دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

الرأي الرابع : ما ذكره المحقّق النائيني قدس‌سره (١) من أنّ الموارد التي توهم وقوع التضادّ بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة على أنحاء ثلاثة :

أحدها : موارد قيام الطرق والأمارات المعتبرة على الخلاف.

ثانيها : موارد مخالفة الاصول المحرزة للواقع ، والمراد منها ما يكون الموضوع فيها هو الشكّ المسبوق بحالة سابقة متيقّنة كالاستصحاب.

ثالثها : موارد تخلّف الاصول غير المحرزة عن الواقع ، والمراد منها ما يكون الموضوع فيها نفس الشكّ في الواقع كالبراءة.

والتفصّي عن الإشكال يختلف حسب اختلاف المجعول في هذه الموارد الثلاثة ، ويختصّ كلّ منها بجواب يخصّه ، فينبغي إفراد كلّ منها بالبحث.

فنقول : أمّا في باب الطرق والأمارات فليس المجعول فيها حكما تكليفيّا حتّى يتوهّم التضادّ بينه وبين الحكم الواقعي ، بناء على ما هو الحقّ عندنا ، من أنّ الحجّية والطريقيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة بالجعل وممّا تنالها يد الوضع والرفع ابتداء ، ... ومنها الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات ، فإنّها بنفسها ممّا تنالها يد الجعل ولو إمضاء ؛ إذ ليس فيما بأيدينا من الطرق والأمارات ما لا يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم وإثبات مقاصدهم ، بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفة الطريق للواقع ... ولا بدّ في الأمارة من أن يكون لها جهة كشف عن الواقع كشفا ناقصا ، فللشارع تتميم كشفها ولو إمضاء بإلقاء احتمال الخلاف في عالم التشريع ، كما ألقى احتمال الخلاف في العلم في عالم التكوين ؛ فكأنّ الشارع أوجد في عالم التشريع فردا من العلم ، وجعل الطريق محرزا للواقع كالعلم ، بتتميم نقص كشفه وإحرازه ، ولذا قامت الطرق

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ١٠٥ ـ ١٠٨.

١٢١

والأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة.

وإذا عرفت حقيقة المجعول في باب الطرق والأمارات وأنّ المجعول فيها نفس الوسطيّة في الإثبات ظهر لك أنّه ليس في باب الطرق والأمارات حكم حتّى ينافي الحكم الواقعي ليقع في إشكال التضادّ أو التصويب ، بل ليس حال الأمارة المخالفة إلّا كحال العلم المخالف ، فلا يكون في البين إلّا الحكم الواقعي فقط مطلقا ، أصاب الطريق الواقع أو أخطأ ، فإنّه عند الإصابة يكون المؤدّى هو الحكم الواقعي كالعلم الموافق ، ويوجب تنجيز الواقع وصحّة المؤاخذة عليه ، وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذوريّة وعدم صحّة المؤاخذة عليه كالعلم المخالف من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول. هذا ملخّص كلامه قدس‌سره.

ويتحقّق في هذا الكلام ما يكون صحيحا عندنا من عدم تحقّق حكم تكليفي مجعول على طبق مفاد الطرق والأمارات ، وأنّه ليس فيما بأيدينا من الطرق والأمارات ما لا يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم.

ولعلّه يستفاد من صحيحة أبي يعفور الواردة في معنى العدالة أنّ حسن الظاهر أمارة معتبرة شرعيّة لإحراز العدالة وإن لم يفد المظنّة ، مع أنّه لا يكون معتبرا عند العقلاء ظاهرا ، وعلى هذا تكون النسبة بين الأمارة الشرعيّة والعقلائيّة عموم من وجه.

ولكن مع ذلك يرد عليه : أوّلا : أنّ عطف الطريقيّة والكاشفيّة على الحجّية ليس بصحيح ، فإنّ الحجّية قابلة للجعل بخلافهما ، فإنّهما من الامور التكوينيّة ، وما هو حاصل تكوينا لا معنى لجعله الشرعي لارتباطه كحرارة النار بالخالقيّة ، فالأثر التكويني للقطع والظنّ هو الكشف التامّ أو الناقص ، وهكذا

١٢٢

عنوان الوسطيّة في الإثبات.

وثانيا : أنّ مقايسة الأمارة الشرعيّة بالقطع ليست بصحيح ، فإنّ العمل بالعلم المخالف للواقع إنّما هو ضرورة يبتلى بها المكلّف لقصور منه ، ويكون معذورا عقلا في مخالفة الواقع ، ولا يرتبط بجعل الحجّية للقطع من الشارع ، وهذا بخلاف جعل الحجّية للأمارة المخالفة للواقع ولو إمضاء ، فإنّه ينتهي إلى ترخيص من الشارع في مخالفة الأحكام الواقعيّة الفعليّة كما ذكرناه في جواب المحقّق الخراساني قدس‌سره ، فكيف يكون هذا قابلا للتوجيه؟!

وأمّا الاصول المحرزة فقال قدس‌سره : فالأمر فيها مشكل ، وأشكل منها الاصول غير المحرزة كأصالة الحلّ والبراءة ، فإنّ الاصول بأسرها فاقدة للطريقيّة لأخذ الشكّ في موضوعها ، والشكّ ليس فيه جهة إراءة وكشف عن الواقع حتّى يقال : إنّ المجعول فيها تتميم الكشف ، فلا بدّ وأن يكون في مورد الاصول حكم مجعول شرعي ، فيلزمه التضادّ بينه وبين الحكم الواقعي عند مخالفة الأصل له.

هذا ، ولكنّ الخطب في الاصول التنزيليّة هيّن ؛ لأنّ المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعله كالعدم ، ولأجل ذلك قامت مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة ... فالمجعول في الاصول التنزيليّة ليس أمرا مغايرا للواقع ، بل الجعل الشرعي إنّما تعلّق بالجري العملي على المؤدّى على أنّه هو الواقع ، كما يرشد إليه قوله عليه‌السلام في بعض أخبار قاعدة التجاوز «بلى قد ركعت» (١) ، فإن كان المؤدّى هو الواقع فهو ، وإلّا كان الجري العملي واقعا في غير محلّه من دون أن يكون قد تعلّق بالمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليه.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣١٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٣.

١٢٣

ويرد عليه : أنّ المنافاة لا ترتفع بهذا الحلّ ـ كما مرّ منّا مرارا ـ فإنّ الترخيص في ترك الركوع بمقتضى قوله عليه‌السلام : «بلى قد ركعت» مع أنّه لم يركع خارجا لا يجتمع مع تعلّق الإرادة الجدّية القطعيّة بجزئيّة الركوع للصلاة بصورة الجزئيّة المطلقة ، وأنّ تركه نسيانا أيضا يوجب بطلان الصلاة ، ففي الواقع ترك الركوع مستند إلى ترخيص الشارع وحكمه بأنّك قد ركعت ، فيعود الإشكال.

وأمّا الاصول غير المحرزة كأصالة الاحتياط والحلّ والبراءة فقال قدس‌سره : قد عرفت أنّ الأمر فيها مشكل ، فإنّ المجعول فيها ليس الهوهويّة والجري العملي على بقاء الواقع ، بل مجرّد البناء على أحد طرفي الشكّ من دون إلقاء الطرف الآخر والبناء على عدمه ، بل مع حفظ الشكّ يحكم على أحد طرفيه بالوضع أو الرفع ، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط ، والحلّية المجعولة في أصالة الحلّ تناقض الحلّية والحرمة الواقعيّة على تقدير تخلّف الأصل عن الواقع ، بداهة أنّ المنع عن الاقتحام في الشيء كما هو مفاد أصالة الاحتياط أو الرخصة فيه كما هو مفاد أصالة الحل ، ينافي الجواز في الأوّل والمنع في الثاني.

ثمّ قال في مقام الجواب عنه : إنّ للشكّ في الحكم الواقعي اعتبارين :

أحدهما : كونه من الحالات والطوارئ اللّاحقة للحكم الواقعي أو موضوعه كحالة العلم والظنّ ، وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعا لحكم يضاد الحكم الواقعي ؛ لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.

ثانيهما : اعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلا إليه ومنجّزا له ، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعا لما يكون متمّما للجعل ومنجّزا للواقع وموصلا إليه ، كما أنّه يمكن أخذه موضوعا لما يكون مؤمّنا عن

١٢٤

الواقع حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمريّة ومناطات الأحكام الشرعيّة ، فلو كانت مصلحة الواقع مهمّة في نظر الشارع كان عليه جعل المتمّم كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه ، فإنّه لمّا كان حفظ نفس المؤمن أولى بالرعاية وأهمّ في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر اقتضى ذلك تشريع حكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشكّ، حفظا للحمى وتحرّزا عن الوقوع في مفسدة قتل المؤمن ، وهذا الحكم الظاهري إنّما يكون في طول الحكم الواقعي ، نشأ عن أهمّية المصلحة الواقعيّة ... ولا مضادّة بينهما ، فإنّ المشتبه إن كان ممّا يجب حفظ نفسه واقعا فوجوب الاحتياط يتّحد مع الوجوب الواقعي ويكون هو هو ، وإن لم يكن المشتبه ممّا يجب حفظه فلا يجب الاحتياط لانتفاء العلّة ، وإنّما المكلّف يتخيّل وجوبه لعدم علمه بحال المشتبه.

ولا يخفى أنّ هذا الذيل من طغيان قلمه قدس‌سره ولا يكاد ينبغي من مثله ، فإنّ موضوع وجوب الاحتياط هو المشتبه ، سواء انكشف الواقع فيما بعد أم لا ، وموضوع وجوب الحفظ هي نفس المسلم ، وانكشاف الواقع لا يكون كاشفا عن عدم تعلّق وجوب الاحتياط على المشتبه من الشارع.

ثمّ قال قدس‌سره : هذا كلّه إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي جعل المتمّم من إيجاب الاحتياط ، وإن لم تكن المصلحة الواقعيّة تقتضي ذلك ولم تكن بتلك المثابة من الأهمّية بحيث يلزم الشارع رعايتها كيفما اتّفق ، فللشارع جعل المؤمّن ، سواء كان بلسان الرفع كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع ما لا يعلمون» أو بلسان الوضع كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلّ شيء لك حلال» ، فإنّ المراد من الرفع في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع ما لا يعلمون» ليس رفع التكليف عن موطنه حتّى يلزم التناقض ، بل رفع التكليف عمّا يستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط ، فالرخصة المستفادة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

١٢٥

«رفع ما لا يعلمون» نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فكما أنّ الرخصة التي تستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا تنافي الحكم الواقعي ولا تضادّه ، كذلك الرخصة التي تستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع ما لا يعلمون».

والسرّ في ذلك : هو أنّ هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي ومتأخّر رتبتها عنه ؛ لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم من حيث كونه موجبا للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجّز له ، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي ، ومعه كيف يعقل أن تضادّ الحكم الواقعي؟!

وبالجملة ، الرخصة والحلّية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحلّ تكون في عرض المنع والحرمة المستفاد من إيجاب الاحتياط ، وقد عرفت أنّ إيجاب الاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرّعا عليه ، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضا ، وإلّا يكون ما في طول الشيء في عرضه. هذا تمام كلامه قدس‌سره بتلخيص وإيجاز.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ ما ذكره من الاعتبارين للشكّ في الحكم الواقعي ، وأنّ باعتبار كونه من الطوارئ والعوارض للحكم الواقعي لا يمكن أخذه موضوعا لحكم آخر ، وأمّا باعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلا إليه فيمكن أخذه موضوعا لما يكون متمّما أو مؤمّنا لكونه بهذا الاعتبار متأخّرا عن الحكم الواقعي ، فليس بصحيح.

فإنّ الشكّ باعتبار الأوّل أيضا متأخّر عن الحكم الواقعي ، ويشهد له التعبير بالعوارض والطوارئ ، فإنّ كلّ عارض متأخّر عن المعروض ولو بتأخّر رتبي ، فلا يصحّ التفكيك بين الاعتبارين من هذه الناحية.

١٢٦

وثانيا : أنّه ذكر في ذيل كلامه ما هو مخالف لما حقّق في العلوم العقليّة ، وهو أنّ ما مع المتقدّم في الرتبة لا يكون متقدّما رتبة ، وما مع المتأخّر في الرتبة لا يكون متأخّرا رتبة.

توضيح ذلك : أنّه لا بدّ من كون التقدّم والتأخّر الرتبي مستندا إلى الملاك ، ومن هنا كانت العلّة متقدّمة على المعلول رتبة لمكان العلّية ، وعليه فلو كان مع العلّة شيء مقارن لا يقتضي الحكم بتقدّمه رتبة على المعلول لمجرّد المقارنة والمعيّة مع العلّة ، وكذا الحال بالنسبة إلى مقارن المعلول. نعم ، إن تحقّق للمعلول علّتان يصحّ القول بأنّ هذا المعلول متأخّر عن كلتا العلّتين ، فالمعيّة لا تقتضي التقدّم على المعلول.

ولكنّه قدس‌سره قال : كما أنّ إيجاب الاحتياط في النفس المردّدة بين المسلم والكافر متأخّر عن الحكم الواقعي في الرتبة ، كذلك قاعدة الحلّية متأخّرة عنه في الرتبة ؛ لكونهما في رتبة واحدة ، فإذا كان أحدهما متأخّرا عن شيء لا بدّ من تأخّر الآخر ، فلا يصحّ الحكم بتأخّر الرخصة عن الحكم الواقعي رتبة لمجرّد كونها في عرض إيجاب الاحتياط الذي هو في طول الحكم الواقعي ومتأخّر عنه رتبة.

وثالثا : سلّمنا أنّه لا منافاة بين إيجاب الاحتياط والحكم الواقعي ، بل يكون إيجابه لتحفّظ الحكم الواقعي في مورد الشكّ البدوي كما هو المفروض هنا ، ولكنّ الإشكال المهمّ في قاعدة الحلّية والطهارة مع أنّ جعلهما يكون بداعي التسهيل والفرار عن الحكم الواقعي ، فإن تعلّقت إرادة جدّية المولى بحرمة شرب التتن ـ مثلا ـ كيف يكون هذا قابلا للجمع مع قوله : كلّ شيء شكّ في حلّيته وحرمته فهو لك حلال؟! هذا محور الإشكال ، وكلامه قدس‌سره بطوله وتفصيله

١٢٧

لا يكون جوابا عنه.

والتحقيق هنا : أنّ حلّ الإشكال يكون برفع يد الشارع عن الحكم الواقعي كرفع يده عن أحد الحكمين في باب التزاحم.

توضيح ذلك : أنّه لا بدّ للشارع إمّا من إيجاب الاحتياط في جميع موارد احتمال تحقّق التكليف ، وإمّا اعتبار الطرق والأمارات العقلائيّة التي تكون غالبا مطابقة للواقع ، والأوّل يوجب انزجار الناس عن أساس الدين وينافي السمحة والسهلة التي يكون تشريع الدّين على أساسها ، ويوجب تعطيل امور معاش الناس ؛ لاشتغالهم في أكثر الأوقات بإتيان الواجبات المحتملة والتحرّز عن المحرّمات المحتملة ، فيتعيّن الثاني بأنّ مصلحة حفظ أساس الدين تقتضي جعل الشارع قاعدة الطهارة والحلّية في الموارد المشكوكة من باب المسامحة والسهولة ، والمصلحة المذكورة تقتضي رفع اليد عن الحكم الواقعي مع فعليّته وتحقّق مناطه ، وهذه مسألة عقلائيّة.

ومن ذلك ظهر : أوّلا : أنّه لا محذور في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بما ذكرناه.

وثانيا : أنّ التعبّد بالمظنّة لا يستلزم أيّ محذور من المحذورات المذكورة.

١٢٨

حكم الشكّ في الحجّية

إذا كان مفاد الدليل القطعي هو اعتبار الأمارات وحجّيتها فيجب متابعته والأخذ به ، وإن كانت الأمارة مشكوكة الحجّية ، ولم يقم دليل على إثبات حجّيتها ولا نفيها فقد ذكرت وجوه لإثبات أنّ مقتضى القاعدة هنا عدم الحجّية :

الأوّل : ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) من أنّ التعبّد بالظنّ الذي لم يدلّ على التعبّد به دليل محرّم بالأدلّة الأربعة :

أمّا الكتاب فيكفي منه قوله تعالى : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٢) ، حيث دلّ على أنّ ما ليس بمأذون من قبل الله تعالى فإسناده إليه محرّم وافتراء.

وأمّا السنّة فمنها قول الإمام الصادق عليه‌السلام في عداد القضاة : «القضاة أربعة ، ثلاثة في النار وواحد في الجنّة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» (٣).

__________________

(١) الرسائل ٣٠ : ٣١.

(٢) يونس : ٥٩.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٢ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦.

١٢٩

فقوله عليه‌السلام : «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار» يدلّ على التوبيخ لأجل القضاء بما لا يعلم.

وأمّا الإجماع فقد ادّعاه الوحيد البهبهاني قدس‌سره في بعض رسائله من أنّ حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيّات عند العوام ، فضلا عن العلماء والخواص.

وأمّا العقل فقد أطبق العقلاء على تقبيح العبد وتوبيخه على اعتقاده وتديّنه بما لا يعلم بوروده من المولى وإسناده إليه.

وفيه : أوّلا : أنّ هذه الأدلّة لا تنطبق على المدّعى ؛ إذ المدّعى أنّ الأمارة التي لم يدلّ دليل على اعتبارها وشكّ في حجّيتها متّصفة بعدم الحجّية ، وغاية ما يستفاد من الأدلّة هو حرمة الإسناد إلى الشارع بغير علم ، إلّا أن تتحقّق الملازمة بين حرمة الإسناد وعدم الحجّية ، فتماميّة هذا الاستدلال تتوقّف على ثبوت الملازمة بينهما.

وقد ذكر كثير من العلماء موارد النقض لهذه الملازمة :

الأوّل : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) من أنّ الظنّ على الحكومة حجّة ، ولكن لا يصحّ إسناد المظنون في مورده إلى الشارع كما هو واضح.

والتحقيق : أنّ هذا النقض ليس بوارد عليه ؛ إذ الحجّة في مورد الظنّ الانسدادي على الحكومة ليس هو الظنّ كما تخيّل ، بل الحجّة هي العلم الإجمالي بثبوت التكاليف اللزوميّة من الوجوبيّة والتحريميّة في الشريعة ، فإطلاق الحجّة على الظنّ مسامحة.

بيان ذلك : أنّ مقدّمات دليل الانسداد على الحكومة لا تنتج حجّية الظنّ ، بل نتيجتها التبعيض في مقابل الاحتياط ، وذلك بالأخذ بالمظنونات دون

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٨٠.

١٣٠

المشكوكات والموهومات ؛ إذ الاحتياط التامّ في جميعها بمقتضى العلم الإجمالي موجب لاختلال النظام أو العسر والحرج ، ولا يصحّ ترجيح المشكوكات والموهومات على المظنونات ؛ لكونه من ترجيح المرجوح على الراجح ، فلا بدّ من الاحتياط في مورد الظنّ فقط ومنشؤه العلم الإجمالي بثبوت التكاليف ، فكيف يصحّ إطلاق الحجّة عليه؟!

الثاني : ما عن المحقّق العراقي قدس‌سره (١) من أنّ الشكّ في الشبهات البدوية قبل الفحص حجّة يعني إن كان شرب التتن بحسب الواقع حراما يوجب جريان البراءة قبل الفحص ، لتنجّز الحرمة الواقعيّة ، لعدم جواز إجراء البراءة في موردها ، ومع ذلك لا يجوز إسناد المشكوك إلى الشارع بالبداهة.

ثمّ قال : وهكذا إيجاب الاحتياط في الشبهات البدوية حجّة ومنجّز للواقع بلا إشكال ، إلّا أنّه لا يجوز الإسناد في مورده كما هو واضح.

وجوابه : أنّ الشكّ البدوي قبل الفحص ليس بحجّة ، بل الحجّة في الشبهات البدويّة قبل الفحص هو العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الشريعة ، فإنّه يوجب اشتغال الذمّة عند عدم وجود المؤمّن ، وهكذا إيجاب الاحتياط ليس بحجّة ، وإنّما هو رافع لموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فالحجّة هو العلم الإجمالي السابق على الشكّ ، إلّا أنّ الشارع جعل مؤمّنا في الشبهات البدويّة بعد الفحص ، وأمّا قبل الفحص فهو باق على حاله.

ولكنّ الملازمة المذكورة تحتاج إلى دليل ولا بدّ من إثباتها ، وعدم إثباتها ومشكوكيّتها يكفي لعدم تماميّة استدلال الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

الوجه الثاني : هو استصحاب عدم الحجّية ؛ لأنّ حجّية الأمارة من

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٨٠ ـ ٨١.

١٣١

الحوادث ، وكلّ حادث مسبوق بالعدم.

وأورد عليه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) بأنّ حرمة العمل بالظنّ يكفي في موضوعها عدم العلم بورود التعبّد ، من غير حاجة إلى إحراز عدم ورود التعبّد به ليحتاج في ذلك إلى استصحاب العدم ثمّ إثبات الحرمة.

والحاصل : أنّ أصالة عدم الحادث إنّما يحتاج إليها في الأحكام المترتّبة على عدم ذلك الحادث ، وأمّا الحكم المترتّب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفي فيه الشكّ ، ولا يحتاج إلى إحراز عدمه بالأصل ، وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب حصول اليقين بالفراغ ، فإنّه لا يحتاج في إجرائها إلى إجراء أصالة عدم فراغ الذمّة ، بل يكفي فيها عدم العلم بالفراغ.

واعترض عليه المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) بأمرين :

الأوّل : أنّ الحجّية من الأحكام الوضعية القابلة للجعل الشرعي ، فيصحّ إجراء الاستصحاب فيها وجودا وعدما ، فإنّ استصحاب عدم الحجّية كاستصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة ، فكما أنّه لا يتوقّف استصحاب عدم الوجوب والحرمة على أثر آخر وراء عدمها ، فكذلك استصحاب عدم الحجّية بلا انتظار أثر آخر وراء عدم الحجّية.

الأمر الثاني : أنّ الحكم الشرعي إمّا أن يكون مترتّبا على الواقع فقط فلا مجال حينئذ إلّا للاستصحاب لإحراز الواقع ، وإمّا أن يكون مترتّبا على الشكّ فقط ، فلا مورد حينئذ إلّا للقاعدة المضروبة لحكم الشكّ ، وقد يكون مترتّبا على كلّ من الواقع والشكّ ، فيكون المورد قابلا لجريان الاستصحاب

__________________

(١) الرسائل : ٣١.

(٢) حاشية الرسائل : ٤٣.

١٣٢

والقاعدة ، إلّا أنّ الاستصحاب يجري دون القاعدة لحكومته عليها ؛ لحكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة.

ولا يخفى أنّ ما نحن فيه من قبيل القسم الأخير ، فإنّ حرمة التعبّد كما هي أثر للشكّ في الحجّية ، كذلك أثر لعدم الحجّية واقعا ، فلكلّ من الاستصحاب والقاعدة مجال ، إلّا أنّ الاستصحاب يقدّم بنكتة الحكومة.

والتحقيق : أنّ هنا عنوانين مستقلّين ، وتدلّ على حرمة كلّ منهما أدلّة خاصّة : أحدهما : عنوان التشريع ؛ بمعنى إدخال ما ليس من الدين في الدين ، أو إخراج ما هو منه عنه ، وهو حرام بلا إشكال ، وتعلّق الحرمة على واقعيّة التشريع بلا مدخليّة لعلم المكلّف وجهله فيه ، إلّا أنّ الجهل مانع عن استحقاق العقوبة كما هو الحال في سائر المحرّمات الواقعيّة ، والأدلّة الأربعة تدلّ على حرمته ظاهرا.

وثانيهما : إسناد ما لا يعلم كونه من الشارع إليه ، وهو محرّم أيضا.

ويدلّ على حرمته قوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١).

وأمّا الاستدلال بقوله تعالى : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(٢) فغير تامّ ؛ لأنّ الافتراء هو الانتساب إلى الله تعالى عمدا وكذبا ، وهو أجنبيّ عن انتساب المشكوك فيه إليه تعالى.

وأمّا الأمارة المشكوكة الحجّية فكما أنّها موضوع لحرمة الإسناد إلى

__________________

(١) الأعراف : ٢٨.

(٢) يونس : ٥٩.

١٣٣

الشارع بغير علم ، كذلك هي موضوع لحرمة التشريع ، ولا مجال لجريان الاستصحاب بلحاظ العنوان الأوّل ، فإنّ موضوع الحرمة هو الشكّ الحاصل بالفعل ، ومجرّد الشكّ وعدم العلم يكفي في ترتّب الحرمة عليها كما قال به الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

وأمّا بلحاظ العنوان الثاني فيجري الاستصحاب ، فإنّ إحراز ما ليس من الدين قد يكون وجدانا ، وقد يكون بالأصل مثل : استصحاب عدم كونه من الدين ، وبإدخاله يتحقّق عنوان التشريع المحرّم ، وعلى هذا يصحّ ما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ، فالحقّ هنا التفصيل بين العنوانين.

الوجه الثالث : هو ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّ الحجّة لها أثران : الأوّل : التنجيز في صورة الإصابة للواقع ، فيوجب استحقاق العقاب على المخالفة ، والثاني : التعذير في صورة عدم الإصابة فلا معنى للعقاب ، ومن الواضح أنّ موضوع هذين الأثرين هو الحجّية الفعليّة دون الإنشائيّة ، أعني ما أحرز وعلم أنّه حجّة بالفعل ، فإذا شكّ في حجّية شيء يقطع بعدم ترتيب الأثر عليه من التنجيز والتعذير ، وذلك لانتفاء موضوعه.

والدليل على ذلك أنّ الحجّة هي ما يصحّ أن يحتجّ به المولى على عبده ليقطع عذره ، ويصحّ للعبد أن يحتجّ به على المولى ليثبت عذره ، ومن المعلوم عقلا ووجدانا توقّف هذين الأثرين على العلم بالحجّة صغرى وكبرى ، ولا يترتّب على واقع الحجّة. وهذا هو الصحيح عندي أيضا كما هو واضح.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٥٥.

١٣٤

الحجج والأمارات

حجّية الظواهر

إذا عرفت إمكان التعبّد بالمظنّة ثبوتا يقع البحث في الأمارات التي قام الدليل على حجّيتها أو ادّعي قيام الدليل على حجّيتها ، منها ظواهر الألفاظ والكلمات ، والبحث فيها من جهات :

الأولى : في أنّه لا شكّ في حجّية الظواهر في الجملة ، ومنشأ ذلك استقرار بناء العقلاء على العمل بها إجمالا في جميع امورهم ، ومعلوم أنّ الشارع في مقام تفهيم مقاصده لم يتّخذ طريقا خاصّا لتحقيق هذا الغرض ، بل جرى على ما هو المتعارف بين العقلاء من الأخذ بالظواهر ، ومعناه أنّ الظواهر حجّة عند الشارع إمضاء.

الجهة الثانية : في أقسام الدلالة : فبعد خروج الألفاظ المهملة عن بحث حجّية الظواهر رأسا يعلم أنّ لكلّ لفظ دلالات ثلاثة :

الأولى : ما تسمّى بالدلالة التصوّرية ، أو الوضعيّة وهي انتقال الذهن من استماع اللفظ إلى المعنى الموضوع له ، وهذه الدلالة تتوقّف على ثبوت الوضع والعلم به ، فهي لا تنفك عن اللفظ ، سواء صدر من متكلّم نائم أو سكران أو مذياع.

١٣٥

الدلالة الثانية : وتسمّى بالدلالة التصديقيّة الاولى ، وهي دلالة اللفظ على كون المعنى مرادا للمتكلّم بالإرادة الاستعماليّة ، أي دلالة اللفظ على أنّ المتكلّم أراد تفهيم المعنى الموضوع له ، فاستعمله فيه.

ومعلوم أنّ هذه الدلالة ـ مضافا إلى توقّفها على ثبوت الوضع والعلم به ـ تتوقّف على إحراز كون المتكلّم في مقام تفهيم مراده وملتفتا إلى مفهوم كلامه ، وعدم نصب القرينة المتّصلة على خلاف المعنى الموضوع له ؛ إذ مع ذكر قرينة «يرمي» ـ مثلا ـ في قوله : «رأيت أسدا يرمي» لا تدلّ كلمة «أسد» على أنّ المتكلّم أراد تفهيم المعنى الحقيقي ، فيعتبر في هذه الدلالة أربعة خصوصيّات : ١ ـ الوضع. ٢ ـ العلم بالوضع. ٣ ـ كون المتكلّم في مقام التفهيم. ٤ ـ عدم اشتمال الكلام على القرينة المتّصلة.

الدلالة الثالثة : الدلالة التصديقيّة الثانية ، وهي دلالة الكلام على كون المعنى مرادا للمتكلّم بالإرادة الجدّية ، وهذه الدلالة ـ مضافا إلى توقّفها على ثبوت الخصوصيّات الأربعة المذكورة ـ تتوقّف على أمرين آخرين : أحدهما : كون المتكلّم في مقام الجدّ لا في مقام الهزل مثلا ، وثانيهما : عدم وجود قرينة منفصلة على إرادة خلاف الظاهر من الكلام ؛ لأنّها تكشف عن عدم كون المعنى مرادا للمتكلّم بالإرادة الجدّية ، ولذا قلنا في مبحث العام والخاص : إنّ الخاصّ المتّصل يمنع عن أصل انعقاد ظهور العام في العموم ، وأمّا الخاصّ المنفصل فلا يمنع من انعقاد الظهور ، إنّما يكشف عن عدم كون العموم مرادا للمتكلّم بالإرادة الجدّيّة.

الجهة الثالثة : في الخصوصيّات المعتبرة في كلمات الشارع لاستفادة الحكم الشرعي منها :

الاولى : إحراز أصل صدور الكلام من الشارع ، إمّا مباشرة وإمّا مع

١٣٦

الواسطة ، والواسطة قد تكون من قبيل الخبر المتواتر ، واخرى الخبر المستفيض ، وثالثة الخبر الواحد ـ بناء على حجّيته ـ وهذه الخصوصيّة من مختصّات السنّة ، لا تعتبر في الكتاب بلحاظ كونه قطعيّ الصدور ، وطريق إحراز القرآنيّة منحصر بالتواتر فقط.

الثانية : إحراز ظهور مفردات الكلام والهيئات التركيبيّة ، ولا بدّ من استفادته من قول أهل اللغة والتبادر ، ولا بدّ من إحراز كيفيّة الاستعمال من طريق علائم الحقيقة والمجاز.

الثالثة : إثبات جهة الصدور ، بأنّ الكلام إنّما صدر لأجل بيان الحكم الواقعي لا لجهة اخرى من تقيّة وغيرها ، ومعلوم أنّ المراد الجدّي في باب التقيّة هو المراد الاستعمالي ، ولكنّ الغرض من صدور الكلام يكون حفظ النفس المحترمة أو أساس المذهب لا بيان الحكم الواقعي.

الرابعة : إثبات الإرادة الاستعماليّة ، فإنّها قد تكون مشكوكة لنا ، فإذا قال متكلّم : «رأيت أسدا» ـ مثلا ـ وشككنا في أنّ مراده من كلمة «الأسد» هو المعنى الحقيقي أو المجازي ، فلعلّ مراده المعنى المجازي ، وعدم ذكر قرينة «يرمي» يكون مستندا إلى النسيان والغفلة والخطأ ، فالمرجع هنا على قول المشهور في باب المجاز ـ أي استعمال اللفظ في غير ما وضع له ـ هو أصالة الحقيقة ، وعلى ما هو المختار فيه ـ أي استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والموضوع ، ولكن ادّعاء ـ يكون المرجع أصالة عدم النسيان والغفلة والخطأ ، فعلى كلا القولين يحمل الكلام على المعنى الحقيقي.

ويستفاد من كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) أنّ المرجع هنا أصالة عدم القرينة ،

__________________

(١) الرسائل : ٣٤.

١٣٧

مع أنّه لا يوجد أصل زائد على الأصلين المذكورين ، ولذا اعترض عليه المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) والحال أنّه أيضا ذكر ما يرتبط بالمراد الجدّي لا بالمراد الاستعمالي ، فخلط بينهما.

الخامسة : إثبات الإرادة الجدّية ، فإذا شككنا في تعلّق الإرادة الجدّية بما تعلّقت به الإرادة الاستعماليّة يكون المرجع هنا أصالة التطابق بين الإرادتين إن لم يكن الدليل على خلافه ، وهذه من الاصول العقلائيّة ، ولكنها تجري في الأدلّة الشرعيّة أيضا بلحاظ عدم اتّخاذ الشارع طريقا خاصّا في مقام التفهيم والتفهّم.

وأمّا أصالة الظهور التي نراها كثيرا ما في كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره فإن كانت بالنسبة إلى تشخيص المراد الاستعمالي فقد عرفت أنّه لا يوجد أصل زائد على الأصلين المذكورين ، وإن كانت بالنسبة إلى تشخيص المراد الجدّي فهي أصالة التطابق المذكورة ، وليس لنا أصل آخر باسم أصالة الظهور ، فالبحث عن حجّية الظواهر يكون بداعي وجدان الطريق لاستكشاف المراد الجدّي.

ولا يخفى أنّ منشأ الشكّ في المراد الاستعمالي في باب الروايات إن كان احتمال نسيان الراوي وخطأه في نقل القرينة فالمرجع أصالة عدم الخطأ والنسيان ، واحتمال الخطأ والنسيان والسهو بالنسبة إلى نفس الشارع منتف رأسا.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الأقوال في حجّية الظواهر متعدّدة ، والقول المشهور والموافق للتحقيق أنّها حجّة مطلقا ، سواء أفادت الظنّ بالوفاق أم لا ،

__________________

(١) انظر : كفاية الاصول ٢ : ٦٥.

١٣٨

وسواء كان الظنّ بالخلاف أم لا ، من غير فرق في ذلك كلّه بين من قصد إفهامه بها وبين من لم يقصد ، ولا بين ظواهر الكتاب وغيره.

القول الثاني : إنّ حجّية الظواهر مشروطة بحصول الظنّ بالوفاق ، أي الظنّ بإرادة المتكلّم لها ، فمع عدمه لا تكون حجّة.

القول الثالث : إنّ حجّية الظواهر مشروطة بعدم حصول الظنّ بالخلاف ،فمع الظنّ بالخلاف لا حجّية لها.

والجواب عنها : أنّ المرجع في حجّية الظواهر هو بناء العقلاء ، ومعلوم أنّ العقلاء لا يعذرون العبد الذي خالف ظاهر كلام مولاه إذا اعتذر عن المخالفة بعدم الظنّ بالوفاق ، أو بحصول الظنّ بالخلاف ، فالظنّ بالخلاف غير قادح في حجّية الظواهر ، فضلا عن عدم الظنّ بالوفاق.

القول الرابع : ما أفاده المحقّق القمّي قدس‌سره (١) من التفصيل بين من قصد إفهامه بالكلام وبين من لم يقصد ، فيكون الكلام حجّة للأوّل دون الثاني. ووجه الفرق بينهما هو : أنّ عدم إرادة الظاهر بالنسبة إلى من قصد إفهامه لا بدّ وأن يكون لأحد احتمالين :

أحدهما : غفلة المتكلّم عن نصب القرينة على إرادته خلاف الظاهر.

ثانيهما : غفلة المخاطب المقصود بالإفهام وعدم التفاته إلى القرينة المنصوبة من قبل المتكلّم ، ومن الواضح أنّ العقلاء لا يعتنون بكلا الاحتمالين ؛ لأصالة عدم الخطأ والغفلة.

وأمّا بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه فليس احتمال إرادة خلاف الظاهر منحصرا بهذين الأمرين كي يرفع بأصالة عدم الخطأ والغفلة ، بل من الممكن

__________________

(١) انظر : قوانين الاصول ١ : ٣٩٨ ـ ٤٠٣ ، وج ٢ : ١٠٣.

١٣٩

أن تكون بين المتكلّم ومن قصد إفهامه قرينة حاليّة أو مقاليّة على إرادة خلاف الظاهر واختفت على من لم يقصد إفهامه ، وليس هنا أصل عقلائي يرفع هذا الاحتمال.

ثمّ إنّه رتّب على هذا التفصيل ثمرة انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّ ظواهر الكتاب والأخبار ليست حجّة من باب الظنّ الخاصّ في حقّنا ، وذلك لاختصاص حجّيتها بالمشافهين والمقصودين بالإفهام ، فإنّ خطابات القرآن غير متوجّهة إلينا ، والروايات أكثرها أجوبة عن الأسئلة ، فهي موجّهة إلى خصوص الرواة السائلين دون غيرهم ، وعليه فيكون العمل بالآيات والأخبار من باب الظنّ المطلق الذي هو حجّة بدليل الانسداد.

وجوابه : أوّلا : أنّ أساس حجّية الظواهر هو بناء العقلاء ، وبعد الرجوع إليهم يستفاد عدم الفرق بين من قصد بالإفهام وغيره في حجّية الظواهر ، ويدلّ عليه عدم الفرق في سبّ الإنسان بين حضوره وغيابه عندهم ، وهكذا صحّة الشهادة بالإقرار من كلّ أحد سمع ذلك الإقرار ، فإذا سمع زيد شخصا يقول : «لعمرو عليّ مائة تومان» يصحّ لزيد أن يشهد بالإقرار وإن لم يكن مقصودا بالإفهام ، ونستكشف من ذلك عموم بناء العقلاء في الأخذ بالظواهر.

وثانيا : أنّ الثمرة التي رتّبها على كلامه ـ من عدم حجّية ظواهر الكتاب والروايات المتضمّنة للجواب والسؤال إلّا من باب الظنّ المطلق وطريق دليل الانسداد ـ ليست بصحيحة وإن كان أصل التفصيل صحيحا ، فإنّ الخطابات القرآنيّة وإن كانت مختصّة بالحاضرين في مجلس التخاطب فقط إلّا أنّ هذا لا يستلزم اختصاص من قصد بالإفهام أيضا بهم ؛ إذ يمكن أن يكون المخاطب

١٤٠