دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

فمثلا : نجاسة الكفّار والمشركين ليس لأجل وجود قذارة فيهم كما هو شأن سائر الأعيان النجسة ، بل أراد الشارع الحكيم بذلك إبعاد المسلمين عن الكفّار وعدم الاختلاط بهم وترك معاشرتهم ؛ لئلّا تسري الأفكار الإلحاديّة في صفوف المسلمين ولا ينتشر الفساد والضلال في أوساطهم ؛ حفظا لشوكة المسلمين وأصالتهم وسيادتهم.

وعليه فمن الممكن أن يكون الموضوع لا اقتضائيّا ، إلّا أنّ الموانع الخارجيّة والمصالح السياسيّة الإسلاميّة تقتضي جعل الحرمة له ، وكذلك بالعكس.

وثانيا : أنّ ورود النهي من الشارع تحديدا للموضوع ليس بيانا لأمر بديهي لا يناسب شأن الإمام عليه‌السلام ؛ لأنّ ما هو كالبديهي إنّما هو فيما لو اريد بالمطلق الإباحة العقليّة في مقابل الحظر العقلي ، ولكنّ مفروض البحث هو الإباحة الشرعيّة الواقعيّة التي هي من الأحكام الخمسة التكليفيّة المتوقّفة على الجعل والتشريع بالضرورة ، ولولاه لم يصحّ إسنادها إلى الشارع.

وثالثا : أنّ مقدّميّة عدم أحد الضدّين للضدّ الآخر إنّما هو ممتنع في دائرة التكوينيّات دون الاعتباريّات التي منها الأحكام الشرعيّة ، فلا مانع من تقييد الإباحة بعدم ورود النهي.

أضف إلى ذلك أنّه لا تضادّ بين الأحكام الشرعيّة كما ذكرناه مرارا ، فلا يجري فيها مقدّميّة عدم أحد الضدّين لوجود الضدّ الآخر.

وأمّا الصورة الثانية فأفاد قدس‌سره (١) في وجه امتناعها امورا ثلاثة :

الأوّل : أنّ موضوع الإباحة الظاهريّة هو الشيء المشكوك حكمه الواقعي ، وهذا الموضوع مغيّا بالعلم بالحكم ، نظير قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٨٧.

٢٦١

تعلم أنّه حرام» حيث أخذ العلم بالحرمة غاية للحلّية الظاهريّة ، ويستحيل أن تكون الإباحة الظاهريّة مغيّاة بصدور النهي واقعا مع بقاء الجهل به ، وإلّا لزم ارتفاع الحكم ـ أي الإباحة الظاهريّة ـ عن موضوعه ـ الشيء المشكوك حكمه الواقعي ـ وليس هذا إلّا تخلّف الحكم عن موضوعه ، وهو في الاستحالة كتخلّف المعلول عن علّته التامّة.

وفيه : أوّلا : أنّه لا يلزم في المقام تخلّف الحكم عن موضوعه التامّ مطلقا ، بل لا بدّ من التفصيل بين ما إذا كان صدور النهي قيدا للإباحة الظاهريّة أو غاية لها ، فعلى الأوّل يكون موضوع الإباحة الظاهريّة هو المشكوك المقيّد بعدم صدور النهي فيه واقعا ، فبمجرّد صدور النهي تنتفي الإباحة بانتفاء أحد جزئي موضوعها ، وهذا ليس من باب تخلّف الحكم عن موضوعه التامّ ، بل من باب انتفاء الموضوع المركّب بانتفاء أحد جزئيّه ، وأمّا على الثاني فيكون الموضوع للإباحة هو المشكوك بما هو مشكوك المجامع مع ورود النهي واقعا ، فيلزم محذور تخلّف الحكم عن موضوعه لا محالة.

وثانيا : أنّ تخلّف الحكم عن موضوعه ليس ممتنعا ، وما ذكر من الامتناع ناش من قياس عالم التشريع بعالم التكوين بتخيّل أنّ الموضوع التامّ بالنسبة إلى حكمه ، كنسبة العلّة التامّة إلى المعلول ، وبما أنّ تخلّف المعلول عن علّته التامّة مستحيل ، فكذلك تخلّف الحكم عن موضوعه.

وقد عرفت أنّ الجهات الخارجيّة دخيلة في جعل الأحكام على متعلّقاتها ، فلا إشكال في تخلّف الحكم عن موضوعه فيما إذا اقتضت المصالح الخارجيّة لذلك.

الأمر الثاني : أنّ الإباحة الظاهريّة حيث إنّها مغيّاة بصدور النهي واقعا ،

٢٦٢

أو مقيّدة بعدم صدوره واقعا ، فمع الشكّ في حصول الغاية أو القيد لا يصحّ ترتيب آثار الإباحة ، بل لا بدّ في ترتيبها من إحراز عدم صدور النهي ، والمفروض أنّ عدم صدوره غير محرز وجدانا ؛ إذ البحث في شيء شكّ في حلّيته وحرمته ، فلا بدّ من إحرازه تعبّدا بأصالة عدم صدور النهي حتّى تثبت الإباحة فعلا للموضوع المشكوك حكمه الواقعي.

ثمّ إن كان الغرض من إجراء الأصل مجرّد نفي الحرمة ظاهرا فلا مانع منه ، إلّا أنّه ليس من الاستدلال بالحديث بل بالأصل.

وإن كان الغرض منه التعبّد بالإباحة الشرعيّة فحينئذ يكون استدلالا بالحديث ، إلّا أنّه لا يجري الاستصحاب لإثبات الإباحة الشرعيّة ، وذلك لعدم إمكان إرادة الإباحة الواقعيّة أو الظاهريّة من الحديث ؛ لما عرفت في الصورة الاولى والأمر الأوّل من الصورة الثانية ، وأمّا استصحاب الإباحة بمعنى اللاحرجيّة العقليّة فغير جار أيضا ؛ لعدم كونها حكما شرعيّا ولا موضوعا لحكم شرعي (١).

وفيه : أوّلا : أنّا نختار أنّ الغرض من إجراء الأصل التعبّد بالإباحة الشرعيّة ، وقد عرفت إمكان إرادة الإباحة الواقعيّة من الحديث في الصورة الاولى ، وأمّا عدم إمكان إرادة الإباحة الظاهريّة فهو مصادرة واضحة ؛ إذ الظاهر من كلامه أنّ الأمر الثاني دليلا مستقلّا مع غضّ النظر عن الأمر الأوّل ، ومن المعلوم أنّ الأمر الثاني لا يدلّ على عدم إمكان إرادة الإباحة الظاهريّة ، وإنّما الأمر الأوّل هو الذي دلّ على ذلك ، وقد عرفت جوابه.

وثانيا : أنّ استصحاب عدم ورود النهي لإثبات الإباحة من الاصول

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٨٧ ـ ١٨٨.

٢٦٣

المثبتة ؛ إذ تحقّق ذي الغاية مع عدم حصول غايته من الأحكام العقليّة كما لا يخفى. نعم ، استصحاب بقاء الإباحة لا مانع منه.

الأمر الثالث : أنّ ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعة للإباحة الظاهريّة ـ كما هو المفروض ـ ومقتضى فرض عدم الحرمة إلّا بقاء هو فرض عدم الحرمة حدوثا ، ومقتضاه عدم الشكّ في الحلّية والحرمة من أوّل الأمر ، فما معنى جعل الإباحة الظاهريّة المبعوثة بالشكّ في الحلّيّة والحرمة في فرض عدم الحرمة إلّا بقاء (١).

وفيه : أنّ عدم الحرمة إلّا بعد ورود النهي لا يستلزم عدم حصول الشكّ في الحليّة والحرمة من أوّل الأمر ، فإنّ تحقّق الشكّ للمكلّف ضروري مع شكّه في ورود النهي وعدمه ، وهو كاف في جعل الإباحة الظاهريّة.

الجهة الثالثة : فيما هو الظاهر من الرواية بلحاظ مقام الإثبات :

لا شكّ في أنّ المراد من كلمة «يرد» في الرواية هو الوصول إلى المكلّف لا الصدور من الشارع ، وذلك لانقطاع الوحي في زمن صدور الرواية ؛ لأنّها وردت في زمان الإمام الصادق عليه‌السلام.

وأيضا لا شكّ في أنّ المراد من كلمة «نهي» هو النهي الواقعي المتعلّق بأفعال المكلّفين بعناوينها الأوّلية ، والدليل على ذلك هو إضافة النهي إلى الشيء ، فالموضوع بما هو شيء متعلّق للنهي لا بما هو مشكوك الحكم ، وعليه فيكون الحديث معارضا لدليل الاحتياط ، ومع عدم وصول النهي الواقعي يكون الحكم هو الإطلاق.

ثمّ لا يخفى أنّه ليس المراد من الإطلاق اللاحظر العقلي حتّى تكون الآية

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٦٤

بصدد بيان حكم عقلي ؛ لأنّ ذلك خلاف ظاهر مولويّة الخطاب الصادر من الشارع.

فتحصّل : أنّ دلالة الرواية على البراءة ممّا لا إشكال يعتريه ، بل تكون البراءة المستفادة منها معارضة مع دليل الاحتياط.

الرواية الثالثة : قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لم يعلموا» (١).

ولا شكّ في دلالته على البراءة ، وإنّما الكلام في أنّ المستفاد منه براءة محكومة لدليل الاحتياط أم معارضة له.

فذهب المحقّق النائيني قدس‌سره (٢) إلى أنّ كلمة «ما» إن كانت موصولة فالبراءة المستفادة من الحديث تعارض أدلّة الاحتياط ؛ إذ مفاده : أنّ الناس من جهة الجهل بالحكم الشرعي يكونون في سعة ، فيعارض به أخبار الاحتياط الدالّة على كون الناس في الضيق من جهة الحكم الشرعي المجهول.

وأمّا إن كانت مصدريّة زمانيّة فيكون مفاد الحديث : أنّ الناس ما داموا لا يعلمون يكونون في سعة ، فيكون دليل الاحتياط حاكما عليه ؛ لأنّه بيان ، وهو شبيه حكومة دليل الاحتياط على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والتحقيق : أنّ القسم الأوّل من كلامه قدس‌سره صحيح ولا يكون قابلا للمناقشة ، وأمّا القسم الثاني من كلامه قدس‌سره فلا يكون قابلا للمساعدة ، فإنّ المراد من «لا يعلمون» هو الجهل بالواقع ، فلا بدّ ممّا يرد في مقابله بعنوان البيان أن يرفعه وينقلب إلى العلم ، ومعلوم أنّ وجوب الاحتياط ليس بيانا للواقع حتّى يكون كذلك ، فإنّ مجرى الاحتياط ومورد دليل وجوب الاحتياط هو الشكّ في

__________________

(١) المستدرك ١٨ : ٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات الحدود ، الحديث ٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٨١.

٢٦٥

الحكم الواقعي ، ولا يمكن أن يكون الأصل العملي بعنوان البيان والعلم ورافعا للشكّ ، وعليه فالبراءة المستفادة من الحديث معارضة لأدلّة الاحتياط ، سواء كانت كلمة «ما» مصدريّة أو موصولة.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ذهب إلى تفصيل آخر ، وتوضيحه : أنّ وجوب الاحتياط المستفاد من الأدلّة إمّا يكون طريقيّا ، بمعنى أنّ وجوب الاحتياط إنّما يكون طريقا إلى الحكم الواقعي المجهول ، فيكون الملاك في جعل وجوب الاحتياط من قبل الشارع مجرّد الاحتفاظ بالواقع في ظرف الجهل به ، ومن الواضح أنّه لا ثواب ولا عقاب لهذا الأمر الاحتياطي.

وإمّا يكون نفسيّا بأن يكون الاحتياط واجبا في نفسه من دون نظر إلى الواقع المجهول وذلك لجعل المكلّف أشدّ مواظبة وأقوى إرادة على ترك المحرّمات وإتيان الواجبات ، ومن الواضح ترتّب الثواب والعقاب على هذا الأمر الاحتياطي.

ثمّ إذا كان وجوب الاحتياط طريقيّا فتكون البراءة معارضة له ؛ إذ حديث السعة ظاهر في الترخيص في مورد الحكم الواقعي المجهول ، ودليل وجوب الاحتياط الطريقي ظاهر في أنّ إيجابه إنّما هو لأجل التحفّظ على الحكم الواقعي المجهول ، فيكون المكلّف في ضيق منه ، وهذا هو التعارض.

وأمّا إن كان إيجاب الاحتياط نفسيّا فحينئذ يكون رافعا لموضوع حديث السعة ويقدّم عليه ، وذلك لأنّ المكلّف بعد العلم بوجوب الاحتياط النفسي لا محالة يقع في ضيق من ناحية هذا الوجوب ، ولكن لا يقع في ضيق من ناحية الحكم الواقعي المجهول حتّى يعارض حديث السعة ؛ إذ وجوب الاحتياط ـ كما

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ١٧٧.

٢٦٦

هو المفروض ـ حكم نفسي ناش عن ملاكه ، ولا علاقة له بالواقع المجهول.

وفيه : أوّلا : أنّ التعارض ثابت على كلا التقديرين ، أمّا بناء على الطريقيّة فواضح ، وأمّا بناء على النفسيّة فلأنّ مفاد حديث السعة هو التوسعة على الناس ورفع الضيق عنهم في ظرف الشكّ والجهل بالواقع ، ومعلوم أنّ جعل الاحتياط ولو بملاك نفسي في هذا الظرف يوجب الضيق على الناس فيتعارضان.

وثانيا : أنّه لو كان دليل الاحتياط بالوجوب النفسي رافعا لموضوع حديث السعة لكان جعل الترخيص والسعة لغوا ؛ إذ لا ينفكّ موضوعه عن موضوع الاحتياط ولو في مورد ما.

الرواية الرابعة : قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١).

فتدلّ على أنّ التكليف المجهول ممّا حجب الله علمه عن العباد فهو مرفوع وموضوع عنهم ، وهذا الحديث يعارض أدلّة الاحتياط ؛ لأنّها تدلّ على عدم رفع ما حجب الله علمه ، أي التكليف المجهول عن العباد.

وقد اورد على الاستدلال بالحديث بأنّ ظاهر إسناد الحجب إلى الله تعالى هو الأحكام التي لم يبيّنها الله تعالى أصلا ، إمّا لأجل التسهيل والتوسعة على الامّة ، أو لأجل مانع من البيان مع وجود المقتضي لها ، فلا يشمل الأحكام التي بيّنها الله تعالى ولكن خفيت على العباد لظلم الظالمين ومنع المانعين ، فيكون مفاد هذا الحديث هو مفاد قوله عليه‌السلام : «اسكتوا عمّا سكت الله عنه» (٢) ويكون

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

(٢) عوالي اللئالي ٣ : ١٦٦ ، الحديث ٦١.

٢٦٧

أجنبيّا عن أصل البراءة.

وجوابه : أوّلا : أنّ هذا الظهور يعارضه ظهور آخر ، وتوضيحه : أنّ كلمة «وضع» إن تعدّت بحرف الاستعلاء دلّت على جعل شيء على شيء وإثباته له ، وإن تعدّت بحرف المجاوزة دلّت على معنى الإسقاط كقوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ)(١) ، أي أسقطها ورفعها عنهم ، ومن الواضح أنّ إسقاط شيء عن شيء فرع استقراره فيه.

وعليه فالظاهر من قوله عليه‌السلام : «موضوع عنهم» رفع ما هو مجعول بحسب الواقع ، لا ما لم يجعل أصلا وكان مسكوتا عنه من أوّل الأمر ، فإنّ ما لم يجعل من البداية لا يتعلّق به الرفع والإسقاط كما هو واضح ، فليس مفاد الحديث مفاد قوله عليه‌السلام : «اسكتوا عمّا سكت الله».

وثانيا : أنّ إسناد الحجب إليه تعالى ، فلأجل ما برهن عليه في المباحث الكلامية من أنّ الأفعال الاختياريّة كما يصحّ إسنادها إلى فاعلها كذلك يصحّ إسنادها إلى الله تعالى بعد ما كان ممكن الوجود مرتبطا بالعلّة ، بل هو عين الربط بها ، ولا استقلال له لاحتياجه في كلّ آن إلى العلّة ، فلا مانع من إسناد الحجب إليه تعالى ، وإن كان المانع عروض العوارض من ظلم الظالمين ومنع المانعين وضياع الكتب.

ولكنّ التحقيق : أنّ إسناد الأفعال الاختياريّة إليه تعالى وإن كان صحيحا مع توجّه التحسين والتوبيخ إلى الفاعل المباشر ، إلّا أنّ إسناد أفعال غير حسنة إليه تعالى أمر غير معهود في الكتاب والسنّة.

الرواية الخامسة : قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

٢٦٨

بعينه» (١).

وقد استدلّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) بالرواية على البراءة في الشبهات الحكميّة كالشبهات الموضوعيّة ، بدعوى أنّها تدلّ على حلّيّة ما لم يعلم حرمته مطلقا ، ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته.

والصحيح عدم صحّة الاستدلال بها على البراءة في الشبهات الحكميّة ، فتختصّ بالشبهات الموضوعيّة ، وذلك لقرينة «بعينه» فإنّ الظاهر من الكلمة هو الاحتراز عن العلم بالحرام لا بعينه ، ولا ينطبق ذلك إلّا على الشبهة الموضوعيّة ؛ إذ لا يتصوّر العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكميّة ، فإنّه مع الشكّ في حرمة شيء وحلّيته لا علم لنا بالحرام لا بعينه.

والحاصل : أنّ الرواية تفصّل بين نوعين من العلم بالحرام : أحدهما : العلم بالحرام بعينه كالعلم بخمريّة هذا المائع ، فيجب الاجتناب حينئذ.

الثاني : العلم بالحرام لا بعينه كما إذا شككنا في أنّ المائع الخارجي خمر أو خلّ ، فإنّ الحرام ـ وهو الخمر ـ معلوم لا بعينه ، فلا يجب الاجتناب حينئذ بل هو حلال ، وهذا التعبير لا ينطبق إلّا على الشبهة الموضوعيّة كما عرفت.

نعم ، ذكر استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (٣) بأنّه يمكن منع قرينيّة كلمة «بعينه» وذلك بجعلها تأكيدا للعلم والمعرفة لا للحرام ، فيكون كناية عن وقوف المكلّف على الأحكام وقوفا علميّا لا يشوبه شكّ ، وعليه فيتمّ الاستدلال بالحديث في الشبهات الحكميّة.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ١٧٥.

(٣) تهذيب الاصول ٢ : ١٧٥.

٢٦٩

ولكن قد عرفت أنّ الظاهر من الكلام أنّه احتراز عن العلم بالحرام لا بعينه لا تأكيدا للمعرفة ، خصوصا مع اشتمال لفظ «بعينه» على الضمير الراجع إلى الحرام لا إلى المعرفة.

ثمّ أفاد قدس‌سره بأنّ الرواية بصدد جعل الترخيص في ارتكاب أطراف المعلوم بالإجمال ، فيكون وزانها وزان قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه» ، فلا يصحّ الاستدلال بها في الشبهات البدويّة ، حكميّة كانت أو موضوعيّة.

ولا يخفى عليك الفرق الواضح بين الوزانين ، فإنّ الرواية التي نبحث فيها تشمل الشبهات البدويّة بخلاف الرواية الثانية.

الرواية السادسة : قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١).

والبحث في هذه الرواية من جهتين :

الاولى : في أنّها تشمل الشبهة الحكميّة في باب البراءة أم لا؟

الجهة الثانية : في أنّها بعد فرض عدم شمولها للشبهة الحكميّة هل تشمل الشبهة البدويّة الموضوعيّة ، أم تختصّ بالشبهة الموضوعيّة في أطراف العلم الإجمالي؟

والتحقيق في الجهة الاولى : أنّه لا يصحّ الاستدلال بهذه الرواية على البراءة في الشبهات الحكميّة ؛ إذ فيها قرينتان تقتضيان اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة :

الاولى : كلمة «بعينه» وقد مرّ توضيحها في الرواية السابقة.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٢٧٠

القرينة الثانية : قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» فإنّه ظاهر في الانقسام الفعلي ، بمعنى أن يكون هناك قسم حلال وقسم حرام ، وقسم مشكوك فيه لم يعلم من أيّهما كما في المائع المشكوك في كونه خلّا أو خمرا ، ومن الواضح أنّ الانقسام الفعلي إنّما يجري في الشبهات الموضوعيّة ، وأمّا في الشبهات الحكميّة فليس فيها إلّا احتمال الحرمة والحلّية كما في شرب التتن.

وذهب المحقّق العراقي قدس‌سره (١) إلى أنّه يمكن أن يقال بشمول الرواية للشبهات الحكميّة ؛ نظرا إلى إمكان فرض الانقسام الفعلي فيها أيضا كما في كلّي اللحم ، فإنّ فيه قسمين معلومين : قسم حلال وهو لحم الغنم ، وقسم حرام وهو لحم الأرنب ، وقسم ثالث مشتبه وهو لحم الحمير لا يدرى بأنّه محكوم بالحلّية أو الحرمة ، ومنشأ الاشتباه فيه هو وجود القسمين المعلومين ، فيقال بمقتضى عموم الرواية أنّه حلال حتّى تعلم حرمته.

وفيه : أنّ الظاهر من الرواية أنّ منشأ الشكّ في الحلّية والحرمة هو نفس الانقسام الفعلي إلى الحلال والحرام كما هو الحال في الشبهات الموضوعيّة ، ومن الواضح أنّ منشأ الشكّ في الشبهة الحكميّة ـ كلحم الحمير ـ ليس ناشئا من انقسام اللحم إلى الحلال والحرام ، بل هذا النوع من اللحم بنفسه مشكوك فيه من حيث الحلّية والحرمة ، إمّا لفقدان النصّ أو إجمال النصّ أو تعارض النصّين ، وأمّا انقسام أنواع اللحم إلى الحلال والحرام فلا دخل له بالشكّ في لحم الحمير بوجه ، ولذا لو فرضنا حرمة جميع أنواع اللحم ما عدا الحمير أو حلّيتها لكان الشكّ في لحم الحمير من حيث الحلّية والحرمة باق على حاله ، وعليه فالرواية لا تشمل الشبهات الحكميّة.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٣٣.

٢٧١

والتحقيق في الجهة الثانية أيضا عدم صحّة الاستدلال بالرواية على البراءة في الشبهات البدويّة الموضوعيّة ، فإنّ الظاهر منها كون القسمين من الحلال والحرام مورد الابتلاء بالفعل ، وهذا لا يتصوّر إلّا في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، والرواية في صدد جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي كما سيأتي توضيحه في باب الاشتغال.

الدليل الثالث : الإجماع

لا يخفى أنّ ما ينفع منه في المقام هو إجماع كافّة العلماء من الاصوليّين والأخباريّين على البراءة في الشبهة الحكميّة ، وواضح أنّه لم ينعقد الإجماع على هذا الوجه ، بل هو مقطوع العدم ، فإنّ جلّ الأخباريّين ذهبوا إلى وجوب الاحتياط فيها ، ولا يمكن دعوى عدم قدح مخالفتهم في تحقّق الإجماع مع كونهم من العلماء الأجلّاء.

ثمّ إنّ هذا الإجماع على فرض انعقاده ليس إجماعا تعبّديّا كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام بل هو إجماع مدركي ، فلا بدّ من الرجوع إلى نفس المدرك.

الدليل الرابع : العقل

والبحث عنه يقع في جهات ثلاث :

الاولى : في تماميّة قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو عدم تماميّتها في نفسها؟

الجهة الثانية : في ملاحظتها مع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

الجهة الثالثة : هل أنّها تعارض أدلّة الاحتياط أو محكومة لها؟

أمّا الجهة الاولى : فلا شكّ في استقلال العقل بقبح العقاب والمؤاخذة عند عدم البيان أو عدم وصول التكليف إلى العبد ، فيكون العقاب على مخالفته

٢٧٢

قبيحا عقلا ؛ إذ فوت غرض المولى حينئذ ليس مستندا إلى تقصير من العبد ، بل مستند إلى عدم تماميّة البيان من قبل المولى.

وعليه فالمكلّف بعد الفحص التامّ وعدم وجدانه دليلا على الحكم يكون معذورا عند العقل في عدم امتثال التكليف المجهول ، وإن كان هناك بيان في الواقع ، وهذا متّفق عليه بين الاصوليّين والأخباريّين.

وظهر بما ذكرنا أنّ موضوع حكم العقل بقبح العقاب هو عدم البيان الواصل إلى المكلّف ؛ إذ من الواضح أنّ الانبعاث نحو عمل أو الانزجار عنه إنّما هو من آثار التكليف الواصل ، لا التكليف بوجوده الواقعي ، فإنّه لا يكون محرّكا وزاجرا للعبد ، ولا يتمّ به الحجّة عليه.

ثمّ إنّ المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) ذهب إلى أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وإن كان صحيحا في نفسه ، إلّا أنّه أجنبيّ عمّا يعيّنه الاصولي ، وقال في توضيحه : إنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مأخوذ من الأحكام العقلائيّة التي حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع ، ومن الواضح أنّ هذا الحكم العقلي العملي ليس منحازا عن الأحكام العقليّة العمليّة الاخرى ، بل هو فرد من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء ، فإنّ مخالفة التكليف الذي قامت عليه الحجّة هتك لحرمة المولى وخروج عن رسم العبوديّة ، وهو ظلم من العبد إلى مولاه ، فيستحقّ الذمّ والعقاب عليه ، كما أنّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم ، وحينئذ فالعقوبة عليه ظلم من المولى إلى عبده ، وهو قبيح من كلّ أحد ؛ لأنّه يؤدّي إلى فساد النوع واختلال النظام ، ولا يخفى أنّ المهمّ هو دفع استحقاق العقاب على فعل محتمل

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٩٠ ـ ١٩١.

٢٧٣

الحرمة ـ مثلا ـ ما لم تقم عليه حجّة منجّزة له ، وحيث إنّ موضوع الاستحقاق بالآخرة هو الظلم على المولى ، فمع عدمه لا استحقاق قطعا ، وعليه فلا حاجة إلى ضمّ قبح العقاب بلا بيان وإن كان صحيحا في نفسه.

وحاصل كلامه قدس‌سره : أنّ البحث في باب البراءة يرتبط بشأن من شئونات المكلّف ، وأنّه إذا شرب التتن بعد الفحص واليأس عن الدليل على حلّيته وحرمته لا يستحقّ العقوبة.

وأمّا قاعدة قبح العقاب بلا بيان فالمقصود منها أنّ عقوبة المولى للمكلّف عند عدم تماميّة الحجّة على التكليف من قبله قبيح ؛ لأنّه ظلم من المولى على العبد ، فلا ينطبق الدليل على المدّعى ، فإنّ القاعدة ترتبط بالمولى لا بالمكلّف. على أنّه لا أصالة لها بل هي من مصاديق الظلم.

وأورد عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) : أوّلا : أنّه لا شكّ في أنّ العقل مستقلّ بوجوب إطاعة المنعم وقبح مخالفته ، كما أنّه مستقلّ باستحقاق العقوبة للمتخلّف ، ومع قطع النظر عن جميع الجهات الاخرى فالحكم باستحقاق العقوبة ليس بملاك انطباق عنوان الظلم.

وثانيا : أنّ المهمّ فيما نحن فيه هو تحصيل المؤمّن من العقاب حتّى يجوز للمكلّف ارتكاب محتمل الحرمة ، ومعلوم أنّه إنّما يحصل بالتمسّك بكبرى قبح العقاب بلا بيان ، وأمّا مجرّد دفع الاستحقاق بمناط أنّ الارتكاب ليس ظلما فلا يكفي في ذلك ؛ لأنّ دفع الاستحقاق من جهة الظلم لا يصير مؤمّنا عن عامّة الجهات ما لم ينضمّ إليه حكم العقل بقبح العقاب من المولى عند عدم البيان.

وأمّا الجهة الثانية : فسيأتي البحث فيها عند مناقشة أدلّة الأخباريّين.

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٨٩.

٢٧٤

وأمّا الجهة الثالثة : فلا شكّ في أنّ أدلّة الاحتياط ـ على تقدير تماميّتها ـ واردة على كبرى قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها ؛ إذ على تقدير وجوب الاحتياط يتمّ البيان من قبل المولى فلا يبقى موضوع للكبرى العقليّة ، وقد قلنا في أوّل بحث البراءة بأنّ التمسّك بهذه الكبرى لا ينفع في مقام ردّ الأخباريّين ؛ إذ لا نزاع بين الفريقين في أصل تماميّة الكبرى ، وإنّما النزاع في الصغرى حيث ذهب الأخباريّون إلى تماميّة البيان وقيام الحجّة على التكاليف بأدلّة الاحتياط ، وذهب الاصوليّون إلى عكس ذلك.

هذا تمام الكلام في أدلّة البراءة.

٢٧٥
٢٧٦

المقام الثاني : في أدلّة الأخباريّون على الاحتياط

وأمّا الأخباريّون فقد استدلّوا بكلّ من الكتاب والسنّة والعقل على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكميّة التحريميّة :

الدليل الأوّل : الكتاب

ومنه : الآيات الآمرة بالتقوى ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(١) بتقريب : أنّ حقّ التقوى المأمور بها في الآية الشريفة هو الاجتناب عن الشبهات التحريميّة ، فإنّ الاقتحام فيها ينافي حقّ التقوى الواجب.

وفيه : أوّلا : أنّ ارتكاب الشبهة استنادا إلى ما يدلّ على الترخيص شرعا وعقلا ـ كما ذكرناه ـ ليس منافيا للتقوى ، بل هو التقوى.

وثانيا : أنّ الأوامر الآمرة بالتقوى ليست أوامر مولويّة وإنّما هي أوامر إرشاديّة ، فلا تدلّ على الوجوب ؛ لأنّ الأمر الإرشادي دائما تابع للمرشد إليه ، والدليل على كون الأمر بالتقوى إرشاديّا هو أنّ التقوى لا تصدق إلّا بعد فرض ما يتّقى منه في الرتبة السابقة ، فلا بدّ من افتراض تنجّز التكليف

__________________

(١) آل عمران : ١٠٢.

٢٧٧

والعقوبة كما في الواجبات والمحرّمات المعلومة في الرتبة السابقة على الأمر بالتقوى ، وقد عرفت عدم تنجّز التكليف في الشبهة البدويّة.

وثالثا : لو فرضنا أنّ الأمر بالتقوى مولويّا وليس إرشاديّا ، لكنّه مع ذلك لا ينفع الأخباري شيئا ، وذلك لأنّ هيئة الأمر في الآية الشريفة لا يصحّ حملها على الوجوب ، بل لا بدّ من حملها على الاستحباب والرجحان ، وذلك لأنّ الآية لو شملت الشبهة لشملتها بجميع أقسامها بما فيها الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة الوجوبيّة ، ومن الواضح أنّ الأخباري والاصولي متّفقان على عدم وجوب الاحتياط فيهما ، وعليه فيدور الأمر بين التصرّف في الهيئة وحملها على الاستحباب دون الوجوب ، وبين التصرّف في المادّة ـ أعني به التقوى ـ وتخصيصها بما عدا الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة الوجوبيّة ، وبما أنّ لسان الآية آب عن التخصيص ـ مع استلزامه لتخصيص الأكثر ـ فيتعيّن التصرّف في الهيئة دون المادّة ، وتكون النتيجة : أنّ الاحتياط راجح في مطلق الشبهة ، وواضح أنّ الاصولي لا ينكر رجحان الاحتياط أبدا كما سيأتي.

ومنه : الآيات الناهية عن القول بغير علم ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١).

ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الطائفة جدّا ، فإنّ الاصولي لا يقول بالحلّية في الشبهات الحكميّة إلّا عن دليل ، فيكون قولا عن علم ؛ إذ لا شكّ في حرمة التشريع عند أحد ، فكما أنّ الأخباري لا يقول بوجوب الاحتياط إلّا عن دليل ، فكذلك الاصولي في حكمه بالإباحة ، فلو كان قوله بالإباحة عن دليل

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

٢٧٨

قولا بغير علم ، فقول الأخباري بوجوب الاحتياط عن دليل أيضا كذلك.

والقول بأنّ الأخباري يترك الشبهة عملا لاحتمال الحرمة بخلاف الاصولي حيث إنّه يرتكب الشبهة عملا ، ولا مجال للسؤال عن ترك المباح فضلا عن ترك الشبهة ، ويصحّ السؤال عن الارتكاب ، مكابرة ظاهرة ، فإنّ الأخباري يحكم بوجوب الاحتياط والحرمة في مورد ارتكاب الشبهة التحريميّة.

ومنه : الآيات الناهية عن إلقاء النفس في التهلكة ، كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(١) بتقريب : أنّ ارتكاب مشتبه الحرمة إلقاء للنفس في التهلكة.

وفيه : أوّلا : أنّه ليس في ارتكاب الشبهة تهلكة بعد ما ورد الترخيص فيها من الشرع والعقل ، بل التهلكة في مخالفة التكليف المعلوم بالتفصيل أو بالإجمال.

وثانيا : أنّ النهي في الآية إرشادي كما ذكرنا في الآيات الآمرة بالتقوى.

وثالثا : أنّ الآية الشريفة أجنبيّة عمّا نحن فيه ؛ لوقوعها في سياق آيات الجهاد ، ويكون المعنى حينئذ : أنفقوا في سبيل الله بجهادكم وبذل الأموال والأنفس ، ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة بترك الجهاد بما يستلزمه من بذل النفس والنفيس ؛ لكي لا يتسلّط عليكم العدو فتذهب سيادتكم وسطوتكم.

الدليل الثاني : السنّة

وهي على طوائف :

الطائفة الأولى : ما دلّ على حرمة الإفتاء بغير علم.

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

٢٧٩

وجوابها بأنّ الحكم بالإباحة الظاهريّة استنادا ما ذكرناه من الدليل الشرعي والعقلي لا يكون إفتاء بغير علم كما هو واضح.

الطائفة الثانية : ما دلّ على وجوب الردّ إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند عدم العلم.

وجوابها : أنّ هذا الطائفة تمنع من الإفتاء بالآراء والأهواء والتقوّل بلا رجوع إلى مصادر التشريع ، وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه ، فإنّ الاصولي إنّما حكم بالإباحة الظاهريّة في الشبهات البدويّة بعد الرجوع إلى الكتاب والسنّة واليأس من الدليل.

الطائفة الثالثة : ما دلّ على التوقّف عند الشبهة بلا تعليل :

منها : قوله عليه‌السلام : «أورع الناس من وقف عند الشبهة» (١).

ومنها : قوله عليه‌السلام : «لا ورع كالوقوف عند الشبهة» (٢).

ولا يخفى ظهورهما في الاستحباب ، والاصولي أيضا لا ينكر رجحان الاحتياط.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك» ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ : «أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج ...» (٣).

ولا يخفى أنّ هذا الحديث راجع إلى آداب القاضي ، وهو مستحبّ إجماعا.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا» (٤).

ومعلوم أنّ هذا الحديث ناظر إلى إنكار الحقّ بلا دليل ، ومن الواضح أنّ الاصولي إنّما ينكر وجوب الاحتياط لقيام الدليل على خلافه ، مع أنّه لا يرتبط

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٦٢ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

(٢) المصدر السابق : ١٦١ ، الحديث ٢٣.

(٣) المصدر السابق : ١٥٩ ، الحديث ١٨.

(٤) المصدر السابق : ١٥٨ ، الحديث ١١.

٢٨٠