دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

جريان البراءة العقليّة في دوران الأمر بين المحذورين

لا يخفى أنّ العلم الإجمالي بالتكليف بيان منجّز له ، فلا بدّ من الاحتياط في مقام العمل ، كما إذا علمنا إجمالا بتعلّق التكليف في يوم الجمعة إمّا بصلاة الظهر ، وإمّا بصلاة الجمعة ، وأمّا في دوران الأمر بين المحذورين فلا يكون كذلك ، فإنّ العلم الإجمالي هنا بيان لجنس التكليف وهو الإلزام ، ولا يترتّب عليه الأثر ؛ لعدم إمكان موافقة كلّي الإلزام الدائر أمره بين الفعل والترك ، وأمّا بالنسبة إلى الخصوصيّات النوعيّة ـ كالوجوب بخصوصه أو الحرمة بخصوصها ـ فلا يكون البيان تامّا ، فالعقاب عليها قبيح ، فيكون هنا مجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولازم ذلك تحقّق المؤمّن من العقاب ، فلا إشكال في جريان البراءة العقليّة.

والعجب من أعاظم المحقّقين حيث ذهبوا إلى عدم جريانها لعدّة وجوه :

منها : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله من أنّه لا مجال هاهنا لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ فإنّه لا قصور في البيان هاهنا ، وإنّما يكون عدم تنجّز التكليف لعدم التمكّن من الموافقة القطعيّة كمخالفتها ، والموافقة الاحتماليّة حاصلة لا محالة ، كما لا يخفى (١).

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٠٦.

٣٢١

وفيه : أنّ المراد بعدم القصور في البيان إن كان هو عدم القصور بالنسبة إلى جنس التكليف فواضح ، ونحن أيضا نقول به ، ولكن لا أثر له بعد عدم كون المكلّف قادرا على الامتثال ، وإن كان المراد به هو عدم القصور بملاحظة النوع أيضا فنحن نمنع ذلك ؛ لتحقّق كمال القصور فيه بعد ما كانت خصوصيّة الوجوب والحرمة مجهولة.

ومنها : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله : من أنّ مناط البراءة العقليّة قبح العقاب بلا بيان ، وفي باب دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب ؛ لأنّ وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجيز والتأثير ، فالقطع بالمؤمّن حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان (١).

وفيه : أنّ القطع بعدم العقاب وبوجود المؤمّن ممّا لا يحصل لو اغمض النظر عن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ومجرّد سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز والتأثير وصيرورة وجوده كعدمه لا يفيد ما لم تنضمّ إليه القاعدة ، كيف ولو فرض جواز العقوبة على خصوصيّة الوجوب مثلا حتّى لو كانت مجهولة فمن أين يقطع بعدم العقاب ووجود المؤمّن حينئذ؟ فهذا القطع إنّما هو بملاحظة هذه القاعدة.

ومنها : ما أفاده المحقّق العراقي رحمه‌الله وملخّصه : أنّ مع حصول الترخيص في الرتبة السابقة على جريان البراءة بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك لا يبقى مجال لجريان أدلّة البراءة العقليّة والشرعيّة (٢).

وفيه : أنّ الحكم بتأخّر رتبة أدلّة البراءة عن حكم العقل بالتخيير بين الفعل

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤٤٨.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٣.

٣٢٢

والترك ممنوع جدّا ، فإنّ الحكم بالتخيير إنّما هو بعد ثبوت قبح العقاب على خصوصيّة الوجوب والحرمة ؛ لأنّه لو فرض إمكان العقوبة على التكليف الوجوبي ـ مثلا ـ وإن كان مجهولا لا يحكم العقل بالتخيير ، فحكمه به إنّما هو بعد ملاحظة عدم ثبوت البيان على الخصوصيّة وعدم جواز العقوبة عليها كما عرفت.

فمبنى أصالة التخيير عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ إذ التخيير هو حكم العقل بجواز الفعل والترك ، فإذا اختار أحدهما وكان مخالفا للواقع فلا يترتّب عليه العقاب بمقتضى القاعدة المذكورة ، كما لا يخفى.

٣٢٣
٣٢٤

جريان البراءة الشرعيّة في دوران الأمر بين المحذورين

عرفت أنّ لسان أدلّة البراءة الشرعيّة مختلف ، فقد يكون بلسان الرفع ، وقد يكون بلسان الإثبات مثل : قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» (١) ، ويعبّر عن البراءة المستفادة منه بأصالة الإباحة ، أمّا على الأوّل فالظاهر ـ بعد ملاحظة ما ذكرنا في وجه جريان البراءة العقليّة ـ جريانها أيضا ؛ لأنّ التكليف بنوعه مجهول ، فيشمله مثل حديث الرفع.

ولكنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله نفى جريانها ؛ نظرا إلى أنّ مدركها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع ما لا يعلمون» (٢) ، والرفع فرع إمكان الوضع ، وفي المقام لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما ، لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التخيير ، ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل الرفع ، فأدلّة البراءة الشرعيّة لا تعمّ المقام أيضا (٣).

جوابه : أنّ في دوران الأمر بين المحذورين يتمسّك بحديث الرفع مرّتين ، مرّة لرفع الوجوب المجهول ، واخرى لرفع الحرمة المجهولة ، ومن الواضح أنّ وضع الوجوب بنفسه ممكن ، كما أنّ وضع الحرمة لا استحالة فيه. نعم ، ما لا يمكن وضعه هو مجموع الوجوب والحرمة ، وهو لا يكون مفاد حديث الرفع ، فما

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس ، الحديث ١.

(٣) فوائد الاصول ٣ : ٤٤٨.

٣٢٥

يمكن وضعه يشمله الحديث ، وما لا يشمله الحديث لا يمكن وضعه.

وأمّا على الثاني فقد استدلّ المحقّق النائيني رحمه‌الله لعدم جريانها هنا بامور :

الأوّل : عدم شمول دليل أصالة الإباحة لصورة دوران الأمر بين المحذورين ، فإنّه يختصّ بما إذا كان طرف الحرمة الحلّ ، كما هو الظاهر من قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» ، وليس في هذا الباب احتمال الإباحة والحلّ ، بل الطرف هو الوجوب.

الثاني : أنّ دليل أصالة الحلّ يختصّ بالشبهات الموضوعيّة ولا يعمّ الشبهات الحكميّة.

الثالث : أنّ جعل الإباحة الظاهريّة مع العلم بجنس الإلزام لا يمكن ، فإنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال ؛ لأنّ مفاد أصالة الإباحة الرخصة في الفعل والترك ، وهذا يناقض العلم بالإلزام وإن لم يكن لهذا العلم أثر عملي وكان وجوده كعدمه لا يقتضي التنجيز ، إلّا أنّه حاصل بالوجدان ولا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا (١). انتهى.

والإشكال عليه من وجوه :

الأوّل : منع ما ذكره في الأمر الثاني من اختصاص دليل أصالة الحلّ بالشبهات الموضوعيّة ، فإنّه قد مرّ عدم الاختصاص.

الثاني : أنّ ظاهر كلامه اتّحاد أصالة الحلّ مع أصالة الإباحة ، مع أنّ معنى الإباحة تساوي الفعل والترك ، ومعنى الحلّيّة عدم كون فعله محرّما وممنوعا ، فالحلّيّة تغاير الإباحة ، وما دلّت عليه النصوص والروايات (٢) هو أصالة الحلّ

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤٤٥.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ و ٣.

٣٢٦

لا الإباحة ، فإنّه لم يرد في شيء منها الحكم بإباحة مشكوك الحرمة أصلا ، فالإباحة حكم من الأحكام الخمسة في مقابل الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة ، والحلّيّة المستفادة من قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» في مقابل الحرمة فقط ، يعني إذا دار الأمر بين الحرمة وغير الحرمة فالمرجع هنا أصالة الحلّيّة.

الثالث : أنّ مقتضى ما ذكره أوّلا من عدم شمول دليل أصالة الإباحة لصورة دوران الأمر بين المحذورين ينافي ما ذكره أخيرا من أنّ مفاد أصالة الإباحة هو الترخيص في الفعل والترك.

بيان ذلك : أنّ الترخيص في الفعل لا يعقل بعد كون الترخيص فيه معلوما ، فإذا شكّ في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ـ مثلا ـ فما يمكن أن تدلّ عليه أدلّة البراءة بالنسبة إلى الدعاء عندها هو الترخيص في تركه ، وأمّا الترخيص في الفعل فلا تدلّ عليه أدلّة البراءة ؛ لكونه معلوما ، فالترخيص في الفعل إنّما يعقل إذا كان الفعل مشكوك الحرمة ، كما أنّ الترخيص في الترك إنّما يمكن إذا كان الفعل مشكوك الوجوب ، ولا يعقل الترخيص في الترك في الأوّل وفي الفعل في الثاني ، وحينئذ فمقتضى ما ذكره أخيرا من أنّ مفاد أصالة الإباحة هو الترخيص في الفعل والترك هو أن يكون الفعل مشكوك الحرمة والوجوب ؛ إذ لا يعقل الترخيص في الفعل مع العلم بعدم الحرمة ، ولا في الترك مع العلم بعدم الوجوب ، فالترخيص فيهما معا إنّما هو إذا لم يعلم عدم الحرمة ولا عدم الوجوب ، بل دار الأمر بينهما ، كما في المقام ، فمفاد كلامه الأخير هو اختصاص مورد أصالة الإباحة التي مرجعها إلى الترخيص في الفعل والترك بصورة دوران الأمر بين المحذورين ؛ إذ لا يعقل الترخيص فيهما معا في غيرها ،

٣٢٧

ومقتضى كلامه الأوّل هو اختصاص موردها بغير صورة دوران الأمر بين المحذورين ، وهو تهافت فاحش.

الرابع : أنّ ما ذكره من منافاة الإباحة بمدلولها المطابقي مع المعلوم بالإجمال محلّ نظر ، بل منع ؛ لأنّ ذلك مبني على أن يكون مفاده هو الرخصة في الفعل والترك معا ، مع أنّ مثل قوله : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام» إنّما يدلّ على مجرّد الترخيص في الفعل في مقابل الحرمة ، ولا يدلّ على الترخيص في الفعل والترك معا حتّى ينافي المعلوم بالإجمال ، فمفاد أصالة الإباحة بمقتضى دليلها هو مجرّد نفي الحرمة وجعل الترخيص الظاهري بالنسبة إلى الفعل ، وهذا لا ينافي الوجوب ، كما هو واضح.

هذا ، مضافا إلى أنّه على فرض التنافي والمناقضة لا بأس بذلك ؛ لأنّه كالمناقضة بين الأحكام الظاهريّة والأحكام الواقعيّة ، فما قيل في الجمع بينهما يقال هنا أيضا.

فالحقّ في المسألة ـ بعد عدم شمول دليل أصالة الإباحة لهذا المورد ـ يرجع إلى ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله في الأمر الأوّل : من أنّ ما هو المستند إلى الدليل كقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» عبارة عن أصالة الحلّيّة ، ومجراها الشكّ في الحرمة والحلّيّة ، فهي كما لا تجري في الشبهات الوجوبيّة المحضة ، كذلك لا تجري في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، أي الدوران بين المحذورين.

٣٢٨

عدم جريان الاستصحاب في الدوران بين المحذورين

هل يجري استصحاب عدم الوجوب بلحاظ مسبوقيّته بالعدم ، وهكذا استصحاب عدم الحرمة ، أم لا؟

ومحصّل ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله في وجه عدم جريانه هنا : أنّه لمّا كان الاستصحاب من الاصول التنزيليّة ـ أي تنزيل مفاده منزلة الواقع والالتزام بأنّه هو الواقع ـ فلا يمكن الجمع بين مؤدّاه والعلم الإجمالي ؛ فإنّ البناء على عدم وجوب الفعل وعدم حرمته واقعا ـ كما هو مفاد الاستصحابين ـ لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمته.

وإن شئت قلت : إنّ البناء على مؤدّى الاستصحابين ينافي الموافقة الالتزاميّة ، فإنّ التصديق بأنّ لله تعالى في هذه الواقعة حكما إلزاميّا لا يجتمع مع البناء على عدم الوجوب والحرمة واقعا (١). انتهى.

وفيه : أوّلا : منع كون الاستصحاب من الاصول التنزيليّة بهذا المعنى ، فإنّه ليس في شيء من أدلّته ما يدلّ أو يشعر بذلك ، إلّا ما في صحيحة زرارة الثالثة من قوله عليه‌السلام : «فيبني عليه» ، ولكن لا يخفى أنّ المراد بالبناء على المتيقّن هو البناء العملي لا البناء القلبي على أنّ الواقع أيضا كذلك حتّى ينافي الموافقة

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤٤٩.

٣٢٩

الالتزاميّة.

وثانيا : أنّه على فرض تسليم كونه من الاصول التنزيليّة يمنع لزوم الموافقة الالتزاميّة في الأحكام زائدا على الموافقة العمليّة ، كما مرّ في مبحث القطع أنّ لكلّ تكليف مخالفة واحدة وموافقة واحدة ، فلا بأس بجريان الاستصحابين والبناء العملي على طبقهما ، ولا منافاة بينهما وبين العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة أصلا ؛ لما مرّ في أصالة الإباحة من إمكان الجمع بينهما كالجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

ولكنّ التحقيق : أنّ وجه عدم جريان الاصول العمليّة في أطراف العلم الإجمالي هو لزوم التناقض في أدلّة الاصول ، فإنّ دليل الاستصحاب ـ مثلا ـ متضمّن للحكم الإيجابي والحكم السلبي ، كقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن انقضه بيقين آخر» ، ومعناه أنّه إذا تحقّق يقين على خلاف اليقين السابق فاللازم الأخذ والتشبّث باليقين الفعلي وجريان الاستصحاب في الوجوب والحرمة ، ونفيهما معا هنا مناقض للعلم واليقين بنقض اليقين السابق ، إمّا بالوجوب وإمّا بالحرمة في الزمان اللاحق ، فعدم جريان الاستصحاب في ما نحن فيه مستند إلى ذلك لا إلى لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة ؛ لعدم إمكان تحقّقها هنا.

هذا كلّه مع كون تساوي الطرفين من حيث المزيّة والترجيح.

٣٣٠

اختلاف المحذورين من حيث الأهمّيّة مع وحدة الواقعة

أمّا لو كان لأحد الطرفين مزيّة محتملة أو البراءة محقّقة فلا إشكال في وجوب الأخذ به لو كانت المزيّة والأهمّيّة بمثابة تمنع من جريان البراءة حتّى في الشبهات البدويّة ، كما في دوران الأمر بين كون الشخص الموجود في البين نبيّا يجب حفظه أو سابّ نبيّ مهدور الدم ، وكما في دوران امرأة بين كونها زوجته التي حلف على وطئها أو أمّه ، وكما في غيرها من الموارد.

وأمّا لو لم تكن المزيّة بهذه المثابة فهل يستقلّ العقل بتعيّنه كما هو الحال في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في غير المقام ـ كما نفى عنه البعد في الكفاية (١) ـ أو لا يستقلّ بذلك ، بل يحكم بالتخيير أيضا؟

والتحقيق : هو الثاني فإنّ حكم العقل بالاحتياط والأخذ بالمعيّن في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ليس قابلا للإنكار ، إلّا أنّ ما نحن فيه لا يكون من مصاديق تلك المسألة ؛ لأنّ مورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو ما إذ كان التكليف بنوعه معلوما ، غاية الأمر أنّه شكّ في خصوصيّاته ، وأنّه على نحو التعيين أو على سبيل التخيير ، وحينئذ فيمكن أن يقال : بأنّ مقتضى الشكّ في السقوط بعد الإتيان بالعدل الآخر هو وجوب الاحتياط بالإتيان بما

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٠٧.

٣٣١

يحتمل تعيّنه.

وأمّا في المقام فلا يتحقّق التكليف المنجّز اللازم امتثاله حتّى نشكّ في سقوطه بالإتيان بفاقد المزيّة ونقول : مقتضى قاعدة الاشتغال بقاؤه ووجوب الخروج عن عهدته بالإتيان بواجد المزيّة ، فمع عدم التكليف لا يبقى مجال لوجوب الأخذ بذي المزيّة المحقّقة أو المحتملة ، كما لا يخفى ، فتجري هنا أصالة التخيير العقلي.

هذا كلّه إذا كانت الواقعة واحدة.

٣٣٢

في تعدّد الوقائع المقتضي لتعدّد التكليف

وأمّا إذا كانت الواقعة متعدّدة فلا إشكال في ثبوت التخيير فيها أيضا ، لكن هل التخيير بدوي أو استمراري؟ المسألة اختلافيّة.

ومنشأ الخلاف : أنّ العلم الإجمالي في واقعة من الوقائع المتعدّدة وإن لم يمكن مخالفته قطعا ولا مخالفته كذلك ، ولذا يحكم العقل بالتخيير ، إلّا أنّ هنا علمين إجماليّين آخرين ، لهما موافقة قطعيّة ومخالفة قطعيّة ؛ فإنّ العلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعة أو حرمتها وإن لم يكن في خصوص يوم واحد له موافقة ولا مخالفة له ، إلّا أنّه يتولّد منه علم إجمالي بوجوب صلاة الجمعة في هذه الجمعة أو حرمتها في جمعة اخرى ، وكذا علم إجمالي بحرمتها في هذه الجمعة ووجوبها في اخرى ، فإنّ من يعلم إجمالا بوجوب صلاة الجمعة في كلّ جمعة أو حرمتها فيه يعلم أيضا إجمالا بوجوبها في هذه الجمعة أو حرمتها في الاخرى ، وكذا بحرمتها فيها أو وجوبها في الاخرى ، وهذان العلمان لهما موافقة قطعيّة ومخالفة قطعيّة ، غاية الأمر أنّ الموافقة القطعيّة في أحدهما هي عين المخالفة القطعيّة بالنسبة إلى الآخر ، فإنّ من يصلّي الجمعة في جمعة ويتركها في جمعة اخرى وافق العلم الإجمالي الأوّل قطعا ، وخالف الثاني أيضا كذلك ؛ لكونهما متلازمين.

٣٣٣

وحينئذ فإن قلنا بثبوت الترجيح وأنّ المخالفة القطعيّة لها مزيّة على الموافقة القطعيّة يكون التخيير بدويّا ؛ لئلّا يلزم المخالفة القطعيّة بالنسبة إلى العلمين الإجماليّين الآخرين.

وإن قلنا بعدم ثبوت الترجيح وأنّه لا فرق بينهما يكون التخيير استمراريا ، وهذا هو الظاهر ؛ لعدم الدليل على ترجيحها.

وما حكي من كون المخالفة القطعيّة علّة تامّة للحرمة والموافقة القطعيّة مقتضية للوجوب ، فليس إلّا مجرّد دعوى بلا بيّنة وبرهان.

ولازم القول بترجيح المخالفة القطعيّة على الموافقة القطعيّة التخيير البدوي في المقام ؛ فإنّ مع اختيار فعل صلاة الجمعة في الابتداء والإتيان بها إلى آخر العمر لا تتحقّق المخالفة القطعيّة أصلا ، وهكذا مع اختيار تركها.

وأمّا على القول بعدم الترجيح بينهما فكما أنّ المخالفة القطعيّة علّة تامّة للقبح ولازمة الاجتناب ، كذلك الموافقة القطعيّة علّة تامّة للحسن ولازمة الارتكاب ، فلا محالة يكون التخيير استمراريا ؛ فإنّه وإن كان مستلزما للمخالفة القطعيّة ولكنّه يستلزم الموافقة القطعيّة أيضا ؛ إذ قد مرّ أنّ موافقة كلّ من العلمين الإجماليّين قطعا عين مخالفة الآخر وبالعكس ، فالتحقيق : أنّ التخيير هنا استمراري ؛ لعدم الفرق بينهما من حيث العلّيّة التامّة ، كما لا يخفى.

وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله في المقام ما ملخّصه : إنّ المخالفة القطعيّة لم يتعلّق بها التكليف التحريمي شرعا ، بل قبحها ـ كحسن الطاعة ـ من المستقلّات العقليّة التي لا تستتبع الخطاب المولوي ، وحكم العقل بقبح المخالفة القطعيّة فرع تنجّز التكليف ، وإلّا فنفس المخالفة بما هي مخالفة لا يحكم العقل بقبحها ما لم يتنجّز التكليف ، فمخالفة التكليف المنجّز قبيحة عقلا ، وأمّا مخالفة التكليف الغير

٣٣٤

المنجّز فلا قبح فيها ، وفي المقام يكون الأمر كذلك ؛ لأنّه في كلّ واقعة يدور الأمر بين المحذورين ، فكون الواقعة ممّا تتكرّر لا يوجب تبدّل المعلوم بالإجمال ، ولا خروج المورد عن كونه من دوران الأمر بين المحذورين (١). انتهى.

ويرد عليه : أنّ المراد بالمخالفة القطعيّة إن كان هو المخالفة القطعيّة بالنسبة إلى العلم الإجمالي الأوّل ـ وهو العلم الإجمالي بوجوب صلاة الجمعة مطلقا أو حرمتها كذلك ـ فمن الواضح أنّه لا يكون له مخالفة قطعيّة بعد كون التكليف في كلّ واقعة تكليفا مستقلّا ، ولا فرق من هذه الجهة بين وحدة الواقعة وتعدّدها ، فكما أنّه لا تكون له مخالفة قطعيّة في صورة الوحدة كذلك لا تكون له تلك في صورة التعدّد.

وإن كان المراد بها هي المخالفة القطعيّة بالنسبة إلى العلمين الإجماليّين الآخرين فلا وجه للحكم بعدم قبحها بعد تنجّز التكليف ، غاية الأمر أنّك عرفت أنّه حيث تكون المخالفة القطعيّة بالنسبة إلى أحدهما ملازمة للموافقة القطعيّة بالنسبة إلى الآخر ولا دليل على ترجيح الاولى على الثانية ، يحكم العقل بالتخيير مستمرّا ، فالوجه في ذلك ما ذكرنا من إفادته رحمه‌الله.

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤٥٣ ـ ٤٥٤.

٣٣٥
٣٣٦

دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في التعبّديّات

قد عرفت أنّ دوران الأمر بين الوجوب والحرمة إنّما يكون من قبيل دوران الأمر بين المحذورين إذا كان كلّ من الواجب والحرمة توصّليّا ، وملاكه عدم إمكان المخالفة القطعيّة والموافقة القطعيّة ، وأمّا إذا كان كلاهما تعبّديّين فلا إشكال في عدم كون الدوران بينهما من ذلك القبيل ؛ لإمكان المخالفة القطعيّة بالفعل مع عدم قصد التقرّب ، أو بالترك كذلك وإن لم يمكن الموافقة القطعيّة ، وحينئذ فيجب عليه الموافقة الاحتماليّة بإتيان أحد الطرفين من الفعل أو الترك بقصد التقرّب.

وهكذا إذا كان أحدهما المعيّن تعبّديّا فيمكن المخالفة القطعيّة بإتيان الطرف التعبّدي بدون قصد التقرّب ، ولا يمكن الموافقة القطعيّة ، فيجب عليه ترك المخالفة القطعيّة ، إمّا بإتيان الطرف التعبّدي مع قصد التقرّب ، وإمّا بإتيان الطرف الآخر.

وإذا كان أحدهما الغير المعيّن تعبّديّا والآخر الغير المعيّن توصّليّا فلا يمكن المخالفة القطعيّة ، فيصير أيضا من قبيل الدوران بين المحذورين ، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في أصالة التخيير.

٣٣٧
٣٣٨

القول

في أصالة الاشتغال

والكلام فيها يقع في مقامين

٣٣٩
٣٤٠