دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

وأمّا ما أفاده المحقّق العراقي رحمه‌الله من خروج الطبيعي والحصّة عن مركز هذا النزاع ؛ لأنّ الطبيعي باعتبار قابليّته للانطباق على حصّة اخرى منه المبائنة للحصّة المتحقّقة في ضمن زيد لا يكون محفوظا بمعناه الإطلاقي في ضمن الأكثر ، فيدخل في التعيين والتخيير الراجع إلى المتباينين (١).

ففيه أنّه لا فرق بين الطبيعي والحصّة وبين الجنس والنوع ، فإنّ الملاك في الجميع هو كون الأقلّ القدر المشترك مأخوذا في التكليف على أيّ تقدير ، وهذا الملاك موجود في الطبيعي والحصّة.

نعم ، المثال الذي ذكره ـ وهو الإنسان وزيد ـ خارج عن موضوع البحث ، كما أنّ أخذ النوع لو كان بعنوان واحد يكون أيضا خارجا ، كما إذا دار الأمر بين إطعام الحيوان أو إطعام الإنسان ؛ لعدم كون الأقلّ ـ أي الإنسان وهكذا زيد ـ مأخوذا في التكليف على أيّ تقدير.

نعم ، لو كان بنحو أخذ الجنس أيضا يكون داخلا ، كما إذا دار الأمر بين إطعام الحيوان أو إطعام الحيوان الناطق ، وكما أنّ الطبيعي والحصّة أيضا كذلك.

وبالجملة ، لو كانت الحصّة وكذا النوع مأخوذا بعنوان واحد لا يكون الطبيعي أو الجنس في ضمنه لما كان وجه لجريان البراءة أصلا ، ولو لم يكن على هذا النحو يكون داخلا في مورد النزاع ، فتدبّر.

ثمّ إنّا نتكلّم عن تلك الاقسام الكثيرة المتقدّمة في مهمّاتها ، وهي الأقلّ والأكثر الذي كان من قبيل الكلّ والجزء ، وما كان من قبيل الشرط والمشروط ، وما كان في الأسباب والمحصّلات والأقلّ والأكثر في الشبهة الموضوعيّة ، فهنا مطالب :

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣٧٣.

٤٢١
٤٢٢

المطلب الأوّل : في الأقلّ والأكثر الذي يكون من قبيل الكلّ والجزء

وهو معركة للآراء ، فمن قائل بجريان البراءة فيه مطلقا ، ومن قائل بعدم جريانها مطلقا ، ومن قائل بالتفصيل بين البراءة الشرعيّة والعقليّة بجريان الاولى دون الثانية ، كما اختاره المحقّق الخراساني رحمه‌الله (١) وتبعه بعض أجلّاء تلامذته (٢) ، ومقتضى التحقيق هو الوجه الأوّل.

في جريان البراءة العقليّة

وتنقيحه يتمّ برسم امور :

الأوّل : أنّ المركّبات الاعتباريّة في عالم الاعتبار واللحاظ تكون كالمركّبات الخارجيّة الحقيقيّة في الخارج ، فكما أنّ التركيب الحقيقي إنّما يحصل بالكسر والانكسار الحاصل بين الأجزاء بحيث صار موجبا لانخلاع صورة كلّ واحد منها وحصول صورة اخرى للمجموع ، كذلك المركّب الاعتباري في عالم الاعتبار لا يكون ملحوظا إلّا شيئا واحدا وأمرا فاردا تكون له صورة واحدة اعتبارا ، فكأنّه لا يكون له إلّا وجود واحد هو وجود المجموع ، والأجزاء لا يكون لها وجود مستقلّ ، بل هي فانية في المركّب.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٢٨.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ١٦٣.

٤٢٣

الثاني : أنّ المأمور الذي امر بإيجاد مركّب اعتباري إذا قصد امتثال الأمر والإتيان بالمأمور به تتعلّق إرادته أوّلا بنفس المركّب الذي هو أمر واحد ، وربّما لا تكون الأجزاء حينئذ ملحوظة له ومتوجّها إليها أصلا ، ثمّ بعد ما يتوجّه إلى تلك الأجزاء التي يتحصّل المركّب منها تتعلّق إرادة اخرى بإيجادها في الخارج حتّى يتحقّق المجموع. هذا في المأمور.

وأمّا الآمر فالآمر فيه بالعكس ، فإنّه يتصوّر أوّلا الأجزاء والشرائط كلّ واحد منها مستقلّا ، ثمّ يلاحظ أنّ الغرض والمصلحة تترتّب على مجموعها ، بحيث يكون اجتماعها مؤثّرا في حصول الغرض ، فيلاحظها أمرا واحدا وتعلّق أمره به ، ويحرّك المكلّف نحو إتيانه ، فهو ينتهي من الكثرة إلى الوحدة ، كما أنّ المأمور ينتهي من الوحدة إلى الكثرة.

الثالث : الأمر المتعلّق بالمركّب الاعتباري لا يكون إلّا أمرا واحدا متعلّقا بأمر واحد ، والأجزاء لا تكون مأمورا بها أصلا ؛ لعدم كونها ملحوظة إلّا فانية في المركّب ، بحيث لا يكون لها وجود استقلالي ، غاية الأمر أنّ كلّ جزء مقدّمة مستقلّة لتحقّق المأمور به ، وهي مقدّمة داخليّة في مقابل المقدّمة الخارجيّة.

والفرق بين قسمي المقدّمة : أنّ المقدّمة الخارجيّة يكون الداعي إلى إتيانها أمر آخر ناش عن الأمر بذي المقدّمة بناء على وجوب المقدّمة ، أو اللزوم العقلي بناء على عدم الوجوب ، والمقدّمات الداخليّة يكون الداعي إليها هو نفس الأمر المتعلّق بذي المقدّمة ؛ لعدم كون المركّب مغايرا لها ؛ لأنّه إجمالها وصورتها الوحدانيّة ، وهي تفصيله وتحليله ، وهو لا ينافي مقدميّة الأجزاء ؛ لأنّ المقدّمة إنّما هي كلّ جزء مستقلّ لا مجموع الأجزاء.

وبالجملة ، فالأمر المتعلّق بالمركّب يدعو بعينه إلى الأجزاء ، ولا يلزم من

٤٢٤

ذلك أن يكون الأمر داعيا إلى غير متعلّقه ؛ لأنّ الأجزاء هي نفس المركّب ، والفرق بينهما بالإجمال والتفصيل والبساطة والتحليل.

بخلاف ما ذكره المرحوم البروجردي رحمه‌الله وقرّرته في كتاب صلاته ، وهو أنّ الأمر متعلّق بالمجموع ، وكيفيّته : أنّ الأمر كأنّه أبعاض ، وكلّ بعض منه يتعلّق بجزء من أجزاء المركّب المأمور به ، كالعباءة الواحدة الواقع على نفرات ـ مثلا ـ واستدلّ له بأنّ الماء الموجود في الحوض مع وحدته ـ إذ الاتصال مساوق مع الوحدة ـ يمكن اتّصاف أبعاضه بالأوصاف المتضادّة بتلوّن كلّ زاوية من الحوض بلون مختلف ، فالماء مع كونه واحدا يقع معروضا للأوصاف المتضادّة بلحاظ الأبعاض ، فلا مانع من تعلّق الأمر مع كونه واحدا بالأجزاء المتعدّدة والمتكثّرة للمأمور به ، بحيث كان لكلّ جزء منه سهم وبعض من الأمر (١).

وهذا الكلام وإن كان مشابها لما ذكرناه ولكنّه مخالف للواقع ؛ إذ الداعي والمحرّك حين الإتيان بكلّ جزء من المركّب لا يكون بعض الأمر ، بل هو عبارة عن تمام الأمر ، وهذا أمر وجداني ليس قابلا للإنكار ، كما لا يخفى.

إذا عرفت ذلك فنقول : أنّ الأمر يدعو إلى الأجزاء بعين دعوته إلى المركّب ، فالحجّة على الأجزاء إنّما هي بعينها الحجّة على المركّب ، لكن مع تعيين الأجزاء التي ينحلّ إليها ، وأمّا مع عدم قيام الحجّة على بعض ما يحتمل جزئيّته فلا يمكن أن يكون الأمر المتعلّق بالمركّب داعيا إلى ذلك الجزء المشكوك أيضا بعد عدم إحراز انحلال المأمور به إليه.

وبالجملة ، فتماميّة الحجّة تتوقّف على إحراز الصغرى والكبرى معا ـ أي الصلاة المأمور بها وهذه أجزاؤها ـ وإلّا فمع الشكّ في إحداهما لا معنى

__________________

(١) نهاية التقرير ١ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

٤٢٥

لتماميّتها ، فاللازم العلم بتعلّق الأمر بالمركّب وبأجزائه التحليليّة أيضا ، وبدون ذلك تجري البراءة عقلا ، الراجعة إلى قبح العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان.

ودعوى : أنّ مع ترك الجزء المشكوك لا يعلم بتحقّق عنوان المركّب ، ومن الواضح لزوم تحصيله.

مدفوعة : بأنّ مرجع ذلك إلى كون أسامي العبادات موضوعة للصحيحة منها ، والكلام إنّما هو بناء على القول الأعمّي الذي مرجعه إلى صدق الاسم مع الإخلال بالجزء المشكوك.

وكيف كان ، فتعلّق الأمر بالمركّب الذي هو أمر وجداني معلوم تفصيلا لا خفاء فيه ، وعدم كون الأجزاء متعلّقة للأمر بوجه أيضا معلومة كذلك ، إلّا أن ذلك الأمر المعلوم إنّما يكون حجّة بالنسبة إلى ما قامت الحجّة على انحلال المركّب به ، وأمّا ما لم يدلّ على جزئيّته له فلا يكون الأمر بالمركّب حجّة بالنسبة إليه ولا يحرّك العبد نحوه. ولسنا نقول بأن متعلّق الأمر معلوم إجمالا ، وهذا العلم الإجمالي ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ البدوي في وجوب الأكثر ، كيف؟ وقد عرفت أن متعلّق الأمر هو الأمر المركّب وتعلّقه به معلوم تفصيلا ، والشكّ إنّما هو في أجزاء المركّب ، وهي غير مأمور بها أصلا ، سواء فيه الأقلّ والأكثر ، غاية الأمر أنّ هذا الأمر لا يكاد يدعو إلّا إلى ما علم بتركيب المركّب منه ، كما عرفت.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الحقّ جريان البراءة العقليّة.

إشكالات جريان البراءة العقليّة عن الأكثر ودفعها

ثمّ إنّ هنا إشكالات على ذلك لا بدّ من ذكرها والجواب عنها ، وهي :

الإشكال الأوّل : أنّ دوران الأمر في باب الأقلّ والأكثر هو دوران بين المتباينين ؛ لأنّ

٤٢٦

المركّب من الأقلّ الذي هو الأمر الوحداني الحاصل من ملاحظة أجزائه شيئا واحدا يغاير المركّب من الأكثر الذي مرجعه إلى ملاحظة الوحدة بين أجزائه ، فالمركّب من الأقلّ له صورة مغايرة للمركّب من الأكثر ، فإذا دار الأمر بينهما يجب الاحتياط بإتيان الأكثر.

ويظهر جواب هذا الإشكال ممّا ذكرنا ، فإنّ المركّب من الأقلّ ليس له صورة تغاير نفس الأجزاء المركّبة منه بحيث كان هنا أمران : الأجزاء التي يتحصّل منها المركّب ، والصورة الحاصلة منها ، بل ليس هنا إلّا أمر واحد وهو نفس الأجزاء ، ولذا ذكرنا أنّ الأمر يدعو إلى الأجزاء بعين دعوته إلى المركّب ؛ لعدم التغاير بينهما. وهكذا المركّب من الأكثر ليس له صورة مغايرة للأجزاء ، بل هو نفسها ، وحينئذ فلا يكون في البين إلّا الأجزاء التي دار أمرها بين الأقلّ والأكثر ، فالمقام لا يكون من قبيل دوران الأمر بين المتباينين ، مضافا إلى أنّه لو كان من ذلك القبيل لكان مقتضاه الجمع بين الإتيان بالمركّب من الأقلّ مرّة وبالمركّب من الأكثر اخرى ، ولا يجوز الاكتفاء بالثاني ، كما أنّه لا يجوز الاكتفاء بالأوّل.

الإشكال الثاني : ما نسب إلى المحقّق صاحب الحاشية ـ وإن كانت عبارتها لا تنطبق عليه ، بل هي ظاهرة في وجه آخر سيأتي التعرّض له ـ من أن العلم بوجوب الأقلّ لا ينحلّ به العلم الإجمالي ؛ لتردّد وجوبه بين المتباينين ، فإنّه لا إشكال في مباينة الماهيّة بشرط شيء للماهيّة لا بشرط ؛ لأنّ أحدهما قسيم الآخر ، فلو كان متعلّق التكليف هو الأقلّ فالتكليف به إنّما يكون لا بشرط عن الزيادة ، ولو كان متعلّق التكليف هو الأكثر فالتكليف بالأقلّ إنّما يكون بشرط انضمامه مع الزيادة ، فوجوب الأقلّ يكون مردّدا بين المتباينين باعتبار

٤٢٧

اختلاف سنخي الوجوب الملحوظ لا بشرط أو بشرط شيء. كما أنّ امتثال التكليف المتعلّق بالأقلّ يختلف حسب اختلاف الوجوب المتعلّق به ، فإنّ امتثاله إنّما يكون بانضمام الزائد إليه إذا كان التكليف به ملحوظا بشرط شيء ، بخلاف ما إذا كان ملحوظا لا بشرط ، فإنّه لا يتوقّف امتثاله على انضمام الزائد إليه ، فيرجع الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطي إلى الشكّ بين المتباينين تكليفا وامتثالا (١). انتهى.

ويرد عليه : أوّلا : ما ذكرناه في ذيل الجواب عن الإشكال الأوّل : بأنّ لازم كونهما متباينين الجمع بين الإتيان بالمركّب من الأقلّ والمركّب من الأكثر ، لا الاكتفاء بالأكثر فقط.

وثانيا : أنّ الموصوف باللابشرطيّة وبشرط الشيئيّة ليس إلّا متعلّق التكليف وهو الأقلّ ، فإنّه على تقدير تعلّق التكليف به فقط يكون ملحوظا لا بشرط ، وعلى تقدير تعلّقه بالأكثر يكون ملحوظا بشرط شيء ، وأمّا التكليف الذي هو عبارة عن البعث إلى المكلّف به أو الزجر عن المتعلّق فلا يكون موصوفا لهذين الوصفين.

ثمّ إنّ اتّصاف المتعلّق بهما أيضا محلّ نظر ؛ لأنّ مركز البحث هو ما إذا كان الأقلّ والأكثر من قبيل الجزء والكلّ لا الشرط والمشروط ، فالأكثر على تقدير كونه متعلّقا للتكليف يكون بجميع أجزائه كذلك ، لا أنّ المتعلّق هو الأقلّ بشرط الزيادة على أن يكون الزائد شرطا.

وثالثا : أنّ مباينة ماهيّة بشرط شيء للماهيّة اللابشرط ممنوعة ، فإنّ ما يباين ماهيّة بشرط شيء هو الماهيّة اللابشرط القسمي ـ أي الماهيّة التي

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٤٤١.

٤٢٨

لوحظت مع عدم ملاحظة شيء معها ، واعتبر معها عدم الاشتراط بوجود شيء أو نفيه ـ وأمّا الماهيّة اللابشرط المقسمي ـ وهي الماهيّة بذاتها من دون لحاظ شيء معها حتّى لحاظ عدم لحاظ شيء الذي يحتاج إلى لحاظ آخر غير لحاظ الماهيّة ـ فلا تباين الماهيّة بشرط شيء ، كيف؟ وهي قسم لها ، ولا يعقل التنافي بين المقسم والقسم ، والمقام من هذا القبيل فإنّ الأقلّ على تقدير تعلّق التكليف به كان الملحوظ هو نفسه من دون لحاظ شيء آخر حتّى لحاظ عدم لحاظ شيء آخر ، وقد عرفت أنّه لا تنافي بينه وبين الماهيّة بشرط شيء.

ثمّ إنّه أجاب المحقّق النائيني رحمه‌الله عن هذه الشبهة بما حاصله : إنّ ماهيّة لا بشرط والماهيّة بشرط شيء ليسا من المتباينين الذين لا جامع بينهما ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة لا التّضاد ، فإنّ ماهيّة لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام شيء معها بحيث يؤخذ العدم قيدا في الماهيّة ، وإلّا ترجع إلى الماهيّة بشرط لا ، ويلزم تداخل أقسام الماهيّة ، بل الماهيّة لا بشرط معناها عدم لحاظ شيء معها ، ومن هنا قلنا : إنّ الإطلاق ليس أمرا وجوديا ، بل هو عبارة عن عدم القيد ، خلافا لما ينسب إلى المشهور ، فالماهيّة لا بشرط ليست مباينة للماهيّة بشرط شيء بحيث لا يوجد بينهما جامع ، بل يجمعها نفس الماهيّة ، والتقابل بينهما إنّما يكون بمجرّد الاعتبار واللحاظ ، وفي المقام يكون الأقلّ متيقّن الاعتبار على كلّ حال ، سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط شيء ، والتغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقلّ عن كونه متيقّن الاعتبار (١). انتهى.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ الماهيّة اللابشرط ـ كما اعترف بها ـ هي نفس الماهيّة

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ١٥٤.

٤٢٩

من دون أن يلاحظ معها شيء آخر بنحو السالبة المحصّلة ، مثل : «زيد ليس بقائم» ، لا بنحو الموجبة المعدولة ، مثل : «زيد لا قائم» ، وحينئذ فلا وجه لما ذكره من أنّ الجامع بينها وبين الماهيّة بشرط شيء هو نفس الماهيّة ؛ لأنّ نفس الماهيّة عبارة اخرى عن الماهيّة اللابشرط ؛ إذ المراد بها هي الماهيّة اللابشرط المقسمي ، ولا يعقل الجامع بين القسم والمقسم هنا كما هو واضح.

نعم ، نفس الماهيّة جامعة للماهيّة بشرط شيء والماهيّة اللابشرط القسمي ، وهي التي لوحظت متقيّدة باللابشرطيّة.

وثانيا : أنّه قال في الابتداء بكون التقابل بين الماهيّة اللابشرط والماهيّة بشرط شيء تقابل العدم والملكة ، وهو التقابل الواقعي ، وقال في الذيل : «إنّ التقابل بينهما إنّما يكون بمجرّد الاعتبار واللحاظ» ، ونقول : إنّ البحث في الأقلّ والأكثر وإن كان في الامور الاعتباريّة ، إلّا أنّ التقابل بين اعتبار الأقلّ واعتبار الأكثر تقابل واقعي ، وعلى أيّ تقدير يجب الاحتياط هنا ، كما إذا دار الأمر بين إكرام بصير أو أعمى أو بين إكرام (كوسج) أو ذات لحية ، فيجب الاحتياط بإكرامهما معا.

وثالثا : أنّ نفي الجامع في المتضادّين ممنوع ، فإنّ المتقابلين بالتّضاد أيضا بينهما جامع جنسي كاللون ـ مثلا ـ جامع جنسي للسواد والبياض ، والحيوان جامع جنسي للإنسان والبقر ، وعلى فرض كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة لا يوجب نفي الاحتياط وجريان البراءة العقليّة ، ألا ترى أنّ العبد إذا علم بوجوب إكرام الإنسان وشكّ في أنّ الواجب إكرام الإنسان البصير أو الأعمى ، فلا إشكال في حكم العقل بلزوم الاحتياط ، كما إذا تردّدت الصلاة الواجبة ظهر يوم الجمعة بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة ، فما ذكره المحقّق

٤٣٠

النائيني رحمه‌الله في مقام الجواب عن الإشكال ليس بتامّ ، كما لا يخفى.

الإشكال الثالث : أنّ وجوب الأقلّ دائر بين كونه نفسيّا يترتّب على مخالفة الأمر المتعلّق به العقاب وبين كونه غيريّا ؛ إذ الواجب إن كان الأكثر يكون الوجوب المتعلّق بالأقلّ غيريّا ، فلا يترتّب على مخالفته شيء ؛ لأنّ العقاب إنّما هو على ترك الواجب النفسي لا الغيري ، وحينئذ فلا يعلم بلزوم الإتيان بالأقلّ على أيّ تقدير وبعنوان القدر المشترك حتّى ينحلّ به العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بالنسبة إليه والشكّ البدوي بالنسبة إلى الأكثر ، فالعلم الإجمالي باق على حاله ، ومقتضاه وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ المركّب كما أنّه ليس له إلّا وجود واحد هو عين وجود الأجزاء ، كذلك لا يكون له إلّا عدم واحد ؛ لأنّ نقيض الواحد لا يكون إلّا واحدا ، وإلّا يلزم ارتفاع النقيضين ، وحينئذ فنقيض ، المركّب إنّما هو عدم ذلك الوجود الواحد ، غاية الأمر أنّ عدمه تارة بعدم جميع أجزائها ، واخرى بعدم بعضها ؛ لوضوح اشتراك تارك الصلاة رأسا مع تارك ركوعها ـ مثلا ـ في عدم إتيان واحد منهما بالمركّب الذي هو الصلاة.

وحينئذ نقول : ترك الأقلّ يعلم بترتّب العقاب عليه ، إمّا من جهة كونه هو تمام المأمور به ، وإمّا من جهة أنّ تركه هو عين ترك المأمور به الذي يترتّب عليه العقاب ، فيترتّب العقاب على تركه قطعا ، وبه ينحلّ العلم الإجمالي.

نعم ، لو كان الواجب في الواقع هو الأكثر ، ولم يأت المكلّف إلّا بالأقلّ اعتمادا على حكم العقل بالبراءة فهو وإن كان تاركا للمأمور به ؛ لأنّ تركه عين ترك الجزء الزائد أيضا ؛ إلّا أنّ ترك المأمور به هنا إنّما هو لعذر ، بخلاف تركه بعدم الإتيان بالأقلّ ، فإنّه لا يكون لعذر ، فهما مشتركان في عدم إتيانهما بالمأمور به ،

٤٣١

لكن بينهما فرق من حيث العذر وعدمه ، نظير ما لو علم المكلّف بوجوب إنقاذ أحد الغريقين على سبيل التخيير مع كون الواجب في الواقع واحدا معيّنا منهما ؛ فإنّه تارة يعصي المولى بعدم إنقاذ واحد منهما ، واخرى ينقذ غير من يجب إنقاذه بحسب الواقع ، ففي الصورتين وإن كان المأمور به قد ترك ولم يأت المكلّف به ، إلّا أنّه في الصورة الثانية معذور في المخالفة دون الصورة الاولى.

وثانيا : لو سلّم دوران الأمر الأقلّ بين كونه نفسيّا يترتّب على مخالفته العقاب أو غيريّا لا يترتّب عليه ، كدوران شيء بين الواجب والمستحبّ ، إلّا أنّا نقول : إنّ الملاك في جريان حكم العقل بالبراءة المستند إلى قبح العقاب بلا بيان ، هل هو عدم بيان التكليف أو عدم بيان العقوبة؟ لا سبيل إلى الثاني ، ألا ترى أنّه لو ارتكب المكلّف واحدا من المحرّمات بتخيّل ضعف العقاب المترتّب على ارتكابه فلا إشكال في صحّة عقوبته المترتّبة عليه في الواقع وإن كان من الشدّة بمكان.

وبالجملة ، فمستند حكم العقل بالبراءة ليس هو عدم البيان على العقاب ، بل عدم البيان على التكليف ، والبيان عليه موجود بالنسبة إلى الأقلّ قطعا ، ولذا لا يجوز تركه. وحينئذ فدوران أمر الأقلّ بين ترتّب العقاب عليه لو كان نفسيّا وعدم ترتّبه لو كان غيريّا لا يوجب أن لا يكون وجوبه معلوما ، ومع العلم بالوجوب لا يحكم العقل بالبراءة قطعا ، فلزوم الإتيان به معلوم على أيّ تقدير ، وبه ينحلّ العلم الإجمالي.

الإشكال الرابع : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو ينحلّ إلى وجهين :

أحدهما : ما ذكره في صدر كلامه ، وملخّصه : أنّ العقل يستقلّ بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي ؛ ضرورة أنّ الامتثال الاحتمالي إنّما يقتضيه

٤٣٢

التكليف الاحتمالي ، وأمّا التكليف القطعي فمقتضاه الامتثال القطعي ؛ لأنّ العلم باشتغال الذمّة يستدعي العلم بالفراغ عقلا ولا يكفي احتمال الفراغ ، ففي المقام لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلا ؛ لأنّه يشكّ في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين ، ولا يحصل العلم بالامتثال إلّا بعد ضمّ الخصوصيّة الزائدة المشكوكة ، والعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر ، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال ؛ لأنّه يلزم أن يكون العلم الإجمالي موجبا لانحلال نفسه.

ثانيهما : ما ذكره في ذيل كلامه ، وحاصله : أنّ الشكّ في تعلّق التكليف بالخصوصيّة الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط وإن كان عقلا لا يقتضي التنجّز واستحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو ؛ للجهل بتعلّق التكليف به ، إلّا أنّ هناك جهة اخرى تقتضي التنجيز والاستحقاق على تقدير تعلّق التكليف بها ، وهي احتمال الارتباطيّة وقيديّة الزائد للأقلّ ، فإنّ هذا الاحتمال بضميمة العلم الإجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلا ، فإنّه لا رافع لهذا الاحتمال ، وليس من وظيفة العقل وضع القيديّة أو رفعها ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، ولا حكم للعقل من هذه الجهة ، فيبقى حكمه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم على حاله ، فلا بدّ من ضمّ الخصوصيّة الزائدة (١).

ويرد على التقريب الأوّل : أنّ الاشتغال اليقيني وإن كان مستدعيا للبراءة اليقينيّة إلّا أنّ ذلك بمقدار ثبت الاشتغال به وقامت الحجّة عليه ، وأمّا ما لم تقم الحجّة عليه فلم يثبت الاشتغال به حتّى يستدعي البراءة اليقينيّة عنه.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ١٥٩ ـ ١٦١.

٤٣٣

وما ذكره من أنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجمالي محلّ منع ؛ لما عرفت من أنّ المراد باللابشرط في المقام هو اللابشرط المقسمي الذي هو عبارة عن نفس الماهيّة ، من دون أن يلاحظ معها شيء على نحو السالبة المحصّلة لا الموجبة المعدولة ، ومن المعلوم أنّ اللابشرط المقسمي لا يغاير مع بشرط شيء أصلا ؛ لأنّ اللابشرط يجتمع مع ألف شرط.

وحينئذ فالأقلّ المردّد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء يعلم تفصيلا بوجوبه بحيث لا إجمال في ذلك عند العقل ، ولا يكون متردّدا فيه أصلا ، والخصوصيّة الزائدة مشكوكة بالشكّ البدوي.

وبالجملة ، فالعلم الإجمالي إذا لوحظ طرفاه أو أطرافه يكون كلّ واحد منهما أو منها مشكوكا من حيث هو ، وفي المقام لا يكون كذلك ؛ لأنّ العقل لا يرى إجمالا بالنسبة إلى وجوب الأقلّ أصلا ، والأمر الزائد لا يكون إلّا مشكوكا بالشكّ البدوي.

ويرد على التقريب الثاني : أنّه كما أنّ تعلّق التكليف بالخصوصيّة الزائدة مشكوك ، وهو لا يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو ، كذلك احتمال الارتباطيّة وقيديّة الزائد مورد لجريان البراءة بعد عدم قيام الحجّة عليها ؛ لعدم الفرق بين نفس الجزء الزائد وحيثيّته الارتباطيّة أصلا ؛ لوجود ملاك جريان البراءة العقليّة ، وهو الجهل وعدم ثبوت البيان فيهما ، ولا يكون مقتضى جريانها هو رفع القيديّة حتّى يقال بأنّه ليس من وظيفة العقل وضع القيديّة ولا رفعها ، بل معنى جريانها هو قبح العقاب على ترك المأمور به من جهة الإخلال بالخصوصيّة الزائدة المشكوكة بعد عدم ورود بيان على

٤٣٤

ثبوتها ، وكونها دخيلا في المأمور به.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الجواب عن تقريب آخر للاحتياط ، وهو أنّ تعلّق التكليف بالأقلّ معلوم ضرورة ، والاشتغال اليقيني بذلك يقتضي البراءة اليقينيّة ، وهي لا تحصل إلّا بضمّ الجزء الدائر المشكوك ؛ ضرورة أنّه مع دخالته في المأمور به لا يكون الإتيان بالأقلّ بمجد أصلا.

والجواب : أنّ الشكّ في حصول البراءة إنّما هو من جهة مدخليّة الخصوصيّة الزائدة ، وحيث إنّ دخالتها مشكوكة ولم يرد من المولى بيان بالنسبة إليها ، فالعقاب على ترك المأمور به من جهة الإخلال بتلك الخصوصيّة لا يكون إلّا عقابا من دون بيان ومؤاخذة بلا برهان.

وبالجملة ، ما علم الاشتغال به يقينا تحصل البراءة بالإتيان به كذلك ، وما لم يعلم الاشتغال به تجري البراءة العقليّة بالنسبة إليه ، كما عرفت.

الإشكال الخامس : ما أفاده الشيخ المحقّق صاحب الحاشية الكبيرة على المعالم ، وملخّصه : أنّ الأمر دائر بين تعلّق الوجوب بالأقلّ أو بالأكثر ، وعلى تقدير تعلّقه بالأكثر لا يكون الأقلّ بواجب ؛ لأنّ ما هو في ضمن الأكثر إنّما هو الأجزاء التي ينحلّ إليها الأقلّ لا نفس الأقل ، فإنّه لا يكون في ضمن الأكثر أصلا ؛ لأنّ له صورة مغايرة لصورة الأكثر ، ومع هذا التغاير لو كان الأقلّ والأكثر غير ارتباطيّين لكنّا نحكم بالبراءة بالنسبة إلى الزائد المشكوك ؛ لعدم توقّف حصول الغرض على ضمّ الزائد ، بل الأقلّ يترتّب عليه الغرض في الجملة ولو لم يكن متعلّقا للتكليف ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّه لو كان الأمر متعلّقا في نفس الأمر بالأكثر لكان وجود الأقلّ كعدمه في عدم ترتّب شيء عليه وعدم تأثيره في حصول الغرض أصلا ، وحينئذ فمقتضى العلم الإجمالي

٤٣٥

بوجود التكليف في البين هو لزوم الإتيان بالأكثر ؛ تحصيلا للبراءة اليقينيّة (١). انتهى.

ويرد عليه ما أجبنا به عن الإشكال الأوّل من أنّ المركّب من الأقلّ لا يكون له صورة مغايرة للمركّب من الأكثر ؛ لأنّ التركيب الاعتباري ليس إلّا ملاحظة أشياء متعدّدة شيئا واحدا ، بحيث تكون الأجزاء فانية غير ملحوظة بنفسها ، ولا يكون هنا صورة اخرى ما عدا الأجزاء حتّى يقال بأنّها مغايرة للصورة الحاصلة من المركّب من الأكثر.

وبالجملة ، فليس هنا إلّا نفس الأجزاء التي دار أمرها بين القلّة والكثرة ، وحينئذ فيظهر أنّ تعلّق الوجوب بالأقلّ معلوم تفصيلا ؛ لما عرفت من أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب يدعو إلى أجزائه بعين دعوته إلى المركّب ، وحينئذ فلو كان الأكثر متعلّقا للتكليف يكون الأقلّ أيضا واجبا ، بمعنى أنّ الأمر يدعو إليه ، كما أنّه لو كان الأقلّ كذلك يكون واجبا حينئذ ، فوجوب الأقلّ معلوم تفصيلا ، والشكّ بالنسبة إلى الزائد شكّ بدوي تجري فيه البراءة ، كما عرفت.

الإشكال السادس : ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية من أنّ الانحلال مستلزم للخلف أو المحال الذي هو عبارة عن استلزام وجود الشيء لعدمه (٢).

أمّا الخلف فلأنّه يتوقّف لزوم الأقلّ فعلا إمّا لنفسه أو لغيره على تنجّز التكليف مطلقا ولو كان متعلّقا بالأكثر ؛ ضرورة أنّه لو لم يتنجّز على تقدير تعلّقه به لم يكن الأقلّ واجبا بالوجوب الغيرى ؛ لأنّه تابع لوجوب ذي المقدّمة ، ومع عدمه لا مجال له ، كما أنّه لو لم يتنجّز على تقدير تعلّقه بالأقلّ

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٤٤١.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٢٢٨.

٤٣٦

لم يكن واجبا بالوجوب النفسي ، فوجوبه الأعمّ من النفسي والغيري يتوقّف على تنجّز التكليف على أيّ تقدير ، فلو كان لزومه كذلك موجبا لعدم تنجّز التكليف إلّا على تقدير تعلّقه بالأقلّ يلزم الخلف.

وأمّا استلزام وجوده للعدم فلأنّ لزوم الأقلّ على الفرض يستلزم عدم تنجّز التكليف على كلّ حال ، وهو يستلزم لعدم لزوم الأقلّ مطلقا ، وهو يستلزم عدم الانحلال ، فلزم من وجود الانحلال عدمه ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال.

هذا ، ويمكن هنا تقريب ثالث يضاف إلى التقريبين المذكورين في كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله وهو : أنّ العلم التفصيلي لو تولّد من العلم الإجمالي بحيث كان معلولا له ومسبّبا عنه لا يعقل أن يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي ، وهل يمكن أن يؤثّر المعلول في عدم علّته؟

والمقام من هذا القبيل ؛ فإنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ إمّا لنفسه أو لغيره إنّما نشأ من العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر ، كما هو واضح ، نظير ما إذا تردّد أمر الوضوء ـ مثلا ـ بين كون وجوبه نفسيّا أو غيريّا ناشئا من الوجوب المتعلّق بما يكون الوضوء مقدّمة له ، ولكن كان وجوب ذي المقدّمة مشكوكا ، فإنّه لا يعقل أن يصير العلم التفصيلي بوجوب الوضوء على أيّ تقدير موجبا لانحلال العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو بوجوب ما يكون هو مقدّمة له ؛ لأنّ مع الانحلال وإجراء البراءة بالنسبة إلى وجوب ذي المقدّمة لا يكون العلم التفصيلي باقيا على حاله ، فالعلم التفصيلي المسبّب عن العلم الإجمالي يستحيل أن يؤثّر في انحلاله.

هذا ، ولكنّ هذه التقريبات الثلاثة إنّما تتمّ بناء على مبنى فاسد ، وهو القول

٤٣٧

بكون الأجزاء في المركّبات واجبة بالوجوب الغيري كالمقدّمات الخارجيّة ، ونحن وإن أنكرنا وجوب المقدّمة والملازمة بينها وبين وجوب ذيها رأسا ـ كما مرّ تحقيقه في مبحث مقدّمة الواجب من مباحث الألفاظ ـ إلّا أنّه لو سلّمنا ذلك في المقدّمات الخارجيّة فلا نسلّمه في المقدّمات الداخليّة أصلا ، بل قد عرفت أنّ الأجزاء واجبة بعين وجوب الكلّ ، والأمر المتعلّق به يدعو إليها بعين دعوته إليه ؛ إذ لا مغايرة بينها وبينه أصلا ؛ لأنّ المركّب ليس أمرا وراءها ، بل هو نفسها ، وحينئذ فالأقلّ واجب بالوجوب النفسي تفصيلا ، ولا يكون هذا العلم التفصيلي مسبّبا عن العلم الإجمالي ، فلا مانع من التأثير في الانحلال ، بل قد عرفت أنّه ليس هنا إلّا علم تفصيلى وشكّ بدوي ، كما لا يخفى.

الإشكال السابع : ما أورده نفس الشيخ المحقّق الأنصاري في الرسائل (١) بقوله : «إن قلت» ، وتقريره : أنّ الأوامر والنواهي الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة ، كما اشتهر ذلك بين العدليّة ، حيث يقولون : إنّ الواجبات الشرعيّة إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ، فاللطف والمصلحة النفس الأمريّة إمّا هو المأمور به حقيقة ، والأوامر المتعلّقة بمثل الصلاة والصوم ونظائرهما أوامر إرشاديّة والغرض منها الإرشاد إلى عدم حصول المأمور به حقيقة إلّا بمثلها ، وإمّا أنّه غرض للآمر ، وعلى كلا التقديرين فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف لعدم العلم بإتيان المأمور به على الأوّل ، وبحصول الغرض على الثاني مع الاقتصار على الأقلّ في مقام الامتثال ، ومن الواضح عند العقول لزوم العلم باتيان المأمور به وبحصول الغرض ، أمّا الأوّل فبديهي ، وأمّا الثاني فلأنّ الغرض إنّما هو العلّة والداعي للأمر ، ومع الشكّ في

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٦١.

٤٣٨

حصوله يشكّ في سقوط الأمر ، فمرجع الشكّ فيه إلى الشكّ في الإتيان بالمأمور به المسقط للأمر ، وقد عرفت أنّ لزوم العلم بإتيانه من الواضحات عند العقول.

هذا ، ولا يخفى أنّ المحقّق الخراساني رحمه‌الله اعتمد في الكفاية (١) على هذا الكلام وردّ ما أجاب به عنه الشيخ في الرسائل.

والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال أن يقال : إنّ هذه المسألة ـ وهي أنّ الأوامر والنواهي الشرعيّة هل هي تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة أم لا؟ ـ مسألة كلاميّة ، ومنشأ البحث فيها مسألة كلاميّة اخرى أيضا ، وهي : أنّه هل يمتنع على الله الإرادة الجزافيّة ، فلا يجوز عليه الفعل من دون غرض ـ كما عليه العدليّة ـ ، أو أنّه لا يمتنع عليه تعالى ذلك ، بل يجوز منه الإرادة الجزافيّة والفعل من دون غرض ومصلحة ، كما عليه الأشاعرة؟

فظهر أنّه بناء على مذهب العدليّة لا بدّ من الالتزام بعدم كون الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الله تعالى خالية من الغرض والمصلحة ، أمّا أنه لا بدّ من أن يكون المأمور به حقيقة هو نفس تلك المصلحة والغرض ، أو يكون الغرض أمرا آخر مترتّبا على المأمور به ، فلا يستفاد من ذلك ، بل اللازم هو أن يقال بعدم كون إرادته تعالى المتعلّقة بإتيان المأمور به إرادة جزافيّة غير ناشئة من المصلحة في المراد. وهو كما يتحقّق بأحد الأمرين المذكورين كذلك يتحقّق بأن يكون المأمور به الذي هو عبارة عن مثل الصلاة والصوم والحجّ بنفسه مصلحة ومحبوبا ؛ لأنّه لا فرق في عدم كون الإرادة جزافيّة بين أن تكون الصلاة مؤثّرة في حصول غرض ومصلحة ، وهي «معراج المؤمن»

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٣٣.

٤٣٩

كما قيل ، أو أن تكون بنفسها محبوبة ومصلحة ؛ لاشتمالها على التهليل والتكبير والتسبيح مثلا ، كما أنّه يتحقّق ذلك بالطريق الرابع ، وهو كون المصلحة في نفس الأمر لا في المأمور به.

وبالجملة ، فمقتضى مذهب العدليّة أنّه لا بدّ أن يكون في البين غرض وغاية ومصلحة ولطف ، أمّا لزوم أن يكون هو متعلّق الأمر بحيث كانت الأوامر المتعلّقة بمثل الصلاة والصوم إرشادا إليه أو أن يكون أمرا آخر وراء المأمور به فلا ، فمن المحتمل أن يكون نفس المأمور به محبوبا بذاته وغاية بنفسه ، أو يكون الغرض في نفس الأمر ، وعلى هذين التقديرين لا وجه للاحتياط بإتيان الأكثر.

أما على التقدير الأوّل فلأنّ محبوبيّة الأقلّ معلومة ، ولم يقم دليل على محبوبيّة الخصوصيّة الزائدة ، والعقل يحكم بعدم جواز العقوبة عليها مع عدم قيام الحجّة عليها ، كما أنّه على التقدير الثاني حصل الغرض بمجرّد الأمر والبعث ، ولا يكون المكلّف مأخوذا بأزيد ممّا قام الدليل على لزوم الإتيان به.

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّه لو فرض كون الغرض مترتّبا على المأمور به نمنع لزوم العلم بحصوله ؛ لأنّ المكلّف إنّما هو مأخوذ بالمقدار الذي ورد البيان من قبل المولى على دخالته في المأمور به ، ومع الإتيان به لا معنى لعقوبته وإن كان شاكّا في حصول الغرض ؛ لأنّ الأمر لم يتعلّق بتحصيل الغرض ، بل تعلّق بالأجزاء التي يعلم بانحلال المركّب إليها ، وتعلّقه بالزائد مشكوك يحكم العقل بالبراءة عنه ، كيف؟ ولو كان اللازم العلم بحصول الغرض لم يحصل العلم بامتثال كثير من المركّبات الشرعيّة ؛ إذ ما من مركّب إلّا ونحتمل دخالة أمر آخر فيه شطرا أو شرطا واقعا وإن لم يصل إلينا دليله ، كما هو واضح ، فاللازم

٤٤٠