دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

بالاستصحاب الذي يدور مدار اليقين والشكّ ، فلا يتحقّق في أدلّة الاستصحاب ما يهدينا إلى أماريّته ، بل هو أصل من الاصول العمليّة ، وعنوانه الشكّ المقرون بحالة سابقة متيقّنة ، وهكذا قاعدة الفراغ والتجاوز لا يتحقّق فيها عنوان الأماريّة ، وتقدّمها على الاستصحاب يكون من باب التخصيص.

نعم ، يمكن أن يستفاد من بعض رواياتها أماريّتها كما ذكر في كتاب الرسائل ، وهو قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (١) ، ولكن الظاهر بعد ملاحظة مجموع رواياتها أنّها أصل من الاصول العمليّة المحرزة كالاستصحاب.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه يحتمل أن يكون معنى الاستصحاب : هو الحكم ببقاء المتيقّن بحسب الظاهر من الشارع بمقتضى قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ، ومعناه جعل الحكم المماثل في عالم التعبّد ظاهرا ، كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) ، وهذا المعنى مقتضى التحقيق.

ويحتمل أن يكون معناه عدّ الشارع الشكّ يقينا تعبّدا ـ أي الشكّ المقرون باليقين بالحالة السابقة يكون يقينا شرعا ـ مثل ملاحظة كثير الشكّ فاقدا للشكّ في عالم التعبّد ، وهذا المعنى خلاف الظاهر.

وهو على المعنى الأوّل يقوم مقام القطع الطريقي ويترتّب عليه أثره من المنجّزية والمعذّرية ، ولا يقوم مقام القطع الموضوعي ، سواء اخذ القطع بعنوان الصفتيّة أو الكاشفيّة ، وبلا فرق بين أخذه تمام الموضوع أو جزء الموضوع ؛ إذ

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٢٣.

٨١

لا يمكن للاستصحاب بهذا المعنى جعل القطع لا وجدانا ولا تعبّدا.

وأمّا على المعنى الثاني فتترتّب عليه جميع آثار القطع الطريقي والموضوعي بجميع أقسامه ، فإنّ المستصحب بعد جريان الاستصحاب يكون متيقّنا شرعا.

وأمّا قاعدة الفراغ والتجاوز فمفادها كما يستفاد من الروايات هو البناء على تحقّق المشكوك وعدم الاعتناء بالشكّ تعبّدا ، كما في رواية حمّاد بن عثمان ، حيث قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشكّ وأنا ساجد ، فلا أدري ركعت أم لا؟ فقال عليه‌السلام : «قد ركعت ، فامضه» (١).

يعني احكم بأنّه قد تحقّق منك الركوع ، لا أنّك متيقّن بتحقّقه ، فهي لا تقوم مقام القطع الموضوعي بجميع أقسامه ، ولكن يترتّب عليها أثر القطع الطريقي من المنجّزية والمعذّرية.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣١٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٢.

٨٢

الموافقة الالتزاميّة

لا شكّ في وجوب الموافقة العمليّة للأحكام الشرعيّة ، إنّما الكلام في وجوب الموافقة الالتزاميّة بأن يعتقد الإنسان بها قلبا ويتديّن بها اعتقادا.

وبعبارة اخرى : أنّ تنجّز التكاليف بالقطع أو بغيره من الحجج والأمارات هل يوجب على المكلّف إطاعتين : إحداهما بحسب العمل ، والاخرى بحسب الاعتقاد ، أو لا يوجب إلّا إطاعة عمليّة فقط؟

ونحن نبحث هنا في ثلاث مراحل :

الاولى : في إمكان تعلّق التكليف اللزومي بالموافقة الالتزاميّة وعدمه ثبوتا ، واختلف العلماء فيه. وقال استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) باستحالته ؛ بأنّ أفعال الإنسان على قسمين : جوارحيّة وجوانحيّة ، أمّا الأفعال الجوارحيّة فهي من الامور الاختياريّة التي تتبع الإرادة ، وأمّا الأفعال الجوانحيّة والعوارض النفسانيّة ـ كالحبّ والبغض ، والخوف والرجاء ، والخضوع والخشوع ـ فإنّها ليست من الامور الاختياريّة ، بل وجودها في النفس إنّما يتبع وجود مبادئها ، فإنّ لكلّ منها مباد وعلل تستدعي وجود تلك العوارض ، مثلا : إذا علم الإنسان بوجود الباري وعظمته وقهّاريّته يحصل له الخضوع والخشوع لدى

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٤٥ ـ ٤٦.

٨٣

حضرته والخوف من مقامه ، وإذا علم برحمته التي وسعت كلّ شيء فلا محالة تحصل له صفة الرجاء.

وعليه فبما أنّ الموافقة الالتزاميّة والتسليم القلبي فعل من الأفعال النفسانيّة لا تتحقّق إلّا بعد تحقّق مبادئها وأسبابها ، وليست تابعة لإرادة الإنسان واختياره حتّى يتعلّق التكليف اللزومي بها.

وتترتّب على هذا الكلام ثمرات :

الاولى : أنّه لا بدّ من إرجاع الكفر الجحودي الذي أشار إليه في القرآن بقوله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ)(١) إلى الإنكار الظاهري والجحد اللّساني ؛ إذ لا يمكن في ظرف القلب والنفس الاجتماع بين اليقين بوجود المبدأ وإنكاره ، فمعناه إنكار ما اعتقد به في القلب لسانا.

الثانية : أنّ التشريع الحرام يعني إدخال ما ليس من الدين في الدين ، ليس معناه الاعتقاد والالتزام القلبي على كون هذا الحكم من الشارع مع العلم بعدم كونه منه ، فإنّه غير معقول في نفسه ولا يتحقّق خارجا ، بل معناه هو التظاهر بكون الحكم الفلاني من الشارع مع العلم بعدم كونه منه.

والحاصل : أنّ التكليف اللزومي لا يمكن أن يتعلّق بالموافقة الالتزاميّة ، هذا ملخّص كلامه قدس‌سره.

وجوابه : أوّلا : أنّه منقوض في موارد متعدّدة :

منها : مسألة الإيمان ، فإنّ معناه إن كان مركّبا من الاعتقاد بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان ، فكيف تعلّق التكليف به بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ونحو ذلك مع أنّه من الأفعال النفسانيّة؟!

__________________

(١) النمل : ١٤.

٨٤

ومنها : مسألة الإرادة ، فإنّ الأفعال الجوارحيّة والاختياريّة لا بدّ من صدورها عن إرادة ، فهل يلزم على المكلّف إرادة الصلاة عند الزوال أم لا مع أنّها من الامور النفسانيّة؟!

ومنها : مسألة الحبّ والمودّة كما في قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(١) ، فكيف تعلّق التكليف اللزومي بالأفعال النفسانيّة في هذه الموارد ونظائرها؟!

وثانيا : أنّه يكفي في مقدوريّة متعلّق التكليف كونه مقدورا مع الواسطة ، كالواجبات المتوقّفة على المقدّمة ، فلا مانع من القول في الموافقة الالتزاميّة ؛ بأنّ تحصيل علم الباري وإحاطته بالمصالح والمفاسد للإنسان يوجب الاعتقاد والالتزام بأنّ حكم الصلاة هو الوجوب ، وحكم شرب الخمر هي الحرمة ، فيصحّ تعلّق التكليف بها من هذا الطريق ، فلا استحالة في البين ثبوتا.

وسلّمنا أنّ التشريع ليس بمعنى الاعتقاد والالتزام القلبي على كون هذا الحكم من الشارع ، بل يكون بمعنى التظاهر بكونه من الشارع مع العلم بعدم كونه منه ، ولكنّه لا يستلزم امتناع تعلّق التكليف بالموافقة الالتزاميّة ، ولا ملازمة بينهما.

وسلّمنا أيضا أنّ الكفر الجحودي لا يرجع إلى الالتزام القلبي على خلاف اليقين الحاصل في نفس الكافر الجاحد ، بل يرجع إلى الإنكار الظاهري والجحد اللّساني ، ولكن لا تكون نتيجة هذا المعنى امتناع تعلّق التكليف بالموافقة الالتزاميّة ؛ إذ لا ارتباط بينهما.

وهكذا فيما قالوا : إنّ الملاك في تحقّق القضيّة هو اشتمال الكلام على نسبة

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

٨٥

يصحّ السكوت عليها ، وهذا واضح في القضايا الصادقة ، وأمّا القضايا الكاذبة فلا تشتمل على هذه النسبة ؛ لأنّ المخبر الكاذب يعلم بعدم تحقّق النسبة بين الموضوع والمحمول في قوله: «زيد قائم».

وقال السيّد الفشاركي قدس‌سره في مقام الجواب عنه : بأنّ المخبر الكاذب يخلق تجزّما قلبيّا واعتقادا نفسيّا بتحقّق النسبة بين الموضوع والمحمول قبل إلقاء الخبر ، ويقوم هذا التجزّم والاعتقاد المخلوق بالاختيار مقام التجزّم والاعتقاد الواقعي الحقيقي في القضايا الصادقة ، وبهذا يتمّ الملاك في تحقّق القضيّة.

وقد عرفت فيما ذكرنا اشتمال القضيّة على النسبة ليس بصحيح ؛ لعدم المغايرة بينهما ، فإنّ الملاك في القضيّة الحمليّة هو الاتّحاد والهوهويّة ، مع أنّ النسبة تتحقّق بين الشيئين المتغايرين.

ولكن على فرض صحّة هذا المبنى لا يصحّ ما ذكره قدس‌سره فإنّ التجزّم والاعتقاد ليس من الامور الاختياريّة التابعة لإرادة الإنسان ، ولا يمكن له خلق التجزّم بالإرادة ، والملاك في صدق قضيّة في القضايا الكاذبة هو الإخبار عن الشيء بصورة الجزم والبتّ ، وهذا الملاك يتحقّق في القضايا الصادقة والكاذبة معا ، ولذا لو القي الخبر بنحو الترديد فلا يتّصف بالصدق وإن كان المخبر جازما قلبا.

ولكن عدم تجزّم الاختلاقيّة ملاكا في صدق قضيّة من القضايا الكاذبة لا يكون ملازما لعدم إمكان تعلّق التكليف بالموافقة الالتزاميّة.

المرحلة الثانية : في مقام الإثبات وقيام الدليل على وجوب الموافقة الالتزاميّة وعدمه على تقدير إمكانه ، قالوا : إنّه لا يدلّ على وجوبها دليل من الشرع ولا من العقل ، فإنّ الظاهر من الأدلّة هو الإطاعة والعصيان في مقام

٨٦

العمل ، ولا يستفاد منها الالتزام بالأحكام قلبا أصلا.

والتحقيق : أنّ الموافقة الالتزاميّة إن لوحظت بالنسبة إلى الاعتقاد بأصل الدين والشريعة فلا يمكن الانفكاك بينهما إذا علم الإنسان بأنّ هذا الحكم قد صدر من المولى الذي لا يكاد يمكن أن يتحقّق منه الاشتباه والخطأ ، وأنّ جعله يكون حسب الملاك الواقعي ، فكيف يمكن انفكاك هذا العلم عن الموافقة الالتزاميّة؟! بل لا بدّ منها بمقتضى حكم العقل ، فلا يتصوّر إيجاب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ من الشارع بدون إيجاب الاعتقاد القلبي عليه والموافقة الالتزاميّة وعدم الاعتقاد به قلبا ، ولا محالة أنّه كاشف عن النقص والخلل في اعتقاد الإنسان بالصفات الثبوتيّة والسلبيّة للباري تعالى.

وإن لوحظت بالنسبة إلى جريان الاصول العمليّة في أطراف العلم الإجمالي فهي مسألة اخرى.

بيان ذلك : أنّه ذكر بعنوان ثمرة البحث في وجوب الموافقة الالتزاميّة أنّ المانع عن جريان الاصول فيها هو لزوم المخالفة القطعيّة مع المعلوم بالإجمال إن لم نقل بمانعيّة نفس العلم ، ولكنّه قد يستلزم ذلك كما في استصحاب طهارة الإناءين مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، فإنّ معاملة الطهارة فيهما توجب المخالفة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، وقد لا يستلزم ذلك كما في استصحاب نجاسة الإناءين مع العلم الإجمالي بطهارة أحدهما ؛ إذ الحكم بنجاستهما لا يستلزم المخالفة القطعيّة معه ، إلّا أنّه يتحقّق هنا المخالفة الالتزاميّة ، فهي مانعة من جريان الاصول العمليّة في أطراف العلم الإجمالي على القول بوجوب الموافقة الالتزاميّة.

ولكنّ التحقيق : أنّ ترتّب هذه الثمرة ليس بصحيح ، فإنّ الموافقة الالتزاميّة

٨٧

على القول بلزومها تتبع كيفيّة تعلّق العلم بالحكم الشرعي في الخصوصيّات ، فإذا ثبت الحكم بحلّيّة الشيء المشكوك الحلّيّة والحرمة استنادا إلى قاعدة الحلّية فلا بدّ من الالتزام بحلّيّته ظاهرا ، وهكذا إذا ثبت بالاصول العمليّة كالاستصحاب ، وإذا احرز خمريّة مائع تفصيلا فلا بدّ من الالتزام بحرمته بالخصوص ، وإذا علم إجمالا أنّ أحد هذين الإناءين خمر لا بدّ من الالتزام بحرمة أحدهما بحسب الواقع.

وعلى هذا تكون الموافقة الالتزاميّة في مستصحبي النجاسة بالالتزام بنجاستهما ظاهرا ، وطهارة أحدهما بحسب الحكم الواقعي ، وفي مستصحبي الطهارة بالالتزام بطهارتهما ظاهرا ، ونجاسة أحدهما بحسب الحكم الواقعي ، فلا تتحقّق المخالفة الالتزاميّة في مستصحبي النجاسة.

٨٨

قطع القطّاع

نقل عن الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس‌سره (١) أنّه قال : «إنّ قطع القطّاع ليس بحجّة».

والمقصود من القطّاع من يحصل له القطع من الأسباب والطرق التي لا ينبغي حصول القطع منها لمتعارف الناس.

ثمّ إنّ القول بعدم اعتبار قطع القطّاع تارة يكون بلحاظ القطع الطريقي المحض ، واخرى بلحاظ القطع الموضوعي ، فإن كان باللّحاظ الأوّل فلا شكّ في بطلانه ؛ إذ القطع الطريقي حجّة مطلقا ، فإنّ العقل لا يفرّق بين الأسباب والموارد والأشخاص في حكمه بحجّيّته ، وكونه منجّزا للواقع عند المصادفة ، ومعذّرا عند المخالفة ، والحجّيّة لا تنفكّ عن القطع الطريقي من أيّ طريق حصل.

وإن كان باللحاظ الثاني فهو تابع لكيفيّة أخذه في الموضوع من حيث السعة والضيق ، فإنّ للحاكم أن يجعل خصوص القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة موضوعا لحكمه ، وله أن يجعل القطع موضوعا لحكمه مطلقا ، فالمتّبع هو الدليل.

__________________

(١) كشف الغطاء ١ : ٣٠٨.

٨٩

ثمّ نسب إلى الأخباريّين التفصيل في حجّيّة القطع الطريقي بلحاظ الأسباب بأنّ القطع إن كان حاصلا من المقدّمات العقليّة فلا يكون حجّة في الأحكام الشرعيّة ، وإن كان حاصلا من المقدّمات النقليّة من الكتاب والسنّة فهو حجّة.

وقد عرفت أنّ المنع عن حجّيّة القطع ليس بصحيح عقلا ، فإنّه في حكمه بحجّيّة القطع ولزوم متابعته لا يفرّق بين الأسباب ، فلا وجه للمنع عن حجّيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة.

هذا بناء على ثبوت النسبة كما عليه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره ، ولكن الحقّ عدم ثبوتها وفاقا للمحقّق الخراساني قدس‌سره فإنّ النزاع بين الاصولي والأخباري ليس في أصل حجّيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقلية ؛ إذ لا شكّ في أنّ القطع بعد حصوله يكون حجّة من أيّ طريق كان ، بل النزاع بينهما في حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدّمات العقليّة ، حيث إنّ الأخباري يدّعي أنّ المقدّمات العقليّة لا تفيد إلّا الظنّ ، ويؤيّد ذلك ظاهر كلماتهم ، فإنّ بعضهم في مقام منع الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، كما هو صريح كلام السيّد صدر الدين قدس‌سره وبعضهم في مقام بيان عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقليّة ؛ لأنّها لا تفيد إلّا الظنّ ، كما هو صريح كلام الشيخ المحدّث الأسترآباديقدس‌سره (١).

__________________

(١) الفوائد المدنية : ١٢٩ ـ ١٣٠.

٩٠

العلم الإجمالي

ويقع البحث عنه في مقامين : الأوّل : في ثبوت التكليف وتنجّزه بالعلم الإجمالي ـ كالعلم التفصيلي ـ وعدمه ، الثاني : في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي والاحتياط وعدمه لمن كان قادرا على تحصيل العلم التفصيلي وامتثاله.

أمّا الأوّل ، فالبحث عنه يقع من جهتين :

الاولى : في جواز المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي وعدمه عقلا ، وهذه الجهة هي المقصودة بالبحث في مبحث القطع وبعد إثبات حرمة المخالفة القطعيّة هنا يأتي البحث في باب الاشتغال من الجهة الثانية ، وهي أنّ الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي والاحتياط واجبة أم لا؟

ويتحقّق في مرحلة إثبات التكليف من حيث جواز المخالفة وعدمه أقوال متعدّدة :

الأوّل : أنّ العلم الإجمالي لا تأثير له في تنجّز التكليف بل يكون كالعدم ، وذلك لأنّه يعتبر في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة تكليف المولى واستحقاق العقاب عليها أن يكون المكلّف عالما بالمخالفة حين العمل ؛ إذ لا يتحقّق العصيان القبيح إلّا مع العلم بالمخالفة حين العمل ، ومعلوم أنّ المكلّف لا يكون

٩١

عالما بالمخالفة في موارد العلم الإجمالي حين ارتكاب كلّ واحد من الأطراف ؛ لاحتمال أن يكون التكليف في الطرف الآخر. نعم ، يحصل له العلم بالمخالفة بعد ارتكاب جميع الأطراف ، ولكنّه لا يوجب حكم العقل بالقبح واستحقاق العقاب.

وجوابه : أنّ هذا الكلام باطل عند العقل والعقلاء ؛ إذ لا فرق بين علم الإنسان حين العمل بمبغوضيّته للمولى وبعد ارتكابه ، وتردّد المكلّف به بين شيئين أو أشياء لا يكون عذرا للمخالفة ، ولا فرق في حكم العقل بالقبح بين ما إذا عرف العبد ابن المولى بشخصه فقتله وبين ما إذا عرفه إجمالا بين شخصين أو أشخاص فقتلهم جميعا ، وعدم العلم بوجوده تفصيلا لا يعدّ عذرا له ، كما أنّ ترك صلاة الظهر والجمعة في يوم الجمعة معتذرا بعدم العلم التفصيلي بالتكليف ليس بجائز بلا إشكال.

القول الثاني : ما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّ العلم الإجمالي ليس كالشكّ البدوي ، بل له تأثير في تنجّز التكليف ، ولكن تأثيره في ذلك بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى كلّ من وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة ، وليس تأثيره في ذلك بنحو العلّيّة ، وذلك لأنّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظة مع العلم الإجمالي ؛ لعدم انكشاف الواقع به تمام الانكشاف ، فيمكن ثبوتا ورود الترخيص في موارد العلم الإجمالي وعدمه.

القول الثالث : ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (٢) من التفصيل في منجّزية العلم الإجمالي بلحاظ الاقتضاء والعلّيّة ، فإنّه منجّز للتكليف بنحو

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٥.

(٢) الرسائل : ٢٤٢.

٩٢

الاقتضاء بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة ، وبنحو العلّية التامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة.

القول الرابع : ما اختاره المشهور من أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة بالنسبة إلى كلّ منهما ، فلا يمكن ورود الترخيص ثبوتا ، ومعه فلا تصل النوبة إلى البحث الإثباتي.

وهذا هو الحقّ بعد تحقّق القطع الوجداني والبديهي بالتكليف اللزومي الذي لا يحتمل الخلاف فيه ، وبعد إيصاله إلى المرحلة الفعليّة ـ أي تعلّق الإرادة الجدّية للمولى بإتيانه في الخارج ـ فلا يمكن الترخيص في بعض الأطراف فضلا عن جميعها ، فيكون هذا العلم علّة تامة لوجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة.

وأمّا الترديد في المكلّف به فلا يوجب جواز ترك التكليف المعلوم عند العقل والعقلاء ، بل العقل يحكم بإتيان جميع أطراف العلم الإجمالي ؛ للخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال ، فلا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي من حيث المنجّزيّة والمعذّريّة ، إلّا أنّ الموافقة والمخالفة في العلم التفصيلي تتحقّق بفعل عمل واحد أو تركه ، وفي العلم الإجمالي تتحقّق بإتيان جميع الأطراف أو تركه ، وهذا لا يوجب الفرق في أصل المنجّزيّة والمعذّريّة.

وعلى هذا لا يمكن للشارع جعل الحكم المخالف في موارد العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي حتّى تترتّب عليه المخالفة الاحتماليّة فضلا عن المخالفة القطعيّة ، فثبوت الحكم بالعلم الإجمالي مانع من جريان الأصل العملي في مورده ، ومراجعة الوجدان والعقلاء أقوى شاهد على ذلك.

إن قلت : قد مرّ أنّ عالم تعلّق الأحكام هو عالم العناوين ، فلا مانع من كون

٩٣

الصلاة في الدار المغصوبة مأمورا بها ومنهيّا عنها معا عند أكثر المحقّقين ، بلحاظ تعلّق الأمر بعنوان الصلاة والنهي بعنوان الغصب ، والحكم المترتّب على عنوان لا يتعدّى إلى العنوان الآخر حتّى يصير الموضوع واحدا ، كما لا يسري الحكم من عنوانه إلى مصاديقه الخارجيّة ، فيمكن أن يقال : كما أنّ النسبة بين الصلاة والغصب هي العموم من وجه ، فكذلك النسبة بين عنواني المحرم الواقعي والمشتبه بما هو مشتبه عموم من وجه ، ومادّة اجتماعهما المشتبه الخمريّة الذي كان بحسب الواقع خمرا واجتمع فيه حكمان فعليّان ، فبما أنّه خمر يجب الاجتناب عنه وبما أنّه مشتبه الخمريّة لا يجب الاجتناب عنه ، وعليه فيمكن ورود الترخيص من الشارع في موارد العلم الإجمالي ، ولا مانع من جريان الأصل في جميع أطرافه.

قلنا : إنّ قياس المقام بباب اجتماع الأمر والنهي قياس مع الفارق ، فإنّ الوجوب والحرمة في الباب المذكور يتعلّق كلّ منهما بعنوان مستقلّ عن عنوان الآخر ، بلا نظارة لأحدهما إلى الآخر ، ومعلوم أنّ قول الشارع : «أقم الصلاة» لا يكون ناظرا إلى قوله : «لا تغصب» ولذا لا يستلزم تصادقهما في الخارج لاجتماع الأمر والنهي على شيء واحد.

وأمّا الترخيص في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي فلا محالة يكون إلى الحكم بحرمة الخمر ، ومعناه رفع اليد عن الحكم بالحرمة في بعض الموارد ومحدوديّته بما إذا كان الخمر معلوما بالتفصيل ، ومعلوم أنّ الترخيص في فرض تنجّز الحكم بالعلم محال ، فإنّ توجّه التكليف الفعلي المعلوم بالإجمال إلى المكلّف لا يكون قابلا للجمع مع جريان البراءة في أطراف العلم الإجمالي.

والفرق الواضح بين ما نحن فيه ومسألة اجتماع الأمر والنهي : أنّ الحكم

٩٤

المتعلّق بالصلاة والحكم المتعلّق بالغصب حكمان واقعيّان ، بخلاف المقام فإنّ الحكم المتعلّق بعنوان المشتبه هو الحكم الظاهري ، ومن البديهي أنّ الأحكام الظاهريّة متأخّرة رتبة عن الأحكام الواقعيّة ؛ إذ المفروض في موردها الشكّ في الحكم الواقعي ، ومع عدم تنجّز الحكم الواقعي لمكان الشكّ فيه يأتي دور الحكم الظاهري ، وأمّا مع فرض تنجّز الحكم الواقعي في حقّ المكلّف لمكان القطع به كما هو مفروض البحث ، فلا تصل النوبة إلى الحكم الظاهري.

وأمّا المقام الثاني ـ أي كفاية الاحتياط والامتثال الإجمالي وعدمه في مقام الامتثال ـ فيقع البحث فيه تارة في التوصّليّات ، واخرى في المعاملات ، وثالثة في العبادات.

أمّا التوصّليّات فلا شكّ في كفاية الامتثال الإجمالي فيها ؛ لأنّ الغرض فيها مجرّد حصول المأمور به في الخارج كيفما اتّفق ، وبإتيان جميع المحتملات يتحقّق المأمور به لا محالة ، فإذا علم أحد بأنّه مديون بدرهم إمّا لزيد وإمّا لعمرو وأعطى لكلّ واحد منهما درهما يحصل له العلم بالفراغ ، وهكذا لو غسل المتنجّس بمائعين طاهرين يعلم إجمالا بكون أحدهما ماء مطلقا والآخر مضافا فلا شكّ في حصول الطهارة له ، سواء كان المكلّف متمكّنا من الامتثال التفصيلي أم لا ، وسواء كان الاحتياط مستلزما للتكرار أم لا.

وأمّا المعاملات بالمعنى الأعمّ فلا شكّ في جواز الاحتياط وكفاية الامتثال الإجمالي فيها أيضا ، فإذا احتاط المكلّف وجمع بين إنشاءات متعدّدة يعلم إجمالا بصحّة أحدها ـ مثلا ـ يكفي في حصول المنشأ لا محالة وإن لم يتميّز السبب المؤثّر عنده بعينه ، فإذا شكّ في أنّ الطلاق هل يحصل بالجملة الفعليّة : «طلّقتك» أو أنّه لا بدّ في حصوله من الجملة الاسميّة «أنت طالق»؟ فلا مانع

٩٥

حينئذ من الاحتياط والجمع بين الصيغتين.

وحكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره المنع عن ذلك بدعوى أنّ الاحتياط في العقود والإيقاعات يستلزم الإخلال بالجزم المعتبر في الإنشاء ، ومن الواضح أنّ الترديد ينافي الجزم ، ومن هنا قام الإجماع على عدم صحّة التعليق في الإنشاءات.

وجوابه : أنّ الجزم المعتبر في المعاملات هو جزم المنشئ بتحقّق المعاملة في مقابل تعليق المعاملة على شيء لم يعلم حصوله ، والترديد فيما نحن فيه يكون في السبب والطريق ، فيجمع بينها للاطمئنان بحصول المسبّب ، وأمّا المنشئ فهو جازم بالإنشاء وتعلّق إرادته الجدّيّة بتحقّق المسبّب عقيب الإنشاء والسبب ، وهذا المعنى لا ينافي الترديد في السبب ، فإنّه أمر آخر غير راجع إلى التعليق في الإنشاء.

وأمّا العبادات فيقع البحث فيها في صور أربع ؛ لأنّ الاحتياط فيها قد يستلزم التكرار وقد لا يستلزم ذلك ، وعلى كلا التقديرين قد يتمكّن المكلّف من الامتثال التفصيلي ، وقد لا يتمكّن من ذلك.

أمّا في صورتي عدم إمكان الامتثال التفصيلي فلا شبهة في كفاية الامتثال الإجمالي وجواز الاحتياط بحكم العقل ؛ لأنّه غاية ما يتمكّن منه المكلّف في مقام امتثال أمر المولى ، ولا طريق له سوى ذلك ؛ إذ المفروض عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي ؛ لانسداد طريق العلم الوجداني والحجّة الشرعيّة ، فيكفي الامتثال الإجمالي هنا ، سواء كان مستلزما للتكرار أم لا.

وأمّا الصورة الثالثة ـ أي كون الاحتياط غير مستلزم للتكرار ، مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ـ فالحقّ فيها أيضا كفاية الاحتياط ، وليلاحظ زيادة

٩٦

البحث والاستدلال لذلك في الصورة الرابعة.

وأمّا الصورة الرابعة فما يمكن الاستدلال به للمنع من الاحتياط فيها امور :

الأوّل : الشهرة ، فإنّ ظاهر ما نسب إلى المشهور هو بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، فلا يصحّ الامتثال الإجمالي.

وجوابه ـ بعد عدم ثبوتها وعدم اعتبارها ـ : أنّ على فرض تحقّقها تكون في مقابل من يعمل عملا باحتمال كونه مأمورا به ، لا في مقابل الاحتياط الذي يستلزم العلم بتحقّق المأمور به بجميع خصوصيّاته.

الأمر الثاني : دعوى الإجماع المحكي عن السيّد الرضي قدس‌سره على بطلان صلاة من لا يعلم حكمها.

وجوابه ـ بعد عدم اعتبار الإجماع المنقول ـ : أنّه ليس ناظرا إلى المقام أصلا ، فإنّ المقصود به بطلان الصلاة ممّن لا يعلم الخصوصيّات والشرائط المعتبرة فيها ، ولا يشمل معقد الإجماع للمحتاط الذي يعلم بإتيان المأمور به بجميع الشرائط والخصوصيّات المعتبرة فيه.

الأمر الثالث : ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) من أنّ الاحتياط في العبادات يستلزم التشريع المحرّم ، فلا يجوز الاحتياط فيها ، وذلك لأنّ قصد القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ليقطع بإحرازه في الواجب الواقعي ، ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلا المحتملين بوصف أنّهما عبادة مقرّبة يوجب التشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي ، فيكون محرّما.

وجوابه : أوّلا بالنقض ، وهو أنّ لازم ذلك عدم جواز الاحتياط في صورة عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي أيضا ؛ للزوم التشريع المحرّم الذي لا تكون

__________________

(١) الرسائل : ٢٦٦.

٩٧

حرمته قابلة للتفصيل والتخصيص مع أنّه لم يلتزم به.

وثانيا بالحلّ ، وهو على وجوه :

الأوّل : أنّ الاحتياط في مثل صلاتي الظهر والجمعة ليس بمعنى إتيان كلّ منهما بعنوان أنّه عبادة مقرّبة ، بل يكون بمعنى إتيان كلّ واحد منهما باحتمال كونه عبادة ، وإتيان ما هو بحسب الواقع واجبا بعنوان أنّه عبادة مقرّبة ، مثل : أن يغتسل من باب الاحتياط من يحتمل أنّه صار جنبا برجاء كونها عبادة مقرّبة ، وأنّه لو كنت جنبا تقرّبت بها ، وهكذا فيما نحن فيه.

الوجه الثاني : أنّه على فرض لزوم مراعاة الاحتياط والإتيان بكلّ واحد منهما بقصد التقرّب ، مع العلم بعدم عباديّة واحد منهما ، ولكنّ متعلّق الحرمة هو التشريع ومتعلّق الجواز هو الاحتياط ، ولا شكّ في كونهما عنوانين مستقلّين ، وقد مرّ أنّ الحكم لا يسري من متعلّقه إلى عنوان آخر ، وإن كان متّحدا معه في الوجود الخارجي ، فلا يكون الاحتياط حراما.

الوجه الثالث : أنّ جواز الاحتياط وعدمه هنا لا يكون في مقابل الحرمة ، بل يكون بمعنى كفايته وعدمها في مقام الامتثال ، فعلى هذا لا يوجب قصد التقرّب بما لا يكون عبادة الإخلال بالواجب الواقعي الذي أتى به بجميع الشرائط والخصوصيّات ، ووقوع التشريع المحرم في جنب امتثال الأمر المتعلّق بالمأمور به لا يوجب النقص فيه ، هذا نظير من ستر عورته بالساتر الغصبي ، والنظر إلى الأجنبيّة حال الصلاة ، فلا نقص عقلا في المأمور به الواقعي حتّى نحكم ببطلانه.

الأمر الرابع : أنّ قصد الوجه والتمييز أيضا معتبر في العبادة ، ومعلوم أنّه لا يمكن الإتيان بها مع قصد الوجه متميّزة عن غيرها عند العمل بالاحتياط ،

٩٨

والامتثال الإجمالي.

وجوابه : أوّلا : أنّ هذا الدليل لا ينطبق على المدّعى ؛ إذ المدّعى أنّ الاحتياط الممكن ثبوتا هل يكفي في مقام الامتثال أم لا؟ والدليل يرجع إلى عدم إمكان الاحتياط في العبادة ؛ لعدم إمكان مراعاة جميع الخصوصيّات المعتبرة فيها مع الامتثال الإجمالي.

وثانيا : أنّ قصد الوجه أيضا يكون نظير قصد القربة بإتيان ما هو في الواقع عبادة واجبة على المكلّف لكونه مقرّبا وواجبا ، وإتيان كلّ واحد من صلاتي الظهر والجمعة باحتمال كونه واجبا ومقرّبا.

وثالثا : أنّه لا دليل على اعتبار قصد الوجه والتمييز في العبادة.

نعم ، قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في بحث الواجب التوصّلي والتعبّدي : إنّ قصد القربة إن كان بمعنى إتيان العمل بداعي أمره فلا يمكن التمسّك بإطلاق دليل المأمور به لنفي اعتبار قصد القربة فيه عند الشكّ في كونه توصّليّا أو تعبّديّا ، فإنّ ثبوت الإطلاق فرع إمكان التقييد ، والتقييد هنا مستلزم للدور ، فلا يمكن التمسّك بإطلاق نفس الدليل ، إلّا أن يتحقّق الإطلاق المقامي بمعنى كون المولى في مقام بيان جميع الأجزاء والخصوصيّات المعتبرة في المأمور به ، وعدم إشارته إلى اعتبار قصد القربة أصلا ، ويستفاد من ذلك عدم اعتباره ، وإن لم يتحقّق الإطلاق المقامي أيضا تصل النوبة إلى الاصول العمليّة من البراءة أو الاحتياط.

ويجري هذا البحث بعينه في قصد الوجه والتمييز أيضا ، ولكنّ التحقيق : أنّه لا مدخليّة لاعتبار قصد الوجه والتمييز زائدا على قصد القربة في عباديّة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٠٩.

٩٩

العبادة ، وإلّا لاحتاج إلى بيان واضح ؛ فلا يصلح هذا الوجه للمانعيّة من الامتثال الإجمالي.

الأمر الخامس : ما ذكره المحقّق النائيني قدس‌سره (١) بتقريبين :

الأوّل : أنّ حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى ، بحيث يكون الداعي والمحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر وانطباق المأمور به عليه ، وهذا المعنى في الامتثال الإجمالي لا يتحقّق ، فإنّ الداعي له نحو العمل لكلّ واحد من فردي الترديد ليس إلّا احتمال تعلّق الأمر به ، فإنّه لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص.

وجوابه : أوّلا : أنّ لازم هذا البيان عدم كفاية الامتثال الإجمالي حتّى في صورة عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي ، مع أنّها خارجة عن محلّ النزاع.

وثانيا : أنّ الإطاعة عند العقل عبارة عن انطباق المأتي به على المأمور به مع جميع الخصوصيّات المعتبرة فيه ، والمفروض تحقّقه في الامتثال الإجمالي ، بعد ما ذكرناه من إمكان رعاية قصد القربة فيه.

وثالثا : أنّ البعث بوجوده الواقعي لا يكون مؤثّرا في الانبعاث بدون الارتباط بعلم المكلّف وجهله ، بل الانبعاث ناش عن العلم بالتكليف وتصوّر ما يترتّب على موافقته ومخالفته من المثوبة والعقوبة إلّا في بعض المكلّفين ، كما قال مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنّتك ، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك». (٢)

والعمل بالاحتياط ناش عن العلم بتكليف المولى ، وينبعث المكلّف عن

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٧٣.

(٢) البحار ٧٠ : ١٨٦ ، الحديث ٦٧.

١٠٠