دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

الشبهة المصداقيّة لنفسه ، وهو لا يصحّ اتّفاقا.

وأمّا لو كان الدليل هو الوجه الأخير ، فإن كانت الشبهة مصداقيّة فالظاهر أنّه لا يجب الاجتناب ؛ لأنّ العلم الإجمالي بوجود الحرام الواقعي في البين وإن كان موجبا للاحتياط ، إلّا أنّه إذا خرج من ذلك ما إذا قامت الأمارة العقلائيّة على عدم كون كلّ واحد من الأطراف هو الحرام الواقعي بالقياس إلى غيره ، فهو نظير ما إذا دلّ الدليل الشرعي على ذلك ، فالتمسّك بدليل التكليف الواقعي في مورد الشكّ من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، وحينئذ فلا يبقى وجه لوجوب الاجتناب.

وأمّا لو كانت الشبهة مفهوميّة فالواجب الرجوع إلى دليل التكليف الواقعي والحكم بوجوب الاجتناب ؛ لعدم ثبوت كون مورد الشكّ خارجا ، نظير ما إذا كان المخصّص اللفظي مجملا مفهوما ، مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، كما لا يخفى.

تنبيهان

الأوّل : أنّه بعد الحكم بعدم تأثير العلم الإجمالي في الشبهة الغير المحصورة ، هل تكون الأطراف محكومة بالحكم المترتّب على الشكّ البدوي ، فلا يجوز التوضّي بالمائع المشتبه بين الماء والبول بالشبهة الغير المحصورة ـ كما هو الشأن في المشتبه بالشبهة البدويّة ـ ضرورة لزوم إحراز أنّ ما يتوضّأ به ماء مطلق ، أو تسقط الأطراف عن حكم الشكّ البدوي أيضا ، فيجوز الوضوء بالمائع المردّد بين الماء والبول في المثال؟ وجهان مبنيّان على الوجهين السابقين اللذين استند إليهما لنفي وجوب الاحتياط في الشبهة الغير المحصورة.

فإن كان المستند في ذلك هي روايات الحلّ فلا يجوز التوضّي به في المثال :

٤٠١

لأنّ مدلولها مجرّد الحلّيّة في مقابل الحرمة ، وأمّا إثبات الموضوع وأنّ الحلال هو الماء فلا تدلّ عليه أصلا ، كما هو الشأن في الشكّ البدوي ، كما لا يخفى.

وأمّا لو كان المستند هو الوجه الأخير الذي مرجعه إلى وجود أمارة عقلائيّة في كلّ واحد من الأطراف ، فتسقط عن حكم الشكّ البدوي أيضا ؛ لأنّ الأمارة قائمة على عدم كون كلّ واحد منها هو البول ، والمفروض اعتبار هذه الأمارة شرعا ، فكلّ واحد من الأطراف محكوم شرعا بعدم كونه بولا ، فيجوز التوضّي به.

هذا ، ولا يخفى أنّه بناء على ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) من الوجه لعدم وجوب الاحتياط في الشبهة الغير المحصورة ـ وهو أنّه لا تكون المخالفة القطعيّة بمحرّمة ؛ لعدم القدرة عليها ، ووجوب الموافقة القطعيّة فرع حرمة المخالفة ، فإذا فرض عدمها لا تكون الموافقة أيضا واجبة ـ لا بدّ من الالتزام بكون كلّ واحد من الأطراف هو حكم الشكّ البدوي ، كما هو واضح ، مع أنّه ذكر الفاضل المقرّر أنّه كان شيخه الاستاذ مائلا إلى سقوط حكم الشبهة البدويّة أيضا ، فتدبّر.

الثاني : عرفت أنّ روايات الحلّ لا تشمل الشبهة الغير المحصورة الوجوبيّة ؛ لانحصار موضوعها بالمختلط من الحلال والحرام. نعم ، الوجه الأخير يشمل الصورتين معا ، وحينئذ فلو نذر أن يشرب من إناء معيّن واشتبه بين الأواني الغير المحصورة وخرج جميع الأطراف عن محلّ الابتلاء وبقي واحد منها فقط ، فلا يجب الشرب من الإناء الذي هو محلّ للابتلاء ؛ لقيام الأمارة العقلائيّة على عدم كونه هو الإناء الذي نذر أن يشرب منه ، بعد كون احتمال أنّه هو ذلك الإناء ضعيفا لا يعتنى به عند العقلاء.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ١١٩.

٤٠٢

الأمر الخامس : في حكم الملاقي لأحد أطراف

العلم الإجمالي بوجود النجس

وهذه المسألة تقع موردا للابتلاء كثيرا ما ، كما إذا علمنا بنجاسة نقطة من البساط ثمّ لاقاه برجل مرطوبة مثلا ، فهل يكون الملاقي محكوما بالنجاسة أو الطهارة أو يتحقّق التفصيل في المسألة؟

وتنقيح الكلام في هذا المقام يتمّ ببيان امور :

الأوّل : أنّ العلم بالملاقاة قد يكون متقدّما على العلم الإجمالي بوجود النجس في البين ، وقد يكون متأخّرا عنه ، وقد يكون مقارنا له ، وعلى أي تقدير فقد يكون الملاقى ـ بالفتح ـ موردا للابتلاء ، وقد يكون خارجا عنه مطلقا أو حين العلم الإجمالي بالنجس.

ثمّ إنّه قد يعلم أوّلا بنجاسة الملاقي والطرف ، وقد يعلم أوّلا نجاسة الملاقى والطرف ، وقد يعلم نجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف ، وأنّ ملاقي النجس نجس بعنوانه.

الثاني : أنّ الظاهر أنّ نجاسة ملاقي النجس إنّما هي حكم وضعي تعبّدي ثابت لموضوعه ، ولا تكون من آثار النجس بحيث كان معنى الاجتناب عن النجس راجعا إلى الاجتناب عنه وعمّا يلاقيه.

٤٠٣

نعم ، يمكن أن يقال بأنّ تنجيس النجس الراجع إلى سببيّته لنجاسة الملاقي يكون مجعولا شرعا ، بناء على ما هو الحقّ من إمكان جعل السببيّة ، وأمّا السراية التكوينيّة فقد لا تكون متحقّقة ، كما لا يخفى.

ويستفاد من كلام الشيخ رحمه‌الله أنّ معنى الاجتناب عن النجس هو الاجتناب عنه وعمّا يلاقيه.

وقد يستدلّ لذلك بقوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)(١) ؛ لأنّ هجر النجاسات لا يتحقّق إلّا بهجر ملاقيها.

وقد يستدلّ برواية جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه أتاه رجل ، فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ فقال : أبو جعفر عليه‌السلام «لا تأكله» فقال الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّك لم تستخفّ بالفأرة ، إنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» (٢).

وجه الدلالة أنّه عليه‌السلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، ولو لا استلزامه لتحريم ملاقيه لم يكن أكل الطعام استخفافا بتحريم الميتة ، فوجوب الاجتناب عن شيء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.

أقول : أمّا قوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فنمنع أوّلا أن يكون المراد بالرّجز هي الأعيان النجسة ، ونمنع ثانيا كون المراد بالهجر هو هجره وهجر ما يلاقيه.

وأما الرواية فمضافا إلى ضعف سندها لا بدّ من ملاحظة أمرين فيها :

الأوّل : أنّ حمل الحرمة في قوله : «إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» على النجاسة مضافا إلى أنّه خلاف الظاهر لا شاهد عليه ، بل معناها حرمة أكل

__________________

(١) المدّثر : ٥.

(٢) الوسائل ١ : ٢٠٦ ، الباب ٥ من أبواب الماء المضاف ، الحديث ٢.

٤٠٤

ميتة ، ومعلوم أنّ حرمة أكل كلّ ميتة لا يستلزم النجاسة ، فإنّ السمكة إذا ماتت في الماء ولم تحقّق التذكية الشرعيّة لها تكون ميتة محرّمة الأكل ، لكنّها ليست بنجسة.

الثاني : أنّه لا ملازمة بين حرمة الشيء وحرمة ملاقيه ، وأنّ التصرّف الحرام في المال المغصوب لا يستلزم حرمة ملاقيه ، وهذه المسألة من اختصاصات باب النجاسات فقط.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ قوله عليه‌السلام : «إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء» بمنزلة التعليل في الرواية ، وهو يدور مدار الحرمة لا النجاسة ، وقلنا : إنّ حرمة الشيء لا يستلزم حرمة الملاقي ، ومن هنا تتحقّق مشكلة ، وهي عدم التناسب والارتباط بين سؤال السائل وجواب الإمام ، فإنّ السؤال يكون عن أكل السمن والزيت الكذائي ، والجواب يكون عن حرمة الميتة ، وهذا ما اضطرّ الشيخ رحمه‌الله إلى اتّخاذ الطريق المذكور ، فجعل المدار في استدلال الإمام عليه‌السلام مسألة نجاسة الميتة ، مع أنّه خلاف الظاهر.

ولكنّ التحقيق : أنّه يحتمل قويّا أن يكون مورد السؤال هو وقوع الفأرة في الطعام بحيث تفسّخت فيه وانبثّت أجزاؤها ، فحرمة أكل الطعام إنّما هو من حيث أنّه مستلزم لأكل الميتة ، والدليل على ذلك هو التعليل الدالّ على أنّ ترك الاجتناب عن الطعام استخفاف بتحريم الميتة ؛ ضرورة أنّه لم يقل أحد بأنّ حرمة شيء تستلزم حرمة ما يلاقيه.

ودعوى أنّ الطباع تتنفّر من أكل الطعام الكذائي الذي صارت أجزاء الميتة مخلوطة بأجزائه فلا ينبغي حمل مورد السؤال عليه ، مدفوعة بقول السائل : «الفأرة أهون علىّ من أن أترك طعامي من أجلها» خصوصا بعد ملاحظة

٤٠٥

حال الأعراب في صدر الإسلام ، بل في الأزمنة المتأخّرة ، كما لا يخفى.

فانقدح ممّا ذكرنا : أنّه ما لم يقم الدليل على نجاسة ملاقي النجس لم يفهم أحد من نفس الأدلّة الدالّة على نجاسة الأعيان النجسة نجاسة ما يلاقيها من سائر الأشياء أيضا ، بل لا بدّ من قيام الدليل على ذلك ، وقد عرفت أنّ ظاهره جعل السببيّة الشرعيّة الراجعة إلى تأثير النجس شرعا في نجاسة ملاقيه ، فتدبّر.

عدم كاشفيّة البيّنة الثانية بعد إقامة البيّنة الاولى

الثالث : يعتبر في تأثير العلم وكذا غيره من الأمارات المعتبرة أن يكون متّصفا بالكاشفيّة الفعليّة ومؤثّرا في التنجيز فعلا وصالحا للاحتجاج به كذلك ، فلو حصل له من طريق أمارة معتبرة الحكم الواقعي ثمّ قامت أمارة أخرى على وفق الأمارة الاولى فلا تكون الأمارة الثانية بمؤثّرة أصلا ، ويكون وجودها بمنزلة العدم ؛ لعدم اتّصافها بالكاشفيّة الفعليّة بعد حصول الكشف بسبب الأمارة الاولى ، وعدم تحقّق الكشفين بالنسبة إلى شيء واحد ، وكذا لا تكون مؤثّرة في التنجيز وقابلة للاحتجاج به فعلا ؛ لعدم إمكان التنجّز مرّتين واستحالة تماميّة الحجّة ثانيا بعد إتمامها أوّلا ، وكذا بالنسبة إلى العلم. نعم ، يمكن أن يكون لها عنوان تعليقي بأنّ الأمارة الثانية كاشفة ومنجّزة لو لم تكن الأمارة الاولى.

إذا عرفت ذلك فنقول : إذا كان العلم الإجمالي بالنجس متقدّما على العلم بالملاقاة فلا يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ فإنّ العلم الإجمالي بالنجس المردّد بين الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف قد أثّر في التّنجز بمجرّد تحقّقه وصار موجبا للاجتناب على أيّ تقدير وكاشفا للواقع بهذا النحو من

٤٠٦

الكشف ، والعلم الإجمالي الحاصل ثانيا بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف لا يكون كاشفا فعليّا على تقدير كون النجس هو الطرف الآخر ؛ لأنّه صار مكشوفا بالعلم الإجمالي الأوّل ، وقد عرفت أنّه لا يعقل عروض الكشف على الكشف وتحقّقه مرّتين ، كما أنّه لا يكون هذا العلم الإجمالي مؤثّرا في التنجّز فعلا بعد كونه مسبوقا بما أثّر فيه ، وحينئذ فلا أثر له أصلا ، فالشكّ في نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ شكّ بدوي.

وأمّا إذا علم أوّلا بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ، ثمّ حصل العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف ، وأنّ منشأ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ هو العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ فذهب المحقّق الخراساني في الكفاية إلى عدم وجوب الاجتناب حينئذ عن الملاقى ـ بالفتح ـ لأنّ حكم الملاقي في هذه الصورة حكم الملاقي في الصورة السابقة بلا فرق بينهما أصلا ، فكما أنّ الملاقي هناك لم يكن طرفا للعلم الإجمالي بالنجاسة ، كذلك الملاقي هنا لا يكون طرفا له ، كما هو المفروض.

وذهب أيضا إلى عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ فيما إذا علم بالملاقاة ، ثمّ حدث العلم الإجمالي ، ولكن كان الملاقي خارجا عن محلّ الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلى به بعده ، وإلى وجوب الاجتناب عن الملاقي والملاقى معا فيما لو حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة مستدلّا بقوله : ضرورة أنّه حينئذ نعلم إجمالا إمّا بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر ، فيتنجّز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين ، وهو الواحد أو الاثنين (١). انتهى.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٢٧.

٤٠٧

أقول : والتحقيق أيضا يوافق هذا التفصيل ؛ لما مرّ من الوجه في الصورة الاولى ، فإنّه بعد ما علم إجمالا بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف صار مقتضى هذا العلم تنجّز التكليف بوجوب الاجتناب على أي تقدير ، فلو كان النجس هو الطرف لكان منكشفا بهذا العلم وتنجّز التكليف المتعلّق به بسببه ، وبعد ذلك لا معنى لتأثير العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف ؛ إذ لا يعقل الانكشاف مرّتين وتنجّز التكليف مرّة بعد اخرى ، كما لا يخفى.

فهذا العلم الإجمالي لا يكون واجدا لشرط التأثير وهو التنجيز على أيّ تقدير ، فالشكّ في نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ شكّ بدوي كالملاقي في الصورة السابقة.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الإشكال إنّما هو من ناحية الطرف لا الملاقي والملاقى : لعدم انكشافه مرّتين وتنجّز التكليف به كذلك ، وحينئذ فلا وقع لما أورده المحقّق النائيني رحمه‌الله (١) على هذا التفصيل من أنّه لا بدّ من ملاحظة حال المعلوم والمنكشف من حيث التقدّم والتأخّر بحسب الرتبة ، وفي الصورة الثانية تكون رتبة العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف متقدّمة على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف وإن كان حدوثه متأخّرا عن حدوثه ؛ لأنّ التكليف بالملاقى إنّما جاء من قبل التكليف بالملاقي.

وذلك ـ أي وجه عدم الورود ـ ما عرفت من أنّ الإشكال إنّما هو من ناحية الطرف ، لا من ناحية تقدّم أحد العلمين على الآخر حدوثا حتّى يورد عليه بما ذكر.

هذا ، مضافا إلى أنّ هذا الإيراد فاسد من أصله ، والمثال الذي ذكره

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٨٦.

٤٠٨

لا يرتبط بالمقام أصلا ، حيث قال : «لو علم بوقوع قطرة من الدم في أحد الإنائين ، ثمّ بعد ذلك علم بوقوع قطرة اخرى من الدم في أحد هذين الإنائين أو في الإناء الثالث ، ولكن ظرف وقوع القطرة المعلومة ثانيا أسبق من ظرف وقوع القطرة المعلومة أوّلا ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ العلم الإجمالي الثاني يوجب انحلال الأوّل لسبق معلومه عليه» (١). انتهى.

والإشكال عليه كما ذكره استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله يتّضح بعد ملاحظة أمرين : الأوّل : أنّ المنجّزيّة من آثار العلم بوجوده الخارجي ؛ لأنّه ما لم يوجد في الخارج لا يؤثّر في التنجيز كما هو واضح.

الثاني : أنّ التقدّم والتأخّر إنّما هو من أوصاف العلمين عند العقل ؛ ضرورة أنّ العلّة والمعلول متقارنان بحسب الوجود الخارجي ، وتقدّمها عليه وتأخّره عنها إنّما هو بحسب الرتبة وفي نظر العقل ، ففي ظرف ثبوت وصف التقدّم والتأخّر لا يكون العلم بمنجّز ، وفي وعاء التنجيز لا معنى للتقدّم والتأخّر.

والمفروض في المقام في الصورة الثانية حدوث العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف قبل العلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف ، فهو ـ أي العلم ـ أوّلا يؤثّر في التنجيز بمجرّد حدوثه ؛ لأنّ التنجيز من آثار وجوده الخارجي كما عرفت ، ومع التأثير في التنجيز لا مجال لتأثير العلم الإجمالي الثاني بعد عدم كونه واجدا لشرطه ؛ لعدم إمكان التأثير بالنسبة إلى الطرف ؛ لأنّه لو كان التكليف متعلّقا به لتنجّز بالعلم الأوّل ، ولا معنى للتنجّز مرّتين كما مرّ.

وأمّا وجه عدم ارتباط المثال بالمقام فهو أنّ في المثال بعد العلم الإجمالي

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٨٧.

٤٠٩

بوقوع القطرة في أحدهما أو في الإناء الثالث يعلم أنّ العلم الإجمالي الحادث أوّلا لم يكن واجدا لشرط التنجيز ؛ لأنّه لم يكن متعلّقا بالتكليف ، لثبوته قبله المنكشف بالعلم الإجمالي الثاني.

وبالجملة ، فالعلم الإجمالي الأوّل وإن كان حين حدوثه متعلّقا بالتكليف ومؤثّرا في تنجيزه بنظر العالم ، إلّا أنّه بعد استكشاف ثبوته قبله بالعلم الثاني يعلم عدم تعلّقه بالتكليف وعدم كونه مؤثّرا في تنجيزه ، كما لا يخفى. وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ العلمين حيث تعلّق أحدهما بوجوب الاجتناب عن الملاقي أو الطرف ، والآخر بوجوب الاجتناب عن الملاقى أو الطرف لا إشكال في تأثيرهما في تنجيز متعلّقهما من حيث هو.

نعم ، قد عرفت الإشكال في تأثير العلم الثاني من ناحية الطرف لا المتلاقيين ، فمن حيث التقدّم والتأخّر من جهة الرتبة لا إشكال في تأثيرهما أصلا ، كما لا يخفى.

فانقدح بذلك وقوع الفرق بين المثال والمقام ، فإنّ هنا لا يكون شيء من العلمين فاقدا لشرط التأثير في التنجيز ؛ لأنّ كلّا منهما تعلّق بتكليف فعليّ ، والتقدّم والتأخّر من جهة الرتبة لا يمنع من ذلك ، وهناك لا يكون العلم الإجمالي الحادث أوّلا متعلّقا بتكليف فعلي بحسب الواقع وإن كان كذلك بنظر العالم ما لم يحدث له العلم الإجمالي الثاني (١).

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في وجوب الاجتناب عن المتلاقيين والطرف في الصورة الثالثة المفروضة في كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله (٢) ؛ لأنّه علم إجمالا

__________________

(١) معتمد الاصول ٢ : ١٥٢ ـ ١٥٤.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٢٢٧.

٤١٠

بنجاستهما أو الطرف ، ولم يكن هذا العلم مسبوقا بالعلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف حتّى لا يجب الاجتناب عن الملاقي ، ولا بالعلم بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف حتّى لا يجب الاجتناب عن الملاقى ، بل حدث من حين حدوثه هكذا ـ أي مردّدا بين المتلاقيين والطرف ـ فيؤثّر في التنجيز على أيّ تقدير ، فافهم واغتنم.

مقتضى الأصل الشرعي في صور الملاقاة

إلى هنا تمّ البحث في حكم العقل ، وأمّا مقتضى الاصول الشرعيّة فقد يقال ـ كما قيل ـ بأنّه لا مانع من جريان أصالة الطهارة في الملاقي ؛ لأنّ طهارة الملاقي ونجاسته مسبّبة عن طهارة الملاقى ونجاسته ، والأصل الجاري في السبب وإن كان حاكما على الأصل الجاري في المسبّب ، إلّا أنّه حيث لا يجري الأصل في السبب ؛ لأنّه يسقط بالمعارضة مع الأصل الجاري في الطرف الآخر ، فلا مانع من جريان الأصل في المسبّب ، فيكون الملاقي ـ بالكسر ـ محكوما شرعا بالطهارة والحلّيّة.

هذا ، ولا يخفى أنّه لم ترد آية ولا رواية على ما ذكروه من أنّ مع جريان الأصل في السبب لا مجال لجريانه في المسبّب ، بل المستند في ذلك هو أنّه مع جريان الأصل في السبب يرتفع الشكّ في ناحية المسبّب تعبّدا ، ومع ارتفاعه في عالم التشريع لا مجال لجريان الأصل فيه أيضا.

ولكن لا يخفى أنّ هذا لا يتمّ بإطلاقه ، بل إنّما يصحّ فيما إذا كان الشكّ في ناحية المسبّب في الأثر الشرعي المترتّب على السبب شرعا ، كالشكّ في نجاسة الثوب المغسول بالماء المشكوك الكرّيّة ، فإنّ مقتضى استصحاب الكرّيّة تحقّق موضوع الدليل الشرعي الذي يدلّ على أنّ الكرّ مطهّر مثلا.

٤١١

والسرّ في ذلك : أنّ معنى الاستصحاب الجاري في الموضوعات هو الحكم بإبقاء الموضوع تعبّدا في زمان الشكّ ، وحيث إنّه لا معنى لذلك فيما لو لم يكن الموضوع مترتّبا عليه أثر شرعي فلا بدّ من أن يكون الموضوع المستصحب موضوعا لأثر شرعي ، ومن هنا يكون الاستصحاب الجاري في الموضوعات حاكما على الأدلّة الواقعيّة لأنّه ينقّح به موضوعاتها ، وتفصيل الكلام يأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن نجاسة الملاقي وإن كانت من الآثار الشرعيّة لنجاسة الملاقى ، إلّا أنّ طهارة الملاقي لم تجعل في شيء من الأدلّة الشرعيّة من آثار طهارة الملاقى ، وإنّما هو حكم عقلي ، كما هو واضح ، فما أفادوه من أنّ الشكّ في طهارة الملاقي مسبّب عن الشكّ في طهارة الملاقى ، ومع جريان الأصل فيها لا يبقى مجال لجريانه في المسبّب ، ممنوع جدّا ، فجريان الأصل في الملاقي باق بقوّته.

شبهة المحقّق الحائرى وجوابها

ثمّ إنّ هنا شبهة لبعض المحقّقين من المعاصرين ، وهي تبتني على مقدّمتين :

الأولى : أنّه إذا لاقى الإناء الثالث الإنائين المشتبهين فيقع الشكّ أوّلا في أنّ هذا المائع الواقع في هذا الإناء طاهر أم نجس؟ وثانيا في أنّ شربه حلال أم لا؟

الثانية : أنّه كما أنّ طهارة الملاقي مسبّب عن طهارة الملاقى ، كذلك حلّيّة كلّ واحد من الإناءات الثلاث مسبّب عن طهارته ، فالحلّيّة في كلّ منها في الرتبة المتأخّرة عن طهارته ، فالشكّ في طهارة الملاقي يكون في مرتبة الشكّ في حلّيّة الملاقى ، بمعنى أنّ كليهما مسبّبان عن الشكّ في طهارة الملاقى.

٤١٢

وحينئذ نقول : هنا ستّة اصول في الأطراف الثلاثة : ثلاثة منها أصالة الطهارة ، وثلاثة أصالة الحلّيّة ، والاثنان منها ـ وهما أصالة الطهارة في الملاقى وأصالة الطهارة في الطرف ـ يسقطان أوّلا ؛ لأنّهما في رتبة واحدة ، وثلاث منها ـ وهي أصالة الحلّيّة فيهما وأصالة الطهارة في الملاقي في رتبة ثانية ـ فمع سقوط أصالتي الحلّيّة ـ كما هو المفروض ـ تسقط أصالة طهارة الملاقي أيضا ، ولم يبق في البين إلّا أصالة الحلّيّة في الملاقي ، وهي واقعة في رتبة ثالثة ، ولا وجه لسقوطها ، لسلامتها عن المعارض ، والمفروض أنّه لا يكون أصل حاكم عليها ؛ لأنّ الأصل الحاكم غير جار لأجل المعارضة.

وحينئذ فلا يجب الاجتناب عن الملاقي بالنسبة إلى الأكل ونظائره ، ولا يكون محكوما بالطهارة شرعا ، فلا يجوز التوضّي به.

هذا ، ويمكن الجواب عن الشبهة ـ مضافا إلى ما عرفت سابقا ـ بأنّ أصالة الحلّيّة في مطلق الشبهات ممّا لم يدلّ عليها دليل ؛ لأنّ ما يتوهّم أن يكون مستندا لها هي رواية مسعدة بن صدقة المتقدّمة (١) ، وقد عرفت الإشكال فيها بحيث لا يجوز الاعتماد عليها ، وأمّا مثل قوله : «كلّ شيء فيه حلال وحرام» إلى آخره ، كما في صحيحة عبد الله بن سنان (٢) ، فقد ظهر لك أنّ ذلك يختصّ بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، ومقتضى عمومها وإن كان الشمول للشبهة المحصورة أيضا إلّا أنّ الدليل العقلي أو العقلائي قد خصّصه ، فانحصر مورده بالشبهة الغير المحصورة.

وأمّا التمسّك في نفي الحرمة المجهولة بأدلّة البراءة فهو وإن كان صحيحا ، إلّا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٤١٣

أنّك عرفت عدم شمول أدلّة البراءة لأطراف العلم الإجمالي. وبالجملة ، فليس هنا ما يحكم بالحلّيّة وعدم الحرمة أصلا.

وكيف كان ، فلو سلّم ذلك فيمكن الجواب بما عرفت من أنّ الأصل الجاري في السبب إنّما يكون حاكما على الأصل الجاري في المسبّب إذا كان المسبّب من الآثار الشرعيّة المترتّبة على السبب ، والمقام لا يكون كذلك ، فإنّ حلّيّة كلّ واحد من الأطراف لا تكون من الآثار الشرعيّة لطهارته ؛ لأنّه لم يدلّ دليل على أنّ كلّ طاهر حلال ، بل الحلّيّة الواقعيّة إنّما يكون موضوعها الأشياء التي هي حلال بعناوينها الواقعيّة ، كما هو واضح.

كما أنّك عرفت أنّ طهارة الملاقي أيضا لا تكون من الآثار الشرعيّة المترتّبة على طهارة الملاقى ، وحينئذ فلا بدّ من ملاحظة طرفي العلم الإجمالي الحادث أوّلا ، المؤثّر في التنجيز ، والحكم بعدم جريان الاصول في طرفيه ؛ للزوم المخالفة العمليّة.

وأمّا ما هو خارج عنهما ـ كالملاقى ـ فلا مانع من جريان أصالتي الطهارة والحلّيّة فيه أصلا ، وحينئذ فيصير مقتضى الأصل الشرعي موافقا لحكم العقل الحاكم بالتفصيل بين الصور الثلاثة المتقدّمة في كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله ، فتأمّل جيّدا.

هذا كلّه بناء على ما هو مقتضى التحقيق.

وأمّا بناء على مسلك القوم من اعتبار أصالة الحلّيّة في مطلق الشبهات وترتّب الحلّيّة على الطهارة ، وكذا ترتّب طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ على طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ وكون الشكّ في الأوّل مسبّبا عن الشكّ في الثاني بحيث لم يكن مجال لجريان الأصل فيه بعد جريانه في السبب ، فلا بدّ من التفصيل بين الصور

٤١٤

الثلاثة من حيث ورود الشبهة وعدمه.

فنقول في توضيح ذلك : إنّ عدم جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو فيما إذا لزم من جريانها مخالفة عمليّة للتكليف المنجّز ، وأمّا إذا لم يلزم من ذلك مخالفة عمليّة أصلا ، أو لزم ولكن لم يكن مخالفة عمليّة للتكليف المنجّز ، فلا مانع من جريان الاصول ؛ لأنّ التعارض بينهما تعارض عرضي حاصل بسبب العلم الإجمالي بكذب أحدهما ، لا ذاتي ناش عن عدم إمكان اجتماع مؤدّاها ؛ ضرورة عدم المنافاة حقيقة بين حلّيّة هذا الإناء وحلّيّة ذاك الإناء ولو علم إجمالا بحرمة واحد منهما ، كما لا يخفى.

وحينئذ فلو علم إجمالا بنجاسة هذا الإناء أو ذاك الإناء ، ثمّ علم إجمالا بنجاسة الإناء الثاني أو الإناء الثالث فقد عرفت أنّ العلم الإجمالي الحادث ثانيا لا يعقل أن يكون منجّزا بعد اشتراكه مع العلم الإجمالي الأوّل في بعض الأطراف ، وحينئذ فلا مانع من جريان أصالة الطهارة في طرفي العلم الثاني ؛ لأنّه وإن لم يلزم من جريانها مخالفة عمليّة للمعلوم الإجمالي ، إلّا أنّ المحذور في المخالفة العمليّة للتكليف المنجّز ، لا في مطلق المخالفة العمليّة ، والمفروض أنّ العلم الثاني لم يؤثّر في التنجيز أصلا.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ في الصورة الاولى من الصور الثلاثة المفروضة في كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله لا بدّ من الالتزام بجريان أصالتي الطهارة والحلّيّة معا في الملاقي ـ بالكسر ـ لأنّ طهارته وإن كانت مترتّبة على طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ وواقعة في عرض أصالتي الحلّيّة الجاريتين في الملاقى والطرف ، إلّا أنّ الملاقى خارج من طرفي العلم الإجمالي الأوّل ، والعلم الإجمالي الثاني لا يكون مؤثّرا في التنجيز حتّى يلزم من جريان الأصل فيه أيضا مخالفة عمليّة

٤١٥

للتكليف المنجّز ، كما هو واضح.

وأما الصورة الثالثة فالظاهر ورود الشبهة فيها بناء على مبنى القوم ، وهي عبارة عمّا إذا كان الملاقي والملاقى معا طرفا للعلم الإجمالي ، وبيان ورود الشبهة : أنّ أصالتي الطهارة في الملاقى والطرف ساقطتان بالتعارض ، وفي الرتبة الثانية تسقط أصالتي الحلّيّة فيهما بضميمة أصالة الطهارة في الملاقي ، وفي الرتبة الثالثة نرى أصالة الحلّيّة في الملاقى بلا معارض ؛ لعدم وجود الطرف لها ، ولعدم وجود الأصل الحاكم عليها ، فيمكن الاستفادة منه في مقام الأكل والشرب لا في مقام التوضّي ؛ لعدم الطهارة المحرزة.

ولا بدّ لتكميل البحث من بيان الصورة الرابعة المذكورة في كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله وهي : أنّه إذا علم بالملاقاة ثمّ حدث العلم الإجمالي ، ولكن كان الملاقى ـ بالفتح ـ خارجا عن محلّ الابتلاء في حال حدوثه ، وصار مبتلى به بعده ، وقال صاحب الكفاية رحمه‌الله بعدم لزوم الاجتناب عن الملاقى ؛ لفقدان شرط التأثير في التنجيز حين حدوث العلم ، فلزوم الاجتناب منحصر في الملاقي والطرف ، وهكذا فيما إذا علم أوّلا بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف ، ثمّ حصل العلم بالملاقاة وبنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف.

وقد تقدّمت متابعتنا له رحمه‌الله في المورد الثاني ، وأمّا المورد الأوّل فالظاهر فيه وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ أيضا ؛ لعدم اشتراط تأثير العلم الإجمالي في تنجيز التكليف بكون أطرافه موردا للابتلاء على ما هو التحقيق ؛ لأنّ ذلك مبني على انحلال الخطابات إلى الخطابات الشخصيّة ، وهو ممنوع عندنا.

وأمّا بناء على مسلك المتأخّرين من اشتراط تأثير العلم الإجمالي بعدم

٤١٦

خروج شيء من أطرافه عن محلّ الابتلاء ، فالظاهر عدم جريان الأصل في الملاقى هنا وإن كان خارجا عن محلّ الابتلاء ؛ لأنّ الخروج عنه إنّما يمنع من العدم لو لم يكن للخارج أثر مبتلى به ، وإلّا فمع وجود أثر له مورد للابتلاء ، وهنا يكون للملاقى ـ بالفتح ـ الخارج عن مورد الابتلاء أثر مبتلى به وهو نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ لو كان نجسا ، كما لا يخفى.

إلى هنا تمّ الكلام في مسألة الملاقي والملاقى ومسألة الدوران بين المتباينين في باب الاشتغال.

٤١٧
٤١٨

المقام الثاني

في الدوران بين الأقلّ والأكثر ، وبيان حكم العقل

ومقتضى الاصول الشرعيّة فيه

وقبل الخوض في المقصود لا بدّ من تقديم أمرين ، هما بمنزلة تحرير محلّ نزاع :

الأوّل : أنّ المراد بالأقلّ والأكثر في هذا المقام هو الأقلّ والأكثر الارتباطي ، لا الاستقلالي ، والفرق بينهما أنّ الأوّل عبارة عن عدّة امور لوحظ مجموعها أمرا واحدا وشيئا فاردا ؛ لأنّه يترتّب عليها غرض واحد وتؤثّر بنعت الاجتماع في حصوله ، بحيث يكون فقدان بعضها كعدم جميعها في عدم حصول الغرض بوجه ، ومن هنا لا يتعلّق بها إلّا أمر واحد أو نهي فارد ؛ لأنّ اجتماعها دخيل في حصول الغرض أو ترتّب المفسدة عليها ، وأمّا كلّ واحد منها من حيث هو يكون وجوده بمنزلة العدم.

ألا ترى أنّ الصلاة الفاقدة للركوع ـ مثلا ـ إنّما هي في عدم حصول الآثار المترتّبة عليها كتركها رأسا.

وأمّا الأقلّ والأكثر الاستقلالي فليس كذلك ، بل لا يكون من قبيل الأقلّ والأكثر أصلا ، فإنّ تردّد قضاء الصلوات الفائتة بين أن تكون عشرين

٤١٩

أو ثلاثين إنّما هو من قبيل التردّد بينهما بعد ملاحظة المكلّف المقدار المشكوك مع المقدار المعلوم وضمّه إليه ، وإلّا ففي الحقيقة لا يكون من هذا القبيل ، فإنّ الأمر لم يتوجّه إلّا إلى قضاء كلّ صلاة ، والغرض يترتّب عليه ، سواء أتى بقضاء صلاة فائتة اخرى أم لم يأت ، فكما أنّ أداء صلاة الظهر لا يكون أقلّ بالنسبة إلى مجموع أداء الظهرين ، فكذلك قضاؤهما.

وبالجملة ، فالاستقلالي من الأقلّ والأكثر خارج عن هذا العنوان حقيقة ، وإنّما يحصل بعد ملاحظتهما وضمّ كلّ واحد إلى الآخر ، ومن هذا البيان يظهر لك أنّه ليس فيه علم إجمالي أصلا حتّى يقال بانحلاله إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، بل الأقلّ من أوّل الأمر معلوم تفصيلا والأكثر مشكوك ، فتجري فيه البراءة بلا ريب.

ثمّ لا يخفى أنّ مورد النزاع هو ما إذا كان الأقلّ مأخوذا لا بشرط من جهة الزيادة ، وأمّا لو كان مأخوذا بشرط لا ودار الأمر بينه وبين الأكثر ، كما إذا تردّدت السورة بين أن تكون جزء أو مانعا ، فهو خارج عن محلّ البحث وداخل في المقام الأوّل ؛ للمباينة المتحقّقة بين الأقلّ بشرط والأكثر الذي هو عبارة عن الأقلّ بشرط شيء ؛ ضرورة ثبوت المضادّة بين بشرط الشيء وبشرط لا ، كما لا يخفى.

الثاني : يدخل في مورد النزاع جميع أقسام الأقلّ والأكثر ، سواء كان في نفس المأمور به أو في الموضوع الخارجي الذي تعلّق التكليف بفعله أو تركه ، أو في الأسباب مطلقا ، وسواء كان من قبيل الجزء والكلّ أو من قبيل الشرط والمشروط أو من قبيل الجنس والنوع ، أو الطبيعة والحصّة ، وسواء كانت الشبهة وجوبيّة أو تحريميّة ، وسواء كانت حكميّة أو موضوعيّة.

٤٢٠