الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

بلغوا ، وأن الأمم قد كذبوا ، وقيل : هم الحفظة من الملائكة ، ويدل عليه قوله : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) ، وقيل : هم جميع الشهداء من الجوارح والمكان والزمان (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي يفصل بينهم بمرّ الحق لا ينقص أحد منهم شيئا مما يستحقه من الثواب ، ولا يفعل به ما لا يستحقه من العقاب (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي يعطي كل نفس عاملة بالطاعات جزاء ما عملته على الوفاء والكمال دون النقصان (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) أي والله سبحانه أعلم من كل أحد بما يفعلونه من طاعة أو معصية. ولم يأمر الملائكة بكتابة الأعمال لحاجة إلى ذلك ، بل ليعلموا أنه يجازيهم بحسب ما عملوا.

٧١ ـ ٧٥ ـ ثم أخبر سبحانه عن قسمة أحوال الخلائق في المحشر بعد فصل القضاء فقال (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يساقون سوقا في عنف (إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أي فوجا بعد فوج ، وزمرة بعد زمرة (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا انتهوا إلى جهنم فتحت أبواب جهنم عند مجيئهم إليها وهي سبعة أبواب (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) الموكلون بها على وجه التهجين لفعلهم ، والانكار عليهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من أمثالكم من البشر (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) يقرؤون عليكم حجج ربكم وما يدلّكم على معرفته ، ووجوب عبادته (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي ويخوّفونكم من مشاهدة هذا اليوم وعذابه (قالُوا) أي قال الكفار لهم (بَلى) قد جاءتنا رسل ربنا ، وخوّفونا بآيات الله (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وجب العقاب على من كفر بالله تعالى (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي فيقول عند ذلك خزنة جهنم وهم الملائكة الموكلون ادخلوا أبواب جهنم مؤبّدين لا آخر لعقابكم (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي بئس موضع إقامة المتكبّرين عن الحق وقبوله جهنم (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) أي يساقون مكرمين زمرة بعد زمرة كقوله : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) ، وإنما ذكر السوق على وجه المقابلة لسوق الكافرين إلى جهنم (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) أي وقد فتحت أبوابها قبل مجيئهم ، وأبواب الجنة ثمانية ، وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ان في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخلها إلا الصائمون (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) عند استقبالهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي سلامة من الله عليكم. يحيّونهم بالسلامة ليزدادوا بذلك سرورا وقيل : هو دعاء لهم بالسلامة والخلود ، أي سلمتم من الآفات (طِبْتُمْ) أي طبتم بالعمل الصالح في الدنيا ، وطابت أعمالكم الصالحة وزكت وقيل : إنهم طيبوا قبل دخول الجنة بالمغفرة ، واقتص لبعضهم من بعض فلما هذبوا وطيبوا قال لهم الخزنة طبتم عن قتادة وقيل : إنهم إذا قربوا من الجنة يردّون على عين من الماء فيغتسلون بها ويشربون منها ، فيطهر الله أجوافهم فلا يكون بعد ذلك منهم حدث وأذى ، ولا تتغيّر ألوانهم فتقول الملائكة (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي فادخلوا الجنة خالدين مخلدين مؤبّدين (وَقالُوا) أي ويقول أهل الجنة إذا دخلوها اعترافا بنعم الله تعالى عليهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) الذي وعدناه على ألسنة الرسل (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي أرض الجنة ؛ لما صارت الجنة عاقبة أمرهم عبّر عن ذلك بلفظ الميراث (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ) أي نتّخذ من الجنة مبوّأ ومأوى (حَيْثُ نَشاءُ) وهذا إشارة إلى كثرة قصورهم ومنازلهم ، وسعة نعمتهم (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي فنعم ثواب المحسنين الجنة والنعيم فيها (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) معناه : ومن عجائب أمور الآخرة أنك ترى الملائكة محدقين بالعرش عن قتادة والسدي يطوفون حوله (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي

٦٢١

ينزّهون الله تعالى عمّا لا يليق به ، ويذكرونه بصفاته التي هو عليها وقيل : يحمدون الله تعالى حيث دخل الموحدون الجنة وقيل : ان تسبيحهم في ذلك الوقت على سبيل التلذذ والتنعم لا على وجه التعبد إذ ليس هناك تكليف (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي وفصل بين الخلائق بالعدل وقيل : بين الأنبياء والأمم وقيل : بين أهل الجنة والنار (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) من كلام أهل الجنة يقولون ذلك شكرا لله على نعمه التامة ، وقيل انه من كلام الله تعالى فقال في ابتداء الخلق : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وقال بعد إفناء الخلق ثم بعد بعثهم واستقرار أهل الجنة في الجنة : الحمد لله رب العالمين ، فوجب الأخذ بأدبه في ابتداء كل أمر بالحمد وختمه بالحمد.

سورة غافر

مكية وعدد آياتها خمس وثمانون آية

١ ـ ٥ ـ (حم) قد مضى ذكر الأقوال فيه وقيل : أقسم الله بحلمه وملكه لا يعذّب من عاذ به وقال : لا إله إلا الله مخلصا من قلبه ، عن القرظي ، وقيل : هو افتتاح أسمائه حليم حميد حكيم حيّ حنّان ملك مجيد مبدىء معيد عن عطاء الخراساني وقيل معناه : حم أي قضي ما هو كائن عن الكلبي (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي هذا تنزيل الكتاب (مِنَ اللهِ) الذي يحقّ له العبادة (الْعَزِيزِ) في ملكه (الْعَلِيمِ) الكثير العلوم (غافِرِ الذَّنْبِ) فيما مضى وفيما يستقبل (وَقابِلِ التَّوْبِ) يقبل توبة من تاب إليه من المعاصي بأن يثيب عليها ، ويسقط عقاب معاص تقدّمها على وجه التفضل منه لذلك كان صفة مدح ولو كان سقوط العقاب عندها واجبا لما كان فيه مدح قال الفراء : معناهما : ذي الغفران ، وذي قبول التوبة ، ولذلك صار نعتا للمعرفة (شَدِيدِ الْعِقابِ) أي شديد عقابه ؛ وذكر ذلك عقيب قوله : (غافِرِ الذَّنْبِ) لئلا يعول المكلف على الغفران ، بل يكون بين الرجاء والخوف (ذِي الطَّوْلِ) أي ذي النعم على عباده عن ابن عباس وقيل ذي الغنى والسعة عن مجاهد وقيل : ذي التفضل على المؤمنين عن الحسن وقتادة وقيل : ذي القدرة والسعة ، عن ابن زيد والسدي ، وروي عن ابن عباس أنه قال : غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله ، قابل التوب عمن قال لا إله إلا الله ، شديد العقاب لمن لم يقل لا إله إلا الله ، ذي الطول ذي الغنى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي هو الموصوف بهذه الصفات دون غيره ، ولا يستحقّ العبادة سواه (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع للجزاء والمعنى : أن الأمور تؤول إذ حيث لا يملك أحد النفع والضرّ والأمر والنهي غيره تعالى وهو يوم القيامة (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا يخاصم في دفع حجج الله وإنكارها وجحدها إلّا الذين كفروا بالله وآياته ، وجحدوا نعمه ودلالاته (فَلا يَغْرُرْكَ) يا محمد (تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي تصرفهم في البلاد للتجارات سالمين أصحّاء بعد كفرهم ، فإن الله تعالى لا يخفى عليه حالهم ، وإنما يمهلهم لأنهم في سلطانه ولا يفوتونه ولا يهملهم ؛ وفي هذا غاية التهديد. ثم بيّن أن عاقبتهم الهلاك كعاقبة من قبلهم من الكفار فقال : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) يعني رسولهم نوحا (وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) وهم الذين تحزّبوا على أنبيائهم بالتكذيب ، نحو عاد وثمود ومن بعدهم (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ) منهم (بِرَسُولِهِمْ) أي قصدوه (لِيَأْخُذُوهُ) أي ليقتلوه ويهلكوه ، عن ابن عباس ؛ وإنما قال : برسولهم ولم يقل : برسولها لأن المراد الرجال (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) أي خاصموا رسلهم بأن قالوا : ما أنتم إلا بشر مثلنا ، وهلا أرسل الله إلينا ملائكة ، وبأمثال هذا من القول (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) الذي

٦٢٢

بيّنه الله تعالى وجاءت به رسله ، أي ليبطلوه ويزيلوه يقال : أدحض الله حجّته أي أزالها (فَأَخَذْتُهُمْ) بالعقاب أي أهلكتهم ودمّرت عليهم وعاقبتهم (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فانظر كيف كان عقابي لهم؟ وهذا استفهام تقرير لعقوبتهم الواقعة بهم.

٦ ـ ١٠ ـ ثم قال سبحانه (وَكَذلِكَ) أي ومثل ما حق على الأمم المكذبة من العقاب (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي العذاب (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) من قومك ، أي أصرّوا على كفرهم (أَنَّهُمْ) أي لأنهم (أَصْحابُ النَّارِ) ثم أخبر سبحانه عن حال المؤمنين وأنه تستغفر لهم الملائكة مع عظم منزلتهم عند الله تعالى ، فحالهم بخلاف أحوال من تقدّم ذكرهم من الكفار فقال : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) عبادة لله وامتثالا لأمره (وَمَنْ حَوْلَهُ) يعني الملائكة المطيفين بالعرش وهم الكروبيّون وسادة الملائكة (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي ينزّهون ربهم عما يصفه به هؤلاء المجادلون وقيل يسبّحونه بالتسبيح المعهود ويحمدونه على انعامه (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) أي ويصدّقون به ، ويعترفون بوحدانيته (وَيَسْتَغْفِرُونَ) أي ويسألون الله المغفرة (لِلَّذِينَ آمَنُوا) من أهل الأرض ، أي صدّقوا بوحدانية الله ، واعترفوا بإلهيته وبما يجب الاعتراف به ، يقولون في دعائهم لهم (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ ، رَحْمَةً وَعِلْماً) أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، والمراد بالعلم المعلوم كما في قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) ، أي بشيء من معلومه على التفصيل ، فجعل العلم في موضع المعلوم والمعنى : أنه لا اختصاص لمعلوماتك بل أنت عالم بكل معلوم ، ولا تختص رحمتك حيّا دون حيّ بل شملت جميع الحيوانات. وفي هذا تعليم الدعاء ليبدأ بالثناء عليه قبل السؤال (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) من الشرك والمعاصي (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) الذي دعوت إليه عبادك وهو دين الإسلام (وَقِهِمْ) أي وادفع عنهم (عَذابَ الْجَحِيمِ) وفي هذه الآية دلالة على ان اسقاط العقاب عند التوبة تفضّل من الله تعالى ، إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج فيه إلى مسألتهم ، بل كان يفعله الله سبحانه لا محالة (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ) مع قبول توبتهم ووقايتهم النار (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) على ألسن أنبيائك (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) ليكمل أنسهم ، ويتمّ سرورهم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القادر على من يشاء (الْحَكِيمُ) في أفعالك (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي وقهم عذاب السيئات ، ويجوز أن يكون العذاب هو السيئات وسمّاه السيئات اتساعا كما قال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تصرف عنه شرّ معاصيه يوم القيامة بإسقاط عذابها فقد أنعمت عليه (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الظفر بالبغية والفلاح العظيم ، ثم عاد الكلام إلى من تقدّم ذكرهم من الكفار فقال عزّ إسمه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) أي يناديهم الملائكة يوم القيامة (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) والمقت : أشد العداوة والبغض ، والمعنى أنهم لما رأوا أعمالهم ، ونظروا في كتابهم ، وادخلوا النار مقتوا أنفسهم لسوء صنيعهم ، فنودوا : لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم ، عن مجاهد وقتادة والسدي وقيل : انهم لما تركوا الإيمان وصاروا إلى الكفر فقد مقتوا أنفسهم أعظم المقت ، وهذا كما يقول أحدنا لصاحبه إذا كنت لا تبالي بنفسك فمبالاتي بك أقل ، وليس يريد أنه لا يبالي بنفسه بل يريد أن يفعل فعل من هو كذلك ، عن البلخي.

١١ ـ ١٧ ـ ثم حكى سبحانه عن الكفار الذين تقدّم وصفهم بعد حصولهم في النار بأنهم قالوا (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) اختلف في معناه على وجوه (أحدها)

٦٢٣

ان الإماتة الأولى في الدنيا بعد الحياة ، والثانية في القبر قبل البعث ، والإحياء الآتي في القبر للمسائلة والثانية في الحشر ، عن السدي ، وهو إختيار البلخي (وثانيها) ان الإماتة الأولى حال كونهم نطفا فأحياهم الله في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة الثانية ، ثم أحياهم للبعث ، فهاتان حياتان وموتتان ونظيره قوله ((كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً)) الآية ، عن ابن عباس وقتادة والضحّاك ، واختاره أبو مسلم ، وثالثها : أنّ الحياة الأولى في الدنيا ، والثانية في القبر ، ولم يرد الحياة يوم القيامة ، والموتة الأولى في الدنيا ، والثانية في القبر ، عن الجبائي (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) التي اقترفناها في الدنيا (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) هذا تلطف منهم في الاستدعاء ، أي هل بعد الاعتراف سبيل إلى الخروج؟ وقيل انهم سألوا الرجوع إلى الدنيا ، أي هل من خروج من النار إلى الدنيا لنعمل بطاعتك؟ ولو علم الله سبحانه أنهم يفلحون لردّهم إلى حال التكليف ولذلك قال : ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه ، تنبيها على أنهم لو صدقوا في ذلك لأجابهم إلى ما تمنّوه (ذلِكُمْ) أي ذلكم العذاب الذي حلّ بكم (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) أي إذا قيل : لا إله إلا الله قلتم : أجعل الآلهة إلها واحدا ، وجحدتم ذلك (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي وان يشرك به معبود آخر من الأصنام والأوثان تصدقوا (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) في ذلك ، والفصل بين الحق والباطل (الْعَلِيِ) القادر على كل شيء ليس فوقه من هو أقدر منه أو من يساويه في مقدوره (الْكَبِيرِ) العظيم في صفاته التي لا يشاركه فيها غيره (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي مصنوعاته التي تدل على كمال قدرته وتوحيده من السماء والأرض والشمس والقمر (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) من الغيث والمطر الذي ينبت ما هو رزق للخلق (وَما يَتَذَكَّرُ) أي وما يتّعظ بهذه الآيات ، وليس يتفكر في حقيقتها (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) إلا من يقبل إلى طاعة الله. ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي وجّهوا عبادتكم إليه تعالى وحده (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) فلا تبالوا بهم. ثم وصف سبحانه نفسه فقال (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) الرفيع : بمعنى الرافع ، أي هو رافع السماوات السبع (ذُو الْعَرْشِ) أي مالك العرش وخالقه وربه (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الروح : هو القرآن وكل كتاب أنزله الله تعالى على نبيّ من أنبيائه (لِيُنْذِرَ) النبي بما أوحي إليه (يَوْمَ التَّلاقِ) يلتقي الأولون والآخرون وقيل : يلتقي المرء وعمله (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) من قبورهم ، وقيل : يبرز بعضهم لبعض ، فلا يخفى على أحد حال غيره ، لأنّه ينكشف ما يكون مستورا (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) أي من أعمالهم وأحوالهم ، ويقول الله في ذلك اليوم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فيقرّ المؤمنون والكافرون بأنّه (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقيل : إنه سبحانه هو القائل لذلك ، وهو المجيب لنفسه ؛ قال محمد بن كعب القرظي : يقول الله تعالى ذلك بين النفختين ، حيث يفني الخلائق كلها ، ثم يجيب نفسه لأنه بقي وحده ، والأوّل أصح ، لأنّه بيّن أنه يقول ذلك يوم التلاق ، يوم يبرز العباد من قبورهم ، وإنّما خصّ ذلك اليوم بأنّ له الملك فيه ، لأنّه قد ملك العباد بعض الأمور في الدنيا ، ولا يملك أحد شيئا ذلك اليوم ، فإن قيل : أليس يملك الأنبياء والمؤمنون في الآخرة الملك العظيم؟ فالجواب : أنّ أحدا لا يستحق اطلاق الصفة بالملك إلّا الله ، لأنه يملك جميع الأمور من غير تمليك مملّك ، وقيل : إنّ المراد به يوم القيامة قبل تمليك أهل الجنة ما يملكهم (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) يجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وفي الحديث : أن الله تعالى يقول : أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، ولا لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مظلمة حتى أقضه منه ، ثم تلا هذه الآية (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) أي لا ظلم لأحد على أحد ، ولا ينقص من ثواب أحد ، ولا يزاد في عقاب أحد (إن الله سريع

٦٢٤

الْحِسابِ) لا يشغله محاسبة واحد عن محاسبة غيره.

١٨ ـ ٢٠ ـ ثم أمر سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخوّف المكلفين يوم القيامة فقال (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) أي الدانية وهو يوم القيامة ، لأن كل ما هو آت دان قريب (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) وذلك أنها تزول عن مواضعها من الخوف حتى تصير إلى الحنجرة ومثله قوله : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) (كاظِمِينَ) أي مغمومين مكروبين ممتلئين غمّا ، قد أطبقوا أفواههم على قلوبهم من شدة الخوف (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) يريد ما للمشركين والمنافقين من قريب ينفعهم (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) فيهم فتقبل شفاعته عن ابن عباس ومقاتل (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي خيانتها ، وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه ، عن مجاهد وقتادة والخائنة مصدر مثل الخيانة ، كما ان الكاذبة واللاغية بمعنى الكذب واللغو وقيل : ان تقديره : يعلم الأعين الخائنة ، عن مؤرج وقيل : هو الرمز بالعين عن السدي وقيل : هو قول الإنسان : ما رأيت وقد رأى ، ورأيت وما رأى ، عن الضحاك (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) ويعلم ما تضمره الصدور. وفي الخبر : أن النظرة الأولى لك والثانية عليك ، فعلى هذا تكون الثانية محرّمة ، فهي المراد بخائنة الأعين (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) أي يفصل بين الخلائق بالحق ، فيوصل كل ذي حقّ إلى حقّه (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الأصنام (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) لأنها جماد (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي الذي يجب أن يسمع المسموعات ، ويبصر المبصرات إذا وجدتا وهاتان الصفتان في الحقيقة ترجعان إلى كونه حيّا لا آفة به ، وقال قوم : معناهما العالم بالمسموعات ، والعالم بالمبصرات ، والأول هو الصحيح.

٢١ ـ ٢٥ ـ ثم نبّههم سبحانه على النظر بقوله (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) من المكذّبين من الأمم لرسلهم (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) في أنفسهم (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) أي وأكثر عمارة للأبنية العجيبة وقيل : وأبعد ذهابا في الأرض لطلب الدنيا (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي أهلكهم الله بسبب ذنوبهم (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي دافع يدفع عنهم عذابه ، ويمنع من نزوله بهم (ذلِكَ) العذاب الذي نزل بهم (بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الباهرات ، والدلالات الظاهرات (فَكَفَرُوا) بها (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أي أهلكهم عقوبة على كفرهم (إِنَّهُ قَوِيٌ) قادر على الانتقام منهم (شَدِيدُ الْعِقابِ) أي شديد عقابه. ثم ذكر قصة موسى وفرعون ليعتبروا بها فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي بعثناه بحججنا ودلالاتنا (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة ظاهرة نحو : قلب العصا حيّة ، وفلق البحر (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ) كان موسى رسولا إلى كافتهم إلا انه خصّ فرعون لأنه كان رئيسهم ، وكان هامان وزيره ، وقارون صاحب كنوزه ، والباقون تبع لهم ، وإنما عطف السلطان على الآيات لاختلاف اللفظين تأكيدا ، وقيل : المراد بالآيات حجج التوحيد والعدل ، وبالسلطان المعجزات الدالة على نبوته (فَقالُوا ساحِرٌ) أي مموّه (كَذَّابٌ) فيما يدعو إليه (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) أي فلما أتاهم موسى بالتوحيد والدلالات عليه من عندنا وقيل المراد بالدين الحق (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي أمروا بقتل الذكور من قوم موسى لئلا يكثر قومه ولا يتقوى بهم ، وباستبقاء نساءهم للخدمة ؛ وهذا القتل غير القتل الأول ، لأنه أمر بالقتل الأول لئلا ينشأ منهم من يزول ملكه على يده ثم ترك ذلك ، فلما ظهر موسى عاد إلى تلك العادة ، فمنعهم الله عنه بإرسال الدم والضفادع والطوفان والجراد كما مضى ذكر ذلك. ثم أخبر سبحانه أنّ ما فعله من قتل الرجال واستحياء النساء لم ينفعه بقوله (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي في ذهاب عن الحق لا ينتفعون به.

٦٢٥

٢٦ ـ ٣٠ ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) أي قال لقومه اتركوني أقتله ، وفي هذا دلالة على أنه كان في خاصة فرعون قوم يشيرون عليه بأن لا يقتل موسى ، ويخوّفونه بأن يدعو ربه فيهلك فلذلك قال (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) وقيل : انهم قالوا له : هو ساحر فإن قتلته قبل ظهور الحجة قويّت الشبهة بمكانه ، بل أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين وقوله : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) معناه : وقولوا له ليدع ربه وليستعن به في دفع القتل عنه ، فإنه لا يجيء من دعائه شيء ، قاله تجبّرا وعتوّا وجرأة على الله (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) ان لم أقتله وهو ما تعتقدونه من إلهيتي (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) بأن يتبعه قوم ويحتاج إلى أن نقاتله فيخرب فيما بين ذلك البلاد ، ويظهر الفساد. فلما قال فرعون هذا استعاذ موسى بربّه وذلك قوله (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) أي اني اعتصمت بربي الذي خلقني وربكم الذي خلقكم من شرّ كلّ متكبّر على الله ، متجبّر عن الإنقياد له ، لا يصدق بيوم المجازاة ، ليدفع شرّه عني ولما قصد فرعون قتل موسى وعظهم المؤمن من آله وهو قوله : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) في صدره على وجه التقية. قال ابن عباس : لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ). قال السدي ومقاتل ، وكان ابن عم فرعون ، وكان آمن بموسى وهو الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقيل ، انه كان وليّ عهده من بعده ، وكان اسمه حبيب وقيل : اسمه حزبيل (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) وهو استفهام انكار (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بما يدل على صدقه من المعجزات مثل العصا واليد وغيرهما (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) إنما قال هذا على وجه التلطف كقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ومعناه : ان يك كاذبا فعلى نفسه وبال كذبه (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) قيل : ان موسى كان يعدهم بالنجاة ان آمنوا ، وبالهلاك ان كفروا. وقيل : انما قال بعض الذي يعدكم ، لأنه توعّدهم أمورا مختلفة منها : الهلاك في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، فيكون هلاكهم في الدنيا بعض ما توعّدهم به. وقيل : استعمل البعض في موضع الكل تلطفا في الخطاب ، وتوسّعا في الكلام كما قال الشاعر :

قد يدرك المتأني بعض حاجته

وقد يكون من المستعجل الزلل

وكأنّه قال : أقل ما فيه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وفي ذلك البعض هلاككم وقال علي بن عيسى : انما قال : بعض الذين يعدكم على المظاهرة بالحجاج ، أي انه يكفي بعضه فكيف جميعه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي لا يهدي إلى جنته وثوابه من هو مسرف على نفسه ، متجاوز عن الحد في المعصية ، كذّاب على ربه. ثم ذكرهم هذا المؤمن ما هم فيه من الملك ليشكروا الله على ذلك بالإيمان به فقال : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) أي لكم السلطان على أهل الأرض ، يعني أرض مصر اليوم (ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) أي عالين فيها ، غالبين عليها ، قاهرين لأهلها (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ) أي من يمنعنا من عذاب الله (إِنْ جاءَنا) ومعناه : لا تتعرّضوا لعذاب الله بقتل النبي وتكذيبه فلا مانع لعذاب من عذاب الله ان حل بكم (قالَ فِرْعَوْنُ) عند ذلك (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) أي ما أشير عليكم إلا بما أراه صوابا وأرضاه لنفسي (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) وما أرشدكم إلا إلى ما هو طريق الرشاد والصواب عندي ، وهو قتل موسى ، والتكذيب به ، واتخاذي إلها وربا. ثم ذكرهم ما نزل بمن قبلهم وذلك قوله (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ

٦٢٦

الْأَحْزابِ) أي عذابا مثل يوم الأحزاب ، قال الجبائي : القائل لذلك موسى ، لأنّ المؤمن من آل فرعون كان يكتم إيمانه ؛ وهذا لا يصح لأنّه قريب من قوله : ((أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)) ، أراد بالأحزاب التي تحزّبت على أنبيائها بالتكذيب.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثم فسرّ سبحانه ذلك فقال (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) والدأب العادة ومعناه : إني أخاف عليكم مثل سنة الله في قوم نوح وعاد وثمود ، وحالهم حين أهلكهم الله واستأصلهم جزاء على كفرهم (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) وفي هذا أوضح دلالة على فساد قول المجبرة القائلة بأن كل ظلم يكون في العالم فهو بإرادة الله تعالى ، ثم حذّرهم عذاب الآخرة أيضا فقال : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) حذف الياء للاجتزاء بالكسرة الدالة عليها وهو يوم القيامة ينادي فيه بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور وقيل : انه اليوم الذي ينادي فيه أصحاب الجنة أصحاب النار أصحاب الجنة : (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) عن الحسن وقتادة وابن زيد وقيل ينادى فيه كل أناس بإمامهم (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) أي يوم تعرضون على النار فارّين منها مقدرين أن الفرار ينفعكم وقيل : منصرفين إلى النار بعد الحساب عن قتادة ومقاتل (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي مانع من عذاب الله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي من يضلل الله عن طريق الجنة فما له من هاد يهديه إليها (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) وهو يوسف بن يعقوب بعثه الله رسولا إلى القبط (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل موسى (بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحات (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ) من عبادة الله تعالى وحده لا شريك له عن ابن عباس وقيل ممّا دعاكم إليه من الدين (حَتَّى إِذا هَلَكَ) أي مات (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أي أقمتم على كفركم وظننتم أن الله تعالى لا يجدّد لكم ايجاب الحجة (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الضلال (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ) على نفسه كافر. وأصل الإسراف مجاوزة الحد (مُرْتابٌ) أي شاكّ في التوحيد ونبوة الأنبياء (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي في دفع آيات الله وابطالها (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي بغير حجة (أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) أي كبر ذلك الجدال منهم عداوة عند الله (وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله والمعنى : مقته الله تعالى ولعنه وأعدّ له العذاب ، ومقته المؤمنون وأبغضوه بذلك الجدال ، وأنتم جادلتم وخاصمتم في ردّ آيات الله مثلهم فاستحققتم ذلك (كَذلِكَ) أي مثل ما طبع على قلوب أولئك بأن ختم عليها علامة لكفرهم (يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) يفعل ذلك عقوبة له على كفره ؛ والجبار : صفة للمتكبّر وهو الذي يأنف من قبول الحق وقيل : وهو القتال.

٣٦ ـ ٤٠ ـ ثم بيّن سبحانه ما موّه به فرعون على قومه لما وعظه المؤمن وخوّفه من قتل موسى ، وانقطعت حجّته بقوله : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ) وهو وزيره وصاحب أمره (ابْنِ لِي صَرْحاً) أي قصرا مشيدا بالآجر وقيل : مجلسا عاليا عن الحسن (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) ثم فسّر تلك الأسباب فقال : (أَسْبابَ السَّماواتِ) والمعنى : لعلّي أبلغ الطرق من سماء إلى سماء عن السدي وقيل : أبلغ أبواب طرق السماوات ، عن قتادة وقيل : منازل السماوات عن ابن عباس وقيل : لعلّي أتسبّب وأتوصل به إلى مرادي وإلى علم ما غاب عنّي ثم بيّن مراده فقال أسباب السماوات (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) أي فأنظر إليه ؛ فأراد به التلبيس على الضعفة مع علمه باستحالة ذلك عن الحسن وقيل : أراد فأصل إلى إله موسى فغلبه الجهل واعتقد أن الله سبحانه في السماء وأنه يقدر على بلوغ السماء

٦٢٧

(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) معناه : وإني لأظن موسى كاذبا في قوله ان له إلها غيري أرسله إلينا (وَكَذلِكَ) أي مثل ما زيّن لهؤلاء الكفار سوء أعمالهم (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) أي قبيح عمله ؛ وإنما زيّن له ذلك أصحابه وجلساؤه ، وزيّن له الشيطان كما قال : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) ومن ضم الصاد فالمعنى : أنه صدّه غيره ومن فتح فالمعنى أنه صدّ نفسه أو صدّ غيره (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ) في إبطال آيات موسى (إِلَّا فِي تَبابٍ) أي هلاك وخسار لا ينفعه. ثم عاد الكلام إلى ذكر نصيحة مؤمن آل فرعون وهو قوله (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي طريق الهدى وهو الإيمان بالله وتوحيده ، والإقرار بموسى وقيل : إن هذا القائل موسى أيضا عن الجبائي (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) أي انتفاع قليل ثم يزول وينقطع ويبقى وزره وآثامه (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي دار الإقامة التي يستقرّ الخلائق فيها فلا تغتروا بالدنيا الفانية ولا تؤثروها على الدار الباقية (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) أي من عمل معصية فلا يجزى إلا مقدار ما يستحقّه عليها من العقاب لا أكثر من ذلك (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) مصدّق بالله وأنبيائه ؛ شرط الإيمان في قبول العمل الصالح (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) أي زيادة على ما يستحقونه تفضلا من الله تعالى ، ولو كان على مقدار العمل فقط لكان بحساب وقيل معناه : لا تبعة عليهم فيما يعطون من الخير في الجنة ، عن مقاتل قال الحسن : هذا كلام مؤمن آل فرعون ويحتمل أن يكون كلام الله تعالى اخبارا عن نفسه.

٤١ ـ ٤٦ ـ ثم قال (يا قَوْمِ ما لِي) أي ما لكم؟ كما يقول الرجل : ما لي أراك حزينا؟ معناه : ما لك ومعناه : أخبروني عنكم كيف هذه الحال (أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) من النار بالإيمان بالله (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) أي إلى الشرك الذي يوجب النار ، ومن دعا إلى سبب الشيء فقد دعا إليه. ثم فسّر الدعوتين بقوله (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ولا يجوز حصول العلم به إذ لا يجوز قيام الدلالة على اثبات شريك لله تعالى لا من طريق السمع ولا من طريق العقل (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي إلى عبادة القادر الذي لا يقهر ولا يمنع فينتقم من كل كفار عنيد ، الغافر لذنوب من يشاء من أهل التوحيد (لا جَرَمَ) قيل معناه : حقّا مقطوعا به من الجرم وهو القطع قال الزجاج حكاية عن الخليل : هو ردّ الكلام والمعنى : وجب وحق (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) أي وجب بطلان دعوته يقول : لا بدّ انما تدعونني إليه من عبادة الأصنام أو عبادة فرعون ليس له دعوة نافعة (فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) فأطلق أنه ليس له دعوة ليكون أبلغ وان توهّم جاهل أن له دعوة ينتفع بها فإنه لا يعتدّ بذلك لفساده وتناقضه وقيل معناه : ليست لهذه الأصنام استجابة دعوة أحد في الدنيا ولا في الآخرة ، فحذف المضاف عن السدي وقتادة والزجاج وقيل معناه : ليست له دعوة في الدنيا لأن الأصنام لا تدعو إلى عبادتها فيها ، ولا في الآخرة لأنها تبرأ من عبادها فيها (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) أي ووجب ، وأن مرجعنا ومصيرنا إلى الله فيجازي كلّا بما يستحقه (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ) أي ووجب أن المسرفين الذين أسرفوا على أنفسهم بالشرك وسفك الدماء بغير حقها (هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها ثم قال لهم على وجه التخويف والوعظ (فَسَتَذْكُرُونَ) صحة (ما أَقُولُ لَكُمْ) إذا حصلتم في العذاب يوم القيامة وقيل معناه : فستذكرون عند نزول العذاب بكم ما أقول لكم من النصيحة (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي أسلم أمري إلى الله وأتوكل عليه ، وأعتمد على لطفه والأمر اسم جنس (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي عالم بأحوالهم وبما يفعلونه من طاعة ومعصية ؛ وأظهر إيمانه بهذا القول (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أي

٦٢٨

صرف الله عنه سوء مكرهم فنجا مع موسى حتى عبر البحر معه عن قتادة ، وقيل : انهم همّوا بقتله فهرب إلى جبل فبعث فرعون رجلين في طلبه فوجداه قائما يصلّي وحوله الوحوش صفوفا فخافا ورجعا هاربين (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ) أي أحاط ونزل بهم (سُوءُ الْعَذابِ) أي مكروهه وما يسوء منه ؛ وآل فرعون : أشياعه وأتباعه ، وقيل : من كان على دينه عن الحسن وإنما ذكر آله ولم يذكره لأنهم إذا هلكوا بسببه فكيف يكون حاله. وسوء العذاب في الدنيا : الغرق ، وفي الآخرة النار وذلك قوله (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) أي يعرض آل فرعون على النار في قبورهم صباحا ومساء فيعذبون وإنما رفع النار بدلا من قوله سوء العذاب ، وعن نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله (ص) قال : إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ ، إن كان من أهل الجنة فمن الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن النار ، يقال : هذا مقعدك حين يبعثك الله يوم القيامة ، أورده البخاري ومسلم في الصحيحين ، وقال أبو عبد الله (ع): ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة ، لأنّ في نار القيامة لا يكون غدوّا وعشيّا ، ثم قال : إن كانوا يعذّبون في النار غدوّا وعشيّا ففيما بين ذلك هم من السعداء ، لا ، ولكن هذا في البرزخ قبل يوم القيامة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) وهذا أمر للملائكة بإدخالهم في أشدّ العذاب وهو عذاب جهنّم.

٤٧ ـ ٥٠ ـ (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) معناه : واذكر يا محمد لقومك الوقت الذي يتحاج فيه أهل النار في النار ، ويتخاصم الرؤساء والأتباع (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ) وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم الرؤساء (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ) معاشر الرؤساء (تَبَعاً) وكنا نمتثل أمركم ونجيبكم إلى ما تدعوننا إليه (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) لأنّه يلزم الرئيس الدفع عن أتباعه والمنقادين لأمره ، أي هل أنتم حاملون عنّا قسطا من النار والعذاب الذي نحن فيه؟ (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي نحن وأنتم في النار (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بذلك ، وبأن لا يتحمل أحد عن أحد ، وأنه يعاقب من أشرك به وعبد معه غيره لا محالة (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ) أي حصلوا في النار من الأتباع والمتبوعين (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) وهم الذين يتولون عذاب أهل النار من الملائكة الموكلين بهم (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) يقولون ذلك لأنه لا طاقة لهم على شدّة العذاب ولشدّة جزعهم ، إلا أنهم يطمعون في التخفيف (قالُوا) أي قال الخزنة لهم (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي الحجج والدلالات على صحة التوحيد والنبوات ، أي فكفرتم وعاندتم حتى استحققتم هذا العذاب (قالُوا بَلى) جاءتنا الرسل والبينات فكذّبناهم وجحدنا نبوتهم (قالُوا فَادْعُوا) أي قالت الخزنة : فادعوا أنتم فإنا لا ندعو إلا بإذن ولم يؤذن لنا فيه (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي في ضياع لأنه لا ينتفع به.

٥١ ـ ٥٥ ـ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ننصرهم بوجوه النصر ، فإن النصر قد يكون بالحجة ، ويكون أيضا بالغلبة في المحاربة وذلك بحسب ما تقتضيه الحكمة ، ويعلمه سبحانه من المصلحة ، ويكون أيضا بالألطاف والتأييد ، وتقوية القلب ، ويكون بإهلاك العدو. وكل هذا قد كان للأنبياء والمؤمنين من قبل الله تعالى ، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم ، وقد نصروا أيضا بالقهر على من ناوأهم ، وقد نصروا بإهلاك عدوّهم وانجائهم مع من آمن معهم ، وقد يكون النصر بالانتقام لهم كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل حين قتل به سبعون ألفا ، فهم لا محالة منصورون في الدنيا بأحد هذه الوجوه (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) جمع شاهد وهم الذين يشهدون بالحق للمؤمنين وعلى المبطلين والكافرين يوم القيامة ، وفي ذلك سرور للمحق ،

٦٢٩

وفضيحة للمبطل في ذلك الجمع العظيم وقيل : هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون ، ثم أخبر سبحانه عن ذلك اليوم فقال (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) أي ان اعتذروا من كفرهم لم يقبل منهم ، وإن تابوا لم تنفعهم التوبة ؛ وإنما نفى أن تنفعهم المعذرة في الآخرة مع كونها نافعة في دار الدنيا لأن الآخرة دار الإلجاء إلى العمل ، والملجأ غير محمود على العمل الذي ألجىء إليه (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي البعد من الرحمة ، والحكم عليهم بدوام العقاب (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) جهنّم نعوذ بالله منها. ثم بيّن سبحانه نصرته موسى وقومه فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) أي أعطيناه التوراة فيها أدلة واضحة على معرفة الله وتوحيده (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي وأورثنا من بعد موسى بني إسرائيل التوراة وما فيه من البيان (هُدىً) أي هو هدى ، أي دلالة يعرفون بها معالم دينهم (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي وتذكير لأولي العقول لأنهم الذين يتمكّنون من الانتفاع به دون من لا عقل له : ثم أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر فقال (فَاصْبِرْ) يا محمد على أذى قومك وتحمل المشاق في تكذيبهم إياك (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) الذي وعدك به من النصر في الدنيا والثواب في الآخرة (حَقٌ) لا خلف فيه (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) هذا تعبّد من الله سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعاء والإستغفار لكي يزيد في الدرجات ، وليصير سنة لمن بعده (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي نزّه الله تعالى واعترف بشكره ، وإضافة النعم إليه ، ونفي التشبيه عنه (بِالْعَشِيِ) من زوال الشمس إلى الليل (وَالْإِبْكارِ) من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس.

٥٦ ـ ٦٠ ـ ثم قال سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) أي يخاصمون (فِي آياتِ اللهِ) أي في دفع آيات الله وإبطالها (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي حجة. (أَتاهُمْ) الله إياها يتسلّط بها على انكار مذهب يخالف مذهبهم (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) أي ليس في صدورهم إلّا عظمة وتكبر على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي ما هم ببالغي مقتضى تلك العظمة لأن الله تعالى مذلّهم ، ولأن الله تعالى يرفع بشرف النبوة من يشاء (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شر اليهود والدجال ومن جميع ما يجب الإستعاذة منه (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال هؤلاء (الْبَصِيرُ) بضمائرهم. وفي هذا تهديد لهم فيما اقدموا عليه. ثم قال سبحانه (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مع عظمهما وكثرة أجزائهما ووقوفهما بغير عمد ، وجريان الفلك والكواكب من غير سبب (أَكْبَرُ) أي أعظم وأهول في النفس (مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) وإن كان خلق الناس عظيما بما فيه من الحياة والحواس المهيّأة لأنواع مختلفة من الإدراكات (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لعدولهم عن الفكر فيه والاستدلال على صحته والمعنى : انهم إذا اقرّوا بأن الله تعالى خلق السماء والأرض فكيف انكروا قدرته على إحياء الموتى؟! (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي لا يستوي من أهمل نفسه ومن تفكّر فعرف الحقّ. شبّه الذي لا يتفكر في الدلائل بالأعمى ، والذي يستدل بها بالبصير (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي وما يستوي المؤمنون الصالحون ولا الكافر الفاسق في الكرامة والإهانة والهدى والضلال (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) أي قلّ نظرهم فيما ينبغي أن ينظروا فيه مما دعوا إليه (إِنَّ السَّاعَةَ) يعني القيامة (لَآتِيَةٌ) أي جائية واقعة (لا رَيْبَ فِيها) أي لا شكّ في مجيئها (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدّقون بذلك لجهلهم بالله تعالى ، وشكّهم في أخباره (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) يعني إذا اقتضت المصلحة اجابتكم ؛ وكل من يسأل الله شيئا ويدعوه فلابدّ أن يشترط المصلحة في ذلك إما لفظا أو إضمارا وإلّا كان قبيحا ، لأنه ربما كان داعيا بما يكون فيه مفسدة ، وقيل معناه : وحدّوني واعبدوني أثبكم ،

٦٣٠

عن ابن عباس ، ويدل عليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الدعاء هو العبادة ؛ ولمّا عبّر عن العبادة بالدعاء جعل الإثابة استجابة ليتجانس اللفظ (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) ودعائي (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أي صاغرين ذليلين. وفي الآية دلالة على عظم قدر الدعاء عند الله تعالى ، وعلى فضل الانقطاع إليه. وروى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في هذه الآية قال : هو الدعاء ، وأفضل العبادة الدعاء ، وروى حنان بن سدير عن أبيه قال : قلت لأبي جعفر : أيّ العبادة أفضل؟ قال : ما من شيء أحبّ إلى الله من أن يسأل ويطلب ما عنده ، وما أحد أبغض إلى الله عزوجل ممن يستكبر عن عبادته ، ولا يسأل ما عنده.

٦١ ـ ٦٥ ـ ثم ذكر سبحانه ما يدل على توحده فقال (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) معاشر الخلق (اللَّيْلَ) وهو ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي وغرضه في خلق الليل سكونكم واستراحتكم فيه من كدّ النهار وتعبه (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي وجعل لكم النهار وهو ما بين طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس مضيئا تبصرون فيه مواضع حاجاتكم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بهذه النعم من غير استحقاق منهم لذلك (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي ومع هذا فإن أكثر الناس لا يعترفون بهذه النعم بل يجحدونها ويكفرون بها. ثم قال سبحانه مخاطبا لخلقه (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي الذي أظهر هذه الدلالات ، وأنعم بهذه النعم. هو الله خالقكم ومالككم (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) من السموات والأرض وما بينهما (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا يستحق العبادة سواه (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره مع وضوح الدلالة على توحيده : ثم قال سبحانه (كَذلِكَ) أي مثل ما صرف وافك هؤلاء (يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وهم من تقدّمهم من الكفار صرفهم أكابرهم ورؤساؤهم. ثم عاد سبحانه إلى ذكر الأدلة على توحيده فقال (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أي مستقرا تستقرون عليه (وَالسَّماءَ بِناءً) أي وجعل السماء بناءا مرتفعا فوقها ولو جعلها رتقا لما امكن الخلق الانتفاع بما بينهما ثم قال (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) لأن صورة ابن آدم احسن صور الحيوان ، وقال ابن عباس : خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل بيده ، ويتناول بيده ، وكلّ من خلقه الله يتناول بفيه (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) لأنه ليس شيء من الحيوان له طيبات المأكل والمشارب مثل ما خلق الله سبحانه لابن آدم ، فإن أنواع الطيبات واللذات التي خلقها الله تعالى لهم من الثمار وفنون النبات واللحوم وغير ذلك مما لا يحصى كثرة. ثم قال (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي فاعل هذه الأشياء خالقكم (فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي جلّ الله بأنه الدائم الثابت الذي لم يزل ولا يزال (هُوَ الْحَيُ) معناه : إن الذي أنعم عليكم بهذه النعم هو الحيّ على الإطلاق (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي مخلصين في دعائه وعبادته (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال الفراء : وهو خبر وفيه إضمار كأنه قال : ادعوه واحمدوه على هذه النعم وقولوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

٦٦ ـ ٧٠ ـ ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (قُلْ) يا محمد لكفار قومك (إِنِّي نُهِيتُ) أي نهاني الله (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أوجّه العبادة إلى من تدّعونه من دون الله من الأصنام التي تجعلونها آلهة (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) أي حين أتاني الحجج والبراهين من جهة الله تعالى دلّتني على ذلك (وَأُمِرْتُ) مع ذلك (أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أستسلم لأمر ربّ العالمين الذي يملك تدبير الخلائق أجمعين. ثم عاد إلى ذكر الأدلة فقال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) معاشر البشر (مِنْ تُرابٍ) أي

٦٣١

خلق أباكم آدم من تراب وأنتم نسله وإليه تنتمون (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم أنشأ من ذلك الأصل الذي خلقه من تراب النطفة وهي ماء الرجل والمرأة (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) وهي قطعة من الدم (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) المعنى : ثم يقلبكم أطوارا إلى أن يخرجكم من أرحام الأمهات أطفالا صغارا (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) وهو حال استكمال القوة (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) بعد ذلك (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أن يصير شيخا ، ومن قبل أن يبلغ اشدّه (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) أي ويبلغ كل واحد منكم ما سمي له من الأجل الذي يموت عنده (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي خلقكم لهذه الأغراض التي ذكرها ، ولكي تتفكّروا في ذلك فتعقلوا ما أنعم الله به عليكم من أنواع النعم ، وأراده منكم من اخلاص العبادة. ثم قال (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي من خلقكم من تراب على هذه الأوصاف التي ذكرها هو الذي يحييكم ، وهو الذي يميتكم ، فأوّلكم من تراب ، وآخركم إلى تراب (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ومعناه : انه يفعل ذلك من غير أن يتعذر ويمتنع عليه ، فهو بمنزلة ما يقال له : (كُنْ فَيَكُونُ) ، لأنه سبحانه يخاطب المعدوم بالتكون (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) يعني المشركين الذين يخاصمون في إبطال حجج الله ودفعها (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي كيف ومن أين يقلبون عن الطريق المستقيم إلى الضلال ، ولو كانوا يخلصون في آيات الله بالنظر في صحتها ، والفكر فيها لما ذمّهم الله تعالى. ثم وصفهم سبحانه فقال (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) أي بالقرآن وجحدوه (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) أي وكذّبوا بما أرسلنا من الكتب والشرائع رسلنا قبلك (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم إذا حلّ بهم وبال ما جحدوه ، ونزل بهم عقاب ما ارتكبوه ، فيعرفون أن ما دعوتهم إليه حق ، وما ارتكبوه ضلال وفساد.

٧١ ـ ٧٥ ـ ثم قال سبحانه (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي يعلمون وبال أمرهم في حال تكون الأغلال في أعناقهم (وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ) أي يجرّون في الماء الحار الذي قد انتهت حرارته (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي ثم يقذفون في النار ويلقون فيها ، معناه : ثم يصيرون وقود النار ، عن مجاهد ، والمعنى : توقد بهم النار (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ) أي لهؤلاء الكفار إذا دخلوا النار على وجه التوبيخ (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أين ما كنتم تزعمون أنها تنفع وتضر من أصنامكم التي عبدتموها (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي ضاعوا عنّا وهلكوا فلا نراهم ولا نقدر عليهم ، ثم يستدركون فيقولون (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) والمعنى : لم نكن ندعو شيئا يستحق العبادة ، ولا ما ننتفع بعبادته ، عن الجبائي ، وقيل : بل لم نكن ندعو شيئا ينفع ويضر ، ويسمع ويبصر. قال أبو مسلم : وهذا كما يقال لكل ما لا يغني شيئا : هذا ليس بشيء ، لأن قولهم : ضلوا عنا اعتراف بعبادتهم ، ولأن الآخرة دار الجاء فهم ملجأون إلى ترك القبيح ، وقيل معناه : ضاعت عباداتنا لهم فلم نكن نصنع شيئا إذا عبدناها كما يقول المتحسّر : ما فعلت شيئا (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) معناه : كما أضلّ الله أعمال هؤلاء وأبطل ما كانوا يؤمّلونه كذلك يفعل بجميع من يتديّن بالكفر ، فلا ينتفعون بشيء من أعمالهم وقيل : يضلّ الله أعمالهم أي يبطلها عن الحسن وقيل : يضل الكافرين عن طرق الجنة والثواب كما أضلّهم عمّا اتّخذوه إلها بأن صرفهم عن الطمع في نيل منفعة من جهتها عن الجبائي (ذلِكُمْ) العذاب الذي نزل بكم (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) قيد الفرح وأطلق المرح ، لأن الفرح قد يكون بحق فيحمد عليه ، وقد يكون بالباطل فيذمّ عليه ، والمرح لا يكون إلّا باطلا ومعناه : ان ما فعل بكم جزاء بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق ، أي بما كان يصيب أنبياء الله تعالى

٦٣٢

وأولياءه من المكاره ، (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) : أي تأشرون وتبطرون.

٧٦ ـ ٨٠ ـ ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار أنه يقال لهم (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) وهي سبعة أبواب (خالِدِينَ فِيها) أي مؤبّدين فيها لا انقطاع لكربكم فيها ، ولا نهاية لعقابكم (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي بئس مقام الذين تكبّروا عن عبادة الله تعالى ، وتجبّروا عن الانقياد له. ثم قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَاصْبِرْ) يا محمد على أذى قومك لك ، وتكذيبهم إياك ومعناه : اثبت على الحق ، فسمّاه صبرا للمشقة التي تلحق به كما تلحق بتجرع المرّ (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) معناه : إن ما وعد الله به المؤمنين على الصبر من الثواب في الجنة حقّ لا شكّ فيه ، بل هو كائن لا محالة (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب في حياتك. وإنما قال : (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) ، لأن المعجل من عذابهم في الدنيا هو بعض ما يستحقّونه (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن يحلّ بهم ذلك (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يوم القيامة فنفعل بهم ما يستحقّونه من العقاب ولا يفوتوننا. ثم زاد سبحانه في تسلية النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) قصصهم وأخبارهم (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) معناه : منهم من تلونا عليك ذكره ، ومنهم من لم نتل عليك ذكره (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) أي معجزة ودلالة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وأمره والمعنى : إن الإتيان بالمعجزات ليس إلى الرسول ولكنّه إلى الله تعالى يأتي بها على وجه المصلحة (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) وهو القيامة (قُضِيَ بِالْحَقِ) بين المسلمين والكفار ، والأبرار والفجار (وَخَسِرَ هُنالِكَ) عند ذلك (الْمُبْطِلُونَ) لأنهم يخسرون الجنة ويحصلون في النار بدلا منها وذلك هو الخسران الجنة ويحصلون في النار بدلا منها وذلك هو الخسران المبين ؛ والمبطل : صاحب الباطل. ثم عدّد سبحانه نعمه على خلقه فقال (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) من الإبل والبقر والغنم (لِتَرْكَبُوا مِنْها) أي لتنتفعوا بركوبها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) يعني ان بعضها للركوب والأكل كالإبل والبقر ، وبعضها للأكل كالأغنام (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) يعني من جهة ألبانها وأصوافها وأوبارها وأشعارها (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) بأن تركبوها وتبلغوا المواضع التي تقصدونها بحوائجكم (وَعَلَيْها) أي وعلى الأنعام ، وهي الإبل هنا (وَعَلَى الْفُلْكِ) أي وعلى السفن (تُحْمَلُونَ) يعني على الإبل في البر ، وعلى الفلك في البحر تحملون في الأسفار. علم الله سبحانه أنا نحتاج إلى أن نسافر في البرّ والبحر ، فخلق لنا مركبا للبرّ ومركبا للبحر.

٨١ ـ ٨٥ ـ ثم قال سبحانه مخاطبا للكفار الذين جحدوا آيات الله وانكروا أدلته الدالة على توحيده (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي ويعلمكم حججه ، ويعرّفكم إياها ، ومنها : اهلاك الأمم الماضية. ووجه الآية فيه : انهم بعد حصولهم في النعم صاروا إلى النقم بكفرهم وجحودهم ، ومنها : الآية في خلق الأنعام التي قدّم ذكرها ، ووجه الآية فيها : تسخيرها لمنافع الخلق بالتصريف في الوجوه التي قد جعل كل شيء منها لما يصلح له ، وذلك يقتضي أن الجاعل لذلك قادر على تصريفه عالم بتدبيره (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) هذا توبيخ لهم على الجحد. وقد يكون الإنكار والجحد تارة بأن يجحد أصلا ، وتارة أن يجحد كونها دالة على صحّة ما هي دلالة عليه ، والخلاف يكون في ثلاثة أوجه ، إمّا في صحّتها في نفسها ، وإمّا في كونها دلالة ، وإمّا فيهما جميعا ، وإنما يجوز من الجهّال دفع الآية بالشبهة مع قوّة الآية وضعف الشبهة لأمور ، منها : اتباع الهوى ، ومنها : التقليد لمن ترك النظر في الأمور ، ومنها :

٦٣٣

السبق الى اعتقاد فاسد لشبهة ، فيمنع ذلك من توليد النظر للعلم. ثم نبههم سبحانه فقال (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) بأن يمروا في جنباتها (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) عددا (وَأَشَدَّ قُوَّةً) أي وأعظم قوة (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) بالأبنية العظيمة التي بنوها ، والقصور المشيدة التي شيّدوها ، وقيل : بمشيهم على أرجلهم على عظم خلقهم ، عن مجاهد ، فلما عصوا الله سبحانه ، وكفروا به ، وكذّبوا رسله ، أهلكهم الله واستأصلهم بالعذاب (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي لم يغن عنهم ما كسبوه من البنيان والأموال شيئا من عذاب الله. وقيل : إن ما في قوله : (فَما أَغْنى) بمعنى أي فالمعنى : فأي شيء أغنى عنهم كسبهم ، فيكون موضع ما الأولى نصبا ، وموضع ما الثانية رفعا ، ثم قال سبحانه (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي فلما أتى هؤلاء الكفار رسلهم الذين دعوهم إلى توحيد الله ، وإخلاص العبادة له ، بالحجج والآيات. وفي الكلام حذف تقديره : لما جاءتهم رسلهم بالبينات فجحدوها ، ووعد الله الرسل بإهلاك أممهم ، ونجاة قومهم (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي فرح الرسل بما عندهم من العلم بذلك عن الجبائي ، وقيل معناه : فرح الكفار بما عندهم من العلم ، أي بما كان عندهم أنه علم وهو جهل على الحقيقة لأنهم قالوا : نحن أعلم منهم لا نبعث ولا نعذّب ، واعتقدوا انه علم فأطلق عليه لفظ العلم على اعتقادهم كما قال : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) ، أي عند نفسك أو عند قومك ، عن الحسن ومجاهد ، وقيل معناه : فرحوا بالشرك الذي كانوا عليه وأعجبوا به ، وظنوا أنه علم وهو جهل وكفر ، عن الضحاك وقال : والمراد بالفرح شدة الإعجاب (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي حلّ بهم ، ونزل بهم جزاء استهزائهم برسلهم من العذاب والهلاك (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عذابنا النازل بهم (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي كفرنا بالأصنام والأوثان (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عند رؤيتهم بأس الله وعذابه لأنهم يصيرون عند ذلك ملجأين ، وفعل الملجأ لا يستحق به المدح (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) معناه : سنّ الله هذه السنة في الأمم الماضية كلها إذ لا ينفعهم إيمانهم إذا رأوا العذاب ، والمراد بالسنة هنا الطريقة المستمرة من فعله بأعدائه الجاحدين (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) بدخول النار ، وفوت الثواب والجنة.

سورة فصّلت مكية

وآياتها أربع وخمسون

١ ـ ٥ ـ ((حم)) قد تقدّم القول فيه وقيل في وجه الاشتراك في افتتاح هذه السور السبع ب (حم) : انّه للمشاكلة التي بينها بما يختصّ به وليس لغيرها ، وذلك أنّ كل واحدة منها استفتحت بصفة الكتاب مع تقاربها في الطول ، ومع شدّة تشاكل الكلام في النظم (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نزل به جبرائيل على محمد (ص) (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) وصف الكتاب بالتفصيل دون الإجمال ، لأنّ التفصيل يأتي على وجوه البيان ، أي الذي بيّنت آياته بيانا تاما ، والتبيين فيه على وجوه ، منها : تبيين مما ليس بواجب ، وتبيين الأولى في الحكمة مما ليس بأولى ، وتبيين الجائز مما ليس بجائز ، وتبيين الحق من الباطل ، وتبيين الدليل على الحق ، وتبيين ما يرغب فيه مما لا يرغب فيه ، الى غير ذلك من الوجوه ، وقيل فصّلت آياته بالأمر والنهي والوعد والوعيد والترغيب والترهيب والحلال والحرام والمواعظ والأمثال (قُرْآناً عَرَبِيًّا) وصفه بأنه قرآن لأنه جمع بعضه إلى بعض ، وبأنه عربيّ لأنه يخالف جميع اللغات التي ليست بعربية (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اللسان العربي ويعجزون عن مثله فيعرفون إعجازه (بَشِيراً وَنَذِيراً) يبشّر المؤمن بما فيه من

٦٣٤

الوعد ، وينذر الكافر بما فيه من الوعيد (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) يعني أهل مكة عدلوا عن الإيمان بالله والتدبّر فيه (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يسمعونه سمع تفكّر وقبول فكأنهم لا يسمعونه حقيقة (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي في أغطية (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) فلا نفقه ما تقول ، وإنما قالوا ذلك ليؤيسوا النبي (ص) من قبولهم دينه ، فكأنّهم شبّهوا قلوبهم بما يكون في غطاء فلا يصل إليه شيء ممّا وراءه (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي ثقل عن استماع القرآن وصمم (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي بيننا وبينك فرقة في الدين ، وحاجز في النحلة ، فلا نوافقك على ما تقول (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) إنّ أبا جهل رفع ثوبا بينه وبين النبي (ص) فقال : يا محمد أنت من ذلك الجانب ، ونحن من هذا الجانب ، فاعمل أنت على دينك ومذهبك إننا عاملون على ديننا ومذهبنا.

٦ ـ ١٠ ـ ثم قال لنبيّه (ص) (قُلْ) يا محمّد لهؤلاء الكفار (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) من ولد آدم لحم ودم ، وإنّما خصّني الله تعالى بنبوته ، وميّزني منكم بأن أوحى إليّ ، ولو لا الوحي ما دعوتكم وهو قوله (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له في العبادة (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) أي لا تميلوا عن سبيله ، وتوجّهوا إليه بالطاعة (وَاسْتَغْفِرُوهُ) من الشرك ، واطلبوا المغفرة لذنوبكم من جهته ، ثم أوعدهم فقال (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي لا يعطون الزكاة المفروضة وفيه دلالة على أنّ الكفار مخاطبون بالشرائع (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) وهم مع ذلك جاحدون بما أخبر الله تعالى به من أحوال الآخرة ، ثم عقّب سبحانه ما ذكره من وعيد الكافرين بذكر الوعد للمؤمنين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا بأمر الآخرة من الثواب والعقاب (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي لهم جزاء على ذلك غير مقطوع بل هو متّصل دائم. ثم وبّخهم سبحانه على كفرهم فقال (قُلْ) يا محمد لهم على وجه الإنكار عليهم (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) وهذا استفهام تعجيب ، أي كيف تستجيزون أن تكفروا وتجحدوا نعمة من خلق الأرض (فِي يَوْمَيْنِ) أي في مقدار يومين (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) أي أمثالا وأشباها (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلك الذي خلق الأرض في يومين خالق العالمين ، ومالك التصرف فيهم (وَجَعَلَ فِيها) أي في الأرض (رَواسِيَ) أي جبالا راسيات ثابتات (مِنْ فَوْقِها) أي من فوق الأرض (وَبارَكَ فِيها) بأن أنبت شجرها من غير غرس ، وأخرج نبتها من غير زرع وبذر ، وأودعها مما ينتفع به العباد (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي قدّر في الأرض أرزاق أهلها على حساب الحاجة إليها في قوام أبدان الناس وسائر الحيوان (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي في تتمّة أربعة أيام من حين ابتداء الخلق (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) أي مستوية كاملة من غير زيادة ولا نقصان للسائلين عن مدّة خلق الأرض. وعلّة خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام فإنما خلق ذلك شيئا بعد شيء في هذه الأيام الأربعة ليعلم الخلق أن من الصواب التأنّي في الأمور وترك الاستعجال فيها ، فإنّه سبحانه كان قادرا على ذلك في لحظة واحدة.

١١ ـ ١٥ ـ (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) أي ثمّ قصد الى خلق السماء ، كانت السماء دخانا ، وقال ابن

__________________

قال الإمام الصّادق عليه‌السلام : إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى ، ومصابيح الدجى ، فليجل جال بصره ، ويفتح للضياء نظره ، فإنّ التفكر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور. أصول الكافي : ٢ / ٦٠٠.

٦٣٥

عباس : كانت بخار الأرض ؛ وأصل الاستواء الاستقامة ، والقصد للتدبير المستقيم تسوية له ، وقيل معناه : ثم استوى أمره الى السماء ، عن الحسن (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) قال ابن عباس : أتت السماء بما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وأتت الأرض بما فيها من الأنهار والأشجار والثمار ، وليس هناك أمر بالقول على الحقيقة ، ولا جواب لذلك القول ، بل أخبر الله سبحانه عن اختراعه السماوات والأرض ، وإنشائه لهما من غير تعذّر ولا كلفة ولا مشقّة ، بمنزلة ما يقال للمأمور : افعل فيفعل ، من غير تلبّث ولا توقّف ، فعبّر عن ذلك بالأمر والطاعة ، وهو كقوله ((إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) ، وإنما قال : ((أَتَيْنا طائِعِينَ)) ، ولم يقل : أتينا طائعتين ، لأنّ المعنى : اتينا بمن فينا من العقلاء ، فغلب حكم العقلاء ، عن قطرب. وقيل : إنّه لمّا خوطبن خطاب من يعقل جمعن جمع من يعقل ، كما قال : ((وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)). (فَقَضاهُنَ) أي صنعهن وأحكمهن وفرغ من خلقهن (سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) يوم الخميس والجمعة (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي خلق فيها ما أراده من ملك وغيره (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) سمّى الكواكب مصابيح لأنه يقع الاهتداء بها كقوله : ((وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)) (وَحِفْظاً) أي وحفظناها من استماع الشياطين (ذلِكَ) الذي ذكر (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في ملكه لا يمتنع عليه شيء (الْعَلِيمِ) بمصالح خلقه لا يخفى عليه شيء. ثمّ عقّب سبحانه دلائل التوحيد بذكر الوعيد لأهل الشرك والجحود من العبيد فقال : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإيمان بك بعد هذا البيان (فَقُلْ) يا محمد لهم مخوّفا إيّاهم (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أي استعدّوا للعذاب فقد خوّفتكم عذابا مثل عذاب عاد وثمود لما أعرضوا عن الإيمان ، والصاعقة : المهلكة من كلّ شيء ، وهي في العرف اسم للنار التي تنزل من السماء فتحرق (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) نزلت بهم حين أتتهم الرسل من قبلهم ومن بعدهم يعني به الرسل الذين جاؤوا آباءهم ، والرسل الذين جاؤوهم في أنفسهم (أَلَّا تَعْبُدُوا) أي أرسلناهم بأن لا تعبدوا (إِلَّا اللهَ) وحده ولا تشركوا بعبادته غيره (قالُوا) أي فقال المشركون عند ذلك (لَوْ شاءَ رَبُّنا) أن نؤمن به ونخلع الأنداد (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) تدعونا إلى ذلك ولم يبعث بشرا مثلنا ، وكأنّهم أنفوا من الانقياد لبشر مثلهم ، وجهلوا أن الله تعالى يبعث الأنبياء على حسب ما يعلمه من مصالح عباده ، ويعلم من يصلح للقيام بأعباء النبوة (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي أظهروا الكفر بهم والجحود ، ثم فصّل سبحانه أخبارهم فقال (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا) أي تجبّروا وعتوا (فِي الْأَرْضِ) وتكبّروا على أهلها (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي بغير حقّ جعله الله لهم بل للكفر المحض ، والظلم الصراح (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) اغترّوا بقوّتهم لما هدّدهم هود بالعذاب فقالوا : نحن نقدر على دفعه بفضل قوّتنا إذ لا أحد أشدّ منّا قوة ، فقال الله سبحانه ردّا عليهم : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي أو لم يعلموا أن الله الذي خلقهم وخلق فيهم هذه القوّة أعظم اقتدارا منهم فلو شاء أهلكهم (وَكانُوا بِآياتِنا) أي بدلالاتنا (يَجْحَدُونَ) ينكرونها ولا يعترفون بها.

١٦ ـ ٢٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن إهلاكهم بقوله (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي عاصفا شديدة الصوت من الصرّة وهي الصيحة (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي نكدات مشؤومات ذوات نحوس. والنحس سبب الشر ، والسعد سبب الخير ، وبذلك سمّيت سعود النجوم ونحوسها (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي فعلنا ذلك بهم لنذيقهم عذاب الهون

٦٣٦

والذلّ ، وهو العذاب الذي يجزون في الدنيا فيوقنوا بقوّة معذّبهم وبقدرته عليهم ، ويظهر ذلك لمن رأى حالهم (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى) أفضح من ذلك (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي لا يدفع عنهم العذاب الذي ينزل بهم.

ثم ذكر قصة ثمود فقال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) أي بيّنا لهم سبيل الخير والشر (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) فاختاروا العمى في الدين على قبول الهدى وبئس الاختيار ذلك (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) أي ذي الهون وهو الذي يهينهم ويخزيهم وقد قيل : إنّ كلّ عذاب صاعقة لأنّ كلّ من يسمعها يصعق لها (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من تكذيبهم صالحا ، وعقرهم الناقة (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الشرك ، أي ونجّينا صالحا ومن آمن به من العذاب.

ثم أخبر سبحانه عن أحوال الكفار يوم القيامة فقال : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ولا يتفرّقوا والمعنى : إذا حشروا وقفوا (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي جاؤوا النار التي حشروا إليها (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي شهد عليهم سمعهم بما قرعه من الدعاء إلى الحق فأعرضوا عنه ولم يقبلوه ، وأبصارهم بما رأوا من الآيات الدالة على وحدانية الله فلم يؤمنوا ، وسائر جلودهم بما باشروه من المعاصي والأفعال القبيحة.

وقيل في شهادة الجوارح قولان : (أحدهما) ان الله تعالى يبنيها بنية الحيّ ويلجئها إلى الاعتراف بما فعله أصحابه (والآخر) انّ الله يفعل فيها الشهادة ، وإنما أضاف الشهادة إليها مجازا ، وقيل في ذلك أيضا وجه ثالث : هو أنّه يظهر فيها أمارات دالة على كون أصحابها مستحقّين للنار ، فسمّى ذلك شهادة مجازا كما يقال عيناك تشهدان بسهرك وقيل : ان المراد بالجلود هنا الفروج على طريق الكناية عن ابن عباس والمفسّرين.

٢١ ـ ٢٥ ـ ثمّ حكى سبحانه عنهم بقوله : (وَقالُوا) يعني الكفار (لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) أي يعاتبون أعضاءهم فيقولون لها : لم شهدتم علينا (قالُوا) أي فتقول جلودهم في جوابهم (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي مما ينطق والمعنى : أعطانا الله آلة النطق والقدرة على النطق وتمّ الكلام.

ثم قال سبحانه : (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الآخرة ، أي إلى حيث لا يملك أحد الأمر والنهي سواه تعالى (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ) أي من أن يشهد (عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) معناه : وما كنتم تستخفون ، أي لم يكن يتهيّأ لكم أن تستروا أعمالكم عن هذه الأعضاء لأنّكم كنتم بها تعملون ، فجعلها الله شاهدة عليكم في القيامة. وقيل معناه : وما كنتم تتركون المعاصي حذرا أن تشهد عليكم جوارحكم بها لأنّكم ما كنتم تظنون ذلك (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) لجهلكم بالله تعالى فهان عليكم ارتكاب المعاصي لذاك.

وروي عن ابن مسعود : أنها نزلت في ثلاثة نفر تسارّوا وقالوا : أترى الله يسمع سرارنا؟ ويجوز أن يكون المعنى انّكم عملتم عمل من ظنّ أنّ عمله يخفى على الله كما يقال : أهلكت نفسي : أي عملت عمل من أهلك النفس وقيل : انّ الكفار كانوا يقولون : انّ الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكنه يعلم ما يظهر عن ابن عباس.

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) ذلكم مبتدأ ، وظنّكم خبره ، وأرداكم خبر ثان ، ويجوز أن يكون ظنّكم بدلا من ذلكم ويكون المعنى : ظنّكم الذي ظننتم بربكم أنّه لا يعلم كثيرا ممّا تعملون أهلككم إذ هون عليكم أمر المعاصي ،

٦٣٧

وأدّى بكم إلى الكفر (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي فظللتم من جملة من خسرت تجارته لأنّكم خسرتم الجنة ، وحصلتم في النار ، قال الصادق عليه‌السلام : ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنّه مشرف على النار ، ويرجوه رجاء كأنّه من أهل الجنة ، إنّ الله تعالى يقول : ((وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ)) الآية ، ثم قال : إن الله عند ظنّ عبده به ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ؛ ثم أخبر سبحانه عن حالهم فقال (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي فإن يصبر هؤلاء على النار وآلامها ، وليس المراد به الصبر المحمود ولكنه الامساك عن اظهار الشكوى ، وعن الاستغاثة ، فالنار مسكن لهم (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي وإن يطلبوا العتبى ، وسألوا الله تعالى أن يرضى عنهم ، فليس لهم طريق إلى الإعتاب فما هم ممّن يقبل عذرهم ، ويرضى عنهم. وتقدير الآية : انهم إن صبروا وسكتوا ، أو جزعوا فالنار مأواهم كما قال سبحانه : (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ ،) والمعتب هو الذي يقبل عتابه ، ويجاب إلى ما سأل وقيل معناه : وإن يستغيثوا فما هم من المغاثين (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) أي هيّأنا لهم قرناء من الشياطين.

وقيل : معناه : خلّينا بينهم وبين قرناء السوء بما استوجبوه من الخذلان عن الحسن (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي زيّنوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروا وعملوا له ، وما خلفهم من أمر الآخرة بدعائهم إلى أنّه لا بعث ولا جزاء. وقيل : ما بين أيديهم ما قدّموه من أفعالهم السيئة حتى ارتكبوها ، وما خلفهم ما سنّوه لغيرهم ممّن يأتي بعدهم (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي وجب عليهم الوعيد والعذاب (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي صاروا في أمم أمثالهم كذّبوا كتكذيبهم قد مضوا قبلهم وجب عليهم العذاب بعصيانهم. ثم قال سبحانه : (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) خسروا الجنة ونعيمها.

٢٦ ـ ٣٠ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي قال رؤساؤهم لأتباعهم أو قال بعضهم لبعض يعني كفار قريش (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) الذي يقرؤه محمد ولا تصغوا إليه (وَالْغَوْا فِيهِ) أي عارضوه باللغط والباطل ، وبما لا يعتدّ به من الكلام (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) أي لتغلبوه باللغو والباطل ، ولا يتمكن أصحابه من الاستماع. وقيل معناه ارفعوا أصواتكم في وجهه بالشعر والرجز (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً) في الدنيا بالأسر والقتل يوم بدر. وقيل في الآخرة (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي نجازيهم بأقبح الجزاء على أقبح معاصيهم وهو الكفر والشرك ، وخصّ الأسوأ بالذكر للمبالغة في الزجر (ذلِكَ) يعني ما تقدّم الوعيد به (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) الذين عادوه بالعصيان والكفر ، وعادوا أولياءه من الأنبياء والمؤمنين (النَّارُ) وهي النار والكون فيها (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) أي منزل الدوام والتأبيد (جَزاءُ) لهم وعقوبة (بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) يعني القرآن ، يجحدون بأنه من عند الله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وسيقول الكفار في النار (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) والمراد بذلك كلّ من أبدع الكفر والضلالة من الجنّ والإنس (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) تمنّوا لشدّة عداوتهم لهم ، وبغضهم إيّاهم بما أضلّوهم وأغووهم أن يجعلوهم تحت أقدامهم في الدرك الأسفل من النار.

ولما ذكر سبحانه وعيد الكفار عقبه بذكر الوعد للمؤمنين الأبرار فقال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي وحّدوا الله تعالى بلسانهم واعترفوا به ، وصدّقوا أنبياءه (ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي استمرّوا على أن الله ربهم وحده لم يشركوا به شيئا عن

٦٣٨

مجاهد. وقيل معناه : ثم استقاموا على طاعته ، وأداء فرائضه عن ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد. وقيل : ثمّ استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم وقيل : ثم استقاموا على ما توجبه الربوبية من عبادته ، عن أبي مسلم. وروي عن أنس قال : قرأ علينا رسول الله (ص) هذه الآيات ثم قال : قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم ، فمن قالها حي يموت فهو ممن استقام عليها (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) يعني عند الموت ، وقيل : إن البشرى تكون في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) أي لا تخافوا ممّا أمامكم من أمور الآخرة ، ولا تحزنوا على ما وراءكم وعلى ما خلّفتم من أهل وولد وقيل : لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم ، عن عطا بن أبي رباح وقيل : إن الخوف يتناول المستقبل ، والحزن يتناول الماضي (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها في دار الدنيا على السنة الأنبياء.

٣١ ـ ٣٥ ـ ثمّ حكى سبحانه أنّ الملائكة تقول للمؤمنين الذين استقاموا بعد البشارة (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) أي نحن معاشر الملائكة أنصاركم وأحبّاؤكم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) نتولّى إيصال الخيرات إليكم من قبل الله تعالى (وَفِي الْآخِرَةِ) فلا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة (وَلَكُمْ فِيها) أي في الآخرة (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من الملاذّ ، وتتمنّونه من المنافع (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) إنّه لكم فإنّ الله سبحانه يحكم لكم بذلك (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) معناه : انّ هذا الموعود به مع جلالته في نفسه له جلالة بمعطيه ، إذ هو عطاء لكم ، ورزق يجري عليكم ممّن يغفر الذنوب ، ويستر العيوب رحمة منه لعباده ، فهو أهنأ لكم ، وأكمل لسروركم (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً) وتقديره : وليس أحد أحسن قولا ممّن دعا إلى طاعة الله ، وأضاف إلى ذلك أن يعمل الأعمال الصالحة (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي ويقول مع ذلك إنّني من المستسلمين لأمر الله ، المنقادين إلى طاعته. ثم قال سبحانه : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) معناه : لا تستوي الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة. ثمّ بيّن سبحانه ما يلزم على الداعي من الرفق بالمدعوّ فقال : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) خاطب النبي (ص) فقال : ادفع بحقك باطلهم ، وبحلمك جهلهم ، وبعفوك إساءتهم (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) معناه : فإنك إذا دفعت خصومك بلين ورفق ومداراة صار عدوّك الذي يعاديك في الدين بصورة وليّك القريب ، فكأنّه وليّك في الدين ، وحميمك في النسب (وَما يُلَقَّاها) أي وما يلقّى هذه الفعلة ، وهذه الحالة التي هي دفع السيّئة بالحسنة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) على كظم الغيظ ، واحتمال المكروه (وَما يُلَقَّاها) أي وما يلقّى هذه الخصلة المذكورة ولا يؤتاها (إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي ذو نصيب وافر من الرأي والعقل.

٣٦ ـ ٤٢ ـ ثمّ أمر نبيّه (ص) أن يستعيذ بالله إذا صرفه الشيطان عن الاحتمال فقال : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) ان ما يدعونّك نزغ من الشيطان بالوسوسة (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي فاطلب الاعتصام من شرّه بالله (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الآية مفسّرة في آخر سورة الأعراف (وَمِنْ آياتِهِ) أي حججه الدالة على وحدانيته ، وأدلته على صفاته التي باين بها جميع خلقه (اللَّيْلُ) بذهاب الشمس عن بسيط الأرض (وَالنَّهارُ) بطلوعها على وجهها ، وتقديرهما على وجه مستقرّ ، وتدبيرهما على نظام مستمرّ (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) وما اختصّا به من النور ، وظهر فيهما من التدبير في المسير والتصريف في فلك التدوير (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) وإن كان فيهما منافع كثيرة لأنهما ليس بخالقين (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) وأنشأهنّ (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إن كنتم

٦٣٩

تقصدون بعبادتكم الله كما تزعمون فاسجدوا لله دون غيره (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) عن توجيه العبادة إلى الله وحده (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وهم الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي لا يملّون ولا يفترون ، وهو مفسّر في سورة الأعراف.

(وَمِنْ آياتِهِ) أي ومن أدلّته الدالة على ربوبيته (أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) ميتة يابسة لا نبات فيها (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) أي تحرّكت بالنبات وربت ، أي انتفخت وارتفعت قبل أن تنبت (وَرَبَتْ) بكثرة ريعها (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) أي أحيا الأرض بما أنزله من المطر (لَمُحْيِ الْمَوْتى) في الآخرة مثل ذلك (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ظاهر المعنى (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي انّ الذين يميلون عن الإيمان بآياتنا (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) بأشخاصهم وأقوالهم وأفعالهم.

ثم قال سبحانه على وجه الإنكار عليهم ، والتهجين لفعلهم ، والتهديد لهم (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ) وهم الملحدون (أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) من عذاب الله وهم المؤمنون المطيعون ، وهذا استفهام تقرير معناه. انّهما لا يستويان (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) لفظه لفظ الأمر ومعناه الوعيد والتهديد ، أي فإذا علمتم أنّهما لا يستويان فليختر كلّ واحد منكم لنفسه ما شاء من الأمرين ، فإنّ العاقل لا يختار الإلقاء في النار ، فإذا لم يختر ذلك فلا بدّ أن يؤمن بالآيات فلا يلحد فيها (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ) أي بأعمالكم (بَصِيرٌ) عالم لا يخفى عليه شيء منها.

ثمّ أخبر سبحانه عنهم مهجّنا لهم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) الذي هو القرآن وجحدوه (لَمَّا جاءَهُمْ) أي حين جاءهم. ثم أخذ سبحانه في وصف الذكر (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) والمعنى : ان الذكر لكتاب عزيز بأنه لا يقدر أحد من العباد على أن يأتي بمثله. وقيل : إنه عزيز بإعزاز الله عزوجل إيّاه إذ حفظه من التغيير والتبديل وقيل : هو عزيز إذ جعله الله على أتمّ صفات الاحكام. وقيل : عزيز بأنه يجب أن يعزّ ويجلّ بالانتهاء إلى ما فيه وترك الاعراض عنه. وقيل : عزيز أي كريم على الله عزوجل عن ابن عباس (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) قيل فيه أقوال : (أحدها) ان الباطل الشيطان ومعناه : لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقا أو يزيد فيه باطلا عن قتادة والسديّ (وثانيها) انه لا يأتيه ما يبطله من بين يديه أي من الكتب التي قبله ولا من خلفه أي لا يجيء من بعده كتاب يبطله أي ينسخه عن ابن عباس والكلبي ومقاتل (وثالثها) معناه : انه ليس في أخباره عمّا مضى باطل ، ولا في أخباره عمّا يكون في المستقبل باطل ، بل أخباره كلّها موافقة لمخبراتها ، وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وأبي عبد الله (ع) (ورابعها) لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات ، فلا تناقض في ألفاظه ولا كذب في أخباره ، ولا يعارض ، ولا يزاد فيه ، ولا يغيّر ، بل هو محفوظ حجّة على المكلّفين إلى يوم القيامة ، ويؤيّده (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ) أي هو تنزيل من عالم بوجوه الحكمة (حَمِيدٍ) مستحقّ للحمد على خلقه بالإنعام عليهم ، والقرآن هو من أعظم نعمه فاستحق به الحمد والشكر.

٤٣ ـ ٤٥ ـ ثم عزّى سبحانه نبيه (ص) على تكذيبه فقال : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أي ما يقول هؤلاء الكفار لك إلّا ما قد قيل للأنبياء قبلك من التكذيب والجحد لنبوتهم عن قتادة والسدّي والجبائي ، وقيل معناه : لا يقول الله لك إلّا ما قد قاله للرسل من قبلك ، وهو الأمر بالدعاء الى الحقّ في عبادة الله ولزوم طاعته ، فهذا القرآن موافق لما قبله من الكتب ، وقيل معناه : ما حكاه تعالى بعده من (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) فيكون

٦٤٠