دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

لا دافع له ؛ إذ لم يثبت بناء من العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ في الامور الحدسيّة ، فأصالة عدم الخطأ التي استقرّ عليها بناء العقلاء إنّما تجري في الامور الحسّية أو القريبة من الحسّ.

الثانية : أن يكون المنقول بالخبر أمرا متعارفا حسب العادة كما في الأمثلة السابقة ، وأمّا الإخبار عن الامور الغريبة غير المتعارفة فلم يحرز استقرار بنائهم على الأخذ به وإن كان عن حسّ ، بل الظاهر عدم استقرار بنائهم على ذلك ، إلّا إذا انضمّت إليه قرائن وشواهد خارجيّة تؤكّد صحّته.

فتحصّل : أنّ القدر المتيقّن هو الإخبار عن حسّ أو قريب منه عن أمر عادي متعارف ، وأمّا الإخبار عن حدس أو عن حسّ ولكن غير متعارف فلا دليل على شمول بناء العقلاء لهما.

وعلى هذا لا يشمل هذا الدليل للإجماع المنقول ، فإنّ نقل رأي المعصوم عليه‌السلام في الإجماع إمّا أن يكون عن حدس وإمّا أن يكون عن حسّ غير متعارف ، وكلاهما كما ترى.

توضيح ذلك : أنّ المقصود من نقل الإجماع قد يكون نقل السبب وقد يكون نقل المسبّب ، أو السبب والمسبّب معا ، والمراد بالسبب هنا فتاوى العلماء وأقوالهم الكاشفة عن قول المعصوم عليه‌السلام ، والمسبّب هو نفس قوله عليه‌السلام.

أمّا نقل السبب فلا إشكال في حجّيته إذا كان نظر المنقول إليه موافقا مع نظر الناقل في ملاك الإجماع ؛ لأنّه إخبار عن حسّ وعن أمر متعارف أيضا ، فتشمله أدلّة حجّية الخبر الواحد ؛ لكونه كاشفا عن قول المعصوم عليه‌السلام عند المنقول إليه ، وأمّا إذا كان المنقول جزء السبب وأقلّ من المقدار الكافي في الكشف فأيضا يكون النقل حجّة فيما إذا انضمّ إليه ما يكمل السبب من الأقوال

١٦١

والقرائن ، فيكون المجموع كاشفا عن قول المعصوم عليه‌السلام.

وأورد المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) بأنّه في موارد نقل جزء السبب إن اريد إثبات الحجّية بلحاظ المدلول المطابقي للنقل فليس صحيحا ؛ لأنّه ليس حكما شرعيّا ولا موضوعا له ، وإن اريد إثبات الحجّية له بلحاظ المدلول الالتزامي فالمفروض عدم الملازمة فليس له مدلول التزامي.

وفيه : أنّ المدلول الالتزامي ثابت في موارد نقل تمام السبب ونقل جزء السبب معا ، إلّا أنّ المدلول الالتزامي في الأوّل فعليّ كما هو واضح ، وفي الثاني شرطي ، أي إذا انضمّ إليه الجزء الآخر كان كاشفا عن قول المعصوم عليه‌السلام ، ولا يخفى كفاية هذا المدلول الالتزامي في دفع اللغوية وثبوت الأثر للحجّية.

وأمّا نقل السبب والمسبّب معا أو المسبّب فقط فلا وجه لحجّيته مطلقا.

أمّا الإجماع المبتنى على الحدس في كشف المسبّب بوجوهه الثلاثة فالأمر فيه واضح ؛ لأنّه ليس إخبارا عن الحسّ ليشمله دليل حجّية الخبر.

وأمّا الإجماع التشرّفي فلأنّه أمر خارج عن العادة ، فلا يشمله أيضا دليل حجّية الخبر وإن كان حسّيا.

وأمّا الإجماع الدخولي فهو أيضا خارج عن العادة بلحاظ زمان الغيبة ، فلا يشمله دليل الحجّيّة.

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ : ١٩٠.

١٦٢

حجّيّة الشهرة الفتوائيّة

الشهرة في الاصطلاح على أقسام ثلاثة :

الأوّل ـ الشهرة الروائية : وهي اشتهار الحديث بين الرواة وأرباب الحديث بكثرة نقلها وتكرّرها في الجوامع الروائيّة ، وهي التي عدّها المشهور من المرجّحات السنديّة في باب التعارض ، استدلالا بمقبولة عمر بن حنظلة ، ومرفوعة زرارة ، وتمام الكلام في محلّه.

الثاني ـ الشهرة العمليّة : وهي اشتهار العمل بالرواية واستناد الأصحاب إليها في مقام الفتوى ، وهذه الشهرة هي الجابرة ؛ لضعف الرواية ومصحّحة للعمل بها ولو كانت بحسب القواعد الرجالية في منتهى الضعف.

ومن الواضح أنّ النسبة بين الشهرة الروائيّة والشهرة العمليّة عموم من وجه ؛ إذ ربّما تكون الرواية مشهورة بين الرواة ولكن لم يستندوا إليها في مقام العمل ؛ لصدورها في مقام التقيّة مثلا ، وربما ينعكس الأمر ، وقد يجتمعان.

الثالث ـ الشهرة الفتوائيّة : وهي مجرّد اشتهار الفتوى في مسألة بين الفقهاء بلا استناد إلى رواية ، سواء لم تكن في المسألة رواية أو كانت رواية على خلاف الفتوى ، أو كانت على وفقها ولكن لم يستند إليها ، فهل تتّصف هذه الشهرة بالحجّية أم لا؟ قد يستدلّ على حجّيتها بوجوه :

١٦٣

منها : مقبولة عمر بن حنظلة حيث ورد فيها عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله وإلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». (١)

والاستدلال بها يتوقّف على بيان مقدّمتين :

الاولى : أنّ المراد من «المجمع عليه» ليس هو الإجماع الاصطلاحي ـ أعني اتّفاق الكلّ ـ حتّى تكون المقبولة أجنبيّة عن بحث الشهرة الفتوائيّة ، بل المراد منه هو المشهور ، وذلك بقرينة قوله عليه‌السلام : «ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك».

الثانية : أنّ الذي يوصف بأنّه لا ريب فيه هو الخبر الذي عليه فتوى المشهور ، وأمّا نفس شهرة الخبر مجرّدة عن الفتوى فإنّه يورث الريب ، بل يوجب الاطمئنان بوجود خلل فيه ، وإلّا لعمل الأصحاب على طبقه.

والحاصل : أنّ اشتهار رواية بين الأصحاب بحسب الفتوى يوجب اتّصافها بأنّه لا ريب فيها ، ومن هنا يتّضح أنّ المراد بالمجمع عليه الذي لا ريب فيه هو الخبر المشهور بين الأصحاب بحسب الفتوى ، ولا شكّ أنّ ما يقابل المجمع عليه ـ أي الشاذّ النادر ـ فهو ممّا لا ريب في بطلانه بقرينة المقابلة ، فالمجمع عليه داخل في القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة ، فيكون بيّنا رشده ، والشاذّ النادر يكون داخلا في القسم الثاني فيكون بيّنا غيّه.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

١٦٤

إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول : إنّ الشهرة الفتوائيّة بين القدماء تندرج في قوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ؛ لأنّ المتعارف لديهم كان نقل الرواية في مقام الفتوى ، فكانت متون الروايات فتاواهم ، وقلنا : إنّ اشتهار الرواية بحسب الفتوى بين الأصحاب القدماء يجعل الرواية ممّا لا ريب فيه ، ويجب الأخذ بمفاده ، ولا يصحّ القول بورود المقبولة في الشهرة الروائيّة ؛ إذ يمكن أن تكون الرواية مشهورة بين الأصحاب من حيث النقل ، ولكن بلحاظ صدورها في مقام التقيّة ـ مثلا ـ لا يكون مفادها قابلا للأخذ ، مع أنّ أمر الإمام عليه‌السلام بأخذ الحكم ومفاد الرواية المشهورة دليل على أنّ المراد منها الشهرة الفتوائيّة ، فالرواية المشهورة بحسب الفتوى لا ريب في أنّ مفادها نظر المعصوم عليه‌السلام. هذا ما تدلّ عليه المقبولة سؤالا وجوابا.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ اشتمال ذيل المقبولة على السؤال والجواب الآخر ينفي هذا الاستدلال ، وهو قوله : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال عليه‌السلام : «ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة». (١)

توضيح ذلك : أنّ اتّصاف الروايتين المعروفتين بالشهرة ممّا يمكن أن يتحقّق كلتاهما معا بنقل كثير من الأصحاب ؛ إذ لا إشكال في نقل شخص واحد للروايتين المتعارضتين ، وأمّا الشهرة الفتوائيّة فإن كانت بمعنى فتوى الأكثر فلا يمكن تحقّق الشهرتين المتعارضتين في مسألة واحدة ، وإن كانت بمعناها اللغوي ـ أي الوضوح كقولنا : شهر فلان سيفه ـ فلا مانع أن تتحقّق في مسألة واحدة شهرتان متعارضتان ، ولذا نرى في كلام الأعاظم التعبير بأنّ هذا مشهور

__________________

(١) المصدر السابق.

١٦٥

وذاك أشهر.

وثانيا : سلّمنا أنّ التعليل في المقبولة يقول : فإنّ الرواية المشهورة من حيث المفاد والفتوى لا ريب في أنّ مفادها نظر المعصوم عليه‌السلام ولكنّه لا يثبت المقصود ، فإنّ محلّ البحث عبارة عن فتوى المشهور بدون الاستناد إلى آية ورواية ودليل آخر ، وحجّيّته لا تستفاد من المقبولة.

وجوابه : أوّلا : أنّ تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلّيّة ، فيكون تمام الملاك لوجوب الأخذ بالحكم ونفي الريب عنه وصف الشهرة ، فلا دخل لوجود الموصوف ـ أي الرواية ـ وعدمه فيما نحن فيه.

وثانيا : أنّه يمكن إلغاء الخصوصيّة عن الرواية المشهورة في التعليل ، فكما أنّ الرواية المشهورة لا ريب فيها كذلك الفتوى المشهورة لا ريب فيها.

ولكنّ التحقيق : أنّ إلغاء الخصوصيّة أمر عرفي يحتاج إلى الإثبات ، وهو ليس بمعلوم فيما نحن فيه ، فلا يستفاد من المقبولة نفي الخصوصيّة عن الرواية ، كما أنّ الإشعار بالعلّيّة ليس بدليل قابل للاطمئنان كما لا يخفى.

ومع ذلك يمكن استفادة الحجّيّة للشهرة الفتوائيّة بين القدماء من المقبولة بلحاظ الخصوصيّة الموجودة في فتاواهم ، وهي أنّ المتعارف لديهم كان نقل الرواية في مقام الفتوى ، فكانت فتاواهم عبارة عن نقل متون الروايات بالألفاظ والتعابير المأثورة وحذف الأسناد ، ونرى هذا الأمر في جميع كتبهم شائعا قبل كتاب المبسوط للشيخ الطوسي قدس‌سره فإذا كانت الفتوى مشهورة في كتب القدماء تكون بمنزلة الرواية المشهورة ، فلا محالة تكون حجّة باستناد المقبولة ، وأمّا حجّيّة الفتوى المشهورة بين المتأخّرين فلا تستفاد منها.

ولقائل أن يقول : إنّه يصحّ استفادة حجّيّة الشهرة الفتوائيّة بين المتأخّرين

١٦٦

أيضا من المقبولة ، بأنّ قوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» يكون بمنزلة الكبرى الكلّيّة ، فدليل أمر الإمام عليه‌السلام بأخذ الرواية المشهورة من حيث المفاد : أنّ كلّ مشهور لا ريب فيه ، فكلّ ما اتّصف بالشهرة فهو ممّا لا ريب فيه ، سواء كانت رواية أو فتوى ، وهذا نظير «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر».

وأجاب عنه المحقّق النائيني قدس‌سره (١) بأنّ هذا التعليل ليس من العلّة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلّيّة التي يتعدّى عن موردها ؛ إذ لا يصحّ حمل قوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» على الشهرة الفتوائيّة بقول مطلق ، بل لا بدّ أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله ، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّيّة ؛ لأنّه يعتبر في الكبرى صحّة التكليف بها ابتداء بلا ضمّ المورد إليها ، كما في قوله : «الخمر حرام لأنّه مسكر» ، فإنّه يصحّ أن يقال : «لا تشرب المسكر» بلا ضمّ الخمر إليه ، والتعليل الوارد في المقبولة ليس كذلك ؛ إذ لا يصحّ أن يقال : «يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله» ، وإلّا لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظنّ المطلق وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها.

ولكنّه مدفوع بأنّ المراد من «لا ريب فيه» هو عدم الريب بقول مطلق ولكن عرفا لا عقلا ، ومن الواضح أنّ اشتهار الرواية بحسب الفتوى من مصاديق «ما لا ريب فيه» بحيث يعدّ الطرف الآخر شاذّا لا يعتنى به عند العرف والعقلاء ، وهذا غير موجود في الموارد التي عدّها قدس‌سره مثل أقوى الشهرتين ، فلا يصدق عرفا على أقوى الشهرتين بأنّها لا ريب فيه بقول مطلق ، بحيث يعدّ الطرف الآخر ـ أي الشهرة التي تقابلها ـ شاذّا لا يعتنى به

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ١٥٤ ـ ١٥٥.

١٦٧

عند العقلاء ، فعموم التعليل تامّ لا إشكال فيه من هذه الناحية.

نعم ، يصحّ الإشكال بأنّ كلمة «المجمع» في ابتداء المقبولة وفي التعليل تكون بمعنى واحد ، أي الرواية المشهورة لا ريب فيها ، فلا يمكن هنا استفادة حكم كلّي ، ويكون التعليل بصورة الوصف والموصوف لا بصورة قضيّة حمليّة بحمل الشائع الصناعي التي يكون الموضوع فيها من مصاديق المحمول مثل : «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» ، أي لأنّ الخمر مصداق من مصاديق المسكر ، والكبرى المطويّة فيها «أنّ كلّ مسكر حرام».

وهذا المعنى لا يتحقّق في المقبولة حتّى يستفاد منها الحكم الكلّي على فرض كون الشهرة بمعنى الشهرة الروائيّة ، ولكنّك قد عرفت القرائن على كون المراد منها الشهرة الفتوائيّة المأخوذة من الرواية.

ومنها : أنّ الظنّ الحاصل من الشهرة الفتوائيّة أقوى من الظنّ الحاصل من خبر الواحد ، فالذي يدلّ على حجّيّة الخبر يدلّ على حجّيّة الشهرة أيضا بالأولويّة.

وفيه : أنّ المناط في حجّيّة الخبر الواحد ليس هو إفادته للظنّ ، بل لقيام الدليل على حجّيّته بالخصوص ، ومن الواضح أنّ أدلّة حجّيّة الخبر لا دلالة فيها على أنّ المناط في حجّيّته هو إفادته للظنّ ، فالأولويّة المدّعاة تكون حينئذ ظنّيّة لا قطعيّة ، والأولويّة الظنّيّة لا دليل على اعتبارها.

وذكروا أدلّة اخرى أيضا لحجّيّة الشهرة الفتوائيّة ، ولكن لا ينبغي ذكرها خوف الإطالة. هذا تمام الكلام في الشهرة الفتوائيّة.

١٦٨

حجّيّة الخبر الواحد

والبحث في حجّيّة الخبر الواحد من أمّهات مسائل علم الاصول ؛ إذ يستفاد حكم جلّ المسائل الفقهيّة الفرعيّة من الخبر الواحد ، وينقسم الخبر إلى المتواتر والواحد ، ويقصد بخبر الواحد ما لا يبلغ حدّ التواتر ، سواء كان مستفيضا أم غير مستفيض ، والخبر الواحد قد يكون محفوفا بالقرائن المفيدة للعلم ، وقد لا يكون كذلك ، أمّا الخبر المتواتر والواحد المحفوف بالقرائن المذكورة فلا إشكال في حجّيتهما ؛ إذ بعد إفادتهما للعلم واليقين لم يبق معنى للبحث عن حجّيتهما ، فإنّ القطع حجّة بذاته ، وأمّا الخبر الواحد الظنّي الصدور والمجرّد عن القرائن فقد وقع الخلاف في حجّيته.

وتقدّم عن صاحب الكفاية قدس‌سره أنّ الملاك في كون المسألة اصوليّة هو وقوع نتيجتها في كبرى قياس الاستنباط بحيث لو انضمّت إليها الصغرى أنتجت حكما شرعيّا فرعيّا ، فإن كانت نتيجة هذا البحث حجّية الخبر الواحد ، ودلّ الخبر على وجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ فنقول : وجوب صلاة الجمعة ممّا دلّ عليه الخبر الثقة ، وكلّ ما دلّ عليه الخبر الثقة يجب الأخذ به واتّباعه ، فوجوب صلاة الجمعة يجب الأخذ به واتّباعه ، فهذه المسألة اصوليّة ، وإن لم يكن الخبر الواحد من الأدلّة الأربعة لكونه حاكيا عن السنّة ، والسنّة قول المعصوم عليه‌السلام وفعله وتقريره.

١٦٩

ولكن تمسّك عدّة من العلماء بوجوه لإثبات كون الموضوع في المسألة من الأدلّة الأربعة :

منها : ما قال به صاحب الفصول قدس‌سره بأنّ المراد من السنّة التي تكون من الأدلّة الأربعة هي السنّة الحاكية لا السنّة المحكيّة.

واشكل عليه بأنّه لا يصحّ البحث عن عنوان دليليّة الأدلّة الأربعة في الاصول ؛ إذ البحث عن دليليّة دليل لا يكون بحثا عن أحواله وعوارضه ، فكيف يكون البحث عن حجّيّة الخبر الواحد بحثا عن عوارضه مع أنّ المراد من السنّة هي السنّة الحاكية؟

ومنها : ما قال به الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) وهو : أنّ المراد من السنّة هي السنّة المحكيّة ، ولكن لا بدّ من تغيير صورة المسألة بأنّه هل السنّة ـ أي قول المعصوم عليه‌السلام ـ تثبت بخبر الواحد أم لا؟

وفيه : أوّلا : أنّ الإشكال الوارد على المسألة بالعنوان الوارد في كلمات العلماء لا يندفع بهذا ، فإنّه طريق الحلّ لما جعله عنوانا للمسألة ، لا لما يكون عنوانا في كلمات الأصحاب.

وثانيا : إن اريد بثبوتها بالخبر علّيّة الخبر لوجودها تكوينا فهو واضح فساده ؛ لأنّ الخبر الحاكي عن السنّة متأخّر رتبة عن المحكي ، فلو كان الخبر علّة لوجود السنّة تكوينا لزم تأخّر العلّة عن المعلول.

وإن اريد بثبوتها به ثبوتها تعبّدا فهو وإن كان من العوارض ولكنّه من عوارض الخبر الحاكي لا من عوارض السنّة ، وذلك لأنّ البحث عن ثبوت السنّة به بحث عن عوارض السنّة المشكوكة لا نفس السنّة الواقعيّة ، فقولنا :

__________________

(١) الرسائل : ١٠٥ ـ ١٠٦.

١٧٠

«هل خبر الواحد حجّة أم لا» معناه : أنّه هل تثبت السنّة المشكوكة بخبر الواحد أم لا؟

إذا عرفت هذا فنقول : اختلف العلماء في حجّية الخبر الواحد ، والمشهور قائل بحجّيته في الجملة ، والمحكي عن السيّد (١) والقاضي (٢) وابن زهرة (٣) والطبرسي (٤) وابن إدريس (٥) عدم حجّيّته ، وقد عرفت أنّ القاعدة الأوّلية حرمة التعبّد بالمظنّة وعدم حجّيتها إلّا ما قام الدليل على الحجّية ، فلا بدّ من كون الدليل القائم على حجّية المظنّة قطعيّا ، أو حجّيته قطعيّة ؛ لعدم إمكان تخصيص القاعدة الكلّية بالدليل الظنّي.

أدلّة القائلين بعدم حجيّة الخبر الواحد

واستدلّ المانعون عن الحجّية ـ مع عدم احتياجهم إلى الاستدلال ـ بالأدلّة الأربعة :

أمّا الكتاب فالآيات الناهية عن اتّباع غير العلم ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٦) ، وقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٧) ، وغير ذلك من الآيات الدالّة على ذمّ من يعتمد على الظنّ ، ومعلوم أنّ الخبر الواحد من المصاديق الظاهرة لطبيعة الظنّ ،

__________________

(١) رسائل المرتضى ٣ : ٣٠٩.

(٢) حكاه عنه في المعالم : ١٨٩.

(٣) الغنية ٢ : ٣٥٦.

(٤) مجمع البيان ٥ : ١٣٣.

(٥) السرائر ١ : ٥١.

(٦) الاسراء : ٣٦.

(٧) النجم : ٢٨.

١٧١

فلا يجوز العمل به.

وجوابه : أوّلا : أنّ ظاهر الآيات الناهية بقرينة المورد هو اختصاص النهي عن اتّباع غير العلم بالاصول الاعتقاديّة ، لا ما يعمّ الفروع الشرعيّة ، فإنّ قوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) ورد عقيب قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى * وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) ، ولكنّه ليس بصحيح ؛ إذ يستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي أنّ طبيعة الظنّ بعيدة عن الحقّ ولا تكون طريقا إليه ، فلا أقلّ من عموميّة الآيات وعدم اختصاصها بالاصول الاعتقاديّة ، سيّما قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ، فإنّه ورد في ذيله قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) ، ولذا نرى في رواية استشهاد الإمام عليه‌السلام بهذا الذيل على حرمة إطالة الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء (٢).

وثانيا : بعد تسليم عمومات الآيات الناهية للفروع لا مانع منه بعد كون ما دلّ على حجّية خبر الواحد أخصّ من تلك الآيات ، فيخصّص به عموم الآيات ، وهكذا بدليل حجّية الشهرة الفتوائيّة على فرض تماميّته.

إن قلت : إنّ لسان تلك الآيات يأبى التخصيص.

قلنا : إنّ دلالة تلك الآيات على مفادها لا تكون قطعيّة ؛ لعدم نصّها في الحرمة ، بل لها ظهور فيها ، والظاهر يفيد الظنّ لا القطع ، ودليل حجّية هذا الظنّ ما يدلّ على حجّية ظواهر الكتاب ، فلا محالة يكون هذا الدليل مخصّصا لتلك الآيات ، فنفس الاستدلال بها يكون دليلا على كونها قابلة للتخصيص ،

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٩٢ ، الحديث ٧٤.

١٧٢

كما هو واضح.

وثالثا : أنّ الأدلّة الدالّة على حجّية الخبر تقدّم على الآيات الناهية ، إمّا بنحو التخصّص ، وإمّا بنحو الورود ، وإمّا بنحو الحكومة على اختلاف فيه ، فلا بدّ من توضيح هذه العناوين من باب المقدّمة ، فنقول : إنّ التخصيص هو خروج فرد من الأفراد عن العنوان العام الشامل له بالإرادة الاستعماليّة بدليل آخر ، مثل : «لا تكرم زيدا العالم» بالنسبة إلى «أكرم كلّ عالم».

وأمّا التخصّص فهو الإرشاد والانتباه إلى خروج فرد عنه مع كونه غير شامل له بدليل آخر ، مثل : «لا تكرم زيدا» بالنسبة إلى «أكرم كلّ عالم» ، فإنّا نعلم خارجا بعدم شمول العامّ له مع قطع النظر عن الدليل الخاصّ ؛ لعدم اتّصافه بالعلم.

ومن المعلوم أنّ العلم والجهل أمران واقعيّان لا يرتبطان بالحكم والتعبّد الشرعي ، بخلاف الورود والحكومة ، فإنّهما يشتركان في أنّ عنوان الخروج والدخول يتحقّق بمساعدة التعبّد والدليل الشرعي ، أمّا في باب الورود بعد مجيء الدليل الثاني فلا يبقى موضوع للحكم السابق ، مثل : تقدّم الخبر الواحد الدال على وجوب صلاة الجمعة على حديث الرفع الذي موضوعه عدم العلم ، ومعناه رفع الحكم الذي لا يدلّ عليه الدليل المعتبر الشرعي ، فمع وجوده لا يبقى عنوان «ما لا يعلمون».

وأمّا الدليل الحاكم في باب الحكومة فيكون في مقام توضيح الدليل المحكوم وتعيين حدوده ، مثل حكومة قوله عليه‌السلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» على قوله عليه‌السلام : «إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على الأكثر» (١) ، فيكون الدليل الحاكم

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢١٦ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

١٧٣

مفسّرا ومبيّنا للدليل المحكوم ، ولا يكون الدليل المحكوم من الابتداء وبالإرادة الاستعماليّة شاملا لمورد الدليل الحاكم ، بل يتخيّل أنّه يشمله ، وهذا بخلاف التخصيص الذي يخرج مورده عن تحت العام بالإرادة الجدّية بعد شموله له بالإرادة الاستعماليّة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا شكّ في تقدّم أدلّة حجّية الخبر الواحد على الآيات الناهية ، إلّا أنّ الاختلاف في وجه التقدّم.

والتحقيق : أنّ تقدّمها عليها بنحو الورود ، وتقريب ذلك : أنّ المراد من كلمة العلم في الآيات الناهية ـ مثل : قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ـ لا يكون القطع واليقين ، بل المراد منه الدليل المعتبر القابل للاستناد ، نظير قوله تعالى : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا)(٢) ، فالآيات الناهية تمنع عن متابعة الدليل غير المعتبر.

ومن المعلوم أنّ بعد إثبات حجّية الخبر الواحد بالأدلّة الآتية يتحقّق الدليل المعتبر عند الشارع ، فلا يبقى موضوع للآيات الناهية فيما يدلّ عليه الخبر الواحد المعتبر ، ولذا تكون أدلّة الحجّية واردة عليها.

وإن أبيت عن ذلك وقلت : إنّ المراد من العلم في الآيات الناهية هو القطع واليقين ، فنقول : سلّمنا أنّ الخبر الواحد بالنسبة إلى المخبر به ومفاده ظنّي ، ولكنّ أدلّة حجّيته قطعيّة لا محالة ؛ إذ لا بدّ من انتهاء حجّية كلّ ظنّ إلى الدليل القطعي ، كما مرّ ، فمع القطع بحجّية الخبر الدال على وجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ لا يبقى هنا موضوع للآيات الناهية عن اتّباع غير العلم ، ولذا نقول : إنّ الخبر

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.

(٢) الأنعام : ١٤٨.

١٧٤

الواحد دليل شرعي وارد عليها.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني قدس‌سره (١) أجاب عن الآيات الناهية بأنّ أدلّة حجّية خبر الواحد حاكمة عليها ، حيث إنّ تلك الأدلّة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزا للواقع ، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع ، فلا يمكن أن تعمّه الآيات الناهية عن العمل بالظنّ.

هذا في غير السيرة العقلائيّة ، وأمّا السيرة فيمكن القول بأنّ نسبتها إلى الآيات الناهية نسبة الورود بل التخصّص ؛ لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظنّ ، وذلك لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع ، فالعمل بخبر الثقة عندهم خارج عن العمل بالظنّ تخصّصا.

أضف إلى ذلك : أنّ رادعيّة الآيات الناهية عن السيرة يلزم منها الدور المحال ؛ لأنّ الردع عن السيرة بالآيات الناهية يتوقّف على أن لا تكون السيرة مخصّصة لعمومها ، وعدم كونها مخصّصة لها يتوقّف على أن تكون رادعة عنها.

وإن منعت عن ذلك كلّه فلا أقلّ من أن يكون حال السيرة حال سائر الأدلّة الدالّة على حجّية خبر الواحد من كونها حاكمة على الآيات الناهية ، والمحكوم لا يصلح أن يكون رادعا عن الحاكم.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ مفاد أدلّة حجّية خبر الواحد هو اتّباع قول الثقة وجعل الحجّية له ، وأمّا تنزيل الخبر منزلة العلم في عالم التشريع بإلقاء احتمال الخلاف فيه فلا يستفاد منها بوجه ، وقد عرفت سابقا عدم تماميّة ما يقال من أنّ المجعول في الأمارات هو الكاشفيّة أو تتميم الكشف لتكون الأمارة مصداقا ادّعائيّا للعلم.

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ١٦١ ـ ١٦٢.

١٧٥

وثانيا : أنّ نسبة السيرة العقلائيّة إلى الآيات الناهية ليست نسبة الورود أو التخصّص ، وذلك لأنّها فرع كون العمل بالخبر الواحد عند العقلاء عملا بالعلم ، وهو باطل ؛ إذ لم يحصل لهم العلم منه ، بل جعله العقلاء حجّة للعمل به في مصاف القطع ؛ إذ لو كان القطع طريقا منحصرا في امور المعاش والحياة الاجتماعيّة يلزم ما لا يكون قابلا للتحمّل من المشتقّات والمشكلات ، وأمّا عدم التفاتهم إلى احتمال الخلاف في خبر الثقة فلا يصحّح الورود أو التخصّص ؛ إذ الورود والتخصّص يدور مدار الخروج الواقعي الحقيقي لا مدار الخروج عند المخاطب.

وثالثا : أنّ الدور المدّعى غير تامّ نقضا وحلّا ، أمّا نقضا فلانقلاب الدور عليه قدس‌سره ببيان : أنّ مخصّصيّة السيرة لعموم الآيات الناهية تتوقّف على عدم رادعيّة الآيات عنها ، وعدم رادعيّتها عنها يتوقّف على مخصّصية السيرة لعمومها.

وأمّا حلّا فلأنّ رادعيّة الآيات الناهية عن السيرة حاصلة بالفعل ولا تتوقّف على شيء ، وأمّا حجّية السيرة العقلائيّة وبالتالي تخصيصها لعموم الآيات فهي غير حاصلة بالفعل ، وإنّما تصير حجّة بإمضاء الشارع وعدم ردعه عنها ، فلا يلزم من رادعيّة الآيات الناهية عن السيرة الدور المحال.

ورابعا : أنّ حكومة السيرة عليها من غرائب كلامه قدس‌سره فإنّ الحكومة إنّما تتقوّم بلسان الدليل اللفظي كحكومة «لا شكّ لكثير الشكّ» على أدلّة الشكوك ، وأمّا السيرة فهي عمل خارجي ودليل لبّي ، وكيف تصحّ حكومته على دليل لفظي؟!

وأمّا السنّة فهي على طوائف مع اختلاف مفادها من حيث السعة والضيق :

١٧٦

الاولى : ما دلّت على عدم جواز تصديق الخبر إلّا إذا وجد له شاهد أو شاهدان من الكتاب.

الثانية : ما دلّت على عدم جواز الأخذ بالخبر إلّا إذا وافق كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الثالثة : ما دلّت على عدم جواز الأخذ بالخبر إلّا إذا شابه الكتاب وأحاديثهمعليهم‌السلام.

الرابعة : ما دلّت على طرح الخبر المخالف للكتاب (١).

والجواب عن الاستدلال بها : أوّلا : أنّ هذه الأخبار أخبار آحاد ، فلا تنفع الخصم للاستدلال بها ؛ لأنّ المفروض أنّه يقول بعدم حجّية أخبار الآحاد.

وثانيا : لو سلّمنا تواترها فإنّها متواترة بالتواتر الإجمالي بمعنى العلم الإجمالي بصدور بعضها عن المعصوم عليه‌السلام قطعا ، وهذا العلم الإجمالي يقتضي الأخذ بالقدر المتيقّن من الأخبار ، وهو أخصّها مضمونا ـ أعني الخبر المخالف للكتاب ـ فتختصّ عدم الحجّية بذلك بنحو القضيّة السالبة الجزئيّة. ومن الواضح أنّ هذا لا يضرّ المدّعي لحجّية خبر الواحد في الجملة ؛ إذ لا منافاة بين الإيجاب والسلب الجزئيّين ، بل لا بدّ للقائل بالحجّية أيضا الالتزام بعدم حجّيته فيما إذا خالف الكتاب كما يأتي في محلّه.

وأمّا الإجماع : فقد نسب إلى السيّد المرتضى قدس‌سره (٢) دعوى الإجماع على عدم حجّية الخبر الواحد ، بل حكي عنه أنّه جعله بمنزلة القياس في كون تركه معروفا من مذهب الشيعة.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) نسبه إليه في الرسائل : ٨٨.

١٧٧

وفيه : أوّلا : أنّ الإجماع المدّعى إمّا محصّل أو منقول ، أمّا المحصل فغير حاصل بعد ادّعاء الإجماع على حجّية الخبر الواحد من تلميذه الشيخ الطوسي قدس‌سره (١) في عصره وزمانه ، وعلى فرض تحقّقه فلا يمكن الاستناد إليه ؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى وجوه اخرى ، فيصير الإجماع مدركيّا ولو احتمالا. وأمّا الإجماع المنقول فليس بحجّة عند القائلين بحجّية خبر الواحد.

وثانيا : لو سلّمنا حجّية الإجماع المنقول إلّا أنّه لا يمكن الالتزام بالحجّية في خصوص المقام ؛ إذ لا يصحّ نفي حجّية خبر الواحد بالإجماع المنقول بخبر الواحد ، فإنّه مستلزم لنفي حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد لكونه من أفراده.

وأمّا العقل فقد مضى بيانه في كلام ابن قبة ، وذكرنا الجواب عنه.

أدلّة القائلين بحجّيّة الخبر الواحد

والعمدة هنا أدلّة القائلين بالحجّية فإنّهم أيضا استدلّوا بالأدلّة الأربعة :

أمّا الكتاب فاستدلّ بآيات منه :

الاولى : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٢).

قال الطبرسي قدس‌سره في شأن نزولها : «إنّها نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحا به ، وكانت بينهم عداوة في الجاهليّة ، فظنّ أنّهم همّوا بقتله فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : إنّهم منعوا صدقاتهم ، وكان الأمر بخلافه ، فغضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) عدة الاصول ١ : ٣٣٧.

(٢) الحجرات : ٦.

١٧٨

وهمّ أن يغزوهم ، فنزلت الآية». (١)

والاستدلال بها على حجّية خبر الواحد العادل من وجهين :

الأوّل : الاستدلال بمفهوم الوصف ، ببيان أنّه علّق وجوب التبيّن على كون المخبر متّصفا بصفة الفسق ، فينتفي بانتفائها ؛ إذ لو كان التبيّن واجبا على كلا التقديرين ـ أي مجيء الفاسق بالنبإ ومجيء العادل به ـ لكان تعليق الحكم على وصف الفسق في الجائي بالنبإ لغوا ، فتدلّ الآية الكريمة من جهة مفهوم الوصف على عدم وجوب التبيّن على تقدير مجيء العادل بالنبإ ، وهذا هو معنى الحجّية.

وفيه : أنّ دلالة الآية على ذلك مبنيّة على ثبوت المفهوم للوصف ، وهو غير ثابت ؛ إذ لا مفهوم للقضيّة الوصفيّة مطلقا ، سواء كان الوصف معتمدا على موصوفه ـ كما في : «أكرم الرجل العالم» ـ أم لا ـ كما في الآية الشريفة ـ وذلك لأنّ ثبوت المفهوم لها يتوقّف على دلالة الجملة الوصفيّة المشتملة على الحكم وعلى كون الوصف علّة منحصرة بحيث يدور الحكم فيها مدار الوصف وجودا وعدما ؛ إذ بدون ذلك لا يثبت لها مفهوم ، وقد سبق في باب المفاهيم أنّه لا دلالة لها على كون الوصف علّة منحصرة للحكم ، لا بالوضع ولا بالتبادر.

إن قلت : إنّ الأصل في القيود كونها احترازيّة لا توضيحيّة ولا الغالبيّة ، فيكون قيد الفاسق في الآية الشريفة للاحتراز عن غير الفاسق.

قلنا : إن كان معنى الاحترازيّة ثبوت المفهوم للجملة الوصفيّة فهو أوّل الكلام ، ونحن ننكره ، وإن كان معناها مدخليّة القيد في ثبوت الحكم فهو صحيح ولكنّه لا يستلزم كون القيد علّة منحصرة للحكم ؛ إذ يمكن مدخلية شيء آخر أيضا في الحكم ، وبدون إثبات العلّية المنحصرة لا يثبت المفهوم.

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ١٣٢.

١٧٩

الوجه الثاني : الاستدلال بمفهوم الشرط ، ببيان أنّه تعالى علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق بالنبإ ، فينتفي وجوبه عند انتفائه بمجيء العادل بالنبإ.

ويرد عليه : أوّلا : أنّه على فرض تحقّق المفهوم للقضيّة الشرطيّة لا بدّ من كون الشرط أمرا مغايرا للموضوع ، بحيث يمكن أن يتحقّق للموضوع ويمكن أن لا يتحقّق له ، وأمّا إذا كان عنوان الشرط متّحدا مع عنوان الموضوع لا زائدا عليه وسيق الشرط لبيان الموضوع فلا مفهوم لها.

ومعلوم أنّ القضيّة الشرطيّة في الآية الشريفة مسوقة لبيان تحقّق الموضوع ، نظير قولك: «إن رزقت ولدا فاختنه» ، فإنّ الختان عند انتفاء الولد منتف بانتفاء موضوعه ، ولا مفهوم له ، فكذلك الآية لا مفهوم لها.

توضيح ذلك : أنّ الموضوع في الآية ليس طبيعي النبأ بل الموضوع فيها خصوص نبأ الفاسق ، والشرط هو المجيء ، والجزاء هو وجوب التبيّن ، بمعنى أنّ نبأ الفاسق إن جاءك يجب التبيّن فيه ، فيكون المفهوم حينئذ عدم وجوب التبيّن عند عدم مجيء الفاسق بالنبإ ، فحينئذ لا موضوع في البين حتّى يجب التبيّن فيه أو لا يجب ، ولا بدّ من فرض موضوع محفوظ في كلا جانبي وجود الشرط وعدمه حتّى يثبت المفهوم ، وعليه فلا مفهوم للآية لكونها مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) وحاصل كلامه : أنّ الموضوع في الآية هو طبيعة النبأ لا نبأ الفاسق ، وقد علّق وجوب التبيّن على كون الجائي به فاسقا ، فإذا انتفى الشرط لا يجب التبيّن في النبأ ، فكأنّه قيل : النبأ الذي جاءكم له حالتان : إن كان الذي جاء به فاسقا يجب التبيّن فيه ، وليس بحجّة ، وإن كان

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٨٣.

١٨٠