دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

والقبلة ، والركوع ، والسجود ـ واعتبارهما لغوا خاليا عن الفائدة ؛ لإمكان أن تكون الصلاة المشتملة على تلك الخمسة سببا لحصول مرتبة من المصلحة ناقصة ، بحيث لا يبقى معه مجال لاستيفائها بالمرتبة التامّة ثانيا.

فالمصلّي إذا ترك بعض الأجزاء الغير الركنيّة عمدا يكون الإتيان بمثل هذه الصلاة موجبا لاستيفاء مرتبة ناقصة من المصلحة ، ولا يتمكّن من إعادة الصلاة المشتملة على تلك الأجزاء لاستيفاء جميع مراتب المصلحة ، ومع ذلك يعاقب على عدم استيفاء المصلحة بمرتبتها الكاملة ؛ لأنّ المفروض أنّ فوات تلك المرتبة كان بسوء اختياره.

وهذا ـ أي عدم استيفاء المرتبة العليا من المصلحة وجواز عقوبته على ذلك ـ هو نتيجة اعتبار تلك الأجزاء الغير الركنيّة في الصلاة ، فلم يكن شمول الحديث لصورة العمد منافيا لاعتبار الأجزاء الغير الركنيّة ، إلّا أنّ الإنصاف انصراف الحديث عن هذه الصورة واختصاصه بغيرها ، فإنّ مورد استعمال كلمة الإعادة وعدم الإعادة عبارة عمّن كان قاصدا لإتيان الصلاة الصحيحة وتحقّق المأمور به في الخارج وامتثال الأمر الواقعي ، ولكنّ عروض بعض الحالات ـ كالسهو والنسيان ونحو ذلك ـ كان مانعا عن إيصاله إلى مراده ، وهذا المعنى يتحقّق في الجاهل المقصّر أيضا كما سيأتي ، بخلاف من لم يكن قاصدا لإتيان المأمور به صحيحا من الابتداء مع الالتفات والتوجّه ، كما لا يخفى.

الثانية : في شموله للجهل أو النسيان مطلقا في الحكم أو الموضوع

اعلم أنّ المحقّق المتقدّم نفى البعد في كتاب صلاته عن دعوى انصراف الحديث إلى الفعل الحاصل بالسهو والنسيان في الموضوع ، وقال في بيانه

٥٠١

ما ملخّصه : إنّ ذلك يبتني على مقدّمتين :

إحداهما : أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «لا تعاد» هو الصّحة الواقعيّة ، وكون الناقص مصداقا واقعيّا لامتثال أمر الصلاة ، ويؤيّده الأخبار (١) الواردة في نسيان الحمد حتّى ركع ، فإنّها حاكمة بتماميّة الصلاة.

ثانيتهما : أنّ الظاهر من الصحيحة أنّ الحكم إنّما يكون بعد الفراغ من الصلاة ، وإن أبيت من ذلك فلا بدّ من اختصاصها بصورة لا يمكن تدارك المتروك ، كمن نسي القراءة ولم يذكر حتّى ركع ، فلا يمكن أن يكون مستندا لجواز الدخول في الصلاة ، بل يكون مستندا لمن دخل في الصلاة وقصد امتثال الأمر الواقعي باعتقاده ، ثمّ تبيّن الخلل في شيء من الأجزاء والشرائط. فالعامد الملتفت خارج عن مصبّ الرواية كالشاكّ في وجوب جزء أو شرط ، أو الشاكّ في وجود شرط بعد الفراغ عن شرطيّته ، فإنّ مرجع ذلك كلّه إلى قواعد أخر لا بدّ أن يراعيها حتّى يجوز له الدخول في الصلاة.

نعم ، لو اعتقد عدم وجوب شيء أو عدم شرطيّة شيء أو كان ناسيا لحكم شيء من الجزئيّة والشرطيّة يمكن توهّم شمول الصحيحة.

ولكن يدفعه ما ذكرنا في المقدّمة الاولى ، فإنّه لا يعقل أن يقيّد الجزئيّة والشرطيّة بالعلم بهما ، بحيث لو صار عالما بعدمهما بالجهل المركّب لما كان الجزء جزء ولا الشرط شرطا.

نعم ، يمكن على نحو التصويب الذي ادّعي الإجماع على خلافه ، بمعنى أنّ المجعول الواقعي ـ وهو المركّب التامّ ـ يكون ثابتا لكلّ أحد ، ولكن نسيان الحكم أو الغفلة عنه أو القطع بعدمه بالجهل المركّب صار سببا لحدوث

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٩٠ ، الباب ٢٩ من أبواب القراءة في الصلاة.

٥٠٢

مصلحة في المركّب الناقص على حدّ المصلحة في التامّ ، فيكون الإتيان به في تلك الحالة مجزيا عن الواقع ، فيصحّ إطلاق التماميّة في مقام الامتثال على الناقص المأتي به ، وهذا الاحتمال مضافا إلى ظهور كونه خلاف الإجماع ينافيه بعض الأخبار أيضا.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الأقسام المتوهّم دخولها في عموم الصحيحة بعضها خارج عن مصبّ الرواية ، وبعضها خارج من جهة اخرى ، ولا يبقى فيه إلّا السهو والنسيان والجهل المركّب بالنسبة إلى الموضوع (١). انتهى ملخّص موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

ويرد على ما ذكره في المقدّمة الاولى : منع ظهور الحديث في الصحّة الواقعيّة ، وكون الناقص مصداقا واقعيّا للصلاة المأمور بها ، وذلك لاشتمال الحديث على التعليل بأنّ القراءة سنّة ، والتشهّد سنّة ، والسنّة لا تنقض الفريضة ، ومعنى السنّة هنا هو ما ثبت وجوبه بعمل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذا التعليل ظاهر في أن الصلاة الفاقدة لمثل القراءة أو التشهّد وإن كانت ناقصة من جهة فقدانها لبعض السنن المعتبرة فيها أو جميعها ، إلّا أنّه لا يجب إعادتها مع ذلك ، لأنّ السنّة لا تصلح لنقض الفريضة ، فهي مع كونها ناقصة إلّا أنّه لا يمكن إعادتها تامّة.

وحينئذ فلا يلزم من شمول الحديث للجاهل أو للناسي بالحكم التصويب الغير المعقول ولا التصويب الذي أجمع على خلافه ؛ لأنّ المفروض كون صلاتهما ناقصة فاقدة لبعض الأجزاء المعتبرة فيها في جميع الحالات.

نعم ، ما أفاده في المقدّمة الثانية من عدم شمول الحديث للعامد الملتفت

__________________

(١) الصلاة للمحقّق الحائري رحمه‌الله : ٣١٦ ـ ٣١٧.

٥٠٣

وعدم إمكان كونه مستندا لجواز الدخول في الصلاة حقّ لا شبهة فيه.

وبالجملة ، فالظاهر أنّه لا مانع من شمول الحديث لجميع الأقسام بالنسبة إلى من دخل في الصلاة على وفق القواعد الأخر التي جوّزت له الدخول في الصلاة.

نعم ، قد ادّعي الإجماع على خروج الجاهل المقصّر في الحكم عن الحديث ، ولكن لم يثبت الإجماع ، ومع ذلك الراجح عندنا خروجه ؛ إذ يتحقّق الشكّ في إمكان قصد الامتثال والقربة من الجاهل بالعمل الفاقد للجزء ، مع احتمال جزئيّته وإمكان إحراز الواقع بالسؤال ، كما ذكرنا في العالم العامد.

الثالثة : في شمول الحديث للزيادة أو اختصاصه بالنقيصة

وقد يقال بإمكان أن تدخل الزيادة في المستثنى منه ؛ لأنّها نقيصة في الصلاة من جهة اعتبار عدمها فيها ، فمرجعه إلى أنّ كلّ نقيصة تدخل في الصلاة ، سواء كان من جهة عدم الإتيان بجزء أم قيد ، وجودي أو عدمي ، فلا يضرّ بالصلاة إلّا من نقص الخمسة المذكورة ، فيكون زيادة الركوع والسجود داخلة في المستثنى منه.

هذا ، ولكن لا يخفى أنّ المتفاهم بنظر العرف هو دخول الزيادة في كلتا الجملتين ، وكون مرجع إخلال الزيادة إلى النقصان المأمور به بسببها لا يوجب أن يكون كذلك بنظر العرف أيضا وإن كان كذلك عند العقل ، فالزيادة في نظر العرف مضرّة بما أنّها زيادة ، لا بما أنّ مرجعها إلى النقيصة ، فالإنصاف شمول الحديث للزيادة في كلتا الجملتين.

ودعوى : أنّ مثل الوقت والقبلة المذكورين في جملة الامور الخمسة لا تعقل فيه الزيادة ، فلا بدّ من كون المراد من الحديث هي صورة النقيصة.

٥٠٤

مدفوعة ؛ بأنّ عدم تعقّل الزيادة في مثلها لا يوجب اختصاص الحديث بصورة النقيصة بعد كون الظاهر منه عند العرف هو عدم وجوب الإعادة من قبل شيء من الأجزاء والشرائط ، زيادة أو نقصانا ، إلّا من قبل تلك الامور الخمسة كذلك ، كما هو واضح.

فاتّضح من جميع ما ذكرنا أنّ الحديث لا يشمل العمد ، ولا يختصّ بناسي الموضوع ولا بالنقيصة.

النسبة بين حديثي «لا تعاد» و «من زاد» :

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ النسبة بين حديث «لا تعاد» ـ بناء على ما ذكرنا في بيان مدلوله ـ وبين قوله عليه‌السلام في رواية أبي بصير المتقدّمة : «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» (١) هي العموم من وجه لو قلنا بأنّ المستثنى والمستثنى منه في الحديث جملتان مستقلّتان ، لا بدّ من ملاحظة كلّ واحدة منهما مع غيرها ؛ لأنّه يصير المستثنى منه بعد ورود الاستثناء عليه مختصّا بغير الامور الخمسة المذكورة في المستثنى ، فمقتضاه حينئذ عدم الإعادة من ناحية غير تلك الامور ، بلا فرق بين الزيادة والنقصان.

وقوله : «من زاد في صلاته» وإن كان منحصرا بخصوص الزيادة ، إلّا أنّه يشمل زيادة الركن وغيره عمدا أو سهوا ، فيجتمعان في زيادة غير الركن سهوا أو جهلا مركّبا ، ويفترقان في نقيصة غير الركن وفي زيادة غير الركن عمدا أو زيادة الركن سهوا.

هذا ، ولو قلنا بأنّ المستثنى والمستثنى منه مرجعهما إلى جملة واحدة وقضيّة مردّدة المحمول أو ذات محمولين ، فتصير النسبة بين الحديث وبين قوله : «من

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣١ ، الباب ١٩ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢.

٥٠٥

زاد» العموم من وجه أيضا ؛ لأنّ «من زاد» يشمل العمد والسهو معا ، ويختصّ بالزيادة ، والحديث يختصّ بصورة السهو ونحوه ، ويشمل الزيادة والنقيصة معا ، فيجتمعان في الزيادة السهويّة ، ويفترقان في الزيادة العمديّة وفي النقيصة السهويّة.

هذا بناء على شمول «من زاد» لصورة العمد أيضا.

وأمّا لو قلنا بعدم شموله لها ، إمّا للانصراف ، وإمّا لعدم تعقّل الزيادة التي يعتبر فيها أن يؤتى بالزائد بعنوان كونه من المكتوبة مع العلم والالتفات بعدم كونه منها ، كما لا يخفى ، فتصير النسبة بينهما العموم مطلقا ؛ لأنّ «من زاد» يختصّ بالزيادة السهويّة ، والحديث يشمل النقيصة السهويّة أيضا ، ومقتضى القاعدة حينئذ تخصيص «لا تعاد» بصورة النقيصة والالتزام بأنّ الزيادة توجب الإعادة.

وكيف كان ، فبناء على أحد الوجهين الأوّلين الذين تكون النسبة بينهما العموم من وجه ، فهل اللازم إعمال قواعد التعارض ، أو أنّ أحدهما أرجح في شمول مورد التعارض.

فنقول : ذكر الشيخ المحقّق الأنصاري رحمه‌الله : أنّ الظاهر حكومة قوله : «لا تعاد» على أخبار الزيادة ؛ لأنّها كأدلّة سائر ما يخلّ فعله أو تركه بالصلاة ، كالحدث والتكلّم وترك الفاتحة ، وقوله : «لا تعاد» يفيد أنّ الإخلال بما دلّ الدليل على عدم جواز الإخلال به إذا وقع سهوا لا يوجب الإعادة وإن كان من حقّه أن يوجبها (١). انتهى.

وتبعه على ذلك جمع من المحقّقين المتأخّرين عنه ، ولكن قال المحقّق الحائري

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ، نهاية الأفكار ٣ : ٤٤٢ ، نهاية الدراية ٤ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥.

٥٠٦

في كتاب صلاته : «إنّ حكومة الدليل الدالّ على نفي الإعادة على الدليل الدالّ على وجوب الإعادة لا يتصوّر لها وجه. نعم ، لو كان الدليل الدالّ على مبطليّة الزيادة دالّا على النهي عنها كالتكلّم ـ مثلا ـ صحّت الحكومة» (١). انتهى.

وما أفاده في غاية المتانة والقوّة.

وتوضيحه : أنّ قوام الحكومة إنّما هو بأن يكون الدليل بلسانه متعرّضا لحال الدليل الآخر بحيث تصرّف في الدليل المحكوم بنحو من التصرّف ، إمّا في موضوعه ، وإمّا في محموله ، وإمّا في سلسلة علله ، وإمّا في معلولاته ، وأمّا لو كان الدليلان بحيث أثبت أحدهما ما ينفيه الآخر ، ووضع أحدهما ما رفعه الآخر ، فلا يكون بينهما حكومة أصلا ، وفي المقام يكون الأمر كذلك ، فإنّ قوله : «من زاد» مثبت لوجوب الإعادة ، وقوله : «لا تعاد» رافع له.

نعم ، النسبة بين حديث «لا تعاد» وبين أدلّة سائر الأجزاء والشرائط هو الحكومة ؛ لأنّها تدلّ على الجزئيّة والشرطيّة اللتين لازمهما وجوب الإعادة مع الإخلال بهما ، وحديث «لا تعاد» يرفع هذا التلازم من دون أن ينفي أصل الجزئيّة والشرطيّة ، فقياس أخبار الزيادة بأدلّة سائر ما يخلّ فعله أو تركه بالصلاة ـ كما عرفت في كلام الشيخ ـ قياس مع الفارق.

نعم ، يمكن أن يقال بأنّ حديث «لا تعاد» أقوى ظهورا من قوله : «من زاد» إمّا لاشتماله على الاستثناء الذي يوجب قوّة الظهور بالنسبة إلى المستثنى منه ، وإمّا لاشتماله على التعليل المذكور في ذيله بأنّ «القراءة سنّة ، والتشهّد سنّة ، ولا تنقض السنّة الفريضة» فإنّ التعليل يكون آبيا عن التقييد ، ويمنع عن تقييد الحكم المعلّل به ، بل يمكن أن يقال : بأنّ قوله : «لا تنقض السنّة الفريضة» له

__________________

(١) الصلاة للمحقّق الحائري رحمه‌الله : ٣٢٠.

٥٠٧

حكومة على دليل الزيادة ، من جهة أنّه يتصرّف في علّة وجوب الإعادة ويحكم بعدم انتقاض الفريضة بسبب السنّة ، ودليل الزيادة متعرّض للحكم ، وهو وجوب الإعادة.

فانقدح أنّ مقتضى القواعد تقديم حديث «لا تعاد» في مورد الاجتماع ، ولكن يبقى في البين إشكال ، وهو : أنّه يلزم من تقديم حديث «لا تعاد» اختصاص مورد دليل الزيادة بالزيادة العمديّة ، ومن المعلوم ندرتها ، بل قد عرفت أنّه يمكن أن يقال بعدم تعقّلها ، وحينئذ فيصير الدليل لغوا ، فاللازم إدخال مورد الاجتماع تحته ، والحكم بأنّ الزيادة مطلقا توجب الإعادة ، خصوصا مع أنّ شمول حديث «لا تعاد» لصورة الزيادة لا يخلو عن خفاء ، ولذا أنكره بعض من المحقّقين.

ويمكن أن يقال باختصاص دليل الزيادة بزيادة الركعة بالتقريب الذي أفاده المحقّق المعاصر ، وقد مرّ سابقا ، وحينئذ فلا معارضة بينه وبين الحديث ، كما هو واضح.

ويمكن أيضا منع ندرة الزيادة العمديّة كما نراه بالوجدان من المتشرّعين الغير المبالين بالأحكام الشرعيّة المتسامحين بالنسبة إليها.

هذا كلّه فيما يتعلّق بملاحظة الحديث مع رواية أبي بصير.

وكان للمحقّق النائيني رحمه‌الله هنا كلام جيّد ظاهرا لا بدّ من ملاحظته بعنوان تكملة البحث في المقام ، وحاصل كلامه : أنّ الزيادة في الصلاة قد تكون من غير سنخ أقوال الصلاة وأعمالها ، وقد تكون من سنخ أقوالها ، وقد تكون من سنخ أفعالها ، فإن كانت من قبيل الأوّل كحركة اليد ـ مثلا ـ في حال الصلاة يكون شرط انطباق عنوان الزيادة في الصلاة عليه أن يكون المصلّي قاصدا

٥٠٨

لجزئيّته ، وإلّا لا يصدق عليه عنوان الزيادة ولا يكون مبطلا للصلاة ، وهكذا فيما كانت من سنخ الأقوال من القرآن أو الدعاء أو الذكر ، فلا بدّ من قصد جزئيّتها ، وإلّا فلا مانع من تكرارها ؛ لأنّه من الامور المطلوبة والمستحبّة شرعا ، وأمّا إن كانت من سنخ الأعمال فلا يحتاج إلى قصد الجزئيّة كالركوع والسجود ، فنفس الإتيان بها يوجب تحقّق عنوان الزيادة بشرط عدم قصد عنوان آخر كسجدة الشكر أو العزيمة.

ثمّ قال : يمكن أن يقال : ذكر تعليلا في بعض الروايات الناهية عن قراءة سور العزائم في الصلاة بقوله : «لأنّ السجود زيادة في المكتوبة» (١) ، وهذا مخالف لما ذكرنا من أنّ قصد عنوان آخر مانع عن تحقّق عنوان الزيادة في الصلاة.

ثمّ أجاب عنه : بأنّ الزيادة المتحقّقة في الصلاة من سنخ الأعمال قد تكون مجموعة ذا عنوان مستقلّ واسم خاصّ ، يتحقّق لها حافظ وحدة ، وقد لا تكون كذلك ، وإن كانت من قبيل الأوّل كإضافة صلاة مستقلّة في حال الاشتغال بصلاة اخرى فلا تكون مبطلة ، وإن كانت من قبيل الثاني كسجدة العزيمة فهي مبطلة ، ثمّ استشهد بما ورد في المصلّي بالصلاة اليوميّة إذا التفت إلى ضيق وقت صلاة الآيات يجوز له الإتيان بصلاة الآيات ، ثمّ إتمام ما بقي من الصلاة اليوميّة بعد الفراغ عن صلاة الآيات (٢).

ثمّ قال : يجوز التعدّي من مورد الرواية إلى عكس المسألة بأنّ المصلّي بصلاة الآيات إذا التفت إلى ضيق وقت الصلاة اليوميّة يجوز له أيضا هذا الأمر وتصحّ الصلاة ، ولا وجه لبطلانها ، فإنّ منشأ البطلان أحد أمرين : إمّا عنوان

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ١٠٧ ، الباب ٤١ من أبواب القراءة في الصلاة.

(٢) وسائل الشيعة ٧ : ٤٩٠ ، الباب ٥ من أبواب صلاة الكسوف والآيات.

٥٠٩

الزيادة في الصلاة ، واستفدنا من الرواية أنّه لا يكون قادحا ولا مانعا ، وإمّا فوت الموالاة بين أجزاء الصلاة ، وهو أيضا لا يكون مانعا بعد إحراز أهميّة إيقاع الصلاة اليوميّة في الوقت ، فلا مانع في البين لا من جهة الزيادة ولا من جهة فوت الموالاة.

واستشهد أيضا بما ذكره القائلون بفوريّة وجوب سجدتي السهو بإتيانها في أثناء صلاة العصر ـ مثلا ـ إذا نسيها بعد الفراغ من صلاة الظهر ؛ لكونها ذا عنوان مستقلّ (١). وهذا ملخّص ما ذكره المحقّق النائيني في المقام بعنوان الضابطة.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ ما ذكره من توقّف صدق عنوان الزيادة على أن لا يكون الزائد بنفسه من العناوين المستقلّة مجرّد ادّعاء بلا بيّنة وبرهان ؛ لأنّه لا فرق في نظر العرف في صدق هذا العنوان بين الإتيان في أثناء صلاة بسجدة ثالثة أو بصلاة اخرى مستقلّة مشتملة على أربع سجدات لا محالة لو لم نقل بأوضحيّة الصدق في الثاني ، كما لا يخفى.

نعم ، قد عرفت أنّه يعتبر في صدق الزيادة أن يكون الإتيان بالزائد بقصد الجزئيّة ، وأنّ التعليل الوارد في بعض الأخبار الناهية عن قراءة العزيمة في الصلاة الدالّ على أن السجود زيادة مع أنّه لم يقصد به الجزئيّة ، لا بدّ من تأويله.

وثانيا : سلّمنا اعتبار كون الزائد من العناوين المستقلّة ولكن نقول بأنّ سجدة العزيمة أيضا لها عنوان مستقلّ غير مرتبط بالصلاة التي هي فيها ، ولا فرق بينها وبين الإتيان بصلاة اخرى مستقلّة أصلا.

نعم ، لا ننكر أنّها وجبت بسبب قراءة آية السجدة التي هي جزء من

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٤٠ ـ ٢٤٣.

٥١٠

السورة التي هي جزء للصلاة.

ولكن نقول : إنّ قراءة آية السجدة سبب لوجوبها والمسبّب مغاير للسبب ، فالسبب جزء للصلاة والمسبّب له عنوان مستقلّ.

وثالثا : أنّه لو سلّمنا الفرق بين سجدة العزيمة وبين صلاة اخرى مستقلّة فلا نسلّم الفرق بينها وبين سجدتي السهو ، حيث يجوز الإتيان بهما في أثناء صلاة اخرى دونها ، مستندا إلى عدم كونهما من الزيادة بخلاف السجدة.

ورابعا : أنّ ما أفاده من أنّه «في بعض الأخبار ...» إلى آخره ، اشتباه محض ؛ لأنّ بعض الأخبار إنّما ورد في عكس المسألة الذي احتمل إمكان التعدّي عن مورد النصّ إليه ، وهو ما إذا تضيّق وقت صلاة اليوميّة في أثناء صلاة الآيات ، فإنّه قد ورد أنّه يجوز رفع اليد عن صلاة الآيات والإتيان باليوميّة في أثنائها ، ثمّ البناء على ما مضى من صلاة الآيات ، ولكن لا يخفى أنّه لا يجوز التعدّي عن مورد النصّ بعد احتمال أن يكون لصلاة الآيات خصوصيّة موجبة لجواز الإتيان بالفريضة اليوميّة في أثنائها.

وكيف كان ، فهذه الاشتباهات التي تترتّب عليها امور عظيمة إنّما منشؤها الاعتماد على الحافظة الموجب لعدم مراجعة كتب الأخبار وأمثالها.

ومن هنا ترى أن حديثا واحدا نقل في الكتب الفقهيّة بوجوه مختلفة وعبارات متشتّتة ، وليس منشؤها إلّا مجرد الاعتماد على الحفظ ، مع أنّه منشأ لفهم حكم الله ، فتختلف الفتاوى بسببه ، ويقع جمع كثير في الخطأ والاشتباه ، فاللازم على المجتهد الطالب للوصول إلى الحقّ أن لا يعتمد في استنباط الحكم الشرعي على من تقدّم عليه ولا على حفظه ، بل يراجع مظانّه كرّة بعد كرّة حتّى لا يقع في الخطأ والنسيان الذي لا يخلو منه إنسان. ويلزم أيضا التدقيق في

٥١١

الكلمات حتّى لا يقع في الاشتباه ، كما حصل لبعض أفاضل وعّاظ (طهران) فإنّه كان يذكر في المنابر بالنسبة إلى شهادة الصديقة الطاهرة عليها‌السلام أنّه : «أخذها السلّ ، وبعد مطالبته بالدليل ومستند كلامه ذكر الدليل ، ولكن بعد الرجوع إليه التفتنا إلى اشتباهه وعدم دقّته في العبارة ، وأنّها «أخذها السبل» ، ومعناها تورّم العين ظاهرا ؛ لكثرة البكاء.

٥١٢

الأمر الثاني : في تعذّر الجزء والشرط

لو علم بجزئيّة شيء أو شرطيّته أو مانعيّته أو قاطعيّته في الجملة ، وشكّ في أنّ اعتباره في المأمور به وجودا أو عدما هل يختصّ بصورة التمكّن من فعله أو تركه ، أو أنّه يعتبر فيه مطلقا؟ ويترتّب على ذلك وجوب الإتيان بالباقي على الأوّل ، وسقوط الأمر بالمركّب على الثاني في صورة الاضطرار ، فهل فالقاعدة تقتضي أيّا منهما؟

تحرير محلّ النزاع

وليعلم أنّ محلّ الكلام ما إذا لم يكن لدليل اعتبار ذلك الشيء جزء أو شرطا إطلاق ، وإلّا فلا إشكال في أنّ مقتضاه سقوط الأمر بالمركّب مع الاضطرار إلى ترك ذلك الشيء ، وكذا ما إذا لم يكن لدليل المركّب إطلاق ، وإلّا فلا إشكال في أنّه يقتضي الإتيان به ولو مع الاضطرار إلى ترك بعض أجزائه أو شرائطه بناء على ما هو التحقيق من كون الماهيّات المأمور بها موضوعة للأعمّ من الصحيح ، كما تقدّم في مبحث الصحيح والأعمّ.

وأمّا لو كان لكلا الدليلين إطلاق ، فتارة يكون لأحدهما تحكيم على الآخر ، واخرى يكونان متعارضين ، فعلى الأوّل إن كان التقدّم لإطلاق دليل المركّب فحكمه حكم ما إذا كان له إطلاق ، دون دليل الجزء والشرط ، وإن كان التقدّم

٥١٣

لإطلاق دليل الجزء والشرط فحكمه حكم ما إذا كان له إطلاق دون دليل المركّب.

ولا يخفى أنّه لا يكون التقدّم من أحد الجانبين كلّيّا ؛ لما عرفت وستعرف من أنّ الحكومة بلسان الدليل ، ولسان دليل المركّب قد يكون متعرّضا لحال دليل الجزء أو الشرط ، كما إذا كان دليل المركّب مثل قوله : «لا تترك الصلاة بحال» ، ودليل اعتبار الجزء أو الشرط مثل قوله : «اركع في الصلاة» أو «اسجد فيها».

وقد يكون دليل اعتبار الجزء متعرّضا لحال دليل المركّب وحاكما عليه ، كما إذا كان دليل الجزء مثل قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (١) أو «لا صلاة إلّا بطهور» (٢) ، ودليل المركّب مثل قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) فإنّه حينئذ لا إشكال في تقدّم دليل الجزء في هذه الصورة ؛ لأنّه إنّما يدلّ بظاهره على عدم تحقّق عنوان الصلاة مع كونها فاقدة لفاتحة الكتاب ، ودليل المركّب إنّما يدلّ على وجوب إقامة الصلاة ، كما أنّه في الصورة الاولى يكون الترجيح مع دليل المركّب ؛ لأنّ مقتضاه أنّه لا يجوز تركه بحال ، ومقتضى دليل الجزء مجرّد الأمر بالركوع والسجود في الصلاة مثلا.

وبالجملة ، لا بدّ من ملاحظة الدليلين ، فقد يكون التقدّم لإطلاق دليل المركّب ، وقد يكون لإطلاق دليل الجزء.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله على ما في التقريرات من أنّ إطلاق دليل القيد حاكم على إطلاق دليل المقيّد كحكومة إطلاق القرينة على ذيها (٣).

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ٥.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٣٦٥ ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٣) فوائد الاصول ٤ : ٢٥٠.

٥١٤

فيرد عليه : أوّلا : أنّ ترجيح القرينة على ذيها ليس لحكومتها عليه ، وإلّا فيمكن ادّعاء العكس ، وأنّ ذا القرينة حاكم عليها ، بل ترجيحها عليه إنّما هو من باب ترجيح الأظهر على الظاهر.

وثانيا : ما عرفت من منع حكومة إطلاق دليل القيد على إطلاق دليل المقيّد مطلقا ، بل قد عرفت أنّه قد يكون الأمر بالعكس.

وثالثا : وضوح الفرق بين المقام وبين باب القرينة وذي القرينة ، فإنّ هنا يكون في البين دليلان مستقلّان ، بخلاف باب القرينة وذي القرينة.

وقد نسب إلى الوحيد البهبهاني رحمه‌الله التفصيل فيما لو كان لدليل القيد إطلاق بين ما إذا كانت القيود مستفادة من مثل قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و «لا صلاة إلّا بطهور» ، وبين القيود المستفادة من مثل قوله : «اسجد في الصلاة» أو «اركع فيها» أو «لا تلبس الحرير فيها» ، وأمثال ذلك من الأوامر والنواهي الغيريّة ، فيحكم بسقوط الأمر بالمقيّد عند تعذّر القيد في الأوّل دون الثاني (١).

ومرجع هذا الكلام كما اعتقده استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله إلى ما ذكرنا من أنّ لسان دليل الجزء أو الشرط قد يكون بنحو الحكومة على دليل المركّب كما في الصورة الاولى ، وقد يكون الأمر بالعكس كما في الصورة الثانية ، ولكنّ التعبير بالحكومة لم يكن في عصره متداولا.

ولكنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله قال في مقام توجيه الكلام المذكور بما ملخّصه : إنّ الأمر الغيري المتعلّق بالجزء أو الشرط مقصورة على صورة التمكّن ؛ لاشتراط كلّ خطاب بالقدرة على متعلّقه ، فلا بدّ من سقوط الأمر بالقيد عند تعذّره ، ويبقى الأمر بالباقي ، وهذا بخلاف ما لو كان القيد مستفادا من مثل قوله :

__________________

(١) المصدر السابق ٤ : ٢٥١.

٥١٥

«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ، فإنّه لم يتعلّق أمر بالفاتحة حتّى يشترط فيه القدرة عليها ، بل إنّما افيد ذلك بلسان الوضع لا التكليف ، ولازم ذلك سقوط الأمر بالصلاة عند تعذّر الفاتحة ؛ لعدم التمكّن من إيجاد الصلاة الصحيحة عند عدم تمكّنه من الفاتحة.

وأجاب عنه بأنّ القدرة إنّما تعتبر في متعلّقات التكاليف النفسيّة ؛ لكونها طلبا مولويّا وبعثا فعليّا نحو المتعلّق ، والعقل يستقلّ بقبح تكليف العاجز ، وهذا بخلاف الخطابات الغيريّة ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ مفادها ليس إلّا الإرشاد وبيان دخل متعلّقاتها في متعلّقات الخطابات النفسيّة ، وفي الحقيقة الخطابات الغيريّة في باب التكاليف وفي باب الوضع تكون بمنزلة الأخبار من دون أن يكون فيها بعث وتحريك حتّى تقتضي القدرة على متعلّقه.

ثمّ إنّه لو سلّم الفرق بين الخطابات الغيريّة في باب متعلّقات التكاليف وفي باب الوضعيّات ، وأنّها في التكاليف تتضمّن البعث والتحريك ، فلا إشكال في أنّه ليس في آحاد الخطابات الغيريّة ملاك البعث المولوي ، وإلّا لخرجت عن كونها غيريّة ، بل ملاك البعث المولوي قائم بالمجموع ، فالقدرة إنّما تعتبر أيضا في المجموع لا في الآحاد ، وتعذّر البعض يوجب سلب القدرة عن المجموع ، ولازم ذلك سقوط الأمر منه لا من خصوص ذلك البعض (١). انتهى.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ ما أفاده من أنّ الخطابات الغيريّة في باب التكاليف وفي باب الوضع تكون بمنزلة الأخبار من دون أن يكون فيها بعث وتحريك فممنوع جدّا ؛ ضرورة أنّ الأوامر مطلقا ـ نفسيّة كانت أو غيرية ، مولويّة كانت أو إرشاديّة ـ إنّما تكون للبعث والتحريك كما مرّت الإشارة إلى ذلك سابقا.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٥١ ـ ٢٥٣.

٥١٦

غاية الأمر أنّ الاختلاف بينهما إنّما هو باختلاف الأغراض والدواعي ، وأمّا من جهة البعث والتحريك فلا فرق بينهما أصلا ، وحينئذ فيشترط فيه عقلا القدرة على متعلّقه ، وحيث إنّه لا قدرة في البين ـ كما هو المفروض ـ فاللازم سقوطه وبقاء الأمر بالباقي ، بخلاف ما لو كان بمثل قوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ممّا لا يكون فيه بعث ولا تحريك أصلا ، فإنّ ظاهره اشتراط الصلاة بالفاتحة وعدم تحقّقها بدونها ، فمع عدم القدرة عليها يسقط الأمر المتعلّق بها ، وحينئذ فيتمّ ما أفاده الوحيد رحمه‌الله.

وثانيا : منع ما ذكره من اعتبار القدرة في المجموع لقيام ملاك البعث المولوي به ، لأنّ البعث مطلقا ـ مولويّا كان أو غيريّا ـ مشروط بالقدرة ، وكون المتعلّق في البعث الغيري دخيلا في المطلوب الذاتي ـ جزء أو شرطا لا نفس المطلوب الذاتي ـ لا يوجب نفي اعتبار القدرة عليه ؛ لأنّ اعتبارها إنّما هو لأجل نفس البعث والتحريك ، كما هو واضح.

فالإنصاف بطلان هذا الجواب ، وكذا فساد أصل التوجيه ، والظاهر أنّ مرجع كلام الوحيد رحمه‌الله إلى ما ذكرناه ، فتدبّر.

فمحلّ النزاع أنّ بعد إثبات جزئيّة شيء أو شرطيّته أو مانعيّته أو قاطعيّته بنحو الإجمال نشكّ في أنّها مطلقة أو مختصّة بصورة التمكّن ، والمفروض أنّه لا إطلاق لكلا الدليلين ـ أي دليل الجزء ودليل أصل المأمور به ـ أو يتحقّق الإطلاق لكليهما بدون أن يكون أحدهما حاكما على الآخر ، إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامين :

أحدهما : فيما تقتضيه القواعد الأوّليّة.

وثانيهما : فيما تقتضيه القواعد الثانويّة.

٥١٧

مقتضى القواعد الأوّليّة في المقام في جريان البراءة العقليّة

أمّا الكلام في المقام الأوّل فمحصّله : أنّ الظاهر جريان البراءة العقليّة ؛ لأنّ مرجع الشكّ في اعتبار الشيء في المأمور به ـ شطرا أو شرطا مطلقا أو اختصاصه بصورة التمكّن منه ـ إلى الشكّ في ثبوته مع العجز عنه ، وهو مورد لجريان البراءة كما لا يخفى.

وهذا لا فرق فيه بين ما لو كان العجز من أوّل البلوغ الذي هو أوّل زمان ثبوت التكليف ، كالأخرس الذي لا يقدر على القراءة ، وبين ما لو كان طارئا في واقعة واحدة ، كمن عرض له العجز في أثناء الوقت بعد أن كان متمكّنا في أوّل الوقت ، وبين ما لو كان طارئا في واقعتين ، كمن كان قادرا في الأمس وصار عاجزا في اليوم من أوّل الوقت إلى آخره.

ووجه عدم الفرق : أنّ مرجع الشكّ في الجميع إلى الشكّ في أصل ثبوت التكليف ، والقاعدة فيه تقتضي البراءة.

أمّا الصورة الاولى فرجوع الشكّ فيها إلى الشكّ في أصل التكليف واضح ، وكذا الصورة الثالثة ؛ لأنّ ثبوت التكليف في الواقعة الاولى لا دلالة على ثبوته في الواقعة الثانية أيضا ، فالتكليف فيها مشكوك.

وأمّا الصورة الثانية فلأنّ المكلّف وإن كان عالما في أوّل الوقت بتوجّه التكليف إليه ، إلّا أنّه حيث كان قادرا على المأمور به بجميع أجزائه وشرائطه يكون المكلّف به في حقّه هو المأمور به مع جميع الأجزاء والشرائط ، فتعلّق التكليف بالمركّب التامّ كان معلوما مع القدرة عليه.

وأمّا مع العجز عن بعض الأجزاء أو الشرائط فلم يكن أصل ثبوت التكليف بمعلوم ، فما علم ثبوته قد سقط بسبب العجز ، وما يحتمل ثبوته فعلا

٥١٨

كان من أوّل الأمر مشكوكا ، فلا مانع من جريان البراءة فيه.

ولكن قد يتوهّم أنّ المقام نظير الشكّ في القدرة ، والقاعدة فيه تقتضي الاحتياط بحكم العقل ، ولا يخفى أن التنظير غير صحيح ؛ لأنّ في مسألة الشكّ في القدرة يكون أصل ثبوت التكليف معلوما بلا ريب ، غاية الأمر أنّه يشكّ في سقوطه لأجل احتمال العجز عن إتيان متعلّقه.

وأمّا في المقام فيكون أصل ثبوت التكليف مجهولا ؛ لما عرفت من أن التكليف بالمركّب التامّ قد علم سقوطه بسبب العجز ، وبالمركّب الناقص يكون مشكوكا من أوّل الأمر ، فالتنظير في غير محلّه.

كما أن قياس المقام بالعلم الإجمالي الذي طرأ الاضطرار على بعض أطرافه ، حيث يحكم العقل بحرمة المخالفة القطعيّة مع العجز عن الموافقة القطعيّة ـ كما يظهر من الدرر (١) ، حيث اختار وجوب الإتيان بالمقدور عقلا فيما لو كان العجز طارئا عليه في واقعة واحدة؛ لأنّه يعلم بتوجّه التكليف إليه ، فإن لم يأت بالمقدور لزم المخالفة القطعيّة ـ ممّا لا يتمّ أيضا ؛ لعدم ثبوت العلم الإجمالي في المقام ، بل الثابت هو العلم التفصيلي بالتكليف المتعلّق بالمركّب التامّ الساقط بسبب العجز عنه ، والشكّ البدوي في ثبوت التكليف بالباقي المقدور ، فالحقّ جريان البراءة العقليّة في جميع الصور الثلاثة.

في جريان البراءة الشرعيّة

وأمّا البراءة الشرعيّة التي يدلّ عليها حديث الرفع فقال المحقّق الخراساني رحمه‌الله بعدم جريانها ؛ لأنّ الحديث في مقام الامتنان ، ولا منّة في إيجاب

__________________

(١) درر الفوائد للمحقّق الحائري رحمه‌الله : ٤٩٨.

٥١٩

الباقي المقدور (١).

ولكن اشكل عليه بأنّه تتحقّق في المقام جهتان : الاولى : رفع الجزئيّة في حال العجز وعدم التمكّن ، الثانية : لزوم الإتيان بالباقي المقدور ، فلا مانع من رفع الجزئيّة بفقرة «رفع ما لا يطيقون» من الحديث ، ورفع لزوم الإتيان ببقية الأجزاء بفقرة «رفع ما لا يعلمون» منه ، فإنّا لا نعلم أنّ الإتيان بالباقي في حال عدم التمكّن من هذا الجزء لازم أم لا؟ فتجري البراءة الشرعيّة أيضا بالتقريب المذكور في البراءة العقليّة ، بدون أن يتحقّق في المسألة عنوان الوضع أو خلاف الامتنان.

مقتضى القواعد الثانويّة في المقام

التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب باقي الأجزاء :

وأمّا الكلام في المقام الثاني : فقد يتمسّك لوجوب الباقي المقدور بالاستصحاب ، وتقريره من وجوه :

الأوّل : استصحاب الوجوب الجامع بين الوجوب النفسي والغيري ، بأن يقال : إنّ البقية كانت واجبة بالوجوب الغيري في حال وجوب الكلّ بالوجوب النفسي وعدم عروض العجز ، وقد علم بارتفاع ذلك الوجوب عند تعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط ؛ للعلم بارتفاع وجوب الكلّ ، ولكن شكّ في حدوث الوجوب النفسي بالنسبة إلى البقية مقارنا لزوال الوجوب الغيري عنها ، فيقال : إنّ الجامع بين الوجوبين كان متيقّنا والآن يشكّ في ارتفاعه بعد ارتفاع بعض مصاديقه ، فهو من قبيل القسم الثالث من أقسام

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٤٥.

٥٢٠