دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

أصالة البراءة

ينبغي تقديم مقدّمتين قبل الورود في أصل البحث وبيان الأدلّة :

المقدمة الأولى : أنّ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) جعل الشكّ في التكليف الذي هو مجرى البراءة على أقسام ثمانية ، باعتبار أنّ الشبهة تارة تكون تحريميّة واخرى وجوبيّة ، وعلى كلا التقديرين إمّا أن يكون منشأ الشكّ فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين أو اشتباه الامور الخارجيّة ، والثلاثة الاولى راجعة إلى الشبهات الحكميّة ، والرابع راجع إلى الشبهات الموضوعيّة ، فهذه أقسام ثمانية وعقد لكلّ منها مسألة خاصّة.

والمحقّق الخراساني قدس‌سره طوى البحث عن الكلّ في فصل واحد وذلك لوحدة مناط البحث في الجميع ، فإنّ المناط في الكلّ هو الشكّ في التكليف ، والاختلاف في منشئه لا يصحّح عقد فصول متعدّدة ، بل يكفي عقد بحث واحد عام لمطلق الشكّ في التكليف ، وما فعله قدس‌سره هو الأنسب.

المقدّمة الثانية : أنّ النزاع بين الاصوليّين والأخباريّين في مسألة البراءة إنّما يرجع إلى صغرى المسألة لا الكبرى ، فإنّهما متّفقان على مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأنّ العبد لا يستحقّ العقاب على مخالفة التكليف مع عدم وصوله إليه ، وإنّما الاختلاف في الصغرى حيث ذهب الأخباريّون إلى تماميّة

__________________

(١) الرسائل : ١٩٢.

٢٢١

البيان وقيام الحجّة هنا ، وهي أدلّة الاحتياط ، والاصولي ذهب إلى عدمها.

ومن هنا لا بدّ أن نميّز بين قسمين من الأدلّة القائمة على جريان البراءة : القسم الذي يكون معارضا لأدلّة الأخباريّين ، والقسم الذي هو أدلّة الاحتياط التي تكون على تقدير تماميّتها حاكمة عليه ، ومن الواضح أنّ الذي ينفع الاصولي هو القسم الأوّل الدالّ على عدم تماميّة البيان وعدم قيام الحجّة على التكليف المعارض لأدلّة وجوب الاحتياط ، وأمّا القسم الثاني فلا ينفع الاصولي شيئا ؛ إذ مفاده هو بيان الكبرى من قبح العقاب بلا بيان المتّفق عليه بين الطرفين.

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنعقد البحث في مقامين :

٢٢٢

المقام الأوّل : في أدلّة الاصوليّين على البراءة

وهي أربعة :

الدليل الأوّل : الكتاب

واستدلّ بآيات منه :

الآية الاولى : قوله تعالى : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١).

دلّت الآية الشريفة على نفي العقاب بمخالفة التكليف غير الواصل للمكلّف ؛ إذ بعث الرسول كناية عن إيصال الأحكام وبيانها للعباد.

وقد اورد على الاستدلال بها بوجوه :

الأوّل : ما عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (٢) من أنّ ظاهر الآية هو الإخبار بوقوع العذاب سابقا بعد البعث ، فتختصّ الآية بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة ، فلا تشمل نفي العقاب الاخروي لأجل عدم البيان.

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

(٢) الرسائل : ١٩٣.

٢٢٣

وفيه : أوّلا : أنّه لا يوجد في الآية ما يدلّ على تقييد العذاب بالدنيوي عدا استعمال فعل الماضي في قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) ، إلّا أنّ سياقه ليس هو الإخبار عن الامم السابقة ، بل سياقه نفي الشأنيّة ، حيث ليس من شأنه تعالى أن يعذّب الناس قبل البيان وإتمام الحجّة ، وهذه سنّة الله من دون فرق بين الامم السابقة واللّاحقة ولا بين الدّنيا والآخرة.

وثانيا : أنّ الآية الشريفة تناسب إرادة معنى عاما بلحاظ وقوعها بين الآيات الدالّة على العذاب الاخروي والدنيوي ، فإنّ الآية المتقدّمة عليها قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(١).

والآية المتأخّرة عنها قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)(٢) ، فتكون الآية الشريفة صالحة للاستدلال بها بلحاظ إرادة المعنى العام منها.

وثالثا : سلّمنا أنّ المراد من الآية هو الإخبار عن عدم وقوع العذاب على الامم السابقة في الدنيا إلّا بعد البيان بقرينة التعبير بلفظ الماضي ، إلّا أنّ دلالة الآية على نفي العذاب الاخروي ـ الذي هو أشدّ بمراتب من العذاب الدنيوي ـ ستكون بطريق أولى ، وبالأولويّة التي يستفادها العقل والعرف يتمّ المطلوب.

الوجه الثاني : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (٣) من أنّ صحّة التمسّك بالآية مبنيّة على عدم استحقاق العقاب الذي هو ملاك البراءة ، ولكنّها لا تدلّ إلّا

__________________

(١) الإسراء : ١٣ ـ ١٤.

(٢) الإسراء : ١٦.

(٣) كفاية الاصول ٢ : ١٦٧.

٢٢٤

على نفي الفعليّة ، وعدم الفعليّة أعمّ من أن يكون لأجل عدم الاستحقاق أو لأجل عفوه ولطفه تعالى للعباد مع استحقاقهم للعذاب. وعليه فلا يؤمّن فاعل الشبهة من العذاب الاخروي ؛ إذ المفروض أنّ نفي فعليّة العذاب لا ينفي استحقاقه.

وفيه : أنّ التعبير باستحقاق العقوبة وعدمه وإن تحقّق في ظاهر الكلمات ولكن ليس من شأن الاصولي أن يكون في مقام إثبات استحقاق العقوبة ونفيه ، فإنّه مسألة كلاميّة ، وإنّما النزاع بيننا وبين الأخباريّين في ثبوت المؤمّن من العقاب في ارتكاب الشبهة وعدمه ، ومعلوم أنّ المؤمّن منه ثابت بالآية قبل بعث الرسول وبيان التكليف ، سواء تحقّق الاستحقاق أم لا.

الوجه الثالث : ما عن المحقّق النائيني قدس‌سره (١) من أنّ مفاد الآية هو الإخبار عن نفي التعذيب قبل إتمام الحجّة ، كما هو حال الامم السابقة ، فلا دلالة لها على حكم مشتبه الحكم من حيث إنّه مشتبهة ، فتكون أجنبيّة عمّا نحن فيه.

وفيه : أنّ بعث الرسول كناية عن إيصال الأحكام وتبليغها للعباد ، فيكون مشتبه الحكم من حيث إنّه مشتبه داخل في مفاد الآية ، مع أنّه لا فائدة للاستدلال بالآية في مقابل أدلّة الأخباريّين ؛ لحكومتها عليه ، فإنّ مفاد الآية هو نفي العقاب بلا بيان التكليف ، ومفاد أدلّة الأخباريّين ـ على فرض تماميّتها ـ أنّ دليل الاحتياط بيان له ، فظاهر الآية أنّه ليس من شأن الباري ارتكاب ما هو قبيح عقلا.

الآية الثانية : قوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

٢٢٥

عُسْرٍ يُسْراً)(١).

تقريب الاستدلال : أنّ المراد من الموصول هو التكليف ، والمراد من الإيتاء هو الإيصال والإعلام ؛ لأنّ إيتاء كلّ شيء بحسبه ، وإيتاء التكليف ليس إلّا بإيصاله وإعلامه ، فالآية تدلّ على رفع التكليف عند الشكّ وعدم وصوله وإعلامه.

أقول : استقصاء الكلام حول الآية الشريفة يقتضي البحث في جهات ثلاث :

الأولى : في بيان الاحتمالات الواردة بشأن الموصول.

الثانية : في تعيين الظاهر بين الاحتمالات.

الثالثة : في أنّ البراءة المستفادة من الآية هل هي بمستوى تعارض أدلّة الاحتياط ـ على تقدير تماميّتها ـ أو بمستوى تكون أدلّة الاحتياط حاكمة عليها.

أمّا الجهة الاولى : فإنّ الاحتمالات الواردة في الموصول أعني به قوله تعالى (إِلَّا ما آتاها) أربعة :

الأوّل : ما ذكر في تقريب الاستدلال بالآية ، من أنّ المراد من الموصول هو التكليف ، ومن الإيتاء الوصول والإعلام ، فيكون المعنى : لا يكلّف الله نفسا إلّا بتكليف أوصله إلى المكلّف ، وفي حال الشكّ لا يكون التكليف واصلا ، فلا تكليف ، وعلى هذا الاحتمال تكون دلالة الآية على البراءة تامّة.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد من الموصول هو المال بقرينة المورد ، ومن الإيتاء التمليك ، فيكون المعنى حينئذ : لا يكلّف الله نفسا بمال ـ أي بأداء مال ـ إلّا بما ملكه ، فتكون الآية أجنبيّة عن البراءة.

__________________

(١) الطلاق : ٧.

٢٢٦

الاحتمال الثالث : أن يكون المراد من الموصول مطلق فعل الشيء وتركه ، ومن الإيتاء الإقدار ، فيكون المعنى حينئذ : لا يكلّف الله نفسا بفعل شيء أو تركه إلّا إذا أقدرها عليه ومكّنها منه ، وعليه فتكون الآية أيضا أجنبيّة عن البراءة ؛ لأنّ مفادها رفع التكليف عن العاجز ردّا لمن يرى جواز التكليف بغير المقدور.

الاحتمال الرابع : أن يكون المراد من الموصول الجامع بين التكليف والمال ومطلق فعل الشيء وتركه ، والمراد بالإيتاء هو الجامع بين الإيصال والتمليك والإقدار ؛ بأن يكون الإيتاء بمعنى الإعطاء ، ولكنّ إعطاء كلّ شيء بحسبه ، فإعطاء التكليف إيصاله وإعلامه ، وإعطاء المال تمليكه ، وإعطاء مطلق فعل الشيء وتركه الإقدار عليه ، وحينئذ الآية الشريفة بعمومها تشمل ما نحن فيه ، وتكون دالّة على البراءة كالاحتمال الأوّل.

ولا يخفى أنّ الإشكال في الاحتمالات الثلاثة السابقة من جهة ظهور الآية ومقام الإثبات ، مع صحّة جريانها في نفسها ومقام الثبوت ، ولكنّ البحث في الاحتمال الأخير من حيث الإمكان ومقام الثبوت قبل وصول النوبة إلى الاستظهار ، فإنّه استشكل عليه بامتناعه ثبوتا.

توضيح ذلك : أنّ المراد بالموصول إن كان هو المال أو الفعل كان الموصول مفعولا به لفعل (لا يُكَلِّفُ اللهُ) بينما لو اريد به التكليف والحكم كان مفعولا مطلقا ، ومن الواضح عدم إمكان اجتماع نسبة فعل واحد في استعمال واحد إلى المفعول به والمفعول المطلق ، وذلك للتباين والتنافي بين النسبتين ، فإنّ نسبة الفعل إلى المفعول المطلق يحتاج إلى لحاظ كون المفعول من شئونه وأطواره على نحو لا يكون له وجود قبل وجود الفعل ، بل يكون وجوده بعين وجود الفعل مثل : «ضربت ضربا شديدا» ، وهذا بخلاف المفعول به فإنّه لا بدّ وأن

٢٢٧

يكون موجودا قبل تحقّق الفعل ، ليكون الفعل واقعا عليه ، مثل : «ضربت زيدا».

وقد أجاب المحقّق النائيني قدس‌سره (١) عن الإشكال بأنّ المفعول المطلق النوعي والعددي يصحّ جعله مفعولا به بنحو العناية ، فإنّ الوجوب والتحريم ـ مثلا ـ وإن كان وجودهما بنفس الإيجاب والإنشاء وليس لهما نحو تحقّق في المرتبة السابقة إلّا أنّهما باعتبار ما لهما من المعنى الاسم المصدري يصحّ تعلّق التكليف بهما. نعم ، هما بالمعنى المصدري لا يصحّ تعلّق التكليف بهما.

وفيه : أنّ لازم ما أفاده قدس‌سره هو الجمع بين الاعتبارين المتنافيين ؛ إذ المفعول المطلق عبارة عن حاصل المصدر ، ولهذا يكون متأخّرا رتبة عن المصدر ، وأمّا المفعول به فهو مقدّم في الاعتبار على المصدر ؛ لأنّه إضافة قائمة به ، وعليه فكيف يمكن الجمع بين المفعول به والمفعول المطلق في الاعتبار؟! فإنّه يلزم منه اعتبار المتأخّر في الاعتبار متقدّما في الاعتبار في حال كونه متأخّرا.

وهناك جواب آخر أفاده المحقّق العراقي قدس‌سره (٢) ، وهو : أنّ الإشكال إنّما يرد في فرض إرادة الخصوصيّات المزبورة من شخص الموصول ، وإلّا فبناء على استعمال الموصول في معناه الكلّي العام ، وإرادة الخصوصيّات من دوال أخر خارجيّة فلا يتوجّه محذور ، لا من طرف الموصول ولا في لفظ الإيتاء ، ولا من جهة تعلّق الفعل بالموصول ، وذلك أمّا من جهة الموصول فظاهر ، فإنّه لم يستعمل إلّا في معناه الكلّي العام ، وأنّ إفادة الخصوصيّات إنّما كان بتوسيط دالّ آخر خارجي ، وكذلك الحال في لفظ الإيتاء فإنّه أيضا مستعمل في معناه

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ١٩٦.

٢٢٨

وهو الإعطاء ، غير أنّه تختلف مصاديقه من حيث كونه تارة هو الإعلام عند إضافته إلى الحكم ، واخرى الملكيّة أو الإقدار عند إضافته إلى المال أو الفعل ، وهكذا الأمر في تعلّق الفعل بالموصول حيث لا يكون له إلّا نحو تعلّق واحد به ، ومجرّد تعدّده بالتحليل إلى نحو التعلّق بالمفعول به ، والتعلّق بالمفعول المطلق لا يقتضي تعدّده بالنسبة إلى الجامع الذي هو مفاد الموصول كما هو ظاهره ، غاية الأمر أنّه يحتاج إلى تعدّد الدال والمدلول.

وأورد عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) بأنّ نحو تعلّق الفعل بالمفعول المطلق والمفعول به مباين لا جامع بينهما ، وأمّا تعدّد الدال والمدلول أو إقامة القرينة على الخصوصيّات فإنّما هو فيما إذا كان هناك جامع حقيقي كي تكون الخصوصيّات من مصاديقه ، وقد عرفت أنّه لا جامع في المقام للتباين الموجود بين نسبة تعلّق الفعل إلى المفعول المطلق ونسبة تعلّقه إلى المفعول به.

والظاهر أنّه قابل للمساعدة ، فإنّ ارتباط الحاصل بين الفعل والمفعول من سنخ المعاني الحرفيّة ، ومعلوم أنّ النسب متباينة ذاتا ، وكما لا يكون الجامع بين نسبة الظرفيّة في جملة «زيد في الدار» ونسبة الاستعلاء في جملة «زيد على السطح» فكذلك لا يكون الجامع بين نسبة الفعل إلى المفعول به ونسبته إلى المفعول المطلق.

ولكن على فرض صحّة كلام المحقّق العراقي قدس‌سره (٢) وتماميّة الاحتمال الرابع ثبوتا في معنى الآية لا يصحّ الاستدلال به في المقام كما قال المحقّق العراقي قدس‌سره : بأنّه لا يمكن التمسّك بإطلاق الآية لاستفادة البراءة ، وذلك لعدم تماميّة الإطلاق

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٤٣.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٢٠٣.

٢٢٩

مع وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، حيث إنّ القدر المتيقّن منه بقرينة المورد إنّما هو خصوص المال ، ومثله يمنع عن الأخذ بإطلاق الموصول لما يعمّ المال والفعل والتكليف.

وفيه : أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا يمنع من التمسّك بالإطلاق ، وانتفاؤه لا يكون من مقدّمات الحكمة ، كما مرّ تحقيقه في مبحث المطلق والمقيّد.

وأمّا الجهة الثانية فالصحيح أنّ الآية غير ظاهرة في الاحتمال الأوّل والرابع على فرض إمكانه ، ولا تكون صالحة للاستدلال على البراءة ، وذلك لإجمالها ؛ إذ كما يحتمل أن يراد من الموصول خصوص الحكم أو الأعمّ منه ومن الإيتاء الإعلام أو الأعمّ منه ، كذلك يحتمل أن يراد منه خصوص المال ، ومن الإيتاء الملكيّة ، أو يراد من الموصول الفعل أو الترك ، ومن الإيتاء الإقدار عليهما ، وعليه فالآية مردّدة بين هذه الاحتمالات ، ومن الواضح أنّه لا ظهور لها في الاحتمال الأوّل والرابع المثبتين للبراءة لو لا دعوى ظهورها بقرينة المورد في الاحتمال الثاني أو الثالث ، وهما أجنبيّان عن البراءة.

على أنّ التمسّك بالإطلاق فرع تعلّق الإرادة الاستعماليّة في المطلق.

توضيح ذلك : أنّ الاحتمال الرابع ـ بعد فرض إمكانه ثبوتا وبعد عدم مانعيّة وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب عن التمسّك بالإطلاق ـ لا يصحّ أن يكون مبنى للاستدلال ، فإنّ التمسّك بالإطلاق يكون لتشخيص المراد الجدّي للمولى وتطابقه مع مراده الاستعمالي بعد إحراز أنّ مراده الاستعمالي من اللفظ هو المطلق بلا شبهة ، ولم يحرز هذا المعنى فيما نحن فيه ، فكيف يمكن التمسّك بالإطلاق الاحتمالي؟!

وأمّا الجهة الثالثة فلو سلّمنا بدلالة الآية على البراءة ، فهل مفادها سنخ

٢٣٠

مفاد ينفي وجوب الاحتياط حتّى يكون معارضا لأدلّته لو تمّت ، أو يكون مفاده محكوما لأدلّة الاحتياط؟

ذهب المحقّق العراقي قدس‌سره (١) إلى أنّ غاية ما يستفاد من الآية إنّما هو نفي الكلفة والمشقّة من قبل التكاليف المجهولة غير الواصلة إلى المكلّف ، لا نفي الكلفة مطلقا ولو من قبل جعل إيجاب الاحتياط ، فمفاد الآية حينئذ مساوق لكبرى قبح العقاب بلا بيان ، ومن المعلوم عدم كون مثله مضرّا بالاحتياط القائل به الأخباري ، فإنّه يدّعي إثبات الكلفة والمشقّة على المكلّف من جهة جعل إيجاب الاحتياط الواصل إلى المكلّف.

والتحقيق : أنّ مفاد الآية يعارض وجوب الاحتياط وينفيه ، وذلك لأنّ وجوب الاحتياط كلفة ومشقّة آتية من قبل التكليف المجهول ، والآية تدلّ على رفعها عن المكلّف ، ومن الواضح أنّ وجوب الاحتياط ليس وجوبا نفسيّا استقلاليّا ، وإنّما هو وجوب طريقي يأتي من التكليف المجهول لجهة المحافظة عليه ، وإلّا يلزم تعدّد المثوبة والعقوبة في موارد وجوب الاحتياط ، وهو كما ترى.

والحاصل ممّا ذكرناه : أنّ دلالة الآيتين المذكورتين على البراءة ليست بتامّة. ثمّ هناك آيات اخرى استدلّ بها الأعلام في المقام إلّا أنّ المهمّ منها ما ذكرناه.

الدليل الثاني : السنّة

واستدلّوا بروايات :

الرواية الاولى : ما رواه الصدوق قدس‌سره في كتاب الخصال بسند صحيح عن

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٠٤.

٢٣١

حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة». (١)

واستقصاء البحث في حديث الرفع يستدعي الكلام في مقامات ثلاثة :

أمّا مقام الأوّل : ففيه أمور يجب تقديمها لفقه الحديث :

الأمر الأوّل ـ في معنى الرفع والدفع : لا شكّ في أنّ الرفع يستعمل عرفا في إزالة الشيء الموجود مع كون المقتضي للبقاء موجودا ، والدفع يستعمل فيما إذا لم يوجد بعد ، ولكن كان المقتضي لوجوده موجودا ، فالرفع عبارة عن إزالة الموجود في الزمان السابق عن ورود الرفع ؛ بحيث لو لا الرفع لكان مستمرّا في الوجود ، والدفع عبارة عن منع تأثير المقتضي في وجود الشيء وتحقّقه ، وعليه فالرفع والدفع متباينان مفهوما.

الأمر الثاني ـ في بيان المراد من الرفع في الحديث الشريف : ذهب المحقّق النائينيقدس‌سره (٢) إلى أنّ الرفع هنا بمعنى الدفع بلا عناية وتجوز أصلا ، وذلك لأنّ الرفع في الحقيقة يمنع ويدفع المقتضي عن التأثير في الزمان اللّاحق أو المرتبة اللّاحقة ؛ لأنّ بقاء الشيء كحدوثه يحتاج إلى علّة البقاء وإفاضة الوجود عليه من المبدأ الفيّاض في كلّ آن ، فالرفع في مرتبة وروده على الشيء إنّما يكون دفعا حقيقة باعتبار علّة البقاء ، وإن كان رفعا باعتبار الوجود السابق ، فاستعمال الرفع في مقام الدفع لا يحتاج إلى علاقة المجاز ، بل لا يحتاج إلى عناية أصلا.

__________________

(١) الخصال : ٤١٧ ، الحديث ٩ ، الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١.

(٢) فوائد الاصول ٣ : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

٢٣٢

وفيه : أوّلا : ما عرفت من أنّ الدفع والرفع متباينان مفهوما لغة وعرفا ، فلا يصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر إلّا بعناية وتجوّز.

وثانيا : سلّمنا أنّ الشيء يحتاج إلى العلّة حدوثا وبقاء ، والرفع هو المنع عن تأثير المقتضي في البقاء ، ولكن قد يلاحظ الشيء باعتبار الزمان اللاحق مع قطع النظر عن وجوده في الزمان السابق ، فلا مانع حينئذ عن استعمال كلمة «الدفع» ، وقد يلاحظ الشيء باعتبار وجوده في الزمان السابق ، فلا بدّ حينئذ من استعمال كلمة «الرفع» ، ولذا نرى استعمال كلمة «الوضع» مكان «الرفع» في لسان الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام حين الاستدلال بهذا الحديث الشريف في مقابل أهل السنّة ، وقالوا : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وضع عن أمّتي تسعة ...» ومعلوم أنّ الوضع إذا كان متعدّيا ب «عن» معناه رفع ما هو متحقّقا وموجودا في الخارج ، كقولنا : وضع الكتاب عن الأرض ، بخلاف ما إذا كان متعدّيا ب «على» ، فلا بدّ في معنى الرفع من ملاحظة الوجود في الزمان السابق ، فالرفع والدفع متباينان.

مع أنّ ظاهر كلامه قدس‌سره هو التساوي بين عنواني الرفع والدفع ، وما يستفاد من كلامه قدس‌سره صدرا وذيلا : أنّ كلّ رفع دفع ، وليس كلّ دفع رفعا ، والنسبة بينهما العامّ والخاصّ المطلق ، وهذا مخالف للمعنى اللغوي والعرفي.

الأمر الثالث : في أنّ إسناد الرفع بالمعنى المذكور إلى العناوين التسعة هل يكون إسنادا حقيقيّابحيث لا يحتاج إلى التقدير والتصحيح أم لا؟ مع أنّ المراد من الرفع ليس هو الرفع التكويني ، فإنّا نرى أنّ الامور التسعة المذكورة موجودة ومتحقّقة في الخارج.

قال المحقّق النائيني قدس‌سره (١) : إنّه لا حاجة إلى التقدير أصلا ؛ لأنّ التقدير إنّما

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

٢٣٣

يحتاج إليه فيما إذا توقّف تصحيح الكلام عليه ، كما إذا كان الكلام إخبارا عن أمر خارجي، أو كان الرفع رفعا تكوينيّا ، فلا بدّ في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عن الكذب ، وأمّا إذا كان الرفع تشريعيّا فالكلام يصحّ بلا تقدير ، فإنّ الرفع التشريعي ليس إخبارا عن أمر واقع ، بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع والنفي كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار» ، وكقوله عليه‌السلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» ونحو ذلك ممّا يكون تلو النفي أمرا ثابتا في الخارج.

وفيه : أوّلا : أنّ شأن النبيّ والأئمّة عليهم الصلاة والسلام هو الإخبار عن الأحكام والتشريعات ، وأمّا الإنشاء والتشريع فله تعالى وحده ، وعليه فحديث الرفع إخبار عن أمر خارجي ، وهو رفع الشارع تعالى هذه الامور التسعة عن الأمّة الإسلاميّة ، فالشارع في الواقع هو الباري تعالى ، والعالم بالشريعة والمبيّن لها عبارة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وإن كان تفويض تشريع بعض الامور إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا لا شبهة فيه.

وثانيا : أنّ المتّبع هو لسان الدليل ، فإن كان لسانه إسناد الشيء إلى ما هو له فلا حاجة إلى التقدير والادّعاء ، وإن كان لسانه إسناد الشيء إلى غير ما هو له فيحتاج إلى المصحّح والتقدير لا محالة بلا فرق بين الإنشاء والإخبار ، ومعلوم أنّ إسناد الرفع إلى الامور التسعة يحتاج إلى العناية والتقدير ، بعد عدم رفع الامور التسعة عن الامّة الإسلاميّة خارجا ، فيكون الإسناد مجازيّا ويحتاج إلى المصحّح.

الأمر الرابع ـ في بيان مصحّح الادّعاء : وهناك عدّة اتّجاهات لبيان المصحّح : الأوّل : أنّ مصحّح تعلّق الرفع بهذه الامور التسعة هو رفع المؤاخذة في موردها للمناسبة والسنخيّة المتحقّقة بين رفع هذه العناوين والمؤاخذة.

٢٣٤

وفيه : أوّلا : أنّ المؤاخذة من الامور التكوينيّة ـ أي فعل المولى ـ وليست من الآثار الشرعيّة حتّى يتعلّق الرفع التشريعي بها ، وأمّا استحقاق المؤاخذة فهو من الأحكام العقليّة ، وليس من الآثار الشرعيّة أيضا.

وثانيا : أنّ ظاهر بعض الأخبار عدم اختصاص المرفوع عن الامّة بخصوص المؤاخذة ، فعن أبي الحسن عليه‌السلام في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال عليه‌السلام : «لا» ، ثمّ قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضع عن أمّتي : ما اكرهوا عليه ، وما لم يطيقوا ، وما أخطئوا». (١)

فإنّ المرفوع في هذا الحديث هو الحكم الوضعي من طلاق الزوجة وانعتاق العبد وصيرورة الأموال ملكا للفقراء ، فلا وجه حينئذ لاختصاص المصحّح برفع المؤاخذة ، مع أنّ اليمين بكون زوجته مطلّقة يكون باطلا وإن لم يكن إكراهيّا ، كما قال به الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (٢).

وثالثا : أنّ اختصاص المصحّح بالمؤاخذة لا يلائم إطلاق الرفع لأصل العناوين المذكورة.

الاتّجاه الثاني : أنّ المصحّح هو رفع خصوص الأثر الظاهر في كلّ فقرة من الفقرات التسع ، كالحدّ عن شرب الخمر الإكراهي ، وحصول البينونة عن الطلاق الإكراهي.

وفيه : أوّلا : أنّه مخالف لإطلاق الرفع الظاهر برفع الموضوع بجميع آثاره.

وثانيا : أنّ رفع الموضوعات برفع بعض آثارها لا تمامها ليس بصحيح عرفا ؛ إذ رفع الموضوعات مع بقاء بعض آثارها يعدّ من التناقض الباطل ،

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٢٣٧ ، الباب ١٦ من كتاب الأيمان ، الحديث ٦.

(٢) الرسائل : ١٩٦.

٢٣٥

فكون الموضوع مرفوعا إنّما يصحّ فيما إذا كانت جميع آثاره مرفوعة لا بعضها.

ومن هنا يظهر : أنّ رفع الموضوع بلحاظ مرفوعيّة بعض آثاره يتوقّف على تصحيح ادّعاءين : دعوى أنّ رفع بعض الآثار رفع لجميع الآثار ، ودعوى أنّ رفع جميع الآثار وخلوّ الموضوع من كلّ أثر مساوق لرفع نفس الموضوع.

الاتّجاه الثالث : أنّ المصحّح هو رفع جميع الآثار ، وهذا الاتّجاه هو الصحيح ؛ إذ أوّلا : أنّ الرفع في الحديث وقع موقع الامتنان المناسب لارتفاع جميع الآثار ، وثانيا : أنّ ذلك مقتضى إطلاق الرفع ، وثالثا : أنّ هذا الاتّجاه لا يحتاج إلّا إلى ادّعاء واحد ، وهو ادّعاء أنّ رفع جميع الآثار وخلوّ الموضوع عن أيّ أثر مساوق لرفع نفس الموضوع.

الأمر الخامس ـ في شمول الحديث للامور العدميّة : بعد أن أثبتنا أنّ المرفوع هو عموم الآثار يقع البحث في أنّ المرفوع هل هو خصوص الآثار الوجوديّة أو يعمّ الآثار العدميّة أيضا؟

ذهب المحقّق النائيني قدس‌سره (١) إلى الأوّل ، فالمكلّف إذا اكره على الترك أو اضطرّ إليه أو نسي الفعل لا يشمله حديث الرفع ، وعليه لو نذر المكلّف أن يشرب من ماء الفرات فاكره على العدم أو اضطرّ إليه أو نسي أن يشرب ، فمقتضى القاعدة وجوب الكفّارة عليه لو لم تكن أدلّة وجوب الكفّارة مختصّة بصورة تعمّد الحنث ومخالفة النذر عن إرادة والتفات ، فإنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ؛ لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعا لا رفعا ، والمفروض أنّ المكلّف قد ترك الفعل عن إكراه أو نسيان ، فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع ، ولا يمكن أن يكون

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣.

٢٣٦

عدم الشرب في المثال مرفوعا وجعله كالشرب. ومن الواضح أنّ حديث الرفع لا يتكفّل الوضع بل مفاده الرفع.

وقد اجيب عنه بوجوه :

الأوّل : ما أفاده المحقّق العراقي قدس‌سره (١) من أنّ مرجع رفع الشيء ـ بعد أن كان ـ إلى الرفع بالعناية الراجع إلى خلوّ صفحة التشريع عن حكمه وعدم أخذه موضوعا لأحكامه ، ولا يكاد يفرّق بين رفع الفعل أو الترك ؛ إذ كما أنّ رفع الوجود في عالم التشريع عبارة عن رفع الأثر المترتّب عليه وخلوّه عن الحكم في عالم التشريع كذلك في رفع العدم ، حيث إنّ مرجع رفعه إلى رفع الأثر المترتّب على هذا العدم الراجع إلى عدم أخذه موضوعا للحكم بالفساد ووجوب الإعادة ـ مثلا ـ بملاحظة دخل نقيضه وهو الوجود في الصفحة ، لا أنّ مرجع رفعه إلى قلب العدم بالوجود وتنزيله منزلة الموجود ، أو تنزيل الموجود منزلة المعدوم كي يشكل بأنّ رفع المعدم لا يكون إلّا بالوضع ، وحديث الرفع لا يتكفّل الوضع.

وفيه : أوّلا : أنّ الرفع لو كان متعلّقا بموضوعيّة الموضوعات للأحكام لكان رفعا حقيقيّا ، بخلاف ما إذا تعلّق بنفس هذه الموضوعات ، فإنّه حينئذ يكون ادّعائيّا ومحتاجا إلى مصحّح الادّعاء ، والمحقّق العراقي قدس‌سره ممّن التزم بكون الرفع في الحديث ادّعائيّا ، وهو ينافي كلامه هنا.

وثانيا : أنّه على خلاف ظاهر الحديث ، فإنّ ظاهره هو تعلّق الرفع بنفس هذه الموضوعات والعناوين التسعة ، لا أنّ الرفع متعلّق بموضوعيّة هذه الموضوعات للأحكام ، ومن الواضح أنّ موضوعيّة الموضوع حيثيّة زائدة على

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢١٩.

٢٣٧

نفس الموضوع.

الوجه الثاني : ما نسب إلى استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره من أنّ العدم على قسمين : العدم المطلق والعدم المضاف ، أمّا العدم المطلق فهو محض الهلاك والبطلان ؛ إذ لا شيئيّة للعدم ، ولذا قالوا : إنّه لا تمايز في الأعدام ، وأمّا العدم المضاف كعدم زيد وعدم عمرو ـ أي العدم المضاف إلى الوجود ـ فيحصل له حظّ من الوجود ، ولذا يلحقه نوع من التمايز ، كالتمايز الحاصل بين عدم زيد وعدم عمرو.

ثمّ إنّ المكره ـ مثلا ـ لا يكره على العدم المطلق ، وإنّما يكره على العدم المضاف ، كالإكراه على ترك شرب ماء الفرات ، والإكراه على ترك الجزء أو الشرط ، وهكذا ، وقد عرفت أنّ العدم المضاف له حظّ من الوجود ، فيصحّ تعلّق الرفع به (١).

وقد قرّرت هذا البيان من مجلس درسه قدس‌سره في سنة (١٣٧٤ ه‍. ق) ، ولكنّه قدس‌سره يؤكّد على ما هو الثابت في الفلسفة من أنّ العدم المضاف ـ كالعدم المطلق ـ محض الهلاك والبطلان ، وأنّ الأعدام مهما كانت لا يعقل في موردها التقرّر والثبوت.

ولكن ما يقتضي أن نلتزم بتوسعة دائرة حديث الرفع للامور الوجوديّة والعدميّة هو أمران :

الأوّل : أنّ الرفع في الحديث ادّعائيّ لا حقيقيّ ، ولذا نقول : إنّ المصحّح لهذا الادّعاء هو جميع الآثار.

الثاني : أنّ الشارع جعل بعض الامور العدميّة موضوعا للأحكام الشرعيّة ،

__________________

(١) هذا الوجه غير مذكور في التهذيب.

٢٣٨

بل يكون بعض الامور العدميّة موضوعا للأحكام العقليّة ، مثل : ترتّب الكفّارة على حنث النذر ، وترك شرب ماء الفرات في المثال عن إرادة واختيار مع أنّه أمر عدميّ ، ومثل : استحقاق عقوبة من ترك واجب من الواجبات عقلا ، فيكون عدم الإتيان بالواجب موضوعا لاستحقاق العقوبة عند العقل.

فلا بدّ لنا من الالتزام بأنّ لعدم المضاف حظّ من الوجود في عالم الموضوعيّة للأحكام الشرعيّة والاعتبار ، فبالملاك الذي يرتّب الشارع الآثار الشرعيّة على ترك شرب ماء الفرات عمدا يرتّب على تركه عن إكراه عدم الكفّارة باستناد حديث الرفع ، فلا مانع من تعلّق الرفع بالامور العدميّة بعد عدم المانع عن كونها موضوعة للأحكام الشرعيّة.

الأمر السادس : أنّه لا شكّ في أنّه لا يرفع بحديث الرفع الحكم الثابت للموضوع بالعناوين المذكورة في الحديث ، فمثلا : وجوب سجدتي السهو المترتّب على نسيان بعض أجزاء الصلاة أو وجوب الدية المترتّب على قتل الخطأ لا يكون مرفوعا بحديث الرفع ، بل لا يمكن ذلك ، فإنّ مفاد حديث الرفع كون طروّ هذه العناوين التسعة موجبا لارتفاع الحكم الثابت للموضوع في نفسه من باب حكومة الحديث على ما يستفاد منه هذا الحكم ـ كحرمة شرب الخمر مثلا ـ وتصير دائرة حرمته مضيّقة بما لم يقع عن إكراه بواسطة حديث الرفع ، فلا يشمل الحكم الثابت لنفس هذه العناوين كالمثالين المذكورين ؛ إذ ما يكون موجبا ومقتضيا لثبوت الحكم ـ كالنسيان بالنسبة إلى وجوب سجدتي السهو وقتل الخطأ بالنسبة إلى وجوب الدية ـ لا يعقل أن يكون موجبا ومقتضيا لارتفاعه ، مع أنّ معنى حكومة حديث الرفع هنا عدم بقاء مورد لما يدلّ على وجوب الدية وسجدتي السهو أصلا ، لا تضييقه كما هو

٢٣٩

شأن الحكومة.

الأمر السابع : في كون حديث الرفع مختصّا بالآثار التي لا يكون في رفعها ما ينافي الامتنان على الأمّة ، وذلك لأنّ مساق الحديث هو الامتنان والتلطّف على الامّة ، ومن هنا قالوا : إنّ إتلاف مال الغير نسيانا أو خطأ لا يرتفع معه الضمان بحديث الرفع ؛ إذ رفعه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك.

ومن هنا أيضا فرّقوا بين المضطرّ إلى البيع والمكره عليه ، فحكموا بصحّة بيع الأوّل دون الثاني ؛ إذ نفي صحّة بيع المضطرّ خلاف الامتنان عليه.

الأمر الثامن : في حكومة حديث الرفع على الأدلّة الواقعيّة ، بمعنى كونه ناظرا إليها وموجبا للتضييق في مفادها ؛ إذ لا شكّ في أنّ مقتضى عموم أدلّة الأحكام الواقعيّة ثبوتها لموضوعاتها من دون دخل للخطإ والنسيان والإكراه وغيرها من العوارض والعناوين ، فيكون شرب الخمر حراما ويترتّب عليه الحدّ مطلقا بلحاظ عموم الأدلّة ، ولكنّ مقتضى الجمع بين الأدلّة الواقعيّة وحديث الرفع هو اختصاص الحكم الواقعي بغير صورة عروض تلك الحالات والعوارض ؛ لحكومة حديث الرفع عليها. وهذا ممّا لا خلاف فيه.

إنّما الكلام في أنّ كيفيّة حكومة حديث الرفع غير كيفيّة حكومة قاعدة «لا حرج» و «لا ضرر» ، أم لا؟ والمحقّق النائيني قدس‌سره (١) قائل بالفرق بينهما ، فإنّه قال : إنّ الحكومة في أدلّة نفي الضرر والعسر والحرج إنّما تكون باعتبار عقد الحمل ، حيث إنّ الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارئة على نفس الأحكام ؛ إذ الحكم قد يكون ضرريّا أو حرجيّا ، وقد لا يكون ، وأمّا في دليل رفع الإكراه والاضطرار وغير ذلك إنّما تكون الحكومة باعتبار عقد الوضع ، فإنّه لا يمكن

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٣٤٧.

٢٤٠