دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

العقوبة ، سواء كان التكليف ناشئا عن المصلحة أو المفسدة في المتعلّق ، أم صدر لأغراض أخر ولكنّه مختصّ بالمعصية.

العنوان السادس الذي يمكن أن يكون الملاك : هو الطغيان على المولى وهتك حرمته والخروج عن رسم العبوديّة وإن كان العاصي والمتجرّي مشتركين فيه ، ولكن لا يمكن جعله مناطا مستقلّا لاستحقاق العقوبة ، فإنّه مستلزم لتعدّد العقوبة على معصية واحدة بعد فرض كون العنوان الخامس ملاكا بنظر العقل والعقلاء ، ففي معصية واحدة يتحقّق الملاكان ويترتّب عليهما عقابان ، مع أنّه ليس بصحيح ، كما ذكرناه في مقدّمة البحث.

فالمستفاد ممّا ذكرناه أنّ ما يصلح للمناطيّة هو العنوان الخامس الذي يختصّ بالمعصية الواقعيّة ، وبهذا يظهر ضعف ما ذكره المحقّق الأصفهاني قدس‌سره ، فإنّ عدم صلاحية العنوان الرابع للملاكيّة لا يستلزم لأن يكون العنوان السادس ملاكا للعقاب ، فلا يتحقّق في التجرّي مناطا لاستحقاق العقوبة كعدم تحقّق الحرمة الشرعيّة فيه.

ولكنّ القائلين باستحقاق العقوبة في التجرّي اختاروا طرقا متعدّدة للتفصّي من تعدّد العقوبة في معصية واحدة ، وقال المحقّق العراقي قدس‌سره (١) : إنّ الملاك لاستحقاق العقوبة هو الطغيان على المولى والجرأة عليه ، وهذه جهة مشتركة بين العاصي والمتجرّي ، بلا فرق بينهما حتّى في الشدّة والضعف والنقص والكمال ، فكما أنّ العاصي يكون طاغيا على المولى وخارجا عن رسم العبوديّة ، كذلك المتجرّي يكون طاغيا عليه ، فلا مجال لتعدّد العقوبة في المعصية.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٢ : ٣١.

٤١

ولكن بعد مراجعة الوجدان يتّضح كمال الفرق بين العاصي والمتجرّي كما ذكرناه ، وهذا يقتضي عدم تحقّق العقوبة في التجري أو تعدّدها في المعصية.

وقال صاحب الفصول قدس‌سره (١) بتداخل العقابين في المعصية.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (٢) بأنّه إن اريد بتداخل العقابين وحدة العقاب فلا وجه له ، مع كون التجرّي عنوانا مستقلّا في استحقاق العقاب ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

وإن اريد عقاب زائد على عقاب محض التجرّي فهذا ليس تداخلا ؛ لأنّ كلّ فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح يزيد على ما كان فيه أحدهما.

والتحقيق في المسألة : أنّ التجرّي بالمعنى الاصطلاحي لا يكون قابلا للاجتماع مع المعصية ؛ إذ العمل الخارجي إمّا يكون تجرّيا ، وإمّا يكون معصية ، فينتفي موضوع مسألة التداخل ، ولا تصل النوبة إلى البحث من أنّ المقصود من التداخل ما هو ، فعلى فرض مناطيّة الطغيان لاستحقاق العقوبة يكون لكليهما عنوانان مستقلّان للعقاب ، ولا يمكن اجتماعهما في مورد ، فلا مجال لهذا البحث ، من دون فرق بين القول باستحقاق العقوبة في باب التجرّي وعدمه.

ولا وجه لكون الفعل المتجرّى به موجبا لاستحقاق العقوبة ؛ إذ لا قبح فيه ، والاعتقاد المخالف للواقع لا يوجب تبديل عنوان حسنه بعنوان القبح ؛ لعدم تأثير جهل المكلّف وخطأه الاعتقادي في الواقعيّة الخارجيّة عقلا ، ولا نرى وقوع مقطوع الخمريّة منهيّ عنه في الأدلّة ، وبالتالي لا يكون حراما ، فلا دليل على استحقاق العقوبة في الفعل المتجرّى به بعد ما لم يكن قبيحا ولا محرّما.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨٩.

(٢) الرسائل : ٧.

٤٢

ولكن ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) دليلا آخر لعدم القبح والحرمة واستحقاق العقوبة فيه ، وهو : أنّ الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع الحرمة لا يكون اختياريّا ، فإنّ القاطع لا يقصده إلّا بما قطع أنّه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي ـ كعنوان الخمريّة ـ لا بعنوانه الطارئ الآلي ـ أي عنوان مقطوع الخمريّة ـ بل لا يكون غالبا بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه ، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا مع كونه مغفولا عنه؟! ولا يكاد تكون صفة موجبة لذلك إلّا إذا كانت اختياريّة.

ثمّ ذكر في ذيل كلامه بعد القول بعدم إراديّة الإرادة وذاتيّة الكفر والعصيان وعدم اختياريّة السعادة والشقاوة ، أنّه لم يصدر من المتجرّي فعل اختياري ، فإنّ ما أراده من شرب الخمر لم يتحقّق في الخارج ، وما تحقّق فيه من شرب الماء لم يكن مقصودا له.

ونصّ كلامه أنّه : بل عدم صدور فعل منه في بعض أفراده بالاختيار ـ كما في التجرّي ـ بارتكاب ما قطع أنّه من مصاديق الحرام ، فلا معنى للحكم بقبح الفعل المتجرّى به ، أو حرمته أو استحقاق العقوبة عليه.

ولكن لا شكّ في بطلان هذا الكلام ؛ إذ الوجدان حاكم بأنّه ليس كالمكره ؛ لصدور شرب المائع عنه عن اختيار ، وإن لم يصدر شرب الماء منه اختيارا ، ولازم كلامه قدس‌سره عدم بطلان الصوم من شرب مقطوع الخمريّة إذا كان في الواقع ماء ؛ لعدم صدور أيّ فعل اختياري منه ، وهذا ليس قابلا للالتزام ، فلا يصحّ هذا الاستدلال.

والحاصل : أنّه لا يتحقّق في الفعل المتجرّي به جهة مقبّحة ، ولا يدلّ دليل

__________________

(١) حاشية الرسائل : ١٣ ، كفاية الاصول ٢ : ١٤ ـ ١٦.

٤٣

على حرمته الشرعيّة ، ولا محالة تنتفي مسألة استحقاق العقوبة.

إلى هنا تمّ البحث في باب التجرّي ، وجميع ما ذكرناه فيه يجري في باب الانقياد أيضا ، طابق النعل بالنعل.

٤٤

الإرادة اختياريّة أم لا؟

ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) قد تعرّض لمسألة الإرادة وعدم إراديّتها ، ولا بدّ لنا من ذكرها إجمالا ، ونقول : الكلام هنا يقع في مسائل :

الأولى : أنّه تتحقّق هنا قاعدة كلّية ، وهي : أنّ كلّ فعل اختياريّ ـ سواء كان من الأفعال الجوارحيّة أم الجوانحيّة ـ لا بدّ وأن يكون مسبوقا بالإرادة والاختيار.

ثمّ وقع البحث في نفس الإرادة من حيث كونها اختياريّة أم لا ، والالتزام بعدم اختياريّتها مستلزم لعدم اختياريّة أساس جميع الأفعال الاختياريّة ، فلا مجال لترتّب الآثار من الثواب والعقاب عليها ؛ إذ كيف يمكن تعلّق التكليف بما كان أساسه اضطراريّا ، فلا يمكن القول بعدم اختياريّة الإرادة.

وإن قلنا باختياريّتها فتحتاج إلى إرادة اخرى ؛ إذ لا بدّ في كلّ فعل اختياري أن يكون مسبوقا بالإرادة ، وينقل الكلام إلى الإرادة الثانية ، وهي إن كانت اختياريّة تحتاج إلى إرادة اخرى للقاعدة المذكورة ، فإن كانت هذه الإرادة هي الاولى لزم الدور ، وإن كانت إرادة ثالثة فيلزم التسلسل إلى ما لا نهاية ، بعد عدم إمكان الالتزام باضطراريّة الإرادة الثانية كالاولى ؛ إذ لا يبقى

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ١٤.

٤٥

مجال لاستحقاق العقوبة على المخالفة واستحقاق المثوبة على الموافقة.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) في مقام الجواب عنه : إنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار إلّا أنّ بعض مبادئه غالبا يكون وجوده بالاختيار ؛ للتمكّن من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللّوم والمذمّة.

ويستفاد من ذيل كلامه قدس‌سره أنّ المراد من بعض المبادئ الذي يكون غالبا بالاختيار هو العزم وما بعده ، وأنّ المبادئ التي تتحقّق قبله ـ مثل : تصوّر المراد والتصديق بفائدته والميل النفساني والرغبة إليه ـ تكون غير اختياريّة ، بخلاف العزم والشوق المؤكّد وتحريك العضلات نحو المراد ؛ إذ يمكن للإنسان بعد تحقّق المقدّمات ترك المراد لترتّب العواقب والمفاسد عليه.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ لازم هذا البيان التفصيل بين صورة الغالب وغير الغالب ، وأنّ التكليف وآثاره لا يتحقّق في صورة غير الغالب ، وهذا ممّا لا يكون قابلا للالتزام ، ولم يلتزم به أحد.

وثانيا : ما معنى اختياريّة العزم وما بعده؟ إن كانت بمعنى المسبوقيّة بإرادة اخرى فننقل الكلام إليها ، ويعود إشكال الدور والتسلسل بعينه.

وإن قلت : لا يلزم في العزم وما بعده المسبوقيّة بالإرادة.

قلنا : ما الدليل لنقض القاعدة المذكورة هنا ، ولذا لا يندفع الإشكال بهذا البيان.

وأجاب المرحوم صدر المتألّهين عن الإشكال في كتاب الأسفار بما حاصله : أنّ الوجدان حاكم بالفرق بين الأفعال الصادرة عن الإنسان بالاختيار ـ مثل : حركة اليد الناشئة عن الإرادة ـ والأفعال الصادرة عنه

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٦

من غير اختيار ، مثل : حركة يد الإنسان المبتلى بمرض الارتعاش ، فإن لاحظنا الأفعال الاختياريّة بنظر العرف والعقلاء يصحّ تعلّق التكليف بها وجعل القانون بالنسبة إليها ، وترتّب الثواب والعقاب والمدح والذمّ على موافقته ومخالفته ، فيكون التكليف في محدودة الأفعال الاختياريّة قابلا للجعل والتصويب.

وإن لاحظناها بنظر فلسفي بعد ارتباط الفلسفة بالواقعيّات والحقائق يصحّ القول بأنّ الفعل الاختياري ما يكون مسبوقا بالإرادة ، ومعلوم أنّ الإرادة واقعيّة نفسانيّة كسائر الصفات النفسانيّة ، فلا بدّ لنا من ملاحظة أوصاف مشابهة للإرادة لاستفادة أنّ نفس الإرادة هل تقع متعلّقا لإرادة اخرى أم لا؟

ونقول : إنّ صفة الحبّ من الصفات النفسانيّة ذات الإضافة ويتوقّف وجودها بالمحبّ والمحبوب ، ولذا يصحّ السؤال هنا عن المحبّ ومتعلّق الحبّ بأنّه بما تعلّق؟ ومن المحبّ؟ فلا مجال للسؤال عمّا كان خارجا عن دائرة الحبّ والمحبّ والمحبوب ، كقولنا : هل تعلّق بحبّك حبّ آخر أم لا؟ حتّى ننقل الكلام إلى الحبّ الثاني ، وهكذا ؛ إذ لا واقعيّة وراء ذلك.

وهكذا في باب العلم فإنّه أيضا صفة ذات إضافة إلى العالم والمعلوم ، وإذا تحقّق العلم تتحقّق ثلاثة عناوين ، ويصحّ السؤال في محدوديّتها ، ولا يصحّ السؤال : هل لك علم بعلمك؟ حتّى يلزم الإشكال المذكور ؛ لعدم تحقّق واقعيّة رابعة حتّى نسأل عنها.

والإرادة نظير العلم والحبّ واقعيّة نفسانيّة ذات الإضافة وتحقّقها متوقّف على تحقّق المريد والمراد ، ولا مجال هنا أيضا للسؤال عن أنّ نفس الإرادة المتعلّقة بشيء المراد هل تقع متعلّقة لإرادة اخرى أم لا؟ هذا تمام كلامه قدس‌سره.

٤٧

والتحقيق : أنّ هذا البيان وإن كان صحيحا ولكنّه ليس بكامل ؛ إذ يصحّ السؤال عن منشأ الإرادة التي تكون واقعيّة من الواقعيّات النفسانيّة ؛ لكونها أمر حادث ومسبوقة بالعدم ، ويمكن أن يقال : إنّ العامل المؤثّر في تحقّق الإرادة أمر غير اختياري ولذا لا بدّ لنا من ذكر متمّم لهذا البيان بأنّ أفعال الإنسان وأعماله قد تكون جوارحيّة وقد تكون جوانحيّة ، أمّا الأعمال الجوارحيّة فبعضها اختياري وبعضها غير اختياري كحركة يد المرتعش ، والفارق بينهما أنّ العمل الاختياري مسبوق بالإرادة بخلاف العمل الاضطراري.

وأمّا الأعمال الجوانحيّة والأوصاف النفسانيّة ـ كالإرادة ـ فلا بدّ لها من المقدّمات والمبادئ مثل التصوّر والتصديق بالفائدة ... ولا شكّ في أنّ التصوّر أيضا واقعيّة قائمة بالنفس يحتاج في وجوده إلى شخص متصوّر وشيء متصوّر ، فهل هو اختياري أم لا؟

والقول بعدم اختياريّته خلاف الوجدان ، فإنّ الاستاذ إذا أمر تلامذته بتهيئة العناوين الفقهيّة لأخذ واحد منها لغرض التحقيق حوله يكون مختارا في تصوّرها واختيار واحد منها بعد إتيانهم بها.

وإن قلنا : باختياريّته فما معنى اختياريّته؟ هل تجري هنا أيضا القاعدة المذكورة بأنّ كلّ فعل اختياري لا بدّ وأن يكون مسبوقا بالإرادة؟ والوجدان يأبى ذلك ، فلا محالة تكون القاعدة المذكورة محدودة بالأعمال الجوارحيّة ، وأمّا اختياريّة التصوّر فتكون بمعنى عناية الباري بحصّة من خلّاقيّته إلى النفس الإنسانيّة بمقتضى قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)(١) ، والنفس تقدر على أن تتصوّر بالقدرة الإلهيّة التي أعطاها الباري ، وهكذا التصديق بالفائدة فهو أمر

__________________

(١) الحجر : ٢٩.

٤٨

اختياري ، لا بمعنى اختياريّته المسبوقة بالإرادة ؛ لاستلزامه للدور والتسلسل مع مخالفته للوجدان ، بل معناها القدرة على التصديق بالفائدة بعناية الله تبارك وتعالى ، وهكذا نفس الإرادة فإنّها من الامور الاختياريّة لا بمعنى المسبوقيّة بالإرادة ، بل بمعنى إهداء الخالق حصّة وشعاعا من خلّاقيّته إلى النفس الإنسانيّة ؛ ولذا يكون الإنسان قادرا على خلق التصوّر والتصديق بالفائدة والإرادة ، ومن هنا يقول : أنا القادر على الإرادة.

والقاعدة المذكورة هنا نظير ما يقول به المادّيّون : بأنّ كلّ موجود يحتاج إلى العلّة ، وأنّه يشمل الواجب الوجود أيضا ، والحال أنّ الافتقار إلى العلّة يرتبط بالماهيّات الممكنة التي تكون نسبتها إلى الوجود والعدم على السواء ، وأمّا واجب الوجود فلا معنى لاحتياجه في الوجود إلى العلّة ؛ إذ الوجود له ضروريّ الثبوت فلا بدّ من ملاحظة محدودة هذه القواعد.

ويؤيّد اختياريّة الإرادة ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في باب المشتقّ من إطلاق المشتقّات على الواجب الوجود والممكن الوجود على السواء ، فلا فرق بين قولنا : «الله تعالى عالم» وقولنا : «الإنسان عالم» من حيث مفهوم العالم ، والفرق بينهما من حيث إنّ علم الله تعالى عين ذاته ، وعلم الإنسان خارج عن ذاته وزائد عليه ، وأنّه تعالى عالم بكلّ شيء وعلم الإنسان محدود ، ولكن لا فرق من حيث إطلاق العالم عليهما.

ونحن نقول : يتحقّق هذا المعنى في باب الإرادة أيضا ، فإنّ إطلاق المريد على الله تعالى وعلى الإنسان على السواء ، إلّا أنّ إرادة الله تعالى عين ذاته وإرادة الإنسان أمر حادث توجدها النفس الإنسانيّة ، وهذا فرق الواجب والممكن لا فرق الإرادة فيهما.

٤٩

فالملاك في اختياريّة الفعل هو صدوره عن إرادة من دون أن تكون هذه الإرادة مسبوقة بإرادة اخرى ، فإنّ هذا المعنى في إرادة الباري مستلزم لأن يكون سبحانه وتعالى محلّا للحوادث ، فإنّ حدوث صفة في محلّ مستلزم لحدوث قابليّة واستعداد في المحلّ لها ، فيلزم تركّبه تعالى من جهة الفعليّة بالنظر إلى الذات وجهة القابليّة والاستعداد بالنظر إلى حدوث الإرادة ، والمركّب محتاج إلى أجزائه ، والمحتاج ممكن ، والممكن لا يكون واجبا لذاته ، فيلزم انقلاب الواجب إلى الممكن ، وهو محال.

المسألة الثانية : في بيان المراد من جملة : «الذاتي لا يعلّل» وأنّ السعادة والشقاوة من مصاديقه أم لا؟

والذاتي قد يطلق ويراد به ذاتي باب الإيساغوجي ـ أي الكلّيات الخمسة ـ والمراد منه الجنس والفصل والنوع المركّب منهما ، وقد يطلق ويراد به ذاتي باب البرهان ، ومعناه أعمّ من الذاتي في باب الإيساغوجي ؛ لأنّه يشمل لوازم الماهيّة كالزوجيّة للأربعة ، بل مثل الوجود للواجب الوجود ، والامتناع لشريك الباري.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المراد من الذاتي في قاعدة «الذاتي لا يعلّل» هو الذاتي في باب البرهان ، وأمّا الدليل على أنّه لا يعلّل فهو : أنّ كلّ محمول إذا قسناه إلى موضوعه لا يخلو عن أحد الامور التالية :

الأوّل : أن يكون المحمول ضروريّ الثبوت بالنسبة إلى موضوعه كالحيوان الناطق بالقياس إلى الإنسان.

الثاني : أن يكون المحمول ضروري العدم بالنسبة إليه كالحيوان الناهق بالقياس إلى الإنسان.

٥٠

الثالث : أن يكون المحمول بالنسبة إليه متساوي الطرفين كالوجود بالقياس إلى ماهيّة الإنسان.

ومن الواضح أنّ التعليل في الأوّل يخالف كون المحمول ضروريّ الثبوت لموضوعه ، كما أنّ التعليل في الثاني ينافي كونه ضروري العدم للموضوع ، وأمّا إذا كانت النسبة متساوية الطرفين فلا بدّ من العلّة في اتّصاف الموضوع بالمحمول ؛ لأنّ ما يمكن أن يتّصف بشيء وأن لا يتّصف به لا يمكن أن يتّصف به بلا علّة ، ولذا يصحّ السؤال عن علّة اتّصاف الإنسان بالوجود واتّصاف زيد بالقيام ، ولا يصحّ السؤال عن علّة ناطقيّة الإنسان وإنسانيّته ، وعن موجوديّة واجب الوجود ، وامتناعيّة شريك الباري ، وعن عدم ناهقيّة الإنسان ؛ إذ الذاتي لا يعلّل.

المسألة الثالثة : أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره صرّح بأنّ السؤال عن شقاوة الإنسان وسعادته يكون بمنزلة السؤال عن ناطقيّة الإنسان وناهقيّة الحمار ؛ لكونهما ذاتيّين له ، والذاتي لا يعلّل ، ولا بدّ لنا من ملاحظة السعادة والشقاوة من حيث المفهوم ، وأنّ الإنسان في أيّ مرحلة يتّصف بهما.

ولا يخفى أنّه لا فرق بين العرف والشرع في مفهوم السعادة والشقاوة ، والسعيد يقال لمن كان واصلا بآماله النفسانيّة وأغراضه الدنيويّة ، والشقيّ في مقابله ، إلّا أنّ الآمال والأهداف تتفاوت بحسب الأشخاص والأفراد ، وبنظر الشرع والعقلاء ؛ إذ الشارع يلاحظ الدنيا بعنوان المزرعة والمعبر للآخرة والجنّة ولذا يعبّر في القرآن : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي

٥١

الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ...)(١).

وأمّا العقلاء الغير المتديّنين فيعتقدون بأنّ السعادة عبارة عن الإيصال إلى الأهداف والآمال الدنيويّة من مقام الرئاسة ... بحسب اختلاف أنظارهم ، والبحث هنا حول السعادة والشقاوة بنظر الشرع ، وقد عرفت في الآية السابقة أنّ السعادة طريق ينتهي إلى الجنّة ، والشقاوة طريق ينتهي إلى النار.

وآية اخرى تكون بمنزلة التفسير لها ، وهي قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى * وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)(٢) ، والظاهر أنّ السعادة عبارة عن الخوف من مقام الربّ ، ونهي النفس الأمّارة بالسوء عن الهوى بالاختيار والإرادة ، وهذا يوجب الإيصال إلى الجنّة ، والشقاوة عبارة عن الطغيان واختيار الحياة الدنيويّة ، وهذا ينتهي إلى النار ، ويستفاد من إسناد الفعل إلى الإنسان أنّهما أمران اختياريّان.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّه لا ترتبط السعادة والشقاوة بقاعدة «الذاتي لا يعلّل» ، فإنّهما ليستا من مقولة الجنس ولا الفصل ، ولا النوع بالنسبة إلى الإنسان ، كما هو واضح.

وهكذا لا يكونا من لوازم ماهية الإنسان ؛ إذ تتحقّق في لازم الماهيّة خصوصيّتان :

الاولى : أنّ تصوّر الماهيّة يوجب الانتقال إلى اللازم.

الثاني : أنّه لا مدخليّة للوجود الذهني والخارجي في لازم الماهيّة ؛ لكون

__________________

(١) هود : ١٠٦ ـ ١٠٨.

(٢) النازعات : ٣٧ ـ ٤١.

٥٢

الملزوم نفس الماهيّة ، مثل : ملزوميّة الأربعة للزوجيّة. وكلتاهما مفقودتان هاهنا ؛ إذ لا يوجب إطلاق كلمة الإنسان الانتقال إلى السعادة والشقاوة وجدانا ، مع أنّ اتّصاف الإنسان بالسعادة أو الشقاوة متوقّف على وجوده الخارجي وكونه عاقلا وبالغا وداخلا في دائرة التكليف ، ثمّ موافقة التكاليف أو مخالفتها ، فكيف يمكن كونهما من لوازم ماهيّة الإنسان؟!

والحاصل : أنّ ما يترتّب على الوجود ويكون من توابع الوجود يصحّ السؤال عن علّته كصحّة السؤال عن علّة الوجود ، فلا تكون السعادة والشقاوة من مصاديق قاعدة «الذاتي لا يعلّل».

ومن الممكن أن يكون منشأ ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره الرواية النبويّة المعروفة ، أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الشقيّ شقيّ في بطن أمّه ، والسعيد سعيد في بطن أمّه». (١)

واستفاد منها أنّ السعيد في عالم الرحم ينطبق عليه عنوان السعيد ، والشقيّ أيضا فيه ينطبق عليه عنوان الشقيّ ، ولذا تكون السعادة والشقاوة داخلتين في ذات الإنسان.

وفيه : أوّلا : أنّ هذه الرواية دليل على خلافه ، فإنّ ما يكون ذاتيّا للإنسان يتحقّق معه في مرحلة الماهيّة ، مثل ذاتيّة الناطقيّة له ، ولا يختصّ بمرحلة من مراحل الوجود فقط ، فنفس تحديد السعادة والشقاوة بالمرحلة الاولى من مراحل الوجود الخارجي ، وهي بطن الامّ ينافي ذاتيّتهما للإنسان.

وثانيا : أنّ للرواية معنى عقلائيّا ، وهو : أنّه معلوم عدم صحّة القضاوة بملاحظة ظواهر الناس ؛ إذ لا علم لنا بعاقبتهم ، ولكن إذا أخبر مخبر صادق بأنّ عاقبة الشخص الفلاني تنتهي إلى السعادة ننظر إليه من حين الإخبار

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ٣٥٦ ، الحديث ٣.

٥٣

بنظرة السعيد ، مع أنّه لم يعمل بالفعل عمل الخير وما يوجب سعادته ، وهكذا إذا اخبر بأنّ عاقبة فلان تنتهي إلى الشقاوة ، فننظر إليه من حين الإخبار بنظرة الشقيّ مع أنّه لم يعمل بعد ما يوجب الشقاوة.

ويؤيّده ما نقله المفيد قدس‌سره عن سالم بن أبي حفصة أنّه قال : قال عمر بن سعد للحسين عليه‌السلام : يا أبا عبد الله إنّ قبلنا ناسا سفهاء يزعمون أنّي أقتلك؟ فقال له الحسين عليه‌السلام : «إنّهم ليسوا بسفهاء ولكنّهم حلماء ، أما إنّه تقرّ عيني أن لا تأكل برّ العراق بعدي إلّا قليلا». (١)

والمستفاد من ذلك أنّ أهل العراق نظروا إلى عمرو بن سعد بنظرة الشقاوة ؛ لعلمهم بكونه قاتلا للحسين عليه‌السلام بإخبار أمير المؤمنين عليه‌السلام بذلك ، فمعنى الرواية أنّه يصحّ أن يقال في حقّ السعيد : إنّه سعيد وإن كان في بطن أمّه ، وفي حقّ الشقيّ : إنّه شقيّ وإن كان في بطن أمّه ، لا أنّ السعادة والشقاوة ذاتيّتان للإنسان.

ونضيف إليه ما ورد بعنوان التفسير للرواية النبويّة عن موسى بن جعفر عليهما‌السلام وهو ما ذكره ابن أبي عمير أنّه : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن معنى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الشقيّ من شقي في بطن أمّه ، والسعيد من سعد في بطن أمّه» ، فقال : «الشقيّ من علم الله وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل أعمال السعداء» (٢).

وهذا هو معنى الرواية ولا ترتبط السعادة والشقاوة بالماهيّة وأجزاء الماهيّة ، فلا يصحّ تشبيه الإيمان والكفر بالماهيّة وأجزائها.

__________________

(١) الإرشاد : ٤٨٩.

(٢) البحار ٥ : ١٥٧ ، الحديث ١٠.

٥٤

ويمكن أن يتوهّم أنّ الكفر والإيمان والسعادة والشقاوة لا تكون من قبيل أجزاء الماهيّة ولوازمها ، بل تكون من قبيل الوجود وعوارضه ، فكما أنّ وجود الإنسان ليس باختياري له كذلك قصر قامته وسواد لونه وكونه جميلا ونحو ذلك ، وهكذا سعادته وشقاوته وإيمانه وكفره يكون من الامور الغير الاختياريّة له ، فالسعيد لا بدّ وأن يكون سعيدا ، والشقيّ لا بدّ وأن يكون شقيّا ولعلّ قول الشاعر ناظرا إلى هذا المعنى :

گليم بخت كسى را كه بافتند سيا

به آب زمزم وكوثر سفيد نتوان كرد

وفيه : أنّ عروض الحالات المتضادّة والمختلفة للإنسان في طول حياته أقوى دليل على عدم صحّة التشبيه المذكور ، كما يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ...)(١).

وهذا دليل على أنّ الإيمان والكفر لا يكونا من قبيل قصر القامة الذي لا ينفك عن الإنسان إلى آخر العمر.

ولكن عرفت أنّ الإنسان مع كونه مختارا في أعماله وأفعاله لا يكون مستقلّا فيها ، فعبارة «بحول الله أقوم وأقعد» يعني صدور القيام والقعود يكون عن اختيار ، مع استنادهما إلى قدرة الله تعالى وقوّته ؛ ومن هنا يقول تبارك وتعالى في القرآن : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)(٢) ، وعدم الاستقلال ليس بمعنى الإجبار وعدم الاختيار ، فلا يصحّ المقايسة بين الكفر والإيمان وعوارض الوجود مثل قصر القامة ، والحاكم بالفرق بينهما هو الوجدان

__________________

(١) النساء : ١٣٧.

(٢) الأنفال : ١٧.

٥٥

والعقل ، والكتاب والسنّة.

ولذا قال الله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً) ، يعني عن إرادة (وَإِمَّا كَفُوراً)(١) ، أي عن اختيار.

والإرادة في قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٢) تكون تكوينيّة ، فإنّ الإرادة التشريعيّة متعلّقة بطهارة جميع الإنسان ، ولكنّ متعلّق الإرادة ما يعبّر عنه بالعصمة ، وليس معنى العصمة امتناع صدور المعصية عن المعصوم وصيرورته كالجدار ، فإنّه لا تكون فضيلة ، والفضيلة ترك ما يكون قادرا على ارتكابه ، والعصمة ما يتحقّق في جميع الإنسان ، ولكن بالنسبة إلى بعض القبائح كالحضور في محضر عامّ عريانا ؛ لبداهة قبح هذا العمل من الإنسان بحيث لا يمكن الترديد فيه لحظة ، ففي عين قدرة الإنسان العاقل المتشخّص على كشف عورته لا يمكن تحقّقه منه ، وهذا المعنى يتحقّق في المعصومين عليهم‌السلام بالنسبة إلى جميع المحرّمات والمكروهات.

فأراد الله أن يكونوا معصومين لا بما أنّهم ليسوا بقادرين على المعصية ، بل في عين قدرتهم كانوا معصومين ، وتعلّق إرادة الله تعالى لا توجب تغيير واقعيّة العصمة عمّا هي عليه ، فمشيّة الله تعالى تعلّقت باختياريّة الإيمان والكفر للإنسان ، واستحقاق العقوبة والمثوبة يترتّب عليها.

__________________

(١) الانسان : ٣.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

٥٦

المسألة الثالثة

في أقسام القطع

القطع إمّا طريقي وإمّا موضوعي ، والمراد من الأوّل : ما لم يتعرّض في الدليل المتضمّن لحكم من الأحكام الشرعيّة لعنوان القطع ، بل تعلّق الحكم بواقعيّة الشيء ، مثل : الخمر حرام ، إلّا أنّ تنجّز الحكم متوقّف على القطع بالحكم والموضوع ، ففي مثل هذا المورد يعبّر عن قطع المكلّف بخمريّة المائع ، وحرمة حكمه بالقطع الطريقي ، وهذا شائع في أدلّة الأحكام.

والمراد من الثاني : ما له دخل في ترتّب الحكم ؛ لتعرّض الشارع لمدخليّته في لسان الدليل ، ويعبّر عنه بالقطع الموضوعي ، ولكنّه ينقسم إلى قسمين :

الأوّل : ما يكون تمام الموضوع للحكم بحيث لا يكون للواقع دخل في الموضوع أصلا ، كما إذا قال : «إذا قطعت بخمريّة المائع فهو حرام» ، فالحكم دائر مدار القطع وجودا وعدما ، سواء كان موافقا للواقع أم مخالفا له.

الثاني : ما يكون جزء الموضوع للحكم ، بحيث يكون الموضوع مركّبا من جزءين : أحدهما نفس الواقع ، والآخر القطع المتعلّق به ، كما إذا قال : «إذا قطعت بخمريّة المائع وكان في الواقع خمرا فهو حرام» ، فالحكم ينتفي بانتفاء أحد الجزءين ، كما ينتفي بانتفائهما معا.

٥٧

ثمّ إنّ القطع الموضوعي على كلا التقديرين تارة يكون مأخوذا في الموضوع على وجه الصفتيّة بأن يكون القطع بما هو صفة خاصّة قائمة بالنفس دخيلا في ترتّب الحكم ، واخرى يكون مأخوذا فيه على وجه الطريقيّة التامّة والكاشفيّة الكاملة ، وثالثة يؤخذ فيه على وجه الطريقيّة والكاشفيّة ، مع قطع النظر عن كونها تامّة أم ناقصة ، والقطع في هذا اللحاظ يشترك مع سائر الأمارات في جهة الكاشفيّة والطريقيّة لوجودها فيهما.

والحاصل : أنّ أقسام القطع الموضوعي ستّة ، ومع ضمّها إلى القطع الطريقي ترقى إلى سبعة أقسام.

ثمّ لا إشكال في إمكان القطع الطريقي عقلا ، والإشكال في إمكان بعض أقسام القطع الموضوعي ، والمحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) قائل بعدم إمكان أخذ القطع على وجه الصفتيّة في الموضوع ، لا بعنوان تمام الموضوع ولا بعنوان جزء الموضوع ؛ لأنّ الكاشفيّة ذاتيّة للقطع ، بل ليس القطع شيئا زائدا على الكشف ليعقل أخذه بما هو صفة وبقطع النظر عن كاشفيّته ؛ لأنّ حفظ الشيء مع قطع النظر عمّا به هو هو محال ، كاستحالة حفظ الإنسان بما هو إنسان منع قطع النظر عن إنسانيّته ، فإذن ليس القطع الموضوعي مأخوذا إلّا بنحو الكاشفيّة.

وجوابه : أنّ الكاشفيّة لا تكون من لوازم ماهيّة القطع كما عرفت ، فضلا عن ذاتيّتها له ، فإنّه في ظرف الوجود الخارجي فقط قد يكون كاشفا عن الواقع ، وتترتّب المنجّزية على القطع في صورة إصابة الواقع ، والمعذّرية في صورة الخطأ ، لا أنّه في صورة الخطأ ليس بقطع ، بل يكون في هذه الصورة أيضا من مصاديقه وأثره المعذّرية ، فلا يكون القطع كاشفا عن الواقع دائما وفي جميع

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ : ٦٨.

٥٨

الظروف.

وعلى فرض عينيّة الكاشفيّة مع القطع يمكن أن يلاحظ المولى حين اللحاظ والاعتبار جهة صفتيّته وقيامه بالنفس لا جهة كاشفيّته ، فإنّ أخذ شيء في الموضوع يرتبط باعتبار الجاعل ، ويمكن له في مرتبة الاعتبار لحاظ أيّ خصوصيّة من خصوصيّاته.

والمحقّق النائيني قدس‌سره (١) قائل بامتناع أخذ القطع تمام الموضوع على وجه الطريقيّة ، بأنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه ، وأخذه على وجه الطريقيّة يستدعي لحاظ ذي الطريق وذي الصورة ، ولحاظ القطع طريقا ينافي أخذه تمام الموضوع.

ويحتمل أن يكون مراده من هذا الكلام في وجه الامتناع هو لزوم اجتماع اللحاظين الاستقلالي والآلي ، وهو محال ؛ لأنّ لحاظ القطع استقلاليّا وتمام الموضوع يقتضي عدم لحاظ متعلّقه ، ولحاظه طريقا وآليّا يقتضي لحاظ متعلّقه ، والجمع بين هذين اللحاظين ليس إلّا جمع بين المتناقضين.

ويحتمل أن يكون مراده من أنّ معنى كون القطع تمام الموضوع أنّه لا مدخليّة للواقع في ترتّب الحكم ، ومعنى أخذه بعنوان الطريقيّة أنّ له مدخليّة فيه ، فلا يمكن الجمع بين مدخليّة الواقع وعدم مدخليّته.

ويحتمل أنّ الظاهر من كلامه قدس‌سره هو الأوّل.

وجوابه : أوّلا بالنقض بما التزم به المحقّق النائيني قدس‌سره نفسه من صحّة أخذ القطع جزء الموضوع على وجه الطريقيّة ، مع وحدة ملاك الاستحالة في كلتا الصورتين ، وهو اجتماع اللحاظين ؛ لأنّ جزء الموضوع كنفس الموضوع لا بدّ

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ١١.

٥٩

وأن يتصوّر حتّى يحكم عليه.

وثانيا : بالحلّ ، وهو أنّه لا منافاة بين اللحاظين ؛ إذ القطع المأخوذ في حكم المولى بعنوان الموضوع هو قطع له طريقيّة للقاطع والمكلّف ، لا قطع المولى حتّى يلزم المحذور المذكور ؛ كأنّه قال المولى : أيّها العبد ، جعلت قطعك الذي له كاشفيّة تامّة موضوعا للحرمة ، كما يتحقّق هذا المعنى في قوله : الظنّ الحاصل من خبر العادل حجّة ـ أي الظنّ الحاصل للمكلّف منه ـ وله طريقيّة إلى الواقع يكون تمام الموضوع للحكم بالحجّية.

وهكذا في مثل القطع حجّة ، فإنّ العقل يحكم بأنّ القطع الطريقي الحاصل للمكلّف يكون تمام الموضوع للحكم بالحجّية ، يعني إذا صادف الواقع يوجب المنجّزية ، وإذا خالف الواقع يوجب المعذّرية.

والحقّ أنّ ما ذكره الاستاذ لا يكون جوابا عن الإشكال ؛ إذ الإشكال في اجتماع اللحاظين الاستقلالي والآلي في صورة أخذ القطع تمام الموضوع على نحو الطريقيّة لا في متعلّق اللحاظ ، وعلى فرض كون قطع المكلّف موضوعا للحكم أيضا يعود الإشكال ؛ إذ لا بدّ في كلّ موضوع من تصوّره ولحاظه ، فهل لاحظه المولى استقلاليّا كما هو مقتضى كونه تمام الموضوع ، أم لاحظه آليّا كما هو مقتضى طريقيّته ، والجواب المذكور ليس بجواب عنه.

وجواب الاحتمال الثاني : أنّ أخذ القطع بعنوان تمام الموضوع سلّمنا أنّ معناه عدم مدخليّة الواقع ؛ لعدم الفرق بين صورتي الإصابة والخطأ ، وأمّا أخذ القطع على نحو الطريقيّة فليس معناه دخالة الواقع ، فإنّ طريقيّة القطع لا يستلزم الإيصال إلى الواقع ، بل يوصل إليه أكثر الأوقات ، ولا يوصل إليه أحيانا ، مع أنّ عنوان طريقيّته محفوظ في كلتا الصورتين ، فلا مدخليّة للواقع

٦٠