الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

سلام تحيّة وكرامة كقوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ). وقيل معناه : فاصفح عن سفههم ولا تقابلهم بمثله. ندبه سبحانه إلى الحلم فلا يكون منسوخا عن الحسن.

ثم هددهم سبحانه بقوله (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) يعني يوم القيامة إذا عاينوا ما يحل بهم من العذاب.

سورة الدخان مكية

عدد آياتها تسع وخمسون آية

ختم الله سبحانه سورة الزخرف بالوعيد والتهديد ، وافتتح هذه السورة أيضا بمثل ذلك في الإنذار بالعذاب الشديد.

١ ـ ١١ (حم) مرّ بيانه (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أقسم سبحانه بالقرآن الدالّ على صحّة نبوّة نبينا (ص) وفيه بيان الأحكام ، والفصل بين الحلال والحرام ؛ وجواب القسم (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) أي إنّا أنزلنا القرآن ، والليلة المباركة هي ليلة القدر عن ابن عباس وقتادة وابن زيد ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام.

ويدلّ عليه قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، وقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ). واختلف في كيفية انزاله فقيل : أنزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم أنزل نجوما إلى النّبيّ (ص) وقيل : انه كان ينزل جميع ما يحتاج في كل سنة في تلك الليلة ثم كان ينزله جبرائيل عليه‌السلام شيئا فشيئا وقت وقوع الحاجة إليه.

وإنما وصف الله سبحانه هذه الليلة بأنها مباركة لأن فيها يقسم الله نعمه على عباده من السنة إلى السنة ، فتدوم بركاتها ، والبركة : نماء الخير ، وضدها الشؤوم : وهو نماء الشر ، فالليلة التي أنزل فيها كتاب الله مباركة ينمى الخير فيها على ما دبّر الله سبحانه لها من علوّ مرتبتها ، واستجابة الدعاء فيها (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي مخوّفين بما أنزلناه من تعذيب العصاة ، والإنذار : الإعلام بموضع الخوف ليتقى ، وموضع الأمن ليجتبى ، فالله عزّ اسمه قد أنذر عباده بأتمّ الإنذار من طريق العقل والسمع (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي في هذه الليلة يفصل ويبيّن والمعنى : يقضي كلّ أمر محكم لا تلحقه الزيادة والنقصان ، وهو أنّه يقسم فيها الآجال والأرزاق وغيرها من أمور السنة إلى مثلها من العام القابل عن ابن عباس والحسن وقتادة ، وعن سعيد بن جبير عن إبن عباس قال : إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى.

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) معناه : إنّا نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) محمدا (ص) إلى عبادنا كمن كان قبله من الأنبياء (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي رأفة منا بخلقنا ، ونعمة منا عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل عن ابن عباس (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لمن دعاه من عباده (الْعَلِيمُ) بمصالحهم (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومدبّرهما (وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) بهذا الخبر ، محققين له ، وهو انّه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا يستحق العبادة سواه (يُحْيِي) الخلق بعد موتهم (وَيُمِيتُ) أي ويميتهم بعد احيائهم (رَبُّكُمْ) الذي خلقكم ودبّركم (وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) الذين سبقوكم. ثمّ ذكر سبحانه الكفار فقال : ليس هؤلاء بموقنين بما قلناه (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) مما أخبرناك به (يَلْعَبُونَ) مع ذلك ، ويستهزؤون بك وبالقرآن إذا قرىء عليهم ، عن الجبائي. وقيل : يلعبون : أي يشتغلون بالدنيا ، ويترددون في أحوالها.

ثم خاطب نبيه (ص) فقال : (فَارْتَقِبْ) أي فانظر يا محمد (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) الدخان آية من اشراط الساعة تدخل في مسامع الكفار والمنافقين ، وهو لم يأت بعد ، وانه يأتي قبل قيام الساعة فيدخل أسماعهم حتى ان رؤوسهم تكون كالرأس الحنيذ ويصيب المؤمن منه مثل الزكمة ، ويمكث ذلك

٦٦١

أربعين يوما (يَغْشَى النَّاسَ) يعني ان الدخان يعمّ جميع الناس (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع.

١٢ ـ ٢٠ ـ ثمّ لما أخبر سبحانه أنّ الدخان يغشى الناس عذابا لهم ، وانهم يقولون : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) ، حكى عنهم أيضا قولهم : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) بمحمد (ص) والقرآن قال سبحانه : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي من أين لهم التذكّر والاتعاظ وكيف يتذكّرون ويتّعظون؟ (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أي وحالهم انّهم قد جاءهم رسول ظاهر الصدق والدلالة (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي أعرضوا عنه ولم يقبلوا قوله (وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي هو معلّم يعلمّه بشر مجنون بادعاء النبوة.

ثم قال سبحانه : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) أي عذاب الدخان (قَلِيلاً) أي زمانا قليلا يسيرا (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إلى العذاب الأكبر وهو عذاب جهنم ؛ والقليل مدّة ما بين العذابين (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) وتكون يوم القيامة ، والبطش : هو الأخذ بشدّة وقع الألم (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) منهم ذلك اليوم.

ثم قال سبحانه : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ) أقسم سبحانه انّه فتن قبل كفار قوم النبي (ص) (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي اختبرهم وشدّد عليهم التكليف ، لأنّ الفتنة : شدّة التعبد ، وأصلها الإحراق بالنار لخلاص الذهب من الغشّ ، وقيل : إنّ الفتنة معاملة المختبر ، ليجازى بما يظهر ، دون ما يعلم مما لا يظهر (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) أي كريم الأخلاق والأفعال بالتجاوز والصفح والدعاء إلى الصلاح والرشد ، وقيل : كريم عند الله بما استحقّ بطاعته من الإكرام والإعظام ، وقيل : كريم شريف في قومه من بني إسرائيل (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) هذا من قول موسى (ع) لفرعون وقومه والمعنى : اطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتسخير فإنّهم أحرار ، فهو كقوله : (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) فيكون ((عِبادَ اللهِ)) مفعول (أدّوا) وقال الفرّاء : أدّوا إليّ ما آمركم به يا عباد الله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) على ما أؤدّيه وأدعوكم إليه (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي لا تتجبّروا على الله بترك طاعته (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجّة واضحة يظهر الحقّ معها.

فلمّا قال ذلك توعدوه بالقتل والرجم فقال : (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي لذت بمالكي ومالككم ، والتجأت إليه (أَنْ تَرْجُمُونِ) أي من أن ترموني بالحجارة (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي إن لم تصدقوني فاتركوني لا معي ولا عليّ.

٢٢ ـ ٢٩ ـ ثم ذكر سبحانه تمام قصّة موسى بأن قال : (فَدَعا رَبَّهُ) أي فدعا موسى ربّه حين يئس من قومه أن يؤمنوا به فقال : (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي مشركون لا يؤمنون فكأنّه قال : اللهم عجّل لهم مما يستحقّونه بكفرهم ما يكونون به نكالا لمن بعدهم (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) فأجيب بأن قيل له : (فَأَسْرِ بِعِبادِي) ، أمره سبحانه أن يسير بأهله وبالمؤمنين به ليلا حتى لا يردّهم فرعون إذا خرجوا نهارا ، وأعلمه بأنه سيتبعهم فرعون بجنوده بقوله : (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي ساكنا على ما هو به إذا قطعته وعبرته ، وكان قد ضربه بالعصا فانفلق لبني إسرائيل ، فأمره الله سبحانه أن يتركه كما هو ليغرق فرعون وقومه عن ابن عباس ومجاهد. وقيل : رهوا : أي منفتحا منكشفا حتى يطمع فرعون في دخوله عن أبي مسلم (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) سيغرقهم الله تعالى ، ثم أخبر سبحانه عن حالهم بعد اهلاكهم فقال : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) رائعة (وَعُيُونٍ) جارية (وَزُرُوعٍ) كثيرة (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي مجالس شريفة ، ومنازل خطيرة وقيل : هي المناظر الحسنة ومجالس الملوك ، عن مجاهد. وقيل : منابر الخطباء عن ابن عباس وقيل : المقام الكريم الذي يعطي اللذة كما يعطي الرجل الكريم الصلة عن علي بن عيسى.

٦٦٢

(وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي وتنعم وسعة في العيش كانوا بها ناعمين متمتعين كما يتمتع الآكل بأنواع الفواكه (كَذلِكَ) معناه : كذلك أفعل بمن عصاني (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) ايراث النعمة : تصييرها إلى الثاني بعد الأول بغير مشقّة كما يصير الميراث إلى أهله على تلك الصفة ، فلما كانت نعمة قوم فرعون وصلت بعد هلاكهم إلى غيرهم كان ذلك ايراثا من الله لهم ، وأراد بقوم آخرين : بني إسرائيل لأنّهم رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) معناه : لم تبك عليهم أهل السماء والأرض لكونهم مسخوطا عليهم عن الحسن (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي عوجلوا بالعقوبة ولم يمهلوا.

٣٠ ـ ٤٠ ـ ثمّ أقسم سبحانه بقوله (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) الذين آمنوا بموسى (مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) يعني قتل الأبناء ، واستخدام النساء ، والاستعباد ، وتكليف المشاق (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي متجبّرا متكبّرا متغلّبا (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي المجاوزين الحدّ في الطغيان (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) أي اخترنا موسى وقومه بني إسرائيل ، وفضّلناهم بالتوراة وكثرة الأنبياء منهم (عَلى عِلْمٍ) أي على بصيرة منّا باستحقاقهم التفضيل والاختيار (عَلَى الْعالَمِينَ) أي على عالمي زمانهم ، ويدلّ عليه قوله تعالى لأمّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (وَآتَيْناهُمْ) أي وأعطيناهم (مِنَ الْآياتِ) يعني الدلالات والمعجزات مثل فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المنّ والسلوى (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) ما فيه شدّة وامتحان مثل العصا واليد البيضاء ، فالبلاء يكون بالشدّة والرخاء ، فيكون في الآيات نعمة على الأنبياء وقومهم ، وشدّة على الكفار المكذّبين بهم ثم أخبر سبحانه عن كفّار المكذّبين بهم ثم أخبر سبحانه عن كفّار قوم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين ذكرهم في أول السورة فقال (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي ما الموتة إلّا موتة نموتها في الدنيا ثم لا نبعث بعدها وهو قوله (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي بمبعوثين ولا معادين (فَأْتُوا بِآبائِنا) الذين ماتوا قبلنا وأعيدوهم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنّ الله تعالى يقدر على اعادة الأموات واحيائهم ، وقيل : إنّ قائل هذا أبو جهل بن هشام قال : إن كنت صادقا فابعث جدّك قصي بن كلاب ، فإنّه كان رجلا صادقا ، لنسأله عمّا يكون بعد الموت ؛ وهذا القول جهل من أبي جهل على وجهين ، أحدهما : انّ الاعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف ، وليست هذه الدار بدار جزاء ، ولكنها دار تكليف ، والثاني : انّ الاحياء في دار الدنيا انما يكون للمصلحة فلا يقف ذلك على اقتراحهم. عدل سبحانه في اجابتهم الى الوعيد والوعظ فقال (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) أي أمشركو قريش أظهر نعمة ، وأكثر أموالا ، واعزّ في القوة والقدرة أم قوم تبّع الحميري؟ الذي سار بالجيوش حتّى الحيرة ، ثم أتى سمرقند فهدمها ثمّ بناها ، وكان إذا كتب كتب باسم الذي ملك برّا وبحرا ، وسمي تبّعا لكثرة أتباعه من الناس (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني من تقدّمهم من قوم نوح وعاد وثمود (أَهْلَكْناهُمْ) معناه : انّهم ليسوا بأفضل منهم وقد أهلكناهم بكفرهم وهؤلاء مثلهم ، بل أولئك كانوا أكثر قوّة وعددا ، فإهلاك هؤلاء أيسر (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي كافرين ، فليحذر هؤلاء أن ينالهم مثل ما نال أولئك (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) بل خلقناهما لغرض حكمي وهو أن ننفع المكلّفين بذلك ، ونعرضهم للثواب ، وننفع سائر الحيوانات بضروب المنافع واللذات (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) معناه : ما خلقناهما إلّا للحق وهو الامتحان بالأمر والنهي ، والتمييز بين المحسن والمسيء لقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) الآية (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) صحّة ما قلناه لعدولهم عن

٦٦٣

النظر فيه ، والاستدلال على صحّته (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) يعني اليوم الذي يفصل فيه بين المحق والمبطل وهو يوم القيامة.

٤١ ـ ٥٠ ـ لمّا ذكر سبحانه أنّ يوم الفصل ميقات الخلق يحشرهم فيه ، بيّن أيّ يوم هو فقال (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) فالمولى : الصاحب الذي من شأنه أن يتولّى معونة صاحبه على أموره فيدخل في ذلك ابن العمّ والناصر والحليف وغيرهم ممّن هذه صفته والمعنى : ان ذلك اليوم يوم لا يغني فيه وليّ عن وليّ شيئا ، ولا يدفع عنه عذاب الله تعالى (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) وهذا لا ينافي ما يذهب إليه أكثر الأمة من اثبات الشفاعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة (ع) والمؤمنين ، لأنّ الشفاعة لا تحصل إلّا بأمر الله تعالى واذنه ، والمراد بالآية انه ليس لهم من يدفع عنهم عذاب الله وينصرهم من غير أن يأذن الله له فيه ؛ وقد بيّن ما أشرنا إليه باستثنائه من رحمه منهم فقال (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي إلّا الذين رحمهم‌الله من المؤمنين فإنّه إما أن يسقط عقابهم ابتداء ، أو يأذن بالشفاعة فيهم لمن علت درجته عنده فيسقط عقاب المشفوع له لشفاعته (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه من أعدائه (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين. ثم وصف سبحانه ما يفصل به بين الفريقين فقال (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) وقد مرّ تفسيره في سورة الصافات (طَعامُ الْأَثِيمِ) أي الآثم وهو أبو جهل (كَالْمُهْلِ) وهو المذاب من النحاس أو الرصاص أو الذهب أو الفضة (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي إذا حصلت في أجواف أهل النار تغلي كغلي الماء الحارّ الشديد الحرارة (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أي إلى وسط النار ، وسمّي وسط الشيء سواء لاستواء المسافة بينه وبين أطرافه المحيطة به (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ) قال مقاتل إنّ خازن النار يمرّ به على رأسه فيذهب رأسه عن دماغه ، ثم يصبّ فيه (مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) وهو الماء الذي قد انتهى حرّه ويقول له (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) يقول له الملك : ذق العذاب أيّها المتعزّز المتكرم في زعمك وفيما كنت تقوله (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي ثمّ يقال لهم إنّ هذا العذاب ما كنتم تشكون فيه في دار الدنيا.

٥١ ـ ٥٩ ـ ثم عقّب سبحانه الوعيد بذكر الوعد فقال (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين يجتنبون معاصي الله لكونها قبائح ، ويفعلون الطاعات لكونها طاعات (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) امنوا فيه الغير من الموت والحوادث وقيل : أمنوا فيه من الشيطان والأحزان عن قتادة (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي بساتين وعيون ماء نابعة فيها (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) خاطب العرب فوعدهم من الثياب بما عظم عندهم ، واشتهته أنفسهم وقيل : السندس ما يلبسونه والاستبرق ما يفترشونه (مُتَقابِلِينَ) في المجالس لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ، بل يقابل بعضهم بعضا وقيل معناه متقابلين بالمحبّة لا متدابرين بالبغضة (كَذلِكَ) حال أهل الجنة (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قال الأخفش : المراد به التزويج المعروف يقال : زوّجته امرأة وبامرأة وقال غيره : لا يكون في الجنة تزويج والمعنى وقرنّاهم بحور عين (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) أي يستدعون فيها أيّ ثمرة شاؤوا واشتهوا غير خائفين فوتها ، آمنين من نفادها ومضرّتها وقيل : آمنين من التّخم والأسقام والأوجاع (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) شبّه الموت بالطعام الذي يذاق ويتركه عند المذاق ، ثم نفى أن يكون ذلك في الجنة ، وإنّما خصّهم بأنّهم لا يذوقون الموت مع انّ جميع أهل الآخرة لا يذوقون الموت لما في ذلك من البشارة لهم بالحياة الهنيئة في الجنّة ، فامّا من يكون فيما هو كالموت في الشدّة فإنّه لا يطلق له هذه الصفة ، لأنّه يموت موتات كثيرة بما يقاسيه من العقوبة (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) قيل معناه بعد الموتة الأولى وقيل معناه لكنّ الموتة الأولى قد

٦٦٤

ذاقوها وقيل سوى الموتة الأولى وقد بيّنا ما عندنا فيه (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي فصرف عنهم عذاب النار. استدلّت المعتزلة بهذا على انّ الفاسق الملّي لا يخرج من النار لأنّه يكون قد وقي النار والجواب عن ذلك ان هذه الآية يجوز أن تكون مختصة بمن لا يستحق دخول النار فلا يدخلها أو بمن استحق النار فتفضل عليه بالعفو فلم يدخلها ويجوز أن يكون المراد ووقاهم عذاب الجحيم على وجه التأبيد أو على الوجه الذي يعذّب عليه الكفار (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي فعل الله ذلك بهم تفضّلا منه لأنّه سبحانه خلقهم ، وأنعم عليهم ، وركّب فيهم العقل وكلّفهم ، وبيّن لهم من الآيات ما استدلّوا به على وحدانيّة الله تعالى ، وحسن الطاعات ، فاستحقوا به النعم العظيمة (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الظفر بالمطلوب العظيم الشأن (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أي سهّلنا القرآن معناه : جعلنا القرآن عربيا ليسهل عليك وعلى قومك تفهّمه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي ليتذكروا ما فيه من الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، ويتفكّروا فيه (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي فإن أعرضوا ولم يقبلوا فانتظر مجيء ما وعدناك به إنهم منتظرون ، لأنّهم في حكم من ينتظر ، لأنّ المحسن يترقب عاقبة الإحسان ، والمسيء يترقّب عاقبة الإساءة ، وقيل معناه : انتظر بهم عذاب الله فإنّهم ينتظرون بك الدوائر.

سورة الجاثية

مكية وعدد آياتها سبع وثلاثون آية

لما ختم الله سبحانه سورة الدخان بذكر القرآن افتتح هذه لسورة بذكره أيضا.

١ ـ ٥ ـ (حم) قد بيّنا ما قيل فيه ، وأجود الأقوال انه اسم للسورة ، قال عليّ بن عيسى : وفي تسمية السورة بحم دلالة على ان هذا القرآن المعجز كلّه من حروف المعجم ، لأنّه سمّي به ليدلّ عليه بأوصافه ، ومن أوصافه انه معجز ، وانّه مفصّل قد فصّلت كلّ سورة من اختها ، وانّه هدى ونور ، فكأنّه قيل : هذا اسمه الدالّ عليه بأوصافه (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) أضاف التنزيل إلى نفسه في مواضع من السور استفتاحا بتعظيم شأنه ، وتفخيم قدره بإضافته إلى نفسه من أكرم الوجوه وأجلّها ، وما اقتضى هذا المعنى لم يكن تكريرا فقد يقول القائل : اللهم اغفر لي ، اللهم ارحمني ، اللهمّ عافني ، اللهمّ وسّع عليّ في رزقي ، فيأتي بما يؤذن أنّ تعظيمه لربّه منعقد بكل ما يدعو به وقوله (مِنَ اللهِ) يدلّ على انّ ابتداءه من الله تعالى (الْعَزِيزِ) أي القادر الذي لا يغالب (الْحَكِيمِ) العالم الذي أفعاله كلّها حكمة وصواب (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) الذين يصدّقون بالله وبأنبيائه لأنّهم المنتفعون بالآيات ، وهي الدلالات والحجج الدالّة على انّ لها مدبّرا صانعا قادرا عالما (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ) معناه وفي خلقه إيّاكم بما فيكم من بدائع الصنعة ، وعجائب الخلقة ، وما يتعاقب عليكم من الأحوال من مبتدأ خلقكم في بطون الأمّهات إلى انقضاء الآجال ، وفي خلق ما يفرّق على وجه الأرض من الحيوانات على اختلاف أجناسها ومنافعها ، والمقاصد المطلوبة منها ، دلالات واضحات على ما ذكرناه (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يطلبون علم اليقين بالتدبّر والتفكر (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وفي ذهاب الليل والنهار ومجيئهما على وتيرة واحدة ، وقيل معناه : وفي اختلاف حالهما من الطول والقصر ، وقيل : اختلافهما من أنّ أحدهما نور ، والآخر ظلمة (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) أراد به المطر الذي ينبت به النبات الذي هو رزق الخلائق فسمّاه رزقا لأنّه سبب الرزق (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ

٦٦٥

مَوْتِها) أي فأحيا بذلك المطر الأرض بعد يبسها وجفافها (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي وفي تصريف الرياح يجعلها مرّة جنوبا ، وأخرى شمالا ، ومرّة صبا ، وأخرى دبورا ، عن الحسن وقيل : يجعلها تارة رحمة وتارة عذابا عن قتادة (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وجوه الأدلّة ، ويتدبّرونها فيعلمون انّ لهذه الأشياء مدبّرا حكيما قادرا عليما حيّا غنيّا قديما لا يشبهه شيء.

٦ ـ ١٠ ـ لمّا قدّم سبحانه ذكر الأدلّة عقّب ذلك بالوعيد لمن اعرض عنها ولم يتفكّر فيها فقال (تِلْكَ آياتُ اللهِ) أي ما ذكرناه أدلّة الله التي نصبها لخلقه المكلّفين (نَتْلُوها عَلَيْكَ) أي نقرأها عليك يا محمد لتقرأها عليهم (بِالْحَقِ) دون الباطل ، والتلاوة الإتيان بالثاني في أثر الأول في القراءة ، والحقّ الذي تتلى به الآيات هو كلام مدلوله على ما هو به في جميع أنواعه (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) معناه : إنّ هؤلاء الكفار ، إن لم يصدّقوا بما تلوناه عليك فبأيّ حديث بعد حديث الله وهو القرآن وآياته يصدّقون ، وبأيّ كلام ينتفعون؟ وهذا إشارة إلى انّ المعاند لا حيلة له ، والفرق بين الحديث الذي هو القرآن وبين الآيات : انّ الحديث قصص يستخرج منه عبر تبيّن الحق من الباطل ، والآيات هي الأدلّة الفاصلة بين الصحيح والفاسد (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الافّاك الفعّال من الافك : وهو الكذب ، ويطلق ذلك على من يكثر كذبه أو يعظم كذبه ، وان كان في خبر واحد ككذب مسيلمة في ادعاء النبوة والاثيم ذو الإثم وهو صاحب المعصية التي يستحقّ بها العقاب ، والويل : كلمة وعيد يتلقى بها الكفار وقيل : هو واد سائل من صديد جهنّم. ثم وصف سبحانه الأفاك الأثيم بقوله (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ) أي يسمع آيات القرآن التي فيها الحجة تقرأ عليه (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) أي يقيم على كفره وباطله متعظّما عند نفسه عن الانقياد للحق (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أصلا في عدم القبول لها ، والاعتبار بها (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي مؤلم (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) أي وإذا علم هذا الأفاك الأثيم من حججنا وأدلّتنا شيئا استهزأ بها ليري العوام انّه لا حقيقة لها كما فعله أبو جهل حين سمع قوله (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) ، أو كما فعله النضر بن الحارث حين كان يقابل القرآن بأحاديث الفرس (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي مذلّ مخز مع ما فيه من الألم (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي من وراء ما هم فيه من التعزّز بالمال والدنيا جهنّم ومعناه : قدّامهم ومن بين أيديهم كقوله : وكان وراءهم ملك ، ووراء اسم يقع على القدّام والخلف ، فما توارى عنك فهو وراءك خلفك كان أو أمامك (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) أي لا يغني عنهم ما حصّلوه وجمعوه من المال والولد شيئا من عذاب الله تعالى (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) من الآلهة التي عبدوها لتكون شفعاءهم عند الله (وَلَهُمْ) مع ذلك (عَذابٌ عَظِيمٌ).

١١ ـ ١٥ ـ ثمّ قال سبحانه (هذا هُدىً) أي هذا القرآن الذي تلوناه ، والحديث الذي ذكرناه هدى أي دلالة موصلة إلى الفرق بين الحق والباطل من أمور الدين والدنيا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) وجحدوها (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) مرّ معناه. ثم نبّه سبحانه خلقه على وجه الدلالة على توحيده فقال (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) أي جعله على هيئة لتجري السفن فيه (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي ولتطلبوا بركوبه في أسفاركم من الأرباح بالتجارات (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) له هذه النعمة (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي وسخّر لكم مع ذلك معاشر الخلق ما في السماوات من الشمس والقمر والنجوم والمطر والثلج والبرد ، وما في الأرض من الدوابّ والأشجار والنبات والأثمار والأنهار ، ومعنى تسخيرها لنا : انّه تعالى خلقها جميعا لانتفاعنا

٦٦٦

بها فهي مسخّرة لنا من حيث انّا ننتفع بها على الوجه الذي نريده (جَمِيعاً مِنْهُ) كلّ ذلك منه تفضّل وإحسان ، ويحسن الوقف على قوله جميعا ثم يقول : منه ، أي ذلك التسخير منه لا من غيره ، فهو فضله وإحسانه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي دلالات (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (قُلْ) يا محمد (لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) هذا جواب أمر محذوف دلّ عليه الكلام ، وتقديره : قل لهم اغفروا يغفروا ، فصار قل لهم على هذا الوجه يغني عنه ، وقيل معناه : قل للذين آمنوا اغفروا ولكنّه شبّه بالشرط والجزاء (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي لا يخافون عذاب الله إذا نالوكم بالأذى والمكروه ؛ وقد مرّ تفسير أيّام الله عند قوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) ، ومعنى يغفروا ها هنا : يتركوا مجازاتهم على أذاهم ولا يكافؤوهم ليتولّى الله مجازاتهم (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بيان هذا الجزاء بالآية التي تليها وهو قوله (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) أي طاعة وخيرا وبرّا (فَلِنَفْسِهِ) لأنّ ثواب ذلك يعود عليه (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي فوبال إساءته على نفسه (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة أي إلى حيث لا يملك أحد النفع والضرّ والنهي والأمر غيره سبحانه ، فيجازي كل إنسان على قدر عمله.

١٦ ـ ٢٠ ـ لمّا تقدّم ذكر النعمة ومقابلتهم إيّاها بالكفر والطغيان ، بيّن عقيب ذلك ذكر ما كان من بني إسرائيل أيضا في مقابلة النعم من الكفران فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) يعني التوراة (وَالْحُكْمَ) يعني العلم بالدين وقيل : العلم بالفصل بين الخصمين ، وبين المحق والمبطل (وَالنُّبُوَّةَ) أي وجعلنا فيهم النبوّة (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي وأعطيناهم من أنواع الطيّبات (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم وقيل : فضّلناهم في كثرة الأنبياء منهم على سائر الأمم وإن كانت أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل منهم في كثرة المطيعين لله ، وكثرة العلماء منهم ، كما يقال : هذا أفضل في علم النحو ، وذاك في علوّ الفقه ، فأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل في علوّ منزلة نبيّها عند الله على سائر الأنبياء ، وكثرة المجتبين الأخيار من آله وأمّته ، والفضل : الخير الزائد على غيره ، فأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل بفضل محمد وآله (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي أعطيناهم دلالات وبراهين واضحات من العلم بمبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما بيّن لهم من أمره (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي من بعد ما انزل الله الكتب على أنبيائهم ، وأعلمهم بما فيها (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي طلبا للرئاسة ، وأنفة من الإذعان للحق (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ظاهر المعنى (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي ثمّ جعلناك يا محمد على دين ومنهاج وطريقة ، يعني بعد موسى وقومه ، والشريعة : السنّة التي من سلك طريقها أدّته إلى البغية كالشريعة التي هي طريق إلى الماء ، فهي علامة منصوبة على الطريق من الأمر والنهي يؤدّي الى الجنّة ، كما يؤدّي ذلك إلى الوصول إلى الماء (فَاتَّبِعْها) أي اعمل بهذه الشريعة (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الحق ، ولا يفصلون بينه وبين الباطل من أهل الكتاب الذين غيّروا التوراة اتباعا لهواهم ، وحبّا للرئاسة واستتباعا للعوام ، ولا المشركين الذين اتّبعوا أهواءهم في عبادة الأصنام (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن يدفعوا عنك شيئا من عذاب الله ان اتّبعت أهواءهم (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) يعني انّ الكفار بأجمعهم متّفقون على معاداتك ، وبعضهم أنصار بعض عليك (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي ناصرهم وحافظهم فلا تشغل قلبك بتناصرهم وتعاونهم عليك ، فإن الله ينصرك عليهم ويحفظك (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ) أي هذا الذي أنزلته عليك من القرآن بصائر ، أي معالم في الدين وعظات

٦٦٧

وعبر للناس يبصرون بها من أمور دينهم (وَهُدىً) أي دلالة واضحة (وَرَحْمَةٌ) أي ونعمة من الله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بثواب الله وعقابه لأنّهم هم المنتفعون به.

٢١ ـ ٢٥ ـ ثم قال سبحانه للكفار على سبيل التوبيخ لهم (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) هذا استفهام انكار معناه : أم حسب الذين اكتسبوا الشرك والمعاصي أن نجعل منزلتهم منزلة الذين صدقوا الله ورسوله ، وحقّقوا أقوالهم بأعمالهم (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) أي يستوي محيا القبيلين ومماتهم ، يعني أحسبوا أنّ حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء ما حكموا على الله تعالى فإنّه لا يسوّي بينهم ، ولا يستقيم ذلك في العقول ، بل ينصر المؤمنين في الدنيا ويمكّنهم من المشركين ، ولا ينصر الكافرين ولا يمكنهم من المسلمين ، وينزل الملائكة عند الموت على المؤمنين بالبشرى ، وعلى الكافرين يضربون وجوههم وأدبارهم (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي لم يخلقهما عبثا وإنما خلقهما لنفع خلقه بأن يكلّفهم ، ويعرضهم للثواب الجزيل (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من ثواب على طاعة ، أو عقاب على معصية (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا يبخسون حقوقهم. ثم قال (أَفَرَأَيْتَ) يا محمد (مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي اتخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئا إلّا ركبه لأنّه لا يؤمن بالله ولا يخافه ، فاتّبع هواه في أموره ، ولا يحجزه تقوى ، فإذا استحسن شيئا وهواه اتخذه إلها ، وكان أحدهم يعبد الحجر ، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) أي خذله الله وخلّاه وما اختاره جزاء له على كفره وعناده وقيل : (أَضَلَّهُ اللهُ) : أي وجده ضالا على حسب ما علمه ، فخرج معلومه على وفق ما علمه (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) فسّرناه في سورة البقرة (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي من بعد هداية الله إيّاه والمعنى : إذا لم يهتد بهدى الله بعد ظهوره ووضوحه فلا طمع في اهتدائه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتّعظون بهذه المواعظ ؛ وهذا استبطاء بالتذكر منهم ، أي تذكّروا واتّعظوا حتى تحصلوا على معرفة الله تعالى. ثم أخبر سبحانه عن منكري البعث فقال (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ليس الحياة إلّا حياتنا التي نحن فيها في دار الدنيا ، ولا يكون بعد الموت بعث ولا حساب (نَمُوتُ وَنَحْيا) يموت بعضنا ، ويحيا بعضنا كما قال : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، أي ليقتل بعضكم بعضا (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي وما يميتنا إلّا الأيام والليالي ، أي مرور الزمان ، وطول العمر ، انكارا منهم للصانع (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) نفى سبحانه عنهم العلم ، أي إنّما ينسبون ذلك إلى الدهر لجهلهم ، ولو علموا انّ الذي يميتهم هو الله ، وانّه قادر على احيائهم لما نسبوا الفعل إلى الدهر (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي ما هم فيما ذكروه إلّا ظانّون ، وإنما الأمر بخلافه ثم قال سبحانه (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي إذا قرأت عليهم حججنا ظاهرات (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي لم يكن لهم في مقابلتها حجّة إلّا مقالتهم ان كنتم صادقين في ان الله يعيد الأموات ويبعثهم يوم القيامة فأتوا بآبائنا واحيوهم حتى نعلم انّ الله قادر على بعثنا ، وإنّما لم يجبهم الله إلى ذلك لأنّهم قالوا ذلك متعنتين مقترحين لا طالبين الرشد.

٢٦ ـ ٣٠ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه رادّا على الكفار قولهم فقال (قُلِ) يا محمد (اللهُ يُحْيِيكُمْ) في دار الدنيا ، لأنّه لا يقدر على الإحياء أحد سواه لأنّه القادر لنفسه (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بأن يبعثكم ويعيدكم أحياء (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شكّ فيه ، لقيام الحجة عليه ، وإنّما احتج بالإحياء في دار الدنيا لأنّ من قدر على فعل

٦٦٨

الحياة في وقت قدر على فعلها في كل وقت ، ومن عجز عن ذلك في وقت مع ارتفاع الموانع المعقولة ، وكونه حيا عجز عنه في كلّ وقت (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك بعدولهم عن النظر الموجب للعلم بصحته (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو قادر على البعث والإعادة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) العادلون عن الحق ، الفاعلون للباطل أنفسهم وحياتهم في الدنيا لا يحصلون من ذلك إلّا على عذاب دائم (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) أي وترى يوم القيامة أهل كل ملّة باركة على ركبها ، عن ابن عباس وقيل : باركة مستوفزة على ركبها كهيئة قعود الخصوم بين يدي القضاة عن مجاهد والضحاك وابن زيد وقيل : إنّ الجثوّ للكفار خاصّة وقيل : هو عامّ للكفار والمؤمنين ينتظرون الحساب (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي كتاب أعمالها الذي كان يستنسخ لها وقيل : إلى كتابها المنزل على رسولها ليسئلوا عما عملوا به (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يقال لهم ذلك (هذا كِتابُنا) يعني ديوان الحفظة (يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) أي يشهد عليكم بالحق والمعنى : يبيّنه بيانا شافيا حتى كأنّه ناطق (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي نستكتب الحفظة ما كنتم تعملون في دار الدنيا ، والاستنساخ : الأمر الحفظة ما كنتم تعملون في دار الدنيا ، والاستنساخ : الأمر بالنسخ مثل الاستكتاب : الأمر بالكتابة ، وقيل : المراد بالكتاب اللوح المحفوظ يشهد بما قضي فيه من خير وشرّ ، وعلى هذا فيكون معنى نستنسخ : ان الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوّن عندها من أحوال العباد ، وهو قول ابن عباس (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي جنّته وثوابه (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي الفلاح الظاهر.

٣١ ـ ٣٧ ـ ثم عقّب سبحانه الوعد بالوعيد فقال (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي فيقال لهم : أفلم تكن حججي وبيّناتي تقرأ عليكم من كتابي (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي تعظمتم عن قبولها (وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي كافرين كما قال : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) والفاء في قوله أفلم تكن دالّة على جواب اما المحذوف (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي ان ما وعد الله به من الثواب والعقاب كائن لا محالة (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) أي وانّ القيامة لا شكّ في حصولها (قُلْتُمْ) معاشر الكفار (ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) وأنكرتموها (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) ونشكّ فيه (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) في ذلك (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي ظهر لهم جزاء معاصيهم التي عملوها (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي جزاء استهزائهم (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) أي نترككم في العقاب (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي تركتم التأهّب للقاء يومكم هذا عن ابن عباس وقيل معناه نحلّكم في

__________________

قال الإمام الصّادق عليه‌السلام ؛ من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه ، وجعله الله عزوجل مع السفرة الكرام البررة ، وكان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة ؛ يقول : يا رب إنّ كلّ عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي ، فبلّغ به أكرم عطاياك.

قال : فيكسوه الله العزيز الجبار حلّتين من حلل الجنّة ، ويوضع على رأسه تاج الكرامة ، ثم يقال له : هل أرضيناك فيه؟.

فيقول القرآن يا ربّ قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا ؛ فيعطى الأمن بيمينه ، والخلد بيساره ، ثم يدخل الجنة ، فيقال له : اقرأ واصعد درجة ، ثم يقال له : هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول : نعم.

قال : ومن قرأه كثيرا وتعاهده بمشقّة من شدّة حفظه أعطاه الله أجر هذا مرتين. أصول الكافي : ٢ / ٦٠٤.

٦٦٩

العذاب محلّ المنسي كما أحللتم هذا اليوم عندكم محلّ المنسي (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أي مستقركم جهنّم (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون عنكم عذاب الله (ذلِكُمْ) الذي فعلنا بكم (بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) أي سخرية تسخرون منها (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي خدعتكم بزينتها فاغتررتم بها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أي من النار وقرأ أهل الكوفة غير عاصم يخرجون بفتح الياء كما في قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم العتبى والاعتذار لأن التكليف قد زال وقيل معناه لا يقبل منهم العتبى. ثم ذكر سبحانه عظمته فقال (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي الشكر التامّ ، والمدحة التي لا يوازيها مدحة لله الذي خلق السماوات والأرض ودبّرهما ، وخلق العالمين (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) أي السلطان القاهر ، والعظمة القاهرة ، والعلوّ والرفعة (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا يستحقهما أحد سواه ، وفي الحديث يقول الله سبحانه : الكبرياء ردائي ، والعظمة ازاري ، فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في جهنّم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في جلاله (الْحَكِيمُ) في أفعاله وقيل العزيز في انتقامه من الكفار والحكيم فيما يفعله بالمؤمنين والأخيار.

سورة الأحقاف

مكية وعدد آياتها خمس وثلاثون آية

لمّا ختم الله تلك السورة بذكر التوحيد وذمّ أهل الشرك والوعيد افتتح هذه السورة أيضا بالتوحيد ثم بالتوبيخ لاهل الكفر من العبيد فقال :

١ ـ ٥ ـ (حم) قد تقدّم القول فيه ، وقيل في وجه الاشتراك في افتتاح هذه السور السبع ب حم؟؟؟ : انه للمشاكلة التي بينها بما يختص به وليس لغيرها ، وذلك ان كل واحدة منها استفتحت بصفة الكتاب مع تقاربهما في الطول ، ومع شدة تشاكل الكلام في النظم (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) وأضاف التنزيل إلى نفسه في مواضع من السور استفتاحا بتعظيم شأنه ، وتفخيم قدره باضافته إلى نفسه من أكرم الوجوه وأجلّها ، وما اقتضى هذا المعنى لم يكن تكريرا ، فقد يقول القائل : اللهم اغفر لي ، اللهم ارحمني ، اللهم عافني ، اللهم وسّع عليّ في رزقي ، فيأتي بما يؤذن أن تعظيمه لربه منعقد بكل ما يدعو به. وقوله (مِنَ اللهِ) يدل على ان ابتداءه من الله تعالى (الْعَزِيزِ) أي القادر الذي لا يغالب (الْحَكِيمِ) العالم الذي أفعاله كلها حكمة وصواب (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) اي ما خلقناهما عبثا ولا باطلا ، وانما خلقناهما لنتعبد سكانهما بالامر والنهي ، ونعرضهم للثواب وضروب النعم ، فنجازيهم في الآخرة باعمالهم (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) يعني يوم القيامة ، فانه اجل مسمى عنده ، مطوي عن العباد علمه اذا انتهى اليه تناهى وقامت القيامة وقيل : هو مسمى للملائكة وفي اللوح المحفوظ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) اي ان الكافرين عما انذروا من القيامة والجزاء معرضون عادلون عن التفكر فيه (قُلْ) لهؤلاء الذين كفروا بالله (أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الاصنام (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) فاستحقوا بخلق ذلك العبادة والشكر (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) اي في خلقها وتقديره : ام لهم شرك ونصيب في خلق السماوات. ثم قال : قل لهم (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) القرآن انزله الله يدل على صحة قولكم (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) اي بقية من علم يؤثر من كتب الاولين يعلمون به انهم

٦٧٠

شركاء لله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تقولون عن مجاهد وقيل : او اثارة من علم ، اي خبر من الانبياء عن عكرمة ومقاتل وقيل : هو الخط اي خبر من الانبياء عن عكرمة ومقاتل وقيل : هو الخط اي بكتاب مكتوب عن ابن عباس وقيل : خاصة من علم أوثرتم بها عن قتادة والمعنى : فهاتوا احدى هذه الحجج الثلاث : اولاها دليل العقل ، والثانية الكتاب ، والثالثة الخبر المتواتر ، فاذا لم يمكنهم شيء من ذلك فقد وضح بطلان دعواهم (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) اي من اضل عن طريق الصواب ممن يدعو من دون الله شيئا لو دعاه الى يوم القيامة لم يجبه ولم يغثه ، والمراد : انه لا يستجيب له ابدا (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) اي ومن يدعونهم مع ذلك لا علم لهم بدعائهم ، ولا يسمعون دعاءهم وانما كنّى عن الاصنام بالواو والنون لما اضاف اليها ما يكون من العقلاء كقوله رأيتهم لي ساجدين.

النزول

قيل : نزلت الآية الاخيرة في عبد الله بن سلام وهو الشاهد من بني اسرائيل ، فروي ان عبد الله بن سلام جاء الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأسلم وقال : يا رسول الله سل اليهود عني فانهم يقولون : هو أعلمنا ، فاذا قالوا ذلك قلت لهم : ان التوراة دالّة على نبوتك ، وإن صفاتك فيها واضحة ، فلما سألهم قالوا ذلك ، فحينئذ اظهر عبد الله بن سلام ايمانه فكذّبوه.

٦ ـ ١٠ ـ ثم ذكر سبحانه انه اذا قامت القيامة صارت آلهتهم التي عبدوها اعداء لهم فقال (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) وكذلك قوله : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) يعني ان هذه الاوثان ينطقها الله حتى يجحدوا ان يكونوا دعوا الى عبادتها ، ويكفروا بعبادة الكفار ، ويجحدوا ذلك. ثم وصفهم الله سبحانه فقال (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) اي للقرآن والمعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) اي حيلة لطيفة ظاهرة ، وخداع بيّن (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ) يا محمد لهم (إِنِ افْتَرَيْتُهُ) اي ان كذبت على الله ، واختلقت القرآن كما زعمتم (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) اي ان كان الامر على ما تقولون : اني ساحر مفتر فلا يمكنكم ان تمنعوا الله مني اذا اراد اهلاكي على افترائي عليه والمراد : كيف افتري على الله من اجلكم وانتم لا تقدرون على دفع عقابه عني ان افتريت عليه؟ (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) اي ان الله اعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب به ، والقول فيه انه سحر (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ان القرآن جاء من عنده (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) في تأخير العقاب عنكم حين لا يعجل بالعقوبة قال الزجاج : هذا دعاء لهم إلى التوبة ، أي من أتى من الكبائر مثل ما أتيتم به من الافتراء على الله وعليّ ، ثم تاب فإن الله غفور له ، رحيم به (قُلْ) يا محمد (ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي لست بأول رسول بعث عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والبدع : الأول من الأمر (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي لا أدري أأموت أم أقتل ، ولا أدري أيّها المكذّبون أترمون بالحجارة من السماء ، أم يخسف بكم ، أم ليس يفعل بكم ما فعل بالأمم المكذّبة ، وهذا إنّما هو في الدنيا ، وأما في الآخرة فإنّه قد علم أنّه في الجنة وانّ من كذّبه في النار ، عن الحسن والسدّي وقيل : معناه لست أدّعي غير الرسالة ، ولا أدّعي علم الغيب ، ولا معرفة ما يفعله الله تعالى بي ولا بكم من الإحياء والإماتة ، والمنافع والمضارّ إلّا أن يوحى إليّ ، عن أبي مسلم وقيل : ما أدري ما أؤمر به ولا ما تؤمرون به عن الضحاك وقيل : ما أدري أأترك بمكّة أم أخرج منها بأن أومر بالتحول عنها إلى بلد آخر ، وما أدري أأومر بقتالكم أو بالكفّ عن قتالكم ، وهل ينزل بكم

٦٧١

العذاب أم لا (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي لست أتبع في أمركم من حرب أو سلم ، أو أمر أو نهي إلّا ما يوحي الله إليّ ، وما يأمرني به (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوّف لكم ظاهر (قُلْ) يا محمد لهم (أَرَأَيْتُمْ) معناه : أخبروني ماذا تقولون (إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ان كان هذا القرآن من عند الله هو أنزله ، وهذا النبي رسوله (وَكَفَرْتُمْ) أنتم أيها المشركون به (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) يعني عبد الله بن سلام (عَلى مِثْلِهِ) معناه : عليه ، أي على انه من عند الله (فَآمَنَ) يعني الشاهد (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أنتم على الإيمان به والجواب قوله ان كان من عند الله محذوف وتقديره ألستم من الظالمين ويدلّ على هذا المحذوف قوله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وقيل جوابه : فمن أضلّ منكم عن الحسن وقيل : جوابه أفتؤمنون.

١١ ـ ١٥ ـ ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين جحدوا وحدانيّته فقال (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي لو كان هذا الذي يدعونا إليه محمد خيرا : أي نفعا عاجلا أو آجلا ما سبقنا هؤلاء الذين آمنوا به إلى ذلك ، لأنّا كنّا بذلك أولى ؛ واختلف فيمن قال ذلك فقيل : هم اليهود قالوا : لو كان دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيرا ما سبقنا إليه عبد الله بن سلام عن أكثر المفسرين وقيل : إنّ أسلم وجهينة ومزينة وغفارا لما أسلموا قال بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع هذا القول ، عن الكلبي (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي فإذ لم يهتدوا بالقرآن من حيث لم يتدبّروه فسيقولون : هذا القرآن كذب متقادم ، أي أساطير الأولين. ثم قال سبحانه (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي من قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة (إِماماً) يقتدى به (وَرَحْمَةً) من الله للمؤمنين به قبل القرآن ، وتقدير الكلام : وتقدمه كتاب موسى إماما فلم يهتدوا به ، وذلك ان المشركين لم يهتدوا بالتوراة فيتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان ، ويعرفوا منها صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَهذا كِتابٌ) يعني القرآن (مُصَدِّقٌ) للكتب التي قبله (لِساناً عَرَبِيًّا) ذكر اللسان توكيدا كما تقول جاءني زيد رجلا صالحا ، فتذكر رجلا توكيدا (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لتخوّفهم ، يخاطب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) وبشارة للمؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي وحدّوا الله تعالى بلسانهم ، واعترفوا به ، وصدّقوا أنبياءه ، (ثُمَّ اسْتَقامُوا) استمرّوا على أن الله ربّهم وحده ، لم يشركوا به شيئا ، عن مجاهد ، وقيل معناه : ثم استقاموا على طاعته ؛ وأداء فرائضه ، عن ابن عباس ، والحسن وقتادة وابن زيد (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من العقاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من أهوال يوم القيامة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) الملازمون لها ، المنّعمون فيها (خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) في الدنيا من الطاعات ، والأعمال الصالحات (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) مرّ تفسيره (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) أي بكره ومشقّة عن الحسن وقتادة ومجاهد ، يعني حين أثقلت وثقل عليها الولد (وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) يريد به شدّة الطلق عن ابن عباس (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) يريد انّ أقل مدة الحمل ، وكمال مدّة الرضاع ثلاثون شهرا قال إبن عباس : إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت أحدا وعشرين شهرا ، وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وهو ثلاث وثلاثون سنة عن ابن عباس وقتادة

٦٧٢

وقيل : بلوغ الحلم عن الشعبي وقيل : وقت قيام الحجة عليه عن الحسن وقيل : هو أربعون سنة وذلك وقت انزال الوحي على الأنبياء ، ولذلك فسّر به فقال (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) فيكون هذا بيانا لزمان الأشدّ ، وأراد بذلك أنّه يكمل له رأيه ويجتمع عليه عقله عند الأربعين سنة (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي الهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) قد مرّ تفسيره في سورة النمل (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي اجعل ذرّيتي صالحين عن الزجاج وقيل : انه دعاء باصلاح ذرّيته لبرّه وطاعته لقوله أصلح لي وقيل : انه الدعاء بإصلاحهم لطاعة الله عزوجل وهو عبادته ، وهو الأشبه ، لأنّ طاعتهم لله من برّه ، لأنّ اسم الذرية يقع على من يكون بعده وقيل معناه : اجعلهم لي خلف صدق ، ولك عبيد حق ، عن سهل بن عبد الله (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) من سيّئاتي وذنوبي (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين لأمرك.

١٦ ـ ٢٠ ـ ثم أخبر سبحانه بما يستحقّه هذا الإنسان من الثواب فقال (أُولئِكَ) يعني أهل هذا القول (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي يثابون على طاعاتهم والمعنى : نقبل بايجاب الثواب لهم أحسن أعمالهم وهو ما يستحق به الثواب من الواجبات والمندوبات ، فإنّ المباح أيضا من قبيل الحسن ولا يوصف بأنّه متقبل (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) التي اقترفوها (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي في جملة من يتجاوز عن سيئاتهم وهم أصحاب الجنة ، فيكون قوله في أصحاب الجنة في موضع نصب على الحال (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وعدهم وعد الصدق ، وهو ما وعد أهل الإيمان بأن يتقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم إذا شاء أن يتفضل عليهم بإسقاط عقابهم أو إذا تابوا والوعد الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) إذا دعوه إلى الإيمان (أُفٍّ لَكُما) وهي كلمة تبرّم يقصد بها إظهار التسخّط ومعناه : بعدا لكما وقيل معناه : نتنا وقذرا لكما كما يقال عند شمّ الرائحة المكروهة (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) من القبر وأحيا وأبعث (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) أي مضت الأمم وماتوا قبلي فما أخرجوا ولا أعيدوا وقيل معناه : خلت القرون على هذا المذهب ينكرون البعث (وَهُما) يعني والديه (يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي يستصرخان الله ويطلبان منه الغوث ليتلطف له بما يؤمن عنده ، ويقولان له (وَيْلَكَ آمِنْ) بالقيامة وبما يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والنشور والثواب والعقاب (حَقٌّ فَيَقُولُ) هو في جوابهما ما هذا القرآن وما تزعمانه وتدعوانني إليه (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أخبار الأوّلين وأحاديثهم التي سطروها وليس لها حقيقة ، والآية عامّة في كل كافر عاق لوالديه ، عن الحسن وقتادة والزجاج ، قالوا : ويدل عليه انه قال عقيبها (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) أي حقت عليهم كلمة العذاب في أمم : أي مع أمم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) على مثل حالهم واعتقادهم. ثم قال سبحانه مخبرا عن حالهم (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنفسهم إذ أهلكوها بالمعاصي (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي لكل واحد ممّن تقدم ذكره من المؤمنين البررة ، والكافرين الفجرة درجات على مراتبهم ، ومقادير أعمالهم ، فدرجات الأبرار في علّيين ، ودرجات الفجّار دركات في سجين (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي جزاء أعمالهم وثوابها ومن قرأ بالياء فالمعنى وليوفّيهم الله أعمالهم (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بعقاب لا يستحقونه ، أو بمنع ثواب يستحقونه (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) يعني يوم القيامة ، أي يدخلون النار كما يقال : عرض فلان على السوط وقيل معناه عرض عليهم النار قبل أن يدخلوها ليروا أهوالها (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) أي فيقال لهم : آثرتم طيباتكم ولذّاتكم في الدنيا على طيّبات الجنة

٦٧٣

(وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) أي انتفعتم بها منهمكين فيها وقيل : هي الطيبات من الرزق يقول انفقتموها في شهواتكم وفي ملاذّ الدنيا ، ولم تنفقوها في مرضاة الله. ولمّا وبّخ الله سبحانه الكفار بالتمتّع بالطيبات واللذات في هذه الدار آثر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام الزهد والتقشف ، وروى محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام انه قال : والله ان كان عليّ عليه‌السلام ليأكل أكلة العبد ، ويجلس جلسة العبد ، وان كان يشتري القميصين فيخيّر غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر ، فإذا جاز أصابعه قطعه ، وإذا جاز كعبه حذفه ، ولقد ولي خمس سنين ما وضع آجرّة على آجرّة ، ولا لبنة على لبنة ، ولا أورث بيضاء ولا حمراء ، وان كان ليطعم الناس خبز البرّ واللحم وينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير والزيت والخلّ ، وما ورد عليه أمران كلاهما لله عزوجل فيه رضى إلّا أخذ بأشدهما على بدنه ، ولقد اعتق ألف مملوك من كدّ يمينه تربت منه يداه ، وعرق فيه وجهه ، وما أطاق عمله أحد من الناس بعده ، وان كان ليصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، وان كان أقرب الناس شبها به عليّ بن الحسين عليهما‌السلام (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي العذاب الذي فيه الذلّ والخزي والهوان (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي باستكباركم عن الانقياد للحق في الدنيا ، وتكبرهم على أنبياء الله وأوليائه بغير الحق (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي بخروجكم من طاعة الله إلى معاصيه.

٢١ ـ ٢٥ ـ ثم قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاذْكُرْ) يا محمد لقومك أهل مكّة (أَخا عادٍ) يعني هودا (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) أي خوّفهم بالله تعالى ، ودعاهم إلى طاعته (بِالْأَحْقافِ) وهو واد بين عمان ومهرة (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي وقد مضت الرسل من قبل هود (ع) ومن بعده (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي إني لم أبعث قبل هود ولا بعده إلا بالأمر بعبادة الله وحده (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وتقدير الكلام : إذ أنذر قومه بالاحقاف فقال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) الآية ثم حكى ما أجاب به قومه بقوله (قالُوا أَجِئْتَنا) يا هود (لِتَأْفِكَنا) أي لتلفتنا وتصرفنا (عَنْ آلِهَتِنا) أي عن عبادة آلهتنا (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ان العذاب نازل بنا (قالَ) هود (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) هو يعلم متى يأتيكم العذاب لا أنا (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم ، أي وأنا أبلّغكم ما أمرت بتبليغه إليكم (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) حيث لا تجيبون إلى ما فيه صلاحكم ونجاتكم ، وتستعجلون العذاب الذي فيه هلاككم ، وهذا لا يفعله إلّا الجاهل بالمنافع والمضار (فَلَمَّا رَأَوْهُ) مما يوعدون (عارِضاً) أي سحابا يعرض في ناحية من السماء ثم يطبق السماء (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) قالوا : كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيّاما فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد لهم يقال له : المغيث ، فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي سحاب ممطر إيانا ، فقال هود (ع) (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) أي ليس هو كما توهّمتم ، بل هو الذي وعدتكم به وطلبتم تعجيله ، ثم فسره فقال (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) أي هو ريح فيها عذاب مؤلم (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) أي تهلك كل شيء مرت به من الناس والدواب والأموال ؛ واعتزل هود ومن معه في حظيرة لم يصبهم من تلك الريح إلّا ما تلين على الجلود ، وتلتذّ به الأنفس ، وانها لتمر من عاد بالظعن ما بين السماء والأرض حتى ترى الظعينة كأنها جرادة (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) وما عداها قد هلك (كَذلِكَ) أي مثل ما أهلكنا أهل الأحقاف وجازيناهم بالعذاب (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي الكافرين الذين يسلكون مسالكهم.

٦٧٤

٢٦ ـ ٣٠ ـ ثم خوّف سبحانه كفار مكّة وذكر فضل عاد بالأجسام والقوة عليهم فقال (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ) أي في الذي ما مكناكم (فِيهِ) والمعنى : في الشيء الذي لم نمكّنكم فيه من قوة الأبدان ، وبسطة الأجسام ، وطول العمر ، وكثرة الأموال ، عن ابن عباس وقتادة ، والمعنى : مكّنّاهم من الطاعات ، وجعلناهم قادرين متمكنين بنصب الأدلة على التوحيد ، والتمكين من النظر إليها والترغيب والترهيب وإزاحة العلل في جميع ذلك (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) ثم أخبر سبحانه عن أولئك انهم أعرضوا عن قبول الحجج ، والتفكر فيما يدلهم على التوحيد مع ما أعطاهم الله من الحواس الصحيحة التي بها تدرك الأدلة (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي لم ينفعهم جميع ذلك لأنّهم لم يعتبروا ذلك ، ولا استعملوا أبصارهم وأفئدتهم في النظر والتدبر (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) وأدلّته (وَحاقَ بِهِمْ) أي حلّ بهم جزاء (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) معناه : ولقد أهلكنا يا أهل مكّة ما حولكم وهم قوم هود وكانوا باليمن ، وقوم صالح بالحجر ، وقوم لوط على طريقهم إلى الشام (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) تصريف الآيات تصييرها تارة في الإعجاز ، وتارة في الإهلاك ، وتارة في التذكير بالنعم وتارة في التذكير بالنقم ، وتارة في وصف الأبرار ليقتدى بهم ، وتارة في وصف الفجّار ليجتنب مثل فعلهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكي يرجعوا عن الكفر (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) أي فهلا نصر هؤلاء المهلكين الذين اتخذوهم آلهة ، وزعموا انهم يعبدونهم تقربا إلى الله تعالى ثم لم ينصروهم ، لأنّ هذا استفهام إنكار (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي ضلّت الآلهة وقت الحاجة إليها فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) أي اتّخاذهم الآلهة دون الله (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يكذبون من انها آلهة. ثم بيّن سبحانه ان في الجنّ مؤمنين وكافرين كما في الإنس فقال (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) معناه : واذكر يا محمد اذ وجّهنا اليك جماعة من الجن تستمع القرآن ، وقيل معناه صرفناهم إليك عن بلادهم بالتوفيق والألطاف حتى أتوك وقيل : صرفناهم إليك عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه فقالوا : ما هذا الذي حدث في السماء إلا من أجل شيء قد حدث في الأرض ، فضربوا في الأرض حتى وقفوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببطن نخلة عامدا إلى عكاظ وهو يصلّي الفجر ، فاستمعوا القرآن ونظروا كيف يصلّي ، عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، وعلى هذا فيكون الرمي بالشهب لطفا للجن (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي حضروا القرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قالُوا أَنْصِتُوا) أي قال بعضهم لبعض : اسكتوا لنستمع إلى قراءته فلا يحول بيننا وبين القرآن شيء (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ من تلاوته (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ) أي انصرفوا إلى قومهم (مُنْذِرِينَ) أي محذّرين إياهم عذاب الله إن لم يؤمنوا (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) يعنون القرآن (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما تقدمه من الكتب (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي يرشد إلى دين الحق ويدل عليه ، ويدعو إليه (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) يؤدي بسالكه إلى الجنة.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثمّ بيّن سبحانه تمام خبر الجن فقال حاكيا عنهم (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ دعاهم إلى توحيده ، وخلع الأنداد دونه (وَآمِنُوا بِهِ) أي بالله (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي فإنّكم إن آمنتم بالله

٦٧٥

ورسوله يغفر لكم ذنوبكم (وَيُجِرْكُمْ) أي ويخلصكم (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قال عليّ بن إبراهيم : فجاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فآمنوا به ، وعلّمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرائع الإسلام ، وأنزل الله سبحانه : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) إلى آخر السورة ، وكانوا يفرّون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كل وقت ؛ وفي هذا دلالة على أنه كان مبعوثا إلى الجن كما كان مبعوثا إلى الانس ، ولم يبعث الله نبيّا إلى الإنس والجن قبله (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي لا يعجز الله فيسبقه ويفوته (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي أنصار يمنعونه من الله ، ويدفعون عنه العذاب إذا نزل بهم (أُولئِكَ) يعني الذين لا يجيبون داعي الله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي عدول عن الحق ظاهر. ثم قال سبحانه منّبها على قدرته على البعث والإعادة فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أو لم يعلموا (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وأنشأهما (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أي لم يصبه في خلق ذلك اعياء ولا تعب (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أي فخلق السماوات والأرض أعجب من إحياء الموتى. ثم قال (بَلى) هو قادر عليه (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثمّ عقّبه بذكر الوعيد فقال (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) أي يقال لهم على وجه الاحتجاج عليهم : أليس هذا الذي جوزيتم به حق لا ظلم فيه (قالُوا) أي فيقولون : (بَلى وَرَبِّنا) اعترفوا بذلك وحلفوا عليه بعد ما كانوا منكرين (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بكفركم في الدنيا وانكاركم ، ثم قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي فاصبر يا محمد على أذى هؤلاء الكفار ، وعلى ترك إجابتهم لك كما صبر الرسل ، ومن هاهنا لتبيين الجنس كما في قوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ، وعلى هذا القول فيكون جميع الأنبياء هم أولو العزم ، لأنهم عزموا على أداء الرسالة ، وقيل : ان من ها هنا للتبعيض ، ثم اختلفوا فقيل : أولو العزم من الرسل من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدمه وهم خمسة ، أولهم نوح ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن ابن عباس وقتادة ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قال : وهم سادة النبيين ، وعليهم دارت رحا المرسلين ، وقيل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه ، وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر على الذبح ، ويعقوب صبر على فقد الولد ، وذهاب البصر ، ويوسف صبر في البئر والسجن ، وأيوب صبر على الضر والبلوى ، عن مقاتل ، وقيل : هم الذين أمروا بالجهاد والقتال ، وأظهروا المكاشفة ، وجاهدوا في الدين ، عن السدي والكلبي ، وقيل : هم إبراهيم وهود ونوح ، ورابعهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن أبي العالية. والعزم هو الوجوب والحتم ، وأولو العزم من الرسل هم الذين شرعوا الشرائع ، وأوجبوا على الناس الأخذ بها ، والانقطاع عن غيرها (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي ولا تستعجل لهم العذاب فإنه كائن واقع بهم عن قريب (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الآخرة (لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنّه ساعة من نهار ، لأن ما مضى كأن لم يكن وإن كان طويلا وتمّ الكلام. ثم قال (بَلاغٌ) أي هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم ، والبلاغ : بمعنى التبليغ (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي لا يقع العذاب إلّا بالعاصين الخارجين من أمر الله تعالى وقيل معناه لا يهلك على الله تعالى إلّا هالك مشرك ولّى ظهره الإسلام ، أو منافق صدّق بلسانه وخالف بعمله عن قتادة وقيل معناه : لا يهلك مع رحمة الله وتفضله إلّا

٦٧٦

القوم الفاسقون عن الزجاج قال : وما جاء في الرجاء لرحمة الله شيء أقوى من هذه الآية.

سورة محمد (ص)

مدنية

وآياتها ثمان وثلاثون

ختم الله سبحانه تلك السورة بوعيد الكفّار ، وافتتح هذه السورة بمثلها فقال جلّ ثناؤه :

١ ـ ٦ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا) بتوحيد الله وعبدوا معه غيره (وَصَدُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن سبيل الإيمان والإسلام باستدعائهم إلى تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ يعني مشركي العرب (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أحبط الله أعمالهم التي كان في زعمهم انها قربة ، وانها تنفعهم ، كالعتق والصدقة وقرى الضيف والمعنى : اذهبها وابطلها حتى كأنّها لم تكن إذ لم يروا لها في الآخرة ثوابا وقيل نزلت في المطعمين ببدر وكانوا عشرة أنفس ، أطعم كل واحد منهم الجند يوما (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي صدّقوا بتوحيد الله ، وأضافوا إلى ذلك الأعمال الصالحة (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) من القرآن والعبادات خصّ الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالذكر مع دخوله في الأول تشريفا له وتعظيما ، ولئلا يقول أهل الكتاب : نحن آمنا بالله وبأنبيائنا وكتبنا (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وما نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الحق من ربهم لأنّه ناسخ للشرائع ، والناسخ هو الحق وقيل معناه : ومحمد الحق من ربهم دون ما يزعمون من انه سيخرج في آخر الزمان نبيّ من العرب فليس هذا هو ، فردّ الله ذلك عليهم (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي سترها عنهم بأن غفرها لهم ، يعني غفر سيئاتهم المتقدمة بإيمانهم ، وحكم بإسقاط المستحق عليها من العقاب (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي أصلح حالهم في معاشهم وأمر دنياهم عن قتادة وقيل : أصلح أمر دينهم ودنياهم بأن نصرهم على أعدائهم في الدنيا ، ويدخلهم الجنة في العقبى. ثم بيّن سبحانه لم فعل ذلك ولم قسمهم هذين القسمين فقال (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ذلك الإضلال والإصلاح باتباع الكافرين الشرك وعبادة الشيطان ، واتباع المؤمنين التوحيد والقرآن ، وما أمر الله سبحانه باتباعه (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي كالبيان الذي ذكرنا يبين الله سبحانه للناس أمثال حسنات المؤمنين ، وسيّئات الكافرين ، فإن معنى قول القائل : ضربت لك مثلا : بيّنت لك ضربا من الأمثال عن الزجاج وقيل : أراد به المثل المقرون به فجعل الكافر في اتباعه الباطل كمن دعاه الباطل إلى نفسه فأجابه ، والمؤمن كمن دعاه الحق إلى نفسه فأجابه وقيل معناه : كما بيّنت عاقبة الكافر والمؤمن وجزاء كل واحد منهما أضرب للناس أمثالا يستدلون بها فيزيدهم علما ووعظا وأضاف المثل إليهم لأنه مجعول لهم. ثم أمر سبحانه بقتال الكفار فقال (فَإِذا لَقِيتُمُ) معاشر المؤمنين (الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أهل دار الحرب (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي فاضربوا رقابهم والمعنى : اقتلوهم (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي أثقلتموهم بالجراح وظفرتم بهم (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي احكموا وثاقهم في الأسر. أمر سبحانه بقتلهم ، والاثخان فيهم ليذلوا ، فإذا ذلّوا بالقتل اسروا ، فالأسر يكون بعد المبالغة في القتل كما قال سبحانه : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أي فإما ان تمنّوا عليهم منّا بعد أن تأسروهم فتطلقوهم بغير عوض ، وامّا ان تفدوهم فداء (حَتَّى

٦٧٧

تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي حتى يضع أهل الحرب أسلحتهم فلا يقاتلون والمعنى : حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا فلا يبقى إلّا الإسلام خير الأديان ، ولا تعبد الأوثان (ذلِكَ) أي الأمر الذي ذكرنا (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي من الكفار بإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء (وَلكِنْ) يأمركم بالحرب وبذل الأرواح في إحياء الدين (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ليمتحن بعضكم ببعض ، فيظهر المطيع من العاصي والمعنى : انه لو كان الغرض زوال الكفر فقط لأهلك الله سبحانه الكفار بما يشاء من أنواع الهلاك ، ولكن أراد مع ذلك أن يستحقوا الثواب وذلك لا يحصل إلّا بالتعبد وتحمّل المشاق (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في الجهاد في دين الله يوم أحد (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي لن يضيع الله أعمالهم ولن يهلكها ، بل يقبلها ويجازيهم عليها ثوابا دائما (سَيَهْدِيهِمْ) إلى طريق الجنة والثواب (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي شأنهم وحالهم (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي بيّنها لهم حتى عرفوها إذا دخلوها وتفرّقوا إلى منازلهم ، فكانوا أعرف بها من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم ، وقيل معناه : بيّنها لهم وأعلمهم بوضعها على ما يشوّق إليها ، فيرغبون فيها ، ويسعون لها ، وقيل معناه : طيّبها لهم ، عن ابن عباس.

٧ ـ ١٠ ـ ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي ان تنصروا دين الله ونبيّ الله بالقتال والجهاد (يَنْصُرْكُمْ) على عدوّكم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي يشجعكم ويقوّ قلوبكم لتثبتوا ، وقيل : ينصركم في الآخرة ويثبّت أقدامكم عند الحساب وعلى الصراط ، وقيل : وينصركم في الدنيا والآخرة ، ويثبّت أقدامكم في الدارين ، وهو الوجه قال قتادة : حقّ على الله أن ينصر من نصره لقوله : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) ، وان يزيد من شكره لقوله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ، وأن يذكر من ذكره لقوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ، وان يوفي بعهد من أقام على عهده لقوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) أي مكروها لهم وسوءا قال إبن عباس : يريد في الدنيا العسرة ، وفي الآخرة التردي في النار (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) مرّ معناه (ذلِكَ) التعس والاضلال (بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن والأحكام ، وأمرهم بالانقياد فخالفوا ذلك (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) لأنّها لم تقع على الوجه المأمور به. ثم نبّههم سبحانه على الاستدلال على صحة ما دعاهم إليه من التوحيد ، وإخلاص العبادة لله فقال (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) حين أرسل الله إليهم الرسل فدعوهم إلى توحيده وإخلاص العبادة له فلم يقبلوا منهم وعصوهم ، أي فهلّا ساروا ورأوا عواقب أولئك (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي أهلكهم. ثم قال (وَلِلْكافِرِينَ) بك يا محمد (أَمْثالُها) من العذاب ان لم يؤمنوا ويقبلوا ما تدعوهم إليه والمعنى : انهم يستحقون أمثالها وانما يؤخر الله سبحانه عذابهم إلى الآخرة تفضّلا منه.

١١ ـ ١٥ ـ ثم قال سبحانه (ذلِكَ) أي الذي فعلناه في الفريقين (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) يتولى نصرهم وحفظهم ، ويدفع عنهم (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ينصرهم ، ولا أحد يدفع عنهم لا عاجلا ولا آجلا.

ثم ذكر سبحانه حال الفريقين فقال (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها وأبنيتها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي سيرتهم سيرة الأنعام ، آثروا لذّات الدنيا وشهواتها واعرضوا عن العبر ، يأكلون للشبع ، ويتمتعون لقضاء

٦٧٨

الوطر (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي موضع مقامهم يقيمون فيها ، ثم خوّفهم وهدّدهم سبحانه فقال (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) يا محمد يعني مكّة (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أي أخرجك أهلها والمعنى : كم من رجال هم أشد من أهل مكّة ولهذا قال (أَهْلَكْناهُمْ) فكنّى عن الرجال (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) يدفع عنهم اهلاكنا إياهم والمعنى : فمن الذي يؤمّن هؤلاء ان أفعل بهم مثل ذلك.

ثم قال سبحانه على وجه التهجين والتوبيخ للكفار والمنافقين (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي على يقين من دينه ، وعلى حجّة واضحة من اعتقاده في التوحيد والشرائع (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) زيّن له الشيطان المعاصي وأغواه (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي شهواتهم وما تدعوهم إليه طباعهم ، وهو وصف لمن زيّن له سوء عمله وهم المشركون وقيل : هم المنافقون عن ابن زيد ، وهو المروي عن أبي جعفر (ع). ثم وصف الجنات التي وعدها المؤمنين بقوله (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) تقدم تفسيره في سورة الرعد (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغير لطول المقام كما تتغير مياه الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) فهو غير حامض ولا قارص ، ولا يعتريه شيء من العوارض التي تصيب الألبان في الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي لذيذة يلتذّون بشربها ، ولا يتأذّون بها ولا بعاقبتها بخلاف خمر الدنيا التي لا تخلو من المزازة والسكر والصداع (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي خالص من الشمع والرغوة والقذى ، ومن جميع الأذى والعيوب التي تكون لعسل الدنيا (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي مما يعرفون اسمها ومما لا يعرفون اسمها ، مبرّأة من كل مكروه يكون لثمرات الدنيا (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ولهم مع هذا مغفرة من ربّهم وهو انه يستر ذنوبهم ، وينسيهم سيّئاتهم حتى لا يتنغّص عليهم نعيم الجنة (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي من كان في هذه النعيم كمن هو خالد في النار (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) شديد الحرّ (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) إذا دخل أجوافهم ، وقيل : ان قوله : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) معطوف على قوله : (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) ، أي كمن زيّن له سوء عمله ومن هو خالد في النار ، فحذف الواو كما يقال : قصدني فلان شتمني ظلمني.

١٦ ـ ٢٠ ـ ثمّ بيّن سبحانه حال المنافقين فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي ومن الكافرين الذين تقدم ذكرهم من يستمع إلى قراءتك ودعوتك وكلامك لأنّ المنافق كافر (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني الذين آتاهم الله العلم والفهم من المؤمنين قال إبن عباس أنا ممن أوتوا العلم بالقرآن وعن الاصبغ بن نباتة عن علي (ع) قال : إنّا كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه فإذا خرجنا قالوا (ما ذا قالَ آنِفاً) وقولهم : (ما ذا قالَ آنِفاً)؟ أي أيّ شيء قال الساعة؟ وإنّما قالوه استهزاء ، أو اظهار إنا لم نشتغل أيضا بوعيه وفهمه وقيل : إنّما قالوا ذلك لأنّهم لم يفهموا معناه ، ولم يعلموا ما سمعوه وقيل : بل قالوا ذلك تحقيرا لقوله ، أي لم يقل شيئا فيه فائدة ، ويحتمل أيضا أن يكونوا سألوا رياء ونفاقا أي لم يذهب عني من قوله إلّا هذا فماذا قال أعده عليّ لأحفظه ؛ وإنما قال : (يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) ، ثم قال : (خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) لأن في الأول ردّ الضمير إلى لفظة من ، وفي الثاني إلى معناه ، فإنه موحّد اللفظ ، مجموع المعنى (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي وسم قلوبهم بسمة الكفار ، أو خلّى بينهم وبين اختيارهم (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي شهوات نفوسهم وما مالت إليه طباعهم دون ما قامت عليه الحجة ، ثم وصف سبحانه المؤمنين فقال (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) بما سمعوا من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (زادَهُمْ) الله ،

٦٧٩

أو قراءة القرآن (هُدىً) إيمانا وعلما وبصيرة وتصديقا لنبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) معناه : وآتاهم ثواب تقواهم (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي فليس ينتظرون إلّا القيامة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي علاماتها (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) أي فمن أين لهم الذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة؟ ثم قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به جميع المكلفين (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) المعنى أقم على هذا العلم واثبت عليه ، واعلم في مستقبل عمرك ما تعلمه الآن ، ويدل عليه ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : من مات وهو يعلم أنه لا إله إلّا الله دخل الجنة (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) الخطاب له والمراد به الأمة ، وإنّما خوطب بذلك لتستنّ أمّته بسنّته (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أكرمهم الله سبحانه بهذا إذ أمر نبيهم ان يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم. ثم أخبر سبحانه عن علمه وأحوال الخلق ومآلهم. فقال (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي متصرفكم في أعمالكم في الدنيا ، ومصيركم في الآخرة إلى الجنة أو الى النار عن ابن عباس وقيل : يعلم متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم : أي مقامكم في الأرض ، والمعنى : انه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها. ثم قال سبحانه حكاية عن المؤمنين (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي هلّا نزلت لأنّهم كانوا يأنسون بنزول القرآن ، ويستوحشون لإبطائه ليعلموا أوامر الله تعالى فيهم ، وتعبّده لهم (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) ليس فيها متشابه. قال قتادة كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة ، وهي أشد القرآن على المنافقين (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي وأوجب عليهم فيها القتال ، وأمروا به (رَأَيْتَ) يا محمد (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شكّ ونفاق (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) يريد انهم يشخصون نحوك بأبصارهم ، وينظرون إليك نظرا شديدا كما ينظر الشاخص ببصره عند الموت لثقل ذلك عليهم ، وعظمه في نفوسهم (فَأَوْلى لَهُمْ) هذا تهديد ووعيد معناه : العقاب لهم والوعيد لهم ، وقيل معناه : أولى لهم طاعة الله ورسوله ، وقول معروف بالإجابة ، أي لو أطاعوا فأجابوا كانت الطاعة والإجابة أولى لهم ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء ، واختيار الكسائي.

٢١ ـ ٢٥ ـ (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) معناه : طاعة وقول معروف أمثل وأليق من أحوال هؤلاء المنافقين ، وقيل معناه : طاعة وقول معروف خير لهم من جزعهم عند نزول فرض الجهاد (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) معناه : فإذا جدّ الأمر ، ولزم فرض القتال ، وصار الأمر معزوما عليه ، والعزم : العقد على الأمر بالإرادة لأن يفعله ، فإذا عقد العازم العزم على أن يفعله قيل : عزم الأمر على طريق البلاغة (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) وتقديره : فإذا عزم الأمر نكلوا أو كذبوا فيما وعدوا من أنفسهم ، فلو صدقوا الله فيما أمرهم به من الجهاد ، وامتثلوا أمره لكان خيرا لهم في دينهم ودنياهم من نفاقهم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) يا معشر المنافقين (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) معناه : ان توليتم الأحكام ووليتم ، أي جعلتم ولاة ان تفسدوا في الأرض بأخذ الرشاء ، وسفك الدم الحرام ، وقيل : (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) معناه : إن أعرضتم عن كتاب الله والعمل بما فيه أن تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية فتفسدوا بقتل بعضكم بعضا. ثم ذمّ الله سبحانه من يريد ذلك فقال (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم من رحمته (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) ومعناه : انهم لا يعون الخير ، ولا يبصرون ما به يعتبرون ، فكأنهم صمّ عمي (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ

٦٨٠