه أعطاه الحكمة فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) أي أعطيناه العقل والعلم والعمل به ، والإصابة في الأمور. كان حكيما ولم يكن نبيا ، وكان عبدا ، قال له بعض الناس : ألست كنت ترعى معنا؟ فقال : نعم ، قال : فمن أين أوتيت ما أرى؟ قال قدر الله ، وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، والصمت عما لا يعنيني وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن لقمان نبيّا ، ولكن كان عبدا كثير التفكر ، حسن اليقين ، أحب الله فأحبه ، ومنّ عليه بالحكمة (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) معناه : وقلنا له اشكر الله تعالى على ما أعطاك من الحكمة (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي من يشكر نعمة الله ونعمة من أنعم عليه فإنه إنما يشكر لنفسه ، لأن ثواب شكره عائد عليه ، ويستحق مزيد النعمة والزيادة الحاصلة بالشكر تكون له (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن شكر الشاكرين (حَمِيدٌ) أي محمود على أفعاله وقيل مستحمد إلى خلقه بالانعام عليهم والشكر لا يكون إلا على نعمة سبقت فهو يقتضي منعما ، فعلى هذا لا يصح أن يشكر الإنسان نفسه كما لا يصح أن يكون منعما على نفسه (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) معناه : واذكر يا محمد إذ قال لقمان لابنه (وَهُوَ يَعِظُهُ) أي يؤدّبه ويذكره ، أي في حال ما يعظه (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) أي لا تعدل بالله شيئا في العبادة (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أصل الظلم النقصان ومنع الواجب ، فمن أشرك بالله فقد منع ما وجب لله عليه من معرفة التوحيد فكان ظالما (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) لما قدّم الأمر بشكر النعمة أتبعه بالتنبيه على وجوب الشكر لكل منعم ، فبدأ بالوالدين ، أي أمرناه بطاعة الوالدين وشكرهما والإحسان إليهما ؛ وإنما قرن شكرهما بشكره لأنه الخالق المنشىء ، وهما السبب في الإنشاء والتربية. ثم بيّن سبحانه زيادة نعمة الأم فقال : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) معناه : ضعفا على ضعف ، عن الضحّاك والحسن ، يعني ضعف نطفة الوالد على ضعف نطفة الأم عن أبي مسلم وقيل لأن العامين جملة مدة الرضاع ، لأن الحمل يؤثر فيها ، فكلما إزداد الحمل ازدادت ضعفا على ضعف ، لأنها ضعيفة الخلقة فازدادت ضعفا بالحمل ، وقيل : وهنا على وهن : أي شدّة على شدّة ، وجهدا على جهد ، عن ابن عباس وقتادة (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي

٥٤٥

وفطامه من الرضاع في انقضاء عامين ، والمراد انها بعد ما تلده ترضعه عامين وتربيه ، فتلحقها المشقة بذلك أيضا (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) هذا تفسير قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) ، أي وصيناه بشكرنا وشكر والديه ، فشكر الله سبحانه بالحمد والطاعة ، وشكر الوالدين بالبر والصلة (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي إليّ مرجعكم فأجازيكم على حسب أعمالكم (وَإِنْ جاهَداكَ) أيها الإنسان ، أي جاهداك والداك (عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي) معبودا آخر فلا تطعهما وهو قوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) لأن ما يكون حقا تعلم صحته ، فما لا تعلم صحته فهو باطل ، فكأنه قال : فإن دعواك إلى باطل (فَلا تُطِعْهُما) في ذلك (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي وأحسن إليهما ، وأرفق بهما في الأمور الدنيوية وإن وجبت مخالفتهما في أبواب الدين لمكان كفرهما (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) أي واسلك طريقة من رجع إلى طاعتي ، وأقبل إليّ بقلبه ، وهو النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون (ثُمَّ إِلَيَ) أي إلى حكمي (مَرْجِعُكُمْ) ومنقلبكم (فَأُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في دار الدنيا من الأعمال ، وأجازيكم عليها بحسبها.

١٦ ـ ٢٠ ـ ثم عاد سبحانه إلى الإخبار عن لقمان ووصيته لابنه وأنه قال له : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) معناه : ان فعلة الإنسان من خير أو شر إن كانت مقدار حبة خردل في الوزن (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) أي فتكن تلك الحبة في جبل ، والمعنى : في صخرة عظيمة ، لأن الحبة فيها أخفى وأبعد من الإستخراج (أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي يحضرها الله يوم القيامة ويجازي عليها ، أي يأت بجزاء ما وازنها من خير أو شرّ ، وقيل معناه : يعلمها الله فيأتي بها فهو مثل قوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). وروى العياشي بالإسناد عن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : اتقوا المحقرات من الذنوب فإن لها طالبا ، لا يقولن أحدكم أذنب واستغفر الله ، إن الله تعالى يقول : (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) الآية (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) باستخراجها (خَبِيرٌ) بمستقرها عن قتادة وقيل : اللطيف : العالم بالأمور الخفية ، والخبير العالم بالأشياء كلها (يا بُنَيَ) إنما صغّر اسمه في هذه المواضيع للرقة والشفقة لا للتحقير (أَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدّ الصلاة المفروضة في ميقاتها بشروطها (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) وهو الطاعة (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو كل معصية وقبيح سواء كان من القبائح العقلية أو الشرعية ، فإن المعروف ما يدعو إليه العقل والشرع ، والمنكر ما يزجر عنه العقل والشرع (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من المشقة والأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن عليّ عليه‌السلام (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) معناه : ان ذلك من الأمور التي يجب الثبات والدوام عليها (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي ولا تمل وجهك من الناس تكبّرا ، ولا تعرض عمن يكلّمك استخفافا به (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي بطرا وخيلاء (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي كل متكبر فخور على الناس (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي كل متكبر فخور على الناس (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي اجعل في مشيك قصدا مستويا على وجه السكون والوقار كقوله : (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي انقص من صوتك إذا دعوت وناجيت ربّك (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) أي أقبح الأصوات صوت الحمير ، أوله زفير ، وآخره شهيق. أمر لقمان ابنه بالإقتصاد في المشي والنطق. ثم ذكر سبحانه نعمه على خلقه ، ونبّههم على معرفتها فقال (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) من الشمس والقمر والنجوم (وَما فِي الْأَرْضِ) من الحيوان والنبات وغير ذلك مما تنتفعون به ، وتتصرفون فيه بحسب ما تريدون (وَأَسْبَغَ

٥٤٦

عَلَيْكُمْ) أي أوسع عليكم ، وأتمّ (نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) فالظاهرة : ما لا يمكنكم جحده من خلقكم وإحيائكم وإقداركم ، وخلق الشهوة فيكم وغيرها من ضروب النعم ، والباطنة : ما لا يعرفها إلّا من أمعن النظر فيها وقيل : الباطنة مصالح الدين والدنيا مما يعلمه الله وغاب عن العباد علمه ؛ عن ابن عباس وفي رواية الضحاك عنه قال سألت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا ابن عباس أما ما ظهر فالإسلام ، وما سوى الله من خلقك ، وما أفاض عليك من الرزق ، وأما ما بطن فستر مساوىء عملك ولم يفضحك به ، يا ابن عباس ان الله تعالى يقول : ثلاثة جعلتهن للمؤمن ولم تكن له : صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله ، وجعلت له ثلث ماله أكفّر به عنه خطاياه ، والثالث سترت مساوىء عمله ولم أفضحه بشيء منه ، ولو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم ، وقيل : الظاهرة : تخفيف الشرائع ، والباطنة : الشفاعة ، عن عطا ، وقيل الظاهرة : نعم الدنيا ، والباطنة : نعم الآخرة ، وقيل : الظاهرة : ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ، والباطنة : الامداد بالملائكة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) أي يخاصم (فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) بما يقوله (وَلا هُدىً) أي ولا دلالة وحجة (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي ولا كتاب من عند الله ظاهر واضح ، وقد مضى هذا مفسّرا في سورة الحج.

٢١ ـ ٢٥ ـ لما أخبر سبحانه عمن جادل في الله بغير علم ولم يذكر النعمة ، زاد عقيبه في ذمّهم فقال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن وشرائع الإسلام (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ذمّهم على التقليد ، ثم قال منكرا عليهم (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) إلى تقليد آبائهم ، واتباع ما يدعوهم (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) إلى تقليد آبائهم ، واتباع ما يدعوهم (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) والمعنى : ان الشيطان يدعوهم إلى تقليد آبائهم ، وترك اتباع ما جاءت به الرسل وذلك موجب لهم عذاب النار ، فهو في الحقيقة يدعوهم إلى النار ثم قال : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) أي ومن يخلص دينه لله ، ويقصد في أفعاله التقرب إليه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) فيها فيفعلها على موجب العلم ، ومقتضى الشرع وقيل : ان اسلام الوجه إلى الله تعالى هو الإنقياد لله تعالى في أوامره ونواهيه وذلك يتضمن العلم والعمل (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي فقد تعلق بالعروة الوثيقة التي لا يخشى انفصامها والوثقى تأنيث الأوثق (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي وعند الله ثواب ما صنع عن مجاهد والمعنى : وإلى الله ترجع أواخر الأمور على وجه لا يكون لأحد التصرف فيها بالأمر والنهي (وَمَنْ كَفَرَ) من هؤلاء الناس (فَلا يَحْزُنْكَ) يا محمد (كُفْرُهُ) أي لا يغمّك ذلك (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي نخبرهم بأعمالهم ، ونجازيهم بسوء أفعالهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما تضمره الصدور لا يخفى عليه شيء منه (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) أي نعطيهم من متاع الدنيا ونعيمها ما يتمتعون به مدة قليلة (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) في الآخرة (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي ثم نصيرهم مكرهين إلى عذاب يغلظ عليهم ويصعب (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَ) في جواب ذلك (اللهُ) خلقهما (قُلِ) يا محمد أو أيها السامع (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على هدايته لنا ، وتوفيقه إيانا لمعرفته وقيل معناه اشكر الله على دين يقرّ لك خصمك بصحته لوضوح دلالته. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما عليهم من الحجّة.

٢٦ ـ ٣٠ ـ ثم أكّد سبحانه ما تقدّم من خلقه السماوات والأرض بقوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له جميع ذلك خلقا وملكا يتصرف فيه كما يريده ، ليس لأحد الإعتراض عليه في ذلك (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن حمد الحامدين وعن كل

٥٤٧

شيء (الْحَمِيدُ) أي المستحق للحمد والتعظيم (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي لو كان شجر الأرض أقلاما ، وكان البحر مدادا ، ويمده سبعة أبحر مثله ، أي تزيده بمائها فكتب بتلك الأقلام والبحور لتكسرت تلك الأقلام ، ونفد ماء البحور وما نفدت كلمات الله. والأولى أن يكون عبارة عن مقدوراته ومعلوماته لأنها إذا كانت لا تتناهى فكذلك الكلمات التي تقع عبارة عنها لا تتناهى (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) في اقتداره على جميع ذلك (حَكِيمٌ) يفعل من ذلك ما يليق بحكمته ثم قال (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) يا معشر الخلائق (إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي كخلق نفس واحدة ، وبعث نفس واحدة في قدرته ، فإنه لا يشق عليه ابتداء جميع الخلق ولا إعادتهم بعد إفنائهم. قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا : إن الله خلقنا أطوارا : نطفة علقة مضغة ، لحما فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة؟ فنزلت الآية (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع ما يقوله القائلون في ذلك (بَصِيرٌ) بما يضمرونه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي ينقص من الليل في النهار ، ومن النهار في الليل (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لأنهما يجريان على وتيرة واحدة لا يختلفان (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قدّره الله تعالى (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) الذي يجب توجيه العبادة إليه (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي القادر القاهر.

٣١ ـ ٣٤ ـ ثم أكّد سبحانه ما تقدّم من الأدلة على وحدانيته ونعمه على بريته فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) أي ألم تعلم أيها الإنسان أن السفن تجري في البحر بنعمة الله عليكم (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي بعض أدلته الدالة على وحدانيته ؛ ووجه الدلالة من ذلك : أن الله تعالى يجري السفن بالرياح التي يرسلها في الوجوه التي يريدون المسير فيها ، ولو اجتمع جميع الخلق ليجروا الفلك في بعض الجهات المخالفة لجهة الرياح لما قدروا عليه ، وفي ذلك أعظم دلالة على أن المجري لها بالرياح هو القادر الذي لا يعجزه شيء ، فذلك بعض الأدلة الدالة عليه ، فلذلك قال : من آياته (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في تسخير الفلك وإجرائها على البحر ، وإجراء الريح على وفقها (لَآياتٍ) أي دلالات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على مشاق التكليف (شَكُورٍ) لنعم الله تعالى عليه ، وإنما قال ذلك ليدلّ على ان الصبر على بلائه ، والشكر لنعمائه أفضل الطاعات (وَإِذا غَشِيَهُمْ) أي إذا غشي أصحاب السفن الراكبي البحر (مَوْجٌ) وهو هيجان البحر (كَالظُّلَلِ) في ارتفاعه وتغطيته ما تحته ، شبّه الموج بالسحاب الذي يركب بعضه على بعض عن قتادة ؛ وقيل : كالجبال ، عن مقاتل (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي إن خافوا الغرق والهلاك فاخلصوا في الدعاء لله في هذه الحال (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ) أي خلّصهم (إِلَى الْبَرِّ) وسلّمهم من هول البحر (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي عدل في الوفاء في البرّ بما عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له. قيل : إن هذا كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل ، ركب البحر فأصابتهم ريح عاصفة فقال

__________________

قال امير المؤمنين عليه‌السلام : فبعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته ، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته ، بقرآن قد بيّنه وأحكمه ، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه ، وليقرّوا به إذ جحدوه ، وليثبتوه بعد اذ أنكروه ؛ فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته ، وخوّفهم من سطوته ، وكيف محق من محق بالمثلات نهج البلاغة خطبة : ١٤٣ (محق بالمثلات : أهلكهم بالعقوبات)

٥٤٨

أهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا ، فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر الّا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره ، اللهم إن لك عليّ عهدا ان أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أضع يدي في يده ، فلأجدنه عفوّا كريما ، فجاء فأسلم. وقيل : فمنهم مقتصد معناه : على طريقة مستقيمة وصلاح من الأمر عن ابن زيد وقيل : ثابت على إيمانه عن الحسن وقيل : موف بعهده في البر ، عن ابن عباس وقيل : مقتصد في قوله مضمر لكفره عن مجاهد. ثم ذكر الذين تركوا التوحيد في البر فقال : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) بعهده ، أي غادر أسوأ الغدر وأقبحه (كَفُورٍ) لله في نعمه. ثم خاطب سبحانه جميع المكلفين فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) يعني يوم القيامة لا يغني فيه أحد عن أحد ، لا والد عن ولده (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) كل امرىء تهمّه نفسه (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والجزاء ، والثواب والعقاب (حَقٌ) لا خلف فيه (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي لا يغرنكم الإمهال عن الإنتقام ، والآمال والأموال عن الإسلام ، ومعناه : لا تغترّوا بطول السلامة ، وكثرة النعمة ، فإنهما عن قريب إلى زوال وانتقال (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وهو الشيطان عن مجاهد وقتادة والضحاك وقيل : هو تمنّيك المغفرة في عمل المعصية ، عن سعيد بن جبير ، وقيل : كل شيء غرّك حتى تعصي الله وتترك ما أمرك الله به فهو غرور ، شيطانا كان أو غيره عن أبي عبيدة : وفي الحديث : الكيّس : من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والفاجر من اتبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي استأثر سبحانه به ولم يطلع عليه أحد من خلقه ، فلا يعلم وقت قيام الساعة سواه (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) فيما يشاء من زمان أو مكان ، والصحيح ان معناه : ويعلم نزول الغيث في مكانه وزمانه كما جاء في الحديث : ان مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ، وقرأ هذه الآية (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أي ويعلم ما في أرحام الحوامل أذكر أم أنثى ، أصحيح أم سقيم ، واحد أو أكثر (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) أي ماذا تعمل في المستقبل وقيل : ما يعلم بقاءه غدا فكيف يعلم تصرفه (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي في أيّ أرض يكون موته وقيل انه إذا رفع خطوة لم يدر أنه يموت قبل أن يضع الخطوة أم لا وإنما قال بأيّ أرض لأنه أراد بالأرض المكان ولو قال بأيّة أرض لجاز وروي أن ذلك قراءة أبي وقد روي عن أئمة الهدى عليهم‌السلام أن هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل والتحقيق غيره تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بهذه الأشياء (خَبِيرٌ) بها

سورة السجدة

مكية وعدد آياتها ثلاث وعشرون آية

١ ـ ٥ ـ (الم) مفسّر في أول البقرة (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي هذه الآيات تنزيل الكتاب الذي وعدتم به (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك فيه أنه وحي (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) والمعنى : أنه لا ريب فيه للمهتدين وإن كان قد ارتاب فيه خلق من المبطلين لا يعتدّ بهم لأنه ليس بموضع الشك وقيل معناه : انه زال الشك

__________________

قال الإمام الصّادق عليه‌السلام : إنّ البيت إذا كان فيه المرء المسلم يتلو القرآن يتراءاه أهل السماء كما يتراءى أهل الدنيا الكوكب الدري في السماء. أصول الكافي : ٢ / ٦١٠.

٥٤٩

في أنه كلام رب العزة لعجزهم عن الإتيان بمثله وقيل ان لفظه الخبر ومعناه النهي أي لا ترتابوا فيه والريب أقبح الشك (أَمْ يَقُولُونَ) أي بل يقولون (افْتَراهُ) وليس الأمر على ما يقولون (بَلْ هُوَ الْحَقُ) نزل عليك (مِنْ رَبِّكَ) والحق هو كل شيء من اعتقده كان معتقده على ما هو به ما يدعو العقل إلى استحقاق المدح عليه وتعظيمه ، فالكتاب حقّ لأن من اعتقد أنه من عند الله كان معتقده على ما هو به والباطل نقيض الحق (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) يعني قريشا إذ لم يأتهم نبيّ قبل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن أتى غيرهم من قبائل العرب مثل خالد بن سنان العبسي وقيل : يعني أهل الفترة بين عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانوا كأنّهم في غفلة عما لزمهم من حق نعم الله ، وما خلقهم له من العبادة عن ابن عباس (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي ليهتدوا ، ثم ذكر سبحانه الدلالة على وحدانيته فقال : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي فيما قدّره ستة أيام ، لأن قبل الشمس لم يكن ليل ولا نهار (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) بالقهر والإستعلاء ، وهو مفسر في سورة الأعراف (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي ليس لكم من دون عذابه وليّ ، أي قريب ينفعكم ويردّ عذابه عنكم ، ولا شفيع يشفع لكم (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتفكرون فيما قلناه وتعتبرون به ، فتعلموا صحة ما بيّناه لكم (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) أي خلقهما وما بينهما في هذه المدة يدبّر الأمور كلها ويقدّرها على حسب إرادته فيما بين السماء والأرض ، وينزله مع الملك إلى الأرض (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) الملك ، أي يصعد إلى المكان الذي أمره الله تعالى أن يصعد إليه (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي يوم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة مما يعدّه البشر ، خمس مائة عام نزوله ، وخمس مائة عام صعوده ومعناه : أنه ينزل الملك بالتدبير أو الوحي ، ويصعد إلى السماء فيقطع في يوم واحد من أيام الدنيا مسافة ألف سنة مما تعدّونه أنتم ، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام لابن آدم.

٦ ـ ١٠ ـ ثم أكّد سبحانه ما تقدّم من دلائل وحدانيته ، واعلام ربوبيته فقال : (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي الذي يفعل ذلك ويقدر عليه هو العالم بما يشاهد وما لا يشاهد ، وبما غاب عن الخلق وما حضر (الْعَزِيزُ) المنيع في ملكه (الرَّحِيمُ) بأهل طاعته (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي أحكم كل شيء خلقه وأتقنه وقيل : الذي جعل كل شيء في خلقه حسنا حتى جعل الكلب في خلقه حسنا عن ابن عباس والمعنى : انه أحسن خلقه من جهة الحكمة فكل شيء خلقه وأوجده فيه وجه من وجوه الحكمة (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) أي ابتدأ خلق آدم الذي هو أول البشر من طين (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي نسل الإنسان الذي هو آدم يعني ولده (مِنْ سُلالَةٍ) وهي الصفوة التي تنسل من غيرها ، ويسمى ماء الرجل سلالة لانسلاله من صلبه (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ضعيف (ثُمَّ سَوَّاهُ) أي جعله بشرا سويّا ، وعدله ورتّب جوارحه (وَنَفَخَ فِيهِ) أي في ذلك المخلوق (مِنْ رُوحِهِ) أضاف الروح إلى نفسه إضافة اختصاص وملك على وجه التشريف. ثم قال سبحانه مخاطبا لذريته (وَجَعَلَ لَكُمُ) أيها الخلق (السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) لتسمعوا المسموعات ، وتبصروا المبصرات (وَالْأَفْئِدَةَ) أي وجعل لكم القلوب لتعقلوا بها (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) تقديره : قليلا شكركم لهذه النعم (وَقالُوا) يعني منكري البعث (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي غبنا في الأرض وصرنا ترابا (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي نبعث ونحيى؟ فهو استفهام معناه الإنكار والمعنى : كيف نخلق جديدا ونعاد بعد أن هلكنا وتفرّقت أجسامنا. ثم قال سبحانه (بَلْ هُمْ) أي هؤلاء الكفار (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي ما وعد ربهم به من الثواب والعقاب (كافِرُونَ) أي جاحدون.

٥٥٠

١١ ـ ١٥ ـ (قُلْ) يا محمد للمكلّفين (يَتَوَفَّاكُمْ) أي يقبض أرواحكم أجمعين (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي وكل بقبض أرواحكم عن ابن عباس قال : جعلت الدنيا بين يدي ملك الموت مثل جام يأخذ منها ما شاء إذا قضى عليه الموت من غير عناء ، وخطوته ما بين المشرق والمغرب وقيل : ان له أعوانا كثيرة من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ويدل عليه قوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) وقوله : (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي إلى جزاء ربكم من الثواب والعقاب تردون ، وجعل ذلك رجوعا إليه تفخيما للأمر ، وتعظيما للحال. ثم أخبر سبحانه عن حالهم في القيامة وعند الحساب فقال : (وَلَوْ تَرى) يا محمد ، أو أيها الإنسان (إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) أي يوم القيامة حين يكون المجرمون متطأطئى رؤوسهم ومطرقيها حياء وندما وذلا (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي عند ما يتولى الله سبحانه حساب خلقه يقولون (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي أبصرنا الرشد ، وسمعنا الحق (فَارْجِعْنا) أي فارددنا إلى دار التكليف (نَعْمَلْ صالِحاً) من الصالحات (إِنَّا مُوقِنُونَ) اليوم لا نرتاب شيئا من الحق والرسالة. ثم قال سبحانه (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) بأن نفعل أمرا من الأمور يلجئهم إلى الإقرار بالتوحيد ، ولكن ذلك يبطل الغرض بالتكليف لأن المقصود به استحقاق الثواب ، والإلجاء لا يثبت معه استحقاق الثواب (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي الخبر والوعيد (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي من كلا الصنفين بكفرهم بالله سبحانه ، وجحدهم وحدانيته ، وكفرانهم نعمته ، والقول من الله سبحانه بمنزلة القسم فلذلك أتى بجواب القسم وهو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي بما فعلتم فعل من نسي لقاء جزاء هذا اليوم فتركتم ما أمركم الله به وعصيتموه ؛ والنسيان الترك (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي فعلنا معكم فعل من نسيكم من ثوابه أي ترككم من نعيمه جزاء على ترككم طاعتنا (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) الذي لا فناء له (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي. ثم أخبر سبحانه عن حال المؤمنين فقال : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) أي يصدّق بالقرآن وسائر حججنا (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) تذكروا واتعظوا بمواعظها بأن (خَرُّوا سُجَّداً) أي ساجدين شكرا لله سبحانه على أن هداهم بمعرفته ، وأنعم عليهم بفنون نعمته (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي نزّهوه عما لا يليق به من الصفات ، وعظّموه وحمدوه (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته ، ولا يستنكفون من طاعته ، ولا يأنفون أن يعفروا وجوههم صاغرين له.

١٦ ـ ٢٠ ـ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) أي ترتفع جنوبهم عن مواضع اضطجاعهم لصلاة الليل ، وهم المتهجّدون بالليل ، الذين يقومون عن فرشهم للصلاة. وعن بلال قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليكم بقيام الليل ، فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وإن قيام الليل قربة إلى الله ، ومنهاة عن الإثم ، وتكفير للسيئات ، ومطردة الداء عن الجسد (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً) من عذاب الله (وَطَمَعاً) في رحمة الله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في طاعة الله وسبيل ثوابه ووجه المدح في هذه الآية أن هؤلاء المؤمنين يقطعهم اشتغالهم بالصلاة والدعاء عن طيب المضجع لانقطاعهم إلى الله تعالى ، فآمالهم مصروفة إليه ، واتكالهم في كل الأمور عليه. ثم ذكر سبحانه جزاءهم فقال (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أي لا يعلم أحد ما خبىء لهؤلاء الذين ذكروا مما تقرّبه أعينهم (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الطاعات في دار الدنيا (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) هذا استفهام يراد به التقرير ، أي أيكون من هو مصدّق بالله على الحقيقة ، عارفا بالله وبأنبيائه ، عاملا بما أوجبه الله عليه وندبه إليه ، مثل من هو فاسق خارج عن طاعة الله ، مرتكب لمعاصي الله. ثم قال (لا يَسْتَوُونَ) لأن منزلة المؤمن درجات

٥٥١

الجنان ، ومنزلة الفاسق دركات النيران. ثم فسّر ذلك بقوله (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) يأوون إليها (نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي عطاء بما كانوا يعملون ، عن الحسن ، وقيل : ينزلهم الله فيها نزلا كما ينزل الضيف ، يعني انهم كانوا في حكم الاضياف (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ) الذي يأوون إليه (النَّارُ) نعوذ بالله منها (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي كلما همّوا بالخروج منها لما يلحقهم من ألم العذاب (أُعِيدُوا) أي ردّوا (فِيها) وقد مرّ بيانه في سورة الحج (وَقِيلَ لَهُمْ) مع ذلك (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي لا تصدقون به وتجحدونه. الآيات نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والوليد بن عقبة ، فالمؤمن عليّ والفاسق الوليد ؛ وذلك أنه قال لعليّ عليه‌السلام : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا ، فقال عليّ عليه‌السلام : ليس كما تقول يا فاسق. قال قتادة : لا والله ما استووا لا في الدنيا ، ولا عند الموت ، ولا في الآخرة.

٢١ ـ ٢٥ ـ ثم أقسم سبحانه في هذه الآية فقال (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أما العذاب الأكبر فهو عذاب جهنّم في الآخرة ، وأما العذاب الأدنى ففي الدنيا واختلف فيه فقيل : انه المصائب والمحن في الأنفس والأموال عن أبيّ بن كعب وابن عباس وأبي العالية والحسن وقيل : هو القتل يوم بدر بالسيف عن ابن مسعود وقتادة والسدي وقيل : هو ما ابتلوا به من الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف والكلاب عن مقاتل وقيل : هو الحدود عن عكرمة وابن عباس وقيل : هو عذاب القبر عن مجاهد ، وروي أيضا عن أبي عبد الله (ع) (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ليرجعوا إلى الحق ، ويتوبوا من الكفر وقيل : ليرجع الآخرون عن أن يذنبوا مثل ذنوبهم (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) أي لا أحد أظلم لنفسه ممن نبّه على حجج الله التي توصله إلى معرفته ومعرفة ثوابه (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) جانبا ولم ينظر فيها (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الذين يعصون الله تعالى بقطع طاعاته وتركها (مُنْتَقِمُونَ) بأن نحلّ العقاب بهم (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) أي في شكّ من لقائه ، أي من لقائك موسى ليلة الإسراء بك إلى السماء عن ابن عباس ؛ وقد ورد في الحديث أنه قال : رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى بن مريم رجلا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس ، فعلى هذا فقد وعد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه سيلقى موسى قبل أن يموت ، وبه قال مجاهد. وقيل معناه : فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقي موسى الأذى عن الحسن ، فكأنه قال فلا تك في مرية من أن تلقى كما لقي موسى (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي وجعلنا موسى هاديا لهم عن قتادة وقيل : وجعلنا الكتاب هاديا لهم عن الحسن (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي وجعلنا منهم رؤساء في الخير يقتدى بهم ، يهدون إلى أفعال الخير بإذن الله عن قتادة وقيل : هم الأنبياء الذين كانوا فيهم يدلّون الناس على الطريق المستقيم بأمر الله (لَمَّا صَبَرُوا) أي لما صبروا وجعلوا أئمة (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) لا يشكّون فيها (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يحكم بين المؤمن والكافر والفاسق (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من التصديق برسل الله ، والإيمان بالبعث والنشور ، وغير ذلك من أعمالهم وأمور دينهم.

٢٦ ـ ٣٠ ـ (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) أي أو لم يبصرهم ويبين لهم (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) الماضية جزاء على كفرهم بالله ، وارتكابهم لمعاصيه (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) معناه : أنا أهلكناهم بغتة وهم مشاغيل بنفوسهم ، يمشون في

٥٥٢

منازلهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي في إهلاكنا لهم دلالات واضحات على الحق (أَفَلا يَسْمَعُونَ) أي أفلا يسمع هؤلاء الكفار ما يوعظون به من المواعظ. ثم نبّههم سبحانه على وجه آخر فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أو لم يعلموا (أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) بالأنهار والعيون (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أي اليابسة التي لا نبات فيها ، وقيل : نسوق الماء بالسيول اليها لأنها مواضع عالية ، وهي قرى بين الشام واليمن (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ) أي من ذلك الزرع (أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) والمعنى : ان هذه الأرض تنبت ما يأكله الناس والأنعام (أَفَلا يُبْصِرُونَ) نعم الله تعالى عليهم (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قال الفراء : المراد به فتح مكة (قُلْ) يا محمد (يَوْمَ الْفَتْحِ) يوم (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) بيّن سبحانه أن يوم الفتح يكون يوم القيامة وذلك اليوم لا ينفع الكافرين إيمانهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يؤخّر عنهم العذاب (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) يا محمد فإنه لا ينجع فيهم الدعاء والوعظ (وَانْتَظِرْ) موعدي لك بالنصر على أعدائك (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) معناه : انهم سيأتيهم ما وعد الله فيهم فكأنّهم ينتظرونه.

سورة الأحزاب

مدنية وعدد آياتها ثلاث وسبعون آية

النزول

نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الأعور السلمي ، قدموا المدينة ونزلوا على عبد الله بن أبي بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكلّموه ، فقاموا وقام معهم عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن أبيرق ، فدخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا محمد ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومنات ، وقل : إن لها شفاعة لمن عبد ها ، وندعك وربك ، فشقّ ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمر فأخرجوا من المدينة ، ونزلت الآية : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) من أهل مكة : أبا سفيان ، وأبا الأعور ، وعكرمة ، والمنافقين : ابن أبي ، وابن سعد ، وطعمة.

وقوله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ، نزلت في أبي معمر جميل بن معمر بن حبيب الفهري ، وكان لبيبا حافظا لما يسمع ، وكان يقول : إن في جوفي لقلبين ، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فكانت قريش تسميه ذا القلبين ، فلما كان يوم بدر وانهزم المشركون وفيهم أبو معمر ، وتلقاه أبو سفيان بن حرب وهو آخذ بيده إحدى نعليه والأخرى في رجله ، فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال : انهزموا ، قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ فقال أبو معمر : ما شعرت إلّا انهما في رجلي ، فعرفوا يومئذ أنه لو لم يكن له إلّا قلب واحد لما نسي نعله في يده. أمره سبحانه في مختتم تلك السورة بالإنتظار ، ثم أمره هنا أن يكون في انتظاره متقيا ، ونهاه عن طاعة الكفار.

١ ـ ٥ ـ خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) أي اثبت على تقوى الله ودم عليه وقيل معناه : اتق الله في اجابة المشركين إلى ما التمسوه وقيل : ان بعض المسلمين همّوا بقتل أولئك الذين قدموا المدينة بأمان فقال اتّق الله في نقض العهد (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) مرّ بيانه وقيل : انه عام وهو الوجه والكافر : هو الذي يظهر الكفر ويبطنه ، والمنافق : هو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما يكون قبل كونه (حَكِيماً) فيما يخلقه. ولما نهاه عن متابعة الكفار وأهل النفاق أمره باتباع أوامره ونواهيه على الإطلاق فقال : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من القرآن والشرائع فبلّغه واعمل به

٥٥٣

(إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بحسبها إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوّض أمورك إلى الله حتى لا تخاف غيره ، ولا ترجو إلّا خيره (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي قائما بتدبيرك ، حافظا لك ، ودافعا عنك (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) فإن أمر الرجل الواحد لا ينتظم ومعه قلبان ، فكيف تنتظم أمور العالم وله إلهان معبودان؟ (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) يقال : ظاهر من امرأته وتظهر وهو أن يقول لها : أنت عليّ كظهر أمي ، وكانت العرب تطلق نساءها في الجاهلية بهذا اللفظ ، فلما جاء الإسلام نهوا عنه وأوجبت الكفارة على من ظاهر من امرأته وسنذكره في سورة المجادلة (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) الأدعياء جمع الدعي وهو الذي يتبنّاه الإنسان. بيّن سبحانه أنه ليس بابن على الحقيقة ، ونزلت في زيد بن حارثة ، تبنّاه النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الوحي ، وكان قد وقع عليه السبي ، فاشتراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسوق عكاظ فلما نبىء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاه إلى الإسلام فأسلم ، فقدم أبوه حارثة مكة وأتى أبا طالب وقال : سل ابن أخيك فإما أن يبيعه وإما أن يعتقه ، فلما قال ذلك أبو طالب لرسول الله قال : هو حرّ فليذهب حيث شاء ، فأبى زيد أن يفارق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال حارثة : يا معشر قريش اشهدوا أنه ليس ابني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اشهدوا أنه ابني ـ يعني زيدا ـ فكان يدعى زيد بن محمد (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي ان قولكم : الدعي ابن الرجل شيء تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له عند الله تعالى (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) الذي يلزم اعتقاده وله حقيقة ، وهو ان الزوجة لا تصير بالظهار أما ، والدعي لا يصير بالتبني ابنا (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي يرشد إلى طريق الحق ويدل عليه (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) الذين ولدوهم وانسبوهم إليهم (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي أعدل عند الله قولا وحكما (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ) أي لم تعرفوا بأعيانهم (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فهم إخوانكم في الملة فقولوا : يا أخي (وَمَوالِيكُمْ) أي بنو أعمامكم (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي ليس عليكم حرج في نسبته إلى المتبني إذا ظننتم أنه أبوه ولم تعلموا أنه ليس بابن له ، فلا يؤاخذكم الله به (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) أي ولكن الإثم والجناح فيما تعمّدت قلوبكم ، يعني في الذين تعمدته قلوبكم وقصدتموه من دعائهم إلى غير آبائهم فإنكم تؤاخذون به (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف من قولكم (رَحِيماً) بكم.

٦ ـ ١٠ ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي هو أولى بهم منهم بأنفسهم ، انه أحقّ بتدبيرهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمهم على أنفسهم خلاف ما يحكم به ، لوجوب طاعته التي هي مقرونة بطاعة الله تعالى (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) المعنى انهن للمؤمنين كالأمهات في الحرمة وتحريم النكاح ، ولسن أمّهات لهم على الحقيقة (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) وهو مفسّر في آخر الأنفال ؛ (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) : هم ذوو الأنساب. لما ذكر سبحانه أن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمهات المؤمنين عقّبه بهذا وبيّن أنه لا توارث إلا بالولادة والرحم ، والمعنى : ان ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من المؤمنين (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) ومعناه : لكن إن فعلتم إلى أوليائكم المؤمنين وحلفائكم ما يعرف حسنه وثوابه فهو حسن

__________________

قال الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام : آيات القرآن خزائن ، فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها. أصول الكافي : ٢ / ٢٠٩.

٥٥٤

قال السدي : عنى بذلك وصية الرجل لإخوانه في الدين (كانَ ذلِكَ) أي نسخ الميراث بالهجرة وردّه إلى أولي الأرحام من القرابات (فِي الْكِتابِ) أي في اللوح المحفوظ (مَسْطُوراً) أي مكتوبا (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) أي واذكر يا محمد حين أخذ الله الميثاق على النّبيين خصوصا بأن يصدّق بعضهم بعضا ، ويتبع بعضهم بعضا (وَمِنْكَ) يا محمد (وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) خصّ هؤلاء بالذكر لأنهم أصحاب الشرائع (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا من أعباء الرسالة ، وتبليغ الشرائع. ثم بيّن سبحانه الفائدة في أخذ الميثاق ، فقال : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) قيل معناه : إنما فعل ذلك ليسأل الأنبياء المرسلين ما الذي جاءت به أممكم. ثم قال سبحانه (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي مؤلما. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ذكّرهم سبحانه عظيم نعمته عليهم في دفع الأحزاب عنهم (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) وهم الّذين تحزّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيام الخندق (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) وهي الصبا أرسلت عليهم حتى أكفأت قدورهم ، ونزعت فساطيطهم (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) ان الملائكة لم يقاتلوا يومئذ ولكن كانوا يشجّعون المؤمنين ، ويجبنون الكافرين (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً). وجّه الخطاب إلى المؤمنين. ثم قال (إِذْ جاؤُكُمْ) أي واذكروا حين جاءكم جنود المشركين (مِنْ فَوْقِكُمْ) أي من فوق الوادي قبل المشرق قريظة والنضير وغطفان (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي من قبل المغرب من ناحية مكة أبو سفيان في قريش ومن تبعه (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) معناه. عدلت الأبصار عن مقرّها من الدهش والحيرة كما يكون الجبان فلا يعلم ما يبصر (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) والحنجرة : جوف الحلقوم ، أي شخصت القلوب من مكانها فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت عن قتادة. قال أبو سعيد الخدري : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله هل من شيء نقوله قد بلغت القلوب الحناجر؟ فقال : قولوا : اللهم استر عوراتنا. وآمن روعاتنا. قال : فقلناها فضرب وجوه أعداء الله بالريح فهزموا قال الفراء : المعنى في قوله بلغت القلوب الحناجر : انهم جبنوا وجزع أكثرهم ، وسبيل الجبان إذا اشتدّ خوفه أن ينتفخ سحره ، والسحر : الرئة ، فإذا انتفخت الرئة رفعت القلوب إلى الحنجرة (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) أي اختلفت الظنون ، فظنّ بعضكم بالله النصر ، وبعضكم أيس وقنط وقيل. تظنون ظنونا مختلفة ، فظنّ المنافقون أنه يستأصل محمد ، وظن المؤمنون أنه ينصر ، عن الحسن ، وقيل : إن من كان ضعيف القلب والإيمان ظنّ ما ظنّه المنافقون إلّا أنه لم يرد ذلك.

١١ ـ ٢٠ لما وصف سبحانه شدة الأمر يوم الخندق قال (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي اختبروا وامتحنوا ليظهر لك حسن إيمانهم وصبرهم على ما أمرهم الله به من جهاد أعدائه ، فظهر من كان ثابتا قويا في الإيمان ، ومن كان ضعيفا فيه (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) أي حرّكوا بالخوف تحريكا شديدا ، وازعجوا ازعاجا عظيما ، وذلك أن الخائف يكون فلقا مضطربا لا يستقر على مكانه (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شكّ (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) قال ابن عباس : إن المنافقين قالوا : يعدنا محمد أن يفتح مدائن كسرى وقيصر ، ونحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء ، هذا والله الغرور (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) يعني عبد الله بن أبي وأصحابه (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) أي لا إقامة لكم هاهنا فارجعوا إلى منازلكم بالمدينة ، وأرادوا الهرب من عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) في الرجوع إلى المدينة ، وهم

٥٥٥

بنو حارثة وبنو سلمة (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) ليست بحريزة ، مكشوفة ليست بحصينة ، عن ابن عباس ومجاهد وقيل معناه : بيوتنا خالية من الرجال ، نخشى عليها السراق عن الحسن وقيل : قالوا : بيوتنا مما يلي العدو ولا نأمن على أهلينا ؛ عن قتادة فكذّبهم الله تعالى فقال (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) بل هي رفيعة السمك حصينة عن الصّادق عليه‌السلام (إِنْ يُرِيدُونَ) أي ما يريدون (إِلَّا فِراراً) وهربا من القتال ، ونصرة المؤمنين (وَلَوْ دُخِلَتْ) أي ولو دخلت البيوت ، أو دخلت المدينة (عَلَيْهِمْ) أي ولو دخل هؤلاء الذين يريدون القتال وهم الأحزاب على الذين يقولون ان بيوتنا عورة وهم المنافقون (مِنْ أَقْطارِها) أي من نواحي المدينة أو البيوت (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها) أي ثم دعوا هؤلاء إلى الشرك لأشركوا ، فالمراد بالفتنة الشرك عن ابن عباس (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) أي وما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلا عن قتادة وقيل معناه : وما أقاموا بالمدينة بعد إعطائهم الكفر إلا قليلا حتى يعاجلهم الله بالعذاب ، عن الحسن والفراء. ثم ذكرهم الله سبحانه عهدهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالثبات في المواطن فقال (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل الخندق (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي بايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحلفوا له أنهم ينصرونه ويدفعون عنه كما يدفعون عن نفوسهم ، ولا يرجعون عن مقاتلة العدو ولا ينهزمون قال مقاتل يريد ليلة العقبة (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) يسألون عنه في الآخرة وإنما جاء بلفظ الماضي تأكيدا ثم قال سبحانه (قُلْ) يا محمد للذين استأذنوك في الرجوع واعتلّوا بأن بيوتهم يخاف عليها (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) إن كان حضرت آجالكم فإنه لا بدّ من واحد منهما وإن هربتم ، فالهرب لا يزيد في آجالكم (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) معناه : وإن لم تحضر آجالكم وسلمتم من الموت أو القتل في هذه الوقعة لم تمتعوا في الدنيا إلّا أياما قلائل (قُلْ) يا محمد (مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) أي يدفع عنكم قضاء الله ، ويمنعكم من الله (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) أي عذابا وعقوبة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي نصرا وعزّا ، فإن أحدا لا يقدر على ذلك (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) يلي أمورهم (وَلا نَصِيراً) ينصرهم ويدفع عنهم. ثم قال سبحانه (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) وهم الذين يعوقون غيرهم عن الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويثبطونهم ويشغلونهم لينصرفوا عنه وذلك بأنهم قالوا لهم : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وهؤلاء الأحزاب (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) يعني اليهود قالوا لإخوانهم المنافقين (هَلُمَّ إِلَيْنا) أي تعالوا وأقبلوا إلينا ودعوا محمد وقيل القائلون هم المنافقون قالوا لإخوانهم من ضعفة المسلمين لا تحاربوا وخلّوا محمدا فإنا نخاف عليكم الهلاك (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي ولا يحضرون القتال في سبيل الله (إِلَّا قَلِيلاً) يخرجون رياء وسمعة قدر ما يوهمون أنهم معكم ، يعلم الله سبحانه أحوالهم لا يخفى عليه شيء منها عن السدي وقيل معناه : ولا يحضرون القتال إلّا كارهين ؛ تكون قلوبهم مع المشركين عن قتادة (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي لا يأتون الناس أشحة عليكم ، أي بخلاء بالقتال معكم وقيل : بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة عن قتادة ومجاهد ومعناه لا ينصرونكم. ثم أخبر عن جبنهم فقال (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى) أي كعين الذي يغشى (عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) وهو الذي قرب من حال الموت وغشيته أسبابه فيذهل ويذهب عقله ، ويشخص بصره فلا يطرف ، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم ، وتحار أعينهم من شدة خوفهم ، فإذا ذهب الخوف والفزع ، وجاء الأمن والغنيمة (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) معناه : بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون : اعطونا فلستم

٥٥٦

بأحق بها منّا (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي بخلاء بالغنيمة ، يشاحون المؤمنين عند القسمة (أُولئِكَ) يعني من تقدم وصفهم (لَمْ يُؤْمِنُوا) كما آمن غيرهم وإلا لما فعلوا ذلك (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) لأنها لم تقع على الوجوه التي يستحق عليها الثواب ، إذ لم يقصدوا بها وجه الله تعالى (وَكانَ ذلِكَ) الإحباط أو كان نفاقهم (عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي هيّنا. ثم وصف سبحانه هؤلاء المنافقين فقال (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي يظنّون أن الجماعات من قريش وغطفان وأسد واليهود الذين تحزّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينصرفوا وقد انصرفوا ، وإنما ظنّوا ذلك لجبنهم وحبهم قهر المسلمين (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) أي وإن يرجع الأحزاب إليهم ثانية للقتال (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي يود هؤلاء المنافقون أن يكونوا في البادية مع الاعراب يسألون عن أخباركم ولا يكونوا معكم حذرا من القتل ، وتربّصا للدوائر (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) أي ولو كان هؤلاء المنافقون معكم وفيكم لم يقاتلوا معكم إلا قدرا يسيرا ليوهموا أنهم في جملتكم ، لا لينصروكم ويجاهدوا معكم.

٢١ ـ ٢٥ ثم حثّ سبحانه على الجهاد والصبر عليه فقال (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) معاشر المكلفين (فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي قدوة صالحة يقال : لي في فلان أسوة ، أي لي به اقتداء والمعنى : كان لكم برسول الله اقتداء لو اقتديتم به في الصبر معه في مواطن القتال كما فعل هو يوم أحد إذ انكسرت رباعيته ، وشجّ حاجبه ، وقتل عمّه ، فواساكم مع ذلك بنفسه ، فهلّا فعلتم مثلما فعله هو؟ (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) أي يرجو ما عند الله من الثواب والنعيم (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) أي ذكرا كثيرا ، وذلك أن ذاكر الله متّبع لأوامره بخلاف الغافل عن ذكره. ثم عاد سبحانه إلى ذكر الأحزاب فقال (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) أي ولمّا عاين المصدّقون بالله ورسوله الجماعة التي تحزّبت على قتال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كثرتهم (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أخبرهم أنه يتظاهر عليهم الأحزاب ويقاتلونهم ، ووعدهم الظفر بهم ، فلما رأوهم تبيّن لهم مصداق قوله وكان ذلك معجزا له (وَما زادَهُمْ) مشاهدة عدوّهم (إِلَّا إِيماناً) أي تصديقا بالله ورسوله (وَتَسْلِيماً) لأمره (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أي بايعوا أن لا يفرّوا فصدّقوا في لقائهم العدو (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي قضى أجله على الوفاء والصدق عن الحسن. وروي عن أنس بن مالك أن عمه غاب عن قتال بدر فقال غبت عن أول قتال قاتله رسول الله مع المشركين لئن أراني الله قتالا للمشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين وابرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين ثم تقدّم فلقيه سعد دون أحد فقال أنا معك قال سعد فلم أستطع أن أصنع ما صنع فوجد فيه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم كنّا نقول فيه وفي أصحابه نزلت (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) ما وعد الله من نصره أو شهادة على ما مضى عليه أصحابه (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) أي ما غيّروا العهد الذي عاهدوا ربهم كما غيّر المنافقون. قال ابن عباس : من قضى نحبه حمزة بن عبد المطلب وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني عن عليّ عليه‌السلام قال : فينا نزلت (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ،) فأنا والله المنتظر وما بدّلت تبديلا (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) أي صدق المؤمنون في عهودهم ليجزيهم الله بصدقهم (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) بنقض العهد (إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إن تابوا ، ويكون معناه : انه سبحانه إن شاء

٥٥٧

قبل توبتهم واسقط عقابهم ، وإن شاء لم يقبل توبتهم وعذّبهم فإن اسقاط العذاب على المذهب الصحيح بالتوبة تفضل من الله تعالى لا يجب عقلا وإنما علمنا ذلك بالسمع والإجماع على أن الله سبحانه يفعل ذلك ، فالآية قاضية بما يقتضيه العقل من الحكم ويؤكّد ذلك قوله (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لأن المدح إنما يحصل إذا رحم سبحانه من يستحق العقاب ، ويغفر ما جاز له المؤاخذة به ، ولا مدح في مغفرة ورحمة من يجب عليه غفرانه ورحمته وقيل معناه : ويعذّب المنافقين بعذاب عاجل في الدنيا إن شاء أو يتوبوا ، عن الجبائي. ثم عاد سبحانه إلى تعداد نعمه فقال (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني الأحزاب أبا سفيان وجنوده ، وغطفان ومن معهم من قبائل العرب (بِغَيْظِهِمْ) أي بغمّهم الذي جاءوا به وحنقهم ، لم يشفوا بنيل ما أرادوا (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) أملوه وأرادوه من الظفر بالنبي والمؤمنين ، وإنما سمّاه خيرا لأن ذلك كان خيرا عندهم وقيل : أراد بالخير المال كما في قوله : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي مباشرة القتال بما أنزل الله على المشركين من الريح الشديدة الباردة التي أزعجتهم عن أماكنهم ، وبما أرسل من الملائكة ، وبما قذف في قلوبهم من الرعب بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وقتله عمرو بن عبد ود ، وكان ذلك سبب هزيمة القوم عن عبد الله بن مسعود وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) أي قادرا على ما يشاء (عَزِيزاً) لا يمتنع عليه شيء من الأشياء وقيل : قويّا في ملكه وسلطانه عزيزا في قهره وانتقامه.

٢٦ ـ ٢٧ ثم ذكر سبحانه ما فعل باليهود من بني قريظة فقال (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) أي عاونوا المشركين من الأحزاب ، ونقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا ينصروا عليه عدوّا (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني من اليهود. واتفق المفسرون على انهم بنو قريظة (مِنْ صَياصِيهِمْ) أي من حصونهم (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي ألقى في قلوبهم الخوف من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المؤمنين (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) منهم يعني الرجال (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) يعني الذراري والنساء (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) أي وأعطاكم أرضهم (وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) أي وأورثكم أرضا لم تطؤوها بأقدامكم بعد ، وسيفتحها الله عليكم وهي خيبر ، فتحها الله عليهم بعد بني قريظة ، عن ابن زيد ويزيد بن رومان (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) ظاهر المعنى.

٢٨ ـ ٣١ ثم عاد سبحانه إلى ذكر نساء النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمرا له أن يخيّر أزواجه فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) أي سعة العيش في الدنيا ، وكثرة المال (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ) أي اعطكن متعة الطلاق وقد مرّ بيانها في سورة البقرة (وَأُسَرِّحْكُنَ) أي أطلقكن (سَراحاً جَمِيلاً) والسراح الجميل : الطلاق من غير خصومة ولا مشاجرة بين الزوجين (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) أي وإن اردتن طاعة الله وطاعة رسوله ، والصبر على ضيق العيش والجنة (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ) أي العارفات المريدات الإحسان المطيعات له (مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) خيرهنّ بين الطلاق والمقام معه (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي بمعصية ظاهرة (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ) في الآخرة

__________________

قال أبو عبد الله (ع): كان في وصيّة أمير المؤمنين (ع) أصحابه اعلموا أنّ القرآن هدى النهار ، ونور الليل المظلم على ما كان من جهد وفاقة. أصول الكافي : ٢ / ٥٧٤.

٥٥٨

(ضِعْفَيْنِ) أي مثلي ما يكون على غيرهنّ ، وذلك لأن نعم الله سبحانه عليهن أكثر لمكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهن ، ولنزول الوحي في بيوتهن ، فإذا كانت النعمة عليهن أعظم وأوفر كانت المعصية منهن أفحش (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي كان عذابها على الله هيّنا (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي ومن يطع الله ورسوله ، والقنوت الطاعة (وَتَعْمَلْ صالِحاً) فيما بينهما وبين ربّها (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي نؤتها ثوابها مثلي ثواب غيرها (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) عظيم القدر.

٣٢ ـ ٣٥ (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) لم يقل كواحدة من النساء لأن أحدا للنفي العام وقال ابن عباس معناه : ليس قدركنّ عندي كقدر غيركنّ من النساء الصالحات ، أنتن أكرم عليّ فأنا بكنّ أرحم ، وثوابكنّ أعظم لمكانكنّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) الله شرط عليهن التقوى ليبينّ سبحانه أن فضيلتهن بالتقوى لا باتصالهن بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي لا ترققن القول ولا تلنّ الكلام للرجال ، ولا تخاطبن الأجانب مخاطبة تؤدّي إلى طمعهن فيكن كما تفعل المرأة التي تظهر الرغبة في الرجال (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي نفاق وفجور (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي مستقيما جميلا بريئا من التهمة ، بعيدا من الريبة ، موافقا للدين والإسلام (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) أمرهنّ بالاستقرار في بيوتهن ، والمعنى : اثبتن في منازلكن والزمنها (وَ) (لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي لا تخرجن على عادة النساء اللاتي في الجاهلية ، ولا تظهرن زينتكنّ كما كنّ يظهرن ذلك ، والمراد بالجاهلية الأولى ما كان قبل الإسلام (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) أي أدّينها في أوقاتها بشرائطها (وَآتِينَ الزَّكاةَ) المفروضة في أموالكن (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمرانكنّ به ، وينهانكنّ عنه. ثم قال عزوجل (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قال ابن عباس : الرجس : عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضى ، والبيت : التعريف فيه للعهد والمراد به بيت النبوة والرسالة ، والعرب تسمي ما يلتجأ إليه بيتا ولهذا سمّوا الانساب بيوتا وقالوا : بيوتات العرب يريدون النسب. وقد اتفقت الأمة بأجمعها على أن المراد بأهل البيت في الآية أهل بيت نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال أبو سعيد الخدري ، وأنس بن مالك ، وواثلة بن الأسقع ، وعائشة ، وأم سلمة : إن الآية مختصة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وروى الثعلبي في تفسيره أيضا بالإسناد عن أم سلمة : ان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في بيتها فأتته فاطمة عليها‌السلام ببرمة فيها حريرة فقال : لها ادعي زوجك وابنيك ـ فذكرت الحديث نحو ذلك ـ ثم قالت : فأنزل الله تعالى (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) الآية قالت : فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به ثم أخرج يده فألوى يده بها إلى السماء ثم قال : اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامتي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، والروايات في هذا كثيرة من طرق العامة والخاصة ، ولو قصدنا إلى إيرادها لطال الكتاب (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) معناه : واشكرن الله تعالى إذ صيّركن في بيوت يتلى فيها القرآن والسنة (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً) بأوليائه (خَبِيراً) بجميع خلقه (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) أي المخلصين الطاعة لله والمخلصات (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي والمصدقين بالتوحيد والمصدقات ؛ فالإسلام : الاقرار باللسان ، والإيمان : التصديق بالقلب ، ويعضده قوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) يعني الدائمين على الأعمال الصالحات والدائمات (وَالصَّادِقِينَ) في إيمانهم وفيما ساءهم وسرّهم (وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ) على طاعة الله وعلى ما ابتلاهم الله

٥٥٩

به (وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ) أي المتواضعين الخاضعين لله تعالى (وَالْخاشِعاتِ) وقيل معناه : والخائفين والخائفات (وَالْمُتَصَدِّقِينَ) أي المخرجين الصدقات والزكوات (وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ) لله تعالى بنيّة صادقة (وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ) من الزنا وارتكاب الفجور (وَالْحافِظاتِ) فروجهن (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) الله كثيرا (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) أي لهؤلاء الموصوفين بهذه الصفات والخصال (مَغْفِرَةً) لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) في الآخرة. روى أبو سعيد الخدري عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فتوضّئا وصليا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات ، وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : من بات على تسبيح فاطمة عليها‌السلام كان من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.

٣٦ ـ ٤٠ لمّا تقدّم ذكر نساء النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّبه سبحانه بذكر زيد وزوجته فقال (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ) أي إذا أوجب الله ورسوله (أَمْراً) والزماه وحكما به (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي الاختيار (مِنْ أَمْرِهِمْ) على اختيار الله تعالى والمعنى : ان كل شيء أمر الله تعالى به أو حكم به فليس لأحد مخالفته وترك ما أمر به إلى غيره (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يختاران له (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) أي ذهب عن الحق ذهابا ظاهرا. ثم خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (وَإِذْ تَقُولُ) أي واذكر يا محمد حين تقول (لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بالهداية إلى الإيمان (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق ، وهو زيد بن حارثة (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) يعني زوجك زينب تقول : احبسها ولا تطلقها وهذا الكلام يقتضي مشاجرة جرت بينهما حتى وعظه الرسول وقال له : امسكها (وَاتَّقِ اللهَ) في مفارقتها ومضارتها (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ان الذي أخفاه في نفسه هو ان الله سبحانه أعلمه انها ستكون من أزواجه ، وأن زيدا سيطلّقها ، فلما جاء زيد وقال له : أريد أن أطلق زينب ، قال له : امسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك؟ ولم يرد بقوله والله أحق أن تخشاه خشية التقوى لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتّقي الله حق تقاته ، ويخشاه فيما يجب أن يخشى فيه ، ولكنه أراد خشية الاستحياء ، لأن الحياء كان غالبا على شيمته الكريمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قال سبحانه : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) وقيل : ان زينب كانت شريفة فزوّجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من زيد مولاه ولحقها بذلك بعض العار ، فأراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يزيدها شرفا بأن يتزوجها لأنه كان السبب في تزويجها من زيد ، فعزم أن يتزوج بها إذا فارقها. وقيل : ان العرب كانوا ينزلون الأدعياء منزلة الأبناء في الحكم ، فأراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبطل ذلك بالكلية ، وينسخ سنة الجاهلية (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) ومعناه : فلما قضى زيد حاجته من نكاحها فطلّقها وانقضت عدّتها ، ولم يكن في قلبه ميل إليها ولا وحشة من فراقها ، زوجناكها ، أي أذنا لك في تزويجها ، وإنما فعلنا ذلك توسعة على المؤمنين حتى لا يكون عليهم إثم في أن يتزوّجوا أزواج ادعيائهم الذين تبنّوهم إذا قضى الأدعياء منهن حاجتهم وفارقوهن ؛ فبيّن سبحانه أن الغرض في ذلك أن لا يجري المتبنى في تحريم امرأته إذا طلّقها على المتبني مجرى الإبن من النسب والرضاع في تحريم امرأته إذا طلقها على الأب (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي كائنا لا محالة. وفي الحديث : ان زينب كانت تفتخر

٥٦٠