دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

استصحاب الكلّي.

ويمكن أن يقرّر هذا الوجه بنحو آخر ، وهو : أنّ البقية كانت واجبة بالوجوب النفسي الضمني ، وقد علم بارتفاعه ، وشكّ في حدوث الوجوب النفسي الاستقلالي ، فأصل الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي كان متيقّنا ، والآن شكّ في ارتفاعه بعد ارتفاع بعض مصاديقه لأجل احتمال حدوث مصداق آخر.

ويرد على هذا الوجه : أوّلا : ـ مضافا إلى منع كون الأجزاء واجبة بالوجوب الغيري أو النفسي الضمني ، بل قد عرفت أنّها واجبة بعين وجوب الكلّ ـ أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب إمّا حكما مجعولا شرعا ، وإمّا موضوعا ذا أثر شرعي ، والجامع بين الوجوب النفسي والغيري وكذا بين الضمني والاستقلالي لا يكون شيئا منهما ، أمّا عدم كونه موضوعا ذا أثر شرعي فواضح ، وأمّا عدم كونه حكما مجعولا فلأنّ الحكم المجعول هو كلّ واحد من الوجوبين.

وبعبارة اخرى : المجعول هو حقيقة الوجوب ، وهي ما يكون بالحمل الشائع وجوبا ، وأمّا الجامع فهو يكون أمرا انتزاعيّا غير مجعول ، والعقل بعد ملاحظة حكم الشارع بوجوب فعل وكذا حكمه بوجوب فعل آخر ينتزع عنهما أمرا مشتركا جامعا من دون أن يكون ذلك الأمر الانتزاعي مجعولا ، بل لا يعقل الجامع بين الوجوبين لو افيد الوجوب بمثل هيئة «افعل» التي يكون الموضوع له فيها خاصّا ، كما هو الشأن في جميع الحروف على ما حقّقناه في مبحث الألفاظ.

وبالجملة ، لا مجال لاستصحاب الجامع أصلا.

٥٢١

وثانيا : أنّه لو قطع النظر عن ذلك نقول : إنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو كان مجموع البقية متعلّقا للوجوب الغيري ، فيقال : إنّه كان واجبا به ، وشكّ بعد ارتفاعه في حدوث الوجوب النفسي لها ، مع أنّه ممنوع جدّا ، ضرورة أنّ الوجوب الغيري إنّما هو بملاك المقدّميّة ، والموصوف بهذا الوصف إنّما هو كلّ واحد من الأجزاء ، لا المجموع بعنوانه ، فالوجوب الغيري إنّما تعلّق بكلّ واحد من الأجزاء الغير المتعذّرة ، والمدّعى إنّما هو إثبات وجوب نفسي واحد متعلّق بمجموع البقية.

وبعبارة اخرى : القضيّة المشكوكة هو وجوب واحد متعلّق بالباقي المقدور ، والقضيّة المتيقّنة هي الوجوبات المتعدّدة المتعلّق كلّ واحد منها بكلّ واحد من الأجزاء ، فلا تتّحدان.

الثاني : استصحاب الوجوب النفسي الاستقلالي المتعلّق بالمركّب ، وتعذّر بعض أجزائه أو شرائطه لا يضرّ بعد ثبوت المسامحة العرفيّة في موضوع الاستصحاب ، كما لو فرض أنّ زيدا كان واجب الإكرام ، ثمّ شكّ في وجوب إكرامه بعد تغيّره بمثل قطع اليد أو الرجل ، فإنّه لا إشكال في جريان هذا الاستصحاب لبقاء الشخصيّة وعدم ارتفاعها بمثل ذلك التغيّر ، وكما في استصحاب الكرّيّة ، أيضا.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ قياس العناوين الكلّيّة بالموجودات الخارجيّة قياس مع الفارق ؛ لأنّ تغيّر الحالات وتبدّل الخصوصيّات في الخارجيّات لا يوجب اختلاف الشخصيّة وارتفاع الهذيّة. وهذا بخلاف العناوين الكلّيّة ، فانّ الاختلاف بينها يتحقّق بمجرّد اختلافها ولو في بعض القيود ؛ فإنّ عنوان الإنسان الأبيض ـ مثلا ـ مغاير لعنوان الإنسان الغير الأبيض ، فالإنسان المقيّد بالأبيض لا يعقل أن ينطبق على الإنسان الأسود ، وكذا العكس ، وكذا الإنسان

٥٢٢

العالم بالنسبة إلى الإنسان الغير العالم ، فإذا كان من يجب إكرامه هو الإنسان العالم ـ مثلا ـ فاستصحاب وجوب إكرامه لا يفيد وجوب إكرام الإنسان الغير العالم أيضا ، كما لا يخفى.

وحينئذ نقول : إنّ الواجب في المقام هي الصلاة المتقيّدة بالسورة ـ مثلا ـ والمفروض سقوط هذا الوجوب بمجرّد عروض التعذّر بالنسبة إلى السورة ، والصلاة الخالية عنها عنوان آخر مغاير للصلاة مع السورة ، فالقضيّة المتيقّنة والمشكوكة متغايرتان.

وثانيا : أنّ تبدّل الحالات إنّما لا يضرّ بجريان الاستصحاب إذا كان الحكم متعلّقا بعنوان شكّ في مدخليّة ذلك العنوان بقاء ، كما أنّه دخيل فيه حدوثا.

وبعبارة أخرى شكّ في كونه واسطة في العروض أو واسطة في الثبوت ، نظير الحكم على الماء المتغيّر بالنجاسة ، فإنّ منشأ الشكّ في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر إنّما هو الشكّ في كون عنوان التغيّر هل له دخل فيه حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط؟ وأمّا إذا علم مدخليّة العنوان في الحكم مطلقا ، كما إذا قال : يجب عليك إكرام الإنسان الأسود ، فلا معنى لجريان الاستصحاب بعد زوال العنوان ، والمقام من هذا القبيل ؛ ضرورة أنّا نعلم بمدخليّة السورة المتعذّرة ـ مثلا ـ في الأمر المتعلّق بالمركّب ، وإلّا لا تكون جزء له ، ففرض الجزئيّة الراجعة إلى كونه مقوّما للمركّب بحيث لا يتحقّق بدونه لا يجتمع مع الشكّ في مدخليّته ، فيه وأنّ شخص ذلك الأمر المتعلّق بالمركّب هل هو باق أو مرتفع؟ ضرورة ارتفاع ذلك الشخص بمجرد نقصان الجزء الراجع إلى عدم تحقّق المركّب ، كما هو واضح.

الثالث : استصحاب الوجوب النفسي الشخصي ، بتقريب : أنّ البقية كانت

٥٢٣

واجبة بالوجوب النفسي لانبساط الوجوب المتعلّق بالمركّب على جميع أجزائه ، فإذا زال الانبساط عن الجزء المتعذّر بسب التعذّر يشكّ في ارتفاع الوجوب عن باقي الأجزاء ، فيستصحب ويحكم ببقائه كما كان من انبساط الوجوب عليه.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ دعوى الانبساط في الأمر المتعلّق بالمركّب ممّا لا وجه لها بعد كون الإرادة أمرا بسيطا غير قابل للتجزئة ، وكون المركّب أيضا ملحوظا شيئا واحدا وأمرا فاردا ؛ لما عرفت سابقا من أنّه عبارة عن ملاحظة الأشياء المتعدّدة والحقائق المتكثّرة شيئا واحدا ، بحيث كانت الأجزاء فانية فيه غير ملحوظة ، فتعلّق الإرادة به إنّما هو كتعلّقها بأمر بسيط ، ولا معنى لانبساطها عليه ، وهكذا الكلام في الوجوب والبعث الناشئ من الإرادة ، فإنّه أيضا أمر بسيط لا يقبل التكثّر والتعدّد.

وثانيا : أنّه على فرض تسليم الانبساط نقول : إنّ ذلك متفرّع على تعلّق الوجوب بالمجموع المركّب ؛ ضرورة أنّه نشأ من الأمر المتعلّق بالمجموع ، وبعد زواله يقينا ـ كما هو المفرض ـ لا معنى لبقائه منبسطا على الباقي ، فالقضيّة المتيقّنة قد زالت في الزمان اللاحق قطعا ، فلا مجال حينئذ للاستصحاب.

فاتّضح من جميع ما ذكرنا : أنّ التمسّك بالاستصحاب لا يتمّ على شيء من تقريراته المتقدّمة.

التمسّك بقاعدة الميسور لإثبات وجوب باقي الأجزاء

ثمّ إنّه قد يتمسّك لإثبات وجوب الباقي أيضا بقاعدة الميسور التي يدلّ عليها النبويّ المعروف : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» ، والعلويّان

٥٢٤

المعروفان : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (١) ، و «الميسور لا يترك بالمعسور» (٢).

وقد اشتهر التمسّك بها على ألسنة المتأخّرين ، ولم يعلم ذكرها في كلمات المتقدّمين ، فما ادّعي من أنّ شهرتها تغني عن التكلّم في سندها غفلة عن أنّ الشهرة الجابرة لضعف الرواية هي الشهرة بين القدماء من الأصحاب ، وهي مفقودة في المقام.

الكلام في مفاد النبويّ

وكيف كان ، فقد روى النبويّ مرسلا في الكفاية (٣) ، مصدّرا بهذا الصدر ، وهو : أنّه خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «إنّ الله كتب عليكم الحجّ» ، فقام عكاشة ـ ويروى سراقة بن مالك ـ فقال : في كلّ عامّ يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثا ، فقال : «ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم ، والله ، لو قلت : نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو تركتكم لكفرتم ، فاتركونى ما تركتكم وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (٤).

وقد رواه في محكي العوالي من دون هذا الصدر (٥) ، كما أنّه قد روى الصدر من دون هذا القول مع اختلاف يسير.

وكيف كان ، فالكلام قد يقع فيها مع قطع النظر عن هذا الصدر ، وقد يقع مع ملاحظته.

__________________

(١) عوالى اللئالي ٤ : ٥٨ ، ٢٠٧.

(٢) عوالى اللئالي ٤ : ٥٨ ، ٢٠٥.

(٣) كفاية الاصول ٢ : ٢٤٩ ـ ٢٥٢.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٣٨٦ ، بحار الأنوار ٢٢ : ٣١ ، صحيح مسلم ٣ : ١٤٩ ، ١٣٣٧ ، سنن النسائي ٥ : ١١٠.

(٥) عوالى اللئالي ٤ : ٥٨ ، ٢٠٦.

٥٢٥

أمّا الأوّل فالظاهر أنّ المراد بكلمة «الشيء» ما هو معناها الظاهر الذي هو أعمّ من الطبيعة التي لها أفراد ومصاديق ومن الطبيعة المركّبة من الأجزاء ، لا خصوص إحداهما.

كما أنّ الأظهر أن تكون كلمة «من» بمعنى التبعيض ، لا بمعنى التبيين ولا بمعنى «باء» ، وهذا لا ينافي أعمّيّة معنى «الشيء» بدعوى أنّ التبعيض ظاهر في الطبيعة المركّبة ، فإنّا نمنع أن تكون كلمة «من» مرادفة للتبعيض بحيث تستعمل مكانه ، بل الظاهر أن معناها هو الذي يعبّر عنه بالفارسيّة ب (از) ويلاحظ فيه نوع من الاقتطاع ، حيث يقال : فلان من الحوزة العلميّة ـ أي قطعة منها وجزء منها وعضو منها ـ وهذا المعنى يمكن تحقّقه في أفراد الطبيعة أيضا ، كما يقال : زيد من طبيعة الإنسان ، أو من أفراد الإنسان ، أو من نوع الإنسان ، فلا نحتاج إلى التصرف في كلمة «الشيء» ، بل هي باقية في معناها العامّ ، وهو لا ينافي المعنى الشائع ، والأظهر في كلمة «من» التبعيض كما ذكره استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله (١).

وأمّا كلمة «ما» فاستعمالها موصولة وإن كان شايعا بل أكثر ، إلّا أنّ الظاهر كونها في المقام زمانيّة ، ولكن ذلك بملاحظة الصدر ، كما أنّ بملاحظته يكون الظاهر من كلمة «الشيء» هو الأفراد لا الأجزاء ؛ لأنّ الظاهر أنّ إعراضه عن عكاشة أو سراقة إنّما هو لأجل أنّ مقتضى حكم العقل في باب الأوامر لزوم الإتيان بالطبيعة المأمور بها مرّة واحدة ؛ لحصولها بفرد واحد ـ بخلاف باب النواهي ؛ إذ اللازم فيها الانزجار من جميع أفراد الطبيعة في مقام الامتثال ـ وحينئذ فلا مجال معه للسؤال أصلا.

__________________

(١) معتمد الاصول ٢ : ٢٨٥.

٥٢٦

والحاصل : أنّ قوله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» بيان لهذه القاعدة العقليّة ، ومرجعه إلى أنّه إذا أمرتكم بطبيعة ذات أفراد فأتوا منها زمان استطاعتكم ، ولا تكون كلمة «ما» موصولة حتّى يكون الحديث بصدد ، إيجاب جميع المصاديق التي هي مورد للاستطاعة والقدرة ، فسياق الحديث يشهد بأنّ قوله : «إذا أمرتكم ...» إلى آخره ، لا يدل على أزيد ممّا يستفاد من نفس الأمر بطبيعة ذات أفراد ، وهو لزوم إيجادها في الخارج المتحقّق بإيجاد فرد واحد منها ؛ لأنّ الفرد تمام الطبيعة ، والمصداق تمام الماهيّة ، ولا يستفاد منه لزوم الإتيان بالمقدار المستطاع من أفراد الطبيعة حتّى يكون لأجل السؤال عن وجوبه في كلّ عامّ ، فأثّر السؤال في هذا الإيجاب الذي هو خلاف ما تقتضيه القاعدة العقليّة.

وممّا ذكرنا ظهر اختصاص هذا القول بالطبيعة ذات الأفراد والمصاديق ، فلا مجال للاستدلال به للمقام واستفادة لزوم الإتيان ببقية الأجزاء عند تعذّر واحد منها.

وظهر أيضا اندفاع توهّم أن المورد وإن كان هي الطبيعة ذات الأفراد ، إلّا أنّه لا مانع من كون مفاد القاعدة أعمّ منها ومن الطبيعة المركّبة ؛ لأنّ ذلك يتمّ فيما لم يكن المورد قرينة لما يستفاد من القاعدة كما في المقام ، حيث عرفت أنّ الظاهر منها بيان لما هو مقتضى حكم العقل ـ أي البراءة ـ ولا تكون بصدد إفادة تحميل زائد وإيجاب بقية الأجزاء ، فلا يمكن ، إلغاء الخصوصيّة عن المورد وتعميم الحكم بالنسبة إلى المركّب ذات الأجزاء.

مضافا إلى أنّ التعميم يحتاج إلى كون كلمة «ما» موصولة بالنسبة إلى المركّب ذات الأجزاء ، وزمانيّة بالنسبة إلى الطبيعة ذات الأفراد ، فكيف يمكن الالتزام به في استعمال واحد؟

٥٢٧

الكلام في العلوي الأوّل

وأمّا قوله عليه‌السلام في العلوي : «الميسور لا يسقط بالمعسور» فيجري في مفاده احتمالات ، منها : أن يكون المراد أنّ نفس الميسور لا يسقط عن عهدة المكلّف بسبب المعسور ، والظاهر أنّ كلمة «الميسور» عامّ تشمل الميسور من أفراد الطبيعة والميسور من أجزاء الطبيعة المركّبة.

ومنها : أن الميسور لا يسقط حكمه والطلب المتعلّق به بالمعسور.

ومنها : أنّ الميسور لا يسقط عن موضوعيّته للحكم بالمعسور.

ومنها : أنّ الميسور لا يسقط حكمه عن موضوعه بالمعسور.

ولا يخفى أنّه يعتبر في معنى السقوط بعد ملاحظة موارد استعماله أمران :

أحدهما : أن يكون الساقط ثابتا ومتحقّقا قبل عروض السقوط.

ثانيهما : أن يكون السقوط من مكان مرتفع ومحلّ عال.

وحينئذ فنقول : إنّ حمل الحديث على الاحتمال الأوّل لا يوجب الإخلال بشيء من هذين الأمرين المعتبرين في مفهوم السقوط ؛ لأنّ الميسور من الطبيعة يكون ثابتا على عهدة المكلّف بواسطة تعلّق الأمر به.

ويدل عليه ـ مضافا إلى مساعدة العرف ـ التعبير في بعض الروايات عن الصلاة بأنّها دين الله (١) ، وعن الحجّ بأنّه حقّ لله على المستطيع (٢) ، وهذا المعنى يستفاد من آية الحجّ (٣) أيضا.

على أنّ عهدة المكلّف وذمّته كأنّها مكان مرتفع يكون المكلّف به ثابتا فيه

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٨٢ ، الباب ١٢ من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث ٢٦.

(٢) وسائل الشيعة ١١ : ٦٧ ، الباب ٢٥ من كتاب الحجّ ، أبواب وجوب الحجّ وشرائطه ، الحديث ٤ و ٥.

(٣) آل عمران : ٩٧.

٥٢٨

ومحمولا عليه ، فالظاهر من الحديث أنّ الميسور من أفراد الطبيعة أو من أجزائها لا يسقط نفس ذلك الميسور بالمعسور ، ومن المعلوم أنّه لا يلزم تقدير أصلا.

نعم ، بقي هنا شيء وهو : أنّ الثابت في العهدة كان هو الأمر المعسور ، والمفروض سقوطه عن العهدة يقينا ، وأمّا الميسور فلم يكن بنفسه ثابتا في العهدة ، بل كان ثبوته بتبع ثبوت المعسور ، فإذا سقط يسقط الميسور بتبعه ، فلم يكن الميسور ثابتا حتّى ينسب إليه عدم السقوط.

وجوابه : أنّه ليست للمركّبات الاعتباريّة واقعيّة وراء الأجزاء ، فحقيقة الصلاة هي الأجزاء ، فحينئذ يصحّ القول بأنّ الركوع قبل تعذّر فاتحة الكتاب كان ثابتا في عهدتنا ، وهكذا السجود وأشباه ذلك ـ وإن كان ثبوتها بعنوان بعض المأمور به ، ولكنّه لا يكون مانعا عن التعبير بأنّها كانت ثابتة في عهدتنا ـ فلا يسقط بالمعسور ، فيكون الآن ثابتا بعنوان تمام المأمور به ويكفي في نسبة عدم السقوط مجرّد بقاء الميسور في العهدة ولو بأمر آخر وطلب ثان متحقّق بمجرد السقوط عن المعسور ، فالاختلاف إنّما هو في جهة ثبوت الأمر ، وأمّا أصله فهو باق.

غاية الأمر أنّه كان في الابتداء بتبع المعسور ، وبعد تحقّق العسر تعلّق به أمر آخر مستقلّ ، فأصل الثبوت في العهدة الذي هو الملاك للتعبير بعدم السقوط كان متحقّقا من الأوّل ولم يعرض له سقوط أصلا.

وهذا نظير اختلاف الدعامة التي بها كان السقف محفوظا على حاله ، فإنّ تبديلها وتغييرها لا يوجب سقوط السقف وإن كانت الجهة لعدم السقوط مستندة في السابق إلى الدعامة الاولى ، وفي اللاحق إلى الدعامة الثانية.

٥٢٩

فيكون الحديث من حيث الدلالة في ما نحن فيه قويّا على هذا الاحتمال ، ولا يكون فيه مخالفة للظاهر وأمثال ذلك.

ومن الاحتمالات التي تستفاد من كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله (١) وعدّة من الأعاظم (٢) : أنّ مرجع الضمير في قوله : «لا يسقط» هو الميسور بماله من الحكم ، كما في مثل «لا ضرر ولا ضرار» حيث إنّ ظاهره نفي ما له من تكليف أو وضع.

ويرد عليه : أوّلا : أنّه خلاف الظاهر ؛ إذ الظاهر كون الأمر الغير الساقط هو نفس الميسور ، وليس من الحكم في العبارة أثر ولا خبر.

وثانيا : أنّ الثابت في عهدة الإنسان عبارة عمّا يعبّر عنه بالدين أو الحقّ ، وهو المأمور به ـ أي الصلاة والحجّ ـ لا الحكم والوجوب ، إلّا أنّ الوجوب سبب وعلّة لتحقّق هذا الدين ، فما لا يكون ثابتا في الذمّة ، كيف يمكن القول بسقوطه أو عدم سقوطه عنها؟

وثالثا : أنّ الحكم الأوّل الثابت قبل التعذّر قد ارتفع بسبب التعذّر ، ولا يعقل بقاء شخص ذلك الحكم ، والحكم المتعلّق بالمأمور به بعد تعذّر بعض الأجزاء حكم آخر ، فإن كان مرجع الضمير عبارة عن الحكم لا يمكن القول بأن الحكم الأوّل باق ؛ لسقوطه قطعا ، فالفرق واضح بين إرجاع ضمير قوله : «لا يسقط» إلى نفس الميسور ، وأنّه بمنزلة السقف كما أنّ السقف باق ، ولم يسقط بتبديل الدعامة ، كذلك الميسور باق ولم يسقط بتبديل سببه ـ أي الوجوب ـ وإرجاعه إلى الحكم والدعامة ؛ إذ لا شكّ في سقوطهما.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٥٢.

(٢) فوائد الأصول ٤ : ٢٥٥ ، نهاية الافكار ٣ : ٤٥٧.

٥٣٠

فالإنصاف : أنّه لا مجال للإشكال في ظهور الحديث فيما ذكرنا ، وعليه فيتمّ الاستدلال به للمقام ؛ لعدم اختصاصه بالميسور من أفراد العام ، بل الظاهر كونه أعمّ منه ومن الميسور من أجزاء الطبيعة المأمور بها.

نعم ، يبقى الكلام في اختصاصه بالواجبات أو شموله للمستحبّات أيضا ، والظاهر هو الأوّل ؛ لأنّ اعتبار الثبوت في العهدة واشتغال الذمّة ـ كما يستفاد من كلمة «لا يسقط» ـ يتنافي مع كونه مستحبّا ، كما هو واضح.

نعم ، لو قلنا بشمول الحديث للمستحبّات لا يبقى مجال للاستدلال به حينئذ ؛ لأنّه يصير عدم السقوط أعمّ من الثبوت بنحو اللزوم ، فيحتمل أن يكون الثابت في الواجبات أيضا هو الثبوت ولو بنحو الاستحباب.

نعم ، لو كان المراد من الحديث هو عدم سقوط الميسور بما له من الحكم تمّ الاستدلال به حينئذ ولو قلنا بشموله للمستحبّات ، ولكن قد عرفت فساد هذا الاحتمال.

الكلام في مفاد العلوي الثاني

وأمّا العلوي الثاني وهو قوله : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» فلا يخفى أنّ الظاهر من كلمة الموصول أو الموضوع في القضيّة هو مطلق الأفعال الراجحة ، واجبة كانت أو مستحبّة ، ولا يشمل المباحات والمكروهات والمحرّمات ـ إلّا أنّ المخرج لهذه الموارد الثلاثة ، هل هو عنوان الحكم كما قال به الشيخ رحمه‌الله ، أو عنوان الموضوع قبل أن يصل إلى الحكم كما هو التحقيق؟ ـ لكن يعارضه ظهور قوله : «لا يترك» ـ أي الحكم في القضيّة ـ في حرمة الترك ، وهي غير متحقّقة في المستحبّات ، فيختصّ بالواجبات بناء على ترجيح ظهور الذيل ، وكون «لا يترك» أظهر في مفاده من الموصول في العموم ، كما أنّه لا يدلّ

٥٣١

إلّا على مرجوحيّة الترك لو قلنا بترجيح ظهور الصدر لا حرمته ، فالأمر يدور بين ترجيح أحد الظهورين على الآخر.

وما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه‌الله من أنّ قوله : «لا يترك» كما أنّه يصير قرينة على تخصيص الصدر بغير المباحات والمكروهات والمحرّمات ، كذلك لا مانع من أن يصير قرينة على إخراج المستحبّات أيضا ؛ لعدم الفرق بينها (١) ؛ محلّ نظر ، بل منع ؛ لأنّ اختصاص الموصول بغير الموارد الثلاثة إنّما هو بواسطة قوله : «لا يدرك كلّه» ، لأنّ التعبير بالإدراك إنّما هو فيما كان الشيء أمرا راجحا يحصل الداعي إلى إتيانه لذلك ، ولا يقال في مثل المحرّمات والمكروهات ، بل وكذا المباحات ، كما يظهر من تتّبع موارد استعماله ، فلا يكون تخصيص الموصول بغيرها لأجل قوله : «لا يترك» حتّى لا يفرّق بينها وبين المستحبّات ، فالظاهر دوران الأمر بين ترجيح أحد الظهورين.

فيمكن أن يقال بترجيح ظهور الذيل لأجل ترجيح ظهور الحكم على ظهور الموضوع ، كما قد قيل.

ويمكن أن يقال بترجيح ظهور الصدر ؛ لأنّه بعد انعقاد الظهور له وتوجّه المكلّف إليه يمنع ذلك من انعقاد الظهور للذيل. فظهور الصدر مانع عن أصل انعقاد الظهور بالنسبة إلى الذيل ، وظهور الذيل لا بدّ وأن يكون رافعا لظهور الصدر ، فيدور الأمر حينئذ بين الرفع والدفع ، والثاني أهون من الأوّل ، فالمستفاد من الحديث رجحان الإتيان بالميسور لا لزومه.

فلا يكون الحديث صالحا للاستدلال في ما نحن فيه.

ثمّ إنّ المراد بكلمة «كلّ» في الموضعين يحتمل أن يكون هو الكلّ المجموعي

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٩٨ ـ ٤٩٩.

٥٣٢

الذي له أجزاء بنحو العام المجموعي ، ويحتمل أن يكون كلّ جزء من أجزاء المجموع بحيث كان كلّ جزء على حياله واستقلاله ملحوظا ، ويحتمل أن يكون المراد بها في الموضع الأوّل هو المعنى الأوّل ، وفي الموضع الثاني هو المعنى الثاني ، ويحتمل العكس فهذه أربعة احتمالات متصوّرة بحسب بادئ النظر.

ولكن التأمّل يقضي بأنّه لا سبيل إلى حمل كلمة «كلّ» في الموضع الثاني على الكلّ المجموعي ؛ لأنّ معنى درك المجموع هو الإتيان به ، وعدم دركه قد يتحقّق بعدم درك شيء منه ، وقد يتحقّق بعدم درك بعض الأجزاء فقط ؛ ضرورة أنّه يصدق عدم إدراك المجموع مع عدم إدراك جزء منه ، وأما ترك المجموع فهو كعدم دركه ، وعدم تركه كدركه ، فمعنى عدم ترك المجموع هو إدراكه والإتيان به بجميع أجزائه.

وحينئذ فلو حمل الكلّ في الموضع الثاني على الكلّ المجموعي يصير مضمون الرواية هكذا ، ما لا يدرك مجموعه أو كلّ جزء منه لا يترك مجموعه ويجب الإتيان به ، وهذا بيّن الفساد ، فيسقط من الاحتمالات الأربعة احتمالان.

وأمّا الاحتمالان الآخران المشتركان في كون المراد بكلمة «كلّ» في الموضع الثاني هو كلّ جزء من أجزاء المجموع فلا مانع منهما ؛ لأنّه يصير المراد من الرواية على أحد الاحتمالين هكذا : ما لا يدرك مجموعه لا يترك كلّ جزء من أجزائه ، وعلى الاحتمال الآخر : ما لا يدرك كلّ جزء من أجزائه لا يترك كلّ جزء منها ، وهذا أيضا كالمعنى الأوّل معنى صحيح ؛ لأنّ عدم درك كلّ جزء يصدق بدرك بعض الأجزاء ، كما أنّ عدم ترك كلّ جزء يتحقّق بالإتيان بالبعض.

فالمستفاد منه أنّه مع عدم إدراك جميع الأجزاء ودرك البعض يجب الإتيان بالبعض ، ولا يجوز ترك الكلّ.

نعم ، ذكر الشيخ الأنصاري رحمه‌الله أنّه لا بدّ من حمل كلمة «كلّ» في قوله :

٥٣٣

«ما لا يدرك كلّه» على الكلّ المجموعي لا الأفرادي ؛ إذ لو حمل على الأفرادي كان المراد: ما لا يدرك شيء منها لا يترك شيء منها ، ولا معنى له (١).

وجوابه : أنّ حمل كلمة «كلّ» على الكلّ الأفرادي لا يحتاج إلى إضافة كلمة «شيء» في العبارة ، بل نقول : الطبيعة المركّبة التي لا يدرك كلّ جزء من أجزائها لا يترك كلّ جزء منها ، لا شكّ في صحّة هذا التعبير عن العامّ الأفرادي ، كما أنّه يصحّ في العامّ الاستغراقي ـ مثل «أكرم كلّ عالم» ـ التعبير بأنّه : إن لم يمكن إدراك إكرام كلّ عالم لا يترك إكرام كلّه.

ولكن لا يخفى أنّ ما أفاده الشيخ هنا ـ كما أشار إليه استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله ـ من فروع النزاع المعروف بينه (٢) وبين المحقّق صاحب الحاشية (٣) في باب المفاهيم ، وهو أنّه إذا كان الحكم في المنطوق حكما عامّا ، فهل المنفي في المفهوم نفي ذلك الحكم بنحو العموم ، أو نفي العموم الغير المنافي لثبوت البعض ، مثلا قوله عليه‌السلام : «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء» (٤) ، هل يكون مفهومه أنّه إذا لم يبلغ ذلك المقدار ينجّسه جميع الأشياء النجسة ، أو أنّ مفهومه تنجّسه بشيء منها الغير المنافي لعدم تنجّسه ببعض النجاسات؟

والحقّ مع صاحب الحاشية ؛ لأنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم في المنطوق عند انتفاء الشرط ، لا ثبوت حكم نقيض للحكم في المنطوق ، وقد حقّقنا ذلك في باب المفاهيم من مباحث الألفاظ.

وحينئذ فالمراد ب «ما لا يدرك كلّه» في المقام بناء على هذا الاحتمال :

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٩٩.

(٢) الطهارة للشيخ الأنصاري : ٤٩ ، السطر ٢٦ ، مطارح الأنظار : ١٧٤ ، السطر ٣١.

(٣) هداية المسترشدين : ٢٩١.

(٤) وسائل الشيعة ، ١٥٨ ، كتاب الطهارة ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ ، ٢ ، ٥ و ٦.

٥٣٤

ما لا يدرك ولو بعض أجزائه ، لا ما لا يدرك شيء منها ، ولكنّ الظاهر أنّ المراد به هو الكلّ المجموعي في الموضع الأوّل ، وأمّا الموضع الثاني فقد عرفت أنّه لا بدّ من حمله على الكلّ الأفرادي ، فلا مناقشة في الاستدلال بالحديث من هذه الجهة ، وأنّ المناقشة فيه من حيث شموله للمستحبّات.

تتمة : في اعتبار صدق الميسور في جريان القاعدة

قد اشتهر بينهم أنّه لا بدّ في جريان قاعدة الميسور من صدق الميسور على الباقي عرفا ـ كصدق عنوان الصلاة على الباقي ـ ولا بدّ من ملاحظة أدلّتها ليظهر حال هذا الشرط.

فنقول : أمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا ما استطعتم» فدلالته على ذلك تتوقّف على أن يكون المراد منه : إذا أمرتكم بطبيعة لها أفراد ومصاديق ، فأتوا من تلك الطبيعة ـ أي أفرادها ـ ما يكون مستطاعا لكم ، وحينئذ فالفرد المستطاع أيضا فرد للطبيعة صادق عليه عنوانها كالصلاة والوضوء ونحوهما. وحينئذ فلو لم يكن عنوانها صادقا على الفاقد للأجزاء المعسورة لا يمكن إثبات وجوبه بهذا الحديث ؛ لأنّه لا بدّ وأن يكون مصداقا لها ، غاية الأمر أنّه مصداق ناقص ، والمعسور فرد كامل.

وأمّا بناء على ما استظهرنا من الحديث من كون المراد منه الإتيان بالطبيعة المأمور بها زمان الاستطاعة والقدرة ، فلا يستفاد منه هذا الشرط ، كما لا يخفى.

وأما قوله عليه‌السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» ففيه احتمالان : الأوّل : أن يكون المراد الميسور من أفراد الطبيعة المأمور بها لا يسقط بالمعسور من أفراد الطبيعة.

الثاني : أن يكون المراد الميسور من أجزاء الطبيعة المركّبة لا يسقط بالمعسور من أجزاء الطبيعة المركّبة.

٥٣٥

ودلالة هذا الحديث على الشرط المذكور مبنيّة على الاحتمال الأوّل ؛ إذ لازم ذلك فرديّة الميسور والمعسور للطبيعة ، ولازم الفرديّة انطباق عنوان الطبيعة وصدقه عليهما ، فإن لم يصدق العنوان لا تجري القاعدة.

وأمّا على الاحتمال الثاني فلا دلالة له على ذلك ، فتجرى القاعدة وإن كان الميسور جزء واحدا ولم ينطبق عنوان الطبيعة عليه.

وهكذا قوله عليه‌السلام : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» يحتمل أن يكون المراد به أنّ المركّب الذي لا يدرك كلّه لا يترك ذلك المركّب بكلّيّته ، ومعناه حينئذ لزوم الإتيان بالمركّب الناقص بعد تعذّر درك التامّ ، فلا بدّ من صدق العنوان على الباقي وكونه مصداقا للطبيعة المأمور بها.

ويحتمل أن يكون المراد به أنّ المركّب الذي لا يدرك كلّه لا يترك كلّ ذلك المركّب ، أي لا يترك كلّ جزء من أجزائه ، كما استظهرنا هذا المعنى منه ، وعليه لا دلالة له على ذلك ، فلا يستفاد من الروايات اعتبار الشرط المذكور وإن كان اعتباره مفروغا عنه ومسلّما في كلمات الأعاظم.

ثمّ إنّ المرجع في تعيين الميسور على فرض اعتبار هذا الشرط هو العرف ، فكلّ مورد حكم العرف فيه بأنّ الباقي مصداق للطبيعة يحكم فيه بلزوم الإتيان به ، فالخطابات متوجّهة إلى العرف ، وتشخيص أنّ الميسور من الطبيعة أم لا بعهدة العرف. نعم ، لا منافاة بينه وبين دخالة الشارع في بعض الموارد توسعة أو تضييقا ، كما لا يخفى.

تكملة

بقي هنا امور لا بدّ من تعرّضها لتكميل البحث في قاعدة الميسور.

الأمر الأوّل : هل القاعدة تجرّي في صورة تعذّر الشرط أيضا أم لا؟ لا يخفى

٥٣٦

أن جريانها في باب الشرائط متوقّف على الالتزام بأمرين : الأوّل : أن يكون الحديث بمعنى أنّ : «الميسور من الأفراد لا يسقط بالمعسور من الأفراد» وإلّا تنحصر القاعدة بالأجزاء ، ولا يمكن استفادة حكم الشرائط من قوله : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» بلحاظ استعمال كلمة الكلّ في الأجزاء عرفا لا في الشرائط ، وإرجاع التقيّد بالشرائط إلى الأجزاء مسألة عقليّة لا ترتبط بالعرف.

الثاني : أن يكون المرجع في تشخيص المعنى واستفادة المراد من كلمة الميسور والمعسور هو العرف لا العقل ؛ إذ الواجد للشرط والفاقد له يكونان متباينين بنظر العقل ، فالصلاة الفاقدة للوضوء لا يكون مصداقا للطبيعة المأمور بها عقلا ، بخلاف العرف ؛ إذ الاختلاف بين الواجد والفاقد عنده يكون بالنقص والكمال لا بالمباينة ، فالصلاة الفاقدة للشرط صلاة ومصداق ناقص من الطبيعة المأمور بها.

الأمر الثاني : أن العرف كيف يكون مرجعا لتشخيص المراد من الميسور والمعسور في باب العبادات مع أنّ بيان أصل تركيبها واختراعها وخصوصيّاتها بيد الشارع ، وليست من الموضوعات والواقعيّات الخارجيّة حتّى يكون تشخيصها بيد العرف؟ فلا بدّ للشارع من بيانه أيضا.

ولكن لا يخفى أنّ الرجوع إلى العرف لا يكون في أصل معنى الصلاة وحقيقتها وأجزائها ـ مثلا ـ بل بعد بيانها مع جميع الخصوصيّات والشرائط من ناحية الشارع للعرف لا مانع من أن يكون العرف مرجعا لتشخيص الميسور من الأجزاء عن المعسور منها والمقدور منها عن المتعذّر.

ويمكن للعرف تشخيص فرديّة الصلاة الفاقدة للجزء لعنوان الصلاة وعدمها ، وأنّ العنوان المأمور به ينطبق عليها أم لا ، فالمرجع في تشخيص

٥٣٧

الميسور والمعسور هو العرف بلا فرق بين كونه بمعنى الميسور من أجزاء الطبيعة المركّبة أو بمعنى المعسور من أفرادها.

نعم ، لو كان اللازم تشخيص المصلحة أيضا وأنّه هل يتحقّق في الصلاة الفاقدة ما يتحقّق في الصلاة الواجدة من المصلحة أم لا؟ لا سبيل لمرجعيّة العرف ، إلّا أنّه لا يكون من عنوان المصلحة وعدمه في القاعدة وروايتها أثر وخبر ، بل الحكم يدور مدار عنوان «الميسور» و «ما يدرك» ، فمرجعيّة العرف في تشخيص هذا العنوان لا يكون قابلا للإنكار.

الأمر الثالث : أنّ ورود التخصيص إلى القاعدة كثير ، بل الخارج منها أكثر من الباقي كالقادر على الصيام بمقدار لا يبلغ مجموع النهار ، والقادر على ترك جميع المضطرّات إلّا شرب الماء أو الدخان ـ بناء على كونه مضطرّا ـ وأمثال ذلك مع أنّه لم يقل أحد بجريان القاعدة فيها.

وجوابه : أنّه لا يلزم من اعتبار القاعدة تخصيص الأكثر بعد جريانها في مثل الصلاة والوضوء والحجّ ونظائرها ، وكثير من الموارد التي لم يجروا فيها القاعدة إنّما هو لخروجها عنها موضوعا وتخصّصا كالصوم مثلا ، فإنّ عدم حكمهم بوجوب الصوم على القادر عليه بمقدار لا يبلغ مجموع النهار إنّما هو لكون الصوم أمرا بسيطا لا يكون له أجزاء ، ولا جزئيّة لترك المضطرّات ، بل وجود واحد منها مضادّ لهذا الأمر البسيط ، ومورد القاعدة إنّما هو المركّبات ، كما لا يخفى.

ولكن بعد ضعف أسناد الروايات الثلاث التي هي مدرك للقاعدة وعدم جبر ضعفها بالشهرة بين القدماء لا يترتّب عليها ثمرة عمليّة ، إلّا أنّها من الناحية العلميّة قابلة للدقّة والتوجّه.

هذا تمام الكلام في هذه القاعدة.

٥٣٨

فهرس المطالب

المقصد السادس : في بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا

المسألة الاولى : في مباحث القطع.................................................. ٧

المسألة الثانية : في التجرّي....................................................... ٢٥

الإرادة اختياريّة أم لا؟........................................................... ٤٥

المسألة الثالثة : في أقسام القطع.................................................. ٥٧

قيام الأمارات الشرعيّة والاصول العمليّة مقام القطع.................................. ٧١

الموافقة الالتزاميّة................................................................ ٨٣

قطع القطّاع.................................................................... ٨٩

العلم الإجمالي.................................................................. ٩١

مباحث الظنّ................................................................. ١٠٣

حكم الشكّ في الحجّيّة........................................................ ١٢٩

الحجج والأمارات............................................................. ١٣٥

حجّية الظواهر................................................................ ١٣٥

حجّية قول اللغوي............................................................ ١٥١

٥٣٩

حجّيّة الإجماع................................................................ ١٥٥

حجّيّة الشهرة الفتوائيّة......................................................... ١٦٣

حجّيّة الخبر الواحد............................................................ ١٦٩

أدلّة القائلين بعدم حجيّة الخبر الواحد........................................ ١٧١

أدلّة القائلين بحجّيّة الخبر الواحد............................................. ١٧٨

المقصد السابع : في مباحث الاصول العمليّة

الاصول العمليّة............................................................... ٢١٧

القول : في أصالة البراءة

أصالة البراءة................................................................. ٢٢١

المقام الأوّل : في أدلّة الاصوليّين على البراءة...................................... ٢٢٣

الدليل الأوّل : الكتاب..................................................... ٢٢٣

الدليل الثاني : السنّة....................................................... ٢٣١

الدليل الثالث : الإجماع.................................................... ٢٧٢

الدليل الرابع : العقل....................................................... ٢٧٢

المقام الثاني : في أدلّة الأخباريّون على الاحتياط................................... ٢٧٧

الدليل الأوّل : الكتاب..................................................... ٢٧٧

الدليل الثاني : السنّة....................................................... ٢٧٩

الدليل الثالث : العقل...................................................... ٢٨٥

تنبيهات البراءة................................................................ ٢٩٧

التنبيه الأوّل : في جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة.......................... ٢٩٧

التنبيه الثاني : في حسن الاحتياط مطلقا...................................... ٣٠١

التنبيه الثالث : في تقدّم الأصل الموضوعي على البراءة.......................... ٣٠٤

٥٤٠