دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

التكليف فتجري البراءة.

وأمّا القسم الرابع فالحكم فيه كما في القسم الثالث حرفا بحرف.

فتحصّل : أنّ المرجع في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة هو البراءة مطلقا ، وأمّا الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة فالمرجع فيها هو الاشتغال ، إلّا القسم الأوّل حيث كان المرجع فيه البراءة كما عرفت.

التنبيه الثاني : في حسن الاحتياط مطلقا

لا ريب في حسن الاحتياط عقلا في جميع صور احتمال التكليف وإن كان الحكم فيها هو البراءة كما عرفت ، فإنّ العقل يحكم بحسن إتيان ما يحتمل أن يكون مطلوبا للمولى ، وترك ما يحتمل أن يكون مبغوضا له ، سواء كانت الشبهة موضوعيّة أو حكميّة ، وسواء كانت تعبّدية أو توصّلية ، بل حتّى فيما إذا قامت الأمارة على عدم التكليف في الواقع ، فإنّ احتمال ثبوت التكليف في الواقع كاف في حسن الاحتياط.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني قدس‌سره (١) اشترط في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه حجّة شرعيّة أن يعمل المكلّف أوّلا بمؤدّى الحجّة ، ثمّ يعقبه بالعمل على خلاف ما اقتضته الحجّة ؛ إحرازا للواقع ، وليس للمكلّف العمل بما يخالف الحجّة أوّلا ثمّ العمل بمؤدّى الحجّة ، إلّا إذا لم يستلزم رعاية احتمال مخالفة الحجّة للواقع استئناف جملة العمل ، كما إذا كان مفاد الحجّة عدم وجوب السورة في الصلاة ، فإنّ رعاية احتمال مخالفتها للواقع يحصل بالصلاة مع السورة ، ولا يتوقّف على تكرار الصلاة وإن كان يحصل بالتكرار أيضا. وهذا

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٦٥.

٣٠١

بخلاف ما إذا كان مفاد الحجّة وجوب خصوص صلاة الجمعة مع احتمال أن يكون الواجب هو خصوص صلاة الظهر ، فإنّ رعاية احتمال مخالفة الحجّة للواقع لا يحصل إلّا بتكرار العمل ، وفي هذا القسم لا يحسن إلّا بعد العمل بما يوافق الحجّة ، ولا يجوز العكس.

والسرّ في ذلك : هو أنّ معنى اعتبار الطريق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملا وعدم الاعتناء به ، والعمل أوّلا برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاء احتمال الخلاف ، فإنّ ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف. وهذا بخلاف ما إذا قدّم العمل بمؤدّى الطريق ، فإنّ المكلّف بعد ما أدّى الوظيفة وعمل بما يقتضيه الطريق فالعقل يستقلّ بحسن الاحتياط لرعاية إصابة الواقع.

هذا ، مضافا إلى أنّه يعتبر في حسن الطاعة الاحتماليّة عدم التمكّن من الطاعة التفصيليّة ، فإنّ للإطاعة مراتب عقلا : الاولى : الامتثال التفصيلي ، الثانية : الامتثال الإجمالي ، الثالثة : الامتثال الظنّي ، الرابعة : الامتثال الاحتمالي. ولا يجوز عقلا الانتقال من المرتبة السابقة إلى المرتبة اللّاحقة إلّا بعد تعذّر السابقة ، وعليه فبعد قيام الطريق المعتبر على وجوب صلاة الجمعة يكون المكلّف متمكّنا من الطاعة والامتثال التفصيلي بمؤدّى الطريق ، فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي لصلاة الظهر.

ويردّ عليه : أوّلا : ما ذكرناه مرارا من أنّ مفاد أدلّة حجّية خبر الواحد هو لزوم اتّباع قول الثقة وجعله منجّزا ومعذّرا ، وأمّا تنزيله منزلة العلم في عالم التشريع وإلقاء احتمال الخلاف فلا يستفاد منها بوجه.

وثانيا : أنّه على فرض أن تكون حجّية خبر الواحد بمعنى إلقاء احتمال الخلاف وتنزيله بمنزلة العلم تعبّدا ، فلا يصحّ التفكيك والتفصيل بين إتيان

٣٠٢

صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة وقبلها في المثال في عدم جواز الإتيان بصلاة الظهر بعد ما كان عالما بوجوب صلاة الجمعة.

وثالثا : أنّه على فرض صحّة ما ذكره لا بدّ من التفصيل بين ما إذا كان قاصدا إتيان صلاة الظهر حين الشروع بصلاة الجمعة وبين ما إذا لم يكن قاصدا إتيانها حين الشروع بها ، والحكم بالجواز في الصورة الثانية بخلاف الاولى ، فإنّ معناه هو الاعتناء باحتمال الخلاف ، وهذا ينافي معنى اعتبار الطريق وتنزيله بمنزلة العلم وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف.

ورابعا : أنّه لا يتمّ ما ذكره قدس‌سره من الطوليّة بين مراتب الامتثال ، فإنّ العقل لا يحكم إلّا بلزوم الإطاعة ، والإطاعة ليست إلّا الإتيان بالمأمور به بجميع أجزائه وشرائطه ، ومعه يسقط التكليف ، وهذا المعنى يتحقّق في الامتثال الإجمالي بعد فرض إمكان الاحتياط ، فلا فرق بين الامتثال الإجمالي والتفصيلي عقلا.

وخامسا : أنّه على فرض صحّة هذا المبنى يختصّ بمن كان قاصدا إتيان صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة ، ولا يشمل من لم يكن قاصدا لذلك ابتداء ولكن أتى بها لاحتمال وجوبها بعد الإتيان بصلاة الجمعة ، ومعلوم أنّه لا مانع من الامتثال الاحتمالي ، ونتيجة الامتثال التفصيلي والاحتمالي عبارة عن الامتثال الإجمالي.

ثمّ إنّه قد يقال بأنّ حسن الاحتياط مقيّد بعدم استلزامه اختلال النظام ، وعليه فلا بدّ من التبعيض في مقام الاحتياط ؛ لأنّ الاحتياط التامّ في جميع الشبهات مستلزم لاختلال النظام القبيح عقلا.

وفيه : أنّ الأحكام لا تتعدّى من عناوينها إلى عنوان آخر ، وإن اتّحد

٣٠٣

العنوانان وجودا ، فحرمة الإخلال بالنظام وقبحه لا توجب حرمة الاحتياط وقبحه وإن كان يتّحد معه وجودا.

فتحصّل : أنّه لا إشكال في تماميّة كبرى حسن الاحتياط مطلقا. نعم ، قد يقع البحث في بعض صغرياته من أنّه هل يمكن فيه الاحتياط أم لا؟ وهذا ما بحثناه مفصّلا في مبحث القطع ، فلا حاجة للإعادة.

التنبيه الثالث : في تقدّم الأصل الموضوعي على البراءة

لا شكّ في أنّ كلّ ما يكون بيانا وعلما يتقدّم على البراءة ، إمّا ورودا أو حكومة ، فإنّ موضوع البراءة العقليّة هو عدم البيان ، وموضوع البراءة الشرعيّة هو عدم العلم ، فمع مجيء البيان وتحقّق العلم يرتفع موضوع البراءة ، وهذا من غير فرق بين أن تكون الشبهة موضوعيّة كما لو علم بخمريّة مائع ثمّ شكّ في انقلابه خلّا فإنّ استصحاب الخمريّة يرفع موضوع أصالة البراءة ويحكم بحرمة شربه ، أو تكون حكميّة كما إذا شكّ في جواز وطء الحائض بعد انقطاع الدم ، وقبل الاغتسال ، فإنّ استصحاب الحرمة السابقة يمنع جريان البراءة بارتفاع موضوعها.

وأيضا من غير فرق بين أن يكون الأصل الحاكم منافيا في مفاده للبراءة كما مرّ في المثالين ، أو موافقا لها كما لو علم بخلّية مائع ثمّ شكّ في انقلابه خمرا ، فإنّ استصحاب الخلّية مقدّم على البراءة.

ولكنّ الإشكال أنّه لا يبقى مع ذلك مورد أصلا للبراءة ، فمثلا : مثل شرب التتن إمّا أنّه كان في الشرائع السابقة حلالا وإمّا حراما ، وإمّا لا نعلم حكمه في الشرائع السابقة ، فنشكّ في جعل الحرمة له في شريعة الإسلام إمضاء أو تأسيسا ، فيجري الاستصحاب في جميع الصور ، ولا يبقى محلّ للبراءة ، بعد بيان

٣٠٤

حكم جميع الموضوعات المستحدثة في الشريعة إلى يوم القيامة بلحاظ كونها شريعة باقية خالدة ، واستصحاب عدم جعل الحرمة حاكم في الموضوعات المستحدثة ، إلّا أن يناقش في أصل استصحاب العدم كما قال به بعض العلماء ، خلافا للمشهور.

ثمّ إنّه رتّب على ما ذكرناه جريان أصالة عدم التذكية في الكلمات ، كما إذا شكّ في حلّية لحم الحيوان المتولّد من الكلب والغنم وحرمته من جهة الشكّ في قابليته للتذكية ، فيحكم على اللحم بالحرمة والنجاسة ، ولا تصل النوبة إلى أصالتي الحليّة والطهارة ؛ لحكومة أصالة عدم التذكية عليهما.

أقول : بسط الكلام في أصالة عدم التذكية موكول إلى محلّه ، وهو بحث الاستصحاب ، ولكن مع ذلك لا بأس بالبحث في امور ثلاثة :

الأوّل : في جريان استصحاب عدم القابليّة للتذكية وعدمه؟

الثاني : في جريان استصحاب العدم الأزلي عند الشكّ في القابليّة وعدمه؟

الثالث : في جريان استصحاب عدم التذكية وعدمه؟

أمّا الأمر الأوّل فقد قال المحقّق الحائري قدس‌سره بجريان استصحاب عدم القابلية للتذكية ، وقال في مقام تصحيح الحالة السابقة المتيقّنة له : إنّ العرض قد يكون عارض الوجود وقد يكون عارض الماهيّة ، وكلّ منهما ينقسم إلى اللازم والمفارق ، فتكون الأقسام أربعة ، ومن الواضح أنّ قابليّة الحيوان للتذكية من العوارض اللّازمة لوجود الحيوان ، وليست من العوارض اللازمة لماهيّته ، كما أنّ قرشيّة المرأة من العوارض اللّازمة لوجودها ، لا من العوارض اللازمة لماهيّتها.

وعليه فنقول : إنّ الحيوان المشكوك في قابليّته لم يكن قابلا للتذكية قبل

٣٠٥

وجوده قطعا ، فنشكّ في أنّه حين تلبّسه بالوجود هل عرضت له القابليّة أم لا؟ فنستصحب عدم عروضها له ، ومع استصحاب عدم القابليّة نستغني عن استصحاب عدم التذكية لحكومته عليه حكومة الأصل السببي على المسبّبي ، وهكذا في المرأة المشكوكة القرشيّة ، فإنّ ماهيّة المرأة في رتبة متقدّمة على الوجود لم تكن قرشيّة ، وبعد تلبّسها بالوجود الخارجي نشكّ في أنّها هل تلبّست بالقرشيّة أم لا؟ فنستصحب الحالة السابقة العدميّة ونحكم بعدم قرشيّتها.

وفيه : أوّلا : أنّه لو سلّم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة ، إلّا أنّه لا يجري استصحاب عدم القابليّة في حدّ نفسه ؛ لكونه من الاصول المثبتة ، وذلك لأنّ القابليّة وعدمها ليست حكما شرعيّا ، وإنّما هي أمر تكويني ، كما أنّها ليست موضوعا للحكم الشرعي ، فإنّ الموضوع للحكم هو المذكّى وغير المذكّى ، حيث إنّ الأوّل موضوع للطهارة والحلّية ، والثاني موضوع للنجاسة والحرمة ، ومن الواضح أنّ استصحاب كون الحيوان غير قابل للتذكية لا يثبت كونه غير مذكّى إلّا بواسطة عقليّة ، حيث إنّ انتفاء الجزء ـ أعني القابليّة ـ يلازمه عقلا انتفاء الكلّ ـ أعني التذكية ـ لأنّ التذكية عبارة عن فري الأوداج ، والتسمية ، وكون الذابح مسلما ، وكون الذبح بالحديد ، وكونه إلى القبلة ، وكون الحيوان قابلا للتذكية.

وثانيا : أنّ أصل جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة محلّ الإشكال بلحاظ حالة سابقة متيقّنة كما نذكر توضيحه في الأمر الثاني.

وأمّا الأمر الثاني فالبحث عنه يقع في مقامين : الأوّل : في الوجوه المتصوّرة في مجاري الاستصحاب في الأعدام الأزليّة ، والثاني : في بيان حال كلّ واحد

٣٠٦

من هذه الوجوه.

أمّا المقام الأوّل فنقول : إنّ مجاري الاستصحاب في الأعدام الأزليّة تتصوّر على وجوه:

الأوّل : القضيّة السالبة المحصّلة على نحو الهليّة البسيطة ، مثل «زيد ليس بموجود» ، ومفادها سلب الموضوع.

الوجه الثاني : القضيّة السالبة المحصّلة على نحو الهليّة المركّبة ، مثل «ليس زيد بقائم» وصدق هذه القضيّة لا يتوقّف على وجود الموضوع ؛ إذ سلب المحمول يصدق مع انتفاء الموضوع أيضا.

الوجه الثالث : القضيّة السالبة المحصّلة على نحو الهليّة المركّبة مقيّدة بوجود الموضوع ، مثل : «زيد ليس بقائم» فهي لا تصدق إلّا مع تحقّق الموضوع.

الوجه الرابع : القضيّة الموجبة المعدولة المحمول ، مثل : «زيد لا قائم».

الوجه الخامس : القضيّة الموجبة السالبة المحمول ، مثل : «زيد هو الذي ليس بقائم» بجعل القضيّة السالبة ـ هو الذي ليس بقائم ـ نعتا للموضوع ، ويكون المفاد ربط السلب ، ومن الواضح أنّ صدق هذا الوجه وما تقدّمه يتوقّف على وجود الموضوع ؛ إذ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.

الوجه السادس : المركّب الناقص النعتي ، مثل : «زيد غير القائم» ، فإنّه قضيّة ناقصة لا يصحّ السكوت عليها ، وصدقها يتوقّف على وجود الموصوف ، كما هو واضح.

الوجه السابع : أن يكون مجرى الاستصحاب موضوعا مركّبا من جزءين : أحدهما : أمر وجودي ، والآخر : أمر عدمي ، كسائر الموضوعات المركّبة التي يشترط فيها إحراز جزئي الموضوع لكي يترتّب الحكم عليها.

٣٠٧

وأمّا المقام الثاني فنقول : إنّ الوجوه الصادقة مع انتفاء الموضوع لا يمكن أن تقع موضوعا لحكم إيجابي كالحرمة والنجاسة ؛ لأنّ الحكم الإيجابي لا يصدق إلّا مع وجود الموضوع.

وأمّا سائر الوجوه فلا يمكن أن تكون مجرى للاستصحاب ، وذلك لعدم الحالة السابقة المتيقّنة في مورده ، فإنّ الحيوان الذي نشكّ في قابليّته لم يكن في زمان من أزمنة وجوده موردا للعلم بأنّه غير قابل للتذكية حتّى يجري الاستصحاب.

وأمّا ما ذكره المحقّق الحائري قدس‌سره من الإشارة إلى ماهيّة المرأة بأنّ هذه المرأة لم تكن قرشيّة ، وإذا شككنا بعد وجودها في قرشيّتها نستصحب عدم قرشيّتها السابقة.

ففيه : أوّلا : أنّ ماهيّة المرأة قبل وجودها ليست بشيء حتّى تجعلها مشارا إليها ؛ إذ لا تحقّق لها ولا ثبوت لها قبل الوجود.

وثانيا : أنّه يتنافى مع ما صرّح به من أنّ القرشيّة من عوارض الوجود الخارجي ، فلا محالة يكون عدمها قبل الوجود بعنوان السالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا الوجه السابع : فقد يقال بتماميّة الاستصحاب فيه ، وذلك لأنّ مجرى الاستصحاب موضوع مركّب من جزءين : الحيوان وعدم القابليّة للتذكية ، والجزء الأوّل محرز بالوجدان كما هو واضح ، والجزء الثاني محرز بالاستصحاب لمكان الحالة السابقة كما هو الشأن في العدميّات ، ومع إحراز كلا الجزءين يترتّب الأثر من الحرمة والنجاسة.

وفيه : أنّ الجزء الثاني لا يخلو من وجهين ، فإمّا أن يكون مطلق عدم

٣٠٨

القابليّة للتذكية مع غضّ النظر عن الجزء الأوّل ومستقلّا عنه ، وإمّا أن تكون جزئيّته مع الاحتفاظ على تحقّق الجزء الأوّل والارتباط به ، فعلى الأوّل لا يكون قابلا للتصوير ، وعلى الثاني يلزم رجوع الوجه السابع إلى أحد الوجوه الثلاثة السابقة ؛ إذ الارتباط والعلاقة بين الجزءين إمّا أن تكون بنحو الموجبة المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول أو التقييد النعتي ، وقد عرفت عدم تماميّة الاستصحاب فيها.

وأمّا الأمر الثالث فالصحيح عدم جريان استصحاب عدم التذكية لنفس البيان المتقدّم في الأمر الثاني ؛ لأنّ عدم التذكية إن كان بنحو السلب التحصيلي المطلق الصادق مع انتفاء الموضوع فلا يصحّ جعله موضوعا للحكم الشرعي ، وإن كان بنحو سائر القضايا المذكورة فلا تكون حالة سابقة متيقّنة في موردها.

والحاصل : أنّ استصحاب عدم قابليّة التذكية لا يكون جاريا ، فلا مانع من جريان أصالة البراءة وأصالة الإباحة.

التنبيه الرابع : في أخبار من بلغ

وقبل التعرّض للأقوال لا بأس بإيراد بعض روايات الباب :

منها : صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من بلغه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له ذلك الثواب وإن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» (١).

ومنها : حسنة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من سمع شيئا من

__________________

(١) الوسائل ١ : ٨١ ، الباب ١٨ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ٤.

٣٠٩

الثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه» (١).

ومنها : رواية محمّد بن مروان ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه» (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار التي جمعها الشيخ الحرّ العاملي قدس‌سره تحت عنوان استحباب الإتيان بكلّ عمل مشروع روي له ثواب منهم عليهم‌السلام في مقدّمة كتاب وسائل الشيعة.

أقول : قد اختلف الأصحاب فيما يستفاد من هذه الأخبار على أقوال :

الأوّل : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره (٣) من أنّ المستفاد منها هو استحباب نفس العمل بعنوانه الأوّلي ، لا بالعنوان الثانوي الطارئ عليه ـ أعني عنوان بلوغ الثواب عليه ـ إذ ترتّب الأجر على نفس العمل يكشف عن مطلوبيّة ذات العمل بعنوانه الأوّلي ، فيكون العمل البالغ عليه الثواب مستحبّا شرعيّا بالعنوان الأوّلي كسائر المستحبّات الشرعيّة ، وأمّا عنوان «طلب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو «التماس ذلك الثواب» فهو خارج عن متعلّق الطلب الاستحبابي ، وليس إلّا داعيا لإيجاد العمل في الخارج ، ومن المعلوم أنّ الداعي خارج عن متعلّق الطلب ، فالمستحبّ هو العمل بعنوانه الأوّلي.

وإن شئت قلت : إنّ العنوان المذكور جهة تعليليّة للعمل وليس جهة تقييديّة.

__________________

(١) المصدر السابق : ٨٢ ، الحديث ٦.

(٢) المصدر السابق : الحديث ٧.

(٣) كفاية الاصول ٢ : ١٩٧.

٣١٠

وفيه : أنّ ترتّب الثواب على عمل أعمّ من الاستحباب الشرعي ، والأعمّ لا يثبت الأخصّ ، فإنّ ترتّب الثواب على عمل تارة يكون لأجل كونه محبوبا نفسيّا وذا رجحان ذاتي فيثبت الاستحباب الشرعي ، واخرى يكون لأجل التحفّظ على ما هو محبوب واقعا ، وفي مثله لا يثبت الاستحباب كما هو واضح.

القول الثاني : ما ذهب إليه المحقّق النائيني قدس‌سره (١) من أنّ الأخبار مسوقة لبيان اعتبار قول المبلّغ وحجّيته ، سواء كان واجدا لشرائط الحجّية أم لم يكن كما هو ظاهر الإطلاق ، وعليه فتكون أخبار من بلغ مخصّصة لما دلّ على اعتبار الوثاقة أو العدالة في الخبر ، وأنّها تختصّ بالخبر القائم على وجوب الشيء ، وأمّا الخبر القائم على الاستحباب فلا يعتبر فيه ذلك. وظاهر عناوين كلمات القوم ينطبق على هذا المعنى ، فإنّ الظاهر من قولهم : «يتسامح في أدلّة السنن» هو أنّه لا يعتبر في أدلّة السنن ما يعتبر في أدلّة الواجبات.

إن قلت : كيف تكون أخبار «من بلغ» مخصّصة لما دلّ على اعتبار الشرائط في حجّية الخبر مع أنّ النسبة بينهما العموم من وجه ، حيث إنّ ما دلّ على اعتبار الشرائط يعمّ الخبر القائم على الوجوب وعلى الاستحباب ، وأخبار «من بلغ» وإن كانت تختصّ بالخبر القائم على الاستحباب ، إلّا أنّه أعمّ من أن يكون واجدا للشرائط أو فاقدا لها ، ففي الخبر القائم على الاستحباب الفاقد للشرائط يقع التعارض ، فلا وجه لتقديم أخبار «من بلغ» على ما دلّ على اعتبار الشرائط في الخبر؟

قلت : مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ أخبار «من بلغ» ناظرة إلى إلغاء الشرائط

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤١٣ ـ ٤١٤.

٣١١

في الأخبار القائمة على المستحبّات ، فتكون حاكمة على ما دلّ على اعتبار الشرائط في أخبار الآحاد ، وفي الحكومة لا تلاحظ النسبة ؛ لأنّ الترجيح لأخبار «من بلغ» لعمل المشهور بها ، مع أنّه لو قدّم ما دلّ على اعتبار الشرائط في مطلق الأخبار لم يبق لأخبار «من بلغ» مورد ، بخلاف ما لو قدّمت أخبار «من بلغ» على تلك الأدلّة ، فإنّ الواجبات والمحرّمات تبقى مشمولة لها.

ويرد عليه : أوّلا : عدم تماميّة أصل الدعوى ، يعني كون الأخبار في مقام بيان حجّية مطلق الأخبار بالنسبة إلى المستحبّات ، فإنّها بعيدة عن ظاهر أخبار «من بلغ» جدّا ، فإنّ معنى الحجّية عنده قدس‌سره هو إلغاء احتمال الخلاف ، وفرض مؤدّى الأمارة هو الواقع ، وهذا ينافي فرض عدم ثبوت المؤدّى في الواقع كما هو مفاد أخبار «من بلغ» بتعبيرات مختلفة ، مثل : «وإن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله» ومثل : «وإن لم يكن الحديث كما بلغه» ، وعليه فأخبار «من بلغ» أجنبيّة عن إعطاء الحجّية للخبر الضعيف ، وهكذا بناء على أن تكون الحجّية بمعنى المنجّزية والمعذّرية ؛ إذ لا معنى للمعذّرية في المستحبّات إذا كان الخبر مخالفا للواقع ، فإنّ لازم ذلك عدم ترتّب الثواب في هذه الصورة ، مع أنّ الغرض في الأخبار هو ترتّب الثواب في صورة كذب الخبر.

وثانيا : أنّ مخصّصية أخبار «من بلغ» لأدلّة الحجّية إنّما يصحّ فيما إذا كان هناك تناف بين الدليلين ، ومن الواضح أنّه لا تنافي بين أن يكون خبر الثقة حجّة مطلقا ، وبين أن يكون مطلق الخبر حجّة في المستحبّات ، وعليه فلا ينجرّ الأمر إلى التخصيص.

وثالثا : أنّ حكومة أخبار «من بلغ» على أدلّة الحجّية في صورة التعارض

٣١٢

في مادّة الاجتماع ليست تامّة ، فإنّ قوام الحكومة هو تعرّض أحد الدليلين لحال الدليل الآخر من تفسير أو توضيح أو تصرّف في جهة من جهاته ، وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك ، فإنّ أخبار «من بلغ» مفادها حجّية مطلق الخبر في المستحبّات ، ومفاد أدلّة الحجّية هو حجّية خبر الثقة مطلقا ، من دون تعرّض أحدهما إلى حال الآخر.

ورابعا : أنّ خلوّ أخبار «من بلغ» من المصداق والمورد فيما لو قدّمت أدلّة شرائط الحجّية في مورد ليس بتام ، فإنّ مدّعاه قدس‌سره هو استفادة حجّية مطلق الخبر ـ ثقة كان أو غيره ـ من أخبار «من بلغ» ، وعليه فلو خرج مورد التعارض ـ أي خبر غير الثقة في المستحبّات ـ عن الاندراج تحت إطلاق أخبار «من بلغ» يبقى الفرد الآخر ـ وهو خبر الثقة ـ تحته ، ومن الواضح أنّه لا يشترط أن يكون المورد الباقي ممّا يختصّ بأخبار «من بلغ» ولا تشمله أدلّة الحجّية ، ولا يخفى أنّ أخبار «من بلغ» ليست في رتبة متأخّرة عن أدلّة الحجّية حتّى يكون شمولها لخبر الثقة الوارد في المستحبّات لغوا وبلا أثر ، بل تكون هي في رتبتها وعرضها.

القول الثالث : أنّ مفاد هذه الأخبار هو استحباب العمل مقيّدا بعنوان «بلوغ الثواب عليه» ، فيكون العنوان من الجهات التقييديّة والعناوين الثانويّة المغيّرة لأحكام العناوين الأوّلية كالضرر والحرج والخطأ والنسيان والجهل ونحو ذلك ، فيكون عنوان بلوغ الثواب ممّا يوجب حدوث مصلحة في العمل ، بها يصير مستحبّا.

وفيه : أوّلا : أنّ العنوان الثانوي عنوان سلبي يتحقّق بالنسبة إلى العمل أو الحكم ، كما نراه في حديث الرفع وأمثال ذلك ، ولا يكون عنوانا إثباتيّا اسند

٣١٣

إلى شخص كما يكون هنا كذلك.

وثانيا : أنّ مع قطع النظر عن هذا الإشكال لا تدلّ التعبيرات الواردة في الروايات على هذا المعنى ، فيحتاج إلى الإثبات.

القول الرابع : ما أفاده استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) من أنّ وزان أخبار «من بلغ» وزان الجعالة ، فكما أنّ قول القائل : «من ردّ ضالّتي فله كذا» جعل المعلّق على ردّ الضالّة ، فكذلك مفاد الأخبار جعل المعلّق على إتيان العمل بعد البلوغ برجاء الثواب ، وإنّما جعل الشارع الثواب على ذلك حثّا منه على التحفّظ بعامّة السنن والمستحبّات ، حيث رأى أنّ الاكتفاء في طريق تحصيلها على خصوص الأمارات المعتبرة ربما يوجب تفويت البعض الموجود في غيرها من الأمارات ، ولأجل ذلك حثّ الناس على إتيان كلّ ما نقل عنهم عليهم‌السلام ، خالف الواقع أو طابقه ، وأردف حثّه هذا بالثواب على العمل لكي يحدث الشوق في نفس المكلّف إلى إتيانه ، كلّ ذلك تحفّظا على المستحبّات الواقعيّة ، وعليه فتكون أخبار «من بلغ» مطلقة بالنسبة إلى كلّ ما بلغ عليه ثواب بسند معتبر كان أو بغيره ، من دون أن تكون لها دلالة على حجّية خبر الضعيف في المستحبّات أو على استحباب العمل ؛ إذ فرق بين ترتّب الثواب على عمل لمحبوبيّته في ذاته ورجحانه في نفسه كما في سائر المستحبّات الشرعيّة ، وبين ترتّب الثواب على الشيء لأجل التحفّظ على الواقع وإدراك المكلّف له.

والإنصاف أنّ هذا كلام صحيح وقابل للمساعدة ولا إشكال فيه.

هذا تمام الكلام في تنبيهات البراءة ، وبه يتمّ البحث عن أصالة البراءة ، ولله الحمد أوّلا وآخرا.

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٣١٤

القول

في أصالة التخيير

دوران الأمر

بين المحذورين

٣١٥
٣١٦

فصل

في دوران التكليف بين الوجوب والحرمة

لا يخفى أنّ دوران التكليف بين الوجوب والحرمة ـ بأن علم إجمالا بوجوب شيء معيّن أو حرمته قد يكون مع وحدة الواقعة ـ كما لو علم إجمالا بوجوب صوم يوم معيّن أو حرمته ـ وقد يكون مع تعدّد الواقعة ، كما لو دار الأمر في صلاة الجمعة في عصر الغيبة بين الوجوب والحرمة ، فلو كانت الواقعة متعدّدة أمكنت المخالفة القطعيّة بالإتيان في مرتبة والترك في مرتبة اخرى.

وأمّا لو كانت الواقعة واحدة وكان كلا التكليفين توصّليّا ، فلا يمكن المخالفة القطعيّة ؛ لكون المكلّف إمّا تاركا وإمّا فاعلا. وإذا كان كلاهما أو أحدهما تعبّديّا يتمكّن المكلّف من المخالفة القطعيّة ، كما إذا كان وجوب صوم يوم كذا تعبّديّا وحرمته على تقدير ثبوتها توصّليّة ، فيمكن المخالفة القطعيّة بأن يصوم بدون قصد القربة ؛ إذ التكليف إن كان وجوبيّا تحقّق بدون قصد القربة ، وإن كان تحريميّا تحقّق المنهي عنه في الخارج.

والقدر المتيقّن من الفروض المذكورة فيما إذا كانت الواقعة واحدة ، ولم يتمكّن المكلّف من المخالفة القطعيّة ولا من الموافقة القطعيّة ، ولم يكن شيء من الفعل أو الترك معلوم الأهمّيّة أو محتملها في نظر العقل ، وحينئذ فهل يحكم

٣١٧

العقل بالتخيير هنا أم لا؟

الظاهر أنّ العقل بعد الرجوع إليه يحكم بذلك ، بمعنى أنّه يدرك أنّ المكلّف في مقام العمل يكون مخيّرا بين الفعل والترك ، لا بمعنى جعله الحكم بالتخيير في مقابل الوجوب الشرعي أو الحرمة الشرعيّة المعلومة بالإجمال.

ويستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله عدم ثبوت الوظيفة العقليّة هنا ؛ لأنّ التخيير العقلي إنّما هو فيما إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفاؤه ولم يتمكّن المكلّف من الجمع بين الطرفين ، كالتخيير الذى يحكم به في باب التزاحم ، وفي دوران الأمر بين المحذورين ليس كذلك ؛ لعدم ثبوت الملاك في كلّ من طرفي الفعل والترك (١).

جوابه : أنّه لا دليل لانحصار مناط حكم العقل بالتخيير بباب المتزاحمين فقط ، بل العقل كما يحكم هناك بالتخيير كذلك يحكم هنا به ؛ إذ لا بدّ من الحكم به بنظر العقل بعد الرجوع إليه ؛ لعدم تصوّر طريق آخر سواه في مقام العمل.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عمّا التزم به المحقّق العراقي رحمه‌الله من أنّ الحكم التخييري ـ شرعيّا كان كما في باب الخصال ، أو عقليّا كما في باب المتزاحمين ـ إنّما يكون في مورد يكون المكلّف قادرا على المخالفة بترك كلا طرفي التخيير ، فكان الأمر التخييري باعثا على الإتيان بأحدهما وعدم تركهما معا ، لا في مثل المقام الذي هو من التخيير بين النقيضين(٢).

وجه ذلك : أنّه لا دليل على انحصار التخيير بما ذكر ، فإنّ ملاك التخيير ـ أي

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤٤٤.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٣.

٣١٨

العلم الإجمالي بالتكليف الوجوبي أو التحريمي ، وعدم الترجيح بينهما ، وعدم إمكان الموافقة أو المخالفة القطعيّة ـ موجود في دوران الأمر بين المحذورين أيضا ، ولذا يحكم العقل بالتخيير في مقام العمل.

هذا كلّه بالنسبة إلى أصالة التخيير ، وجريانها في المقام.

٣١٩
٣٢٠