دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

وحدة الخطاب وتعدّد المخاطب ، فاللازم إبقاؤها على ظاهرها ، وبه تندفع الإشكالات المتقدّمة ، كما أنّه يظهر به الوجه في وجوب الاحتياط في صورة الشكّ في القدرة الذي هو مورد للاتّفاق.

وإذا اتّضح ذلك تعرف أنه لو كان بعض الأطراف في الشبهة المحصورة خارجا عن محلّ الابتلاء غير مقدور بالقدرة العاديّة لا يكون ذلك موجبا لعدم تنجّز التكليف المعلوم إجمالا ؛ لأنّ التكليف يكون ثابتا ولو كان متعلّقه خارجا عن محلّ الابتلاء ؛ لأنّ الخروج عن محلّ ابتلاء بعض المكلّفين لا يوجب استهجان الخطاب العامّ والتكليف بنحو العموم ، بل الملاك في الاستهجان ما عرفت من خروجه عن محلّ ابتلاء عامّة المكلّفين أو أكثرهم ، وحينئذ فلا بدّ من الاحتياط بترك ما هو محلّ للابتلاء أيضا. هذا مع العلم بالخروج.

وأمّا مع الشكّ في ذلك فالأمر أوضح إذا كان منشأ الشكّ هي الشبهة الحكميّة لا الشبهة الموضوعيّة ، فإنّ الشكّ يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن تكون ماهيّة الابتلاء وعدمه وحدود مورد الابتلاء واضحة ، ولكن لا نعلم أنّ الخمر المتحقّق ـ مثلا ـ هل يكون داخلا في الحدّ حتّى يكون موردا للابتلاء أو خارجا عنه حتّى يكون خارجا عن مورد الابتلاء ، وهذه الشبهة موضوعيّة.

الثاني : أن تكون ماهيّة الابتلاء وعدمه مشكوكة من حيث المفهوم ، وأنّ الخمر المتحقّق في محلّ كذا خارج عن مورد الابتلاء أم لا؟ وهذه الشبهة حكميّة ، وفعليّة التكليف وعدمها دائر مدار هذا القسم من الابتلاء وعدمه ، وفي هذه الصورة يجب الاحتياط والاجتناب عمّا هو محلّ الابتلاء ، وذكر

٣٨١

الاصوليّون أدلّة مختلفة له :

منها : ما ذكره المحقّق الحائري وهو : «أنّ البيان المصحّح للعقاب عند العقل ـ وهو العلم بوجود مبغوض المولى بين امور ـ حاصل ، وإن شكّ في الخطاب الفعلي من جهة الشكّ في حسن التكليف وعدمه.

وهذا المقدار يكفي حجّة عليه ، نظير ما إذا شك في قدرته على إتيان المأمور به وعدمها بعد إحراز كون ذلك الفعل موافقا لغرض المولى ومطلوبا له ذاتا ، وهل له أن لا يقدم على الفعل بمجرّد الشكّ في الخطاب الفعلي الناشئ من الشكّ في قدرته؟ والحاصل : أنّ العقل بعد إحراز المطلوب الواقعي للمولى أو مبغوضه لا يري عذرا للعبد في ترك الامتثال» (١). انتهى.

وجوابه : ـ بعد عدم صحّة تشبيه ما نحن فيه بالشبهة الموضوعيّة ، أي الشكّ في القدرة العقليّة ـ أنّ طريق استكشاف غرض المولى عبارة عن تحقّق التكليف والعلم به ، والتكليف مشروط بالقدرة العاديّة ، والشكّ في كون بعض الأطراف موردا للابتلاء وعدمه يرجع إلى الشكّ في التكليف الفعلي ، فكيف يمكن إحراز غرض المولى ، فلا يكون العلم بالغرض مع الشكّ في توجّه التكليف الفعلي قابلا للاجتماع ، فلا يمكن إثبات وجوب الاحتياط بهذا الدليل.

ويستفاد من كلام الشيخ الأنصاري رحمه‌الله استدلالا مختصرا ، وهو قوله : «وأمّا لو شكّ في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات» (٢).

وكان للمحقّق النائيني رحمه‌الله في مقام توضيح كلام الشيخ بيان مفصّل ، ونذكره هنا ملخّصا : لا إشكال في إطلاق ما دلّ على حرمة الخمر ـ مثلا ـ وشموله

__________________

(١) درر الفوائد : ٤٦٥.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٥١٦.

٣٨٢

لصورتي الابتلاء وعدمه ، والقدر الثابت من التقييد عقلا هو ما إذا كان الخمر خارجا عن مورد الابتلاء بحيث يلزم استهجان النهي عنه بنظر العرف ، فإذا شكّ في استهجان النهي وعدمه لأجل الشكّ في إمكان الابتلاء وعدمه فالمرجع هو الإطلاق ؛ لأنّ التخصيص بالمجمل مفهوما المردّد بين الأقلّ والأكثر لا يمنع من التمسّك بالعام فيما عدا القدر المتيقّن ، بل الجواز في المقام أولى من غيره ؛ لأنّ المقيّد فيما نحن فيه هو حكم العقل ، وفي المقيّدات اللبيّة يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة فضلا عن الشبهات المفهوميّة إذا كان الترديد بين الأقلّ والأكثر ، كما في المقام.

وبالجملة ، لا ينبغي التأمّل في جواز التمسّك بإطلاق أدلّة المحرّمات الواردة في الكتاب والسنّة.

فان قلت : المخصّص المجمل المتّصل بالعام يسري إجماله إلى العام ، ولا ينعقد له ظهور في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصّص عليه إذا كان المخصّص لفظيّا أو عقليّا ضروريا ، سواء كان إجماله لأجل تردّده بين المتباينين أو بين الأقلّ والأكثر ، والتفصيل بينهما إنّما هو في المخصّص اللفظي المنفصل أو ما بحكمه من العقل النظري ، وأمّا العقل الضروري فحكمه حكم المتّصل ؛ لأنّ المخصّص إذا كان ضروريّا فبمجرّد صدور العامّ ، من المتكلّم ينتقل الذهن إليه ويكون كالقرينة المحتفّة بالكلام يسري إجماله إليه ، وهذا بخلاف العقل النظري ، فإنّه لا ينتقل الذهن إليه إلّا بعد الالتفات إلى المبادئ التي أوجبت حكم العقل ، وقد لا تكون المبادئ حاضرة ، فلا يمنع عن انعقاد الظهور للعامّ ولا يسري إجماله إليه ، ومن المعلوم أنّ المخصّص في المقام إنّما يكون من الأحكام العقليّة الضروريّة ؛ لأنّ ضرورة العقل قاضية باستهجان النهي عمّا لا يمكن الابتلاء به ،

٣٨٣

كما لا يخفى.

قلت : أوّلا : يمكننا منع كون المخصّص في المقام من الضروريّات العقليّة المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء.

وثانيا : أنّ سراية إجمال المخصّص اللفظي المتّصل أو العقلي الضروري إلى العامّ إنّما هو فيما إذا كان الخارج عن العموم عنوانا واقعيّا غير مختلف المراتب ، وتردّد مفهومه بين الأقلّ والأكثر ، كما لو تردّد مفهوم «الفاسق» الخارج عن عموم «أكرم العلماء» بين أن يكون خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منه ومن مرتكب الصغيرة ، وأمّا إذا كان الخارج عنوانا ذا مراتب مختلفة وعلم بخروج بعض مراتبه عن العامّ وشكّ في خروج بعض آخر فإجماله لا يسري إلى العامّ ؛ لأنّ الشكّ في مثل هذا يرجع إلى الشكّ في ورود مخصّص آخر للعامّ غير ما علم التخصيص به ، فتأمّل (١).

وحاصل ما يستفاد من ذيل كلامه : أنّه كما أنّ في المخصّصات اللفظيّة قد يكون المخصّص متّصلا وقد يكون منفصلا ، كذلك في المخصّصات العقليّة قد يكون المخصّص متّصلا وهو ما كان عقليّا ضروريّا ، وقد يكون منفصلا وهو ما كان عقليّا نظريّا ، فإن كان عقليّا ضروريّا يلتفت الإنسان لا محالة من استماع العامّ إلى المخصّص بدون الاحتياج إلى التأمّل والتوجّه إلى المبادئ ، وإن كان عقليّا نظريّا لا بدّ بعد استماع العامّ من تحقّق المقدّمات حتّى ينتقل إلى المخصّص ، كأنّه يحتاج إلى الزمان ، فحكمه حكم المخصّص المنفصل من حيث انعقاد الظهور للعامّ في العموم من حين صدوره.

وتقدّم الدليل المخصّص عليه يكون من باب أقوائيّة الحجّيّة ، لا من باب

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٥٧ ـ ٦٠.

٣٨٤

كشفه عدم انعقاد الظهور للعامّ من الابتداء ، وهذا المعنى يتحقّق في المخصّص العقلي النظري.

يرد عليه أوّلا : أنّ الفرق بين العقل الضروري والنظري محلّ منع ، بل الظاهر عدم الفرق بينهما من حيث كونهما كالمخصّص المتّصل ؛ لأنّ العقل النظري وإن كان لا ينتقل الذهن إليه إلّا بعد الالتفات إلى المبادئ الموجبة لذلك ، إلّا أنّه بعد الانتقال يعلم بعدم كون الظهور المنعقد للعامّ قبل الالتفات إلى تلك المبادئ ظهورا حقيقيّا ، وأنّه أخطأ في توهّمه انعقاد الظهور للعامّ ؛ لأنّه بعد الانتقال يعلم بكون دائرة العامّ من أوّل صدوره من المولى كانت أضيق ممّا يتوهّمه سابقا.

وهذا بخلاف المخصّص اللفظي المنفصل ، فإنّ العامّ كان منعقدا ظهوره في العموم بصورة القانون الكلّي للرجوع إليه في موارد الشكّ ، ثمّ تخصيصه على طبق المصالح بصورة التبصرة ، كما ذكرنا مرارا.

وأمّا في المقام فبعد استكشاف حكم العقل يعلم بعدم انعقاد ظهور له في العموم أصلا كالعقل الضروري ، وتوهّم الانعقاد لا يوجب التفكيك ، فالتقسيم المتحقّق في المخصّصات اللفظيّة لا يتحقّق في المخصّصات العقليّة ، فكما يسري الإجمال إلى العامّ في العقل الضروري يسري إليه في العقل النظري ، فلا يصحّ التمسّك به في كلتا الصورتين ، فتدبّر.

وثانيا : أنّ ما أفاده من الجواب الثاني عن الإشكال الذي أورده على نفسه يرد عليه ـ مضافا إلى عدم الفرق بين مثال الفاسق وبين المقام ؛ لأنّ الفاسق أيضا ذو مراتب ، للفرق بين الفسق الناشئ من النظر إلى الأجنبيّة مثلا وبين الفسق الناشئ من قتل النفس المحترمة عمدا ، كما هو واضح ، فحينئذ لو ثبت

٣٨٥

أنّ عنوان الفاسق يصدق أيضا على مرتكب الصغيرة تكون هذه المرتبة من الفسق من المراتب النازلة لعنوان الفسق ـ أنّ الفرق بين ما إذا كان عنوان المخصّص عنوانا واقعيّا غير مختلف المراتب ، وما إذا كان عنوانا ذا مراتب مختلفة في عدم جواز التمسّك بالعامّ في الأوّل دون الثاني ، ممّا لا يكون له وجه ؛ لأنّ المخصّص ـ ولو كان عنوانا ذا مراتب ـ إذا كان متّصلا بالعام ـ سواء كان لفظيّا أو عقليّا ضروريّا ـ يسري إجماله إلى العامّ لا محالة ، ويمنع عن انعقاد ظهور للعامّ في العموم.

وليس هنا حجّة على العموم حتّى يتمسّك بها في المقدار الذي لا يكون المخصّص حجّة بالنسبة إليه ، فاتّصال المخصّص بالعامّ مانع عن كون ظهوره متّبعا وقابلا للاحتجاج ؛ لأنّ الكلام ما دام المتكلّم مشتغلا به لا ينعقد له ظهور متّبع حتّى إذا فرغ المتكلّم منه ، فحينئذ لا فرق من هذه الحيثيّة بين كون المخصّص ذا مراتب وغيره ، فما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله بعنوان توضيح استدلال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ليس بتامّ.

ثمّ أورد المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية على هذا الوجه الذي أفاده الشيخ وتابعة المحقّق النائيني رحمه‌الله بما لفظه : «ومنه قد انقدح أنّ الملاك في الابتلاء المصحّح لفعليّة الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلا ، هو ما إذا صحّ انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع اطّلاعه على ما هو عليه من الحال. ولو شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة ؛ لعدم القطع بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب ؛ ضرورة أنّه لا مجال للتشبّث به إلّا فيما إذا شكّ في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه ، لا فيما شكّ في اعتباره في صحّته ، فتأمّل».

وقال في هامشها : «نعم ، لو كان الإطلاق في مقام يقتضي بيان التقييد

٣٨٦

بالابتلاء ـ لو لم يكن هناك ابتلاء مصحّح للتكليف ـ كان الإطلاق وعدم بيان التقييد دالّا على فعليّته ، ووجود الابتلاء المصحّح لهما ، كما لا يخفى» (١).

وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمه‌الله بما ملخّصه : أنّ إطلاق الكاشف بنفسه يكشف عن إمكان إطلاق النفس الأمري ، ولو كان التمسّك بالمطلقات مشروطا بإحراز إمكان الإطلاق لانسدّ باب التمسّك بالمطلقات بالكلّيّة ، إذ ما من مورد يشكّ في التقييد إلّا ويرجع إلى الشكّ في إمكان الإطلاق ، خصوصا على مذهب العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة ؛ لأنّ الشكّ في كلّ قيد يلازم الشكّ في ثبوت المصلحة الموجبة للتقييد.

وبالجملة ، الإطلاق اللفظي يكشف عن ثبوت الإطلاق النفس الأمري ، كما أنّ الخطاب اللفظي يكشف عن ثبوت الملاك والمناط ، وحينئذ فيؤخذ بظاهر الإطلاق في الموارد المشكوكة ، ويستكشف منه أنّ عدم استهجان التكليف في مورد الشكّ ، كما يستكشف من إطلاق قوله عليه‌السلام : «اللهمّ العن بني اميّة قاطبة» عدم إيمان من شكّ في إيمانه من هذه الطائفة الخبيثة ، مع أنّ حكم العقل بقبح لعن المؤمن لا ينقص عن حكمه بقبح تكليف من لا يتمكّن عادة (٢) انتهى.

وفيه : أنّ الفرق بين التقييد بالابتلاء وبين المقيّدات الآخر مثل تبعيّة الحكم للمصالح والمفاسد واضح ؛ لأنّ استهجان الخطاب مع عدم الابتلاء ممّا يكون بديهيّا عند العامّة ، بخلاف قضيّة المصلحة والمفسدة التي ذهب إليها جمع من العلماء ؛ لنهوض الدليل عليها ، وتكون مغفولا عنها عند العرف والعقلاء ، فإذا ورد «أكرم العلماء» مثلا ، يكون المتفاهم منه بنظر العرف هو وجوب إكرام

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٢٣.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٦١ ـ ٦٢.

٣٨٧

الجميع من غير توجّه إلى ثبوت المصلحة في إكرام الجميع ، ويكون العموم حجّة لا يرفعون اليد عنها في موارد الشكّ في في التخصيص ، وهذا بخلاف المقام الذي لا يكون الخطاب مطلقا بنظرهم وشاملا لصورتي الابتلاء وعدمه ، بل يكون مقيّدا من أوّل الأمر بصورة الابتلاء ، وحينئذ فلا يجوز التمسّك به مع الشكّ في الابتلاء وعدمه ، فيكون مرجع الشكّ في الابتلاء إلى الشكّ في خمريّة المائع مثلا ـ بعد كون الابتلاء من قبيل المخصّص العقلي المتّصل ـ فمقتضى القاعدة الرجوع إلى أصالة البراءة ، كما ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله. هذا تمام الكلام في الشبهة المحصورة.

٣٨٨

الأمر الرابع : في الشبهة الغير المحصورة

ولا بد قبل الورود في البحث من بيان مقدّمتين :

الاولى : جعل البحث فيها فيما إذا كان الحكم الموجود بين الأطراف الغير المحصورة ثابتا من إطلاق أو عموم أو قيام أمارة ؛ ضرورة أنّه لو كان معلوما بالعلم الوجداني فقد عرفت في أوّل مبحث الاشتغال أنّه يحرم مخالفته ، ويجب موافقته قطعا ، ولا يعقل الترخيص ولو في بعض الأطراف ؛ لعدم اجتماع الفعليّة على أيّ تقدير مع الإذن في البعض فضلا عن الكلّ.

الثانية : تمحيض الكلام في خصوص الشبهة الغير المحصورة ، وأنّ كثرة الأطراف بنفسها هل يوجب الاجتناب عن الجميع أم لا؟ مع قطع النظر عن العسر أو الاضطرار أو عدم الابتلاء ، فإنّ هذه الامور نافية للاحتياط حتّى في الشبهة المحصورة.

فمحلّ النزاع في الشبهة الغير المحصورة هو أن كثرة الأطراف وكونها غير محصورة هل يوجب الاحتياط أم لا؟

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا وجه للتمسّك في المقام بالاضطرار أو العسر أو عدم الابتلاء ، كما صنعه الشيخ في الرسائل (١) ، وغيره في غيرها.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٣٠ ـ ٤٣١.

٣٨٩

ثمّ إنّه تدلّ على عدم وجوب الاحتياط فيها وجوه :

منها : دعوى الإجماع ، بل الضرورة من غير واحد من الأعلام قدس‌سرهم (١).

وفيه : أوّلا : أنّه لا حجّيّة لادّعاء الإجماع أو الضرورة بما هما إذا كانا منقولين ، بل لا بدّ أن يصل كلّ واحد إليهما بنفسه.

وثانيا : أنّه يحتمل استناد الإجماع إلى أدلّة اخرى كالرواية مثلا ، فلا بدّ من البحث في مستنده.

ومنها : الأخبار الكثيرة الدالّة على عدم وجوب الاحتياط في مطلق الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي أو خصوص الغير المحصورة منها ، كصحيحة عبد الله بن سنان المتقدّمة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه».

وقد عرفت ظهورها في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، وهي وإن كانت شاملة للمحصورة أيضا إلّا أنّه لا بدّ من تقييدها وحملها على غير المحصورة.

ودعوى أنّ ذلك حمل على الفرد النادر مدفوعة جدّا ؛ لمنع كون الشبهة الغير المحصورة قليلة نادرة بالنسبة إلى المحصورة لو لم نقل بأنّها أكثر ، كما يظهر لمن تدبّر في أحوال العرف.

ومنه يظهر الخلل فيما أفاده الشيخ الأنصاري في الرسائل في مقام الجواب عن الاستدلال بالأخبار الدالّة على حلّيّة كلّ ما لم يعلم حرمته : من أنّ هذه الأخبار نصّ في الشبهة البدويّة ، وأخبار الاجتناب نصّ في الشبهة المحصورة ، وكلا الطرفين ظاهران في الشبهة الغير المحصورة ، فإخراجها عن أحدهما وإدخالها في الآخر ليس جمعا ، بل ترجيحا بلا مرجّح (٢).

__________________

(١) جامع المقاصد ٢ : ١٦٦ ، روض الجنان : ٢٢٤ ، السطر ٢١ ، الفوائد الحائريّة : ٢٤٧.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٤٣٢.

٣٩٠

وجه الخلل : ما عرفت من ظهور مثل الصحيحة في خصوص الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ الشيء الذي فيه حلال بالفعل وحرام بالفعل هو عبارة عن المختلط بهما مثل مجموع الإنائين أو المائعين ، والشبهة البدويّة لا تكون كذلك.

وحينئذ فبعد إخراج الشبهة المحصورة ـ لحكم العقلاء باستلزام الإذن في الارتكاب فيها للإذن في المعصية ، وهو مضافا إلى قبحه غير معقول كما عرفت ـ تبقى الشبهة الغير المحصورة باقية تحتها.

هذا ، مضافا إلى أنّه لو سلّمنا الشمول للشبهة البدويّة فكونها نصّا فيها وظاهرة في الشبهة الغير المحصورة محلّ نظر ، بل منع ، كما لا يخفى ، فالاستدلال بها صحيح.

ويدلّ على ما ذكرنا أيضا ما رواه البرقي في محكي المحاسن عن أبي الجارود ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقلت : أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة ، فقال : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرّم جميع ما في الأرض؟! إذا علمت أنّه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله ، إنّي لأعترض السوق فأشتري اللحم والسمن والجبن ، والله ، ما أظنّ كلّهم يسمّون ، هذه البربر وهذه السودان» (١).

فإنّه لو أغمض النظر عن المناقشة في السند وكذا في المضمون من جهة صدورها تقيّة ـ لما عرفت سابقا من عدم حرمة الجبن الذي علم تفصيلا بوضع الأنفحة من الميتة فيه عند علمائنا الإماميّة قدس‌سرهم ، خلافا للعامة ، والرواية مقرّرة لهذا الحكم ـ تكون دلالتها على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الغير

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ١١٩ ، الباب ٦١ من أبواب أطعمة المباحة ، الحديث ٥.

٣٩١

المحصورة واضحة.

وما ادّعاه الشيخ رحمه‌الله في الرسائل من أنّ المراد أنّ جعل الميتة في الجبن في مكان واحد لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن ، ولا كلام في ذلك ، لا أنّه لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن يحتمل أن يكون من ذلك المكان ، فلا دخل له بالمدّعى (١).

فيه نظر واضح ؛ لأنّ الحكم بعدم وجوب الاجتناب عن الجبن في مكان مع العلم بعدم كونه من الأمكنة التي توضع فيه الميتة في الجبن ممّا لا ينبغي أن يصدر من الإمام عليه‌السلام ولا أن يقع موردا للشكّ ، كما هو واضح.

بل الظاهر أنّ المراد أنّ مجرّد احتمال كون الجبن موضوعا فيه الميتة وأنّه من الجبن المنقولة من الأمكنة التي توضع فيها الميتة في الجبن لا يوجب الاجتناب عن كلّ جبن ، وهذا هو المطلوب في باب الشبهة الغير المحصورة ، كما أنّ قوله عليه‌السلام : «ما أظنّ كلّهم يسمّون» ظاهر في أنّ العلم بعدم تسمية جماعة حين الذبح ـ كالبربر والسودان ـ لا يوجب الاجتناب عن جميع اللحوم.

ودعوى أنّ المراد منه عدم وجوب الظنّ أو القطع بالحلّيّة ، بل يكفي أخذها من سوق المسلمين ـ كما في الرسائل (٢) ـ غريبة جدّا ومخالفة لظاهر صدر الرواية ؛ لعدم ارتباط استناد الحلّيّة إلى سوق المسلمين بالمقام ، فمقتضى حفظ التناسب والارتباط أنّه لا موضوعيّة للسوق في الرواية ، بل معناه حكاية الإمام عليه‌السلام ما يعمل به بالمباشرة ، فالذيل مؤيّد للصدر في عدم وجوب الاجتناب عن الشبهات الغير المحصورة.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٣٣.

(٢) المصدر السابق.

٣٩٢

ومنها : ما أفاده المحقّق الحائري رحمه‌الله في كتاب الدرر ، وتوضيحه : أنّ تنجّز التكليف عند العقلاء عبارة عن كونه بحيث يصحّ للمولى الاحتجاج على العبد والمؤاخذة على مخالفته ، وهذا المعنى غير متحقّق في الشبهة الغير المحصورة ؛ لأنّ احتمال الحرام قد بلغ من الضعف إلى حدّ لا يكون موردا لاعتناء العقلاء واعتمادهم عليه ، بل ربّما يعدّون من رتّب الأثر على هذا النحو من الاحتمال سفيها خارجا عن الطريقة العقلائية.

ألا ترى أنّ من كان له ولد في بلد عظيم كثير الأهل ، فسمع وقوع حادثة في ذلك البلد منتهية إلى قتل واحد من أهله ، لو رتّب الأثر على مجرّد احتمال كون المقتول هو ولده فأقام التعزية والتضرّع يعدّ مذموما عند العقلاء ، موردا لطعنهم ، بل لو كان مثل هذا الاحتمال سببا لترتيب الأثر عليه لانسدّ باب المعيشة وسائر الأعمال ، كما هو واضح.

وبالجملة ، فالتكليف وإن كان معلوما لدلالة الإطلاق عليه أو نهوض أمارة شرعيّة على ثبوته ، إلّا أنّ في كلّ واحد من الأطراف أمارة عقلائيّة على عدم كونه هو المحرّم الواقعي ؛ لأنّ احتماله مستهلك في ضمن الاحتمالات الكثيرة على حسب كثرة الأطراف ، ومع بلوغه إلى هذا الحدّ يكون عند العقلاء بحيث لا يكون قابلا للاعتناء أصلا ، وحينئذ فيجوز ارتكاب جميع الأطراف مع وجود هذه الأمارة العقلائيّة بالنسبة إلى الجميع.

هذا ، ولكنّ المحقّق المزبور بعد توجيهه جواز الارتكاب بما يرجع إلى ذلك قال : ولكن فيما ذكرنا أيضا تأمّل ، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام في كلّ واحد واحد بالخصوص كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها وعدم خروجه عنها؟ وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبة الجزئيّة مع الظنّ بالسلب

٣٩٣

الكلّي؟ (١). انتهى.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الشبهة إنّما تتمّ لو كان متعلّق الاطمئنان متّحدا مع متعلّق العلم ، ولكنه ليس كذلك ؛ لأنّ المعلوم ومتعلّق العلم هو وجود الحرام بين هذه الأطراف بصورة الموجبة الجزئيّة ، ومتعلّق الاطمئنان هو خروج كلّ واحد منها بالقياس إلى غيرها ، ولا يجتمع العلم بالموجبة الجزئيّة مع الظنّ والاطمئنان بالسالبة الكلّيّة في مورد ، فحصل الاختلاف بين المتعلّقين.

والشاهد على ذلك ما يتحقّق في الشبهة المحصورة أيضا من اجتماع العلم بوجود الحرام بين الإنائين مع الشكّ في كلّ واحد منهما أنّه هو المحرّم ، أو الاطمئنان بعدم كونه محرّما ؛ لأنّ ما تعلّق به العلم هو وجود الخمر بينهما ، وما تعلّق به الاطمئنان أو الشكّ هو عدم كون هذا الفرد خمرا ، وعدم كون ذاك الفرد خمرا ، وعدم كون ذلك الفرد خمرا ، والتنافي ثابت بين العلم بالموجبة الجزئيّة والاطمئنان في السلب الكلّي ، لا في المقام كما ذكرنا.

ويمكن إبداء شبهة اخرى ، وهي أنّ الأمارة مطلقا ـ عقليّة كانت أو شرعيّة إنّما تكون معتبرة مع عدم العلم بكونها مخالفة للواقع ، سواء كان العلم تفصيليّا أو إجماليّا ، وفي المقام نعلم إجمالا بأنّ واحدا من هذه الأمارات العقليّة المتكثّرة القائمة على خروج كلّ واحد من الأطراف بالقياس إلى غيرها مخالف للواقع قطعا ؛ للعلم الإجمالي بوجود الحرام بينها.

ولكن يدفع الشبهة : أنّه كما كانت الأمارة قائمة على عدم كون كلّ واحد من الأطراف بالقياس إلى غيره هو المحرّم الواقعي ، كذلك هنا أمارة عقلائيّة على عدم كون كلّ أمارة بالقياس إلى غيرها هي الأمارة المخالفة للواقع ؛ لأنّ الشبهة فيه أيضا غير محصورة ، فتأمّل.

__________________

(١) درر الفوائد : ٤٧١.

٣٩٤

ضابطة الشبهة الغير المحصورة

وقع البحث والاختلاف في ضابطة الشبهة الغير المحصورة حسب اختلاف الأدلّة التي استدلّ بها لعدم وجوب الاحتياط فيها ، وقد ذكرنا دليلا بعنوان الإجماع ، ودليلا بعنوان الروايات ، ودليلا عن المحقّق الحائري رحمه‌الله ولا يكون المدار في جميعها عنوان الشبهة الغير المحصورة ، بل يختلف العنوان المأخوذ في كلّ دليل حسب الأدلّة ؛ إذ لا يكون في الروايات ـ مثلا ـ من عنوان الشبهة الغير المحصورة أثر ولا خبر ؛ لكونها في الحقيقة من الاصطلاحات الفقهيّة لا الروائيّة ، فلا بدّ من ملاحظة كلّ عنوان مأخوذ في أدلّة عدم وجوب الاحتياط ، فلو تمسّك فيها بالإجماع فالواجب الرجوع فيها إلى العرف في تعيين مفهومها.

وقد اختلفت كلمات الأعاظم في تحديد المعنى العرفي ، فقال جمع منهم : إنّه عبارة عمّا يعسر عدّه ، وقال بعض منهم : إنّه عبارة عمّا يعسر عدّه في زمان قصير ، وأحال تعيين مراتبه أيضا إلى العرف ، وحكي عن بعض آخر منهم امور أخر.

ولكن حيث إنّ الإجماع ممّا لا يجوز التمسّك به ؛ لاختلاف العلل الموجبة للحكم بعدم وجوب الاحتياط ، فلا يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، ولكنّه على تقدير ثبوته لا يقتضي إلّا عدم وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّه القدر المتيقّن منه ، وأمّا جواز المخالفة القطعيّة بارتكاب الجميع فلا يستفاد منه بعد عدم تيقّن كونه معقد الإجماع ، مع أنّه يحتمل قويّا أن يكون المستند للقول بعدم وجوب الاحتياط هو وجوه أخر ، كالروايات الكثيرة الموجودة في المقام ، فلا يكون الإجماع دليلا مستقلّا في قبال النصوص.

٣٩٥

وأمّا لو استند في الحكم إلى الروايات المتقدّمة ونظائرها فليس هنا عنوان الشبهة الغير المحصورة حتّى ينازع في تعيين معناها وبيان مفهومها ؛ لأنّها لا تدلّ إلّا على حلّيّة الشيء المختلط من الحلال والحرام ، وهي وإن كانت مخصّصة بالنسبة إلى الشبهة المحصورة ، إلّا أنّ عنوان المخصّص ليس أيضا هو عنوانها ، بل مورد المخصّص هو ما إذا كان الترخيص في ارتكاب الجميع مستلزما للإذن في المعصية بنظر العقل أو العقلاء ، ففي هذا المورد يتمسّك بالعموم ويحكم بالترخيص.

وممّا ذكرنا يظهر أنّه بناء على هذا الوجه كما لا تكون الموافقة القطعيّة واجبة كذلك لا تكون المخالفة القطعيّة بمحرّمة أصلا ؛ لدلالة الروايات على حلّيّة مجموع الشيء المختلط من الحلال والحرام ، وقد عرفت فيما سبق أنّ مرجع ذلك إلى رفع اليد عن التكليف التحريمي الموجود في البين لمصلحة أقوى ، وحينئذ فلو كان من أوّل الأمر قاصدا لارتكاب الجميع لوجود الخمر بين الأطراف ، ولا يتحقّق العلم بارتكابه إلّا بعد ارتكاب الجميع ، فلا يكون عاصيا ، بل ولا متجرّيا ؛ لعدم كون الخمر الموجود بينها بمحرّم أصلا بعد حصول الاختلاط.

ولو استند في الباب إلى الوجه الذي أفاده في كتاب الدرر فالضابط هو بلوغ كثرة الأطراف إلى حدّ يكون احتمال كون كلّ واحد منها هو المحرّم الواقعي ضعيفا ، بحيث لم يكن معتنى به عند العقلاء أصلا ، فكلّما بلغت الكثرة إلى هذا الحدّ تصير الشبهة غير محصورة.

ومقتضى هذا الوجه أيضا جواز ارتكاب الجميع ؛ لأنّ المفروض أنّ في كلّ واحد من الأطراف أمارة عقلائيّة على عدم كونه هو المحرّم الواقعي حتّى فيما

٣٩٦

إذا بقي طرف واحد ، فإنّ الأمارة أيضا قائمة على عدم كونه هو المحرّم ، بل المحرّم كان في ضمن ما ارتكبه.

نعم ، لو كان قصده من أوّل الأمر ارتكاب المحرّم الواقعي بارتكاب الجميع ، وارتكب واحدا منها واتّفق مصادفته للمحرّم الواقعي تصحّ عقوبته عليه ، كما لا يخفى.

كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله في ضابط الشبهة الغير المحصورة

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله أفاد في بيان ضابط الشبهة الغير المحصورة ما ملخّصه : إنّ ضابط الشبهة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدّا لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال من أكل أو شرب أو نحوهما لأجل الكثرة ، فلا بدّ في الشبهة الغير المحصورة من اجتماع كلا الأمرين : كثرة العدد ، وعدم التمكّن من جمعه في الاستعمال ، فالعلم بنجاسة حبّة من الحنطة في ضمن حقّه منها لا يكون من قبيل الشبهة الغير المحصورة ، لإمكان استعمال الحقّة من الحنطة بطحن وخبز وأكل ، مع أنّ نسبة الحبّة إلى الحقّة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف ، كما أنّ مجرّد عدم التمكّن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال فقط لا يوجب أن تكون الشبهة غير محصورة ؛ إذ ربّما لا يتمكّن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضا محصورة ، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب ، فلا بدّ فيها من اجتماع كلا الأمرين.

ومنه يظهر عدم حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ المفروض عدم التمكّن العادي منها ، وكذا عدم وجوب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ الوجوب يتوقّف على تعارض الاصول في الأطراف ، وتعارضها يتوقّف على حرمة المخالفة القطعيّة ، ليلزم من جريانها مخالفة عمليّة للتكليف

٣٩٧

المعلوم في البين ، فإذا لم تحرم ـ كما هو المفروض ـ لم يقع التعارض ، ومع عدمه لا يجب الموافقة القطعيّة (١). انتهى.

واستشكل عليه استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله :

أوّلا : بأنّ المراد بالتمكّن العادي من الجمع في الاستعمال إن كان هو الإمكان دفعة ، أي في أكل واحد أو شرب واحد أو لبس كذلك وهكذا ، فهذا يوجب دخول أكثر الشبهات المحصورة في هذا الضابط ؛ لأنّ كثيرا منها ممّا لا يمكن عادة جمعها في استعمال واحد ، لأجل كثرة أطرافه المحصورة ، وإن كان المراد هو الإمكان ولو تدريجا بحسب مرور الأيّام والشهور والسنين ، فلا زمه خروج أكثر الشبهات الغير المحصورة ؛ لإمكان جمعها في الاستعمال تدريجا ، كما هو واضح.

وثانيا : بأنّك عرفت فيما تقدّم مرارا أنّ التكاليف الفعليّة ثابتة بالنسبة إلى جميع المخاطبين ، ولا تكون مشروطة بالعلم والقدرة ونظائرهما ، غاية الأمر أنّ الجاهل والعاجز معذوران في المخالفة ؛ لأنّ الملاك في حسن الخطاب بنحو العموم واستهجانه غير ما هو المناط فيهما بالنسبة إلى الخطاب الشخصي ، فلو لم يكن الشخص قادرا على ترك المنهي عنه يكون معذورا ، كما أنّه لو لم يكن قادرا على إتيان المأمور به يكون كذلك ، فالموجب للمعذوريّة إنّما هو عدم القدرة على الترك في الأوّل وعلى الفعل في الثاني ؛ لتحقّق المخالفة ، وأمّا لو لم يكن قادرا على الفعل في الأوّل وعلى الترك في الثاني ، فلا معنى للعذر هنا ؛ لعدم حصول المخالفة منه أصلا ، كما لا يخفى.

وحينئذ فما أفاده من أنّ عدم التمكّن العادي من المخالفة القطعيّة يوجب

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ١١٧ ـ ١١٩.

٣٩٨

أن لا تكون محرّمة ممنوع ؛ لأنّ عدم التمكّن لا يوجب تحقّق المنهي عنه حتّى يرتفع حكمه أو يصير معذورا ، فتدبّر.

وثالثا : بأنّه لو سلّم ما ذكر فنقول : إنّ ما تعلّق به التكليف التحريمي هو الخمر الموجود في البين ، فلا بدّ من ملاحظة عدم التمكّن بالنسبة إليه ، وأمّا الجمع بين الأطراف الذي هو عبارة اخرى عن المخالفة القطعيّة ، فلا يكون موردا لتعلّق التكليف حتّى يكون عدم التمكّن العادي من المكلّف به موجبا لرفع التكليف المتعلّق به.

وبالجملة ، ما هو مورد لتعلّق التكليف ـ وهو الخمر الموجود بين الأطراف المتكثّرة ـ يكون متمكّنا من استعماله في نفسه ؛ لأنّه لا يكون إلّا في إناء واحد ـ مثلا ـ وما لا يتمكّن من استعماله ـ وهو الجمع بين الأطراف ـ لا يكون متعلّقا لحكم تحريمي أصلا. نعم ، يحكم العقل بلزوم تركه في أطراف الشبهة المحصورة أو غيرها أيضا بناء على بعض الوجوه ، كما عرفت.

مقتضى القاعدة عند الشكّ في كون شبهة محصورة أو غير محصورة

ثمّ إنّه بعد ما عرفت اختلاف الحكم بين الشبهة المحصورة وغيرها ـ من وجوب الاجتناب في الشبهات المحصورة وعدم وجوبه في الشبهات الغير المحصورة ـ لو شكّ في كون شبهة محصورة أو غيرها من جهة المفهوم أو المصداق ، فهل القاعدة تقتضي الاحتياط أم لا؟

ولنتكلّم في ذلك بناء على الوجهين الأخيرين اللذين يمكن الاستدلال بهما لنفي وجوب الاجتناب في الشبهة الغير المحصورة ـ أي الروايات الدالّة على الحلّيّة ، وما ذكره المحقّق الحائري رحمه‌الله من تحقّق أمارة عقلائيّة في كلّ واحد من أطراف الشبهة الغير المحصورة الحاكمة بأنّه ليس الحرام الواقعي والحرام

٣٩٩

المعلوم بالإجمال ـ فبناء على كون الدليل في المقام هي الروايات الدالّة على حلّيّة المختلط من الحلال والحرام ، مثل : صحيحة عبد الله بن سنان ، وهي تعمّ كلتا الشبهتين المحصورة وغير المحصورة ، ولا بدّ من إخراج الشبهة المحصورة من عمومها ، فإن قلنا : بأنّها قد خصّصت بالإجماع على وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة بعنوانها ، فإن كانت الشبهة مفهوميّة دائرة بين الأقلّ والأكثر يجب الرجوع في مورد الشكّ إلى الروايات الدالّة على الحلّيّة ؛ للزوم الأخذ بالقدر المتيقّن ، كما هو الشأن في نظائر المقام ممّا كان الشكّ من جهة المفهوم وتردّده بين الأقلّ والأكثر.

وإن كانت الشبهة مصداقيّة كما إذا علم بأنّ الألف يكون من الشبهة الغير المحصورة ونصفه من المحصورة ، ولكن شكّ في أنّ أطراف هذه الشبهة الخارجيّة هل تبلغ الألف أو لا تتجاوز عن نصفه؟ فلا مجال من الرجوع إلى الإجماع بعد عدم إحراز موضوعه ، ولا من الرجوع إلى الروايات ؛ لأنّه من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص ، وقد حقّق سابقا عدم الجواز ، بل اللازم الرجوع إلى أدلّة التكاليف الأوّليّة والحكم بوجوب الاجتناب ؛ لعدم ثبوت المرخّص ، كما هو واضح.

هذا كلّه لو كان المخصّص للروايات هو الإجماع على خروج عنوان الشبهة المحصورة ، وأمّا لو كان المخصّص هو حكم عقل العرف بلزوم رفع اليد عن العموم في ما يوجب الإذن في المعصية ، فاللازم بناء على ما ذكرنا سابقا من أنّ الدليل العقلي إنّما يكون كالمخصّص المتّصل ـ ضروريا كان أو نظريّا ـ ، يكون العامّ من أوّل الأمر مقيّدا بغير صورة يستلزم الإذن في المعصية الذي هو قبيح ، فلا يصحّ التمسّك به في مورد الشكّ ؛ لأنّه من قبيل التمسّك بالعامّ في

٤٠٠