الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

٦ ـ ٩ ـ ثم أعاد سبحانه في ذكر الأسوة فقال (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) أي في إبراهيم ومن آمن معه (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي قدوة حسنة ؛ وإنما أعاد ذكر الأسوة لأن الثاني منعقد بغير ما انعقد به الأول ، فإن الثاني فيه بيان أن الأسوة فيهم كان لرجاء ثواب الله وحسن المنقلب ، والأول فيه بيان أن الأسوة في المعاداة للكفار وقوله (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) بدل من قوله لكم ، وهو بدل البعض من الكل مثل قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، وفيه بيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عقاب الآخرة وهو قوله : (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) وقيل : يرجو ثواب الله وما يعطيه في ذلك في اليوم الآخر (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي ومن يعرض عن هذا الاقتداء بإبراهيم والأنبياء والمؤمنين والذين معه فقد أخطأ حظ نفسه ، وذهب عما يعود نفعه إليه فحذفه لدلالة الكلام عليه وهو قوله (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي الغني عن ذلك ، المحمود في جميع أفعاله ، فلا يضره توليه ولكنه ضر نفسه (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي من كفار مكة (مَوَدَّةً) بالإسلام والمعنى : أن موالاة الكفار لا تنفع ، والله سبحانه قادر على أن يوفقهم للإيمان وتحصل المودة بينكم وبينهم فكونوا على رجاء وطمع من الله أن يفعل ذلك ، وقد فعل ذلك حين أسلموا عام الفتح ، فحصلت المودة بينهم وبين المسلمين (وَاللهُ قَدِيرٌ) على نقل القلوب من العداوة إلى المودة (وَاللهُ غَفُورٌ) لذنوب عباده (رَحِيمٌ) بهم إذا تابوا وأسلموا (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي ليس ينهاكم الله عن مخالطة أهل العهد الذين عاهدوكم على ترك القتال ، وبرهم ومعاملتهم بالعدل وهو قوله (أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أي وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد عن الزجاج وقيل : ان المسلمين استأمروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يبرّوا أقرباءهم من المشركين وذلك قبل أن يؤمروا بقتال جميع المشركين فنزلت هذه الآية ، وهي منسوخة بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، عن ابن عباس والحسن وقتادة وقيل : انه عنى بالذين لم يقاتلوكم من آمن من أهل مكة ولم يهاجر عن قتادة وقيل : هي عامة في كل من كان بهذه الصفة عن ابن الزبير والذي عليه الإجماع أن بر الرجل من يشاء من أهل الحرب قرابة كان أو غير قرابة ليس بمحرم ، وإنما الخلاف في إعطائهم مال الزكاة والفطرة والكفارات ، فلا يجوزه أصحابنا ، وفيه خلاف بين الفقهاء وقوله : (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) في موضع جر بدل من الذين وتقديره : ولا ينهاكم الله عن أن تبرّوا الذين لم يقاتلوكم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين. ثم قال (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) من أهل مكة وغيرهم (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي منازلكم واملاككم (وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) أي عاونوا على ذلك وعاضدوهم (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي ينهاكم الله عن أن تولوهم وتوادّوهم وتحبوهم (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) منكم ، أي يوالهم وينصرهم (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يستحقون بذلك العذاب الأليم.

١٠ ـ ١١ ـ لما قطع سبحانه الموالاة بين المسلمين والكافرين بيّن حكم النساء المهاجرات وأزواجهن فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) بالإيمان ، أي استوصفوهن الإيمان ، وسماهن مؤمنات قبل أن يؤمنّ لأنّهن اعتقدن الإيمان (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) أي كنتم تعلمون بالإمتحان ظاهر إيمانهن ، والله يعلم حقيقة إيمانهن في الباطن. ثم اختلفوا في الإمتحان على وجوه أحدها أن الإمتحان : أن يشهدن أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله عن ابن عباس وثانيها ما روي عن ابن عباس أيضا في رواية أخرى أن امتحانهن أن يحلفن ما خرجن إلا للدين ، والرغبة

٧٤١

في الإسلام ، ولحب الله ورسوله ، ولم يخرجن لبغض زوج ، ولا لالتماس دنيا وروي ذلك عن قتادة وثالثها أن امتحانهن بما في الآية التي بعد وهو أن لا يشركن بالله شيئا ، ولا يسرقن ، ولا يزنين الآية عن عائشة. ثم قال سبحانه (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) يعني في الظاهر (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) أي لا تردوهن إليهم (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) وهذا يدل على وقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة وإن لم يطلّق المشرك (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي وآتوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهر عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، قال الزهري : لو لا الهدنة لم يرد إلى المشركين الصداق كما كان يفعل قبل (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي ولا جناح عليكم معاشر المسلمين أن تنكحوا المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن التي يستحل بها فروجهن لأنهن بالإسلام قد بنّ من أزواجهن (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي لا تمسكوا بنكاح الكافرات ، وأصل العصمة المنع ، وسمي النكاح عصمة لأن المنكوحة تكون في حبال الزوج وعصمته. وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز العقد على الكافرة سواء كانت حربية أو ذمية وعلى كل حال ، لأنه عام في الكوافر ، وليس لأحد أن يخص الآية بعابدة الوثن لنزولها بسببهن ، لأن المعتبر بعموم اللفظ لا بالسبب (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) أي إن لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفار مرتدة فاسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ولم يدفعوها إليكم كما يسألونكم مهور نسائهم إذا هاجرن إليكم وهو قوله (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ) يعني ما ذكر الله في هذه الآية (حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ) بجميع الأشياء (حَكِيمٌ) فيما يفعل ويأمر به ، قال الزهري : ولما نزلت هذه الآية آمن المؤمنون بحكم الله وأدّوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقرّوا بحكم الله فيما أمرهم به من أداء نفقات المسلمين فنزل (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي أحد من أزواجكم (إِلَى الْكُفَّارِ) فلحقن بهم مرتدات (فَعاقَبْتُمْ) معناه : فغزوتم وأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة ، فظفرتم وكانت العاقبة لكم (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) أي نساؤهم من المؤمنين (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) معناه : فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من المهور ، كما عليهم أن يردوا عليكم مثل ما أنفقتم لمن ذهب من أزواجكم (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي اجتنبوا معاصي الله الذي أنتم تصدقون به ، ولا تجاوزوا أمره.

١٢ ـ ١٣ ـ ثم ذكر سبحانه بيعة النساء وكان ذلك يوم فتح مكة لما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيعة الرجال وهو على الصفا جاءته النساء يبايعنه فنزلت هذه الآية ، فشرط الله تعالى في مبايعتهن أن يأخذ عليهن هذه الشروط وهو قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) على هذه الشرائط وهي (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) من الأصنام والأوثان (وَلا يَسْرِقْنَ) لا من أزواجهن ولا من غيرهم (وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) على وجه من الوجوه ، لا بالوأد ولا بالإسقاط (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ) أي بكذب يكذبنه في مولود يوجد (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) أي لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم ، وقال الفراء : كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هذا ولدي منك ، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن ، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) وهو جميع ما يأمرهن به ، لأنه لا يأمر إلّا بالمعروف ، والمعروف : نقيض المنكر ، وهو كل ما دل العقل والسمع على وجوبه أو ندبه ، وسمي معروفا لأن العقل يعترف به من جهة عظم حسنه ووجوبه (فَبايِعْهُنَ) على ذلك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) أي اطلب من الله أن يغفر لهن ذنوبهن ، ويسترها عليهن (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) أي صفوح عنهن (رَحِيمٌ)

٧٤٢

منعم عليهن. والوجه في بيعة النساء مع انهن لسن من أهل النصرة بالمحاربة ، هو أخذ العهد عليهن بما يصلح من شأنهن في الدين والأنفس والأزواج ، وكان ذلك في صدر الإسلام ، ولئلا ينفتق بهن فتق لما وضع من الأحكام ، فبايعهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسما لذلك. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وقيل أراد جميع الكفار ، أي لا تتخذوا كافرا من الكفار وليا ثم وصف الكفار فقال (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) أي من ثواب الآخرة (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) يعني أن اليهود بتكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يعرفون صدقه ، وأنه رسول قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة حظ وخير كما يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا في القبور من أن يكون لهم في الآخرة حظ ، لأنهم قد أيقنوا بعذاب الله.

سورة الصف

مدنية وآيها أربع عشرة آية

النزول

نزل قوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) في قوم كانوا يقولون : إذا لقينا العدو لم نفر ولم نرجع عنهم ، ثم لم يفوا بما قالوا ، وانفلّوا يوم أحد حتى شجّ وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكسرت رباعيته ، وقيل : لما أخبر الله سبحانه رسوله بثواب شهداء بدر قالت الصحابة : لئن لقينا بعد قتالا لنفرغن فيه وسعنا ، ثم فرّوا يوم أحد ، فعيّرهم الله تعالى بذلك ، عن محمد بن كعب ، وقيل : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون وددنا لو أن الله دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به ، فأخبرهم الله أن أفضل الأعمال إيمان لا شكّ فيه والجهاد ، فكره ذلك ناس وشقّ عليهم ، وتباطأوا عنه ، فنزلت الآية.

١ ـ ٥ ـ (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مرّ تفسيره وإنما أعيد ها هنا لأنه استفتاح السورة بتعظيم الله من جهة ما سبّح له بالآية التي فيه كما يستفتح ببسم الله الرحمن الرحيم ، وإذا دخل المعنى في تعظيم الله حسن الاستفتاح به (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قيل : إن الخطاب للمنافقين وهو تقريع لهم بأنهم يظهرون الإيمان ولا يبطنونه وقيل : إن الخطاب للمؤمنين وتعيير لهم أن يقولوا شيئا ولا يفعلونه قال الجبائي هذا على ضربين أحدهما أن يقول سأفعل ومن عزمه أن لا يفعله فهذا قبيح مذموم والآخر أن يقول : سأفعل ومن عزمه أن يفعله والمعلوم أنه لا يفعله فهذا قبيح لأنه لا يدري أيفعله أم لا ، وينبغي في مثل هذا أن يقرن بلفظة ان شاء الله (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي كبر هذا القول وعظم مقتا عند الله وهو أن تقولوا ما لا تفعلونه وقيل معناه : كبر أن تقولوا ما لا تفعلونه ، وتعدوا من أنفسكم ما لا تفون به مقتا عند الله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) أي يصفون أنفسهم عند القتال صفا وقيل : يقاتلون في سبيله مصطفّين (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) كأنّه بني بالرصاص لتلاؤمه وشدّة اتصاله وقيل : كأنّه حائط ممدود رصّ على البناء في احكامه واتصاله واستقامته. أعلم الله سبحانه أنه يحب من ثبت في القتال ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص ، ومعنى محبة الله إياهم : انه يريد ثوابهم ومنافعهم ، ثم ذكر سبحانه حديث موسى عليه‌السلام في صدق نيته ، وثبات عزيمته على الصبر في أذى قومه ، تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تكذيبهم إياه فقال (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) هذا انكار عليهم ايذاءه بعد ما علموا أنه رسول الله ، والرسول يعظّم ويبجّل ولا يؤذى ، وكان قومه آذوه بأنواع من الأذى وهو قولهم : اجعل لنا إلها ، واذهب أنت وربك فقاتلا ، وما روي في قصة قارون أنه دسّ إليه امرأة

٧٤٣

وزعم أنه زنى بها ، ورموه بقتل هارون (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي فلما مالوا عن الحق والإستقامة خلاهم وسوء اختيارهم ، ومنعهم الألطاف التي يهدي بها قلوب المؤمنين كقوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) عن أبي مسلم ، وقيل : أزاغ الله قلوبهم عما يحبون إلى ما يكرهون ولا يجوز أن يكون المراد أزاغ الله قلوبهم عن الإيمان لأن الله تعالى لا يجوز أن يزيغ أحدا عن الإيمان ، وأيضا فإنه يخرج الكلام عن الفائدة لأنهم إذا زاغوا عن الإيمان فقد حصلوا كفارا فلا معنى لقوله : أزاغهم الله عن الإيمان (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يهديهم الله إلى الثواب والكرامة والجنة التي وعدها المؤمنين وقيل : لا يفعل بهم الألطاف التي يفعلها بالمؤمنين ، بل يخليهم وإختيارهم.

٦ ـ ٩ ـ (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي واذكر إذ قال عيسى بن مريم لقومه الذين بعث إليهم (يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) المنزلة على موسى (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) يعني نبيّنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قال الشاعر :

صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه

والطّيّبون على المبارك أحمد

ولهذا الاسم معنيان أحدهما أن يجعل أحمد مبالغة من الفاعل ، أي هو أكثر حمدا لله من غيره والآخر أن يجعل مبالغة من المفعول ، أي يحمد بما فيه من الأخلاق والمحاسن أكثر مما يحمد غيره وصحت الرواية عن الزهري عن محمد بن جبير بن المطعم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان لي أسماء أنا أحمد ، وأنا محمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي ، وقد تضمنت الآية أن عيسى بشّر قومه بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبنبوته وأخبرهم برسالته وفي هذه البشرى معجزة لعيسى عليه‌السلام عند ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمر لأمته أن يؤمنوا به عند مجيئه (فَلَمَّا جاءَهُمْ) أحمد (بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلالات الظاهرة ، والمعجزات الباهرة (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي من أشد ظلما ممن أختلق الكذب على الله وقال لمعجزاته سحر ، وللرسول أنه ساحر كذاب (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) الذي فيه نجاته (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بفعل الكفر والمعاصي (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يريدون اذهاب نور الإيمان والإسلام بفاسد الكلام الجاري مجرى تراكم الظلام ، فمثلهم فيه كمثل من حاول اطفاء نور الشمس بفيه (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) أي مظهر كلمته ، ومؤيّد نبيه ، ومعلن دينه وشريعته ، ومبلغ ذلك غايته (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِالْهُدى) من التوحيد وإخلاص العبادة له (وَدِينِ الْحَقِ) وهو دين الإسلام وما تعبّد به الخلق (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) بالحجة والتأييد والنصرة (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) وفي هذه دلالة على صحة نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه سبحانه قد أظهر دينه على جميع الأديان بالاستعلاء والقهر وإعلاء الشأن كما وعده ذلك في حال الضعف وقلة الأعوان.

١٠ ـ ١٤ ـ لما تقدم ذكر الرسول عقبه سبحانه بذكر الدعاء إلى قبول قوله ونصرته ، والعمل بشريعته فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهو خطاب للمؤمنين على العموم (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) صورته صورة العرض والمراد به الأمر على سبيل التلطف في الاستدعاء إلى الإخلاص في الطاعة والمعنى : هل ترغبون في تجارة منجية من العذاب الأليم؟ وهو الإيمان بالله ورسوله ، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس وذلك قوله (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ

٧٤٤

اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) وإنما أنزل هذا لما قالوا : لو نعلم أي الأعمال أفضل وأحب إلى الله لعملناه ، فجعل الله سبحانه ذلك العمل بمنزلة التجارة لأنهم يربحون فيها رضى الله ، والفوز بالثواب ، والنجاة من العقاب (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ما وصفته وذكرته لكم أنفع لكم وخير عاقبة لو علمتم ذلك واعترفتم بصحته ، وقيل ان معناه : ان التجارة التي دللتكم عليها خير لكم من التجارة التي أنتم مشتغلون بها لأنها تؤدي إلى ربح لا يزول ولا يبيد ، وهذه تؤدي إلى ربح يزول ويبيد ، إن كنتم تعلمون مضار الأشياء ومنافعها.

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) أي مواضع تسكنونها مستلذة مستطابة (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي إقامة لا تبغون عنها حولا (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لا ما يعدّه الناس فوزا من طول البقاء ، وولاية الدنيا (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) أي وتجارة أخرى ، أو خصلة أخرى تحبونها عاجلا مع ثواب الآجل ، وهذا من الله تعالى زيادة ترغيب إذ علم سبحانه أن فيهم من يحاول عاجل النصر إما رغبة في الدنيا وإما تأييدا للدين ، فوعدهم ذلك بأن قال (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي تلك الخصلة أو تلك التجارة نصر من الله لكم على أعدائكم ، وفتح قريب لبلادهم ، يعني النصر على قريش وفتح مكة عن الكلبي وقيل : يريد فتح فارس والروم وسائر فتوح الإسلام على العموم عن عطاء ، وقريب معناه : قريب كونه وقيل : قريب منكم يقرب الرجوع منه إلى أوطانكم (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي بشرهم بهذين الثوابين عاجلا وآجلا على الجهاد ، وهو النصر في الدنيا ، والجنة في العقبى. ثم حضّ سبحانه المؤمنين على نصرة دينه فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) أي أنصار دينه ، وأعوان نبيه ، وإنما أضاف إلى نفسه كما يقال للكعبة : بيت الله ، وقيل لحمزة بن عبد المطلب : أسد الله والمعنى : دوموا على ما أنتم عليه من النصرة (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي مثل قول عيسى بن مريم للحواريين وهم خاصة الأنبياء ، وسموا بذلك لأنهم أخلصوا من كل عيب عن الزجاج وقيل سموا بذلك لبياض ثيابهم وقيل : لأنهم كانوا قصارين (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) والمعنى : قل يا محمد إني أدعوكم إلى هذا الأمر كما دعا عيسى قومه فقال : من أنصاري مع نصرة الله إياي؟ وقيل : إلى الله ، أي فيما يقرب إلى الله كما يقال : اللهم منك وإليك (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي أنصار دين الله ، وأولياء الله وقيل : إنهم إنما سموا نصارى لقولهم نحن أنصار الله (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي صدقت بعيسى (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) أخرى به قال ابن عباس : يعني في زمن عيسى (ع) ، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق : فرقة قالت : كان الله فارتفع ، وفرقة قالت : كان ابن الله فرفعه إليه ، وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه ، وهم المؤمنون ، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرين وذلك قوله (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي عالين غالبين وقيل معناه : أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن عيسى كلمة الله وروحه ، عن إبراهيم وقيل : بل أيّدوا في زمانهم على من كفر بعيسى عن مجاهد وقيل معناه : فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكفرت طائفة به فأصبحوا قاهرين لعدوهم بالحجة والقهر والغلبة.

سورة الجمعة

مدنية وآيها احدى عشرة آية

٧٤٥

لما ختم الله سبحانه سورة الصف بالترغيب في عبادته ، والدعاء إليها ، وذكر تأييد المؤمنين بالنصر والظهور على الأعداء ، افتتح هذه السورة ببيان قدرته على ذلك وعلى جميع الأشياء فقال :

١ ـ ٥ ـ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ينزّهه سبحانه كل شيء ، ويشهد له بالوحدانية والربوبية بما ركب فيها من بدائع الحكمة ، وعجائب الصنعة ، الدالة على أنه قادر عالم حي قديم سميع بصير حكيم لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، وإنما قال : مرة سبح ، ومرة يسبح ، إشارة إلى دوام تنزيهه في الماضي والمستقبل (الْمَلِكِ) أي القادر على تصريف الأشياء (الْقُدُّوسِ) أي المستحق للتعظيم ، الطاهر عن كل نقص (الْعَزِيزِ) القادر الذي لا يمتنع عليه شيء (الْحَكِيمِ) العالم الذي يضع الأشياء موضعها (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) يعني العرب وكانت أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ ، ولم يبعث إليهم نبي (رَسُولاً مِنْهُمْ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نسبه نسبهم ، وهو من جنسهم كما قال : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي يقرأ عليهم القرآن المشتمل على الحلال والحرام ، والحجج والأحكام (وَيُزَكِّيهِمْ) أي ويطهّرهم من الكفر والذنوب ، ويدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) الكتاب : القرآن ، والحكمة : الشرائع (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) معناه وما كانوا من قبل بعثه إليهم إلّا في عدول عن الحق ، وذهاب عن الدين بيّن ظاهر (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) أي ويعلم آخرين من المؤمنين (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) وهم كل من بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، فإن الله سبحانه بعث النبي إليهم ، وشريعته تلزمهم وإن لم يلحقوا بزمان الصحابة ، وقيل : هم الأعاجم ومن لا يتكلم بلغة العرب ، فإن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوث إلى من شاهده وإلى كل من بعدهم من العرب والعجم ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه الآية فقيل له من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان وقال : لو كان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء ، وعلى هذا فإنما قال منهم ، لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم ، فإن المسلمين كلهم يد واحدة على من سواهم ، وأمة واحدة وإن اختلفت أجناسهم كما قال سبحانه : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب (الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) يعني النبوة التي خصّ الله بها رسوله (يُؤْتِيهِ) أي يعطيه (مَنْ يَشاءُ) بحسب ما يعلمه من صلاحه للبعثة وتحمل أعباء الرسالة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ذو المنّ العظيم على خلقه ببعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثم ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلا فقال (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي كلّفوا القيام بها ، والعمل بما فيها (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) حق حملها من أداء حقها ، والعمل بموجبها ، لأنّهم حفظوها ودوّنوها في كتبهم ثم لم يعملوا بما فيها (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) لأن الحمار الذي يحمل كتب الحكمة على ظهره لا يحسّ بما فيها ، فمثل من يحفظ الكتاب ولا يعمل بموجبه كمثل من لا يعلم ما يحمله (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) معناه : بئس القوم قوم هذا مثلهم ، لأنه سبحانه ذمّ مثلهم ، والمراد به ذمّهم ، واليهود كذبوا بالقرآن والتوراة حين لم يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يفعل بهم من الألطاف التي يفعلها بالمؤمنين الذين بها يهتدون.

٦ ـ ١١ ـ لما تقدّم ذكر اليهود في انكارهم ما في التوراة ، أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطبهم بما يفحمهم فقال (قُلْ) يا محمد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أي سمّوا يهودا (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) أي إن كنتم تظنون على زعمكم أنكم أنصار الله وان الله ينصركم (مِنْ دُونِ

٧٤٦

النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) انّكم أبناء الله وأحباؤه ، فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه. ثم أخبر سبحانه عن حالهم في كذبهم واضطرابهم في دعواهم ، وأنهم غير واثقين بذلك فقال (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الكفر والمعاصي (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي عالم بأفعالهم وأحوالهم. وقد تقدّم تفسير الآيتين في سورة البقرة وفيه معجزة للرسول ، لأنه أخبر أنهم لا يتمنون الموت أبدا لما يعرفون من صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذبهم ، فكان الأمر كما قال (قُلْ) يا محمد (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي إنكم وإن فررتم من الموت وكرهتموه فإنه لا بدّ ينزل بكم ويلقاكم ويدرككم ، ولا ينفعكم الهرب منه (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ترجعون إلى الله الذي يعلم سركم وعلانيتكم يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في دار الدنيا ويجازيكم بحسبها. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أي إذا أذّن لصلاة الجمعة (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي فامضوا إلى الصلاة مسرعين غير متثاقلين (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي دعوا المبايعة (ذلِكُمْ) يعني ما أمرتكم به من حضور الجمعة ، واستماع الذكر وأداء الفريضة ، وترك البيع (خَيْرٌ لَكُمْ) وانفع لكم عاقبة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) منافع الأمور ومضارها ، ومصالح أنفسكم ومفاسدها (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني إذا صليتم الجمعة وفرغتم منها فتفرقوا في الأرض (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي واطلبوا الرزق في البيع والشراء ، وهذا اباحة وليس بأمر وإيجاب ، وروي عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : في قوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا) الآية : ليس بطلب دنيا ولكن عيادة مريض ، وحضور جنازة ، وزيارة أخ في الله وقيل : المراد بقوله : (وابتغوا من فضل الله طلب العلم) ، عن الحسن وسعيد بن جبير ومكحول ، وروي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال : الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت ، وروى عمرو بن زيد عن أبي عبد الله قال : إني لأركب في الحاجة التي كفاها الله ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحى في طلب الحلال ، أما تسمع قول الله عز اسمه : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) ، أرأيت لو أن رجلا دخل بيتا وطين عليه بابه ثم قال : رزقي ينزل عليّ كان يكون هذا؟ أما انه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم قال :قلت : من هؤلاء الثلاثة؟ قال : رجل تكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأن عصمتها في يده لو شاء أن يخلّي سبيلها لخلّى سبيلها ، والرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنه ترك ما أمر به ، والرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتى يأكله ثم يدعو فلا يستجاب له (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أي اذكروه على إحسانه ، واشكروه على نعمه وعلى ما وفّقكم من طاعته وأداء فرضه وقيل معناه : اذكروا الله في تجارتكم وأسواقكم كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : من ذكر الله في السوق مخلصا عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه كتب له ألف حسنة ، ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لتفلحوا وتفوزوا بثواب النعيم (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) أي عاينوا ذلك (انْفَضُّوا إِلَيْها) أي تفرّقوا عنك خارجين إليها وقيل : مالوا إليها ، والضمير للتجارة ، وإنما خصّت برد الضمير إليها لأنها كانت أهم إليهم ، وهم بها أسر من الطبل ، لأن الطبل إنما دلّ على التجارة ، عن الفراء ، وقيل : عاد الضمير إلى أحدهما اكتفاء به ، وكأنه على حذف ، والمعنى : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، وإذا رأوا لهوا انفضوا إليه ، فحذف إليه لأن إليها يدل عليه (وَتَرَكُوكَ قائِماً) تخطب على المنبر. قال جابر بن سمرة : ما رأيت رسول الله صلّى الله

٧٤٧

عليه وآله خطب إلّا وهو قائم ، فمن حدّثك أنه خطب وهو جالس فكذبه ، ثم قال تعالى (قُلْ) يا محمد لهم (ما عِنْدَ اللهِ) من الثواب على سماع الخطبة ، وحضور الموعظة والصلاة ، والثبات مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (خَيْرٌ) وأحمد عاقبة وانفع (مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) يرزقكم وإن لم تتركوا الخطبة والجمعة.

سورة المنافقون

مدنية وآيها إحدى عشرة آية

١ ـ ٥ ـ خاطب الله سبحانه نبيه فقال (إِذا جاءَكَ) يا محمد (الْمُنافِقُونَ) وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أي أخبروا بأنهم يعتقدون أنك رسول الله (وَاللهُ يَعْلَمُ) يا محمد (إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) على الحقيقة وكفى بالله شهيدا (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) في قولهم إنهم يعتقدون أنك رسول الله فكان إكذابهم في اعتقادهم وانهم يشهدون ذلك بقلوبهم ولم يكذبوا فيما يرجع إلى ألسنتهم لأنهم شهدوا بذلك وهم صادقون فيه ، وفي هذا دلالة على ان حقيقة الإيمان إنما هو بالقلب ، ومن قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي سترة يستترون بها من الكفر لئلا يقتلوا ولا يسبوا ولا تؤخذ أموالهم (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي فأعرضوا بذلك عن دين الإسلام وقيل معناه : منعوا غيرهم عن اتباع سبيل الحق بأن دعوهم إلى الكفر في الباطن ، وهذا من خواص المنافقين يصدّون العوام عن الدين كما تفعل المبتدعة (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس الذي يعملونه من اظهار الإيمان مع إبطان الكفر ، والصد عن السبيل (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) بألسنتهم عند الإقرار بلا إله إلا الله ، محمد رسول الله (ثُمَّ كَفَرُوا) بقلوبهم لما كذبوا بهذا عن قتادة وقيل معناه : آمنوا ظاهرا عند النبي والمسلمين ثم كفروا إذا خلوا بالمشركين ، وإنما قال : ثم كفروا لأنهم جدّدوا الكفر بعد اظهار الإيمان (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي ختم عليها بسمة تميز بها الملائكة بينهم وبين المؤمنين على الحقيقة وقيل : لما ألفوا الكفر والعناد ولم يصغوا إلى الحق ، ولا فكروا في المعاد خلاهم الله واختيارهم وخذلهم ، فصار ذلك طبعا على قلوبهم ، وهو الفهم إلى ما اعتادوه من الكفر ، عن أبي مسلم (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يعلمون الحق من حيث انهم لا يتفكرون حتى يميزوا بين الحق والباطل (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) بحسن منظرهم ، وتمام خلقتهم ، وجمال بزتهم (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أي وإذا قالوا شيئا أصغيت إلى كلامهم لحسن منطقهم ، وفصاحة لسانهم ، وبلاغة بيانهم (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي كأنهم أشباح بلا أرواح. شبّههم الله بخشب نخرة متآكلة لا خير فيها ويحسب من رآها أنها صحيحة سليمة من حيث أن ظاهرها يروق ، وباطنها لا يفيد ، فكذلك المنافق ظاهره معجب رائع ، وباطنه عن الخير زائغ (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) وصفهم الله تعالى بالخور والهلع ، أي يظنون كل صيحة يسمعونها كائنة عليهم والمعنى : يحسبون أنها مهلكتهم وأنهم هم المقصودون بها جبنا ووجلا ، وذلك مثل : أن ينادي مناد في العسكر ، أو يصيح أحد بصاحبه ، أو انفلتت دابة ، أو أنشدت ضالة ، وقيل معناه : إذا سمعوا صيحة ظنوا أنها آية منزلة في شأنهم ، وفي الكشف عن حالتهم ، لما عرفوا من الغش والخيانة في صدورهم ، ولذلك قيل : المريب خائف. ثم أخبر سبحانه بعداوتهم فقال (هُمُ الْعَدُوُّ) لك وللمؤمنين في الحقيقة (فَاحْذَرْهُمْ) أن تأمنهم على سرّك وتوقهم (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي أخزاهم ولعنهم وقيل : انه دعاء عليهم بالهلاك ، لأن من قاتله الله فهو مقتول ، ومن غالبه فهو مغلوب (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي أنّى يصرفون عن الحق مع كثرة

٧٤٨

الدلالات ؛ وهذا توبيخ وتقريع وليس باستفهام (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) أي هلمّوا (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي أكثروا تحريكها بالهزّ لها استهزاء بدعائهم إلى ذلك وقيل : أمالوها اعراضا عن الحق ، وكراهة لذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لكفرهم واستكبارهم (وَرَأَيْتَهُمْ) يا محمد (يَصُدُّونَ) عن سبيل الحق (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي متكبرون مظهرون أنه لا حاجة لهم إلى الاستغفار.

٦ ـ ١١ ـ ثم ذكر سبحانه أن استغفاره لا ينفعهم فقال (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي يتساوى الاستغفار لهم وعدم الاستغفار (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لأنهم يبطنون الكفر وإن أظهروا الإيمان (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يهدي القوم الخارجين عن الدين والإيمان إلى طريق الجنة. قال الحسن : أخبره سبحانه أنهم يموتون على الكفر فلم يستغفر لهم (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) من المؤمنين المحتاجين (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي يتفرقوا عنه وإنما قالوا هم من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن الله سبحانه سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريفا له ، وتعظيما لقدره (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما بينهما من الأرزاق والأموال والأعلاق ، فلو شاء لأغناهم ولكنّه تعالى يفعل ما هو الأصلح لهم ، ويمتحنهم بالفقر ، ويتعبدهم بالصبر ليصبروا فيؤجروا وينالوا الثواب ، وكريم المآب (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ذلك على الحقيقة لجهلهم بوجوه الحكمة وقيل : لا يفقهون أن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) من غزوة بني المصطلق (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ) يعنون نفوسهم (مِنْهَا الْأَذَلَ) يعنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ؛ فردّ الله سبحانه عليهم بأن قال (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) بإعلاء الله كلمته ، وإظهاره دينه على الأديان (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بنصرته إياهم في الدنيا ، وإدخالهم الجنة في العقبى وقيل : ولله العزة بالربوبية ولرسوله بالنبوة ، وللمؤمنين بالعبودية. أخبر سبحانه بذلك ثم حقّقه بأن أعزّ رسوله والمؤمنين ، وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها وقيل : عز الله خمسة : عزّ الملك والبقاء ، وعزّ العظمة والكبرياء ، وعزّ البذل والعطاء ، وعزّ الرفعة والعلاء ، وعزّ الجلال والبهاء ؛ وعزّ الرسول خمسة عزّ السبق والابتداء ، وعزّ الأذان والنداء ، وعز قدم الصدق على الأنبياء ، وعزّ الاختيار والاصطفاء ، وعزّ الظهور على الأعداء ، وعزّ المؤمنين خمسة : عزّ التأخير بيانه : نحن الآخرون السابقون ، وعزّ التيسير بيانه : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) ، (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) ، وعزّ التبشير ، بيانه : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) ، وعزّ التوقير ، بيانه. (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) ، وعزّ التكثير ، بيانه : انهم أكثر الأمم (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) فيظنون أن العزة لهم وذلك لجهلهم بصفات الله تعالى ، وما يستحقه أولياؤه. ووجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) : ان عزّ الرسول والمؤمنين من جهته عزّ اسمه وإنما يحصل به وبطاعته ، فلله العز بأجمعه ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ) أي لا تشغلكم (أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي عن الصلوات الخمس المفروضة وقيل : ذكر الله جميع طاعاته عن أبي مسلم وقيل : ذكره شكره على نعمائه ، والصبر على بلائه ، والرضا بقضائه ، وهو إشارة إلى انه لا ينبغي أن يغفل المؤمن عن ذكر الله في بؤس كان أو نعمة ، فإن إحسانه في الحالات لا ينقطع (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي من يشغله ماله وولده عن ذكر الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسروا ثواب الله ورحمته (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) في سبيل البر ، فيدخل فيه الزكوات وسائر الحقوق الواجبة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أسباب الموت (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي هلّا أخّرتني ؛ وذلك إذا عاين علامات الآخرة

٧٤٩

فيسأل الرجعة إلى الدنيا ليتدارك الفائت قالوا : وليس في الزجر من الشريط في حقوق الله آية أعظم من هذه. وقوله (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) : أي مثل ما أجلت لي في دار الدنيا (فَأَصَّدَّقَ) أي فأتصدق وأزكي مالي وأنفقه في سبيل الله (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي من الذين يعملون الأعمال الصالحة عن ابن عباس قال : ما من أحد يموت وكان له مال فلم يؤدّ زكاته ، وأطاق الحج فلم يحجّ إلّا سأل الرجعة عند الموت ، ثم قرأ هذه الآية إلى قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) ، قال : الصلاح هنا الحج وروي ذلك عن أبي عبد الله (ع) (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) يعني الأجل المطلق الذي حكم بأن الحي يموت عنده ، والأجل المقيد : هو الأجل المحكوم بأن العبد يموت عنده إن لم يقتطع دونه ، أو لم يزد عليه أو لم ينقص منه ، على ما يعلمه الله من المصلحة (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي عليم بأعمالكم يجازيكم بها.

سورة التغابن

مدنية وعدد آيها ثمان عشرة آية

١ ـ ٥ ـ (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تسبيح المكلفين بالقول ، وتسبيح الجمادات بالدلالة (لَهُ الْمُلْكُ) منفردا دون غيره ، والألف واللام لاستغراق الجنس والمعنى : أنه المالك لجميع ذلك ، والمتصرف فيه كيف يشاء (وَلَهُ الْحَمْدُ) على جميع ذلك لأن خلق ذلك أجمع ، الغرض فيه الإحسان إلى خلقه ، والنفع لهم به ، فاستحقّ بذلك الحمد والشكر (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يوجد المعدوم ، ويفني الموجود ، ويغيّر الأحوال كما يشاء (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي أنشأكم وأوجدكم من عدم كما أراد ، والخطاب للمكلفين (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) لم يقرّ بأن الله خلقه كالدهرية (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) مقرّ بأن الله خلقه وقيل معناه : فمنكم كافر في السرّ مؤمن في العلانية كالمنافقين ، ومنكم مؤمن في السرّ كافر في العلانية كعمار وذويه عن الضحاك ، والمعنى : ان المكلفين جنسان : منهم كافر فيدخل فيه أنواع الكفر ومنهم مؤمن ، ولا يجوز حمله على انه سبحانه خلقهم مؤمنين وكافرين ، لأنه لم يقل كذلك بل أضاف الكفر والإيمان إليهم وإلى فعلهم ، ولدلالة العقول على أن ذلك يقع على حسب قصودهم وأفعالهم ، ولذلك يصحّ الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، وبعثة الأنبياء ، على انه سبحانه لو جاز أن يخلق الكفر والقبائح لجاز أن يبعث رسولا يدعو إلى الكفر والضلال ، ويؤيّده بالمعجزات ، تعالى عن ذلك وتقدّس ، هذا وقد قال تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل مولود يولد على الفطرة ، تمام الخبر وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكاية عن الله سبحانه : خلقت عبادي كلهم حنفاء ، ونحو ذلك من الأخبار كثير (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي خلق الكافر وهو عالم بما يكون منه من الكفر ، وخلق المؤمن وهو عالم بما يكون منه من الإيمان ، فيجازيهما على حسب أعمالهما (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بالعدل وبإحكام الصنعة ، وصحة التقدير وقيل معناه : للحق ، وهو أنه خلق العقلاء تعريضا إياهم للثواب العظيم ، وخلق ما عداهم تبعا لهم لما في خلقهما لهم من اللطف (وَصَوَّرَكُمْ) يعني البشر كلهم (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) من حيث الحكمة وقبول العقل لا قبول الطبع لأن في جملتهم من ليس على هذه الصفة وقيل : فأحسن صوركم من حيث قبول الطبع فإنّ ذلك هو المفهوم من حسن الصور فهو كقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، وإن كان في جملتهم من هو مشوّه الخلق لأن ذلك عارض لا يعتدّ به في هذا الوصف ، فالله سبحانه خلق الإنسان على أحسن صور الحيوان كله والصورة عبارة عن بنية مخصوصة (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إليه المرجع والمآل يوم

٧٥٠

القيامة (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي ما يسرّه بعضكم إلى بعض وما يخفيه في صدره عن غيره. والفرق بين الإسرار والإخفاء أن الإخفاء أعم لأنه قد يخفي شخصه ويخفي المعنى في نفسه ، والاسرار يكون في المعنى دون الشخص (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بأسرار الصدور وبواطنها. ثم أخبر سبحانه أن القرون الماضية جوزوا بأعمالهم فقال (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء الكفار (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي وخيم عاقبة كفرهم ، وثقل أمرهم بما نالهم من العذاب بالإهلاك والاستئصال (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم يوم القيامة.

٦ ـ ١٠ ـ لما قرّر سبحانه خلقه بانهم أتاهم اخبار من مضى من الكفار وإهلاكهم ، عقّبه ببيان سبب إهلاكهم فقال (ذلِكَ) أي ذلك العذاب الذي نالهم في الدنيا ، والذي ينالهم في الآخرة (بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ) أي بسبب أنه كانت تجيئهم (رُسُلُهُمْ) من عند الله (بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلالات الواضحات ، والمعجزات الباهرات (فَقالُوا) لهم (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) والمعنى : أخلق مثلنا يهدوننا إلى الحق ، ويدعوننا إلى غير دين آبائنا؟ استصغارا منهم للبشر أن يكونوا رسلا من الله إلى أمثالهم ، واستكبارا وأنفة من اتباعهم (فَكَفَرُوا) بالله وجحدوا رسله (وَتَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن القبول منهم ، والتفكر في آياتهم (وَاسْتَغْنَى اللهُ) بسلطانه عن طاعة عباده ، وإنما كلّفهم لنفعهم لا لحاجة منه إلى عبادتهم وقيل معناه : واستغنى الله بما أظهره لهم من البرهان ، وأوضحه من البيان عن زيادة تدعو إلى الرشد ، وتهدي إلى الإيمان (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي غني عن أعمالكم ، مستحمد إليكم بما ينعم به عليكم. ثم حكى سبحانه ما يقوله الكفار فقال (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) زعم : كنية الكذب ، بيّن الله سبحانه بعض ما لأجله اختاروا الكفر على الإيمان ، وهو أنهم كانوا لا يقرّون بالبعث والنشور ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يكذبهم فقال (قُلْ) يا محمد (بَلى وَرَبِّي) أيّ وحق ربي على وجه القسم (لَتُبْعَثُنَ) أي لتحشرنّ. أكّد تكذيبهم بقوله : بل وباليمين ، ثم أكّد اليمين باللام والنون (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أي لتخبرنّ وتحاسبنّ بأعمالكم وتجازون عليها (وَذلِكَ) البعث والحساب مع الجمع والجزاء (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي سهل هين لا يلحقه مشقة ولا معاناة فيه (فَآمِنُوا) معاشر العقلاء (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وهو القرآن ، سمّاه نورا لما فيه من الأدلة والحجج الموصلة إلى الحق ، فشبّه بالنور الذي يهتدى به إلى الطريق (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة ، أي ذلك البعث والجزاء يكون في يوم يجمع فيه خلق الأولين والآخرين (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) وهو تفاعل من الغبن ، وهو أخذ شرّ وترك خير ، أو أخذ خير وترك شر. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذا قوله ما من عبد مؤمن يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلّا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) أي معاصيه (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي مؤبدين فيها ولا يفنى ما هم فيه من النعيم أبدا (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي النجاح الذي ليس وراءه شيء من العظمة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالله (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بحججنا ودلائلنا (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المآل والمرجع.

١١ ـ ١٨ ـ ثم قال سبحانه (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) أي ليس تصيبكم مصيبة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) والمصيبة : المضرة التي تلحق صاحبها كالرمية التي تصيبه ، وإنّما عمّ ذلك سبحانه وإن كان في المصائب ما هو ظلم وهو سبحانه لا يأذن بالظلم لأنه

٧٥١

ليس منها إلا ما أذن الله في وقوعه ، أو التمكن منه ، وذلك أذن للملك الموكل به كأنه قيل : لا يمنع من وقوع هذه المصيبة وقد يكون ذلك بفعل التمكين من الله فكأنه يأذن له بأن يكون وقيل معناه : إلا بتخلية الله بينكم وبين من يريد فعلها عن البلخي وقيل انه خاص فيما يفعله الله تعالى أو يأمر به وقيل معناه : بعلم الله أي لا يصيبكم مصيبة إلّا والله عالم بها (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) أي يصدّق به ويرض بقضائه (يَهْدِ قَلْبَهُ) أي يهد الله قلبه حتى يعلم أن ما أصابه فبعلم الله فيصبر عليه ولا يجزع لينال الثواب والأجر ، وقال بعضهم في معناه : من يؤمن بالله عند النعمة فيعلم أنها فضل من الله يهد قلبه للشكر ، ومن يؤمن بالله عند البلاء فيعلم أنه عدل من الله يهد قلبه للصبر ، ومن يؤمن بالله عند نزول القضاء يهد قلبه للاستسلام والرضا (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيجازي كل امرىء بما عمله (وَأَطِيعُوا اللهَ) في جميع ما أمركم به (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في جميع ما أتاكم به ودعاكم إليه ، وفيما أمركم به ونهاكم عنه (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي فإن أعرضتم عن القبول منه (فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي ليس عليه إلّا تبليغ الرسالة وقد فعل ، والمراد ليس عليه قهركم على الردّ إلى الحق ، وإنما عليه البلاغ الظاهر البيّن فحذف للإيجاز والاختصار (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ولا تحقّ العبادة إلّا له (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) والتوكل : تفويض الأمور إليه ، والرضا بتقديره ، والثقة بتدبيره ؛ وقد أمر الله عباده بذلك فينبغي لهم أن يستشعروا ذلك في سائر أحوالهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) يعني : ان بعضهم بهذه الصفة ولذلك أتى بلفظة من وهي للتبعيض يقول : ان من هؤلاء منّ هو عدوّ لكم في الدين فاحذروهم أن تطيعوهم ، وقيل : انه سبحانه إنما قال ذلك لأن من الأزواج من يتمنى موت الزوج ، ومن الأولاد من يتمنى موت الوالد ليرث ماله ، وما من عدوّ أعدى ممن يتمنى موت غيره ليأخذ ماله ، وكذلك يكون من يحملك على معصية الله لمنفعة نفسه ، ولا عدوّ أشد عداوة ممن يختار ضررك لمنفعته. قال عطاء : يعني قوما أرادوا الغزو فمنعهم هؤلاء وقال مجاهد : يريد قوما أرادوا طاعة الله فمنعوهم (وَإِنْ تَعْفُوا) أي تتركوا عقابهم (وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) أي تتجاوزوا عنهم وتستروا ما سبق منهم إن عادوا إلى الحالة الجميلة. وذلك ان الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوه بالهجرة ، وفقهوا في الدين همّ أن يعاقب زوجته وولده الذين ثبطوه عن الهجرة ، وأن يلحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم ، فأمر سبحانه بالعفو والصفح (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لكم ذنوبكم ويرحمكم وقيل : هو عام أي إن تعفوا وتصفحوا عمن ظلمكم فإن الله يغفر بذلك كثيرا من ذنوبكم عن الجبائي (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أي محنة وابتلاء وشدة للتكليف عليكم ، وشغل عن أمر الآخرة ، فإن الإنسان بسبب المال والولد يقع في الجرائم. عن ابن مسعود قال : ليقولن أحدكم : اللهمّ إني أعوذ بك من مضلات الفتن (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي ثواب جزيل وهو الجنة ، يعني فلا تعصوه بسبب الأموال والأولاد ، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر والذخر (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي ما أطقتم ؛ والاتقاء : الامتناع من الردى باجتناب ما يدعو إليه الهوى. ولا تنافي بين هذا وبين قوله : و (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) ، لأن كل واحد منهما الزام لترك جميع المعاصي (وَاسْمَعُوا) من الرسول ما يتلو عليكم ، وما يعظكم به ويأمركم وينهاكم (وَأَطِيعُوا) الله والرسول (وَأَنْفِقُوا) من أموالكم في حق الله (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) معناه : قدّموا خيرا لأنفسكم من أموالكم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) حتى يعطي حق الله من ماله (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي المنجحون الفائزون بثواب الله ؛ وقال الصادق (ع): من أدّى الزكاة فقد وقى شحّ نفسه (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قد مضى معناه ، وإطلاق اسم القرض هنا

٧٥٢

تلطف في الاستدعاء إلى الإنفاق (يُضاعِفْهُ لَكُمْ) أي يعطي بدله اضعاف ذلك من واحد إلى سبعمائة ، إلى ما لا يتناهى ، فإن ثواب الصدقة يدوم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم (وَاللهُ شَكُورٌ) أي مثيب مجاز على الشكر (حَلِيمٌ) لا يعاجل العباد بالعقوبة وهذا غاية الكرم (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي السر والعلانية ، وقيل : المعدوم والموجود ، وقيل : غير المحسوس والمحسوس (الْعَزِيزُ) القادر (الْحَكِيمُ) العالم وقيل : المحكم لأفعاله.

سورة الطلاق

مدنية وآيها اثنتا عشرة آية

١ ـ ٥ ـ نادى سبحانه نبيّه فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ثم خاطب أمته فقال (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) لأنه السيد المقدم فإذا نودي وخوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي لزمان عدتهن ، وذلك أن يطلّقها في طهر لم يجامعها فيه ، فهذا هو الطلاق للعدة لأنها تعتد بذلك الطهر من عدتها ، وتحصل في العدة عقيب الطلاق ، فالمعنى : فطلقوهن لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن ، ولا تطلقوهن لحيضهن الذي لا يعتددن به من قرئهن ، فعلى هذا يكون العدة الطهر على ما ذهب إليه أصحابنا ، وهو مذهب الشافعي ، وقيل : ان المعنى : قبل عدتهن ، أي في طهر لم يجامعها فيه. ولا شبهة أن هذا الحكم للمدخول بها ، لأن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها ، وقد ورد به التنزيل في سورة الأحزاب وهو قوله : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) ؛ وظاهر الآية أنه إذا طلقها في الحيض أو في طهر قد جامعها فيه فلا يقع الطلاق ، لأن الأمر يقتضي الإيجاب ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وذهبت إليه الشيعة الإمامية ، وقال باقي الفقهاء : يقع الطلاق وإن كان بدعة ، وخلاف المأمور به ، وكذلك إن جمع ما بين التطليقات الثلاث فإنها بدعة عند أبي حنيفة وأصحابه. وجاءت الرواية عن علي بن أبي طالب (ع) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش. ثم قال سبحانه (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي عدوّا الاقراء التي تعتدّ بها. وإنما أمر الله سبحانه بإحصاء العدة لأن لها فيها حقا وهي النفقة والسكنى ، وللزوج فيها حقا وهي المراجعة ومنعها عن الأزواج لحقه ، وثبوت نسب الولد ، فأمره تعالى بإحصائها ليعلم وقت المراجعة ووقت فوت المراجعة وتحريمها عليه ، ورفع النفقة والسكنى ، ولكيلا تطول العدة لاستحقاق زيادة النفقة ، أو تقصرها لطلب الزوج. والعدة : هي قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتبة في الشريعة. ثم قال سبحانه (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) ولا تعصوه فيما أمركم به (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) هن أيضا ، يعني في زمان العدة لا يجوز للزوج أن يخرج المطلقة المعتدة من مسكنه الذي كان يسكنها فيه قبل الطلاق ، وعلى المرأة أيضا أن لا تخرج في عدّتها إلا لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت أثمت (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي ظاهرة واختلف في الفاحشة فقيل : هي البذاء على أهلها فيحل لهم إخراجها وقيل : هي خروجها قبل قضاء العدة عن ابن عمر في رواية أخرى ، وعن ابن عباس أنه قال : إن كل معصية لله تعالى ظاهرة فهي فاحشة (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) يعني ما ذكره سبحانه من أحكام الطلاق وشروطه (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) بأن يطلق على غير ما أمر الله تعالى به (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي أثم فيما بينه وبين الله عزوجل ، وخرج عن الطاعة إلى المعصية ، وفعل ما يستحق به العقاب (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي لعل الله يحدث الرجعة في العدة وفي هذه الآية دلالة على أن الواجب في التطليق أن يوقع متفرقا ولا يجوز الجمع بين الثلاث ، لأن الله تعالى أكّد قوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ، وبقوله : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) ، ثم زاد في التأكيد بقوله :

٧٥٣

وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ فيما حدّه الله لكم فلا تعتدوه (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) معناه : فإذا قاربن أجلهن الذي هو الخروج من العدة (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي راجعوهن بما يجب لهن من النفقة والكسوة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة فتبين منكم (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) معناه : واشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) هذا خطاب للشهود ، أي أقيموها لوجه الله (ذلِكُمْ) الأمر بالحق (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي تؤمر به المؤمنون لينزجروا به عن الباطل (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) فيما أمره به ، ونهاه عنه (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من كل كرب في الدنيا والآخرة (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، أسر العدو ابنا له ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكر له ، وشكا له الفاقة فقال له : اتق الله واصبر ، واكثر من قول لا حول ولا قوة إلّا بالله ، ففعل الرجل ذلك ، فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه ، فذلك قوله : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ، وروي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) : أي يبارك له فيما أتاه ، وعن أبي ذر الغفاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) الآية فما زال يقولها ويعيدها (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي ومن يفوض أمره إلى الله ، ووثق بحسن تدبيره وتقديره فهو كافيه ، يكفيه أمر دنياه ، ويعطيه ثواب الجنة ، ويجعله بحيث لا يحتاج إلى غيره ، وفي الحديث : من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) أي يبلغ ما أراد من قضاياه وتدابيره على ما أراده ، ولا يقدر أحد على منعه عما يريده (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي قدر الله لكل شيء مقدرا وأجلا لا زيادة فيه ولا نقصان (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) فلا يحضن (إِنِ ارْتَبْتُمْ) فلا تدرون لكبر ارتفع حيضهن أم لعارض (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) وهنّ اللواتي أمثالهن يحضن ، لأنهن لو كن في سن من لا تحيض لم يكن للارتياب معنى (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) تقديره : واللائي لم يحضن ان ارتبتم فعدتهن أيضا ثلاثة أشهر ، وهن اللواتي لم يبلغن المحيض ومثلهن تحيض على ما مرّ بيانه (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) قال ابن عباس : هي في المطلقات خاصة ، وهو المروي عن أئمتنا عليهم‌السلام ، فأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فعدتها أبعد الأجلين ، فإذا مضت بها أربعة أشهر وعشر ولم تضع انتظرت وضع الحمل (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في جميع ما أمره بطاعته فيه (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي يسهّل عليه أمر الدنيا والآخرة اما بفرج عاجل ، أو عوض آجل (ذلِكَ) يعني ما ذكره سبحانه من الأحكام في الطلاق والرجعة والعدة (أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بطاعته (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) من الصلاة إلى الصلاة ، ومن الجمعة إلى الجمعة (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) في الآخرة وهو ثواب الجنة.

٦ ـ ١٠ ـ ثم بيّن سبحانه حال المطلقة في النفقة والسكنى فقال (أَسْكِنُوهُنَ) أي في بيوتكم (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) من المساكن (مِنْ وُجْدِكُمْ) أي من ملككم وما تقدرون عليه عن السدي وأبي مسلم ، أي من سعتكم وطاقتكم من الوجد الذي هو المقدرة. ثم قال سبحانه (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) أي لا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في السكنى والنفقة والكسوة طالبين بالإضرار التضييق عليهن ليخرجن (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) أي كن حوامل (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) لأن عدتهن إنّما تنقضي بوضع حملهن ، أمر الله سبحانه بالإنفاق على المطلقة الحامل سواء كانت رجعية أو مبتوتة (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي فإن أرضعن الولد لأجلكم بعد البينونة فأعطوهن أجر الرضاع ، يعني أجرة المثل (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) معناه : وليأمر بعضكم بعضا

٧٥٤

بالجميل في إرضاع الولد أي بتراضى الوالد والوالدة بعد وقوع الفرقة في الأجرة على الأب ، وارضاع الولد بحيث لا يضرّ بمال الوالد ولا بنفس الولد ، ولا يزاد على الأجر المتعارف ، ولا ينقص الولد عن الرضاع المعتاد (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) والمعنى : فإن اختلفتم في الرضاع وفي الأجر فسترضع له امرأة أخرى أجنبية ، أي فليسترضع الوالد غير والدة الصبي. ثم قال سبحانه (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أمر سبحانه أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سعتهم (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ) أي ضيق عليه (رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) والمعنى : ومن كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على قدر ذلك ، وعلى حسب امكانه وطاقته (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي إلّا بقدر ما أعطاها من الطاقة. وفي هذا دلالة على انه سبحانه لا يكلّف أحدا ما لا يقدر عليه وما لا يطيقه (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي بعد ضيق سعة ، وبعد فقر غنى ، وبعد صعوبة الأمر سهولة ؛ وفي هذا تسلية للصحابة فإن الغالب على أكثرهم في ذلك الوقت الفقر ، ثم فتح الله تعالى عليهم البلاد فيما بعد (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) أي وكم من أهل قرية عتوا على الله وعلى أنبيائه يعني جاوزوا الحدّ في العصيان والمخالفة (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) بالمناقشة والاستقصاء باستيفاء الحق وإيفائه قال مقاتل : حاسبها الله تعالى بعملها في الدنيا فجازاها بالعذاب وهو قوله (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة وهو عذاب الاستئصال وقيل : هو عذاب النار ، فإن اللفظ ماض بمعنى المستقبل والنكر : المنكر الفضيع الذي لم ير مثله وقيل : إن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره فعذّبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والبلايا ، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا وقيل : الحساب الشديد هو الذي ليس فيه عفو (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) أي ثقل عاقبة كفرها (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي خسرانا في الدنيا والآخرة وهو قوله (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) يعني عذاب النار ، وهذا يدلّ على ان المراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا ثم قال (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي يا أصحاب العقول ، ولا تفعلوا مثل ما فعل أولئك فينزل بكم مثل ما نزل بهم. ثم وصف أولي الألباب بقوله (الَّذِينَ آمَنُوا) وخصّ المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك دون الكفار ، ثم ابتدأ سبحانه فقال (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) يعني القرآن وقيل : يعني الرسول عن الحسن ، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

النظم

الوجه في اتصال قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) الآية بما قبله أنه سبحانه بيّن أن الخوف في مقابلة الرجاء وسبيل العاقل أن يحترز من المخوف ، ويقدم الاحتراز عن الخوف على الرجاء ، والذي يقوي جانب الخوف أنه أهلك الأمم الماضية بسبب عصيانها وتمرّدها عن أمر ربّها.

١١ ـ ١٢ ـ (رَسُولاً) المراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) أي واضحات (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ) أي من ظلمات الكفر (إِلَى النُّورِ) أي نور الإيمان ، وإنما شبّه الإيمان بالنور لأنه يؤدّي إلى نور القبر والقيامة والجنة ، وشبه الكفر بالظلمة لأنّه يؤدي إلى ظلمة القبر وظلمة جهنم (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) أي يعطيه أحسن ما يعطي أحدا ، وذلك مبالغة في وصف نعيم الجنة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي وخلق من الأرض مثلهن في العدد لا في الكيفية ، لأن كيفية السماء مخالفة لكيفية الأرض ، وليس في القرآن آية تدل على أن الأرضين

٧٥٥

سبع مثل السموات إلا هذه الآية ، ولا خلاف في السماوات أنها سماء فوق سماء ، وأما الأرضون فقد قال قوم انها سبع أرضين بعضها فوق بعض كالسماوات ، وفي كل أرض خلق خلقهم الله ، وروى أبو صالح عن ابن عباس : أنها سبع أرضين ليس بعضها فوق بعض ، يفرق بينهن البحار ، ويظل جميعهن السماء. والله سبحانه أعلم بصحة ما استأثر بعلمه ، واشتبه على خلقه وقد روى العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : بسط كفّه ثم وضع اليمنى عليها فقال : هذه الأرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبة ، والأرض الثانية فوق السماء الدنيا ، والسماء الثانية فوقها قبة. والأرض الثالثة فوق السماء الثانية ، والسماء الثالثة فوقها قبة ، حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال : والأرض السابعة فوق السماء السادسة ، والسماء السابعة فوقها قبة ، وعرش الرحمن فوق السماء السابعة ، وهو قوله : (سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) وإنما صاحب الأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو على وجه الأرض ، وإنما يتنزل الأمر من فوق بين السماوات والأرضين فعلى هذا يكون المعنى : تتنزل الملائكة بأوامره إلى الأنبياء وقيل معناه : يتنزل الأمر بين السماوات والأرضين من الله سبحانه بحياة بعض وموت بعض ، وسلامة حي وهلاك آخر ، وغنى إنسان وفقر آخر ، وتصريف الأمور على الحكمة (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بالتدبير في خلق السماوات والأرض ، والاستدلال بذلك على أن صانعهما قادر لذاته عالم لذاته وذلك قوله (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) ومعناه : أن معلوماته متميزة له بمنزلة ما قد أحاط به ، فلم يفته شيء منها.

سورة التحريم

مدنية وعدد آيها اثنتا عشرة آية

١ ـ ٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ناداه سبحانه بهذا النداء تشريفا له ، وتعليما لعباده كيف يخاطبونه في أثناء محاوراتهم ، ويذكرونه في خلال كلامهم (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) من الملاذ (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) أي تطلب به رضاء نسائك وهن أحق بطلب مرضاتك منك ، وليس في هذا دلالة على وقوع ذنب منه صغير أو كبير ، لأن تحريم الرجل بعض نسائه أو بعض الملاذ لسبب أو لغير سبب ليس بقبيح ولا داخلا في جملة الذنوب ، ولا يمتنع أن يكون خرج هذا القول مخرج التوجع له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا بالغ في إرضاء أزواجه ، وتحمل في ذلك المشقة (وَاللهُ غَفُورٌ) لعباده (رَحِيمٌ) بهم إذا رجعوا إلى ما هو الأولى والأليق بالتقوى (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي قد قدر الله تعالى لكم ما تحلّلون به أيمانكم إذا فعلتموها ، وشرع لكم الحنث فيها لأن اليمين ينحلّ بالحنث فسمّي ذلك تحلة وقيل معناه : قد بيّن الله لكم كفارة أيمانكم وقيل معناه : فرض الله عليكم كفارة أيمانكم كما قال : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ، أي فعليها ، فسمى الكفارة تحلة لأنها تجب عند انحلال اليمين (وَاللهُ) هو (مَوْلاكُمْ) أي وليّكم يحفظكم وينصركم ، وهو أولى بكم وأولى بأن تبتغوا رضاه (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بمصالحكم (الْحَكِيمُ) في أوامره ونواهيه لكم وقيل هو العليم بما قالت حفصة لعائشة الحكيم في تدبيره (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) وهي حفصة (حَدِيثاً) أي كلاما أمرها بإخفائه ، فالإسرار : نقيض الاعلان (فَلَمَّا نَبَّأَتْ) أي أخبرت غيرها بما خبرها (بِهِ) فأفشت سرّه (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي واطّلع الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرى من إفشاء سرّه (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي عرّف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفصة بعض ما ذكرت ، وأخبرها ببعض ما ذكرت ، وأعرض عن بعض ما ذكرت ، وعن بعض ما جرى من الأمر فلم يخبرها ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد علم جميع ذلك لأن الإعراض إنما

٧٥٦

يكون بعد المعرفة ، لكنه أخذ بمكارم الأخلاق ، والتغافل من خلق الكرام قال الحسن : ما استقصى كريم قط ، وأما عرف بالتخفيف فمعناه : غضب عليها وجازاها بأن طلّقها تطليقة ثم راجعها وقيل : جازاها بأن همّ بطلاقها (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي فلما أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفصة بما أظهره الله عليه (قالَتْ) حفصة (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي من أخبرك بهذا (قالَ) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ) بجميع الأمور (الْخَبِيرُ) بسرائر الصدور. ثم خاطب سبحانه عائشة وحفصة فقال (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) من التعاون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإيذاء والتظاهر عليه فقد حق عليكما التوبة ، ووجب عليكما الرجوع إلى الحق (فَقَدْ صَغَتْ) أي مالت (قُلُوبُكُما) إلى الإثم (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي وإن تتعاونا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإيذاء. عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : عائشة وحفصة. أورده البخاري في الصحيح (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) الذي يتولى حفظه وحياطته ونصرته (وَجِبْرِيلُ) أيضا معين له ، وناصر يحفظه (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) يعني خيار المؤمنين. ووردت الرواية من طريق الخاص والعام أن المراد بصالح المؤمنين أمير المؤمنين علي عليه‌السلام. وفي كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر (ع) قال : لقد عرّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا (ع) أصحابه مرّتين : أما مرّة فحيث قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، وأما الثانية : فحيث نزلت هذه الآية : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد علي (ع) فقال : أيها الناس هذا صالح المؤمنين (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد الله وجبريل وصالح المؤمنين (ظَهِيرٌ) أي أعوان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَسى رَبُّهُ) أي واجب من الله ربه (إِنْ طَلَّقَكُنَ) يا معشر أزواج النبي (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) أي أصلح له منكن. ثم نعت تلك الأزواج اللائي كان يبدله بهن لو طلق نساءه فقال (مُسْلِماتٍ) أي مستسلمات لما أمر الله به (مُؤْمِناتٍ) أي مصدقات لله ورسوله ، مستحقات للثواب والتعظيم (قانِتاتٍ) أي مطيعات لله تعالى (تائِباتٍ) عن الذنوب (عابِداتٍ) لله تعالى بما تعبدهن به من الفرائض والسنن على الإخلاص (سائِحاتٍ) أي ماضيات في طاعة الله تعالى (ثَيِّباتٍ) وهنّ الراجعات من عند الأزواج بعد افتضاضهن (وَأَبْكاراً) أي عذارى لم يكن لهن أزواج.

٦ ـ ١٢ ـ لما أدّب سبحانه نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر عقيبه المؤمنين بتأديب نسائهم فقال مخاطبا لهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا) أي احفظوا واحرسوا وامنعوا (أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) والمعنى : قوا أنفسكم وأهليكم النار بالصبر على طاعة الله ، وعن معصيته ، وعن اتباع الشهوات ، وقوا أهليكم النار بدعائهم إلى الطاعة ، وتعليمهم الفرائض ، ونهيهم عن القبائح ، وحثّهم على أفعال الخير ، وقال مقاتل بن حيان : وهو أن يؤدب الرجل المسلم نفسه وأهله ، ويعلمهم الخير ، وينهاهم عن الشر ، فذلك حق على المسلم أن يفعل بنفسه وأهله وعبيده وإمائه في تأديبهم وتعليمهم. ثم وصف سبحانه النار التي حذرهم منها فقال (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي حطب تلك النار الناس وحجارة الكبريت ، وهي تزيد في قوة النار (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) أي غلاظ القلوب لا يرحمون أهل النار أقوياء ، يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) وفي هذا دلالة على أن الملائكة الموكلين بالنار معصومون عن القبائح لا يخالفون الله في أوامره ونواهيه. ثم حكى سبحانه ما يقال للكفار يوم القيامة فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) وذلك أنهم إذا عذبوا يأخذون في الاعتذار فلا يلتفت

٧٥٧

إلى معاذيرهم ويقال لهم : لا تعتذروا اليوم فهذا جزاء فعلكم وذلك قوله (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ) من معاصيه ، وارجعوا إلى طاعته (تَوْبَةً نَصُوحاً) أي خالصة لوجه الله ، قال معاذ بن جبل : يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال : أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي يحطّها عنكم ، ويدخلكم الجنة ؛ وعسى من الله واجب ثم قال (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي لا يعذّبهم الله بدخول النار ، ولا يذلّهم بذلك ، بل يعزّهم بإدخالهم الجنة (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) مفسر في سورة الحديد ، وقال أبو عبد الله (ع): يسعى أئمة المؤمنين يوم القيامة بين أيديهم وبأيمانهم حتى ينزلوهم منازلهم في الجنة (يَقُولُونَ رَبَّنا) وهو في موضع نصب على الحال تقديره : قائلين ربنا (أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) معناه : وفّقنا للطاعة التي هي سبب النور (وَاغْفِرْ لَنا) أي استر علينا معاصينا ولا تهلكنا بها (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من إطفاء نور المنافقين ، وإثبات نور المؤمنين. ثم خاطب سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالقتال والحرب (وَالْمُنافِقِينَ) بالقول الرادع عن القبيح لا بالحرب إلّا ان فيه بذل المجهود فلذلك سمّاه جهادا (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي اشدد عليهم من غير محاباة (وَمَأْواهُمْ) أي مآل الكفار والمنافقين (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المآل والمستقر. ثم ضرب الله المثل لأزواج النبي حثّا لهن على الطاعة ، وبيانا لهن أن مصاحبة الرسول مع مخالفته لا تنفعهن فقال (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا) أي نبيّين من أنبيائنا (صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) كانت خيانتهما انهما كانتا كافرتين (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي ولم يغن نوح ولوط مع نبوتهما عن امرأتيهما من عذاب الله شيئا (وَقِيلَ) أي ويقال لهما يوم القيامة (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) وقيل : إن اسم امرأة نوح واغلة ، واسم امرأة لوط واهلة (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وهي آسية بنت مزاحم قيل : انها لما عاينت المعجز من عصا موسى وغلبته السحرة أسلمت ، فلما ظهر لفرعون إيمانها نهاها فأبت ، فاوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس ، ثم أمر أن يلقى عليها صخرة عظيمة ، فلما قرب أجلها (قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) قيل : إنها كانت تعذّب بالشمس أظلتها الملائكة ، وجعلت ترى بيتها في الجنة (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) أي دينه (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من أهل مصر قالوا : قطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية رجاء أن يقطعه صلاح غيره ، وأخبر أن معصية الغير لا تضرّ من كان مطيعا. قال مقاتل يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة : لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية ، وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم وهو قوله (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي منعت فرجها من دنس المعصية ، وعفت عن الحرام (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) أي فنفخ جبرائيل بأمرنا في جيبها من روحنا وقيل معناه : خلقنا المسيح في بطنها ونفخنا فيه الروح حتى صار حيا ، فالضمير في فيه يعود إلى المسيح (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) أي بما تكلم الله تعالى وأوحاه إلى أنبيائه وملائكته (وَكُتُبِهِ) أي وصدقت بكتب الله المنزلة على أنبيائه وملائكته مثل التوراة والإنجيل (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي المطيعين لله سبحانه ، والدائمين على طاعته ، ويجوز أن يكون من القنوت في الصلاة ، ويجوز أن يريد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت مريم منهم ، وكانوا أهل بيت صلاح وطاعة ، ولم يقل من القانتات لتغليب المذكّر على المؤنّث ، وجاءت الرواية عن معاذ بن جبل قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٧٥٨

على خديجة وهي تجود بنفسها فقال : أكره ما نزل بك يا خديجة وقد جعل الله في الكره خيرا كثيرا ، فإذا قدمت على ضراتك فاقرأبهن منّي السلام قال : يا رسول الله ومن هن؟ قال : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وكليمة أخت موسى فقالت : بالرفاء والبنين وعن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

سورة الملك

مكية وأيها ثلاثون آية

وتسمى المنجية لأنها تنجي صاحبها من عذاب القبر ، وتسمى الواقية لما روي عن النّبيّ (ص) أنها الواقية من عذاب القبر.

١ ـ ٥ ـ أخبر سبحانه عن عظمته ، وعلوّ شأنه ، وكمال قدرته فقال (تَبارَكَ) أي تعالى وجلّ عما لا يجوز عليه في ذاته وأفعاله عن أبي مسلم وقيل معناه تعالى بأنه الثابت الذي لم يزل ولا يزال وقيل معناه : تعاظم بالحق من ثبوت الأشياء إلّا به إذ لولاه لبطل كل شيء لأنه لا يصحّ سواه شيء إلا وهو مقدوره أو مقدور مقدوره الذي هو القدرة وقيل معناه تعالى من جميع البركات منه إلا أن هذا المعنى مضمر في الصفة غير مصرّح به وإنما المصرح به أنه تعالى باستحقاق التعظيم (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) والملك هو اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير ومعناه : الذي هو المالك وله الملك يؤتيه من يشاء ، ويتصرف فيه كما يشاء ولأن أكثر التصرفات والعطايا باليد (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من انعام وانتقام ، ثم وصف سبحانه نفسه فقال (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أي خلق الموت للتعبد بالصبر عليه ، والحياة للتعبد بالشكر عليها (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي ليعاملكم معاملة المختبر بالأمر والنهي فيجازي كل عامل بقدر عمله وقيل : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ) أكثر للموت ذكرا ، وأحسن له استعدادا ، وأحسن صبرا على موته وموت غيره ، وأيكم أكثر امتثالا للأوامر ، واجتنابا عن النواهي في حال حياته. قال أبو قتادة : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله تعالى : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ما عنى به؟ فقال : يقول : أيكم أحسن عقلا ثم قال : أتمّكم عقلا ، وأشدّكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا ، وإن كان أقلكم تطوعا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه ممن عصاه (الْغَفُورُ) لمن تاب إليه ، لمن أراد التفضل عليه بإسقاط عقابه ؛ والتكليف إنما يصحّ بالترغيب والترهيب لأن معناه : تحمل المشقة في الأمر والنهي : ثم عاد سبحانه إلى وصف نفسه فقال (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) أي أنشأهن واخترعهن (طِباقاً) واحدة فوق الأخرى وقيل : أراد بالمطابقة المشابهة ، أي يشبه بعضها بعضا في الإتقان والإحكام والاتساق والانتظام (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي اختلاف وتناقض من طريق الحكمة ، بل ترى أفعاله كلها سواء في الحكمة وإن كانت متفاوتة في الصور والهيئات (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) أي فردّ البصر وأدره في خلق الله ، واستقص في النظر مرة بعد أخرى (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي شقوق وفتوق (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي ثم كرّر النظر مرتين ، لأن من نظر في الشيء كرة بعد أخرى بان له ما لم يكن بائنا (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) أي يرجع إليك بصرك بعيدا عن نيل المراد ذليلا صاغرا (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي كالّ ، عن قتادة ، والتحقيق أن بصر هذا الناظر بعد الإعياء يرجع إليه بعيدا عن طلبته ، خائبا في بغيته ثم أقسم سبحانه فقال (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي حسّنا السماء الدنيا ، يعني التي هي أدنى إلى الأرض ، وهي التي يراها الناس

٧٥٩

(بِمَصابِيحَ) يعني الكواكب ، سمّاها المصابيح لإضاءتها (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) الذين يسترقون السمع وقيل : ينفصل من الكواكب شهب تكون رجوما للشياطين ، فأما الكواكب أنفسها فليست تزول إلى أن يريد الله تعالى إفناءها (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) يعني أنا جعلنا مع الكواكب رجوما للشياطين ، هيّأنا لهم ، وادّخرنا لأجلهم عذاب النار المسعرة المشعلة.

٦ ـ ١١ ـ لمّا تقدّم وعيد الشياطين الذين دعوا إلى الكفر والضلال ، اتبعه سبحانه بذكر الكفار الضلال فقال (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي لبئس المآل والمرجع (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) أي إذا طرح الكفار في النار سمعوا للنار صوتا فظيعا مثل صوت القدر عند فورانها وغليانها ، فيعظم بسماع ذلك عذابهم لما يرد على قلوبهم من هوله (وَهِيَ تَفُورُ) أي تغلي بهم كغلي المرجل (تَكادُ تَمَيَّزُ) أي تتقطع وتتفرق (مِنَ الْغَيْظِ) أي شدّة الغضب. سمّى سبحانه شدة التهاب النار غيظا على الكفار لأن المغتاظ هو المتقطع مما يجد من الألم ، الباعث على الإيقاع بغيره ، فحال جهنم كحال المتغيظ (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها) أي كلّما طرح في النار (فَوْجٌ) من الكفار (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) أي تقول لهم الملائكة الموكّلون بالنار على وجه التبكيت لهم في صيغة الاستفهام : ألم يجئكم مخوّف من جهة الله سبحانه يخوّفكم عذاب هذه النار؟ (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي فيقولون في جوابهم : بلى قد جاءنا مخوّف فلم نصدّقه وكذّبناه ولم نقبل منه ، بل قلنا له : ما نزّل الله شيئا مما تدعونا إليه وتحذرنا منه ، فتقول لهم الملائكة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) معناه : قلنا للرسل ما أنتم إلا في ضلال : أي ذهاب عن الصواب كبير في قولكم أنزل الله علينا كتابا (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) من النذر ما جاؤونا به ، ودعونا إليه ، وعملنا بذلك (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) قال الزجاج : لو كنا نسمع سمع من يعي ويفكر ، ونعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) في ذلك الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإقرار والاعتراف (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) هذا دعاء عليهم ، أي أسحقهم الله وأبعدهم من النجاة سحقا.

١٢ ـ ٢١ ـ لمّا تقدّم الوعيد عقّبه سبحانه بالوعد فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي يخافون عذاب ربهم باتقاء معاصيه وفعل طاعاته على وجه الاستسرار بذلك ، لأن الخشية متى كانت بالغيب على ما ذكرنا كانت بعيدة من الرياء ، خالصة لوجه الله وقيل : يخافونه حيث لا يراهم مخلوق ، لأن أكثر ما ترتكب المعاصي إنما ترتكب في حال الخلوة ، فهم يتركون المعصية لئلّا يجعلوا الله سبحانه أهون الناظرين إليهم ، ولأن من تركها في هذه الحال تركها في حال العلانية أيضا (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي عظيم في الآخرة لا فناء له. ثم قال سبحانه مهدّدا للعصاة (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعني أنه عالم بإخلاص المخلص ، ونفاق المنافق ، فإن شئتم فأظهروا القول ، وإن شئتم فأبطنوه فإنه عليم بضمائر القلوب ، ومن علم اضمار القلب علم اسرار القول (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) معناه : ألا يعلم سرّ العبد من خلقه ، أي من خلق العبد (وَهُوَ اللَّطِيفُ) بعباده من حيث يدبّرهم بألطف التدبير ، واللطيف التدبير من يدبر تدبيرا نافذا لا يجفو عن شيء يدبره ، وقيل : اللطيف من كان فعله في اللطف بحيث لا يهتدي إليه غيره ، وهو فعيل بمعنى فاعل ، كالقدير والعليم ، وقيل : هو بمعنى الملطف ، كالبديع بمعنى المبدع والعليم ، وقيل : اللطيف الذي يكلّف اليسير ، ويعطي الكثير (الْخَبِيرُ) العالم بالعباد وأعمالهم. ثم عدّد سبحانه أنواع نعمه ممتنا على عباده بذلك فقال (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) موطأة للتصرف فيها ، والمسير عليها ،

٧٦٠