دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

خاصّا ، والمقصود بالإفهام عامّا بحيث يشمل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة ، والنسبة بين هذين العنوانين عموم من وجه لا التساوي ، مع أنّ الرواة كانوا يتعلّمون الأحكام لا لعمل أنفسهم وابتلائهم بها فقط ، بل الغرض انتقالها إلى الآخرين لينشروا أحكام الإسلام وحفظها للحوزات الشيعيّة والمجامع العلميّة في عصر الغيبة ، فلا مجال لتوهّم حجّية ظواهر الكتاب والروايات من طريق الظنّ المطلق وجدانا وإنصافا ، ولا فرق بين آية الصوم وآية الحجّ في العموميّة عند العقلاء.

القول الخامس : التفصيل بين ظواهر الكتاب وظواهر الروايات بحجّية الثاني دون الأوّل ، هذا هو مختار أصحابنا الأخباريّين.

ونذكر أوّلا أدلّة حجّية ظواهر الكتاب ، ثمّ الجواب عن شبهات الأخباريّين.

وتستفاد حجّية ظواهر الكتاب من وجوه متعدّدة بعد ملاحظة عدم اتّخاذ الشارع طريقا خاصّا للتفهيم والتفهّم سوى الطريق المتداول بين العقلاء في محاوراتهم من الأخذ بظواهر الكلام :

الأوّل : أنّ الغرض من نزول القرآن تفهيم الناس معانيه والعمل به كي ينالوا السعادة الدنيويّة والاخرويّة ، وينجوا من الهلكة الأبديّة ، فإنّ القرآن هو : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(١) ، و (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)(٢) ، و (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٣) ، ولا يخفى أنّ ظواهر الكتاب من محكماته لا متشابهاته ، فلا محالة تكون ظواهر الكتاب حجّة ، وإلّا كيف

__________________

(١) النحل : ٨٩.

(٢) إبراهيم : ١.

(٣) المائدة : ٤٦.

١٤١

يكون كتاب الهداية والموعظة والمخرج إلى النور؟!

الوجه الثاني : أنّ القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة ، وقد تحدّى جميع البشر من الأوّلين والآخرين على أن يأتوا بمثله ، فقال سبحانه وتعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(١) ونحو ذلك ، ومعلوم أنّ التحدّي وتحريك المخالفين بالإتيان بمثل القرآن دليل على حجّية ظواهر الكتاب ، فإنّ الإتيان بمثله متوقّف على فهم القرآن والالتفات إلى مفاهيمه ، ولو لم تفهم مقاصد القرآن من ألفاظه وكان من قبيل الرموز والألغاز التي لا تفهم ولا تعرف فلا مجال للتحدّي.

الوجه الثالث : المتواتر عند الخاصّة والعامّة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» (٢) ، ومعلوم أنّ معنى التمسّك بكتاب الله ليس مجرّد الاعتقاد بأنّه نازل من عند الله تعالى ، وأنّه معجزة خالدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل معنى التمسّك به الموجب لعدم تحقّق الضلالة هو الأخذ به ، والعمل بما فيه ، وجعله إماما في جميع شئون الحياة ، وهذا كلّه لا يجتمع مع عدم حجّية ظواهر الكتاب.

الوجه الرابع : الروايات الكثيرة الدالّة على عرض الأخبار الواصلة إلينا على الكتاب وطرح ما خالف منها ، كقوله عليه‌السلام : «ما خالف قول ربّنا لم نقله» (٣) ، ومعلوم أنّ تعيين المخالف عن غيره وتمييزه عمّا سواه قد اوكل إلى فهم العرف ،

__________________

(١) الإسراء : ٨٨.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٣٣ ـ ٣٤ ، الباب ٥ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩.

(٣) انظر : الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

١٤٢

فإنّهم هم المرجع في تشخيص ذلك ، وعليه فلا محيص من حجّية ظواهر الكتاب ، وإلّا كيف يمكن للعرف تشخيص المخالف عن غيره؟!

ولا يخفى أنّ هذه الضابطة تختصّ بالموارد المشكوكة ، وإلّا فبعد إثبات صدور الرواية عن المعصوم عليه‌السلام ولو بواسطة خبر الواحد لا بدّ من الأخذ بها وإن كانت مخالفة لظاهر الكتاب.

الوجه الخامس : الأخبار الواردة في ردّ الشروط المخالفة للكتاب ، منها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «من اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله فلا يجوز له ، ولا يجوز على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب الله عزوجل» (١).

والمرجع في تشخيص الشرط المخالف هو العرف ، وهو لا يقدر على ذلك إلّا بعد الرجوع إلى الكتاب وفهم مقاصده من ظواهره.

الوجه السادس : الروايات التي تدلّ بوضوح على أنّ الأئمّة عليهم‌السلام أرجعوا الرواة إلى القرآن الكريم ، منها : ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت لأبي جعفر : ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فأجاب عليه‌السلام : «لمكان الباء في قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(٢)» (٣).

ومن المعلوم أنّ السؤال كان لأجل عدم الالتفات إلى وجود الباء ، لا لأجل عدم ظهور الباء في التبعيض عند السائل ، وإلّا لما صحّ الاقتصار في مقام الجواب بقوله عليه‌السلام : «لمكان الباء» من دون التنبيه على ظهورها في التبعيض.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٦ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الحديث ١.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) الوسائل ١ : ٤١٢ ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

١٤٣

أدلّة القائلين بعدم حجّية ظواهر الكتاب :

لا يخفى أنّ بعض هذه الأدلّة ناظر إلى منع الصغرى ، يعني إنكار أصل الظهور للكتاب ، وبعضها الآخر ناظر إلى منع الكبرى ، يعني إنكار حجّية ظواهر الكتاب.

الدليل الأوّل : أنّ الأخذ بظاهر الكتاب من التفسير بالرأي ، وقد نهت الروايات الكثيرة عن تفسير القرآن بالرأي ، كقوله عليه‌السلام : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» (١).

وهو ظاهر في أنّ حمل ألفاظ القرآن على مصاديقها الظاهرة تفسير بالرأي ، ومعلوم أنّ ظاهر الروايات حجّة ، وإن كان المصداق المتيقّن للتفسير بالرأي هو تفسير متشابهات القرآن ومجملاته.

وجوابه : أوّلا : أنّ التفسير بحسب اللغة والعرف هو كشف القناع وإظهار أمر مستور ، فلا يكون منه حمل اللفظ على ظاهره ؛ لأنّه ليس بمستور حتّى يكشف.

وثانيا : سلّمنا أنّ حمل اللفظ على ظاهره من التفسير إلّا أنّه ليس من التفسير بالرأي حتّى يكون مشمولا للروايات الناهية ، وإنّما هو تفسير بما يفهمه العرف من اللفظ.

وثالثا : لو سلّم شمول الروايات الناهية بإطلاقها لحمل اللفظ على ظاهره لكونه من التفسير بالرأي ، إلّا أنّه لا محيص عن حمل الأخبار الناهية على غير الظواهر ، واختصاصها بالموارد المتيقّنة من التفسير بالرأي ، وذلك لما هو مقتضى الجمع بينها وبين الأخبار المتقدّمة التي يستفاد منها حجّية ظواهر

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ : ٤٣٤.

١٤٤

الكتاب.

الدليل الثاني : أنّه لا شكّ في أنّ القرآن الكريم قد منع عن العمل بالمتشابه ، فقال عزّ من قائل : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)(١) ، والمتشابه هو ما كان ذا احتمالين فيشمل الظواهر ، ولا أقلّ من احتمال شمول المتشابه للظواهر ، وهو يكفي في الحكم بعدم الحجّية.

وجوابه : أنّ المراد من شمول المتشابه للظواهر إن كان أنّه صريح في الشمول ، بمعنى أنّ مصداقيّة الظواهر للمتشابه أمر قطعيّ لا ريب فيه فبطلان هذا الزعم بمكان من الوضوح ؛ إذ يلزم عليه أن تكون أكثر الاستعمالات المتداولة في المحاورات العرفيّة من المتشابه ؛ نظرا إلى أنّ دلالتها على المعنى من باب الظهور لا النصّ ، وهو كما ترى.

وإن كان المراد من الشمول أنّه ظاهر فيه فيلزم ـ مضافا إلى المنع عن الشمول ـ إثبات عدم حجّية ظواهر الكتاب بالظاهر المفروض كونه من المتشابه ، وهو باطل بالبداهة.

وإن كان المراد منه احتمال شمول المتشابه للظواهر فيرد عليه ـ مضافا إلى منع الاحتمال ـ أنّ مجرّد احتمال الشمول لا يوجب سلب الحجّية عن الظواهر. وهذان الدليلان ناظران إلى منع الكبرى.

الدليل الثالث : ما يكون مفاده منع الصغرى ، وله تقريبات متعدّدة وجميعها يرجع إلى أنّ القرآن مشتمل على معان شامخة ومطالب غامضة وعلوم متنوّعة ومعارف عالية ، تقصر أفهام الناس عن الوصول إليها والإحاطة بها ،

__________________

(١) آل عمران : ٧.

١٤٥

إلّا الراسخون في العلم من العترة الطاهرة عليهم‌السلام.

على أنّ بعض ألفاظ القرآن من قبيل الرموز ، كما هو الحال في فواتح السور ، وهي غير مفهومة إلّا للمعصومين عليهم‌السلام.

ونضيف إليه ما ذكره الأئمّة عليهم‌السلام للمخالفين كما في مرسلة شعيب بن أنس عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال لأبي حنيفة : «أنت فقيه العراق؟» قال : نعم ، قال : «فبأيّ شيء تفتيهم؟» قال : «بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قال : «يا أبا حنيفة ، تعرف كتاب الله حقّ معرفته ، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟!» قال : «نعم» ، قال : «يا أبا حنيفة ، لقد ادّعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذين انزل عليهم ، ويلك ما هو إلّا عند الخاصّ من ذريّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما ورّثك الله تعالى من كتابه حرفا» (١).

وكما في رواية زيد الشحّام ، قال : دخل قتادة على أبي جعفر عليه‌السلام فقال له : «أنت فقيه البصرة؟» فقال : هكذا يزعمون ، فقال : «بلغني أنّك تفسّر القرآن؟» قال : نعم ـ إلى أن قال ـ : يا قتادة ، إن كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ـ إلى أن قال ـ : ويحك يا قتادة ، إنّما يعرف القرآن من خوطب به» (٢).

وجوابه : أنّ اشتمال القرآن على المطالب الغامضة والمعارف العالية لا يوجب نفي حجّية ظواهره ؛ إذ ليس كلّها كذلك ، بل منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب ، والظواهر من هذا القبيل ، ونحن لا نقول باتّباع المتشابهات التي تحقّقت فيه لمصالح ، ونفي حجّيّة ظواهره التي يعرفها أهل اللسان ينافي كونه كتاب هداية

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٤٧ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(٢) الكافي ٨ : ٣١١ ، الحديث ٤٨٥.

١٤٦

ومعجزة خالدة كما مرّ أن ذكرناه ، وكما أنّ اشتمال القرآن للرموز لا يرتبط بظواهره وحجّيتها.

وأمّا الرواية الاولى فظاهرة في أنّ الاعتراض على أبي حنيفة كان لأجل ادّعائه معرفة القرآن حقّ معرفته بجميع خصوصيّاته ، فقوله عليه‌السلام : «ما ورّثك الله من كتابه حرفا» يعني حرفا يحتاج إلى تعليم من الله تعالى ، لا أنّه لا يفهم من القرآن شيئا أصلا ، وهذا خارج عن محلّ البحث ، فإنّ الظواهر لا تحتاج إلى تعليم من الله تعالى ، وأمّا ما يحتاج إلى التعليم فعلمه مختصّ بالأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، كما تدلّ عليه الرواية الواردة في تفسير آية (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ)(١) : أنّا نعلم بالكتاب كلّه (٢).

وأمّا الرواية الثانية فالتوبيخ فيها إنّما هو على تصدّي قتادة لتفسير القرآن ، والأخذ بظاهر الكلام لا يعدّ تفسيرا فضلا عن التفسير بالرأي كما ذكرناه.

الدليل الرابع : إنّا نعلم إجمالا بوجود قرائن منفصلة في الروايات على خلاف ظواهر الكتاب من المخصّصات والمقيّدات والقرائن على المجاز ، أو نعلم إجمالا بوجود قرائن متّصلة لم تصل إلينا وحذفت من الكتاب ، وهذا العلم الإجمالي يمنع عن العمل بظواهره ، فالقرآن وإن كان له ظهور في حدّ ذاته ، إلّا أنّه مجمل حكما وبالعرض.

وجوابه : بلحاظ وجود قرائن منفصلة ظاهر ، فإنّ العلم الإجمالي المذكور لا يوجب سقوط ظواهر الكتاب عن الحجّية وإنّما يوجب لزوم الفحص عن المخصّص والمقيّد والقرينة على المجاز قبل العمل بها ، وإلّا لوجب الحكم بعدم

__________________

(١) النمل : ٤٠.

(٢) الكافي ١ : ٢٣٠ ، الحديث ١.

١٤٧

جواز العمل بالأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام لوجود العلم الإجمالي المذكور فيها أيضا ، مع أنّ المستدلّ لا يقول به.

وأمّا العلم الإجمالي بوجود قرائن متّصلة فجوابه : أوّلا : أنّ هذا يبتني على القول بتحريف القرآن بالنقيصة ، فلا يكون محلّ البحث عنه في الاصول ، بل لا بدّ من البحث عنه في مقدّمات التفسير.

وثانيا : أنّ اتّهام المذهب الحقّ بالتحريف من عمل المستعمرين وتلفيق الأجانب والمغرضين لأغراض شيطانيّة ، وإن كان أساس هذا الاتّهام وجود روايات مجعولة في الكتب الروائيّة ، وعدم تحقيق بعض العلماء في هذه المسألة ، ومقالته بما لا يكون من شأنه ، فلا يصحّ إنكار حجّية ظواهر الكتاب استنادا إلى حصول التحريف فيه ، فإنّه مخالف لنظر المحقّقين من العلماء ، ومخالف لكونه معجزة خالدة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

نعم ، يتحقّق الاختلاف في القراءة ، وكذا في تواتر القراءات السبع أو العشر وعدمه ، والتحقيق عدم تواترها ، فإنّه إن كان المراد بتواترها هو التواتر عن مشايخها وقرّائها ، فيرد عليه : أوّلا : أنّ لكلّ من القرّاء السبع أو العشر راويين رويا قراءته إمّا من دون واسطة وإمّا مع الواسطة ، ومن المعلوم أنّه لا يتحقّق التواتر بمثل ذلك ، أضف إلى ذلك أنّ بعض هؤلاء الرواة لم تثبت وثاقته.

وثانيا : أنّه على تقدير ثبوت التواتر لا يترتّب أثر على ذلك بالنسبة إلينا ؛ ضرورة أنّ القرّاء ليسوا ممّن يكون قوله حجّة علينا ، ولا دليل على اعتبار قولهم.

وإن كان المراد بتواتر القراءات تواترها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو الظاهر من قولهم ، بمعنى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه قرأ على وفق تلك القراءات المختلفة ، فيرد عليه :

١٤٨

أوّلا : ما عرفت من عدم ثبوتها بنحو التواتر عن مشايخها وقرّائها ، فكيف بثبوتها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك؟!

وثانيا : احتجاج كلّ واحد من القرّاء على صحّة قراءته وإعراضه عن قراءة غيره دليل قطعي على أنّ هذه القراءات مستندة إلى اجتهادهم وآرائهم ؛ إذ لو كانت بأجمعها متواترة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا حاجة في إثبات صحّتها إلى الاحتجاج والاستدلال ، ولم يكن وجه للإعراض عن قراءة غيره ، ولا لترجيح قراءته على قراءة الغير.

ومن هنا تستفاد عدم حجّية هذه القراءات ، وأنّه لم يقم دليل على جواز الاستدلال بها ، فليس شيء منها بحجّة بحيث يصحّ الاستدلال بها على الحكم الشرعي وإن كان مفاد بعض الروايات القراءة بها.

١٤٩
١٥٠

حجّية قول اللغوي

قد ثبتت حجّية ظواهر كلام الشارع بلا فرق بين ظواهر الروايات وظواهر الكتاب ، وأمّا إذا لم ينعقد ظهور للكلام فهل يصحّ إحراز الظهور بقول اللغوي ليكون قوله حجّة من باب الظنّ الخاصّ أو الظنّ المطلق أم لا؟

فنقول : إن أفاد قوله العلم أو الاطمئنان بالوضع فلا إشكال في حجّيته ، وأمّا إن أفاد الظنّ أو لم يفده ففي حجّيته خلاف ، فالمشهور بين المتقدّمين حجّيته ، وقد نسب إلى السيّد المرتضى قدس‌سره دعوى الإجماع عليه ، إلّا أنّ المشهور بين علمائنا المتأخّرين هو عدم الحجّية ، وهذا هو الأقوى ؛ إذ لا دليل على حجّية قول اللغوي بأنّ هذا اللفظ ظاهر في ذاك المعنى ، فإنّ المتيقّن من السيرة العقلائيّة إنّما هو حجّية الظواهر بعد الفراغ عن أصل الظهور ، كما هو واضح.

ويمكن أن يستدلّ على حجّية قول اللغوي بعنوان الظنّ الخاصّ بوجوه :

الوجه الأوّل : الإجماع القولي ، حيث ادّعي الإجماع على العمل بقول اللغويّ.

وفيه : أوّلا : أنّ الإجماع القولي المحصّل منه غير حاصل ؛ لأنّ كثيرا من العلماء لم يتعرّضوا لهذا البحث أصلا ، والمنقول منه ليس بحجّة.

وثانيا : أنّه على فرض تسليم الإجماع لا يمكن الاعتماد عليه هنا لاحتمال مدركيّته ، فليس هنا إجماع تعبّدي كاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ؛ إذ من المحتمل قويّا أن يكون مستند المجمعين الوجوه الآتية مع أنّه لم يحرز صحّة

١٥١

نسبة ادّعاء الإجماع إلى السيّد المرتضى قدس‌سره.

الوجه الثاني : الإجماع العملي ، حيث استقرّت سيرة العلماء على الرجوع إلى قول اللغوي في كشف معاني الألفاظ والاستشهاد بقولهم في مقام الاحتجاج والاستدلال.

وفيه : أوّلا : أنّ رجوع العلماء إلى اللغويين لو سلّم فإنّما هو فيما يتسامح كتفسير خطبة أو بيان شعر أو معنى رواية غير متعلّقة بالحكم الشرعي ، وأمّا في مقام استنباط الحكم الشرعي فلا.

وثانيا : لو سلّمنا أنّ رجوع العلماء إليهم كان في مقام الاستنباط أيضا ، إلّا أنّ ذلك لا ينفع شيئا ؛ إذ يمكن أن يكون من جهة حصول الاطمئنان والوثوق من قولهم ، لا من جهة حجّية قولهم بما هو ، فلا ينطبق هذا الدليل على المدّعى ، فإنّ المدعى حجّية قول اللغوي ولو لم يفيد ظنّا ، والدليل يختصّ بما أفاد قوله العلم أو الاطمئنان.

الوجه الثالث : أنّ اللغوي من أهل الخبرة في تشخيص معاني الألفاظ ، وقد استقرّ بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة في كلّ فنّ من دون اعتبار العدد والعدالة ، كما هو الحال في رجوعهم إلى الأطبّاء والمهندسين ، ومن الواضح عدم ثبوت الردع الشرعي عن بنائهم ، فيكون قول اللغوي حجّة.

وفيه : أوّلا : أنّ اللغوي لا يخبر عن المعنى الحقيقي ليرجع إليه في تعيين الأوضاع اللغويّة ، وتمييز المعاني الحقيقيّة عن المجازيّة ، وإنّما شأنه هو الإخبار عمّا يستعمل فيه اللفظ حقيقة كان أو مجازا ، ولذا يذكر اللغوي لكلّ كلمة معاني متعدّدة ، وهذا لا يكفي لحجّية قول اللغوي ، ومعلوم أنّ ذكر معنى من المعاني أوّلا لا يدلّ على كونه هو المعنى الحقيقي للفظ دون البقيّة ، فإنّه منقوض

١٥٢

بالألفاظ المشتركة ؛ إذ لا بدّ فيها من ذكر معانيها بالترتيب ، واللغوي ليس من أهل الخبرة بالنسبة إلى تشخيص المعاني الحقيقيّة وتعيين ظواهر الألفاظ ، وأمّا خبرته في الاستعمال فلا أثر لها.

وثانيا : أنّ التمسّك ببناء العقلاء إنّما يصحّ فيما إذا احرز كونه بمرأى ومسمع من المعصوم عليه‌السلام حتّى يستكشف من سكوته رضاه ، ولم يحرز رجوع الناس إلى صناعة اللغة في زمن المعصومين عليهم‌السلام ، بل رجوعهم إليها أمر حادث بعد الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام فلا دليل على إمضاء الشارع له.

ولكنّه قابل للمناقشة بأنّ إمضاء الرجوع إلى أهل الخبرة يوجب إمضاء الرجوع في الموارد الجزئيّة أيضا ، ولا يحتاج كلّ مورد إلى إمضاء على حدة ، فهو يكفي في جميع الموارد ، إلّا أن يتحقّق ردع خاصّ.

وأمّا الدليل على حجّيّة قول اللغوي بعنوان الظنّ المطلق فهو أنّ باب العلم والعلمي منسدّ بالنسبة إلى فهم كثير من معاني الألفاظ ، فيتعيّن العمل بقول اللغوي لكونه مفيدا للظنّ ، وهذا ما يسمّى بالانسداد الصغير ، أي انسداد باب العلم والعلمي في بعض الموضوعات.

وفيه : أنّ انسداد باب العلم أو انفتاحه في اللغة لا يترتّب عليه أثر أصلا ؛ لأنّ العبرة بالانسداد الكبير ، أي انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام الشرعيّة ، فإن تمّت مقدّمات الانسداد الكبير صحّ العمل بمطلق الظنّ ، سواء حصل من قول اللغوي أو من غيره ، وسواء كان باب العلم منسدّا في اللغة أو منفتحا. وأمّا مع عدم تماميّتها فلا يجوز الرجوع إلى الظنّ ، بل لا بدّ من الرجوع إلى العلم أو العلمي من الأمارات المعتبرة ، وإلّا فالمرجع هو الاصول العمليّة عند فقدان العلم والعلمي.

١٥٣
١٥٤

حجّيّة الإجماع

والعنوان في هذا البحث أنّ الإجماع المنقول بالخبر الواحد حجّة أم لا؟

وبالمناسبة وقع البحث في ملاك حجّية الإجماع المحصّل ، ولكن لا بدّ لنا قبل ذلك من ذكر مقدّمة ، وهي : أنّ الإجماع بما هو إجماع لا حجّية له عند الإماميّة ما لم يكشف عن قول المعصوم عليه‌السلام ، فالحجّة عندهم في الحقيقة هو المنكشف بالإجماع ، فيدخل حينئذ في السنّة ، ولا يكون دليلا مستقلّا في مقابلها ، وأمّا جعله أحد الأدلّة الأربعة فليس إلّا من باب المماشاة للعامّة ، حيث إنّهم يقولون بحجّية الإجماع بما هو إجماع.

واستدلّوا لذلك بأحاديث رووها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مضمونها : «لا تجتمع امّتي على خطأ» (١) ، فإنّها شهادة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعصمة مجموع الامّة ، فيكون الإجماع حجّة.

وجوابه : على فرض صحّتها سندا أنّ لمثل هذه الرواية عنوان الخبريّة من ناحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعصمة اتّفاق مجموع الامّة من الضلالة ، ولكنّه لا يثبت بالخبر الواحد ؛ لكونه حجّة في الأحكام الشرعيّة ، وأمّا شمول أدلّة حجّية الخبر الواحد للموضوعات الخارجيّة فهو محلّ بحث وتأمّل.

__________________

(١) تأويل مختلف الحديث (ابن قتيبة) : ٢٥.

١٥٥

مع أنّ المراد من الاجتماع في الرواية لا يكون اجتماع الامّة من زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة ، كما أنّ المراد منه هو الاجتماع الاختياري لا الاجتماع القهري والإجباري ، كأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّ من عنايات الباري بامّتي عصمة اتّفاق مجموع الامّة على الضلالة.

إذا عرفت هذا فنقول : كيف يصحّ الإجماع المدّعى على بيعة أبي بكر وأن يجعل أساسا للمذهب ، مع أنّه ليس إلّا اجتماع جمع من الصحابة من أهل المدينة فقط ومخالفة جمع كثير منهم وعدم بيعتهم حتّى التحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى وأخذت البيعة الإجباريّة من جميع المسلمين؟! فنفس هذه الرواية تدلّ على خلاف مقصودهم كما هو واضح.

على أنّه لا دليل لقول المتأخّرين من العامّة من كون الإجماع عبارة عن اتّفاق أهل الحلّ والعقد ، أو اتّفاق العلماء والمجتهدين ، أو اتّفاق أهل المدينة ونحو ذلك.

والإجماع المحصّل عند علمائنا الإماميّة لا يكون حجّة إلّا إذا كشف كشفا قطعيّا عن قول المعصوم عليه‌السلام ، وقد ذكر الأصحاب وجوها لكيفيّة استكشاف قوله عليه‌السلام :

الأوّل : أنّ منشأ القطع بقوله عليه‌السلام هو الحسّ ، كما إذا سمع قوله عليه‌السلام في جملة جماعة لا يعرف أعيان بعضهم ويعلم إجمالا بدخول المعصوم عليه‌السلام فيهم ، فيحصل له القطع بقوله عليه‌السلام في أقوال المجمعين على سبيل القطع من دون أن يعرف بشخصه ، ويعبّر عنه بالإجماع الدخولي ، ولا يضرّ مخالفة معلوم النسب بالإجماع ، وهذه الطريقة كانت معروفة عند قدماء الأصحاب إلى زمان السيّد المرتضى قدس‌سره.

١٥٦

وفيه : أنّ هذه الطريقة لا تتحقّق غالبا إلّا لمن كان موجودا في عصر الإمام عليه‌السلام ، وأمّا حال الغيبة فلا ، خصوصا مسألة السماع عن نفس الإمام عليه‌السلام.

الوجه الثاني : أن يكون منشأ القطع هو الحسّ أيضا ، وذلك للتشرّف عند حضرة الإمام الحجّة عليه‌السلام وسماع الحكم منه مباشرة ، كما قد يحصل ذلك لبعض حملة أسرار الأئمّة عليهم‌السلام فيظهر ما اطّلع عليه في مقام البيان بصورة الإجماع ؛ جمعا بين امتثال الأمر بإظهار الحقّ والنهي عن إفشاء الرؤية.

وفيه : أنّ ترك ذكر منشأ الإجماع والتشرّف ممّن تشرّف بمحضره عليه‌السلام يوجب مجهوليّة مستند الإجماع ، ومعه يسقط عن درجة الاعتبار ؛ إذ ليس لنا دليل قطعي للتشرّف ، ومن الممكن أن يكون مستنده أمرا آخر ، فلا أثر للإجماع التشرّفي في مقام العمل.

الوجه الثالث : أن يكون منشأ القطع هو الحدس لا الحسّ ، وذلك من جهة الملازمة العقليّة بين الإجماع وموافقة المعصوم عليه‌السلام للمجمعين نظرا إلى قاعدة اللطف ، فكما أنّ لزوم اللطف على الله في حقّ عباده اقتضى إرسال الرّسل وإنزال الكتب ونصب الإمام في كلّ زمان لهداية الناس إلى السعادة وحفظ الدين عن التحريف والزيادة ، كذلك يقتضي لزوم إلقاء الخلاف من المعصوم عليه‌السلام عند اجتماع الفقهاء والعلماء على الخطأ والباطل ، وذلك بإلقاء الخلاف بينهم ، فإجماعهم على حكم وعدم ردع الإمام عليه‌السلام عنه بالمباشرة أو التسبيب يوجب القطع بموافقته عليه‌السلام لهم.

وهذا هو ما اختاره شيخ الطائفة الطوسي قدس‌سره ونقل إشكالا عن استاذه السيّد المرتضى قدس‌سره بأنّ لزوم إلقاء الخلاف على الإمام عليه‌السلام إنّما يكون فيما إذا لم تكن غيبة إمام العصر عليه‌السلام مستندة إلى الامّة ، وإلّا لا دليل للزوم إلقاء الخلاف عليه.

١٥٧

وقال في مقام الجواب عنه : إنّه على فرض تماميّة هذا الكلام ليس لنا طريق لحجّية الإجماع.

وجوابه أوّلا ـ بعد تحقّق الطريق لحجّية الإجماع كما سنذكره إن شاء الله ـ : أنّ عدم حجّية الإجماع ليس كعدم حجّية الكتاب والسنّة ، ولا يوجب تعطيل حكم من الأحكام ، فإن لم يكن لنا دليل نقول بعدم حجّيته.

وثانيا : أنّ اللطف على تقدير تسليم وجوبه عليه سبحانه إنّما يقتضي إرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الإمام عليه‌السلام وإيصال الأحكام إلى الناس ، كما تحقّقت جميع هذه الامور ، ولا دليل لوجوبه بالكيفيّة المذكورة على الإمام عليه‌السلام حتّى نستكشف من عدم بيان الإمام موافقة نظره عليه‌السلام.

الوجه الرابع : أن يكون منشأ الإجماع هو الحدس أيضا ، وذلك من باب أنّ اتّفاقهم في مسألة يكشف عن وجود دليل معتبر استندوا فيها إليه ، بعد عدم موافقة نظرهم للقاعدة والاصول العمليّة ، ولكن هذا الدليل لم يصل إلينا ، وإلّا لأخذنا به.

وفيه : أنّه كيف يمكن فقدان دليل معتبر استند إليه جميع الفقهاء ، مع وجود الكتب الروائية الكثيرة؟!

على أنّه لا يستكشف من إجماعهم اعتبار الدليل عندنا أيضا ؛ إذ يمكن استنادهم إلى دليل لا نرى تماميّته واعتباره من حيث السند أو الدلالة ، والشاهد عليه شهرة نجاسة ماء البئر عند المتقدّمين ، وطهارته عند المتأخّرين بعد التأمّل في الروايات مثل قوله عليه‌السلام : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء» (١).

الوجه الخامس : أن يكون منشأ القطع هو الحدس أيضا ، وذلك من جهة

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٠ ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

١٥٨

الملازمة العاديّة بين اتّفاق علماء الأعصار والأمصار ـ على اختلاف مبانيهم ـ وبين رأي المعصوم عليه‌السلام ، ومن المعلوم أنّ العادة تحكم بأنّ اتّفاق المرءوسين على أمر لا ينفك عن رضا الرئيس ورأيه.

واستشكل عليه المحقّق النائيني قدس‌سره (١) بأنّ اتّفاق المرءوسين على أمر إن كان نشأ عن تواطئهم على ذلك كان لتوهّم الملازمة العاديّة بين إجماع المرءوسين ورضا الرئيس مجال ، وأمّا إذا وقع الاتّفاق بلا تواطؤ منهم على ذلك فهو ممّا لا يلازم عادة رضا الرئيس ، ولا يمكن دعوى الملازمة.

ولا يخفى غرابة هذا الكلام ، فإنّ إنكار الملازمة العاديّة في صورة التواطؤ أولى منه في صورة عدم التواطؤ ؛ إذ الاتّفاق مع عدم التواطؤ يكشف عن وجود ملاك وسبب في البين ، وأمّا مع التواطؤ فيحتمل أن يكون الاتّفاق ناشئا عن أمر غير ما هو الواقع.

وكان لاستاذنا السيّد المرحوم البروجردي قدس‌سره (٢) هنا كلام جيّد ، وهو : أنّ المسائل الفقهيّة على ثلاثة أقسام : قسم منها ما يعبّر عنها بالمسائل الفقهيّة الأصليّة كما نرى الإشارة إليها في بعض الروايات كقوله عليه‌السلام : «إنّما علينا أن نلقي الاصول وعليكم التفريع».

وقسم منها : عبارة عن المسائل الفقهيّة الفرعية ، وهي ما يستنبطه الفقيه من الإطلاقات والعمومات.

وقسم منها : ما يكون مبتنيا على المسائل العقليّة ، مثل : الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة.

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٢) نهاية الاصول : ٥٣٤.

١٥٩

ثمّ قال : إنّ الملازمة العاديّة المذكورة تكون قابلة للانطباق في المسائل الفقهيّة الأصليّة فقط ، مثل : بطلان العول والتعصيب في مسألة الإرث ، فيكون اتّفاق علماء الأعصار والأمصار كاشفا عن رضا المعصوم عليه‌السلام في مثل هذه المسألة ، فاتّصاف الإجماع بالحجّية يكون محدودا في هذه المحدودة ، بخلاف المسائل الفقهيّة الفرعيّة أو العقليّة ؛ إذ لم يتحقّق من المعصوم عليه‌السلام في هاتين المسألتين بيان أصلا ، فكيف يستكشف من الإجماع نظره عليه‌السلام؟!

وأمّا الإجماع المنقول فقد ينقل بالتواتر فهو ملحق بالإجماع المحصل ، وقد ينقل بالخبر الواحد كما إذا نقل العلّامة الحلّي قدس‌سره الإجماع على حكم معيّن ، وقد وقع البحث في حجّيته ، بمعنى أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد هل يكون مشمولا لأدلّة حجّية الخبر الواحد أم لا؟

ومن هنا كان المناسب تأخير هذا البحث عن مبحث حجّية الخبر الواحد لترتّبه عليه ، ولكن تعرّضنا له في المقام تبعا للعظام.

فنقول : إنّ أهمّ دليل على حجّية الخبر الواحد هو بناء العقلاء ، ومن المعلوم أنّ بناءهم لمّا كان دليلا لبّيا فلا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن منه ، والقدر المتيقّن في بنائهم على الأخذ بالخبر والعمل به فيما إذا كان مشتملا على خصوصيّتين :

الاولى : أن يكون إخبارا عن حسّ ومشاهدة ، كالإخبار عن مجيء زيد من السفر ونزول المطر ، لا إخبارا عن حدس ، إلّا أن يكون الأمر الحدسي قريبا من الحسّ كالإخبار عن سخاوة زيد وشجاعته ، وذلك لأنّ حجّية الخبر متوقّفة على ثبوت أمرين : أحدهما : عدم تعمّد الكذب ، والثاني : عدم الخطأ في النقل ، والأوّل وإن كان مدفوعا بعدالة المخبر أو وثاقته ، سواء كان الخبر عن حسّ أو عن حدس ، إلّا أنّ احتمال الخطأ في النقل فيما إذا كان عن حدس فممّا

١٦٠