دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

بما نحن فيه ، فإنّه راجع إلى الكفر والإنكار القلبي.

الطائفة الرابعة : ما دلّ على التوقّف عند الشبهة مع التعليل :

منها : قوله عليه‌السلام : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (١).

وجوابه : أنّ الأمر بالتوقّف ليس إلّا إرشاديّا ؛ إذ علّل التوقّف بأنّه خير من الاقتحام في الهلكة ، ومن الواضح أنّه لا يصحّ هذا التعليل إلّا أن تكون الهلكة مفروضة التحقّق في ارتكاب الشبهة ، فلا يمكن إثبات الهلكة بالأمر بالتوقّف ، وعليه فيختصّ الحديث بالشبهة البدويّة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الإجمالي ، وذلك لتنجّز التكليف والهلكة في موردها ، بخلاف الشبهات البدويّة بعد الفحص ، موضوعيّة كانت أو حكميّة.

الطائفة الخامسة : ما دلّ على الاحتياط في الشبهات :

منها : قوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (٢).

ولا يخفى أنّ تعليق الاحتياط من حيث المقدار على مشيئة الإنسان ومقدّميّة أخوك دينك للاحتياط كاشفان عن استحباب الاحتياط.

ومنها : كتاب عبد الله بن وضّاح إلى العبد الصالح عليه‌السلام يسأله فيه عن وقت المغرب والإفطار؟ فكتب عليه‌السلام إليه : «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك» (٣).

ومعلوم أنّ الرواية خرجت مخرج التقيّة ؛ إذ المتوقّع من الإمام عليه‌السلام عند السؤال هو بيان الحكم الواقعي لا الأمر بالاحتياط ، والحكم الواقعي في

__________________

(١) المصدر السابق : الحديث ١٣.

(٢) المصدر السابق : ١٦٧ ، الحديث ٤٦.

(٣) المصدر السابق : ١٦٦ ، الحديث ٤٢.

٢٨١

المسألة هو التربّص إلى ذهاب الحمرة المشرقيّة ، خلافا للعامّة حيث يكتفون بغيبوبة الشمس ، ولكن لمّا كان التصريح بالحكم الواقعي في المكتوب مظنّة الضرر اضطرّ عليه‌السلام في بيانه إلى طريق آخر ، وهو الأخذ بالاحتياط ، وعليه فلا يدلّ الحديث على وجوب الاحتياط في عامّة الشبهات.

ومنها : قال عبد الرحمن بن الحجّاج : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال عليه‌السلام : «بل عليهما أن يجزي كلّ واحد جزاء الصيد» ، فقلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ قال عليه‌السلام : «إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه وتعلموا» (١).

وفيه : أوّلا : أنّ الحديث ورد فيما إذا أمكن السؤال من الإمام عليه‌السلام وإزالة الشبهة ، ومحلّ النزاع فيما إذ لم يمكن إزالة الشبهة وبقاؤها حتّى بعد الفحص الكامل.

وثانيا : أنّ قوله عليه‌السلام : «إذا أصبتم بمثل هذا» فيه احتمالان : الأوّل أن يكون المراد من المشار إليه نفس الواقعة المسئول عنها ، أي إصابة الصيد ، والثاني : أن يكون المراد منه الشيء الذي لا يعلم حكمه ، وعلى الأوّل يكون الحديث أجنبيّا عن الشبهة التحريميّة البدويّة بعد الفحص ، وراجعا إلى الشبهة الوجوبيّة المقرونة بالعلم الإجمالي الدائر بين الأقلّ والأكثر ، وعلى الثاني فإمّا أن يراد من قوله عليه‌السلام : «فعليكم بالاحتياط» الاحتياط في الفتوى أو الفتوى بالاحتياط أو الفتوى بالطرف الموافق للاحتياط ، إلّا أنّ الظاهر هو الاحتمال الأوّل ، فيكون المقصود ترك الفتوى وعدم التقوّل على الله تعالى إلّا بعد السؤال والعلم.

__________________

(١) المصدر السابق : ١٥٤ ، الحديث ١.

٢٨٢

ومن الواضح أنّ الاصولي يقول بحرمة الإفتاء بغير العلم ، وإنّما قال بالإباحة في الشبهة لقيام الأدلّة الشرعيّة والعقليّة عليها ، فيكون من مصاديق القول عن علم.

هذا كلّه في الجواب التفصيلي عن هذه الطائفة ، ويمكن الإجابة عنها إجمالا بوجهين:

الأوّل : لا شكّ في استقلال العقل بحسن الاحتياط ، وظاهر هذه الأخبار هو الإرشاد إلى هذا الحكم العقلي ، وقلنا : إنّ الأمر الإرشادي تابع لما يرشد إليه ، وهو يختلف باختلاف الموارد ، ففي بعضها يكون الاحتياط واجبا كما في الشبهة البدوية قبل الفحص والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، وفي بعضها الآخر يكون الاحتياط حسنا كما في الشبهات البدويّة ، موضوعيّة كانت أو حكميّة.

الوجه الثاني : سلّمنا أنّ أوامر الاحتياط أوامر مولويّة ، إلّا أنّها لا تدلّ على وجوب الاحتياط ، وإنّما تدلّ على استحبابه ، وذلك لأنّ هذه الأخبار مطلقة وبإطلاقها تشمل جميع الشبهات بما فيها الشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة الوجوبيّة ، والاحتياط فيها ليس واجبا إجماعا ، وعليه فيدور الأمر بين التصرّف في الهيئة برفع اليد عن ظهورها في الوجوب وبين التصرّف في المادّة وتخصيصها بما عدا الشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة الوجوبية ، وبما أنّ لسانها آب عن التخصيص فيتعيّن حملها على الاستحباب ورفع اليد عن ظهورها في الوجوب.

الطائفة السادسة : ما دلّ على تثليث الامور :

منها : قوله عليه‌السلام : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان به أترك ، والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها

٢٨٣

يوشك أن يدخلها» (١).

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنّ لكلّ ملك حمى ، وأنّ حمى الله حلاله وحرامه ، والمشتبهات بين ذلك ، كما لو أنّ راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن تقع في وسطه ، فدعوا المشتبهات» (٢).

ولا يخفى ظهورهما في الاستحباب ، فإنّ الرعي حول الحمى ليس ممنوعا ، إلّا أنّه قد يوجب الرعي في نفس الحمى ، وهكذا الأمر في المشتبهات ، فإنّ ارتكابها ليست محرّمة إلّا أنّ التعوّد بها والاقتحام فيها قد يوجب جرأة النفس على ارتكاب المحرّمات ، فترك الشبهات يخلق في النفس ملكة وقوّة تردع عن ارتكاب المحرّمات المعلومة.

ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين ، ونذكر منها نقاط ثلاث :

الاولى : قوله عليه‌السلام : «إنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله ورسوله».

وجوابها يتّضح ممّا مرّ في الطائفة الثانية.

النقطة الثانية : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم».

ولا يخفى ظهورها في الاستحباب بنفس البيان المتقدّم في الرواية الاولى والثانية.

__________________

(١) المصدر السابق : ١٦١ ، الحديث ٢٧.

(٢) المصدر السابق : ١٦٧ ، الحديث ٤٥.

٢٨٤

النقطة الثالثة : قوله عليه‌السلام : «إذا كان ذلك فارجئه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات».

والجواب : أوّلا : أنّ ظاهر الكلام فيما إذا أمكن السؤال من الإمام عليه‌السلام وإزالة الشبهة به ، ومحلّ النزاع فيما إذا لا يمكن إزالة الشبهة وبقاؤها حتّى بعد الفحص الكامل.

وثانيا : أنّ الأمر بالتوقّف إرشادي كما مرّ في الطائفة الرابعة.

وثالثا : أنّه على فرض مولويّة الخطاب لا يدلّ إلّا على الاستحباب بقرينة الصدر ـ أعني النقطة الثانية ـ والتفكيك بينهما على خلاف المتفاهم العرفي.

ورابعا : سلّمنا ظهوره في الوجوب ، إلّا أنّه لا بدّ من رفع اليد عنه من جهتين :

الاولى : وقوع التعارض بين المقبولة وبين ما دلّ على التخيير في الخبرين المتعارضين ، والجمع العرفي يقتضي حمل المقبولة على الاستحباب تحكيما للنصّ على الظاهر.

الجهة الثانية : ما ذكرناه مرارا من دوران الأمر بين رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب وبين تخصيص المادّة بما عدا الشبهات الموضوعيّة والحكميّة الوجوبيّة ؛ لعدم وجوب الاحتياط فيها إجماعا ، ولا شكّ أنّ الأوّل هو المتعيّن ؛ إذ لسان الحديث آب عن التخصيص.

الدليل الثالث : العقل

وتقريبه من وجوه :

الأوّل : أنّ الأصل في الأشياء ـ في غير الضروريّات ـ هو الحظر إلّا ما خرج بالدليل، فلا يجوز ارتكاب الشبهة البدويّة التحريميّة ؛ لعدم ترخيص

٢٨٥

من الشارع.

وفيه : أوّلا : أنّ أصالة الحظر ليست مسلّمة ، فإنّ جماعة ذهبوا إلى أنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة ، فلا وجه للاستدلال بما هو محلّ الخلاف.

وثانيا : أنّ القول بجواز التصرّف مستند إلى الأدلّة المجوّزة الشرعيّة من الآيات والروايات ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» فلا مجال لهذا التقريب من دليل العقل.

الوجه الثاني : حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، والمراد من الضرر هو الضرر الاخروي ـ أي العقوبة ـ لا الضرر الدنيوي ؛ إذ لا دليل على لزوم دفع الضرر الدنيوي المقطوع فضلا عن الضرر المظنون أو المحتمل ، وفي ارتكاب الشبهة التحريميّة احتمال الوقوع في الضرر ، ولا شكّ في أنّ هذه القاعدة ترفع موضوع البراءة العقليّة من قبح العقاب بلا بيان ، فإنّه مع حكم العقل بوجوب الاحتفاظ على الحكم الواقعي حذرا من الوقوع في الضرر المحتمل يتمّ البيان ؛ إذ لا نقصد بالبيان خصوص البيان الشرعي ، بل الأعمّ منه ومن العقلي.

وقد اجيب عنه بإمكان العكس ، بأن تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان رافعة لموضوع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ؛ إذ مع حكم العقل بقبح العقاب عند عدم وصول التكليف إلى العبد لا يبقى مجال لاحتمال الضرر ليجب دفعه بحكم العقل ، فتكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

ولكنّ التحقيق في المسألة يتوقّف على بيان أمرين :

الأوّل : أنّه لا تصادم بين القاعدتين ؛ لأنّها معا من القواعد العقليّة القطعيّة ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ، فيمتنع أن يتحقّق التعارض بينهما ؛ إذ التعارض فيما

٢٨٦

لم يكن القطع في البين.

الأمر الثاني : أنّ صدق الكبرى والقاعدة لا يتوقّف على وجود صغرى لها ، فإنّ لنا كبريات ليس لها صغرى أصلا ، ولكن على فرض وجود الصغرى تنطبق الكبرى عليها.

ثمّ إنّ الاحتجاج والاستدلال دائما يتمّ بتحقّق الصغرى والكبرى ؛ إذ الكبرى بما هي لا تنفع شيئا في مورد من الموارد لو لا انضمام الصغرى إليها ، وعليه فالعلم بوجوب دفع الضرر المحتمل كالعلم بقبح العقاب بلا بيان لا ينتجان إلّا إذا انضمّ إلى كلّ واحد صغراه ، فيقال في الاولى : إنّ الضرر في ارتكاب مشكوك الحرمة محتمل ، ودفع الضرر المحتمل واجب ، فينتج وجوب الاحتراز عن مشكوك الحرمة.

ويقال في الثانية : إنّ العقاب على مشكوك الحرمة بعد الفحص وعدم العثور على الحكم عقاب بلا بيان ، والعقاب بلا بيان قبيح ، فينتج أنّ العقاب على مشكوك الحرمة قبيح.

فالتعارض بين القياسين ، فإنّهما غير قابلين للجمع ، ولا محالة يكون الإشكال في أحدهما ، ولا بدّ من ملاحظة ما هو متأخّر عن الآخر.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الصغرى في القياس الثاني وجدانيّة فعليّة وغير معلّقة على شيء ، فإنّ الذي يمارس عمليّة الاستنباط بعد الفحص الكامل في مظانّ التكليف يحرز وجدانا عدم وصول البيان من المولى في مورد الشبهة ، ومع انضمام هذه الصغرى إلى الكبرى يستنتج أنّ العقاب في مورد مشكوك الحرمة قبيح ، ومن الواضح أنّ القياس المركّب من صغرى وجدانيّة وكبرى برهانيّة ينتج نتيجة قطعيّة.

٢٨٧

وأمّا بالنسبة إلى القياس الأوّل فصغراه غير فعليّة ، بل معلّقة على امور ؛ إذ احتمال العقاب في مورد ما لا بدّ وأن يكون له منشأ معقول ، ومنشؤه يمكن أن يكون أحد الامور التالية :

١ ـ أن تكون الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي.

٢ ـ أن يكون ارتكاب الشبهة البدويّة قبل الفحص ، أو بعد الفحص الناقص.

٣ ـ أن لا يكون العقاب بلا بيان قبيحا عقلا.

٤ ـ أن لا يرد ترخيص في ارتكاب الشبهة.

٥ ـ أن لا يكون العقاب بلا بيان قبيحا على المولى.

ولا يخفى انتفاء كلّ هذه الامور فيما نحن فيه ، ومعه لا يبقى مجال لاحتمال العقاب حتّى ينضمّ إلى كبرى وجوب دفع الضرر المحتمل ، وأمّا الكبرى بوحدتها فلا تنفع شيئا كما عرفت.

ومن الواضح أنّ القياس المنظّم من المقدّمات الفعليّة مقدّم على القياس المعلّق على امور لم يتحقّق واحد منها ، وبما ذكرنا يظهر وجه النظر فيما قيل من أنّ كبرى قبح العقاب بلا بيان واردة على كبرى وجوب دفع الضرر المحتمل.

الوجه الثالث : أنّ كلّ مسلم يعلم إجمالا في أوّل بلوغه بوجود تكاليف إلزاميّة كثيرة في الشريعة ، ومثل هذا العلم الإجمالي ينجّز التكاليف الواقعيّة على المكلّف ، فيجب عليه الخروج من عهدتها بالاحتياط في جميع الشبهات حتّى يحصل له العلم بالفراغ عمّا اشتغلت ذمّته به يقينا ؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني بحكم العقل ، ومن المعلوم أنّ منجّزية العلم الإجمالي تمنع من الرجوع إلى البراءة.

٢٨٨

وجوابه : أوّلا : بالنقض بالشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة الوجوبيّة ، فإنّ العلم الإجمالي هذا لو كان مانعا عن الرجوع إلى البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة لكان مانعا عن الرجوع إليها في الشبهات الموضوعيّة والحكميّة الوجوبيّة بنفس البيان ، مع أنّ الأخباري لا يقول بوجوب الاحتياط فيهما.

وثانيا : بالحلّ ، وهو أنّ العلم الإجمالي بتكاليف واقعيّة ينحل بواسطة قيام الأمارات على التكاليف الإلزاميّة في أطراف المعلوم بالإجمال.

توضيح ذلك : أنّ للانحلال هنا ثلاث صور :

الاولى : انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ، كما إذا علمنا إجمالا بخمريّة أحد الإناءين ، ثمّ علمنا تفصيلا بأنّ الخمر المعلوم بالإجمال هو في الإناء الواقع في طرف اليمين ، ولا شكّ في انحلال العلم الإجمالي في هذه الصورة حقيقة لانعدامه وقيام العلم التفصيلي مقامه.

الصورة الثانية : انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، مع العلم بأنّ المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير هو عين المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير ، كما إذا علمنا إجمالا بوجود خمس شياه مغصوبة في قطيع من الغنم ، وعلمنا أيضا بوجود تلك الشياه المغصوبة في خصوص جملة الشياه البيض من قطيع الغنم ، فلا محالة ينحلّ العلم الإجمالي الأوّل الكبير بالعلم الإجمالي الثاني الصغير ، فلا يجب الاحتياط إلّا في دائرة القسم الأبيض من الشياه.

الصورة الثالثة : انحلال العلم الإجمالى الكبير بالعلم التفصيلي أو بالعلم الإجمالي الصغير ، ولكن مع احتمال أن يكون المعلوم بالتفصيل أو المعلوم

٢٨٩

بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير غير المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير ، كما إذا علمنا إجمالا بخمريّة أحد الإناءين ، ثمّ علمنا تفصيلا أو قام دليل شرعي من البيّنة أو الأصل على خمريّة الإناء الواقع في طرف اليمين ، ولكن يحتمل أن يكون المعلوم بالإجمال مغايرا للمعلوم بالتفصيل ومفاد الأمارة والأصل.

ويترتّب على هذه المسألة ثمرات متعدّدة في الفقه ، فلا بدّ من البحث فيها مفصّلا ، فنقول :

إنّه يستفاد من كلمات الفقهاء والأعاظم أنّ أصل الانحلال في هذه الصورة لا إشكال فيه ، إنّما الكلام في أنّ الانحلال هنا حكميّ أو حقيقيّ؟ فقد يقال : إنّ الانحلال في هذه الصورة حكمي ، وذلك بتقريبين :

الأوّل : ما أفاده المحقّق العراقي قدس‌سره (١) من أنّه مع قيام المنجّز في أحد طرفي العلم الإجمالي ، علما كان أو أمارة أو أصلا يخرج العلم الإجمالي عن تمام المؤثّرية في هذا الطرف ، لما هو المعلوم من عدم تحمّل تكليف واحد للتنجيزين ، وبخروجه عن قابليّة التأثّر من قبل العلم الإجمالي مستقلّا يخرج المعلوم بالإجمال ، وهو الجامع الإطلاقي عن القابليّة المزبورة ، فلا يبقى مجال لتأثير العلم الإجمالي في متعلّقه ؛ لأنّ معنى منجّزية العلم الإجمالي هو كونه مؤثّرا مستقلّا في المعلوم على الإطلاق ، وهذا المعنى غير معقول بعد خروج أحد الأطراف عن قابليّة التأثّر من قبله مستقلّا ، فلا يبقى إلّا تأثيره على تقدير خاص ، وهو أيضا مشكوك من الأوّل ؛ إذ لا يكون التكليف على ذاك التقدير متعلّقا للعلم ، فما هو المعلوم وهو الجامع المطلق القابل للانطباق على كلّ واحد

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

٢٩٠

من الطرفين غير قابل للتأثّر من قبل العلم الإجمالي ، وما هو قابل لذلك هو الجامع المقيّد انطباقه على الطرف الآخر لا يكون من الأوّل معلوما ؛ لعدم قابليّته للانطباق على الطرف المعلوم بالتفصيل ، وبذلك يسقط العلم الإجمالي عن السببيّة ؛ للاشتغال بمعلومه بجعله في عهدة المكلّف ، وبسقوطه تجري الاصول النافية في الطرف الآخر ، وفي ذلك لا فرق بين أنحاء الطرق ، بل الاصول المثبتة ، حيث إنّ الجميع على منوال واحد في كون الانحلال حكميّا لا حقيقيّا.

وفيه : أوّلا : ما سيأتي من تماميّة الانحلال الحقيقي في المقام وانعدام العلم الإجمالي في لوح النفس.

وثانيا : ما سوف يأتي تفصيله في بحث الاشتغال من أنّ القطع الوجداني ـ تفصيليّا كان أو إجماليّا ـ بالتكليف الفعلي الذي لم يرض المولى بتركه ، وقد تعلّقت إرادته به علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة ، وعليه فلا يصحّ القول بأنّ العلم الإجمالي مع بقائه في لوح النفس يسقط عن التأثير والمنجّزية ، وبسقوطه تجري الاصول النافية في الطرف الآخر.

التقريب الثاني : ما أفاده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بوجوب ما لا يخرج من الطرفين ، لا بأحدهما المردّد ، فلا ينجّز إلّا بمقداره ، فتنجّز الخصوصيّة المردّدة كتنجّز كلتا الخصوصيّتين به محال ، لكن حيث إنّ كلّا من الطرفين يحتمل أن يكون واقعا طرف ذلك الوجوب الواحد المنجّز بالعلم الإجمالي ، فيكون في تركه احتمال العقاب ، فينبعث الإنسان جبلة وطبعا نحو إتيان كلا الطرفين ، وعليه ففي كلّ واحد من طرفي العلم الإجمالي يحتمل

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٢٠٢.

٢٩١

الحكم المنجّز لا أنّه منجّز ، هذا هو حال العلم الإجمالي.

وأمّا الأمارة القائمة على أحد الطرفين بخصوصه ـ كما إذا قامت على وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ـ فهي منجّزة للخاصّ بما هو خاصّ ، وليس لها في تنجّز الخاصّ مزاحم ، فلا محالة تستقلّ الأمارة بالتأثير في تنجّز الخاصّ بما هو خاصّ.

ولا ريب في أنّ تنجيز الخاصّ بما هو خاصّ الذي لا مزاحم له يمنع عن تنجيز الوجوب الواحد المتعلّق بما لا يخرج عن الطرفين ؛ إذ ليس للواحد إلّا تنجّز واحد ، فلا يعقل بقاء العلم الإجمالي على تنجيزه ، وإذا دار الأمر بين منجّزين أحدهما يزاحم الآخر بتنجيزه ولو بقاء والآخر لا يزاحمه في تنجيزه ولو بقاء لعدم تعلّقه بالخاصّ حتّى ينجّزه ، فلا محالة يكون التأثير للأوّل الذي لا مزاحم له ولو بقاء.

وفيه : أوّلا : ما سيأتي من تماميّة الانحلال الحقيقي في المقام.

وثانيا : أنّ القول بكون العلم الإجمالي متعلّقا بوجوب ما لا يخرج عن الطرفين لا بأحدهما المردّد ممّا يأباه الوجدان ، فإنّنا عند ما نعلم إجمالا بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر نرى وجدانا أنّ العلم متعلّق بأحدهما المردّد ، أي نعلم أنّ الواجب إمّا هو الجمعة بما لها من الخصوصيّة أو الظهر بما لها من الخصوصيّة أيضا. نعم ، بعد تحقّق العلم الإجمالي في لوح النفس وتعلّقه بأحدهما المردّد يقف المكلّف على أنّ الواجب ما لا يخرج عن الطرفين ، فما ذكره قدس‌سره ليس إلّا بيانا لما بعد تعلّق العلم الإجمالي لا تفسيرا له.

وثالثا : أنّه كما أنّ كلّ واحد من طرفي العلم الإجمالي يحتمل الحكم المنجّز لا أنّه منجّز ، فكذلك الأمارة القائمة على وجوب صلاة الظهر بخصوصيّتها تحتمل

٢٩٢

التنجيز ، فإنّ معنى حجّية الأمارة هو منجّزيتها للواقع عند مطابقتها للواقع ، ومعذّريتها عند المخالفة للواقع ، فالتنجيز في العلم الإجمالي والأمارة ليس إلّا على سبيل الاحتمال لا أنّه منجّز ، كما أنّ حكم العقل في كليهما على نسق واحد ، وهو لزوم الاتّباع لاحتمال التكليف المنجّز الموجب لاستحقاق العقاب على المخالفة.

فالأمارة وإن قامت على الخصوصيّة لكنّها ليست منجّزة للتكليف على كلّ تقدير ، بل على فرض مطابقتها للواقع.

ورابعا : ما أورده استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) من أنّه لو سلّمنا بأنّ متعلّق العلم الإجمالي إنّما هو وجوب ما لا يخرج عن الطرفين ، فلا محالة يكون المنجّز ـ بالفتح ـ بالعلم الإجمالي ما ينطبق عليه عنوان «وجوب ما لا يخرج عن الطرفين» ، وهو نفس التكليف الواقعي ، فلو فرض قيام الأمارة على وجوب صلاة الظهر وتطابقها للواقع يكون مؤدّاها أيضا نفس التكليف الواقعي ، وهذا يعني أنّ التنجيز كما يكون مستندا إلى الأمارة يكون مستندا إلى العلم الإجمالي أيضا ، بل يمكن القول بأنّ التنجيز مستند إلى العلم الإجمالي فقط بلحاظ سبقه وتقدّمه ؛ إذ ليس للتكليف الواحد إلّا تنجيز واحد.

هذا كلّه في الانحلال الحكمي ، وأمّا الانحلال الحقيقي فقد ذكر له تقريبان أيضا :

الأوّل : ما أفاده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (٢) من أنّه ربما يدّعى انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل قهرا ؛ إذ لم يتنجّز بالعلم الإجمالي إلّا عدد

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ٢٠٠.

٢٩٣

خاصّ ـ مثلا ـ بلا عنوان ، والمفروض تنجّز واقعيّات قامت عليها الأمارات بذلك المقدار ، فلو لم تنطبق عليها الواقعيّات المنجّزة بالأمارات لكان إمّا من جهة زيادة الواقعيّات المعلومة بالإجمال على الواقعيّات المنجّزة بالأمارات ، أو من جهة تعيّن الواقعيّات المعلومة بالإجمال بنحو يأبى الانطباق ، أو من جهة تنجّز غير الواقعيّات بالأمارات ، والكلّ خلف وخلاف الواقع.

وحاصل هذا التقريب يرجع إلى أنّ العلم الإجمالي قد تعلّق بأمر غير متعيّن ، والعلم التفصيلي تعلّق بأمر متعيّن ، وانطباق اللامتعيّن على المتعيّن قهري ؛ لأنّ عدم الانطباق ينشأ من إحدى الوجوه الثلاثة المتقدّمة ، وهي خلاف الواقع.

وفيه : أنّ المعلوم بالإجمال لمّا كان أمرا غير متعيّن فيحتمل فيه أن يكون عين ما تعيّن بالعلم التفصيلي ، ويمكن أن يكون غيره ، فالقول بالانطباق القهري ممّا يأباه الوجدان ، فإنّ لازم الانطباق القهري هو العلم بأنّ المعلوم بالتفصيل هو عين المعلوم بالإجمال ، مع أنّ العينيّة محتملة كما هو مفروض المسألة.

التقريب الثاني : ما أفاده استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) من أنّ الميزان في الانحلال لو كان قائما باتّحاد المعلومين مقدارا مع العلم بأنّ المعلوم بالتفصيل هو عين المعلوم بالإجمال لكان لعدم الانحلال وجه ، إلّا أنّ الميزان هو عدم بقاء العلم الإجمالي في لوح النفس ، وانقلاب القضيّة المنفصلة الحقيقيّة أو المانعة الخلوّ إلى قضيّة بتّية وقضيّة مشكوك فيها فيما إذا كان للعلم الإجمالي طرفان ، أو إلى قضايا بتّية وقضايا مشكوكة إذا كان له أطراف ، فمثلا : لو علم بوجود

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

٢٩٤

خمر في الإناءين ، ثمّ علم تفصيلا بأنّ الخمر في الإناء من الطرف الأيمن ، فلا محالة يرتفع الترديد حينئذ ، وتنقلب القضيّة المردّدة إلى قضيّة بتّية وقضيّة مشكوكة ، فيقال : «هذا خمر قطعا» و «ذاك مشكوك الخمريّة».

إن قلت : صحيح أنّه بعد العلم التفصيلي بخمريّة أحد الإناءين ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، إلّا أنّه يحتمل أن يكون المعلوم بالإجمال هو نفس المشكوك فيه.

قلت : هذا الاحتمال لا يضرّ بالانحلال ، وذلك لأنّ المضرّ هو احتمال انطباق المعلوم بالإجمال بوصف كونه معلوما بالفعل على الطرف المشكوك ، لا احتمال انطباق ما كان معلوما إجمالا في السابق الذي هو معدوم فعلا ؛ للعلم التفصيلي بأحد الطرفين ، فإنّه لا أثر لهذا الاحتمال أصلا.

والتحقيق : أنّ كلامه قدس‌سره مع تماميّته في بيان المعيار والملاك للانحلال الحقيقي لا يشمل جميع فروض مورد البحث هنا.

بيان ذلك : أنّه إذا تحقّق العلم التفصيلي بأحد الطرفين بعد تحقّق العلم الإجمالي أو تحقّق العلم الإجمالي الصغير بعد تحقّق العلم الإجمالي الكبير يتحقّق ملاك الانحلال الحقيقي المذكور وإن احتمل مغايرة المعلوم بالتفصيل أو المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير للمعلوم بالإجمال في العلم الأوّل ؛ لزوال العلم الإجمالي فيهما عن صفحة النفس حقيقة.

وأمّا إذا تحقّقت حجّة شرعيّة على أحد الطرفين بعد العلم الإجمالي ـ كالبيّنة في الشبهات الموضوعيّة ، أو الأمارة الشرعيّة في الشبهات الحكميّة ، أو الاصول العمليّة ـ فلا يتحقّق ملاك الانحلال الحقيقي ؛ لعدم حصول العلم بمفاد الأمارة ومجرى الاصول العمليّة حتّى يزول العلم الإجمالي عن صفحة النفس ،

٢٩٥

مع احتمال مغايرتهما للمعلوم بالإجمال.

ولكن مع ذلك يكون كلام الإمام قدس‌سره جوابا صحيحا عن استدلال الأخباري ، فإنّ ما نحن فيه من قبيل انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير.

توضيح ذلك : أنّ العلم الإجمالي الكبير بوجود محرّمات كثيرة في الشريعة منحلّ بالعلم الإجمالي الصغير بوجود محرّمات في دائرة الأمارات المعتبرة ، وعليه فلا يجب الاحتياط إلّا في خصوص دائرة العلم الإجمالي الصغير ، والأخذ بكلّ أمارة معتبرة دالّة على الحرمة ، وأمّا الشكّ في وجود محرّمات اخرى في دائرة الشبهات فيكون شكّا بدويّا ، فتجري فيها الاصول النافية للتكليف.

٢٩٦

تنبيهات البراءة

التنبيه الأوّل : في جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة

قد عرفت في الأبحاث السابقة جريان البراءة في الشبهات الحكميّة ، وجوبيّة كانت أو تحريميّة ، وأمّا جريانها في الشبهات الموضوعيّة فوقع محلّا للاختلاف ، والحقّ في المسألة يحتاج إلى بسط في المقال ، فنقول :

إنّ الحكم المتعلّق بالطبيعة يتصوّر على أقسام أربعة :

الأوّل : أن يكون التكليف متعلّقا بالطبيعة بنحو العام الاستغراقي ؛ بأن يكون التكليف متعدّدا بتعدّد أفرادها ، فيكون لكلّ فرد إطاعة ومعصية مستقلّة ، سواء كان التكليف وجوبيّا أو تحريميّا.

القسم الثاني : أن يكون التكليف متعلّقا بالطبيعة بنحو العام المجموعي ؛ بأن يكون مجموع الأفراد من حيث المجموع موضوعا واحدا تعلّق به التكليف ، وحينئذ فإن كان التكليف وجوبيّا فالامتثال لا يتحقّق إلّا بإتيان جميع أفراد الطبيعة ويكون إطاعة واحدة ، ويتحقّق عصيان الأمر ولو بترك فرد واحد ويكون عصيانا واحدا.

وأمّا إن كان التكليف تحريميّا فامتثاله يكون بترك جميع أفراد الطبيعة ، وعصيانه يتحقّق بإتيان جميع الأفراد. وأمّا الإتيان ببعض الأفراد دون بعض

٢٩٧

فلم يكن عصيانا كما هو واضح.

القسم الثالث : أن يكون متعلّقا بالطبيعة بنحو صرف الوجود ، ونقصد بصرف الوجود أوّل وجود الطبيعة الناقض للعدم ، لا أوّل فرد الطبيعة ، ولذا لو أتى بأفراد متعدّدة دفعة واحدة صدق عليها أوّل وجود الطبيعة.

نعم ، لو أتى بها تدريجا فإنّما يتحقّق صرف الوجود بالفرد الأوّل الناقض للعدم ، ومن هنا قالوا : إنّه لا تعدّد في صرف الوجود ، وإنّما يتحقّق بأوّل وجود الطبيعة ، سواء كان في ضمن فرد واحد أو في ضمن أفراد دفعة واحدة.

ثمّ إن كان التكليف وجوبيّا فيتحقّق الامتثال بأوّل وجود الطبيعة ، سواء كان في ضمن فرد واحد أو أفراد متعدّدة دفعة واحدة ، ويتحقّق عصيان الأمر بترك جميع أفراد الطبيعة.

وأمّا إن كان التكليف تحريميّا فامتثاله يكون بترك جميع أفراد الطبيعة ، وعصيانه يتحقّق بإيجاد أوّل وجود الطبيعة ، فيكون للنهي أيضا إطاعة ومعصية واحدة.

القسم الرابع : أن يكون متعلّقا بالطبيعة بما هي ، فإن كان التكليف وجوبيّا يحصل الامتثال بإتيان فرد من أفراد الطبيعة ؛ لأنّ وجود الطبيعي بوجود فرد منه ، وعصيانه يكون بترك جميع الأفراد ، إلّا أنّه عصيان واحد لا أكثر ، وإن كان التكليف تحريميّا فامتثاله يكون بترك جميع أفراد الطبيعة.

إذا عرفت هذا فنقول :

أمّا القسم الأوّل : فالحقّ فيه جريان البراءة ، سواء كانت الشبهة الموضوعيّة وجوبيّة أو تحريميّة ، وذلك لأنّ التكليف لمّا كان يتعدّد بتعدّد أفراد الطبيعة فلو شكّ في كون شيء مصداقا للطبيعة كان الشكّ في ثبوت الحكم للموضوع ؛ إذ لكلّ فرد من أفراد الطبيعة حكم مستقلّ في نفسه ، ومن الواضح أنّ المرجع

٢٩٨

عند الشكّ في التكليف هو البراءة لا الاشتغال.

إن قلت : إنّ الشكّ في الشبهات الموضوعيّة ليس من جهة فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين ، وإنّما الشكّ نشأ من الاشتباه في الامور الخارجيّة ، فليس من قبيل الشكّ في التكليف حتّى تشمله أدلّة البراءة ، بل يكون من قبيل الشكّ في الامتثال ، وهو مجرى قاعدة الاشتغال.

توضيح ذلك : أنّ أدلّة البراءة ـ شرعيّة كانت أو عقليّة ـ لا تجري في الشبهة الموضوعيّة ؛ ضرورة أنّ وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلّا بيان الكبريات والأحكام الكلّية ، وقد بيّنها ووصلت إلى المكلّف حسب الفرض ، وإنّما الشكّ في الصغرى ومقام الامتثال ، ومن الواضح أنّ المرجع في إزالة هذه الشبهة ليس هو الشارع ، وعليه فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بداهة تحقّق البيان بصدور الحكم الكلّي وعلم المكلّف به ، كما لا يجري مثل حديث الرفع ؛ إذ الحديث إنّما يرفع ما يكون وضعه بيد الشارع ، وقد اتّضح أنّ ما يكون وضعه بيده هو جعل الحكم الكلّي وتبليغه لا غير ، فالمتعيّن حينئذ هو الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ؛ لأنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة.

قلت : صحيح أنّ وظيفة الشارع إنّما هو بيان الكبريات لا المصاديق الخارجيّة ، إلّا أنّ العقاب لا يصحّ إلّا مع تماميّة الحجّة على العبد ، ومن الواضح أنّ الحجّة إنّما تتمّ بتمام الصغرى والكبرى عند العبد ؛ إذ الكبرى بما هي لا تنفع شيئا في مورد من الموارد لو لا انضمام الصغرى إليها.

والحاصل : أنّ عدم تماميّة الحجّة قد يكون من جهة عدم تماميّة الكبرى ، وقد يكون من جهة عدم تماميّة الصغرى ، ومع عدم تماميّة الحجّة تجري البراءة لقبح العقاب بلا بيان ، أي بلا حجّة.

٢٩٩

وأمّا القسم الثاني فالحقّ فيه هو التفصيل ، بمعنى أنّه إن كان التكليف وجوبيّا وشككنا في مصداقيّة فرد للعام المجموعي ، فالمرجع هو الاشتغال ، فيجب الإتيان بالفرد المشكوك ، فمثلا : إذا قال المولى : «أكرم مجموع العلماء» وشككنا في عالميّة «زيد» يجب إكرامه ؛ لأنّ ترك إكرامه والاكتفاء بإكرام من علم كونه عالما يوجب الشكّ في تحقّق عنوان المأمور به ، وهو إكرام مجموع العلماء من حيث المجموع ، وعند الشكّ في المحصّل وانطباق المأمور به على المأتي به تجري قاعدة الاشتغال لا محالة ، ومعلوم أنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين في الشبهة الموضوعيّة يكون مجرى للاحتياط ، فإنّ اشتغال الذمّة اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة.

وأمّا إن كان التكليف تحريميّا فلا إشكال في جريان البراءة ، وذلك لجواز ارتكاب بعض الأفراد المعلومة فضلا عن الفرد المشكوك فيه ؛ ضرورة أنّ المنهي عنه في هذا القسم هو ارتكاب المجموع من حيث المجموع ، ومن الواضح أنّه مع ترك بعض الأفراد وارتكاب البعض الآخر يصدق أنّه لم يرتكب المجموع من حيث المجموع ، فلا يكون عاصيا ، بل لو ترك فردا واحدا من الطبيعة وارتكب باقي الأفراد بأجمعها يكون مطيعا. نعم ، لا يصحّ الاكتفاء ببقاء الفرد المشكوك الفرديّة ؛ إذ لم يحرز ببقائه عدم تحقّق المنهي عنه.

وأمّا القسم الثالث فالحقّ فيه هو التفصيل أيضا ، ففي جانب الحكم الوجوبي لا يمكن الاكتفاء في مقام الامتثال بالفرد المشكوك ، بل لا بدّ من الإتيان بما هو متيقّن الفرديّة للطبيعة ؛ إذ مع الشكّ في انطباق المأمور به على المأتي به يجري الاشتغال ، وأمّا في جانب الحكم التحريمي فتجري البراءة في الفرد المشكوك بلا إشكال ، فلا يجب الاجتناب عنه ؛ إذ الشكّ حينئذ ليس شكّا في سقوط التكليف حتّى يكون موردا للاشتغال ، وإنّما هو شكّ في ثبوت

٣٠٠