الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

ويمكنكم زراعتها (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) أي في طرقها وفجاجها (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي كلوا مما أنبت الله في الأرض والجبال من الزروع والأشجار حلالا (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي وإلى حكمه المرجع في القيامة. ثم هدّد سبحانه الكفار زاجرا لهم عن ارتكاب معصيته ، والجحود لربوبيته فقال (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) أي أمنتم عذاب من في السماء سلطانه وأمره ونهيه وتدبيره (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) يعني أن يشقّ الأرض فيغيبكم فيها إذا عصيتموه (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أي تضطرب وتتحرك والمعنى : أن الله يحرّك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب فوقهم وهم يخسفون فيها حتى تلقيهم إلى أسفل والمور : التردد في الذهاب والمجيء مثل الموج (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي ريحا ذات حجر كما أرسل على قوم لوط حجارة من السماء (فَسَتَعْلَمُونَ) حينئذ (كَيْفَ نَذِيرِ) أي كيف إنذاري إذا عاينتم العذاب (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) رسلي ، وجحدوا وحدانيتي (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي عقوبتي وتغييري ما بهم من النعم ، ثم نبّه سبحانه على قدرته على الخسف وإرسال الحجارة فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) تصف أجنحتها في الهواء فوق رؤوسهم (وَيَقْبِضْنَ) أجنحتهن بعد البسط ، وهذا معنى الطيران وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط ، أي يضربن بأرجلهن ويبسطن أجنحتهن تارة ، ويقبضن أخرى ، فالجو للطائر كالماء للسابح (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) بتوطئة الهواء لهن ولو لا ذلك لسقطن ، وفي ذلك أعظم دلالة وأوضح برهان وحجة بأن من سخر الهواء هذا التسخير على كل شيء قدير ، والصف : وضع الأشياء المتوالية على خط مستقيم ، والقبض : جمع الأشياء عن حال البسط ، والإمساك : اللزوم المانع من السقوط (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي بجميع الأشياء عليم (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) هذا استفهام إنكار ، أي لا جند لكم ينصركم مني ، ويمنعكم من عذابي إن أردت عذابكم ، وكأنه سبحانه يقول للكفار : بأيّ قوة تعصونني ألكم جند يدفع عنكم (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي ما الكافرون إلّا في غرور من الشيطان ، يغرّهم بأن العذاب لا ينزل بهم (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) أي الذي يرزقكم ان أمسك الله الذي هو رازقكم أسباب رزقه عنكم وهو المطر هاهنا (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي ليسوا يعتبرون فينظرون ، بل تمادوا واستمروا في اللجاج ، وجاوزوا الحد في تماديهم ونفورهم عن الحق ، وتباعدهم عن الإيمان ، قال الفراء : قوله : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) الآية تعريف حجة ألزمها الله العباد فعرفوا فاقرّوا بها ولم يردّوا لها جوابا فقال سبحانه : (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ).

٢٢ ـ ٣٠ ـ ثم ضرب سبحانه مثلا للكافر والمؤمن فقال (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) أي منكسا رأسه إلى الأرض فهو لا يبصر الطريق ولا من يستقبله ، وهو الكافر المقلد لا يدري أمحق هو أم مبطل (أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) أي مستويا قائما يبصر الطريق وجميع جهاته كلها ، فيضع قدمه حيث لا يعثر ، وهو المؤمن الذي سلك طريق الحق وعرفه ، واستقام عليه وأمكنه دفع المضار عن نفسه ، وجلب المنافع إليها (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي على طريق واضح قيّم ، وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد ، وقيل : إن هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبّا على وجهه يوم القيامة كما قال : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) ، عن قتادة (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكفار (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) بأن أخرجكم من العدم إلى الوجود (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) تسمعون به المسموعات (وَالْأَبْصارَ) تبصرون بها المبصرات (وَالْأَفْئِدَةَ) يعني القلوب تعقلون بها وتتدبرون ، فأعطاكم آلات التفكر والتمييز والوصول إلى العلم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي قليلا

٧٦١

شكركم (قُلْ) لهم يا محمد (هُوَ) الله تعالى (الَّذِي ذَرَأَكُمْ) أي خلقكم (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) منها ، أي تبعثون إليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم. ثم حكى سبحانه ما كان يقوله الكفار مستبطئين عذاب الله ، مستهزئين بذلك فقال (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) من الخسف والحاصب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن ذلك يكون (قُلْ) يا محمد (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) يعني علم الساعة (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ) أي مخوف لكم به (مُبِينٌ) أي مبين لكم ما أنزل الله إليّ من الوعد والوعيد والأحكام. ثم ذكر سبحانه حالهم عند نزول العذاب ومعاينته فقال (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) والمراد به المستقبل والمعنى : إذا بعثوا ورأوا القيامة قد قامت ورأوا ما أعدّ لهم من العذاب (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي اسودّت وجوههم وعلتها الكآبة ، يعني قبحت وجوههم بالسواد (وَقِيلَ) لهؤلاء الكفار إذا شاهدوا العذاب (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) المعنى : كنتم به تستعجلون وتدعون الله بتعجيله وهو قولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية ، عن ابن زيد ، وقيل : هو تدعون من الدعوى ، أي لا جنة ولا نار ، عن الحسن. وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالأسانيد الصحيحة عن الأعمش قال : لما رأوا لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام عند الله من الزلفى سيئت وجوه الذين كفروا ، وعن أبي جعفر عليه‌السلام : فلما رأوا مكان علي عليه‌السلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيئت وجوه الذين كفروا ، يعني الذين كذبوا بفضله (قُلْ) لهؤلاء الكفار (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ) بأن يميتنا (أَوْ رَحِمَنا) بتأخير آجالنا (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) استحقّوه بكفرهم ، وما الذي ينفعهم في دفع العذاب عنهم وقيل : إن الكفار كانوا يتمنّون موت النبي صلّى الله عليهم وآله وسلم وموت أصحابه فقيل له : قل لهم : إن أهلكني الله ومن معي بأن يميتني ويميت أصحابي فمن الذي ينفعكم ويؤمنكم من العذاب ، فإنه واقع بكم لا محالة (قُلْ) لهؤلاء الكفار على وجه التوبيخ لهم (هُوَ الرَّحْمنُ) أي ان الذي أدعوكم إليه هو الرحمن الذي عمت نعمته جميع الخلائق (آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي عليه اعتمدنا ، وجميع أمورنا إليه فوّضنا (فَسَتَعْلَمُونَ) معاشر الكفار يوم القيامة (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) اليوم أنحن أم أنتم (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي غائرا ناضبا في الآبار والعيون (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي ظاهر للعيون أراد سبحانه أنه المنعم بالأرزاق فاشكروه واعبدوه ولا تشركوا به شيئا.

سورة القلم

مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية

١ ـ ١٦ ـ (ن) اختلفوا في معناه فقيل : هو اسم من أسماء السورة مثل : حم وص وما أشبه ذلك ، وقد ذكرنا ذلك مع غيره من الأقوال في مفتتح سورة البقرة ؛ وقيل : هو الحوت الذي عليه الأرضون ، عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدي ، وقيل : هو حرف من حروف الرحمن في رواية أخرى عن ابن عباس ، وقيل : هو الدواة ، عن الحسن وقتادة والضحاك ، وقيل : نون : لوح من نور ، وروي مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقيل : هو نهر في الجنة قال الله له : كن مدادا فجمد ، وكان أبيض من اللبن ، وأحلى من الشهد ثم قال للقلم : اكتب فكتب القلم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وقيل : المراد به الحوت في البحر وهو من آيات الله إذ خلقها في الماء ، فإذا فارق الماء مات ، كما ان حيوان البرّ إذا خالط الماء مات (وَالْقَلَمِ) الذي يكتب به ؛ أقسم الله به لمنافع الخلق فيه إذ هو أحد لساني الإنسان ، يؤدّي عنه ما في جنانه ، ويبلغ البعيد عنه ما يبلغ القريب بلسانه ، وبه تحفظ أحكام الدين ، وبه تستقيم أمور العالمين (وَما يَسْطُرُونَ) أي وما

٧٦٢

يكتبه الملائكة مما يوحى إليهم ، وما يكتبونه من أعمال بنى آدم ، فكان القسم بالقلم وما يسطر بالقلم (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) هو جواب القسم ومعناه : لست يا محمد بمجنون بنعمة ربّك كما تقول : ما أنت بنعمة ربّك بجاهل (وَإِنَّ لَكَ) يا محمد (لَأَجْراً) أي ثوابا من الله على قيامك بالنبوة ، وتحملك أعباء الرسالة (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع وهو ثواب الجنة ، يعني لا تبال بكلامهم مع ما لك عند الله من الثواب الدائم ، والأجر العظيم. ثم وصف سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (وَإِنَّكَ) يا محمد (لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) أي على دين عظيم وهو دين الإسلام وقيل : الخلق العظيم الصبر على الحق ، وسعة البذل ، وتدبير الأمور على مقتضى العقل بالصلاح والرفق ، والمداراة ، وتحمل المكاره في الدعاء إلى الله سبحانه ، والتجاوز والعفو ، وبذل الجهد في نصرة المؤمنين ، وترك الحسد والحرص ونحو ذلك (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) أي فسترى يا محمد ويرون ، يعني الذين رموه بالجنون (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي أيّكم المجنون الذي فتن بالجنون أأنت أم هم؟ يريد أنهم يعلمون عند العذاب أن الجنون كان بهم حين كذّبوك وتركوا دينك لا بك (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) الذي هو سبيل الحق ، وعدل عنه (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) إليه فيجازي كلّا بما يستحقّه ويستوجبه. ثم قال سبحانه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) بتوحيد الله عزوجل ، الجاحدين لنبوّتك ، ولا تجبهم إلى ما يلتمسون منك ، ولا توافقهم فيما يريدون (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي ودّ هؤلاء الكفار أن تلين لهم في دينك فيلينون في دينهم ؛ شبّه التليين في الدين بتليين الدهن عن ابن عباس ؛ والإدهان : الجريان في ظاهر الحال على المقاربة مع اضمار العداوة وهو مثل النفاق (فَلا تُطِعِ) يا محمد (كُلَّ حَلَّافٍ) أي كثير الحلف بالباطل لقلة مبالاته بالكذب (مَهِينٍ) فعيل من المهانة وهي القلة في الرأي والتمييز (هَمَّازٍ) أي وقاع في الناس مغتاب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي قتات يسعى بالنميمة ، ويفسد بين الناس ، ويضرب بعضهم على بعض (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بالمال (مُعْتَدٍ) أي مجاوز عن الحق غشوم ظلوم عن قتادة (أَثِيمٍ) أي آثم فاجر ، فاعل ما يأثم به (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) وهو الفاحش السيّء الخلق (زَنِيمٍ) أي دعيّ ملصق إلى قوم ليس منهم في النسب ، وقيل : هو الذي له علامة في الشر وهو معروف بذلك ، فإذا ذكر بالشر سبق القلب إليه (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لا تطعه لأن كان ذا مال وبنين ، يعني لماله وبنيه (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أحاديث الأوائل التي سطرت وكتبت لا أصل لها. ثم أوعده سبحانه فقال (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنسمه يوم القيامة بسمة تشوّه خلقته فيعرف من رآه أنه من أهل النار ؛ وإنما خصّ الأنف لأن الإنسان يعرف بوجهه ، والأنف وسط الوجه ، وهذا على عادة العرب فإنهم يقولون : شمخ فلان بأنفه ، وأرغم الله أنفه.

١٧ ـ ٣٣ ـ ثم قال سبحانه (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) يعني أهل مكة ، أي اختبرناهم بالجوع والقحط (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي البستان الذي فيه الشجر. وهذه الجنة حديقة كانت باليمن لشيخ ، وكان يمسك منها قدر كفايته وكفاية أهله ويتصدق بالباقى ، فلما مات قال بنوه : نحن أحق بها لكثرة عيالنا ، ولا يسعنا أن نفعل كما فعل أبونا ، وعزموا على حرمان المساكين فصارت عاقبتهم إلى ما قصّ الله تعالى في كتابه وهو قوله (إِذْ أَقْسَمُوا) أي حلفوا فيما بينهم (لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) أي ليقطعنّ ثمرتها إذا دخلوا في وقت الصباح (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي غير مستثنين في إيمانهم فلم يقولوا : إن شاء الله (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) أي أحاطت بها النار فاحترقت (وَهُمْ نائِمُونَ) أي في حال نومهم (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي كالليل المظلم ، والصريمان : الليل والنهار لانصرام احداهما

٧٦٣

من الآخر (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) أي نادى بعضهم بعضا وقت الصباح (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) أي تنادوا بأن اغدوا معناه : قال بعضهم لبعض : اغدوا على حرثكم ، والحرث : الزروع والأعناب (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي قاطعين النخل (فَانْطَلَقُوا) أي فمضوا إليها (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أي يتسارون بينهم (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) هذا ما كانوا يتخافتون به (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) أي على قصد منع الفقراء (قادِرِينَ) عند أنفسهم وفي اعتقادهم على منعهم وإحراز ما في جنتهم وقيل على حرد ، أي على جدّ وجهد من أمرهم ، عن مجاهد وقتادة وأبي العالية وقيل : على حدّ في المنع عن أبي عبيدة وقيل على حنق وغضب من الفقراء عن سفيان (فَلَمَّا رَأَوْها) أي رأوا الجنة على تلك الصفة (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) ضللنا عن الطريق فليس هذا بستاننا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) والمعنى : ان هذه جنّتنا ولكن حرمنا نفعها وخيرها لمنعنا حقوق المساكين ، وتركنا الاستثناء (قالَ أَوْسَطُهُمْ) معناه : أفضلهم وأعقلهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) كأنه كان حذرهم سوء فعالهم قال : لو لا تستثنون ، لأن في الاستثناء التوكل على الله ، والتعظيم لله ، والإقرار بأنه لا يقدر أحد على فعل شيء إلّا بمشيئة الله ، فلذلك سمّاه تسبيحا ، وقيل معناه : هلّا تعظمون الله بعبادته ، واتباع أمره ، وقيل معناه : هلّا تذكرون نعم الله عليكم فتؤدّوا شكرها بأن تخرجوا حق الفقراء من أموالكم ، وقيل معناه : هلّا نزّهتم الله تعالى عن الظلم ، واعترفتم بأنه لا يظلم ، ولا يرضى منكم بالظلم ، وقيل معناه : لم لا تصلون ثم حكى عنهم أنهم (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) في عزمنا على حرمان المساكين من حصّتهم عند الصرام ، فحرمنا قطعها والانتفاع بها والمعنى : أنه سبحانه منزّه عن الظلم فلم يفعل بنا ما فعله ظلما ، وإنما الظلم وقع منا حيث منعنا الحق (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي يلوم بعضهم بعضا على ما فرط منهم (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) قد غلونا في الظلم ، وتجاوزنا الحدّ فيه والويل : غلظ المكروه الشاق على النفس قال عمرو بن عبيد : يجوز أن يكون ذلك منهم توبة ، ويجوز أن يكون على حدّ ما يقول الكافر إذا وقع في الشدة (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) أي لمّا تابوا ورجعوا إلى الله قالوا : لعلّ الله يخلف علينا ويولينا خيرا من الجنة التي هلكت (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي نرغب إلى الله ونسأله ذلك ، ونتوب إليه مما فعلناه (كَذلِكَ الْعَذابُ) في الدنيا للعاصين (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) والأكبر هو الذي يصغر مقدار غيره بالإضافة إليه. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : بلغني أن القوم أخلصوا وعرف الله تعالى منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا وقال أبو خالد اليمامي : رأيت تلك الجنة ورأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم.

٣٤ ـ ٤٥ ـ لما ذكر سبحانه ما أعدّه بالآخرة للكافرين ، عقّبه بذكر ما أعدّه للمتقين فقال (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يتنعمون فيها ويختارونها على جنات الدنيا التي يحتاج صاحبها إلى المشقة والعناء. ثم استفهم سبحانه على وجه الإنكار فقال (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) أي لا نجعل المسلمين كالمشركين في الجزاء والثواب وذلك أنهم كانوا يقولون : إن كان بعث وجزاء كما يقوله محمد فإن حالنا يكون أفضل في الآخرة كما في الدنيا ، فأخبر سبحانه أن ذلك لا يكون أبدا (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا تهجين لهم وتوبيخ ومعناه أيّ عقل يحملكم على تفضيل الكفار حتى صار سببا لإصراركم على الكفر؟ ولا يحسن في الحكمة التسوية بين الأولياء والأعداء في دار الجزاء (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) معناه : ألكم كتاب تدرسون فيه ذلك فأنتم متمسكون به ، لا تلتفتون إلى خلافه (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) معناه : إن لكم

٧٦٤

لما تخيرونه عند أنفسكم والأمر بخلاف ذلك (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي بل لكم عهود ومواثيق علينا عاهدناكم بها فلا ينقطع ذلك إلى يوم القيامة (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) لأنفسكم به من الخير والكرامة عند الله تعالى. ثم قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (سَلْهُمْ) يا محمد (أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) يعني أيّهم كفيل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) معناه : أم لهم شركاء في العبادة مع الله وهي الأصنام فليأتوا بهؤلاء الشركاء إن كانوا صادقين في أنها شركاء الله (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) أي فليأتوا بهم في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال والشدائد (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي يقال لهم على وجه التوبيخ اسجدوا (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) وقيل معناه : ان شدة الأمر ؛ وصعوبة ذلك اليوم تدعوهم إلى السجود وإن كانوا لا ينتفعون به ، ليس انهم يؤمرون به ، وهكذا كما يفزع الإنسان إلى السجود إذا أصابه هو من أهوال الدنيا (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة أبصارهم لا يرفعون نظرهم عن الأرض ذلّة ومهانة (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي تغشاهم ذلة الندامة والحسرة (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) أي اصحّاء يمكنهم السجود فلا يسجدون ، يعني انهم كانوا يؤمرون بالصلاة في الدنيا فلم يفعلوا ، وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنهما قالا في هذه الآية : أفحم القوم ، ودخلتهم الهيبة ، وشخصت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر لما رهقهم من الندامة والخزي والمذلّة ، وقد كانوا يدعون إلى السجود (وَهُمْ سالِمُونَ) : أي يستطيعون الأخذ بما أمروا به ، والترك لما نهوا عنه ، ولذلك ابتلوا (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) هذا تهديد معناه : فذرني والمكذبين ، أي كل أمرهم إليّ كما يقول القائل : دعني وإياه يقول : خلّ بيني وبين من يكذب بهذا القرآن ، ولا تشغل قلبك به فإني أكفيك أمره (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي سنأخذهم إلى العقاب حالا بعد حال ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : إذا أحدث العبد ذنبا جدّد له نعمة فيدع الاستغفار فهو الاستدراج (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأطيل آجالهم ولا أبادر إلى عذابهم مبادرة من يخشى الفوت ، فإنما يعجل من يخاف الفوت ، إن عذابي لشديد.

٤٦ ـ ٥٢ ـ ثم خاطب سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال على وجه التوبيخ للكفار (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) هذا عطف على قوله : (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) ، ذكر سبحانه جميع ما يحتجّ به فقال : أم تسأل يا محمد هؤلاء الكفار أجرا على أداء الرسالة والدعاء إلى الله (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) أي هم من لزوم ذلك (مُثْقَلُونَ) أي محملون الأثقال (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي هل عندهم علم بصحة ما يدعونه اختصوا به لا يعلمه غيرهم فهم يكتبونه ويتوارثونه؟ وينبغي أن يبرزوه. ثم قال للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) في إبلاغ الرسالة ، وترك مقابلتهم بالقبيح والمعنى : اصبر إلى أن يحكم الله بنصر أوليائك ، وقهر أعدائك (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يعني يونس ، أي لا تكن مثله في استعجال عقاب قومه وإهلاكهم ، ولا تخرج من بين قومك من قبل استعجال عقاب قومه وإهلاكهم ، ولا تخرج من بين قومك من قبل أن يأذن لك الله كما خرج هو (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي دعا ربّه في جوف الحوت وهو محبوس عن التصرف في الأمور ؛ والذي نادى به قوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقيل : مكظوم : أي مختنق بالغم ، إذ لم يجد لغيظه شفاء (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي لو لا أن أدركته رحمة من ربه بإجابة دعائه وتخليصه من بطن الحوت ، وتبقيته فيه حيّا ، وإخراجه منه حيّا (لَنُبِذَ) أي طرح (بِالْعَراءِ) أي الفضاء (وَهُوَ مَذْمُومٌ) ملوم قد أتى بما يلام عليه ، ولكن الله تعالى تداركه بنعمة من عنده فطرح بالعراء وهو غير مذموم (فَاجْتَباهُ

٧٦٥

رَبُّهُ) أي اختاره الله نبيّا (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي من جملة المطيعين لله ، التاركين لمعاصيه (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي قارب الذين كفروا (لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) أي ليرهقونك ، أي يقتلونك ويهلكونك وقيل : يصيبونك بأعينهم ، والكل يرجع في المعنى إلى الإصابة بالعين ، والمفسّرون كلّهم على أنه المراد في الآية (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) يعني القرآن (وَيَقُولُونَ) مع ذلك (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي مغلوب على عقله مع علمهم بوقاره ووفور عقله ، تكذيبا عليه ، ومعاندة له (وَما هُوَ) أي وما القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) أي شرف (لِلْعالَمِينَ) إلى أن تقوم الساعة ، وقيل معناه : وما محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا شرف للخلق حيث هداهم إلى الرشد ، وأنقذهم من الضلالة ، وقيل : المراد بالذكر أنه يذكرهم أمر آخرتهم والثواب والعقاب ، والوعد والوعيد ؛ قال الحسن : دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية.

سورة الحاقة

مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية

١ ـ ١٠ ـ (الْحَاقَّةُ) اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين ، وسميت بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور ، وهي الصادقة الواجبة الصدق لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع ، صادقة الوجود (مَا الْحَاقَّةُ) استفهام معناه التفخيم لحالها ، والتعظيم لشأنها ، ثم زاد سبحانه في التهويل فقال (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) أي كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها ، ولم تر ما فيها من الأهوال قال الثوري : يقال للمعلوم ما أدراك ، ولما ليس بمعلوم ما يدريك في جميع القرآن ، وإنما قال : لمن يعلمها ما أدراك لأنه إنما يعلمها بالصفة. ثم أخبر سبحانه عن المكذبين بها فقال (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي بيوم القيامة ، وإنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة وإلا فقد كان يكفي أن يقول كذبت ثمود وعاد بها ثم أخبر سبحانه عن كيفية إهلاكهم فقال (فَأَمَّا ثَمُودُ) وهم قوم صالح (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي أهلكوا بطغيانهم وكفرهم عن ابن عباس ومجاهد وقيل معناه : أهلكوا بالصيحة الطاغية وهي التي جاوزت المقدار حتى أهلكتهم عن قتادة والجبائي وأبي مسلم وقال الزجاج : أهلكوا بالرجفة الطاغية وقيل : بالخصلة المتجاوزة لحال غيرها في الشدة التي أهلك الله بها أهل الفساد (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) أي باردة عن ابن عباس وقتادة ، كأنه تصطك الأسنان بما يسمع من صوتها لشدة بردها وقيل : الصرصر : الشديدة العصوف ، المتجاوزة لحدها المعروف (عاتِيَةٍ) عتت على خزانها في شدة الهبوب. روى الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال : ما يخرج من الريح شيء إلا عليها خزان يعلمون قدرها وعددها وكيلها ، حتى كانت التي أرسلت على عاد فاندفق منها فهم لا يعلمون قدر غضب الله فلذلك سمّيت عاتية (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) أي سلّطها الله وأرسلها عليهم (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) وهي التي تسميها العرب أيام العجوز ، ذات برد ورياح شديدة ، وقيل : سميت أيام العجوز لأنها في عجز الشتاء ، ولها أسامي مشهورة قالوا لليوم «الأول» صنّ «وللثاني» صنّبر «وللثالث» وبر «وللرابع» مطفىء الجمر «وللخامس» مكفىء الظعن وقيل «للسادس» الآمر «وللسابع» المؤتمر «وللثامن» المعلل. (حُسُوماً) أي ولاء متتابعة ليست لها فترة ، تتابع عليهم الشر حتى استأصلهم (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها) أي في تلك الأيام والليالي (صَرْعى) أي مصروعين (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) أي أصول نخل بالية نخرة (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) من بقية؟ أي لم يبق منهم أحد (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) مرّ معناه (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) أي وجاء أهل القرى المؤتفكات : أي المنقلبات بأهلها ، وهي

٧٦٦

قرى قوم لوط (بِالْخاطِئَةِ) أي بخطيئتهم التي هي الشرك والكفر وقيل معناه : بالأفعال الخاطئة (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) فيما أمرهم به (فَأَخَذَهُمْ) الله بالعقوبة (أَخْذَةً رابِيَةً) أي زائدة في الشدة ، عن ابن عباس.

١١ ـ ٢٤ ـ ثمّ بيّن سبحانه قصة نوح عليه‌السلام فقال (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي جاوز الحدّ المعروف حتى غرقت الأرض بمن عليها إلا من شاء الله نجاته (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) أي حملنا آباءكم في السفينة (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها من إغراق قوم نوح ، ونجاة من حملناه عبرة لكم وموعظة تتذكرون بها نعم الله تعالى وتشكرونه عليها ، وتتفكرون فيها فتعرفون كمال قدرته وحكمته (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي وتحفظها اذن حافظة لما جاء من عند الله. روى الطبري بإسناده عن مكحول أنه لما نزلت هذه الآية قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم اجعلها أذن علي ، ثم قال عليّ عليه‌السلام : فما سمعت شيئا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنسيته ، وروى بإسناده عن عكرمة عن بريدة الأسلمي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي عليه‌السلام : يا علي إن الله تعالى أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلمك وتعي ، وحق على الله أن تعي ، فنزل : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) وهي النفخة الأولى (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي رفعت من أماكنها (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي كسرتا كسرة واحدة لا تثنى حتى يستوي ما عليها من شيء مثل الأديم الممدود وقيل : ضرب بعضها ببعض حتى تفتت الجبال ، وسفتها الرياح ، وبقيت الأرض شيئا واحدا لا جبل فيها ولا رابية ، بل تكون قطعة مستوية (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي قامت القيامة (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) أي انفرج بعضها من بعض (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي شديدة الضعف بانتقاض بنيتها (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي على أطرافها ونواحيها. والملك اسم يقع على الواحد والجمع ، وقيل : ان الملائكة يومئذ على جوانب السماء تنتظر ما يؤمر به في أهل النار من السوق إليها وفي أهل الجنة من التحية والتكرمة فيها (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) يعني فوق الخلائق (يَوْمَئِذٍ) يعني يوم القيامة (ثَمانِيَةٌ) من الملائكة ، وقيل : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) يعني يوم القيامة تعرضون معاشر المكلفين (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي نفس خافية أو فعلة خافية ، وروي في الخبر عن ابن مسعود وقتادة : أن الخلق يعرضون ثلاث عرضات : ثنتان فيهما معاذير وجدال ، والثالثة تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه ، وآخذ بشماله ، وليس يعرض الله الخلق ليعلم من حالهم ما لم يعلمه ، فإنه عزّ اسمه العالم لذاته ، يعلم جميع ما كان منهم ، ولكن ليظهر ذلك لخلقه. ثم قسّم سبحانه حال المكلفين في ذلك اليوم فقال : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ) لأهل القيامة (هاؤُمُ) أي تعالوا (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) وإنما يقوله سرورا به لعلمه بأنه ليس فيه إلّا الطاعات فلا يستحيي أن ينظر فيه غيره ، وأهل اللغة يقولون : ان معنى هاؤم خذوا (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي علمت وأيقنت في الدنيا (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) والمعنى : اني كنت مستيقنا في دار الدنيا بأني ألقى حسابي يوم القيامة ، عالما بأني أجازى على الطاعة بالثواب ، وعلى المعصية بالعقاب ، فكنت أعمل بما أصل به إلى هذه المثوبة (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي في حالة من العيش راضية ، يرضاها بأن لقي الثواب وأمن العقاب (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي رفيعة القدر والمكان (قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي ثمارها قريبة ممن يتناولها (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي يقال لهم : كلوا واشربوا في الجنة (هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ) أي قدمتم من أعمالكم الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) الماضية ، يعني أيام الدنيا ويعني بقوله : هنيئا انه ليس فيه ما يؤذي ، فلا يحتاج فيه إلى

٧٦٧

إخراج فضل بغائط أو بول.

٢٥ ـ ٣٧ ـ ثم ذكر سبحانه حال أهل النار فقال (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ) أي أعطي (كِتابَهُ) الذي هو صحيفة أعماله (بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) أي تمنّى أنه لم يؤته لما يرى فيه من مقابح أعماله التي يسودّ لها وجهه (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) أي ولم أدر أيّ شيء حسابي ، لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب وإنما هو كلّه عليه (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) القاضية : القاطعة للحياة ، أي ليت الموتة الأولى التي متنا لم نحي بعدها؟ وقال قتادة : تمنى يومئذ الموت ولم يكن في الدنيا شيء عنده أكره من الموت (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي ما دفع عني مالي من عذاب الله شيئا (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ضلّ عني ما كنت أعتقده حجة. ثم أخبر سبحانه أنه يقول للملائكة (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) أي أوثقوه بالغل ، وهو أن تشد إحدى يديه ورجليه إلى عنقه بجامعة (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي ثم أدخلوه النار العظيمة والزموه إياها (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها) أي طولها (سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) أي اجعلوه فيها لأنه يؤخذ عنقه فيها ثم يجرّبها ، قال الضحاك : إنما تدخل في فيه وتخرج من دبره ، فعلى هذا يكون المعنى : ثم أسلكوا السلسلة فيه فقلب ، كما يقال : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وقال الأعشى (إذا ما السراب ارتدى بالأكم) وإنما ارتدى الأكم بالسراب ولكنه قلب ؛ وقال نوف البكالي : كل ذراع سبعون باعا ، والباع أبعد ما بينك وبين مكة ، وكان في رحبة الكوفة ، وقال الحسن : الله أعلم بأيّ ذراع هو. قال سويد بن نجيح ان جميع أهل النار في تلك السلسلة ، وقال : لو أن حلقة منها وضعت على جبل لذاب من حرّها. ثم قال سبحانه (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) أي لم يكن يوحد الله في دار التكليف ولا يصدّق به (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) وهو المحتاج الفقير ، والمعنى : أنه كان يمنع الزكاة والحقوق الواجبة (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي صديق ينفعه (وَلا طَعامٌ) أي ولا له اليوم طعام (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) وهو صديد أهل النار وما يجري منهم فالطعام هو ما هيء للأكل ، ولذلك لا يسمى التراب طعاما ، فلما هيىء الصديد لأكل أهل النار كان ذلك طعاما لهم. وقيل : إن أهل النار طبقات ، فمنهم من طعامه غسلين ، ومنهم من طعامه الزقوم ، ومنهم من طعامه الضريع ، لأنه قال في موضع آخر : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) ، وقيل : يجوز أن يكون الضريع هو الغسلين فعبّر عنه بعبارتين ، عن قطرب ، وقيل : يجوز أن يكون المراد : ليس لهم طعام إلّا من ضريع ، ولا شراب إلّا من غسلين (لا يَأْكُلُهُ) أي لا يأكل الغسلين (إِلَّا الْخاطِؤُنَ) وهم الجائرون عن طريق الحق عامدين ؛ والفرق بين الخاطىء والمخطىء : ان المخطىء قد يكون من غير تعمد والخاطىء المذنب المتعمد الجائر عن الصراط المستقيم.

٣٨ ـ ٥٢ ـ ثمّ أكّد سبحانه ما تقدّم فقال (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) أن لا مزيدة مؤكّدة والتقدير : فاقسم بما ترون وما لا ترون (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) قال : انه قول الله على الحقيقة ، وإنما الملك وجبرائيل والرسول يحكون ذلك ، وإنما أسنده إليهم من حيث ان ما يسمع منهم كلامهم ، فلما كان حكاية كلام الله قيل : هو كلام الله على الحقيقة في العرف (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) قول الشاعر ما ألفه بوزن وجعله مقفى وله معنى ، وقول الكاهن السجع وهو كلام متكلف يضم إلى معنى يشاكله ؛ طهّره الله سبحانه من الشعر والكهانة وعصمه عنها ، وإنما منعه سبحانه من الشعر ونزّهه عنه لأن الغالب من حال الشعر أن يدعو إلى الهوى ، ويبعث على الشهوة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما يأتي بالحكم التي يدعو إليها العقل

٧٦٨

للحاجة إلى العمل عليها ، والاهتداء بها ، وأيضا فإنه سبحانه منعه من قول الشعر دلالة على ان القرآن ليس بصفة الكلام المعتاد بين الناس ، وانه ليس بشعر بل هو صنف من الكلام خارج عن الأنواع المعتادة ، وإذا بعد عما جرت به العادة في تأليف الكلام فذلك أدل على إعجازه وقوله : (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) معناه : لا تصدقون بأن القرآن من عند الله تعالى ، يريد بالقليل نفي إيمانهم أصلا كما تقول لمن لا يزورك : قل ما تأتينا ، وأنت تريد لا تأتينا أصلا فالمعنى : لا تؤمنون به ولا تتذكرون ولا تتفكرون فتعلموا المعجز وتفصلوا بينه وبين الشعر والكهانة (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) بيّن أنه منزل من عنده على لسان جبرائيل حتى لا يتوهم أنه كلام جبرائيل (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) معناه : ولو كذب علينا واختلق ما لم نقله وأتى به من عند نفسه (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي لأخذنا بيده التي هي اليمين على وجه الإذلال ، كما يقول السلطان : يا غلام خذ بيده ، فأخذها إهانة (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) أي ولكنا نقطع منه وتينه ونهلكه ، وهو حبل القلب (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) أي فما منكم أحد يحجزنا عنه والمعنى : أنه لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاتبناه ، ثم لم تقدروا أنتم على دفع عقوبتنا عنه. ثم ذكر سبحانه أن القرآن ما هو فقال (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي وانه لعظة لمن اتقى عقاب الله بطاعته (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) بالقرآن ، أشار سبحانه إلى أن منهم من يصدق ، ومنهم من يكذّب (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) أي انّ هذا القرآن حسرة عليهم يوم القيامة حيث لم يعملوا به في الدنيا (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) معناه : وان القرآن للمتقين لحق اليقين ، والحق هو اليقين ، وإنما أضافه إلى نفسه كما يقال : مسجد الجامع ، ودار الآخرة (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد به جميع المكلفين ومعناه : نزّه الله سبحانه عما لا يجوز عليه من الصفات ، والعظيم هو الجليل الذي يصغر شأن غيره في شأنه ، ويتضاءل كل شيء لعظمته وسلطانه.

سورة المعارج

مكية وآياتها أربع وأربعون آية

١ ـ ١٠ ـ (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) المعنى : دعا داع على نفسه بعذاب واقع مستعجلا له وهو واقع ، روى الحاكم الحسكاني عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال : لمّا نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام يوم غدير خم وقال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، طار ذلك في البلاد ، فقدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحرث الفهري فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال : والله الذي لا إله إلا هو ان هذا من الله ، فولّى النعمان بن الحرث وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ، وأنزل الله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) أي ليس لعذاب الله دافع من الله ، وذي المعارج صفة الله سبحانه ومعناه : ذي الفواضل العالية ، والدرجات التي يعطيها للأنبياء والأولياء في الجنة ، وقيل أنها معارج السماء ، أي مواضع عروج الملائكة (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) أي تصعد الملائكة ويصعد الروح أيضا معهم وهو جبرائيل ، خصّه بالذكر من بين الملائكة تشريفا له (إِلَيْهِ) أي إلى الموضع الذي لا

٧٦٩

يجري لأحد سواه فيه حكم ؛ جعل سبحانه عروجهم إلى ذلك الموصع عروجا إليه كقول إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) ، أي إلى الموضع الذي وعدني ربي (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) معناه : تعرج الملائكة إلى الموضع الذي يأمرهم الله به في يوم كان مقداره من عروج غيرهم خمسين ألف سنة ، وذلك من أسفل الأرضين إلى فوق السموات السبع ، وقوله في سورة السجدة : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) ، هو لما بين السماء الدنيا والأرض في الصعود والنزول ، خمسمائة سنة في الصعود ، وخمسمائة سنة في النزول عن مجاهد ، والمراد أن الآدمين لو احتاجوا إلى قطع هذا المقدار الذي قطعته الملائكة في يوم واحد لقطعوه في هذه المدة ألف سنة (فَاصْبِرْ) يا محمد على تكذيبهم إياك (صَبْراً جَمِيلاً) لا جزع فيه ولا شكوى على ما تقاسيه (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) أخبر سبحانه أنه يعلم مجيء يوم القيامة ، وحلول العقاب بالكفار قريبا ، ويظنه الكفار بعيدا لأنهم لا يعتقدون صحته ، وكلّ ما هو آت فهو قريب دان. ثم أخبر سبحانه أنه متى يقع العذاب بهم فقال (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) أي مثل الصفر المذاب (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي كالصوف المنفوش ، يعني أنها تلين بعد الشدة ، وتتفرق بعد الاجتماع. قال الحسن : انها أولا تصير كثيبا مهيلا ، ثم تصير عهنا منفوشا ثم هباء منثورا (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لشغل كل إنسان بنفسه عن غيره.

١١ ـ ٣٥ ـ لمّا وصف سبحانه القيامة ، وأخبر أن الحميم فيه لا يسأل حميمه لشغله بنفسه قال (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي يعرفهم الملائكة ويجعلون بصراء بهم فيسوقون فريقا إلى الجنة وفريقا إلى النار (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) أي يتمنّى العاصي (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) يتمنى سلامته من العذاب النازل به بإسلام كل كريم عليه من أولاده الذين هم أعزّ الناس عليه (وَصاحِبَتِهِ) أي وزوجته التي كانت سكنا له ، وربما آثرها على أبويه (وَأَخِيهِ) الذي كان ناصرا له ومعينا (وَفَصِيلَتِهِ) أي وعشيرته (الَّتِي تُؤْوِيهِ) في الشدائد ، وتضمّه ويأوي إليها في النسب (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي وبجميع الخلائق يقول : يودّ لو يفتدي بجميع هذه الأشياء (ثُمَّ يُنْجِيهِ) ذلك الفداء (كَلَّا) لا ينجيه ذلك (إِنَّها لَظى) يعني ان نار جهنّم ، وسميت لظى لأنها تتلظى ، أي تشتعل وتلتهب على أهلها (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) تنزع الأطراف فلا تترك لحما ولا جلدا إلا أحرقته (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) يعني النار تدعو إلى نفسها من أدبر عن الإيمان ، وتولى عن طاعة الله ورسوله ، والمعنى : أنه لا يفوت هذه النار كافر ، فكأنها تدعوه فيجيبها كرها وقيل معناه : تدعو زبانية النار من أدبر وتولى عن الحق (وَجَمَعَ) المال (فَأَوْعى) أي أمسكه في الوعاء فلم ينفقه في طاعة الله ، فلم يؤدّ زكاة ، ولم يصل رحما (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) أي ضجورا شحيحا جزوعا من الهلع وهو شدّة الحرص (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) يعني إذا أصابه الفقر لا يحتسب ولا يصبر ، وإذا أصابه الغنى منعه من البرّ ؛ ثم استثنى سبحانه الموحّدين المطيعين فقال (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) مستمرّون على أدائها لا يخلون بها ولا يتركونها ، وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام : ان هذا في النوافل وقوله (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) في الفرائض والواجبات (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) يعني الزكاة المفروضة ، والسائل : الذي يسأل ، والمحروم : الفقير الذي يتعفف ولا يسأل ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : الحق المعلوم ليس من الزكاة وهو الشيء الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة ، وإن شئت كل يوم ، ولكل ذي فضل فضله (وَالَّذِينَ

٧٧٠

يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي يؤمنون بأن يوم الجزاء والحساب حقّ لا يشكّون في ذلك (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي خائفون (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي لا يؤمن حلوله بمستحقيه وهم العصاة ، وقيل معناه : يخافون أن لا تقبل حسناتهم ويؤخذون بسيئاتهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) يعني الذين يحفظون فروجهم عن المناكح على كل وجه وسبب إلّا على الأزواج أو ملك الأيمان من الإماء (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) على ترك حفظ الفروج عنهم (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) فمن طلب وراء ما أباحه الله له من الفروج فأولئك هم الذين تعدّوا حدود الله ، وخرجوا عما أباحه لهم ؛ ومعنى وراء ذلك : ما خرج عن حده من أيّ جهة كان (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي حافظون والأمانة : ما يؤتمن المرء عليه مثل الوصايا والودائع والحكومات ونحوها (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي يقيمون الشهادات التي تلزمهم إقامتها ، والشهادة : الأخبار بالشيء انه على ما شاهدوه (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي يحفظون أوقاتها وأركانها فيؤدّونها بتمامها ، ولا يضيّعون شيئا منها ، وروى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : هذه الفريضة من صلّاها لوقتها ، عارفا بحقها ، لا يؤثر عليها غيرها ، كتب الله له بها براءة لا يعذّبه ، ومن صلّاها لغير وقتها ، مؤثرا عليها غيرها ، فإن ذلك إليه إن شاء غفر له ، وإن شاء عذّبه (أُولئِكَ) الذين وصفوا بهذه الصفات (فِي جَنَّاتٍ) أي بساتين يجنّها الشجر (مُكْرَمُونَ) معظمون مبجلون بما يفعل بهم من الثواب.

٣٦ ـ ٤٤ ـ ثم قال سبحانه على وجه الإنكار على الكفار (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أيّ شيء للذين كفروا بتوحيد الله ، أي ما بالهم وما حملهم على ما فعلوا (قِبَلَكَ) أي عندك يا محمد (مُهْطِعِينَ) متطلعين بوجوههم لا يلتفتون عنك ، أي ناظرين إليك بالعداوة ، والمراد بالذين كفروا هنا المنافقون (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) أي عن يمينك وعن شمالك (عِزِينَ) أي جماعات متفرقين عصبة عصبة ، وجماعة جماعة (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) منهم أي من هؤلاء المنافقين (أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) كما يدخل أولئك الموصوفون قبل هذا ، وإنما قال هذا لأنّهم كانوا يقولون : إن كان الأمر على ما قال محمد فإنّ لنا في الآخرة عند الله أفضل ممّا للمؤمنين كما أعطانا في الدنيا أفضل مما أعطاهم (كَلَّا) أي لا يكون ولا يدخلونها (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي من النطفة ، عن الحسن أي من كان أصله من هذا الماء المهين فكيف استوجب الجنة بأصله وبنفسه ، إنّما يستوجبها بالأعمال الصالحة. نبّه سبحانه بهذا على أن الناس كلهم من أصل واحد وإنما يتفاضلون بالإيمان والطاعة ، وتحقيقه : إنما خلقناهم من المقاذر والأنجاس فمتى يدخلون الجنة ولم يؤمنوا بي ، ولم يصدّقوا رسولي؟ وقيل معناه : خلقناهم من الجنس الذين يعلمون ، أو من الخلق الذين يعلمون ويفقهون ، ويلزمهم الحجة ، ولم نخلقهم من الجنس الذي لا يفقه كالبهائم والطير ، وقيل معناه : خلقناهم من أجل ما يعلمون من الثواب والعقاب ، والتكليف للطاعات تعريضا للثواب (فَلا أُقْسِمُ) قيل فيه وجوه (أحدها) ان يكون قوله لا ردّا لكلام المشركين ، فكأنه قال : ليس الأمر كما يقول المشركون ، أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر ، ويدخل فيها جميع المكونات (ثانيها) ان لا مزيدة مؤكّدة ، والتقدير فأقسم (وثالثها) انه نفي للقسم ومعناه : لا يحتاج إلى القسم لوضوح الأمر (رابعها) انه كقول القائل : لا والله لا أفعل ذلك ، ولا والله لأفعلن ذلك (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) يعني مشارق الشمس ومغاربها ، فإن لها ثلاثمائة وستين مطلعا ، لكل يوم مطلع لا تعود إليه إلى قابل عن ابن عباس (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى

٧٧١

أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) هذا جواب القسم ، يعني انا نقدر على أن نهلكهم ونأتي بدلهم بقوم آخرين خيرا منهم (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) هذا عطف على جواب القسم ، أي وان هؤلاء الكفار لا يفوتون بأن يتقدّموا على وجه يمنع من لحاق العذاب بهم فإنهم لم يكونوا سابقين ، ولا العقاب مسبوقا منهم والتقدير : وما نحن بمسبوقين يفوت عقابنا إياهم فإنهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا وقيل معناه : وما نحن بمغلوبين عن أبي مسلم (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) في باطلهم (وَيَلْعَبُوا) فإن وبال ذلك عائد عليهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يعني يوم القيامة (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور (سِراعاً) مسرعين لشدة السوق (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) أي كأنهم يسعون ويسرعون إلى علم نصب لهم ، عن الجبائي وأبي مسلم وقيل : كأنهم إلى أوثانهم يسعون للتقرب إليها ، عن ابن عباس وقتادة (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة خاضعة لا يستطيعون النظر من هول ذلك اليوم (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي تغشاهم مذلة (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي) وصفه اليوم الذي (كانُوا يُوعَدُونَ) به دار التكليف فلا يصدقون به ، ويجحدونه قد شاهدوه في تلك الحال.

سورة نوح

مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

لما ختم سبحانه تلك السورة بوعيد أهل التكذيب ، افتتح هذه السورة بذكر قصة نوح وقومه ، وما نالهم بالتكذيب ، تسلية للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال :

١ ـ ١٤ ـ أخبر سبحانه عن نفسه فقال (إِنَّا أَرْسَلْنا) أي بعثنا (نُوحاً) رسولا (إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) معناه : أرسلنا لينذرهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة. ثم حكى أن نوحا امتثل ما أمر الله سبحانه به بأن قال (قالَ يا قَوْمِ) أضافهم إلى نفسه فكأنه قال : أنتم عشيرتي يسوؤني ما يسوؤكم (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوّف مبين وجوه الأدلة في الوعيد ، وبيان الدين والتوحيد (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) أي اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ، واتّقوا معاصيه (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به لأن طاعتي مقرونة بطاعة الله ، وطاعة الله واجبة عليكم لمكان نعمه السابقة التي لا توازيها نعمة منعم (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي فإنكم إن فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم وقيل : إن من هاهنا للتبعيض والمعنى يغفر لكم ذنوبكم السالفة ، وهي بعض الذنوب التي تضاف إليكم ، ولما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها على الإطلاق لما يكون في ذلك من الإغراء بالقبيح قيّد سبحانه هذا التقييد (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وفي هذا دلالة على ثبوت أجلين ، كأنه شرط في الوعد بالأجل المسمى عبادة الله والتقوى ، فلما لم يقع ذلك منهم اقتطعوا بعذاب الاستيصال قبل الأجل الأقصى بالأجل الأدنى. ثم قال (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) يعني الأقصى (إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) صحة ذلك وتؤمنون به (قالَ) نوح (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) إلى عبادتك وخلع الأنداد من دونك ، وإلى الإقرار بنبوّتي (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي لم يزدادوا بدعائي إياهم إلّا فرارا من قبوله ونفارا منه وإدبارا عنه (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) إلى إخلاص عبادتك (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) سيئاتهم (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لئلا يسمعوا كلامي ودعائي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي غطّوا بها وجوههم لئلا يروني (وَأَصَرُّوا) أي داموا على كفرهم (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي تكبّروا وانفوا عن قبول الحق ، والإصرار : الإقامة على الأمر بالعزيمة عليه ، فلما كانوا عازمين على الكفر كانوا مصرّين ،

٧٧٢

إن الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح فيقول له : احذر هذا لا يغوينك ، فإن أبي قد ذهب بي إليه وأنا مثلك فحذّرني مثل ما حذرتك (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) أي بأعلى صوتي (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي دعوتهم في العلانية وفي السرّ ، ومعناه : إني سلكت معهم في الدعوة كل مذهب ، وتلطفت لهم في ذلك غاية التلطف فلم يجيبوا (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي اطلبوا منه المغفرة على كفركم ومعاصيكم (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) لكل من طلب منه المغفرة ، فمتى رجعتم عن كفركم واطعتموه (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي كثيرة الدرور بالغيث ، كانوا قد قحطوا وهلكت أموالهم وأولادهم فلذلك رغّبهم في ردّ ذلك بالاستغفار مع الإيمان والرجوع إلى الله (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي يكثر أموالكم وأولادكم (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي بساتين في الدنيا (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) تسقون بها جناتكم ثم قال نوح عليه‌السلام لهم على وجه التبكيت (ما لَكُمْ) معاشر الكفار (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي لا تخافون لله عظمة ، فالوقار : اسم من التوقير وهو التعظيم ، والرجاء الخوف هنا ، والمعنى : لا تعظمون الله حق عظمته فتوحّدوه وتطيعوه عن ابن عباس ومجاهد (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي خلقكم طورا نطفة ، ثم طورا علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما ، ثم كسا العظام لحما ، ثم أنشأه خلقا آخر نبت له الشعر ، وكمل له الصورة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل : أطوارا : أحوالا ، حالا بعد حال وقيل معناه : صبيانا ، ثمّ شبّانا ثم شيوخا وقيل : خلقكم مختلفين في الصفات أغنياء وفقراء ، وزمناء ، وأصحاء ، وطوالا وقصارا ، والآية محتملة للجميع.

١٥ ـ ٢٨ ـ ثم خاطب المكلفين منبّها لهم على توحيده فقال (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي واحدة فوق الأخرى كالقباب (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) قيل فيه وجوه أحدها ، ان المعنى : وجعل القمر نورا في السموات والأرض عن ابن عباس قال : يضيء ظهره لما يليه من السموات ، ويضيء وجهه لأهل الأرض ، وكذلك الشمس ، وثانيها ، ان معنى فيهن معهنّ ، يعني وجعل القمر معهن ، أي مع خلق السماوات نورا لأهل الأرض. وثالثها ، ان معنى فيهنّ في حيزّهن وإن كان في واحدة منها (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي مصباحا يضيء لأهل الأرض فهي سراج العالم ، كما ان المصباح سراج الإنسان (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) معناه : أنه أنشأ جميع الخلق باغتذاء ما تنبته الأرض ونما فيها (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) أي في الأرض أمواتا (وَيُخْرِجُكُمْ) منها عند البعث أحياء (إِخْراجاً) وإنما ذكر المصدر تأكيدا (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أي مبسوطة ليمكنكم المشي عليها ، والاستقرار فيها. ثم بيّن أنه إنما جعلها كذلك (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي طرقا واسعة ؛ وإنما عدّد سبحانه هذه الضروب من النعم امتنانا على خلقه ، وتنبيها لهم على استحقاقه للعبادة خالصة من كل شرك ، ودلالة لهم على أنه عالم بمصالحهم ، ومدبّر لهم على ما تقتضيه الحكمة ، فيجب أن لا يقابلوا هذه النعم الجليلة بالكفر والجحود. ثم عاد سبحانه إلى ذكر نوح عليه‌السلام بقوله (قالَ نُوحٌ) على سبيل الدعاء (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) فيما أمرتهم به ونهيتهم عنه ، يعني قومه (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي واتبعوا أغنياء قومهم اغترارا بما آتاهم الله من المال والولد فقالوا : لو كان هذا رسولا لله لكان له ثروة وغنى ، والخسار : الهلاك بذهاب رأس المال (وَمَكَرُوا) في دين الله (مَكْراً كُبَّاراً) أي كبيرا عظيما (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي لا تتركوا عبادة أصنامكم ؛ ثم خصّوا أصناما لهم معروفة بعد دخولها في الجملة الأولى تعظيما لها فقالوا (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) وهذه أسماء أصنام كانوا

٧٧٣

يعبدونها ثم عبدتها العرب فيما بعد وقد اتخذت قضاعة ودّا ، وأخذ بطنان من طي يغوث وأما يعوق فكان لكهلان ، وأما نسر فكان لخثعم ، وأما سواع فكان لحمير (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) أي ضلّ بعبادتها وبسببها كثير من الناس ، نظيره : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) ، وقيل معناه : وقد أضلّ كبراؤهم كثيرا من الناس ، عن مقاتل وأبي مسلم ، وعلى هذا فإن الضمير فى أضلّوا يعود إلى أكابر قوم نوح (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) أي هلاكا كما في قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) وقيل : إلّا فتنة بالمال والولد ، وقيل : إلّا ذهابا عن الجنة والثواب. قال البلخي : لا تزدهم إلّا منعا من الطاعات عقوبة لهم على كفرهم ، فإنهم إذا ضلّوا استحقوا منع الألطاف التي تفعل بالمؤمنين فيطيعون عندها ويمتثلون ، ولا يجوز أن يفعل بهم الضلال عن الحق والإيمان لأن ذلك لا يجوز في صفة الحكيم ، تعالى الله عن ذلك (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أي من خطيئاتهم ، والتقدير : من أجل ما ارتكبوه من الخطايا والكبائر (أُغْرِقُوا) على وجه العقوبة (فَأُدْخِلُوا ناراً) بعد ذلك ليعاقبوا فيها (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) أي لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله ، وقال الضحاك أغرقوا فادخلوا نارا في الدنيا في حالة واحدة ، كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في النار من جانب (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي نازل دار ، يعني لا تدع منهم أحدا إلّا أهلكته (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) أي ان تتركهم ولم تهلكهم يضلّوا عبادك عن الدين بالإغواء والدعاء إلى خلافه (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) وإلّا فلم يعلم نوح الغيب وإنما قال ذلك بعد أن أعلمه الله إياه والمعنى : ولا يلدوا إلا من يكون عند بلوغه كافرا ، لأنه لا يذمّ على الكفر من لم يقع منه فعل الكفر ، وقال مقاتل والربيع وعطاء : إنّما قال ذلك نوح عليه‌السلام لأن الله تعالى أخرج من أصلابهم كل من يكون مؤمنا ، وأعقم أرحام نسائهم ، وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة ، وأخبر الله تعالى نوحا بأنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله دعاءه فأهلكهم كلّهم ولم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب ؛ ثم دعا لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات فقال (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) واسم أبيه لمك بن متوشلخ ، واسم أمه سمحاء بنت أنوش وكانا مؤمنين (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) أي دخل داري (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) عامة وقيل من أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكلبي (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي هلاكا ودمارا. قال أهل التحقيق : دعا نوح عليه‌السلام دعوتين : دعوة على الكافرين فأهلك من كان منهم على وجه الأرض ، ونرجو أن يستجيب أيضا دعوته للمؤمنين فيغفر لهم.

سورة الجن

مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

١ ـ ١٠ ـ أمر سبحانه نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخبر قومه بما لم يكن لهم به علم فقال (قُلْ) يا محمد (أُوحِيَ إِلَيَ) إنما ذكره على لفظ ما لم يسم فاعله تفخيما وتعظيما ، والله سبحانه أوحى إليه ، وأنزل الملك عليه (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) أي استمع القرآن طائفة من الجن ، وهم جيل رقاق الأجسام خفيفة على صورة مخصوصة ، بخلاف صورة الإنسان والملائكة ، فإن الملك مخلوق من النور ، والإنس من الطين ، والجن من النار (فَقالُوا) أي قالت الجن بعضها لبعض (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) والعجب ما يدعو إلى التعجب منه لخفاء سببه ، وخروجه عن العادة في مثله ؛ فلما كان القرآن قد خرج بتأليفه المخصوص عن العادة في الكلام ، وخفي سببه عن الأنام كان عجبا لا محالة ، وأيضا فإنه مباين لكلام الخلق في المعنى والفصاحة والنظام ، لا يقدر

٧٧٤

أحد على الإتيان بمثله ، وقد تضمن أخبار الأولين والآخرين ، وما كان وما يكون ، أجراه الله على يد رجل أمّيّ من قوم أميين فاستعظموه وسمّوه عجبا (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي يدلّ على الهدى ويدعو إليه ؛ والرشد : ضد الضلال (فَآمَنَّا بِهِ) أي صدّقنا بأنه من عند الله (وَلَنْ نُشْرِكَ) فيما بعد (بِرَبِّنا أَحَداً) فنوجّه العبادة إليه ، بل نخلص العبادة لله تعالى والمعنى : انا قد بدأنا بأنفسنا فقبلنا الرشد والحق ، وتركنا الشرك ، واعتقدنا التوحيد. وفي هذا دلالة على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس ، وعلى أن الجن عقلاء مخاطبون ، وبلغات العرب عارفون ، وعلى أنهم يميّزون بين المعجز وغير المعجز ، وأنهم دعوا قومهم إلى الإسلام ، وأخبروهم بإعجاز القرآن ، وانه كلام الله تعالى لأن كلام العباد لا يتعجب منه (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) المعنى : تعالى جلال ربنا وعظمته عن اتخاذ الصاحبة والولد (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) أي جاهلنا (عَلَى اللهِ شَطَطاً) أرادوا بسفيههم إبليس ، والشطط : السرف في ظلم النفس ، والخروج عن الحق ، فاعترفوا بأن إبليس كان يخرج عن الحد في إغراء الخلق ، ودعائهم إلى الضلال (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) اعترفوا بأنهم ظنّوا أن لن يقول أحد من الأنس والجن كذبا على الله في اتخاذ الشريك معه والصاحبة والولد ، أي حسبنا أن ما يقولونه من ذلك صدق ، وانا على حقّ حتّى سمعنا القرآن ، وتبينا الحق به وفي هذا دلالة على أنهم كانوا مقلدة حتى سمعوا الحجة ، وانكشف لهم الحق فرجعوا عما كانوا عليه ، وفيه إشارة إلى بطلان التقليد ، ووجوب اتباع الدليل (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) أي يعتصمون ويستجيرون ، وكان الرجل من العرب إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال : أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، وكان هذا منهم على حسب اعتقادهم أن الجن تحفظهم (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي فزاد الجن اعتقادهم أن الجن تحفظهم (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي فزاد الجن الإنس إثما على إثمهم الذي كانوا عليه من الكفر والمعاصي (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) قيل معناه : قال مؤمنو الجن لكفّارهم إن كفار الإنس الذين يعوذون برجال من الجن في الجاهلية حسبوا كما حسبتم يا معشر الجن أن لن يبعث الله رسولا بعد موسى أو عيسى ؛ ووراء هذا ان الجن مع تمرّدهم وعتوّهم لما سمعوا القرآن آمنوا واهتدوا به ، فأنتم معاشر العرب أولى بالتفكر والتدبر لتؤمنوا وتهتدوا مع ان الرسول من جنسكم ، ولسانه لسانكم ، ثم حكى عن الجن قولهم (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) معناه : طلبنا الصعود إلى السماء ، فعبّر عن ذلك باللمس مجازا (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) أي حفظة من الملائكة شدادا (وَشُهُباً) والتقدير : ملئت السماء من الحرس والشهب ، وهو جمع شهاب وهو نور يمتدّ من السماء كالنار (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي لاستراق السمع ، أي كان يتهيّأ لنا فيما قبل القعود في مواضع الاستماع فنسمع منها صوت الملائكة وكلامهم (فَمَنْ يَسْتَمِعِ) منا (الْآنَ) ذلك (يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) يرمى به ، ويرصد له (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي بحدوث الرجم بالشهب وحراسة السماء جوّزوا

__________________

قال الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام : عليك بالقرآن ، فإنّ الله خلق الجنّة بيده لبنة من ذهب ، ولبنة من فضة ، وجعل ملاطها المسك ، وترابها الزعفران ، وحصباؤها اللؤلؤ ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن ، فمن قرأ القرآن قال له : اقرأ وارق ، ومن دخل منهم الجنّة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه ما خلا النبيين والصديقين. بحار الأنوار : ٩٢ / ١٩٨.

٧٧٥

هجوم انقطاع التكليف ، أو تغيير الأمر بتصديق نبيّ من الأنبياء وذلك قوله (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) معناه : ان هذا المنع لا يدرى العذاب سينزل بأهل الأرض أم لنبيّ يبعث ويهدي إلى الرشد؟ فإن مثل هذا لا يكون إلّا لأحد هذين الأمرين ، وسمى العذاب شرّا لأنه مضرّة ، وسمى بعثة الرسول رشدا لأنه منفعة.

١١ ـ ٢٠ ـ ثم قال سبحانه في تمام الحكاية عن الجن الذين آمنوا عند سماع القرآن (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) وهم الذين عملوا الصالحات المخلصون (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي دون الصالحين في الرتبة (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي فرقا شتّى على مذاهب مختلفة ، وأهواء متفرقة ، من مسلم وكافر ، وصالح ودون الصالح (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي علمنا وتيقّنا (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي لن نفوته إذا أراد بنا أمرا (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي أنه يدركنا حيث كنّا (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) اعترفوا بأنهم لما سمعوا القرآن الذي فيه الهدى صدّقوا به ، ثم قالوا (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) أي يصدق بتوحيد ربه ، وعرفه على صفاته (فَلا يَخافُ) تقديره : فإنه لا يخاف (بَخْساً) أي نقصانا فيما يستحقّه من الثواب (وَلا رَهَقاً) أي لحاق ظلم ، وغشيان مكروه ، وكأنّه قال : لا يخاف نقصا قليلا ولا كثيرا وذلك أن أجره وثوابه موفر على أتمّ ما يمكن فيه ؛ وهذه حكاية عن قوة إيمان الجن وصحة إسلامهم ، ثم قالوا (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) الذين استسلموا لما أمرهم الله سبحانه به ، وانقادوا لذلك (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي الجائرون عن طريق الحق (فَمَنْ أَسْلَمَ) لما أمره الله به (فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي توجّهوا الرشد ، والتمسوا الثواب والهدى ، وتعمدوا إصابة الحق ، وليسوا كالمشركين الذين ألفوا ما يدعوهم إليه الهوى ، وزاغوا عن طريق الهدى (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) العادلون عن طريق الحق والدين (فَكانُوا) في علم الله وحكمه (لِجَهَنَّمَ حَطَباً) يلقون فيها فتحرقهم كما تحرق النار الحطب (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي لو استقام الأنس والجن على طريقة الإيمان عن ابن عباس والسدي وقيل : أراد به مشركي مكة ، أي لو آمنوا واستقاموا على الهدى لأسقيناهم ماءا كثيرا من السماء ، وذلك بعد ما رفع ماء المطر عنهم سبع سنين وقيل : أي لو آمنوا واستقاموا لوسّعنا عليهم في الدنيا ، وضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير كله والرزق يكون في المطر ، وهذا كقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ) ـ إلى قوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ، وقوله (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم بذلك والأولى أن تكون الاستقامة على الطريقة محمولة على الاستقامة في الدين والإيمان لأنها لا تطلق إلّا على ذلك ، ولأنها في موضع التلطف والاستدعاء إلى الإيمان ، والحثّ على الطاعة. ثم قال سبحانه على وجه التهديد والوعيد (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) أي ومن يعدل عن الفكر فيما يؤدّيه إلى معرفة الله وتوحيده ، والإخلاص في عبادته وقيل : عن شكر الله وطاعته (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي يدخله عذابا شاقا شديدا متصعدا في العظم (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) تقديره : ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا سوى الله والمعنى : لا تذكروا مع الله في المواضع التي بنيت للعبادة والصلاة أحدا على وجه الإشراك في عبادته كما تفعل النصارى في بيعهم ، والمشركون في الكعبة. وقال سعيد بن جبير : قالت الجن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف لنا أن نأتي المسجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت الآية (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) يريد به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَدْعُوهُ) بقول لا إله إلا الله ، ويدعو إليه ، ويقرأ القرآن (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي كاد الجن يركب بعضهم بعضا يزدحمون عليه حرصا منهم على استماع القرآن (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً)

٧٧٦

وذلك أنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع مثله فارجع عنه فأجابهم بهذا ، وأمره سبحانه بأن يجيبهم بهذا فقال : (قُلْ : إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) ، وهذا يعضد قول الحسن وقتادة لأنه كالذم لهم على ذلك.

٢١ ـ ٢٨ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (قُلْ) يا محمد للمكلفين (إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي لا أقدر على دفع الضرر عنكم ، ولا إيصال الخير إليكم ، وإنما القادر على ذلك هو الله تعالى ولكنّي رسول ليس عليّ إلّا البلاغ والدعاء إلى الدين ، والهداية إلى الرشاد ؛ وهذا اعتراف بالعبودية وإضافة الحول والقوة إليه تعالى ثم قال (قُلْ) لهم يا محمد (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) أي لا يمنعني أحد مما قدره الله عليّ (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (مُلْتَحَداً) أي ملتجأ إليه أطلب به السلامة (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ) أي تبليغا من الله آياته (وَرِسالاتِهِ) معناه : لا أملك لكم ضرّا ولا رشدا فما عليّ إلا البلاغ عن الله فكأنه قال : لا أملك شيئا سوى تبليغ وحي الله بتوفيقه وعونه (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي خالف أمره في التوحيد ، وارتكب الكفر والمعاصي (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) جزاء على ذلك (حَتَّى إِذا رَأَوْا) في الآخرة (ما يُوعَدُونَ) به من العقاب في الدنيا (فَسَيَعْلَمُونَ) عند ذلك (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) المشركون أم المؤمنون ، وقيل : أجند الله أم الذي عبده المشركون ، وإنما قال : من أضعف ناصرا ولا ناصر لهم في الآخرة لأنه جاء على جواب من توهّم أنه إن كانت الآخرة فناصرهم أقوى ، وعددهم أكثر ، وفي هذا دلالة على أن المراد بقوله : ومن يعص الله ورسوله الكفار ، وكانوا يفتخرون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكثرة جموعهم ، ويصفونه بقلة العدد ، فبيّن سبحانه أن الأمر سينعكس عليهم (قُلْ) يا محمد (إِنْ أَدْرِي) أي لست أعلم (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) به من العذاب (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) أي مهلة وغاية ينتهي إليها (عالِمُ الْغَيْبِ) أي هو عالم الغيب يعلم متى تكون القيامة (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) أي لا يطلع على الغيب أحدا من عباده ، ثم استثنى فقال (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) يعني الرسل ، فإنه يستدل على نبوتهم بأن يخبروا بالغيب لتكون آية ومعجزة لهم (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) والرصد : الطريق ، أي يجعل له إلى علم ما كان قبله من الأنبياء والسلف ، وعلم ما يكون بعده طريقا ، وقيل : رصدا من بين يدي الرسول ومن خلفه وهم الحفظة من الملائكة يحرسونه عن شرّ الأعداء وكيدهم ، فلا يصل إليه شرّهم (لِيَعْلَمَ) الرسول (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) يعني الملائكة (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) كما أبلغ هو إذ كانوا محروسين محفوظين بحفظ الله (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) أي أحاط الله علما بما لدى الأنبياء والخلائق وهم لا يحيطون إلا بما يطلعهم الله عليه مما هو عند الله (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي أحصى ما خلق ، وعرف عدد ما خلق ، ولم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر والخردل.

سورة المزمل

مكية وآياتها عشرون آية

١ ـ ١٠ ـ (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) معناه : يا أيّها المتزمل بثيابه ، المتلفف بها (قُمِ اللَّيْلَ) للصلاة (إِلَّا قَلِيلاً) والمعنى : بالليل صلّ إلّا قليلا من الليل ، فإن القيام بالليل عبارة عن الصلاة بالليل (نِصْفَهُ) هو بدل من الليل فيكون بيانا للمستثنى منه ، أي قم نصف الليل ومعناه : صل من الليل النصف إلّا قليلا وهو قوله (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) أي من

٧٧٧

النصف (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي على النصف ، خيّر الله سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الساعات للقيام بالليل وجعله موكولا إلى رأيه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أي بيّنه بيانا ، واقرأه على هينتك. قال الزجاج : والبيان لا يتم بأن تعجل في القرآن ، إنما يتم بأن تبين جميع الحروف ، وتوفي حقها من الإشباع ، وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في معناه أنه قال : بيّنه بيانا ولا تهذّه هذّ الشعر ، ولا تنثره نثر الرمل ، ولكن اقرع به القلوب القاسية ، ولا يكوننّ هم أحدكم آخر السورة (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) أي سنوحي عليك قولا يثقل عليك وعلى أمتك ، أما ثقله عليه فلما فيه من تبليغ الرسالة ، وما يلحقه من الأذى فيه ، وما يلزمه من قيام الليل ، ومجاهدة النفس ، وترك الراحة والدعة ؛ وأما ثقله على أمته فلما فيه من الأمر والنهي والحدود (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) معناه : ان ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة ، وقيل : نهي؟؟؟ القيام بعد النوم ، والمروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنهما قالا : هي القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) أي أكثر ثقلا ، وأبلغ مشقة ، لأن الليل وقت الراحة والعمل يشق فيه (وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي أصوب للقراءة ، وأثبت للقول لفراغ البال ، وانقطاع ما يشغل القلب (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) معناه : ان لك يا محمد في النهار منصرفا ومنقلبا إلى ما تقضي فيه حوائجك والمراد : ان مذاهبك في النهار ومشاغلك كثيرة فإنك تحتاج فيه إلى تبليغ الرسالة ، ودعوة الخلق ، وتعليم الفرائض والسنن ، وإصلاح المعيشة لنفسك وعيالك ، وفي الليل يفرغ القلب للتذكر والقراءة ، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك لتأخذ بحظك من خير الدنيا والآخرة ؛ وفي هذا دلالة على أنه لا عذر لأحد في ترك صلاة الليل لأجل التعليم والتعلم لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحتاج إلى التعليم أكثر مما يحتاج الواحد منا إليه ، ثم لم يرض سبحانه أن يترك حظّه من قيام الليل (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) يعني بالدعاء وقيل : اقصد بعملك وجه ربك (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي أخلص له إخلاصا في الدعاء والعبادة وقيل : انقطع إليه انقطاعا (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي رب العالم بما فيه ، لأنه بين المشرق والمغرب ، أي المتصرف فيما بينهما ، والمدبر لما بينهما (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا أحد تحق له العبادة سواه (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) معناه : فاتخذه كافيا لما وعدك به ، واعتمد عليه ، وفوّض أمرك إليه تجده خير حفيظ وكاف (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) لك يعني الكفار من التكذيب والأذى ، والنسبة إلى السحر والكهانة (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) والهجر الجميل : اظهار الموجدة عليهم من غير ترك الدعاء إلى الحق على وجه المناصحة. وفي هذا دلالة على وجوب الصبر على الأذى لمن يدعو إلى الدين ، والمعاشرة بأحسن الأخلاق ، وإستعمال الرفق ليكونوا أقرب إلى الإجابة.

١١ ـ ١٩ ـ ثم قال سبحانه مهدّدا للكفار (وَذَرْنِي) يا محمد (وَالْمُكَذِّبِينَ) الذين يكذّبونك فيما تدعوهم إليه من التوحيد وإخلاص العبادة ، وفي البعث والجزاء ، وهذا كما يقول القائل : دعني وإياه ، إذا أراد أن يهدّده (أُولِي النَّعْمَةِ) يعني المتنعمين ذوي الثروة في الدنيا ، أي كل جزاءهم إليّ ، ولا تشغل قلبك بمجازاتهم (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) وهذا أيضا وعيد لهم ولم يكن إلّا يسيرا حتى كانت وقعة بدر (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) أي عندنا قيودا في الآخرة عظاما لا تفكّ أبدا (وَجَحِيماً) وهو اسم من أسماء جهنم (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي ذا شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولا يخرج (وَعَذاباً أَلِيماً) أي عقابا موجعا مؤلما. ثم بيّن سبحانه متى يكون ذلك فقال (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) أي تتحرّك باضطراب شديد (وَالْجِبالُ) أي وترجف

٧٧٨

الجبال معها أيضا وتضطرب بمن عليها (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) أي رملا سائلا متناثرا. ثم أكّد سبحانه الحجة على أهل مكّة فقال (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (شاهِداً عَلَيْكُمْ) أي يشهد عليكم في الآخرة بما يكون منكم في الدنيا (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ) بمصر (رَسُولاً) يعني موسى بن عمران (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ولم يقبل منه ما دعاه إليه (فَأَخَذْناهُ) بالعذاب (أَخْذاً وَبِيلاً) أي شديدا ثقيلا مع كثرة جنوده ، وسعة ملكه ، حذّرهم سبحانه أن ينالهم مثل ما نال فرعون وقومه (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ) ولم تؤمنوا برسولكم (يَوْماً) أي عقاب يوم (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) وهو جمع أشيب ، وهذا وصف لذلك اليوم وشدته كما يقال : هذا أمر يشيب منه الوليد ، وتشيب منه النواصي إذا كان عظيما شديدا والمعنى : بأيّ شيء تتحصّنون من عذاب ذلك اليوم إن كفرتم ، وكيف تدفعون عنكم ذلك؟ ثم زاد في وصف شدة ذلك اليوم (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) المعنى : أن السماء تنفطر وتنشق في ذلك اليوم من هوله (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي كائنا لا خلف فيه ولا تبديل (إِنَّ هذِهِ) الصفة التي ذكرناها وبيناها (تَذْكِرَةٌ) أي عظة لمن أنصف من نفسه ، والتذكرة : الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي فمن شاء من المكلفين اتّخذ إلى ثواب ربه سبيلا ، لأنه قادر على الطاعة التي لو فعلها وصل إلى الثواب وقد رغّبه الله تعالى فيه ، ودعاه إلى فعل ما يوصله إليه ، وبعث رسولا يدعوه إليه ، فمن لم يصل إليه فبسوء اختياره إنصرف عنه.

٢٠ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى) أي أقرب وأقل (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) أي أقلّ من نصفه وثلثه ، والهاء تعود إلى الليل ، أي نصف الليل وثلث الليل والمعنى : أنك تقوم في بعض الليالي قريبا من الثلثين ، وفي بعضها قريبا من نصف الليل ، وقريبا من ثلثه ، وقيل : إنّ الهاء تعود الى الثلثين ، ومن ثلث الثلثين ، وإذا نصبت فالمعنى : تقوم نصفه وثلثه (وَ) تقوم (طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) على الإيمان ، وروى الحاكم أبو القاسم إبراهيم الحسكاني بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) قال : عليّ وأبوذر (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) معناه : لا يفوته علم ما تفعلون (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) قال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام ، فقال سبحانه : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ، أي لن تطيقوا معرفة ذلك وقال الحسن : قاموا حتى انتفخت أقدامهم فقال سبحانه : إنكم لا تطيقون إحصاءه على الحقيقة وقيل معناه لن تطيقوا المداومة على قيام الليل ويقع منكم التقصير فيه (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بأن جعله تطوعا ولم يجعله فرضا عن الجبائي وقيل معناه : فلم يلزمكم إثما كما لا يلزم التائب أي رفع التبعة فيه كرفع التبعة عن التائب وقيل : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي فخفّف عليكم (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) الآن ، يعني في صلاة الليل عن أكثر المفسرين ، وأجمعوا أيضا على أن المراد بالقيام المتقدم في قوله : (قُمِ اللَّيْلَ) هو القيام إلى

__________________

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : البيت الذي يقرأ فيه القرآن ، ويذكر الله عزوجل فيه ، تكثر بركته ، وتحضره الملائكة ، وتهجره الشياطين ، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض ؛ وإنّ البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ، ولا يذكر الله عزوجل فيه ، تقلّ بركته ، وتهجره الملائكة ، وتحضره الشياطين. أصول الكافي : ٢ / ٦١٠

٧٧٩

الصلاة الا أبا مسلم فإنه قال أراد القيام لقراءة القرآن لا غير وقيل معناه : فصلّوا ما تيسّر من الصلاة ، وعبّر عن الصلاة بالقرآن لأنها تتضمّنه وقال إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة فهو محمول على الاستحباب عند الأكثرين دون الوجوب لأنه لو وجبت القراءة لوجب الحفظ وقال بعضهم : هو محمول على الوجوب لأن القارىء يقف على إعجاز القرآن وما فيه من دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، ولا يلزم حفظ القرآن لأنه من القرب المستحبة المرغب فيها. ثم اختلفوا في القدر الذي تضمنه هذا الأمر من القراءة فقال سعيد بن جبير : خمسون آية وقال ابن عباس : مائة آية ، وعن الحسن قال : ومن قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن ، وقال كعب : من قرأ مائة آية في ليلة كتب من القانتين ، وقال السدي : مائتا آية وقال جويبر : ثلث القرآن لأن الله يسره على عباده والظاهر أن معنى ما تيسّر مقدار ما أردتم وأحببتم (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) وذلك يقتضي التخفيف عنكم (وَآخَرُونَ) أي ومنكم قوم آخرون (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي يسافرون للتجارة وطلب الأرباح (وَآخَرُونَ) أي ومنكم قوم آخرون (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فكل ذلك يقتضي التخفيف عنكم (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) وروي عن الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن جدّه عليهم‌السلام قال : ما تيسّر منه لكم في خشوع القلب ، وصفاء السر (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بحدودها التي أوجبها الله عليكم (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي وانفقوا في سبل الله والجهات التي أمركم الله ، وندبكم إلى النفقة فيها ، وقد مرّ معنى القرض فيما تقدم (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي طاعة (تَجِدُوهُ) أي تجدوا ثوابه (عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) لكم من الشحّ والتقصير (وَأَعْظَمَ أَجْراً) أي أفضل ثوابا (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) أي اطلبوا مغفرته (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ستّار لذنوبكم ، صفوح عنكم ، رحيم بكم ، منعم عليكم.

سورة المدثر

مكية وآياتها ست وخمسون آية

١ ـ ١٠ ـ خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أي المتدثر بثيابه (قُمْ فَأَنْذِرْ) إنما أنت نبيّ فأنذر الناس وادعهم إلى التوحيد ، وفي هذا ما فيه لأن الله تعالى لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيرة ، والآيات البينة الدالة على أن ما يوحي إليه إنما هو من الله تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواها ، ولا يفزع ولا يفرق وقيل معناه : يا أيّها الطالب صرف الأذى بالدثار اطلبه بالإنذار وخوّف قومك بالنار وقيل : ان المراد به : الجدّ في الأمر ، والقيام بما أرسل به ، وترك الهوينا فيه ، فكأنّه قيل له : لا تنم عما أمرتك به ، وهذا كما تقول العرب : فلان لا ينام في أمره إذا وصف بالجد والانكماش وصدق العزيمة (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّمه ونزّهه عما لا يليق به (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي وثيابك الملبوسة فطهّرها من النجاسة للصلاة (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) وقيل معناه : اجتنب المعاصي وقيل معناه : جانب الفعل القبيح ، والخلق الذميم (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) معناه : ولا تمنن حسناتك على الله تعالى مستكثرا لها فينقصك ذلك عند الله (وَلِرَبِّكَ) أي لوجه ربك (فَاصْبِرْ) على ما أمرك الله به من أداء الرسالة ، وتعظيم الشريعة ، وعلى ما ينالك من التكذيب والأذى لتنال الفوز والذخر (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) معناه : إذا نفخ في الصور ، وهي كهيئة البوق ، وإن ذلك في النفخة الأولى وهو أول الشدة الهائلة العامة (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ) قد مرّ معناه في الأعراف (يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي شديد (عَلَى الْكافِرِينَ) لنعم الله ، الجاحدين

٧٨٠