الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

علي محمد علي دخّيل

الوجيز في تفسير الكتاب العزيز

المؤلف:

علي محمد علي دخّيل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٣٦

قتل عتبة بن ربيعة ، وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام قتل الوليد بن عتبة ، وعبيدة بن الحرث بن عبد المطلب قتل شيبة ابن ربيعة عن أبي ذر الغفاري وعطا ، وكان أبو ذر يقسم بالله تعالى أنها نزلت فيهم ورواه البخاري في الصحيح. وقيل نزلت في أهل القرآن وأهل الكتاب عن ابن عباس. وقيل : من المؤمنين والكافرين ، عن الحسن ، ومجاهد والكلبي ، وهذا قول أبي ذرّ إلّا أنّ هؤلاء لم يذكروا يوم بدر.

١٩ ـ ٢٤ ـ لمّا تقدّم ذكر المؤمنين والكافرين بيّن سبحانه ما أعدّه لكل واحد من الفريقين فقال (هذانِ خَصْمانِ) أي جمعان (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي في دين ربّهم وقيل : ان معنى اختصموا : اقتتلوا يوم بدر (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) حين صاروا إلى جهنّم لبسوا مقطعات النيران ، وهي الثياب القصار (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) أي الماء المغلي فيذيب ما في بطونهم من الشحوم وتساقط الجلود (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي يذاب وينضج بذلك الحميم ما فيها من الأمعاء ، وتذاب به الجلود (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) قال الحسن : إن النار ترميهم بلهبها حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع فهووا فيها سبعين خريفا ، فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفير لهبها فلا يستقرّون ساعة فذلك قوله (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) أي كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفسهم حين ليس لها مخرج ردّوا إليها بالمقامع (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي ويقال لهم : ذوقوا ، والذوق : طلب ادراك الطعم ، والحريق : الإسم من الإحتراق. وقال في الخصم الذين هم المؤمنون (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وأقرّوا بوحدانيته (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أبنيتها وأشجارها (يُحَلَّوْنَ فِيها) أي يلبسون الحلي فيها (مِنْ أَساوِرَ) وهي حلي اليد (مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي ومن لؤلؤ (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي ديباج حرّم الله سبحانه لبس الحرير على الرجال في الدنيا وشوّقهم إليه في الآخرة فأخبر أن لباسهم في الجنة حرير (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) أي أرشدوا في الجنة إلى التحيات الحسنة يحيّي بعضهم بعضا ويحيّيهم الله وملائكته بها (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) والحميد : هو الله المستحق للحمد ، المستحمد إلى عباده بنعمه ، أي الطالب منهم أن يحمدوه ؛ وصراط الحميد : هو طريق الإسلام وطريق الجنّة.

٢٥ ـ ٣٠ ـ ثم بيّن سبحانه حال الكفار فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عطف بالمضارع على الماضي لأن المراد بالمضارع أيضا الماضي ويقوّيه قوله الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله ويجوز أن يكون المعنى : ان الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدّون الناس عن طاعة الله (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) أي مستقرا ومنسكا ومتعبدا وقيل معناه خلقناه للناس كلهم لم يخصّ به بعض دون بعض قال الزجاج جعلناه للناس وقف تام. ثم قال : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي العاكف المقيم فيه ، والباد الذي ينتابه من غير أهله مستويان في سكناه والنزول به ، فليس أحدهما أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر غير انه لا يخرج أحد من بيته عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) والإلحاد : العدول عن القصد واختلف في معناه هاهنا فقيل هو الشرك وعبادة غير الله تعالى (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي نعذبه عذابا وجيعا (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) معناه : واذكر يا محمد إذ وطأنا لإبراهيم مكان البيت ، وعرفناه

__________________

قال الإمام الصّادق عليه‌السلام : من قرأ في المصحف متّع ببصره ، وخفف الله عن والديه وإن كانا كافرين. أصول الكافي : ٢ /.

٤٤١

ذلك بما جعلنا له من العلامة (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) أي وأوحينا إليه أن لا تعبد غيري (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) من الشرك وعبادة الأوثان (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) مفسر بسورة البقرة ، والمراد بالقائمين : المقيمين بمكة ، وقيل القائمين في الصلاة (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) أي : ناد في الناس واعلمهم بوجوب الحج ، والمخاطب إبراهيم. عن ابن عباس قال : لما أمر الله سبحانه إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج صعد أبا قبيس ووضع أصبعيه في أذنيه وقال : يا أيّها الناس أجيبوا ربكم ، فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال (يَأْتُوكَ رِجالاً) أي مشاة على أرجلهم (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي ركبانا. قال ابن عباس : يريد الإبل ، ولا يدخل بعير ولا غيره الحرم إلا وقد هزل (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي طريق بعيد (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) قيل المعنى : ليحضروا ما ندبهم الله إليه مما فيه النفع لهم في الآخرة (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) هي أيام العشر ، وقيل لها معلومات للحرص على علمها من أجل وقت الحج في آخرها (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي على ذبح ونحر ما رزقهم من الإبل والبقر والغنم (فَكُلُوا مِنْها) أي من بهيمة الأنعام ، وهذا إباحة وندب وليس بواجب (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) فالبائس الذي ظهر عليه أثر البؤس من الجوع والعري (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) أي ليزيلوا شعث الإحرام من تقليم ظفر ، وأخذ شعر ، وغسل واستعمال طيب. قال الزجاج : قضاء التفث كناية عن الخروج من الإحرام إلى الإحلال (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أي وليتموا نذورهم بقضائها ، وهو ما نذروا من أعمال البرّ في أيام الحج ، وربما نذر الإنسان أن يتصدق إن رزقه الله الحج ، وإن كان على الرجل نذور مطلقة فالأفضل أن يفي بها هناك (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) هذا أمر وظاهره يقتضي الوجوب ، وأراد به طواف الزيارة لأنه من أركان أفعال الحج ، وروى أصحابنا ان المراد به طواف النساء الذي يستباح به وصل النساء وذلك بعد طواف الزيارة فإنه إذا طاف طواف الزيارة حلّ له كل شيء إلّا النساء ، فاذا طاف طواف النساء حلت له النساء. والبيت العتيق : هو الكعبة ، وإنما سمي عتيقا لأنّه أعتق من الطوفان ، فغرقت الأرض كلها إلا موضع البيت (ذلِكَ) ومعناه : الأمر ذلك ، أي هكذا أمر الحج والمناسك (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي : فالتعظيم خير له عند ربه ، أي في الآخرة ، والحرمة : ما لا يحل انتهاكه ، واختار أكثر المفسرين في معنى الحرمات هنا انها المناسك لدلالة ما يتصل بها من الآيات على ذلك (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) أي الإبل والبقر والغنم (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني في سورة المائدة من الميتة والمنخنقة والموقوذة ونحوها (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) من هنا للتبيين والتقدير : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ؛ وروى أصحابنا أن اللعب بالشطرنج والنرد وسائر أنواع القمار من ذلك (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) يعني الكذب ؛ وروى أصحابنا أنه يدخل فيه الغناء وسائر الأقوال الملهية.

٣١ ـ ٣٥ ـ قال سبحانه : (حُنَفاءَ لِلَّهِ) أي مستقيمي الطريقة على أمر الله ، مائلين عن سائر الأديان (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أي حجاجا مخلصين ، وهم مسلمون موحدون لا يشركون في تلبية الحج به أحدا. ثم ضرب سبحانه مثلا لمن أشرك فقال : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي سقط من السماء (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي تأخذه بسرعة (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) أي تسقطه (فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي بعيد مفرط في البعد. شبّه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في انه لا يملك لنفسه حيلة فهو هالك لا محالة (ذلِكَ) أي الأمر الذي ذكرنا (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أي معالم دين الله ، والأعلام التي نصبها لطاعته (فَإِنَّها) أي فإن تعظيمها (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب (لَكُمْ

٤٤٢

فِيها) أي في الشعائر (مَنافِعُ) أي الأجر والثواب (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الأجل المسمى القيامة (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) معناه : ان محل ما اختص منها بالإحرام هو البيت العتيق ، وذلك الحج والعمرة في القصد له ، والصلاة في التوجه إليه (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي لكل جماعة مؤمنة من الذين سلفوا جعلنا متعبدا وموضع نسك يقصده الناس (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي تعبدناهم بذلك ليذكروا اسم الله على ما رزقناهم من بهيمة الأنعام (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي معبودكم الذي توجهون إليه العبادة واحد لا شريك له ، والمعنى فلا تذكروا على ذبائحكم إلا الله وحده (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي انقادوا وأطيعوا (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) أي المتواضعين المطمئنين إلى الله. ثم وصفهم فقال (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي إذا خوّفوا بالله خافوا (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من البلايا والمصائب في طاعة الله (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) في أوقاتها يؤدونها كما أمرهم الله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يتصدقون من الواجب وغيره.

٣٦ ـ ٤٠ ـ ثم عاد إلى ذكر الشعائر فقال (وَالْبُدْنَ) وهي الإبل العظام (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي من علامات مناسك الحج والمعنى : جعلناها لكم فيها عبادة الله من سوقها إلى البيت ، واشعارها وتقليدها ونحرها ، والإطعام منها (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) أي نفع في الدنيا وثواب الآخرة (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) أي في حال نحرها (صَوافَ) أي قياما مقيدة على سنّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن ابن عباس ، وقيل : هو ان تنحر وهي صافة أي قائمة ربطت يديها ما بين الرسغ والخف إلى الركبة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وهذا في الإبل ، فأما البقر فإنه يشد يداها ورجلاها ، ويطلق ذنبها ، والغنم يشد ثلاث قوائم منها ويطلق فرد رجل منها (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت إلى الأرض ، وعبّر بذلك عن تمام خروج الروح منها (فَكُلُوا مِنْها) وهذا إذن وليس بأمر لأن أهل الجاهلية كانوا يحرّمونها على نفوسهم (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) القانع : الذي يقنع بما أعطي أو بما عنده ولا يسأل ، والمعتر : الذي يتعرض لك أن تطعمه من اللحم ويسأل عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة وإبراهيم وقيل : القانع الذي يسأل ، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل ، عن الحسن وسعيد بن جبير ، وقال أبو جعفر عليه‌السلام وأبو عبد الله عليه‌السلام القانع الذي يقنع بما أعطيته ولا يسخط ولا يكلح ولا يلوي شدقه غضبا والمعتر المادّ يده لتطعمه وفي رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : القانع الذي يسأل فيرضى بما أعطي والمعتر الذي يعتري رجاء وممن لا يسأل (كَذلِكَ) أي مثل ما وصفناه (سَخَّرْناها لَكُمْ) أي ذلّلناها لكم حتى لا تمنع عما تريدون منها من النحر والذبح بخلاف السباع الممتنعة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ذلك (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي لن تصعد إلى الله لحومها ولا دماؤها وإنما يصعد إليه التقوى ، عن الحسن ، وهذا كناية عن القبول ، وذلك إنما يقبله الإنسان يقال : قد ناله ووصل إليه ، فخاطب الله سبحانه عباده بما اعتادوه في مخاطباتهم ، وكانوا في الجاهلية إذا ذبحوا الهدي استقبلوا الكعبة بالدماء فنضحوها حول البيت قربة إلى الله وقيل معناه : لن تبلغوا رضا الله بذلك وإنما تبلغونه بالتقوى (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) تقدّم تفسيره (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي على ما بيّن لكم وأرشدكم لمعالم دينه ، ومناسك حجّه (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) الذين يعملون أعمالا حسنة ولا يسيئون إلى غيرهم. ثم بيّن سبحانه دفعه عن المؤمنين بشارة لهم بالنصر فقال : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) غائلة المشركين بأن يمنعهم منهم ، وينصرهم عليهم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ

٤٤٣

كَفُورٍ) وهم الذين خانوا الله بأن جعلوا معه شريكا وكفروا نعمه ، عن ابن عباس وقيل : من ذكر اسم غير الله وتقرّب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوّان كفور عن الزجاج. ثم بيّن سبحانه إذنه لهم في قتال الكفار بعد تقدم بشارتهم بالنصرة فقال : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي بسبب أنهم ظلموا ؛ وقد سبق معناه في الحجة وكان المشركون يؤذون المسلمين ولا يزال يجيء مشجوج ومضروب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول لهم صلوات الله عليه وآله : اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة وهي أول آية نزلت في القتال ، وفي الآية محذوف وتقديره : أذن للمؤمنين أن يقاتلوا أو بالقتال ، من أجل أنهم ظلموا (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) وهذا وعد لهم بالنصر (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) معناه : من غير أن استحقوا ذلك ، أي لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم ربّنا الله وحده (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) قد تقدّم الكلام في هذا (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) أي صوامع في أيام شريعة عيسى ، وبيع في أيام شريعة موسى ، ومساجد في أيام شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمعنى : ولولا أن دفع الله بعض الناس ببعض لهدم في كل شريعة بناء المكان الذي يصلى فيه وقيل : البيع للنصارى في القرى والصوامع : في الجبال والبراري ، ويشترك فيها الفرق الثلاث ، والمساجد للمسلمين ، والصلوات كنيسة اليهود عن أبي مسلم وقال ابن عباس والضحاك وقتادة : الصلوات كنائس اليهود يسمونها صلوة فعرّبت ، وقال الحسن : أراد بذلك عين الصلاة ، وهدم الصلاة بقتل فاعليها ، ومنعهم من اقامتها وقيل : أراد بالصلوات المصلّيات كما قال : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ، وأراد المساجد (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) الهاء تعود إلى المساجد وقيل : إلى جميع المواضع الذي تقدمت لأن الغالب فيها ذكر الله (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) هذا وعد من الله بأنه سينصر من ينصر دينه وشريعته (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي قادر قاهر.

٤١ ـ ٤٥ ـ (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) والتمكين اعطاء ما يصحّ معه الفعل ، فإن كان الفعل لا يصح إلا بآلة فالتمكين اعطاء تلك الآلة لمن فيه القدرة ، وكذلك إن كان لا يصح الفعل إلا بعلم ونصب دلالة واضحة وسلامة ولطف وغير ذلك ، فالتمكين : اعطاء جميع ذلك وإن كان الفعل يكفي في صحة وجوده مجرد القدرة ، فخلق القدرة التمكين فالمعنى : الذين أعطيناهم ما به يصحّ الفعل منهم ، وسلّطناهم في الأرض أدّوا الصلاة بحقوقها ، وأعطوا ما افترض الله عليهم من الزكاة (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) وهذا يدلّ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمعروف هو الحق لأنه يعرف صحته والمنكر : هو الباطل لأنه لا يمكن معرفة صحته (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) هو كقوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ، ومعناه : أنه يبطل كل ملك سوى ملكه ، فتصير الأمور إليه بلا مانع ولا منازع. ثم عزى سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تكذيبهم إياه (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) يا محمد (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) كل أمة من هؤلاء الأمم فقد كذبت نبيّها ، ثم قال (وَكُذِّبَ مُوسى) ولم يقل : وقوم موسى لأن قومه بنو إسرائيل وكانوا آمنوا به ، وإنما كذّبه فرعون وقومه (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي أخّرت عقوبتهم وأمهلتهم يقال : أملى الله لفلان في العمر إذا أخّر عنه أجله (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أي بالعذاب (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) استفهام معناه التقرير ، أي فكيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب فأبدلتهم بالنعمة نقمة ، وبالحياة هلاكا؟ قال الزجاج : المعنى :

٤٤٤

ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ انكار. ثم ذكر سبحانه كيف عذّب المكذبين فقال : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي وكم من قرى أهلكناها وأخذناها والإختيار التاء وذلك لقوله فأمليت (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي وأهلها ظالمون بالتكذيب والكفر (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي خالية من أهلها ، ساقطة على سقوفها (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطف على قوله (مِنْ قَرْيَةٍ) أي : وكم من بئر بار أهلها ، وغار ماؤها ، وتعطلت من دلائها فلا مستقى منها ، ولا وارد لها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي : وكم من قصر رفيع مجصص تداعى للخراب بهلاك أهله فلم يبق فيه داع ولا مجيب. وأصحاب الآبار ملوك البدو. وأصحاب القصور ملوك الحضر.

٤٦ ـ ٥١ ـ ثم حثّ سبحانه على الإعتبار بحال من مضى من القرون المكذبة لرسلهم فقال (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أو لم يسر قومك يا محمد في أرض اليمن والشام (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) أي : يعلمون بها ما يرون من العبر والمعنى : فيعقلون بقلوبهم ما نزل بمن كذب قبلهم (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أخبار الأمم المكذبة (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الهاء في انها ضمير القصة والجملة بعدها تفسيرها ؛ قال الزجاج : وقوله التي في الصدور من التوكيد الذي يريده العرب في الكلام كقوله : (عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) ، وقوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) ، وقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ). والمعنى : ان الأبصار وإن كانت عمياء فلا تكون في الحقيقة كذلك إذا كان أصحابها عارفين بالحق ، وإنما يكون العمى عمى القلب الذي يقع معه الجحود بوحدانية الله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) يا محمد (بِالْعَذابِ) أن ينزل بهم ويستبطئونه (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) أي في انزال العذاب بهم. قال ابن عباس : يعني يوم بدر (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) اختلف في معناه على وجوه (احدها) معناه ان يوما من أيام الآخرة يكون كألف سنة من أيام الدنيا ، عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وابن زيد (وثانيها) ان يوما واحدا كألف سنة في مقدار العذاب لشدته وعظمته كمقدار عذاب ألف سنة من أيام الدنيا على الحقيقة ، وكذلك نعيم الجنة لأنه يكون في مقدار يوم من أيام الجنة من النعيم والسرور مثل ما يكون في ألف سنة من أيام الدنيا لو بقي منعم فيها ، ثم الكافر يستعجل ذلك العذاب لجهله عن الجبائي ، وهذا كما يقال في المثل : «أيام السرور قصار ، وأيام الهموم طوال». ثم أعلم سبحانه أنه أخذ قوما بعد الإملاء والإمهال فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) مستحقة لتعجيل العقاب (ثُمَّ أَخَذْتُها) أي أهلكتها (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) لكل أحد. ثم خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (قُلْ) لهم (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي مخوّف عن معاصي الله ، مبيّن لكم ما يجب عليكم فعله ، وما يجب عليكم تجنّبه (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ) (مَغْفِرَةٌ) من الله لمعاصيهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يعني نعيم الجنة فإنه أكرم نعيم في أكرم دار (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي بذلوا الجهد في إبطال آياتنا وبالغوا في ذلك ؛ واصل السعي الإسراع في المشي (مُعاجِزِينَ) أي مغالبين عن ابن عباس والمعاجزة محاولة عجز المغالب أي مقدرين أنهم يسبقوننا ، والمعاجزة : المسابقة. وقيل : ظانين أن يعجزوا الله ، أي يفوتوه وان يعجزوه (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي الملازمون للجحيم ، أي النار.

٥٢ ـ ٥٥ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) الرسول : الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي والنبي : الذي يوحى إليه في منامه ، فكل رسول نبيّ وليس كل نبي رسولا وقيل : بل الرسول هو المبعوث إلى أمة ، والنبي هو الذي لا يبعث إلى أمة عن قطرب وقيل : ان الرسول هو المبتدىء

٤٤٥

بوضع الشرائع والأحكام ، والنبي الذي يحفظ شريعة غيره عن الجاحظ ؛ والله سبحانه خاطب نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة بالنبي ، ومرّة بالرسول فقال : يا أيّها الرسول ، ويا أيّها النبي فالرسول والنبيّ واحد ، لأنّ الرسول يعم الملائكة والبشر ، والنبيّ يختصّ البشر ، فجمع بينهما هنا في قوله : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) قال المرتضى : لا يخلو التمني في الآية من أن يكون معناه : التلاوة كما قال حسان بن ثابت.

تمنّى كتاب الله أوّل ليلة

وآخره لاقى حمام المقادر

أو يكون تمني القلب ، فإن كان المراد التلاوة فالمعنى : ان من أرسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه حرّفوا عليه ، وزادوا فيما يقوله ونقصوا كما فعلت اليهود ، وأضاف ذلك إلى الشيطان لأنه يقع بغروره (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يزيله ويدحضه بظهور حججه ؛ وخرج هذا على وجه التسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كذب المشركون عليه ، وأضافوا إلى تلاوته من مدح آلهتهم ما لم يكن فيها ؛ وإن كان المراد تمنّي القلب فالوجه : ان الرسول متى تمنّى بقلبه بعض ما يتمناه من الأمور وسوس إليه الشيطان بالباطل يدعوه إليه ، وينسخ الله ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان ، وترك استماع غروره (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي يبقي آياته ودلائله وأوامره محكمة لا سهو فيها ولا غلط (وَاللهُ عَلِيمٌ) بكل شيء (حَكِيمٌ) واضع للأشياء مواضعها (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) أي ليجعل ذلك تشديدا في التعبد وامتحانا والمعنى : أنه شدّد المحنة والتكليف على الذين في قلوبهم شكّ ، وعلى الذين قست قلوبهم من الكفار فتلزمهم الدلالة على الفرق بين ما يحكمه الله وبين ما يلقيه الشيطان (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في معاداة ومخالفة بعيدة عن الحق (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بالله وبتوحيده وبحكمته (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي ان القرآن حق لا يجوز عليه التبديل والتغيير (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي فيثبتوا على ايمانهم ، وقيل : يزدادوا إيمانا إلى إيمانهم (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي تخشع وتتواضع لقوة إيمانهم (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي طريق واضح لا عوج فيه ، أي يثبتهم على الدين الحق (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شكّ من القرآن عن ابن جريج ، وهذا خاص فيمن علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون من الكفار (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي فجأة وعلى غفلة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) قيل : انه عذاب يوم بدر ، وسمّاه عقيما لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه ، وقيل : إنما سمي ذلك اليوم عقيما لأنه لم يكن فيه للكفار خير ، فهو كالريح العقيم التي لا تأتي بخير ، عن الضحاك ، واختاره الزجاج ، وقيل : المراد به يوم القيامة ، والمعنى : حتى تأتيهم علامات الساعة ، أو عذاب يوم القيامة ، وسمّاه

__________________

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه : أيّها الناس يوشك أن أقبض سريعا فينطلق بي وقد قدّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب الله عزوجل ، وعترتي أهل بيتي.

ثم أخذ بيد عليّ عليه‌السلام فرفعها فقال : هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ، لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض ، فاسألوهما ما خلفت فيهما. الصواعق المحرقة : ٧٥.

٤٤٦

عقيما لأنه لا ليلة له ، عن عكرمة والجبائي ، النظم : اتصلت الآية الأولى بما تقدم من ذكر الكفّار وما متّعوا به من نعيم الدنيا ، ولما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما مني به أصحابه من الاقتار تمنّى لهم الدنيا ، فبيّن سبحانه أنّ ذلك التمنّي من وسواس الشيطان وأن ما أعدّه لهم من نعيم الآخرة خير ، وقيل : اتصل بقوله : (إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، بيّن سبحانه أنه بشر وأن حاله كحال الرسل قبله.

٥٦ ـ ٦٠ ـ لما تقدّم ذكر القيامة بيّن صفته فقال : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) لا يملك أحد سواه شيئا بخلاف الدنيا (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي يفصل بين المؤمنين والكافرين ، ثم بيّن حكمه فقال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ينعمون فيها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يهينهم ويذلهم (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : فارقوا أوطانهم وخرجوا من مكة إلى المدينة (ثُمَّ قُتِلُوا) في الجهاد (أَوْ ماتُوا) في الغربة (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) وهو رزق الجنة عن الحسن والسدي ، والرزق الحسن ما إذا رآه لا تمتد عينه إلى غيره وهذا لا يقدر عليه غير الله تعالى ولذلك قال : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وقيل : بل هو مثل قوله : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) لأن لهم فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين والمدخل يجوز أن يكون بمعنى المكان وبمعنى المصدر (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بأحوالهم (حَلِيمٌ) عن معاجلة الكفار بالعقوبة (ذلِكَ) أي الأمر ذلك الذي قصصنا عليك (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه ، قال الحسن : معناه قاتل المشركين كما قاتلوه والأول لم يكن عقوبة ولكن كقولهم الجزاء بالجزاء لإزدواج الكلام (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أي ظلم بإخراجه من منزله ، يعني ما فعله المشركون من البغي على المسلمين حتى أخرجوهم إلى مفارقة ديارهم (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) يعني المظلوم الذي بغي عليه (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) روي أن الآية نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا : ان أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقاتلون في هذا الشهر فحملوا عليهم ، فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا ، فأظفر الله المسلمين بهم.

٦١ ـ ٦٥ ـ ثم قال سبحانه (ذلِكَ) أي ذلك النصر (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل ما انتقص من ساعات الليل في النهار ، وما انتقص من ساعات النهار في الليل (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لدعاء المؤمنين (بَصِيرٌ) بهم (ذلِكَ) أي ذلك الذي فعل من نصر المؤمنين (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي ذو الحق في قوله وفعله وقيل معناه انه الواحد في صفات التعظيم التي من اعتقده عليها فهو محق (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) لأنه ليس عنده نفع ولا ضر (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) عن الأشياء (الْكَبِيرُ) الذي كل شيء سواه يصغر مقداره عن معناه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) بالنبات (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) بأرزاق عباده من حيث لا يحتسبون (خَبِيرٌ) بما في قلوبهم. وقيل : اللطيف المحيط بتدبير دقائق الأمور الذي لا يتعذر عليه شيء يتعذر على غيره (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أيّ له التصرف في جميع ذلك (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الغني : الحي الذي ليس بمحتاج ، الحميد : المحمود بصفاته وأفعاله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) من الحيوان

__________________

قال الإمام الصادق (ع): إنّ العزائم أربع : اقرأ باسم ربّك الذي خلق ، والنجم ، وتنزيل السجدة ، وحم السجدة. الخصال ٢٥٢

٤٤٧

والجماد (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي وسخّر لكم الفلك في حال جريها (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي يمنع السماء من وقوعها على الأرض إلا بإرادته ، والمعنى : إلا إذا أذن الله في ذلك بأن يريد ابطالها وإعدامها (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) برأفته ورحمته بهم فعل هذا التسخير ، وأمسك السماء من الوقوع.

٦٦ ـ ٧٠ ـ ثم ذكر سبحانه دلالة أخرى على وحدانيته فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم نطفا ميتة (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انتهاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) للبعث والحساب ، وفيه بيان : أن من قدر على ابتداء الاحياء قدر على إعادة الاحياء (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي جحود ، فإنه مع هذه الأدلة الدالة على الخلق يجحد الخالق (لِكُلِّ أُمَّةٍ) أي لكل قرن مضى (جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) أي شريعة هم عاملون بها عن ابن عباس ، وقيل : مكانا يألفونه وموضعا يعتادونه لعبادة الله ، ومناسك الحج من هذا لأنها مواضع العبادات فيه ، فهي متعبدات الحج وقيل : موضع قربان ، أي متعبد في اراقة الدماء منى أو غيره ، عن مجاهد وقتادة (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) هذا نهي لهم عن منازعة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيل : نهي له لأن المنازعة تكون من أثنين ، فإذا وجّه النهي إلى من ينازعه فقد وجّه إليه ، ومنازعتهم قولهم : أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله؟ يعنون الميتة ، أي فلا يخاصمنك في أمر الذبح وقيل معناه : ليس لهم أن ينازعوك في شريعتهم وقد نسخت هذه الشريعة الشرائع المتقدمة (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي لا تلتفت إلى منازعتهم وادع إلى توحيد ربك وإلى دينه (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي على دين قيم (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي إن خاصموك في أمر الذبيحة فقل : الله أعلم بتكذيبكم فهو يجازيكم به ، وهذا قبل الأمر بالقتال وقيل معناه : وان جادلوك على سبيل المراء والتعنت بعد لزوم الحجة فلا تجادلهم على هذا الوجه ، وادفعهم بهذا القول وقيل معناه : وان نازعوك في نسخ الشريعة فحاكمهم إلى الله (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يفصل بينكم (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي فيما تذهبون فيه إلى خلاف ما يذهب. ثم قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمراد جميع المكلفين (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) من قليل وكثير لا يخفى عليه شيء من ذلك (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) أي مثبت في الكتاب المحفوظ عن الجبائي (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي كتبته في اللوح المحفوظ على الله يسير لا يحتاج إلى معالجة خطوط وحروف وإنما يقول : كن فيكون وقيل ان الحكم بينكم يسير على الله.

٧١ ـ ٧٥ ـ ثم أخبر سبحانه عن حال الكفار فقال : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي حجة (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أنها آلهة وإنما قال ذلك لأن الإنسان قد يعلم أشياء من غير حجة ودليل كالضروريات (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي وما للمشركين من مانع من العذاب. ثم أخبر سبحانه عن شدة عنادهم فقال : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) يعني من القرآن وغيره من حجج الله (بَيِّناتٍ) أي واضحات لمن تفكر فيها وهي منصوبة على الحال (تَعْرِفُ) يا محمد (فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي الإنكار ، وهو مصدر يريد أثر الإنكار من الكراهة والعبوس (يَكادُونَ يَسْطُونَ) أي يقعون ويبطشون من شدة الغيظ (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) والمعنى : يكادون يبسطون إليهم أيديهم بالسوء ، يقال : سطا عليه وسطا به إذا تناوله بالبطش (قُلْ) يا محمد لهم (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) واكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون ، وأشدّ عليكم منه ، ثم فسّر ذلك فقال (النَّارُ) أي هو النار (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع

٤٤٨

والمأوى. ثم خاطب سبحانه جميع المكلفين فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) قال الأخفش : إن قيل : فأين المثل الذي ذكر الله في قوله : (ضُرِبَ مَثَلٌ)؟ قيل : ليس ها هنا مثل ، والمعنى ان الله قال ضرب لي مثل ، أي شبه في الأوثان ثم قال : فاستمعوا لهذا المثل الذي جعلوه مثلي ، وقال القتيبي : هاهنا مثل لأنه : ضرب مثل هؤلاء الذين يعبدون الأصنام بمن عبد من لا يخلق ذبابا وقيل معناه : أثبت حديثا يتعجب منه ، فاستمعوا له لتقفوا على جهل الكفار من قولك : ضربت خيمة ، أي نصبتها واثبتها وقيل معناه : جعل ذلك كالشيء اللازم الثابت من قولك : ضرب السلطان الجزية على أهل الذمة (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام ، وكان ثلاثمائة وستين صنما حول الكعبة (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) في صغره وقلّته (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) مما عليهم. قال ابن عباس : كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فيجف فيأتي الذباب فيختلسه (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي لا يقدرون على استنقاذه منه (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) الطالب الذباب ، والمطلوب الصنم عن ابن عباس وروي عنه على العكس من هذا وهو : أن الطالب الصنم ، والمطلوب الذباب ، فعلى هذا يكون معناه : ضعف السالب والمسلوب. وقيل : ان معناه راجع إلى العابد والمعبود ، أي جهل العابد والمعبود ، وقهر العابد والمعبود ، عن الضحاك وهو معنى قول السدي : الطالب : الذي يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه ، والصنم المطلوب إليه (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق عظمته حيث جعلوا هؤلاء الأصنام شركاء له عن الحسن والفراء وقيل : معناه ما عرفوه حقّ معرفته عن الأخفش وقيل : ما وصفوه حق صفته عن قطرب (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي قادر لا يقدر أحد على مغالبته (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) يعني جبرائيل وميكائيل (وَمِنَ النَّاسِ) يعني النبيين (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) سميع بأقوالهم ، بصير بضمائرهم وأفعالهم.

٧٦ ـ ٧٨ ـ لما وصف الله سبحانه نفسه بأنه سميع بصير عقّبه بقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) يعني ما بين أيدي الخلائق من القيامة وأحوالها ، وما يكون في مستقبل أحوالهم (وَما خَلْفَهُمْ) أي وما يخلفونه من دنياهم وقيل : يعلم ما بين أيديهم : أي أول أعمالهم ، وما خلفهم آخر أعمالهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) يوم القيامة فلا يكون لأحد أمر ولا نهي. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي صلّوا (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) بفعل ما تعبدكم به من العبادات (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) قال ابن عباس : يريد صلة الرحم ، ومكارم الأخلاق ومعناه : لا تقتصروا على فعل الصلاة والواجبات من العبادات وافعلوا غيرها من أنواع البر من اغاثة الملهوف ، وإعانة الضعيف ، وبرّ الوالدين وما جانسها (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفلحوا وتسعدوا (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) أكثر المفسرين حملوا الجهاد هاهنا على جميع أعمال الطاعة وقالوا : حق الجهاد أن يكون بنيّة صادقة خالصة لله تعالى وقال السدي هو أن يطاع فلا يعصى (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي اختاركم واصطفاكم لدينه (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي من ضيق لا مخرج منه ولا مخلص من عقابه ، بل جعل التوبة والكفارات وردّ المظالم مخلصا من الذنوب ، فليس في دين الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من العقاب به ، فلا عذر لأحد في ترك الإستعداد للقيامة. وقيل معناه : ان الله سبحانه لم يضيّق عليهم أمر الدين ، فلن يكلّفكم ما لا تطيقون ، بل كلف دون الوسع ، فلا عذر لكم في تركه وقيل : انه يعني الرخص عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة ، عن الكلبي ومقاتل ، واختاره الزجاج (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي دينه ، لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما سمّاه أبا للجميع لأن حرمته على المسلمين كحرمة الوالد على الولد كما قال : (وَأَزْواجُهُ

٤٤٩

أُمَّهاتُهُمْ) ، عن الحسن وقيل : ان العرب من ولد اسماعيل ، وأكثر العجم من ولد إسحاق وهما ابنا إبراهيم ، فالغالب عليهم انهم أولاده (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) أي الله سمّاكم المسلمين عن ابن عباس ومجاهد ، وقيل : هو كناية عن إبراهيم عن ابن زيد قال ، ويدل عليه قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل انزال القرآن (وَفِي هذا) أي وفي هذا القرآن (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي ليكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيدا عليكم بالطاعة والقبول ، فإذا شهد لكم به صرتم عدولا تشهدون على الأمم الماضية بأن الرسل قد بلغوهم رسالة ربهم وانهم لم يقبلوا ، فيوجب لكافرهم النار ، ولمؤمنهم الجنة بشهادتكم ، وهذا من أشرف المراتب ، وهو مثل قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) الآية وقيل معناه : ليكون الرسول شهيدا عليكم في ابلاغ رسالة ربه إليكم ، وتكونوا شهداء على الناس بعده بأن تبلغوا إليهم ما بلغه الرسول إليكم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) قال قتادة فريضتان واجبتان افترضهما الله عليكم فأدّوهما إلى الله وروى عبد الله بن عمر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) أي تمسكوا بدين الله عن الحسن وقيل معناه : امتنعوا بطاعته عن معصيته وقيل : امتنعوا بالله من أعدائكم ، أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون وقيل : ثقوا بالله وتوكلوا عليه ، عن مقاتل (هُوَ مَوْلاكُمْ) أي وليكم وناصركم ، والمتولي لأموركم ومالككم (فَنِعْمَ الْمَوْلى) هو لمن تولاه (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) هو لمن استنصره.

سورة المؤمنون

مكية

وعدد آياتها مائة وثماني عشرة آية

١ ـ ١١ ـ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي فاز بثواب الله الذين صدّقوا بالله وبوحدانيته وبرسله. ثم وصف هؤلاء المؤمنين بأوصاف فقال : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) أي خاضعون متواضعون متذللون لا يرفعون أبصارهم عن مواضع سجودهم ، ولا يلتفتون يمينا ولا شمالا. وروي أن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال : اما انه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ؛ وفي هذا دلالة على ان الخشوع في الصلاة يكون بالقلب وبالجوارح ، فأما بالقلب فهو أن يفرغ قلبه بجمع الهمة لها ، والإعراض عمّا سواها ، فلا يكون فيه غير العبادة والمعبود ، وأما بالجوارح فهو غضّ البصر والإقبال عليها ، وترك الإلتفات والعبث. قال ابن عباس : خشع فلا يعرف من على يمينه ولا من على يساره (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) اللغو في الحقيقة هو كل قول أو فعل لا فائدة فيه يعتدّ بها فذلك قبيح محظور يجب الإعراض عنه ، وفي رواية انه الغناء والملاهي (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي مؤدّون ، قال ابن عباس للصدقة الواجبة مؤدّون (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) الفرج اسم لجميع سوءات الرجال والنساء ، والمراد بالفروج هاهنا فروج الرجال بدلالة قوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) المعنى : أنهم يلامون في اطلاق ما حظر عليهم وأمروا بحفظه إلا على أزواجهم (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) وملك اليمين في الآية المراد به الإماء (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) أي طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي الظالمون المتجاوزون إلى ما لا يحل لهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي حافظون وافون (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي يقيمونها في أوقاتها ولا يضيعونها ،

٤٥٠

وإنما أعاد ذكر الصلاة تنبيها على عظم قدرها ، وعلوّ رتبتها عنده تعالى (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) معناه : ان من كانوا بهذه الصفات ، واجتمعت فيهم هذه الخلال ، هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار من الجنة ، فقد روي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ما منكم من أحد إلا له منزلان : منزل في الجنة ، ومنزل في النار ، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله. ثم وصف الوارثين فقال : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) وهو اسم من أسماء الجنة عن الحسن ولذلك أنّث فقال : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) وقيل : هو اسم لرياض الجنة عن مجاهد.

١٢ ـ ١٩ ـ ثم قال سبحانه على وجه القسم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) المراد بالإنسان ولد آدم عليه‌السلام ، وهو اسم الجنس فيقع على الجميع ، وأراد بالسلالة الماء يسل من الظهر سلا ، من طين ، أي من طين آدم لأنها تولدت من طين خلق آدم منه (ثُمَّ جَعَلْناهُ) يعني ابن آدم الذي هو الإنسان (نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) يعني الرحم مكن فيه الماء بأن هيّأ لاستقراره فيه إلى بلوغ أمده الذي جعل له (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) مفسّر في سورة الحج (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أي جعلنا تلك المضغة من اللحم عظاما (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أي فأنبتنا اللحم على العظام كاللباس. بيّن سبحانه تنقل أحوال الإنسان في الرحم حتى استكمل خلقه لينبّه على بدائع حكمته ، وعجائب صنعته ، وكمال نعمته (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي نفخنا فيه الروح عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والشعبي والضحاك وقيل هو نبات الشعر والأسنان وإعطاء الفهم (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي تعالى الله ودام خيره وثبت وقيل معناه : استحق التعظيم بأنه قديم لا يزل ولا يزال ؛ لأنه مأخوذ من البروك الذي هو الثبوت ، وقال : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) لأنه لا تفاوت في خلقه ، وأصل الخلق التقدير ، يقال : خلقت الأديم إذا قسته لتقطع منه شيئا ، وقال حذيفة في هذه الآية : تصنعون ويصنع الله وهو خير الصانعين (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد ما ذكرنا من تمام الخلق (لَمَيِّتُونَ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) أي تحشرون إلى الموقف والحساب والجزاء ، أخبر الله سبحانه أن هذه البنية العجيبة المبنية على أحسن اتقان وإحكام تنقض بالموت لغرض صحيح وهو البعث والإعادة ، وهذا لا يمنع من الاحياء في القبور ، لأن اثبات البعث في القيامة لا يدل على نفي ما عداه ، ألا ترى أن الله سبحانه أحيا الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف ، وأحيا قوم موسى على الجبل بعد ما أماتهم ، وفي الآية دلالة على فساد قول النظام في أن الإنسان هو الروح ، وقول معمر : ان الإنسان شيء لا ينقسم ، وانه ليس بجسم (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي سبع سماوات كل سماء طريقة ، وسميت بذلك لتطارقها وهو ان بعضها فوق بعض وقيل : لأنها طرائق الملائكة عن الجبائي وقيل : الطرائق الطباق ، وكل طبقة طريقة عن ابن زيد وقيل : ان ما بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام ، وكذلك ما بين السماء والأرض عن الحسن (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) معناه : إذ بنينا فوقهم سبع سماوات أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب وقيل معناه : ما خلقناهم عبثا بل خلقناهم عالمين بأعمالهم وأحوالهم ، وفي هذا دلالة على أنه عالم بجميع المعلومات ، وفيه زجر عن السيئات ، وترغيب في الطاعات (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا وغيثا (بِقَدَرٍ) أي بقدر الحاجة لا يزيد على ذلك فيفسد ، ولا ينقص عنه فيهلك ، بل على ما توجبه المصلحة (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا له الأرض مسكنا جمعناه فيه لينتفع به ، يريد ما يبقى في المستنقعات ، أقرّ الله الماء فيها لينتفع الناس بها في الصيف عند انقطاع المطر (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي ونحن

٤٥١

على اذهابه قادرون ، ولو فعلناه لهلك جميع الحيوانات. نبّه سبحانه بذلك على عظيم نعمته على خلقه بإنزال الماء من السماء (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ) أي أحدثنا وخلقنا لنفعكم (بِهِ) أي بسبب هذا الماء (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ) يا معاشر الخلق (فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) تتفكهون بها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) وإنما خصّ النخل والأعناب لأنها ثمار الحجاز من المدينة والطائف ، فذكرهم سبحانه بالنعم التي عرفوها.

٢٠ ـ ٢٥ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) أي وأنشأنا لكم بذلك المطر شجرة ، يعني شجرة الزيتون ، وخصّت بالذكر لما فيها من العبرة بأنه لا يتعاهدها انسان بالسقي ، وهي تخرج الثمرة التي يكون منها الدهن الذي تعظم به المنفعة ، وسيناء اسم المكان الذي به هذا الجبل في أصح الأقوال ، وهي اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها عن مجاهد وقيل : سيناء البركة ، فكأنه قيل : جعل البركة عن ابن عباس وقتادة وقيل : طور سيناء : الجبل المشجر ، أي كثير الشجر عن الكلبي وقيل : هو الجبل الحسن عن عطاء ، وهو الجبل الذي نودي منه موسى عليه‌السلام ، وهو ما بين مصر وايلة عن ابن زيد (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي تنبت ثمرها بالدهن لأنه يعصر من الزيتون الزيت (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) والصبغ ما يصطبغ به من الآدم ، وذلك أن الخبز يلون بالصبغ إذا غمس فيه ، والإصطباغ بالزيت : الغمس فيه للائتدام به ، والمراد بالصبغ : الزيت عن ابن عباس فإنه يدهن به ويؤتدم. جعل الله في هذه الشجرة أدما ودهنا ، فالأدم : الزيتون ، والدهن : الزيت وقد روي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال الزيت شجرة مباركة فأتدموا به وادهنوا (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي دلالة تستدلون بها على قدرة الله تعالى (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) أراد به اللبن (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) في ظهورها وألبانها وأوبارها وأصوافها وأشعارها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي من لحومها وأولادها والتكسب بها (وَعَلَيْها) يعني على الإبل خاصة (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) وهذا كقوله : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، أما في البر فالإبل ، وأما في البحر فالسفن. ولما قدّم سبحانه ذكر الأدلة الدالة على كمال قدرته فاتبعها بذكر شمول نعمته على كافة خليقته ، عقّب ذلك بذكر إنعامه عليهم بإرسال الرسل فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) قيل : إنما سمّي نوحا لكثرة نوحه (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي أطيعوه ووحّدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) بدأ بالتوحيد لأنه الأهم (أَفَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله في ترك الإيمان به (فَقالَ الْمَلَأُ) أي الاشراف (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يتشرف ويترأس عليكم بأن يصير متبوعا وأنتم له تبع ، فيكون له الفضل عليكم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن لا يعبد شيء سواه (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) ولم يرسل بشرا آدميا (ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يدعونا إليه نوح من التوحيد (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي في الأمم الماضية (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي حالة جنون (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي انتظروا موته فتستريحوا منه وقيل فانتظروا افاقته من جنونه فيرجع عما هو عليه وقيل معناه احبسوه مدة ليرجع عن قوله.

٢٦ ـ ٣٠ ـ ثم ذكر سبحانه أن نوحا لما نسبه قومه إلى الجنون ولم يقبلوا منه (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي بتكذيبهم إياي والمعنى : انصرني إهلاكهم (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) أي بحيث نراها كما يراها الرائي من عبادنا بعينه وقيل معناه : بأعين أوليائنا من الملائكة والمؤمنين ، فإنهم يحرسونك من كل من يمنعك منه (وَوَحْيِنا) أي بأمرنا وإعلامنا إياك كيفية فعلها (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها) أي فأدخل في السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) أي قلنا لنوح عليه‌السلام لما فار الماء من التنور : احمل في

٤٥٢

السفينة من كل جنس من الحيوان زوجين : أي ذكر وأنثى ، واحمل أهلك وولدك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي من سبق الوعد بإهلاكه والاخبار بأنه لا يؤمن ، وهي امرأته واسمها واغلة ، وابنها كنعان (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لا تكلمني في شأنهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي هالكون (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ) يا نوح (وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) أي السفينة (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا) أي خلّصنا (مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) لنفوسهم بجحدهم توحيد الله (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) أي انزالا مباركا ، أو نزولا مباركا بعد الخروج من السفينة وذلك تمام النجاة عن مجاهد وقيل : المنزل المبارك هو السفينة عن الجبائي قيل : لأنه سبب النجاة وقيل معناه : أنزلني مكانا مباركا بالماء والشجر عن الكلبي وقيل معنى البركة أنهم توالدوا وكثروا عن مقاتل (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) لأنه لا يقدر أحد على أن يصون غيره من الآفات إذا أنزله منزلا ، ويكفيه جميع ما يحتاج إليه إلّا أنت قال الحسن : كان في السفينة سبعة أنفس من المؤمنين ونوح ثامنهم وقيل : ثمانون (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في أمر نوح والسفينة ، وهلاك أعداء الله (لَآياتٍ) أي دلالات للعقلاء يستدلّون بها على التوحيد (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) معناه : وإن كنّا مختبرين إياهم بإرسال نوح ووعظه وتذكيره ، ومتعبدين عبادنا بالإستدلال بتلك الآيات على قدرتنا ومعرفتنا.

٣١ ـ ٤٠ ـ ثم عطف سبحانه على قصة قوم نوح فقال : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي أحدثنا وخلقنا من بعد قوم نوح (قَرْناً آخَرِينَ) أي جماعة آخرين من الناس ، والقرن : أهل العصر على مقارنة بعضهم لبعض قيل : يعني عادا قوم هود لأنه المبعوث بعد نوح وقيل : يعني ثمود لأنهم أهلكوا بالصيحة ، عن الجبائي (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) سبق تفسيره (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي بالبعث والجزاء (وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي نعمناهم فيها بضروب الملاذ (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) من الأشربة فليس هو أولى بالرسالة منا (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) فيما يدعوكم إليه (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) باتباعه (أَيَعِدُكُمْ) هذا الرسول (أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) وصرتم بعد الموت رميما (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) من قبوركم أحياء (هَيْهاتَ) فيه ضمير مرتفع عائد إلى قوله : (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) والمعنى : هيهات هو ، أي بعد إخراجكم جدّا حتى امتنع (هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) قال ابن عباس : بعدا بعدا لما توعدون وقال الكلبي : بعيد بعيد ما يعدكم ليوم البعث (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ليس الحياة

__________________

قال الامام الصادق عليه‌السلام : عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع الى أربع : عجبت لمن خاف كيف لا يفزع الى قوله عزوجل : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فإني سمعت الله جلّ جلاله يقول بعقبها : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) وعجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع الى قوله عزوجل : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فإنّي سمعت الله عزوجل يقول بعقبها : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع الى قوله : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فإني سمعت الله جلّ وتقدّس يقول بعقبها (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) وعجبت لمن أراد الدنيا وزينتها كيف لا يفزع الى قوله تبارك وتعالى : (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) فإني سمعت الله عزّ اسمه يقول بعقبها : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) وعسى موجبة. الخصال : ٢١٨

٤٥٣

إلا الحياة التي نحن فيها ، القريبة منا (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي يموت قوم منا ، ويحيا قوم ولا نبعث وقيل : يموت الآباء ويحيا الأبناء عن الكلبي وقيل : يموت قوم ويولد قوم (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد ذلك (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي اختلق كذبا (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) أي بمصدقين فيما يقول (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) تقدّم بيانه (قالَ) أي قال الله سبحانه (عَمَّا قَلِيلٍ) أي عن قليل من الزمان والوقت ، يعني عند الموت أو عند نزول العذاب وما ها هنا مزيدة (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) هذا وعيد لهم واللام للقسم.

٤١ ـ ٥٠ ـ لمّا قال سبحانه ان هؤلاء الكفار يصبحون نادمين على ما فعلوه ، عقّبه بالإخبار عن اهلاكهم فقال : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) صاح بهم جبرائيل صيحة واحدة ماتوا عن آخرهم (بِالْحَقِ) أي باستحقاقهم العقاب بكفرهم (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) وهو ما جاء به السيل من نبات قد يبس ، وكل ما يحمله السيل على رأس الماء من قصب وعيدان شجرة فهو غثاء والمعنى : فجعلناهم هلكى قد يبسوا كما يبس الغثاء وهمدوا (فَبُعْداً) أي ألزم الله بعدا من الرحمة (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) المشركين المكذّبين (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هؤلاء (قُرُوناً آخَرِينَ) أي أمما وأهل أعصار آخرين (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) هذا وعيد للمشركين معناه : ما تموت أمة قبل أجلها المضروب لها ولا تتأخر عنه وقيل : عنى بالعذاب الموعود لهم على التكذيب أنه لا يتقدّم على الوقت المضروب لهم لذلك ولا يتأخر عنه ، والأجل : هو الوقت المضروب لحدوث أمر من الأمور ، والأجل المحتوم لا يتأخر ولا يتقدم ، والأجل المشروط بحسب الشرط والمراد بالأجل المذكور في الآية الأجل المحتوم (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أي متواترة يتبع بعضهم بعضا عن ابن عباس ومجاهد وقيل : متقاربة الأوقات ، وأصله الاتصال لاتصاله بمكانه من القوس ، ومنه الوتر وهو الفرد عن الجمع المتصل قال الأصمعي : يقال واترت الخبر : اتبعت بعضه بعضا وبين الخبرين هنيهة (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) ولم يقرّوا بنبوته (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) يعني في الإهلاك ، أي أهلكنا بعضهم في أثر بعض (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي يتحدث بهم على طريق المثل في الشر والمعنى : إنا صيّرناهم بحيث لم يبق بين الناس منهم إلّا حديثهم (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) ظاهر المعنى (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) أي بدلائلنا الواضحة (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي وبرهان ظاهر بيّن (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) خصّ الملأ وهم الأشراف بالذكر لأن الآخرين كانوا أتباعا لهم (فَاسْتَكْبَرُوا) أي تجبّروا وتعظّموا عن قبول الحق (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) أي متكبرين قاهرين قهروا أهل أرضهم واتخذوهم خولا (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) أي أنصدّق لإنسانين خلقهم مثل خلقنا (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) أي مطيعون طاعة العبد لمولاه. قال الحسن : كان بنو إسرائيل يعبدون فرعون (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي فكذّبوا موسى وهارون فكان عاقبة تكذيبهم أن أهلكهم الله وغرقهم (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (لَعَلَّهُمْ

__________________

عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى على سعد بن معاذ فقال : لقد وافى من الملائكة سبعون ألفا وفيهم جبرائيل عليه‌السلام يصلّون عليه ، فقلت له : يا جبرائيل بما يستحق صلاتكم عليه؟.

فقال : بقراءته قل هو الله أحد قائما وقاعدا ، وراكبا وماشيا ، وذاهبا وجائيا. أصول الكافي : ٢ / ٦٢٢.

٤٥٤

يَهْتَدُونَ) أي لكي يهتدوا إلى طريق الحق والصواب (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي حجّة على قدرتنا على الإختراع ، وآية عيسى أنه خلق من غير ذكر ، وآية مريم أنها حملت من غير فحل (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) أي جعلنا مأواهما مكانا مرتفعا مستويا واسعا ، والربوة التي أويا إليها ، هي الرملة ، وقيل : بيت المقدس عن قتادة وكعب ، وقيل : هي حيرة الكوفة وسوادها ، والقرار : مسجد الكوفة ، والمعين : الفرات (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) معناه : أي ذات موضع قرار ، أي هي أرض مستوية يستقر عليها ساكنوها.

٥١ ـ ٥٥ ـ لما أخبر الله سبحانه عن إيتائه الكتاب للإهتداء ، ثم عمّا أولاه من سابغ النعماء ، خاطب الرسل بعد ذلك فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) هو خطاب للرسل كلهم وأمر لهم أن يأكلوا من الحلال عن السدي ، وروي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : إن الله طيب لا يقبل إلّا طيبا ، وأنه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي ما أمركم الله به (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) هذا بيان السبب الداعي إلى إصلاح العمل ، فإن العاقل إذا عمل لمن يعلم عمله ويجازيه على حسب ما يعمل من عمله ، وبقدر استحقاقه ، أصلح العمل (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي دينكم دين واحد (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) أي لهذا فاتقوا (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) تفسير الآيتين قد تقدّم في سورة الأنبياء (زُبُراً) أي كتبا ، وهو جمع زبور والمعنى : تفرّقوا في دينهم وجعلوه كتبا دانوا بها وكفروا بما سواها ، كاليهود كفروا بالإنجيل والقرآن ، والنصارى كفروا بالقرآن (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي كل فريق بما عندهم من الدين راضون ، يرون أنهم على الحق. ثم خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (فَذَرْهُمْ) يا محمد (فِي غَمْرَتِهِمْ) أي جهلهم وضلالتهم (حَتَّى حِينٍ) أي وقت الموت (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) معناه : أيظن هؤلاء الكفار أن ما نعطيهم ونزيدهم من أموال وأولاد إنما نعطيهم ثوابا ومجازاة لهم على أعمالهم ، أو لرضانا عنهم ولكرامتهم علينا؟ ليس الأمر كما يظنون ، بل ذلك املاء لهم واستدراج لهوانهم علينا ، وللإبتلاء في التعذيب لهم ، نظيره قوله : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ). وروى السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان الله تعالى يقول : يحزن عبدي المؤمن إذا قترت عليه شيئا من الدنيا وذلك أقرب له مني ، ويفرح إذا بسطت له الدنيا وذلك أبعد له منّي ، ثم تلا هذه الآية إلى قوله : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) ثم قال : إن ذلك فتنة لهم ومعنى نسارع : نسرع ونتعجل وتقديره نسارع لهم به في الخيرات ، فحذف به للعلم بذلك كما حذف الضمير من قولهم : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه بدرهم ، والخيرات : المنافع التي يعظم شأنها ، ونقيضها الشرور وهي : المضار التي يشتدّ أمرها والشعور : العلم الذي يدق معلومه وفهمه على صاحبه كدقة الشعر وقيل هو العلم من جهة المشاعر وهن الحواس ولهذا لا يوصف القديم سبحانه به.

٥٧ ـ ٦١ ـ ثم بيّن سبحانه حال الأخيار الأبرار بعد بيانه أحوال الكفار الفجار فقال : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي من خشية عذاب ربهم خائفون ، فيفعلون ما أمرهم به ، وينتهون عما نهاهم عنه ، والخشية : انزعاج النفس بتوهّم المضرة (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي بآيات الله وحججه من القرآن وغيرها يصدّقون (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) أي لا يشركون بعبادة الله تعالى غيره من الأصنام

٤٥٥

والأوثان ، لأن خصال الإيمان لا تتم إلا بترك الإشراك (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقة وقيل : أعمال البرّ كلها (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي خائفة عن قتادة وقال الحسن : المؤمن جمع إحسانا وشفقة ، والمنافق جمع اساءة وأمنا ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام معناه : خائفة أن لا يقبل منهم وفي رواية أخرى : يؤتي ما آتى وهو خائف راج وقيل : إن في الكلام حذفا واضمارا وتأويله : قلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم لعلمهم (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي لأنهم يوقنون بأنهم يرجعون إلى الله تعالى يخافون أن لا يقبل منهم ، وإنما يخافون ذلك لأنهم لا يأمنون التفريط (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) معناه : الذين جمعوا هذه الصفات وكملت فيهم ، هم الذين يبادرون إلى الطاعات ويسابقون إليها ، رغبة منهم فيها ، وعلما منهم بما ينالون بها من حسن الجزاء (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي وهم لأجل تلك الخيرات سابقون إلى الجنة وقيل معناه : وهم إليها سابقون ، قال الكلبي : سبقوا الأمم إلى الخيرات قال ابن عباس : يسابقون فيها أمثالهم من أهل البرّ والتقوى.

٦٢ ـ ٧١ ـ ثم بيّن سبحانه انه لا يكلف أحدا إلا دون الطاقة بعد أن أخبر عن حال الكافرين والمؤمنين فقال (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً) أي لا نكلفها أمرا ولا نأمرها (إِلَّا وُسْعَها) أي دون طاقتها (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) معناه : وعند ملائكتنا المقربين كتاب ينطق بالحق ، أي يشهد لكم وعليكم بالحق ، كتبته الملائكة بأمرنا ، يريد صحائف الأعمال (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي يوفون جزاء أعمالهم فلا ينقص من ثوابهم ، ولا يزاد في عقابهم ، ولا يؤاخذون بذنب غيرهم (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) بل ردّ لما سبق وابتداء الكلام والمعنى : ان قلوب الكفار في غفلة شديدة من هذا الكتاب المشتمل على الوعد والوعيد وهو القرآن (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) أي ولهم أعمال ردية سوى هذا الجهل يعملون تلك الأعمال فيستحقون بها وبالكفر العقوبة من الله تعالى (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ) أي يكون هذا دأبهم حتى إذا أخذنا متنعميهم ورؤساءهم بعذاب الآخرة (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي يضجّون لشدة العذاب ويجزعون (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) أي يقال لهم : لا تتضرعوا اليوم (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) هذا اياس لهم من دفع العذاب عنهم (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي تقرأ (فَكُنْتُمْ) أيها الكافرون المعذّبون (عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي تدبرن وتستأخرون وترجعون القهقرى مكذبين (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) أي متكبرين على سائر الناس بالحرم أو بالبلد يعني مكة أن لا يظهر عليكم فيه أحد (سامِراً) أي تسمرون بالليل أي تتحدثون في معائب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تَهْجُرُونَ) الحق بالاعراض عنه ، وتهجرون : أي تفحشون في المنطق. ثم قال سبحانه (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي ألم يتدبروا القرآن فيعرفوا ما فيه من العبر والدلالات على صدق نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) قال ابن عباس : يريد أليس قد أرسلنا نوحا وإبراهيم والنبيين إلى قومهم ، وكذلك أرسلنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) قال ابن عباس : أليس هو محمدا الذي قد عرفوه صغيرا وكبيرا صادق اللسان ، أمينا وافيا بالعهد ، وفي هذا توبيخ لهم بالاعراض عنه بعدما عرفوا صدقه وأمانته مع شرف نسبه قبل الدعوة (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) وإنما نسبوه إلى الجنون لينفروا الناس عنه

٤٥٦

(بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) المعنى : بل جاءهم بالقرآن والدين الحق وليس به جنة (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأنه لم يوافق مرادهم (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) الحق هو الله تعالى والمعنى : ولو جعل الله لنفسه شريكا كما يهوون (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) ووجه الفساد ما تقدّم ذكره عند قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وقيل : الحق ما يدعو إلى المصالح والمحاسن ، والأهواء ما تدعو إلى المفاسد والمقابح ، ولو اتبع الحق داعي الهوى لدعا إلى المقابح ، ولفسد التدبير في السماوات والأرض وقيل معناه : لفسدت أحوال السماوات والأرض لأنها جارية على الحكمة لا على الهوى ، (وَمَنْ فِيهِنَ) : أي ولفسد من فيهن وهو اشارة إلى العقلاء من الملائكة والأنس والجن (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي بما فيه شرفهم وفخرهم لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ، والقرآن نزل بلسانهم (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ) أي شرفهم (مُعْرِضُونَ) وبالذل راضون.

٧٢ ـ ٨٠ ـ ثم قال سبحانه (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) يا محمد على ما جئتهم به من القرآن والإيمان (خَرْجاً) أي أجرا وما لا يعطونك ، فيورث ذلك تهمة في حالك ، أو يثقل عليهم قبول قولك لأجله (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي فرزق ربك في الدنيا خير منه ، عن الكلبي ، وقيل : فأجر ربك في الآخرة خير منه ، عن الحسن (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي أفضل من أعطى (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) من التوحيد وإخلاص العبادة ، والعمل بالشريعة (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي لا يصدّقون بالنشأة الآخرة (عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي عن الدين الحق عادلون مائلون وقيل معناه انهم في الآخرة عن طريق الجنة ، يؤخذ بهم يمنة ويسرة إلى النار ، عن الجبائي (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ) في الآخرة (وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) ورددناهم إلى دار التكليف (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) مثل قوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا) وقيل : إنه في الدنيا أي ولو أنا رحمناهم وكشفنا ما بهم من جوع ونحوه لتمادوا في ضلالتهم وغوايتهم يترددون عن ابن جريج (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) معناه : انا قد أخذنا هؤلاء لكفار بالجدب ، وضيق الرزق ، والقتل بالسيف (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) أي ما تواضعوا ولا انقادوا (وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي وما يرغبون إلى الله في الدعاء ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : الإستكانة : الدعاء ، والتضرع : رفع اليد في الصلاة (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) أي هذا دأبهم حتى إذا فتحنا عليهم نوعا آخر من العذاب وذلك

حين دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم فقال : اللهم سنين كسني يوسف ، فجاعوا حتى يوم بدر عن ابن عباس وقيل : فتحنا عليهم بابا من عذاب جهنم في الآخرة عن الجبائي وقيل : ذلك حين فتح مكة وقال أبو جعفر عليه‌السلام : هو في الرجعة (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي آيسون من كل خير متحيّرون. ثم بيّن سبحانه أنه المنعم على خلقه بأنواع النعم فقال (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي خلق هذه الحواس ابتداء لا من شيء ، وخصّ هذه الثلاثة لأن الدلائل مبنية عليها ، ينظر العاقل ، ويسمع ويتفكر فيعلم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي يقل شكركم لها وقليلا منصوب على المصدر وتقديره : تشكرون قليلا لهذه النعم التي أنعم الله بها

٤٥٧

عليكم وقيل معناه أنكم لا تشكرون ربّ هذه النعم فتوحدونه عن مقاتل (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) أي خلقكم وأوجدكم (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يحييكم في أرحام أمهاتكم ، ويميتكم عند انقضاء آجالكم (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وله تدبيرهما بالزيادة والنقصان وقيل : وله ملك اختلافهما وهو ذهاب أحدهما ومجيء الآخر (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعلمون بأن تفكروا فتعلموا أن لذلك صانعا قادرا عالما حيّا حكيما لا تحسن العبادة إلا له.

٨١ ـ ٩٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن الكفار المكذبين بالبعث فقال (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) المنكرون للبعث بعد الموت ؛ ثم حكى مقالتهم فقال (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) وهذا جهل منهم لأنّهم لو تفكروا في أن النشأة الأولى أعظم منه لما استعظموه ، وقد اقروا بأن الله خالقهم (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا) أي وعد آباؤنا هذا الذي تعدنا من البعث (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مجيئك فما صدق وعدهم (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما هذا إلا أكاذيب الأولين ، قد سطروا ما لا حقيقة له ، وإنما يجري مجرى حديث السمر الذي يكتب للاطراف به. ثم احتج على هؤلاء المنكرين للبعث والنشور فقال (قُلْ) يا محمد لهم (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) أي لمن خلق الأرض وملكها ومن فيها من العقلاء (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ) في الجواب (لِلَّهِ) وإنما قال ذلك لأنهم كانوا يقرون بأن الله هو الخالق (قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي فقل لهم عند ذلك : أفلا تتفكرون فتعلمون انه تعالى قادر على ذلك ، ومن قدر عليه قدر على إحياء الموتى لأنه ليس ذلك بأعظم منه؟ ثم زاد في الحجة فقال (قُلْ) يا محمد لهم أيضا (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ) أي من مالكها والمتصرف فيها (وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي ومن مالك العرش ومدبّره لأنهم كانوا يقرّون بأن الله خالق السماوات ، وان الملائكة سكان السماوات ، والعرش عندهم عبارة عن الملك. أخبر أنهم (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) في الجواب عن ذلك ، أي إن رب السماوات ورب العرش هو الله ومن قرأ لله فالمعنى أنها لله (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي فعند ذلك يلزمهم الحجة فقل لهم : أفلا تتقون عذابه على جحد توحيده ، والإشراك في عبادته ، وفي انكار البعث. ثم زاد في الحجة فقال (قُلْ) يا محمد لهم أيضا (مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) والملكوت من صفات المبالغة في الملك كالجبروت والرهبوت وقال مجاهد : ملكوت كل شيء خزائن كل شيء (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي يمنع من السوء من يشاء ولا يمتنع منه من أراده بسوء يقال : أجرت فلانا إذا استغاث بك فحميته ، وأجرت عليه إذا حميت عنه ؛ ويحتمل أن يكون أراد في الدنيا ، أي من قصد عبدا من عباده بسوء قدر على منعه ، ومن أراد الله بسوء لم يقدر على منعه أحد ، ويحتمل أن يكون أراد في الآخرة ، أي يجير من العذاب ولا يجار عليه منه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون ذلك فاجيبوا (سَيَقُولُونَ) في الجواب (لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي فكيف يخيل إليكم الحق باطلا ، والصحيح فاسدا مع وضوح الحق وتمييزه من الباطل وقيل معناه : فكيف تعمون عن هذا وتصدون عنه ، من قولهم : سحرت أعيننا فلم نبصر وقيل معناه : فكيف تخدعون ويموّه عليكم كقول امرىء القيس «ونسحر بالطّعام وبالشراب» أي ونخدع (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) معناه : إنا جئناهم بالحق ، وبينا لهم الحق الذي فيه بيان كذبهم ، ولكنهم اصرّوا على باطلهم وكذبهم.

٩١ ـ ١٠٠ ـ ثم أكّد سبحانه ما قدّمه من أدلة التوحيد بقوله

٤٥٨

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) فمن المحال أن يكون له ولد (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) نفى عن نفسه الولد والشريك على آكد الوجوه (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) والتقدير : إذ لو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق ، أي لميّز كل إله خلقه عن خلق غيره ومنعه من الإستيلاء على ما خلقه ، أو نصب دليلا يميّز به بين خلقه وخلق غيره ، فإنه كان لا يرضى أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي ولطلب بعضهم قهر بعض ومغالبته ، وهذا في الدنيا وفي هذا دلالة عجيبة في التوحيد ودلالة على إعجاز القرآن لأنه لا يوجد في كلام العرب كلمة وجيزة تضمنت ما تضمنته هذه فإنها قد تضمنت دليلين باهرين على وحدانية الله وكمال قدرته. ثم نزّه نفسه عما وصفوه به فقال (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي عمّا يصفه به المشركون من اتخاذه الولد والشريك (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي يعلم ما غاب وما حضر فلا يخفى عليه شيء (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) والمعنى : أنه عالم بما كان وبما سيكون وبما لم يكن إن لو كان كيف يكون ، ومن كان بهذه الصفة لا يكون له شريك لأنه الأعلى من كل شيء في صفته. ثم قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قُلْ) يا محمد (رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) أي إن اريتني ما يوعدون من العذاب والنقمة ؛ يعني القتل يوم بدر (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي مع القوم الظالمين والمعنى : فأخرجني من بينهم عند ما تريد احلال العذاب بهم لئلا يصيبني ما يصيبهم (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) هذا ابتداء كلام من الله تعالى معناه : أنا لا نعاجلهم بالعقوبة مع قدرتنا على ذلك ولكن ننظرهم ونمهلهم لمصلحة توجب ذلك (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أي ادفع بالأغضاء والصفح اساءة المسيء (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي بما يكذبون ويقولون من الشرك والمعنى : أنا نجازيهم بما يستحقونه. ثم أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (وَقُلْ) يا محمد (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ) أي اعتصم بك (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) أي من نزغاتهم ووساوسهم عن ابن عباس والحسن والمعنى : من دعائهم إلى الباطل والعصيان ، ومن شرورهم في كل شيء يخاف فيه من ذلك (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي يشهدوني ويقاربوني ويصدّوني عن طاعتك (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) يعني ان هؤلاء الكفار إذا اشرفوا على الموت سألوا الله تعالى عند ذلك الرجعة إلى دار التكليف فيقول أحدهم : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) أي في تركتي والمعنى : اؤدّي عنها حق الله تعالى وقيل معناه في دنياي فإنه ترك الدنيا وصار إلى الآخرة وقيل معناه : أعمل صالحا فيما فرطت وضيّعت ، أي في صلاتي وصيامي وطاعاتي ، ثم قال سبحانه في الجواب عن سؤالهم (كَلَّا) أي لا يرجع إلى الدنيا (إِنَّها) أي مسألة الرجعة (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) أي كلام يقوله ولا فائدة له في ذلك (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي ومن بين أيديهم (بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي حاجز بين الموت والبعث في يوم القيامة من القبور عن ابن زيد وقيل حاجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا وهم فيه إلى يوم يبعثون عن ابن عباس ومجاهد وقيل البرزخ الامهال إلى يوم القيامة وهو القبر وكل فصل بين شيئين هو برزخ.

١٠١ ـ ١١٠ ـ (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) المراد به نفخة البعث والصور : جمع صورة ، أي إذا نفخ فيه الأرواح واعيدت احياء

٤٥٩

والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل بالصوت العظيم الهائل على ما وصفه الله تعالى علامة لوقت إعادة الخلق (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي لا يتواصلون بالأنساب ، ولا يتعاطون بها مع معرفة بعضهم بعضا عن الحسن والمعنى : انه لا يرحم قريب قريبه لشغله عنه ، فإن المقصود بالأنساب دفع ضرّ ، أو جرّ نفع ، فإذا ذهب هذا المقصود فكأن الأنساب قد ذهبت ومثله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) وقيل معناه : لا يتفاخرون بالأنساب كما كانوا يفعلونه في الدنيا ، عن ابن عباس والجبائي. وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : كل حسب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا حسبي ونسبي (وَلا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله وخبره كما كانوا يسألون في الدنيا لشغل كل واحد بنفسه (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بالطاعات (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الناجون (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) عن الطاعات (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) وقد تقدّم تفسير الآيتين واختلاف المفسرين في كيفية الميزان والوزن في سورة الأعراف (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي يصيب وجوههم لفح النار ولهبها (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) تتقلص شفاههم وتبدو أسنانهم (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي يقال لهم : ألم تكن حججي وبيّناتي وأدلّتي تقرأ عليكم في دار الدنيا؟ (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) أي شقاوتنا ومعناهما واحد هو المضرة اللاحقة في العافية ، والسعادة المنفعة اللاحقة في العافية ويقال لمن حصل في الدنيا على مضرة فادحة شقي والمعنى : استعلت علينا سيئاتنا التي أوجبت لنا الشقاء (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي ذاهبين عن الحق (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) أي من النار (فَإِنْ عُدْنا) لما تكره من الكفر والتكذيب والمعاصي (فَإِنَّا ظالِمُونَ) لأنفسنا قال الحسن هذا آخر كلام يتكلم به أهل النار ثم بعد ذلك يكون لهم شهيق كشهيق الحمار (قالَ اخْسَؤُا فِيها) أي ابعدوا في النار (وَلا تُكَلِّمُونِ) وهذه مبالغة للاذلال والإهانة وإظهار الغضب عليهم لأن من لا يكلم اهانة له فقد بلغ به الغاية في الاذلال وقيل معناه ولا تكلمون في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم وهي على صيغة النهي وليست بنهي ، لأن الأمر والنهي مرتفعان في الآخرة لارتفاع التكليف (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) أي طائفة من عبادي وهم الأنبياء والمؤمنون (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي يدعون بهذه الدعوات في الدنيا طلبا لما عندي من الثواب (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) أنتم يا معشر الكفار (سِخْرِيًّا) أي كنتم تهزؤون وتسخرون منهم وقيل معناه : تستعبدونهم وتصرفونهم في أعمالكم وحوائجكم كرها بغير أجر وقيل : إنهم كانوا إذا آذوا المؤمنين قالوا : انظروا إلى هؤلاء رضوا من الدنيا بالعيش الدني طمعا في ثواب الآخرة ، وليس وراءهم آخرة ولا ثواب ، فهو مثل قوله : (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) أي نسيتم ذكري لاشتغالكم بالسخرية منهم ، فنسب الأنساء إلى عباده المؤمنين وإن لم يفعلوه بما كانوا السبب في ذلك (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) ظاهر المعنى.

١١١ ـ ١١٨ ـ ثم أخبر سبحانه عن المؤمنين الذين سخر الكافرون منهم في دار الدنيا فقال (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) أي بصبرهم على أذاكم ، وسخريتكم واستهزائكم بهم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) أي الظافرون بما أرادوا ، والناجون في الآخرة ، والمراد بقوله : اليوم أيام الجزاء لا يوم بعينه (قالَ) أي قال الله تعالى للكفار يوم البعث وهو سؤال توبيخ وتبكيت لمنكري البعث (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي في القبور (عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنهم لم يشعروا بطول لبثهم ومكثهم لكونهم أمواتا وقيل : إنه سؤال لهم عن مدة حياتهم في الدنيا لطول لبثهم ومكثهم في النار ، عن الحسن قال : ولم يكن ذلك كذبا منهم لأنهم أخبروا بما

٤٦٠