دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

أصلا ، فلا يكون كلامه قدس‌سره قابلا للالتزام على كلا الاحتمالين ، فالأقسام الستّة المذكورة للقطع الموضوعي غير قابلة للمناقشة.

واعلم أنّ القطع الموضوعي تارة يقسّم بلحاظ نفسه كما عرفت أنّه بهذا اللحاظ ينقسم إلى ستّة أقسام ، واخرى يقسّم بلحاظ متعلّقه ، وبهذا الاعتبار ينقسم إلى خمسة أقسام :

الأوّل : أن يكون متعلّق القطع أمرا خارجيّا ، كما لو فرض القطع بخمريّة المائع موضوعا للحرمة.

الثاني : أن يؤخذ القطع بالحكم موضوعا لخلاف ذلك الحكم ، كما إذا قيل : «إن قطعت بوجوب صلاة الجمعة فيجب عليك التصدّق بكذا».

الثالث : أن يؤخذ القطع بالحكم موضوعا لضدّ ذلك الحكم ، كما إذا قيل : «إن قطعت بوجوب صلاة الجمعة فتحرم عليك».

الرابع : أن يؤخذ القطع بالحكم موضوعا لمثل ذلك الحكم ، كما إذا قيل : «إن قطعت بوجوب صلاة الجمعة فتجب عليك» ، أي بوجوب آخر.

الخامس : أن يؤخذ القطع بالحكم موضوعا لنفس ذلك الحكم ، كما إذا قيل : «إن قطعت بوجوب صلاة الجمعة فتجب عليك» ، أي بنفس ذلك الوجوب المقطوع به.

ثمّ إنّه لا إشكال في إمكان أخذ القطع المتعلّق بالموضوع الخارجي في موضوع الحكم الشرعي ، كما لا إشكال في إمكان أخذ القطع المتعلّق بالحكم الشرعي في موضوع حكم شرعي آخر مخالف له ، وإنّما الإشكال في إمكان بقية الأقسام وعدمه.

أمّا القسم الثالث : فقد ذكر في وجه استحالته امور متعدّدة :

٦١

الأوّل : ما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) من استلزامه لاجتماع الضدّين ، وهو محال.

توضيح ذلك : أنّ اجتماع الضدّين يكون في صورة إصابة القطع الواقع ، وأمّا في صورة الخطأ يكون اجتماع الضدّين بحسب نظر القاطع لا بحسب الواقع.

وفيه : ما عرفته في مسألة اجتماع الأمر والنهي من أنّ التضادّ يتحقّق في الامور التكوينيّة والواقعيّة ، مثل : اجتماع السواد والبياض في جسم واحد ، وأمّا الأحكام الشرعيّة ، فلا يتحقّق فيها مقولة التضادّ ولا غيرها من المقولات لكونها من الامور الاعتباريّة ، وقد عرفت عدم إمكان اجتماع الضدّين ولو من ناحية الشخصين ، مع أنّه يمكن أن تكون طبيعة واحدة حراما لمكلّف وواجبا لمكلّف آخر ، أو تكون مأمورا بها من المولى ومنهيّا عنها من مولى آخر.

الأمر الثاني : ما ذكره في كتاب مصباح الاصول بقوله : إذا قال المولى : «إذا قطعت بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة» ، فلا يمكن للمكلّف الجمع بينهما في مقام الامتثال ؛ إذ الانبعاث نحو عمل والانزجار عنه في آن واحد محال ، وبعد عدم إمكان امتثالهما لا يصحّ تعلّق الجعل بهما من المولى الحكيم (٢).

وفيه : ما عرفت في باب التزاحم من عدم ارتباط مرحلة تعلّق الحكم بمرحلة الامتثال ، وعدم سراية الإشكال من هذه المرحلة إلى مرحلة تعلّق الحكم ، ومعلوم أنّ متعلّق التكليف أمر ممكن ، ولا شكّ في أنّ صلاة الجمعة أمر ممكن ، والمكلّف قادر على إيجادها وتركها ، ولكن عدم قدرة المكلّف في مقام الامتثال ، بلحاظ تعلّق القطع بوجوبها وترتّب الحرمة عليه لا يرتبط بمقام

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٥.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٤٥.

٦٢

جعل الحكم ، فلا يكشف عن امتناع التكليفين أو أحدهما ، كما لا يخفى.

الأمر الثالث : أنّه يستلزم اجتماع المصلحة الملزمة والمفسدة الملزمة في صلاة الجمعة ، مع أنّه لا يمكن أن يكون شيء واحد واجدا لهما معا.

ونظير ذلك أنّ وجوب شيء كاشف عن محبوبيّته للمولى ، وحرمته كاشف عن مبغوضيّته له ، والحبّ والبغض أمران واقعيّان متضادّان ، ولا يمكن اجتماعهما في شيء واحد.

وفيه : أنّ هذا في صورة وحدة العنوان ، وأمّا في صورة تعدّد العنوان فلا مانع منه ، مثل : اجتماعهما في الصلاة في الدار المغصوبة ، فما هو متعلّق الوجوب وذو مصلحة ومحبوبيّة عبارة عن نفس صلاة الجمعة بعنوانها الأوّلي ، وما هو متعلّق الحرمة وذو مفسدة ومبغوضيّة عبارة عن عنوان مقطوع الوجوب ، وتصادقهما خارجا في شيء واحد لا يوجب الاستحالة.

وذكر استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) في المسألة تفصيلا ، وهو مقتضى التحقيق ، ومحصّل كلامه قدس‌سره : أنّ الشارع إذا أخذ القطع بالحكم تمام الموضوع للحكم المضادّ تكون النسبة بين مقطوع الوجوب والوجوب الواقعي العموم من وجه ، ثمّ إذا انطبق كلّ واحد من العنوانين على صلاة الجمعة فقد انطبق كلّ عنوان على مصداقه ـ أعني المجمع ـ وبما أنّ الحكم المترتّب على عنوان لا يتعدّى إلى العنوان الآخر ، فلا يصير الموضوع واحدا حتّى تحصل غائلة اجتماع الضدّين ، بل ولا تسري الأحكام من عناوينها إلى مصاديقها الخارجيّة ؛ إذ الخارج ظرف السقوط لا العروض.

وأمّا إذا كان القطع جزء الموضوع فتنقلب النسبة بين العنوانين إلى العموم

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٢٢ ـ ٢٣.

٦٣

المطلق ، مثل أن يقول : «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة وكانت بحسب الواقع واجبة تحرم عليك» ، وعليه فلا بدّ من إرجاع البحث إلى مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإن خصّصنا محلّ النزاع هناك بما إذا كان بين العنوانين عموم من وجه ـ كما هو الحقّ وعليه المحقّق القمّي قدس‌سره ـ فلا بدّ من الحكم بالامتناع فيما نحن فيه ؛ لخروجه عن محلّ البحث ، وأمّا إن عمّمنا النزاع بحيث يشمل ما إذا كان بينهما العموم المطلق ـ كما عليه صاحب الفصول قدس‌سره ـ فلا امتناع حينئذ.

وفيه : أنّ تعميم محلّ النزاع يستلزم عدم بقاء مورد لمسألة حمل المطلق على المقيّد ؛ إذ يمكن أن يقال في مثل : «اعتق رقبة» و «لا تعتق الرقبة الكافرة» ، بأنّ عتق الرقبة الكافرة مجمع للعنوانين لتعلّق الوجوب بعنوان عتق الرقبة ، والحرمة بعنوان عتق الرقبة الكافرة ، كما هو الحال في الصلاة في الدار المغصوبة ، فلا مجال لحمل المطلق على المقيّد.

ولا يخفى أنّ العموم المطلق على نوعين ؛ إذ هو قد يكون نظير الرقبة والرقبة الكافرة ، ومن البعيد الالتزام بدخول مثله في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وقد يتحقّق عنوانان متغايران ، ولا ينتقل الإنسان من إطلاق أحدهما إلى الآخر ، مثل : عنوان الحيوان والإنسان ، ففي مثل ذلك ما قال به صاحب الفصول قابل للمساعدة ، بخلاف ما إذا اخذ في الخاصّ عنوان العامّ مع قيد آخر ، فإنّ لازم ذلك أن تتعلّق إرادة جدّية للمولى بعتق الرقبة بلا قيد وشرط ، وإرادته الجدّية الاخرى بعتق الرقبة الغير الكافرة ، وهذا مخالف لما حقّقناه سابقا ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ متعلّق الوجوب هي صلاة الجمعة ، ومتعلّق الحرمة أيضا عبارة عن صلاة الجمعة مع قيد كونها مقطوعة الوجوب وبحسب الواقع واجبة ، فلا يمكن هنا اجتماع الأمر والنهي.

٦٤

وأمّا القسم الرابع ـ أي أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم المماثل ـ فقد ذكر في وجه استحالته الامور المذكورة في القسم الثالث :

الأوّل : ما عن صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من استلزامه لاجتماع المثلين ، وهو محال.

وجوابه : أنّ الأحكام الشرعيّة امور اعتباريّة ، ولا تجري فيها مقولة التضادّ والتماثل كما عرفت.

الثاني : لزوم اجتماع المصلحتين والإرادتين على شيء واحد ، وهو محال. وجوابه ما عرفته هناك.

الثالث : لزوم اللغويّة ؛ إذ لا يترتّب على جعل الحكم المماثل فائدة ولا أثر بعد جعل الحكم المقطوع به.

وجوابه : أنّ عنوان محرّكيّته وباعثيّته محفوظ بالنسبة إلى بعض الأفراد ، فإنّ بعض المكلّفين لا يتحرّك بحكم واحد ، ولكن يتأثّر بحكمين ؛ لما يراه من كثرة التبعات وازدياد العقاب عند المخالفة ، فلذا لا مانع من نذر العمل الواجب كصلاة الصبح مثلا ، وفائدته العقلائيّة هي المحرّكيّة والباعثيّة.

والتحقيق في المسألة : هو الفرق بين كون القطع تمام الموضوع أو جزء الموضوع ، وأنّ اجتماع الحكمين المتماثلين على الأوّل ممكن وعلى الثاني ممتنع.

وأمّا القسم الخامس ـ أي أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ـ ففيه أقوال مختلفة :

الأوّل : ما اختاره جمع من الأعاظم ، وهو أنّه مستحيل ؛ لاستلزامه الدور المحال ، فإنّ القطع بالحكم يتوقّف على الحكم ، والحكم يتوقّف على القطع به ؛

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٥.

٦٥

لتوقّف كلّ حكم على موضوعه ، وهذا دور صريح ، وسيأتي الكلام في هذا القول في توضيح كلام الإمام قدس‌سره.

القول الثاني : ما اختاره المحقّق النائيني قدس‌سره (١) من التفصيل بين التقييد اللحاظي ونتيجة التقييد ؛ باستحالة الأوّل وإمكان الثاني.

توضيح ذلك : أنّ الانقسامات قد تكون في رتبة متقدّمة على الحكم كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ ، فإنّ انقسام المكلّف بالمستطيع وغير المستطيع لا يتوقّف على جعل وجوب الحجّ ، ويعبّر عنها بالانقسامات السابقة على الحكم ، وقد يكون في رتبة متأخّرة عن الحكم ، مثل : تقسيم المكلّف بأنّه إمّا عالم بالحكم وإمّا جاهل به ، ويعبّر عنها بالانقسامات اللّاحقة للحكم.

ثمّ إنّ التقييد اللحاظي بالنسبة إلى الانقسامات السابقة ممكن ، كما تراه في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(٢) ، يعني إذا استطعتم يجب عليكم الحجّ ، وإذا أمكن التقييد اللحاظي فيها أمكن الإطلاق أيضا.

وأمّا في الانقسامات اللّاحقة فلا يمكن التقييد اللحاظي ، فإنّ أخذ المتأخّر عن الحكم ـ كالعلم به ـ في رتبة الحكم بعنوان القيد يستلزم الدور الممتنع ، وإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضا ؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، ولكن بما أنّ الإهمال في مقام الثبوت غير معقول فلا بدّ إمّا من نتيجة الإطلاق أو من نتيجة التقييد ؛ إذ الملاك الذي يقتضي تشريع الحكم إمّا أن يكون محفوظا في كلتا حالتي الجهل والعلم ، فلا بدّ حينئذ من نتيجة

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ١١ ـ ١٣.

(٢) آل عمران : ٩٧.

٦٦

الإطلاق ، وإمّا أن يكون محفوظا في حالة العلم فقط ، فلا بدّ حينئذ من نتيجة التقييد ، وحيث لا يمكن أن يكون الجعل الأوّل متكفّلا لبيان ذلك فلا بدّ من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد ، وهذا الجعل الثاني يصطلح عليه بمتمّم الجعل ، فاستكشاف كلّ من نتيجة الإطلاق والتقييد يكون من دليل آخر.

وقد ادّعى تواتر الأدلّة على اشتراك الأحكام في حقّ العالم والجاهل ، والظاهر قيام الإجماع بل الضرورة على ذلك ، ومن تلك الأدلّة والإجماع والضرورة يستفاد نتيجة الإطلاق ، وأنّ الحكم مطلق في حقّ العالم والجاهل ، ولكن تلك الأدلّة قابلة للتخصيص ، وقد خصّصت في غير مورد كما في مورد الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، حيث قام الدليل على اختصاص الحكم في حقّ العالم (١) ، ففيما نحن فيه بلحاظ كون القطع من الانقسامات اللاحقة وعدم إمكان التقييد اللحاظي فيه في ضمن جعل واحد ، فلا بدّ من بيان إطلاق الحكم أو تقييده في ضمن متمّم الجعل ودليل مستقلّ ، ويعبّر عنه بنتيجة التقييد ، وهذا ليس بممتنع. هذا تمام كلامه قدس‌سره.

ويناقش فيه في عدّة جهات :

الاولى : أنّه لا يمكن جريان نتيجة التقييد في جميع الانقسامات اللّاحقة للحكم ، بيان ذلك : أنّ الانقسامات اللاحقة على قسمين :

أحدهما : ما يمكن تقييد الحكم به بنحو نتيجة التقييد ، وذلك مثل قصد القربة ـ بمعنى إتيان العمل بداعويّة أمره ـ في العبادات ، ففي مثل ذلك يصحّ التفصيل المذكور ، بخلاف ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في بحث الواجب التوصّلي

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٨٦ ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة ، الحديث ١.

٦٧

والتعبّدي من استحالته وإن كان بصورة نتيجة التقييد.

وثانيهما : ما لا يمكن تقييد الحكم به بنحو نتيجة التقييد كالتقييد اللحاظي ، وذلك مثل : أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه ، فإنّ ملاك الامتناع هو الدور ، يعني توقّف الحكم على القطع به وتوقّف القطع بالحكم على الحكم ، وهذا المحذور يتحقّق ، سواء كان التقييد في دليل واحد أو كان في دليلين ، فتعدّد الدليل لا يجدي في رفع غائلة الدور.

وإذا قيل : إنّ أقوى شاهد على إمكان أخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه وقوعه ، وهو ما يستفاد من الروايات من أنّ الحكم بالجهر والإخفات ، والقصر والإتمام يختصّ بالعالمين به.

قلت : إنّ المستفاد من الروايات هو عدم وجوب الإعادة في هذه الموارد ؛ لاختصاص أصل الحكم فيها بالعالمين به ، ومعلوم أنّه لا ملازمة بين الأمرين ؛ إذ يحتمل أن يكون عدم الإعادة من باب التخفيف والتسهيل والإرفاق على المكلّفين ، وأمّا بحسب أصل الجعل فيكون الحكم مشتركا بين العالم والجاهل ، فالتشبيه ليس في محلّه.

الجهة الثانية : أنّ المراد من الإطلاق في مقابل التقييد اللحاظي هو الإطلاق اللحاظي ـ أي الإطلاق مع قيد اللحاظ ـ فعلى هذا يرد عليه :

أوّلا : أنّ معنى الإطلاق لا يكون لحاظ السريان والشمول فيه ، بل معناه أنّ بعد تماميّة مقدّمات الحكمة يستفاد أنّ المولى لم يلحظ في متعلّق الحكم خصوصيّة زائدة على الماهيّة ، كما مرّ في محلّه.

وثانيا : سلّمنا أنّ الإطلاق يعني لحاظ السريان والشمول فيكون التقابل حينئذ بينهما تقابل التضادّ ، لا العدم والملكة ؛ إذ التقييد متقوّم بلحاظ القيد ،

٦٨

والإطلاق متقوّم بلحاظ السريان ، ولحاظ القيد ولحاظ السريان أمران وجوديّان متضادّان ، وعلى المعنى الذي ذكرناه يكون التقابل بينهما تقابل الإيجاب والسلب.

وإن كان المراد من الإطلاق عدم لحاظ شيء في متعلّق الحكم مع كونه قابلا له فحينئذ وإن كان التقابل بينه والتقييد اللحاظي تقابل العدم والملكة ، إلّا أنّنا لا نسلّم ما رتّبه قدس‌سره على ذلك بنحو القضيّة الكلّية من أنّه كلّما امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضا ، فإنّ امتناع التقييد قد ينشأ من عدم قابليّة نفس الموضوع وقصوره عن ذلك ، فحينئذ بامتناع التقييد يمتنع الإطلاق أيضا ، كما في مثل البصر والعمى بالنسبة إلى الجدار ، وقد ينشأ امتناع التقييد لأمر خارج عن نفس الموضوع مع كون الموضوع في نفسه قابلا ومستعدّا له ، ففي هذه الصورة لا يلزم من امتناع التقييد امتناع الإطلاق أيضا كما هو واضح ، وذلك لاختصاص المانع بالتقييد دون الإطلاق ، وهذا مثل ما نحن فيه ؛ إذ المانع من التقييد هو الدور ، فلا يلزم من استحالة التقييد استحالة الإطلاق ؛ لعدم تحقّق الدور في مورده.

القول الثالث : ما اختاره استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) من التفصيل بين ما إذا أخذ القطع تمام الموضوع أو جزئه ، بإمكان الأوّل واستحالة الثاني ، أمّا في القطع المأخوذ جزء الموضوع فامتناعه يلزم الدور ، فإنّ الحكم يتوقّف على موضوعه ، والموضوع يتوقّف على الحكم بلحاظ كون الواقع جزء الموضوع ، فالحكم يتوقّف على نفسه ، بخلاف ما إذا اخذ القطع تمام الموضوع ؛ لأنّ الحكم وإن كان يتوقّف على القطع لتوقّف كلّ حكم على موضوعه ، إلّا أنّه لا يتوقّف

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٢٧.

٦٩

القطع على الحكم ؛ إذ لا دخل للواقع في الموضوع ، بعد ما كان القطع تمام الموضوع للحكم، سواء كان بحسب الواقع حكما أم لا.

والتحقيق : أنّ التفصيل المذكور لا يكون قابلا للالتزام ، بل يمتنع أخذ القطع بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم مطلقا ، فإنّ أخذ القطع تمام الموضوع ليس معناه عدم وجود أيّ واقع في البين ، وإلّا لا يبقى مجال لفرض مطابقة القطع للواقع تارة وعدم مطابقته له اخرى ، بل معناه أنّه لا دخل للمطابقة وعدمها لكون القطع تمام الموضوع للحكم ، وأمّا أصل الواقع فهو مفروض الوجود ، والمفروض فيما نحن فيه جعل الواقع والحكم المجعول بجعل واحد ، ولا واقعيّة سوى هذا الجعل ، فأخذ القطع بالحكم في موضوع شخصه مستحيل مطلقا.

٧٠

قيام الأمارات الشرعيّة والاصول العمليّة مقام القطع

هل الأمارات الشرعيّة والاصول العمليّة الشرعيّة تقوم مقام القطع بجميع أقسامه أم لا؟ لا إشكال في قيامها مقام القطع الطريقي ، بلا فرق بين جريانها في الموضوعات الخارجيّة والأحكام الشرعيّة ، فإذا قال الشارع : «الخمر حرام» لا بدّ من إحرازه حكما وموضوعا بالقطع ليترتّب عليه الحكم بالحرمة ، ومقتضى حجّية البيّنة في الموضوعات الخارجيّة أنّ البيّنة تقوم مقام القطع الطريقي وتكون بمنزلته فيها ، كما أنّ مقتضى حجّية خبر العادل واعتبار قوله قيامه مقام القطع لإثبات الأحكام ، وهكذا مقتضى أدلّة حجّية الاصول العمليّة ـ كالاستصحاب ـ قيامها مقام القطع الطريقي ، وإلّا يلزم لغويّة أدلّتها ؛ إذ لا أثر لها سوى ذلك.

كما أنّه لا إشكال في عدم قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتيّة ؛ إذ لا دلالة لأدلّة حجّيتها عليه ، بل لا ارتباط بينها وبين أخذ القطع في الموضوع بعنوان وصف من الأوصاف النفسانيّة ، بلا مدخليّة لطريقيّته وكاشفيّته في الحكم.

وأمّا قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتيّة بدليل خاصّ فلا كلام فيه ، ولا يستفاد ذلك من نفس أدلّة حجّيتها كما لا يخفى.

٧١

وإنّما الإشكال في قيام الأمارات والاصول الشرعيّة مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقيّة ، والمستفاد من كلام الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) أنّ أدلّة حجّيتها كما تدلّ على قيامها مقام القطع الطريقي كذلك تدلّ على قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقيّة.

وحاصل كلامه قدس‌سره : أنّ معنى أدلّة حجّية الأمارات أنّها وإن لم تفد العلم ويتحقّق احتمال خلافها ، ولكنّ الشارع جعلها بمنزلة القطع تعبّدا ، وكأنّه قال : افرض احتمال الخلاف كالعدم ، فيترتّب عليها جميع آثار القطع ، فكما أنّها تقوم مقام القطع الطريقي ، كذلك تقوم مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقيّة ، فالأمارات بنفس دليل اعتبارها تقوم مقامه.

والمستفاد من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) استحالته لاستلزامه اجتماع الضدّين.

توضيح ذلك : أنّه لا بدّ في كلّ تنزيل من لحاظ المنزل والمنزل عليه معا ، والمنزل في المقام هو الأمارة والمنزل عليه هو القطع ، وحينئذ فتنزيل الأمارة منزلة القطع الموضوعي موقوف على لحاظ القطع استقلالا ؛ لأنّه مقتضى موضوعيّته ، وتنزيلها منزلة القطع الطريقي موقوف على لحاظه آلة للغير ـ أي الواقع ـ ومعلوم أنّ هذين اللحاظين متضادّان ، فيمتنع اجتماعهما في إنشاء واحد ، فلا يكون الدليل الدالّ على إلغاء احتمال الخلاف كافيا لبيان كلا التنزيلين كما هو واضح ، وإلّا يستلزم اجتماع اللحاظين المتنافيين على ملحوظ واحد.

__________________

(١) الرسائل : ٣.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٢١.

٧٢

وجوابه : أوّلا : بالنقض ، وهو أنّ الظاهر من كلامه قدس‌سره إمكان جميع الأقسام الستّة المذكورة للقطع الموضوعي ، ومنها أخذ القطع في الموضوع على نحو الطريقيّة ، وكيف لا يستلزم الجمع بين اللحاظين المتنافيين هناك ، مع جريان هذا الدليل بعينه هناك أيضا كما عرفته من كلام المحقّق النائيني قدس‌سره (١)؟!

وثانيا : بالحلّ ، وهو أنّ المستفاد من دليل الحجّية موضوعيّة الأمارة للحكم المترتّب عليها من الشارع ، ولكنّها لا تكون إلّا طريقا إلى الواقع لمن تقوم عنده الأمارة ، ويكون حلّ الإشكال بتعدّد النسبة والإضافة.

وهذا نظير حكم العقل بحجّية القطع في قضيّة «القطع حجّة» ، فإنّ تمام الموضوع للحجّية عند العقل هو القطع ، فلا بدّ من كونه ملحوظا بالاستقلال ، كاستقلاليّة لحاظ المحمول ، ومعلوم أنّ القطع الذي يكون تمام الموضوع للحجّية هو القطع الطريقي المحض الحاصل للقاطع ، فالحاكم ـ أي العقل ـ يلاحظ استقلالا ما هو آليّ عند القاطع عند حكمه بالحجّية ، ولا يحتاج العقل إلى لحاظ عنوان آليّته ؛ كأنّه يقول : القطع الطريقي الحاصل للمكلّف ويكون الكاشف عنده : «جعلته موضوعا للحجّية» ، فترتبط موضوعيّته بالعقل وكاشفيّته بالقاطع ، وهكذا في مثل : البيّنة حجّة كما عرفت. ولكنّك عرفت أنّ هذا لا يكون جوابا عن الإشكال.

وأجاب عن الاستحالة المحقّق النائيني قدس‌سره (٢) بعد ما كان البحث في صورة قيام الأمارة مقام القطع الذي اخذ بعنوان جزء الموضوع على نحو الطريقيّة ، لا بعنوان تمام الموضوع ؛ لاستحالته في نفسه عنده كما عرفت.

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٢١.

(٢) المصدر السابق.

٧٣

وحاصل كلامه هنا : أنّ الجمع بين اللحاظين المتنافيين يلزم بناء على أن يكون المجعول في باب الأمارات تنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع ، وهذا المبنى فاسد في نفسه ، وأمّا على المختار من كون المجعول الشرعي فيه هو الكاشفيّة عن الواقع والوسطيّة في إثباته ، فلا يلزم اجتماع اللحاظين المتنافيين ، أمّا جريان الإشكال على مبنى صاحب الكفاية قدس‌سره فإنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع بدليل الحجّية يحتاج إلى اللحاظ الآلي ، وقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي يحتاج إلى اللحاظ الاستقلالي ، فكيف يمكن لدليل الحجّية بكلام واحد لحاظ عنوان الآليّة والاستقلاليّة للأمارة؟!

وأمّا عدم جريانه على المبنى المختار فإنّ معنى دليل الحجّية أنّ الخبر الواحد محرز للواقع ، أي الواقع يكون محرزا بالخبر الواحد ، والمفروض أنّ الواقع جزء الموضوع وإحرازه جزء آخر ، فيكون الواقع لدى من قامت عنده الأمارة محرزا ، كما كان في صورة العلم ، وبنفس دليل حجّية الأمارة يكون الواقع محرزا ، فتقوم مقام القطع بلا التماس دليل آخر.

وجوابه كما سيأتي : أنّه ليس للشارع في باب الأمارات جعل تأسيسيّ حتّى نبحث عن نوع المجعول ، بل هي مسائل عقلائيّة ، وتمام الملاك فيها بناء العقلاء ، نظير حجّية ظواهر الكتاب والسنّة ، فلا تتحقّق لنا أمارة شرعيّة معتبرة غير العقلائيّة.

ولكنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ذكر في حاشيته على الرسائل وجها آخر لقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وحاصله : أنّ أدلّة حجّية الأمارات وإن كانت متكفّلة لتنزيل المؤدّى منزلة الواقع فقط ، فلا يكون هناك إلّا لحاظ

__________________

(١) حاشية الرسائل : ٩.

٧٤

آلي ، إلّا أنّ هذه الأدلّة تدلّ على تنزيل الأمارة منزلة القطع بالالتزام ، لأجل الملازمة العرفيّة بين التنزيلين ، فيكون هناك تنزيلان أحدهما في طول الآخر : أحدهما : تنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع ، والمتكفّل لهذا التنزيل هو دليل حجّية الأمارة بالمطابقة. والآخر : تنزيل الأمارة منزلة القطع الذي يفهم بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة ، والدلالة الالتزاميّة إنّما هي في طول الدلالة المطابقيّة كما هو واضح.

والمحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) تمسّك بدلالة الاقتضاء والعقل تأييدا لكلام صاحب الكفاية قدس‌سره وقال : لا بدّ من الالتزام بالمدلول الثاني صونا لكلام الحكيم عن اللغوية ؛ إذ لو لم يكن تنزيل الأمارة منزلة القطع لا يترتّب على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع أثر ، ويمتنع أن يصدر اللغو عن الحكيم.

وعدل صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) عمّا ذكره في الكفاية ، وحاصل كلامه : أنّ الموضوع في موارد القطع الموضوعي الطريقي يكون مركّبا من جزءين أحدهما الواقع ، والآخر القطع المتعلّق به ، ولا يترتّب الأثر والحكم فيما كان الموضوع مركّبا إلّا بعد إحراز كلا الجزءين ، إمّا بالوجدان أو بالتعبّد ، أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبّد ، وعليه فلو كان دليل التنزيل ناظرا لإثبات أحد الجزءين فلا بدّ من إحراز الجزء الآخر ، إمّا وجدانا أو تعبّدا في عرض تنزيل الجزء الأوّل ؛ إذ لو كان في طوله يلزم الدور كما فيما نحن فيه ، فإنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع إنّما يتوقّف على تنزيل الأمارة منزلة القطع ؛ إذ لا أثر للتنزيل الأوّل بدون الثاني حسب الفرض ، وتنزيل الأمارة منزلة القطع يتوقّف على

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ : ٥٧.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٢٤.

٧٥

تنزيل المؤدّى منزلة الواقع توقّف كلّ دلالة التزاميّة على المطابقة ، وهذا هو الدور الواضح.

وجوابه : أنّه لا شكّ في صحّة إثبات الموضوع المركّب بالتعبّدين ، كما إذا قال المولى مثلا : إذا كان المائع حلالا طاهرا يجوز بيعه ، بدلالة قاعدة الحلّية على أحد الجزءين وقاعدة الطهارة على الجزء الآخر ، مع بداهة تقدّم صدور إحدى القاعدتين على الاخرى لا محالة. والحال أنّ لازم كلامه قدس‌سره لزوم الدور هنا أيضا ؛ لتوقّف جريان قاعدة الطهارة بحيث يثبت بها الموضوع على جريان قاعدة الحلّية وبالعكس ؛ لدلالة كلّ منهما على جزء واحد ، فلا بدّ من إثبات كلا الجزءين بالتعبّد الواحد.

ومن هنا نستكشف بطلان كلامه قدس‌سره بأنّ لغويّة كلام الحكيم كما تندفع بترتّب الأثر الفعلي على التعبّد والتنزيل ، كذلك تندفع بترتّب الأثر التعليقي ، بحيث لو انضمّ إليه جزؤه الآخر كان ذا أثر فعلي ، فصحّة المدلول المطابقي ـ أي تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ـ لا يتوقّف على المدلول الالتزامي حتّى يستلزم الدور.

مع أنّه يترتّب على التعبّد الأوّل أثر بيّن وهو قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض، ونحن هنا بصدد ترتّب الأثر الثاني ، أي قيامها مقام القطع الموضوعي الطريقي ، وقد عرفت من ذلك بطلان ما ذكره المحقّق الأصفهاني قدس‌سره ؛ إذ لا اقتضاء للغويّة بعد ما كان أثر تنزيل المؤدّى منزلة الواقع قيام الأمارة مقام القطع الطريقي المحض قبل قيامها مقام القطع الموضوعي ، فلا محذور في مقام الثبوت من قيام الأمارات والاصول العمليّة مقام القطع الطريقي والموضوعي بأقسامه بنفس دليل اعتبارها.

٧٦

والمهمّ هو البحث في مقام الإثبات ، ويقع البحث عنه في مرحلتين : الاولى : في الأمارات ، والثانية : في الاصول العمليّة.

أمّا المرحلة الاولى : فاعلم أنّ المتّفق عليه بين الفحول من الاصوليّين هو قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض بنفس أدلّة حجّيتها ، فتترتّب عليها الآثار المترتّبة على القطع من التنجيز عند المطابقة والتعذير عند المخالفة.

والتحقيق : أنّ التعبير بقيامها مقامه ليس بصحيح ، فإنّ معناه أصالة القطع وتبعيّة الأمارات ، مع أنّ عمل العقلاء بالأمارة حين فقدان القطع ليس إلّا لكونها من الطرق الموصلة إلى الواقع غالبا من دون نظر إلى أيّة جهة من الجهات الاخرى كالتنزيل والفرعيّة ، فالقطع والأمارات يشتركان في أصل الحجّية ، إلّا أنّ حجّية الأمارات مقيّدة بعدم وجود القطع ، لا أنّها منزّلة منزلة القطع.

ويؤيّده ما هو المسلّم من اعتبار الاصول العمليّة وحجّيتها في صورة فقدان الأمارات ، مع أنّه لم يقل أحد بقيامها مقامها ، وهكذا في ما نحن فيه.

نعم ، القطع طريق عقلي مقدّم على الأمارات من حيث الرتبة ، إلّا أنّ ذلك لا يستلزم أن يكون عمل العقلاء بها من باب قيامها مقام القطع حتّى يكون الطريق منحصرا عندهم بالقطع ، فيكون العمل بالأمارات بعناية التنزيل والفرعيّة.

ولا يخفى أنّ حجّية الأمارات أيضا قد تثبت من طريق العقل ، وهو اعتبار الظنّ من طريق دليل الانسداد على نحو الحكومة ، فيترتّب على الأمارات ما يترتّب على القطع من الأثر ، لا بعنوان التنزيل والفرعيّة ، وإن لم تصل النوبة بالأمارات مع وجود القطع.

٧٧

وأمّا الأقوال والاحتمالات في قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي فثلاثة :

الأوّل : قيامها بنفس أدلّتها مقام القطع الموضوعي بجميع أقسامه حتّى فيما اخذ في الموضوع على نحو الصفتيّة.

الثاني : عدم قيامها مقام القطع الموضوعي مطلقا ، بلا فرق بين كونه على نحو الطريقيّة أو الصفتيّة ، كما عليه المحقّق الخراساني قدس‌سره.

الثالث : التفصيل الذي اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره والمحقّق النائيني قدس‌سره ، وهو : قيامها مقام القطع الموضوعي إذا كان على نحو الطريقيّة ، وعدم قيامها مقامه إذا كان على نحو الصفتيّة.

والتحقيق : أنّ كلامهما قدس‌سرهما كلام جيّد ، ولكنّه يحتاج إلى مكمّل ، وتوضيح ذلك : أنّه لا يستفاد من أدلّة الحجّية أن تكون الأمارات كالصفة النفسانيّة المسماة بالقطع ، وهكذا في القطع الموضوعي الطريقي إذا اخذ بعنوان كاشف تامّ ، وعدم وجود احتمال الخلاف في مورده ، فإنّ الأمارة لا تكون كاشفا تامّا.

نعم ، إذا اخذ في الموضوع بعنوان مطلق الكاشفيّة يستفاد من أدلّة الحجّية ترتّب أثر القطع على الأمارات ، ولكن لا لأجل قيامها مقامه ، بل لأجل أنّ معنى قوله : «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة فتصدّق بكذا» يرجع إلى أنّه : إذا انكشف لك وجوب صلاة الجمعة بمطلق الانكشاف فتصدّق بكذا ، ويستفاد من أدلّة الحجّية أنّ ممّا يوجب الانكشاف هو الخبر الواحد ـ مثلا ـ فالأمارات من مصاديق الموضوع حقيقة ، ولعلّه كان مراد الشيخ الأعظم والمحقّق النائيني قدس‌سرهما أيضا هذا المعنى.

وأمّا المرحلة الثانية فاعلم أنّ الاصول العمليّة إمّا غير محرزة وإمّا محرزة ، فأمّا الاصول العمليّة الغير المحرزة التي ليس لها نظر إلى الواقع بل هي وظائف

٧٨

عمليّة للجاهل ـ مثل : أصالة البراءة وأصالة الحلّية وأصالة الطهارة والتخيير والاحتياط ـ فلا يترتّب عليها من أثر القطع سوى المعذّرية التي هي قسم واحد من الحجّية ، فإنّ معنى المنجّزية هو إثبات تكليف لزومي بدليل على عهدة المكلّف ، ولا يكون في موردها كذلك.

ومعلوم أنّ المراد من أصالة التخيير هنا هو التخيير في مقام العمل ، لا أخذ أحد الجانبين في مقام الفتوى ، فاتّصافها بالحجّية محدود بالمعذّرية فقط.

أمّا الاحتياط العقلي ـ كما قال صاحب الكفاية قدس‌سره ـ فليس إلّا نفس الحكم بتنجّز التكليف وصحّة العقوبة على مخالفته ، بل يصحّ إرجاع أصالة الاحتياط العقلي إلى القطع ، إلّا أنّه قد يكون تفصيليّا وقد يكون إجماليّا ، وكلاهما يتّصفان بالحجّية.

وأمّا الاحتياط النقلي فهو وإن كان موجبا لتنجّز التكليف به وصحّة العقوبة على مخالفته ـ كالقطع ـ إلّا أنّ الإلزام الشرعي بالاحتياط مجرّد فرض ، ولا وجود له في الخارج ؛ إذ لا نقول بوجوب الاحتياط شرعا في الشبهات البدويّة ، وأمّا في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي فالاحتياط فيها وإن كان ثابتا ، لكنّه عقليّ وليس بشرعيّ ، وهذا عين التنجّز كما عرفت.

ولا تقوم هذه الاصول مقام القطع الموضوعي ، سواء اخذ بعنوان الصفتيّة أو الكاشفيّة التامّة أو مطلق الكاشفيّة ؛ إذ لا صلاحيّة لها لذلك ، فإن قال المولى : «إذا قطعت بحلّية هذا الشيء فتصدّق بكذا» لا يمكن قيام قاعدة الحلّية مقام القطع.

نعم ، إذا اخذت العناوين الموجودة في هذه الاصول موضوعا للحكم في دليل فيصحّ بها جعل الموضوع ، كقوله : «إذا كان الشيء حلالا طاهرا يجوز لك

٧٩

أكله» فيصحّ لنا بعد الفحص واليأس عن الدليل بحرمته ونجاسته الحكم بحلّيته وطهارته استنادا إلى قاعدة الطهارة والحلّية.

وأمّا الاصول العمليّة المحرزة ـ كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز ـ فهي مقدّمة على سائر الاصول العمليّة عند التعارض ، مثل : تقدّم استصحاب النجاسة على قاعدة الطهارة ، ونحو ذلك.

كما أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز متقدّمة على الاستصحاب ؛ إذ يتحقّق في جميع موارد جريان هذه القاعدة الاستصحاب المخالف لها من حيث النتيجة ، فإنّ الاستصحاب ضابطة تعبّدية قابلة للتخصيص والاستثناء كسائر العمومات ، ولذا نلاحظ تخصيصه في مورد هذه القاعدة وفي مورد الشكّ في عدد ركعات الصلاة والبناء على الأكثر.

واختلف العلماء في أنّ حجّية الاستصحاب تكون بعنوان الأماريّة أو بعنوان أنّه أصل من الأصول العمليّة المحرزة ، فإنّ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره وتلامذته أنكروا عنوان أماريّته ، فإنّ اعتبار شيء بعنوان الأمارة من الشارع يتوقّف على تحقّق عنوان الكاشفيّة في الجملة والحكاية عن الواقع في نفس هذا الشيء ، ولا يتحقّق في الاستصحاب أيّ نوع من الكاشفيّة ؛ إذ اليقين المتعلّق بنجاسة الثوب ـ مثلا ـ أمارة على النجاسة في أوّل الصبح ، وتبدّل الآن بالشكّ ، وليس للشكّ أماريّة وكاشفيّة.

نعم ، حكى الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) عن بعض : أنّ ما ثبت يدوم ، ولكنّه بعد عدم الدليل عليه يرتبط بنفس الشيء ، بمعنى أنّه إذا وجد الشيء وكان فيه اقتضاء للدوام وصلاحية للاستمرار فهو يدوم ، ولا يرتبط

__________________

(١) الرسائل : ٣.

٨٠