دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

بحسب نظر العقل هو العلم بإتيان المأمور به الذي قامت الحجّة عليه ، وهو يحصل بإتيان الأقلّ فثبتت محبوبيّة تسعة أجزاء ـ مثلا ـ ويحكم العقل بإتيانها ، وأمّا الجزء العاشر فلم تثبت محبوبيّته ولم يصدر من المولى دليل على أنّه محبوب ، فتجرى البراءة العقليّة عنه.

الإشكال الثامن : وهو يختصّ بالواجبات التعبديّة ولا يجرى في التوصّليّات ، وهو أنّه لا بدّ فيها من قصد التقرّب ، وهو لا يكون إلّا بالواجب النفسي ؛ لأنّ الواجب الغيري لا يكون مقرّبا ، وحينئذ فمع الاقتصار على الأقلّ لا يكاد يمكن قصد التقرّب ؛ لأنّه يحتمل أن يكون الواجب في الواقع هو الأكثر وكان الأقلّ واجبا غيريّا ، وهذا بخلاف ما إذا أتى بالأكثر ، فإنّه يقطع بكونه مقرّبا إمّا بنفسه ، وإمّا بالأقلّ المتحقّق في ضمنه.

والتحقيق في الجواب أن يقال : أمّا أوّلا فلانّ المعتبر في العبادات أن لا يكون الإتيان بها بداع نفساني ، بل بداع إلهي اخروي ، ومن المعلوم أنّه لا فرق في ذلك بين الإتيان بالاقلّ أو بالأكثر ؛ ضرورة أنّ الآتي بالأقلّ لا يكون الداعي له إلى الإتيان به إلّا أمر إلهي. نعم ، لا يعلم بكون المأتي به ، هو المأمور به كما أنّ الآتي بالأكثر أيضا لا يعلم بذلك.

وبالجملة ، لا فرق بين الإتيان بالأقلّ أو بالأكثر في إمكان قصد التقرّب الذي مرجعه إلى الإتيان بالعمل لا لداع نفساني من رياء وغيره ، وكذا في عدم العلم بكون ما يأتي به هو المأمور به.

وأمّا ثانيا فلأنّ مبنى الإشكال على كون الأقلّ واجبا بالوجوب الغيري على تقدير كون متعلّق التكليف هو الأكثر ، وقد عرفت غير مرّة منع ذلك وأنّ الأجزاء واجبة بعين وجوب المركّب ، والأمر المتعلّق به يدعو إلى الأجزاء بعين دعوته إليه ، وحينئذ فالأقلّ واجب بالوجوب النفسي على التقديرين.

٤٤١

وبالجملة ، لا فرق في الداعي بين القائل بالبراءة والقائل بالاشتغال ، فإنّ الداعي بالنسبة إليهما هو الأمر المتعلّق بإقامة الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ، غاية الأمر أنّه لا يصلح للداعويّة في نظر القائل بالبراءة إلّا بالنسبة إلى ما علم انحلال الصلاة إليه من الأجزاء ، كما أنّه في نظر القائل بالاشتغال يدعو إلى جميع ما تنحلّ إليه واقعا ولو كان هو الأكثر ، ولذا لا يتحقّق العلم بامتثاله إلّا بالإتيان به. فلا اختلاف للداعى بالنسبة إليهما ، فيجوز الإتيان بالأقلّ بداعي الأمر المتعلّق بالصلاة بلا ريب ، ولا يوجب ذلك قدحا في عباديّتها أصلا ، كما لا يخفى.

هذا كلّه في البراءة العقليّة ، وقد عرفت جريانها وعدم ورود شيء من الإشكالات المتقدّمة عليها في جريان البراءة الشرعيّة في المقام.

وأمّا البراءة الشرعيّة فالظاهر أنّه لا مانع من جريانها بناء على ما هو مقتضى التحقيق من انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ والشكّ في وجوب الأكثر ، كما عرفت ؛ وذلك لأنّ الأقلّ معلوم وجوبه النفسي تفصيلا والأكثر مشكوك ، فيكون مرفوعا بمثل حديث الرفع (١).

ولا فرق في ذلك بين أن يقال بدلالة الحديث على رفع الجزئيّة المجهولة بناء على إمكان رفعها لكونها قابلة للوضع ، أو يقال بدلالته على رفع الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر بناء على عدم إمكان رفع الجزئيّة ، وكيف كان ، فلا مانع من جريانها بالنسبة إلى الأكثر بناء على الانحلال.

وأمّا بناء على عدم الانحلال الموجب لعدم جريان البراءة العقليّة ، فهل تجري البراءة الشرعيّة مطلقا ، أو لا تجري كذلك ، أو يفصّل بين ما إذا كان العلم

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١.

٤٤٢

مقتضيا لوجوب الموافقة القطعيّة فتجري ، وبين ما إذا قيل بكونه علّة تامّة له فلا تجري؟ وجوه ، بل أقوال ، ذهب إلى الأوّل المحقّق الخراساني رحمه‌الله وإلى الأخير المحقّق العراقي على ما في تقريرات بحثه (١).

والحقّ هو الوجه الثاني ؛ لأنّه لو كان مجرى البراءة هو الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر المجهول فالأصل وإن كان يجري بالنسبة إليه لكونه مشكوكا ، إلّا أنّه معارض بالأصل الجاري في الأقلّ ؛ لأنّ وجوبه النفسي أيضا مشكوك بناء على ما هو المفروض من عدم انحلال العلم الإجمالي ؛ لأنّه يلزم من جريانهما مخالفة عمليّة للتكليف المعلوم المتحقّق في البين المردّد بين الأقلّ والأكثر.

ودعوى أنّ طبيعة الوجوب بالنسبة إلى الأقلّ معلومة بالتفصيل ، فلا تجري أصالة البراءة بالنسبة إليه ، وأمّا الأكثر فأصل تعلّق الوجوب به مشكوك فلا مانع من جريان الأصل فيه.

مدفوعة ، بأنّ الأمر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري أمر انتزاعي لا يكون قابلا للجعل ؛ ضرورة أنّ المجعول إمّا هو الوجوب النفسي ، وإمّا هو الوجوب الغيري ، غاية الأمر أنّ العقل بعد ملاحظتهما ينتزع منهما أمرا واحدا ، وهو أصل الوجوب والإلزام ومعنى الجامعيّة الانتزاعيّة أنّها ليس بمجعول شرعي ، فلا يجري الأصل الشرعيّ نفيا وإثباتا فيما لم يكن بمجعول شرعيّ.

كما أنّ دعوى عدم جريان الأصل في الأقلّ بالنسبة إلى وجوبه النفسى ؛ لعدم ترتّب أثر عليه بعد لزوم الإتيان به على أيّ تقدير كان واجبا نفسيّا أو غيريّا ، فلا معارض للأصل الجاري في الأكثر.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٣٥.

٤٤٣

مدفوعة ؛ بأنّه يكفي في جريان الأصل ترتّب الأثر عليه ولو في بعض الموارد ، وهنا كذلك ، فإنّ جريان أصل البراءة عن الوجوب النفسي المجهول المتعلّق بالأقلّ يترتّب عليه الأثر فيما لو سقط الجزء المشكوك عن الجزئيّة لتعذّر ، فالأمر دائر بعد فرض تعذّر الجزء المشكوك بأنّ بقيّة الأجزاء يجب إتيانها بالوجوب النفسي أم لا؟ وجريان أصالة البراءة فيه مستلزم لعدم وجوب الإتيان ببقيّة الأجزاء ، فهذا الأثر في هذا المورد يكفي لإمكان جريان أصالة البراءة عن الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ مطلقا ، فلذا يكون الأصل الجاري عن الوجوب النفسي المتعلّق بالأقلّ معارضا للأصل الجاري عن الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر.

وبالجملة ، فلو كان مجرى البراءة هو الوجوب النفسي المتعلّق بالأكثر لكان الأصل الجاري فيه معارضا بالأصل الجاري في الأقلّ.

وأمّا لو كان مجراها هي جزئيّة الجزء المشكوك فلا مانع من جريان حديث الرفع ؛ لنفيه وتعيين المأمور به في الأقلّ على مختار صاحب الكفاية.

ثمّ استشكل على نفسه قائلا لا يقال : إنّ مجرى الحديث عبارة عن المجعول الشرعي ، أو موضوعا للأثر الشرعي ، ولا تكون الجزئيّة قابلة للوضع ولا للرفع ، بل كلّ واحد منهما يتعلّق بمنشإ انتزاعه ، وهو الوجوب النفسي المتعلّق بالمركّب وما يترتّب عليها من الأثر من لزوم الإعادة ، وهو من الأحكام العقليّة ولا يرتبط بالحكم الشرعي.

وأجاب عنه : أنّ الجزئيّة قابلة للوضع والرفع الشرعي باعتبار منشأ انتزاعها ، فلا مانع من رفع الجزئيّة بالحديث المذكور (١).

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٣٥.

٤٤٤

ويرد عليه : أنّ رفع الجزئيّة لا بدّ أن يكون برفع منشأ انتزاعها ، وهو عبارة عن الوجوب المتعلّق بالأكثر ، ورفعه معارض لرفع الوجوب المتعلّق بالأقلّ ، فيقع التعارض حينئذ بين الأصل الجاري في منشأ انتزاعه وبين الأصل الجاري في الأقلّ كما في الصورة السابقة.

ومن هنا ينقدح الخلل فيما أفاده المحقّق العراقي بعد تسليم ثبوت التعارض بين الأصل الجاري في الأكثر في وجوبه النفسي والأصل الجاري في الأقلّ ، من أنّه يكفي في جريان الأصل في جزئيّة المشكوك مجرّد كونها ممّا أمر رفعه ووضعه بيد الشارع ولو بتوسّط منشئه ، وهو التكليف ، فإنّ للشارع رفع الجزئيّة عن المشكوك برفع اليد عن فعليّة التكليف المتعلّق بالأكثر (١).

وجه الخلل : ما عرفت من أنّ منشأ انتزاع الجزئيّة هو الوجوب النفسي المتعلّق بالمركّب من الجزء المشكوك ، والأصل الجاري فيه معارض بالأصل الجاري في المركّب من غيره ، كما اعترف به.

أمّا لو كان مجرى البراءة هو الوجوب الغيري المتعلّق بالجزء المشكوك فالظاهر أيضا عدم جريان الأصل فيه للمعارضة ؛ لأنّ الوجوب الغيري بالجزء المشكوك وإن كان وجوبا شرعيّا بناء على القول بوجوب المقدّمة على خلاف ما هو الحقّ والمحقّق في محلّه ، إلّا أنّ الملازمة بينه وبين وجوب ذي المقدّمة ملازمة عقليّة ، فالشكّ فيه وإن كان مسبّبا عن الشكّ في وجوب الأكثر ، إلّا أنّه لا يرتفع بالأصل الجاري في السبب بعد عدم كون المسبّب من الآثار الشرعيّة المترتّبة عليه ، فكما أنّه يجري الأصل في السبب يجري في المسبّب أيضا ، وحينئذ فيقع التعارض بين الأصل الجاري فيهما والجاري

__________________

(١) نهاية الافكار ٣ : ٣٩٠.

٤٤٥

في الأقلّ.

نعم ، لو قلنا بكون وجوب المقدّمة من الآثار الشرعيّة المترتّبة على وجوب ذيها لكان الأصل الجاري في السبب معارضا بالأصل الجاري في الأقلّ ، ويبقى الأصل الجاري في المسبّب سليما عن المعارض ، ولكن هذا بمكان من البطلان ؛ لأن مسألة وجوب المقدّمة مسألة عقليّة ، كما هو المسلّم بينهم.

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّه بناء على عدم انحلال العلم الإجمالي لا تجري أصالة البراءة بالنسبة إلى الأكثر ، لا في وجوبه النفسي المتعلّق به ، ولا في جزئيّة الجزء المشكوك ، ولا في الوجوب الغيري المتعلّق به.

وهذا لا فرق فيه بين أن نقول باقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة وبين أن نقول بكونه علّة تامّة له ، فالتفكيك بين البراءة الشرعيّة والعقليّة ممّا لا وجه له أصلا.

ثمّ إنّ المحقّق العراقي المفصّل بين القول بالاقتضاء والعلّيّة أفاد في وجه عدم جريان الأصل النافي ـ بناء على العلّيّة ولو في بعض أطرافه بلا معارض ـ أنّه بعد انتهاء الأمر إلى حكم العقل بوجوب الاحتياط ولزوم تحصيل الجزم بالفراغ ولو جعليّا ـ أي جعل الشارع شيئا موجبا لفراغ الذّمّة وبراءة الذمّة ـ لا مجال لجريان الاصول النافية ولو في فرض كونها بلا معارض ، إلّا على فرض اقتضاء جريانها لإثبات أن الواجب الفعلي هو الأقلّ ولو ظاهرا ، كي ببركة إثباته ذلك يكون الإتيان به فراغا جعليّا عمّا ثبت في العهدة ، وهو أيضا في محلّ منع ؛ لمنع اقتضاء مجرّد نفي وجوب الأكثر والخصوصيّة الزائدة لإثبات هذه الجهة إلّا على القول بالمثبت الذي لا نقول به.

نعم ، قد يتوهّم تكفّل مثل حديث الرفع لإثبات ذلك بأنّ الحديث ناظر إلى

٤٤٦

إطلاقات أدلّة الجزئيّة واقعا بتقييد مفاد فعليّتها بحال العلم بها ، وأنّه برفع فعليّة التكليف عن المشكوك واقعا مع ضميمة ظهور بقية الأجزاء في الفعليّة يرتفع الإجمال من البين ، ويتعيّن كون متعلّق التكليف الفعلي هو الأقلّ ، وبالإتيان به يتحقّق الفراغ والخروج عن عهدة التكليف.

وأجاب عن هذا التقريب بما ملخّصه : منع صلاحيّة حديث الرفع لأن يكون ناظرا إلى نفي فعليّة التكليف عن المشكوك واقعا ؛ إذ مفاد الرفع فيه إنّما هو مجرّد الرفع الظاهري الثابت في المرتبة المتأخّرة عن الجهل بالواقع ، ومثله غير صالح لتقييد إطلاق الجزئيّة الواقعيّة المحفوظة حتّى بمرتبة فعليّتها في المرتبة السابقة عن تعلّق الجهل بها ؛ لاستحالة ورود الرفع في ظرف الجهل بشيء على الشيء الملحوظ كونه في المرتبة السابقة على الجهل بنفسه ، ولأنّ رفع كلّ شيء عبارة عن نقيضه وبديله ، فلا يمكن أن يكون الرفع في هذه المرتبة نقيضا لما هو في المرتبة السابقة ؛ لأنّ وحدة الرتبة بين النقيضين من الوحدات الثمان التي تعتبر في التناقض والتضادّ.

وحينئذ فلو كانت مقتضيات الفعليّة في المرتبة السابقة على الجهل متحقّقة لا يكاد يصلح مثل هذا الحديث للمانعيّة عنها ، ومعه يبقى العلم الإجمالي على حاله.

وتوهّم : أنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي ، إلّا أنّ الحكم الواقعي ولو بنتيجة الإطلاق يكون في مرتبة الحكم الظاهري ، وبذلك أمكن تعلّق الرفع في تلك المرتبة بفعليّة الحكم الواقعي.

مدفوع ، بأنّه مع الاعتراف بكون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي كيف يمكن توهّم كون الحكم الواقعي في عرض الحكم الظاهري وفي مرتبته؟

٤٤٧

نعم ، الحكم الواقعي يجتمع مع الحكم الظاهري زمانا ، ولكنّه لا يقتضي اجتماعهما رتبة (١). انتهى.

ولا إشكال في عدم تماميّة هذا الجواب ؛ لأنّه يرد عليه : أوّلا : أنّ كون الجهل بشيء والشكّ فيه متأخّرا عن نفس ذلك الشيء ممنوع ، وإلّا لزم انقلابه علما ، مع أنّه خلاف الوجدان ، فإنّا نشكّ كثيرا ما في شيء مع أنّه لا واقعيّة له ، وهكذا العلم بشيء يكون مخالفا للواقع ، فكما أنّ العلم لا يتوقّف على الواقعيّة ، وكذا الجهل والشكّ لا يتوقّفان عليها.

وثانيا : أنّ معنى الإطلاق ليس هو لحاظ السريان والشمول حتّى يقتصر فيه على الحالات التي كانت في عرض الواقع من حيث الرتبة ـ أي الإيمان والكفر في مثل : «اعتق رقبة» لا العلم والجهل ـ بل هو عبارة عن مجرّد عدم أخذ القيد في نفس الحكم أو متعلّقه مع كونه بصدد البيان ، وحينئذ فلا مانع من شمول إطلاق الواقع لمرتبة الجهل به ، فلا استحالة في ورود الرفع في ظرف الجهل على الواقع الشامل لمرتبة الجهل أيضا.

ومن هنا يظهر : أنّ الحكم الواقعي يكون في مرتبة الحكم الظاهري ومحفوظا معه ، كما تقدّم تحقيقه في مبحث اجتماع الحكم الظاهري مع الواقعي.

هذا تمام الكلام فيما لو كان الأقلّ والأكثر من قبيل الأجزاء.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣٩٠ ـ ٣٩٢.

٤٤٨

المطلب الثاني : فيما لو كان الأقلّ والأكثر من قبيل

المطلق والمشروط ، أو الجنس والنوع ، أو الطبيعي والفرد

كما إذا دار الأمر بين كون الواجب مطلق الصلاة أو هي مشروطة بالطهارة مثلا ، أو دار الأمر بين وجوب إطعام مطلق الحيوان أو الإنسان ، أو وجوب إكرام الإنسان أو خصوص زيد ، ففي جريان البراءة العقليّة مطلقا أو عدمه كذلك ، أو التفصيل بين المطلق والمشروط وغيره بالجريان في الأوّل دون غيره ، وجوه ، بل أقوال.

وليعلم أنّ الشرط قد يكون متّحدا مع المشروط في الوجود الخارجي ، كالإيمان في الرقبة ، وقد يكون مغايرا معه في الوجود كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، ولا فرق بينهما في المقام.

وكيف كان ، فذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية إلى عدم جريان البراءة العقليّة هنا مطلقا ، وأنّه أظهر من عدم الجريان في الأقلّ والأكثر في الأجزاء.

قال في وجهه ما نصّه : «فإنّ الانحلال المتوهّم في الأقلّ والأكثر لا يكاد يتوهّم هاهنا ، بداهة أنّ الأجزاء التحليليّة لا تكاد تتّصف باللزوم من باب المقدّمة عقلا ، فالصلاة ـ مثلا ـ في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصّة موجودة بعين وجودها وفي ضمن صلاة اخرى فاقدة لشرطها أو خصوصيّتها تكون

٤٤٩

متباينة للمأمور بها ، كما لا يخفى» (١). انتهى.

وتوضيح عدم جريان البراءة في المقام يتوقّف على بيان مقدّمتين :

الاولى : أنّه لا بدّ في الانحلال الموجب لجريان البراءة في المشكوك أن يرجع العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بأحد الطرفين والشكّ البدوي في الآخر ، وبعبارة اخرى : كان في البين قدر متيقّن تفصيلا ووقع الشكّ في الزائد على ذلك المقدار ؛ ضرورة أنّ بدون ذلك لا وجه للانحلال.

الثانية : أنّ الطبيعي في المتواطيات يتحصّص إلى حصص متعدّدة وآباء كذلك بعدد الأفراد ، بحيث كان المتحقّق في ضمن كلّ فرد حصّة وأب خاصّ من الطبيعي المطلق غير الحصّة والأب المتحقّق في ضمن فرد آخر ، كالحيوانيّة الموجودة في ضمن الإنسان بالإضافة إلى الحيوانيّة الموجودة في ضمن نوع آخر كالبقر والغنم ، وكالإنسانيّة المتحقّقة في ضمن زيد بالقياس إلى الإنسانيّة المتحقّقة في ضمن بكر وخالد. فلا محالة في مفروض المقام لا يكاد يكون الطبيعي المطلق بما هو جامع الحصص والآباء القابل للانطباق على حصّة اخرى محفوظا في ضمن زيد ؛ لأنّ ما هو محفوظ في ضمنه إنّما هي الحصّة الخاصّة من الطبيعي ، ومع تغاير هذه الحصّة مع الحصّة الاخرى المحفوظة في ضمن فرد آخر كيف يمكن دعوى اندراج البحث في الأقلّ والأكثر ولو بحسب التحليل؟

بل المراد في مثل المقام ينتهي إلى العلم الإجمالي بتعلّق التكليف إمّا بخصوص حصّة خاصّة ، أو بجامع الحصص والطبيعي على الإطلاق ، بما هو قابل للانطباق على حصّة اخرى غيرها ، فيرجع الأمر إلى الدوران بين

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٣٨.

٤٥٠

المتباينين ، فيجب فيه الاحتياط بإطعام خصوص زيد مثلا.

ويرد على هذه المقدّمة : أنّ التحقيق في باب الكلّي الطبيعي هو كونه موجودا في الخارج بوصف الكثرة ، فإنّ زيدا إنسان وعمرا أيضا إنسان ، وزيد وعمرو إنسانان ؛ لأنّ الكلّي الطبيعي ليس إلّا نفس الماهيّة ، وهي بذاتها لا تكون واحدة ولا كثيرة ، وحيث إنّها لا تكون بنفسها كذلك فتجتمع مع الواحد ومع الكثير ؛ لأنّها لو كانت واحدة لم يكن يمكن أن تجتمع مع الكثير ، ولو كانت كثيرة لا يكاد يمكن أن تجتمع مع الواحد ، فحيث لا تكون كثيرة بذاتها ولا واحدة بنفسها لا تأبى من الاجتماع معهما.

وبالجملة ، كلّ فرد من أفراد الإنسان ـ مثلا ـ هو نفس ماهيّته مع خصوصيّة زائدة ، فزيد حيوان ناطق ، كما أنّ عمرا كذلك أيضا ، ولا تكون الماهيّة المتحقّقة ضمن زيد مغايرة للماهيّة المتحقّقة ضمن عمرو أصلا ، فجميع أفراد الإنسان يشترك في هذه الجهة ، ولا مباينة بينها من هذه الحيثيّة أصلا ، والطبيعي الجامع بينها يتّحد في الخارج مع كلّ واحد منها ، ولا يكون واحدا بالوحدة العدديّة كما زعمه الرجل الهمداني الذي صادفه الشيخ الرئيس في بلدة همدان ، حيث إنّه تخيّل أنّ الطبيعي الجامع موجود في الخارج بوصف الوحدة(١).

كما أنّ ما ذكر في المقدّمة الثانية من تحصّصه بحصص متباينة وكونها آباء متعدّدة ممّا لا يكاد يتصوّر وإن أذعن به بعض الأعلام.

مضافا إلى أنّه خلاف ما صرّح به الفلاسفة العظام ، وتعبيرهم بأنّ الطبيعي مع الأفراد كالآباء مع الأولاد إنّما يريدون به نفي ما زعمه الرجل الهمداني

__________________

(١) رسائل ابن سينا : ٤٦٣ ، الحكمة المتعالية ١ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : ٩٩.

٤٥١

من كونه أبا واحدا خارجا وله أولاد متكثّرة ، لا كونه ذا حصص متباينة.

إذا عرفت ذلك يظهر لك وجود القدر المتيقّن في مثل المقام ، فإنّه لو دار الأمر بين وجوب إكرام مطلق الإنسان أو خصوص زيد ، يكون إكرام طبيعة الإنسان التي هي عبارة عن الحيوان الناطق مع قطع النظر عن الخصوصيّات المقارنة معه في الوجود الخارجي معلوما تفصيلا ، والشكّ إنّما هو في الخصوصيّة الزائدة.

كما أنّه لو دار الأمر بين عتق مطلق الرقبة أو خصوص الرقبة المؤمنة يكون وجوب عتق مطلق الرقبة معلوما تفصيلا ، والشكّ إنّما هو في وجوب الخصوصيّة الزائدة وهي كونها مؤمنة ؛ ضرورة أنّ الرقبة الكافرة تشترك مع الرقبة المؤمنة في أصل المصداقيّة لمطلق الرقبة. نعم ، بينهما افتراق من جهات اخرى لا ترتبط بالطبيعي.

وحينئذ فلا فرق بين هذه الموارد وبين الأقلّ والأكثر أصلا. نعم ، بين تلك الموارد فرق من جهة وضوح ذلك وخفائه ، فإنّ الدوران بين المطلق والمشروط مع كون الشرط مغايرا في الوجود الخارجي مع المشروط ـ كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ـ من أوضح تلك الموارد من جهة احتياجه في عالم الجعل والثبوت إلى لحاظ آخر ، كاحتياجه في عالم الإيصال والإثبات إلى مئونة زائدة ، بخلاف غيره من سائر الموارد.

وأمّا من جهة أصل وجود ما هو المناط في جريان البراءة من ثبوت القدر المتيقّن فلا فرق بينها أصلا.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله من وجوب الاحتياط فيما إذا كان الأقلّ والأكثر من قبيل الجنس والنوع ؛ لأنّ الترديد بينهما وإن كان يرجع بالتحليل

٤٥٢

العقلي إلى الأقلّ والأكثر ، إلّا أنّه خارجا بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين ؛ لأنّ الإنسان بما له من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفا ، فلو علم إجمالا بوجوب إطعام الإنسان أو الحيوان فاللازم هو الاحتياط بإطعام خصوص الإنسان ؛ لأنّ ذلك جمع بين الأمرين ، فإنّ إطعام الإنسان يستلزم إطعام الحيوان أيضا (١).

ويرد عليه أوّلا : أنّ البحث في البراءة العقليّة والمتّبع فيها نظر العقل ، فلا يرتبط بنظر العرف ، ولحاظه الإنسان مع الحيوان متباينا ، وهذا الكلام يجري في البراءة الشرعيّة المستفادة من الأدلّة اللفظيّة.

وثانيا : أنّ التنافي بين الحيوان والإنسان بنظر العرف لو سلّم لا يوجب تعميم الحكم لمطلق ما إذا دار الأمر بين الجنس والنوع ، فمن الممكن أن لا يكون بعض الأنواع منافيا لجنسه بنظر العرف أيضا كالبقر والحيوان ، والغنم والحيوان.

وثالثا : لو سلّم التنافي فمقتضى القاعدة الحاكمة بوجوب الاحتياط الجمع بين الجنس والنوع بإطعام الحيوان والإنسان معا في المثال ، لا الاقتصار على إطعام الإنسان فقط.

وما أفاده من أنّ إطعام الإنسان يستلزم إطعام الحيوان أيضا رجوع عمّا ذكره أوّلا من المباينة بينهما بنظر العرف ، فإنّ استلزامه لذلك إنّما هو بملاحظة التحليل العقلي لا النظر العرفي ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّك عرفت ممّا تقدّم أنّ تمام المناط لجريان البراءة هو وجود القدر المتيقّن في البين ، بلا فرق بين أن تكون الخصوصيّة المشكوكة من قبيل

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٠٨.

٤٥٣

الخصوصيّات المنوّعة أو المفرّدة ، أو من الخصوصيّات العرضيّة ، بل قد عرفت أوضحيّة الجريان في القسم الثاني.

كما أنّه لا فرق فيه ـ أي في القسم الثاني ـ بين أن يكون القيد المشكوك فيه بحيث يمكن اتّصاف كلّ فرد من أفراد الطبيعي به ـ كالقيام والقعود والإيمان والعدالة ـ وبين ما لم يكن كذلك كالهاشميّة ونحوها.

كما أنّه لا فرق أيضا بين أن يكون النوع المأخوذ متعلّقا للتكليف بنحو كان الجنس مأخوذا في ضمنه أيضا ـ كالحيوان الناطق ـ أو لم يكن كذلك كالإنسان.

والسرّ في الجريان في الجميع اشتراكه فيما هو المناط.

ويستفاد من بعض الكلمات تفصيلات في المقام لا تحتاج إلى التعرّض ، فالحقّ جريان البراءة العقليّة والشرعيّة في جميع موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بناء على مبنى الانحلال.

وأمّا على القول بعدم الانحلال في باب الأجزاء فقال صاحب الكفاية بعدم جريان البراءة العقليّة وجريان البراءة الشرعيّة ، وإذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر في باب الشرائط فقال بجريان البراءة الشرعيّة في باب المطلق والمشروط بخلاف باب الجنس والنوع ، ويعبّر بالعامّ والخاصّ ، فيحكم بينهما بحكم المتباينين.

وقلنا : إنّ القول بعدم الانحلال مستلزم لعدم جريان حديث الرفع أصلا ، فإنّ جريانه في طرف واحد معارض لجريانه في الطرف الآخر ، وجريانه في كليهما يستلزم المخالفة القطعيّة العمليّة للمعلوم بالإجمال.

ولو سلّمنا جريانه فلا فرق بين الشرائط والنوع والجنس ، كما أنّ الشكّ في

٤٥٤

شرطيّة الوضوء ـ مثلا ـ شكّ في أمر زائد على المأمور به ، كذلك الشكّ في خصوصيّة الإنسانيّة شكّ في أمر زائد على المأمور به وإن كانت الخصوصيّة متّحدة مع الحيوان من حيث الوجود ، ولكنّ الشكّ في أمر زائد ليس قابلا للإنكار ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

٤٥٥
٤٥٦

المطلب الثالث : في دوران الأمر

بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات

وليعلم أنّ مركز البحث ومورد النزاع بينهم هو ما إذا كان المسبّب الذي هو مورد تعلّق الأمر معلوما بجميع خصوصيّاته ، بحيث لم يكن فيه ترديد أصلا ، بل كان الترديد في السبب المحقّق له من حيث مدخليّة جزء أو شرط في سببيّته وترتّب المسبّب عليه. وأمّا لو كان المسبّب أيضا مشكوكا بحيث دار أمره بين السعة والضيق فهو خارج عن البحث في هذا المقام وداخل في المباحث المتقدّمة.

ثمّ إنّ السبب قد يكون شرعيّا ، وقد يكون عقليّا ، وقد يكون عاديّا ، أمّا السبب الشرعي ففي مثل الشكّ في أنّ التمليك المأمور به هل يتحقّق بالبيع بالفارسيّة أم لا؟ أو أنّ الطهارة المأمور بها المتحصّلة من الغسل والوضوء ، هل الترتيب شرط في تحقّقها أم لا؟

أمّا السبب العقلي ففي مثل الشكّ في أنّ القتل المأمور به ، هل يتحقّق بضرب واحد أم لا؟ أمّا السبب العادي ففي مثل الشكّ في تنظيف المسجد المأمور به هل يتحقّق بكنسه فقط أو يحتاج إلى رشّ الماء أيضا؟ فالشكّ في الأسباب والمحصّلات للمأمور به لا في نفسه.

٤٥٧

وفي جريان البراءة فيها مطلقا وعدم جريانها كذلك ، والتفصيل بين ما لو كانت الأسباب عاديّة أو عقليّة وبين ما لو كانت شرعيّة ، أو بين ما لو قيل بكون العلم الإجمالي مقتضيا فتجري ، أو علّة تامّة فلا تجري ، أو بين أن يكون العنوان البسيط الذي هو المأمور به ذا مراتب متفاوتة متدرّج الحصول والتحقّق ، وبين ما إذا كان دفعي الحصول والتحقّق عند تحقّق الجزء الأخير من علّته ، بالجريان في الصورة الاولى وعدمه في الصورة الثانية ، وجوه ، بل أقوال خمسة.

والمحقّق العراقي قائل بالتفصيل بين ما لو كان المسبّب عنوانا بسيطا ذا مراتب متفاوتة ومتدرّج الحصول ، وبين ما إذا كان دفعي الحصول ، بجريان البراءة في الأوّل بخلاف الثاني (١) ، ولكنّه خارج عن محلّ البحث ، فإنّه لو كان العنوان البسيط ذا مراتب متدرّج الوجود وتعلّق الأمر المشكوك بمرتبة ضعيفة أو متوسّطة أو كاملة فهو خارج عن محلّ البحث ، فإنّ البحث فيما كان المأمور به معلوما ومحصّل المأمور به وسببه مشكوكا وإن كان المأمور به ومتعلّق الأمر معلوما ، كما إذا علمنا بتعلّق الأمر بمرتبة متوسطة منه ـ مثلا ـ فلا فرق بينه وبين دفعي الحصول ؛ إذ المرتبة الضعيفة دفعيّة الحصول ، وهكذا المرتبة المتوسطة والكاملة.

إذا ظهر لك ذلك فاعلم : أنّ الأقوى وجوب الاحتياط مطلقا ؛ لأنّه بعد تنجّز التكليف وعدم كون المكلّف معذورا في مخالفته من جهة العلم به وبمتعلّقه ـ أي قطعيّة تعلّق الأمر ومعلوميّة المتعلّق ـ يحكم العقل حكما بتّيا بلزوم العلم بالفراغ عن عهدته بالإتيان بكلّ ما يحتمل دخله في سببيّة السبب

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٠١.

٤٥٨

وترتّب المسبّب عليه جزء أو شرطا ، وليس الاقتصار على الأقلّ ـ الذي لا يوجب الإتيان به إلّا مجرّد احتمال تحقّق الامتثال والإتيان بالمأمور به ـ إلّا كالاقتصار على احتمال الإتيان بالمأمور به فيما لو احتمل أنّه لم يأت بشيء من أجزائه وشرائطه أصلا.

ومن المعلوم أنّ مقتضى حكم العقل فيه لزوم إحراز الامتثال ، ألا ترى أنّه لا يكفي لمن احتمل أنّه لم يصلّ أصلا مجرّد احتمال أنّه صلّى. نعم ، بعد خروج الوقت دلّ الدليل النقلي على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال في خصوص الصلاة.

ودعوى : أنّه بعد الإتيان بما علم مدخليّته في السبب لا يعلم ببقاء الأمر حينئذ حتّى يجب عليه الإتيان بالقيد المشكوك ؛ ضرورة أنّه يحتمل أن يكون المأتي به تمام السبب.

مدفوعة ؛ بأنّ هذا الاحتمال متحقّق في جميع موارد قاعدة الاشتغال كما هو واضح ، والمناط في جريانها هو العلم بتعلّق الأمر وكون المتعلّق معلوما أيضا وشكّ في فراغ ذمّته منه.

وبالجملة ، بعد ما قامت الحجّة من المولى على ثبوته وعلى تعيين المكلّف به لا يكون مفرّ من لزوم العلم بتحقّقه وحصول الامتثال ، وهو يقتضي وجوب الاحتياط ، بلا فرق بين أن تكون الأسباب عاديّة أو عقليّة أو شرعيّة ، وكذا بين أن نقول باقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة أو بكونه علّة تامّة ، ولا بين أن نقول بإمكان جعل السببيّة وكذا الجزئيّة والشرطيّة ، أو لا نقول بذلك.

ولا فرق أيضا فيما ذكرنا بين أن نقول بأنّ عدم المأمور به المنهي عنه حسب اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن النقيض متكثّر حسب تكثّر أجزاء

٤٥٩

محقّقة ، لأنّه ينعدم بانعدام كلّ واحد منها ، أو نقول بأنّه ليس للمأمور به إلّا عدم واحد ؛ إذ كما أنّه لا يكون له إلّا وجود واحد كذلك لا يكون له إلّا عدم واحد ، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في بعض المقدّمات التي مهّدناها لجريان البراءة في الأقلّ والأكثر في الأجزاء.

وأمّا على القول الثاني فواضح ؛ لأنّ المنهي عنه إنّما هو عدم واحد ، ولا يعلم بتركه وحصول الامتثال إلّا بالإتيان بكلّ ما يحتمل دخله في المحقّق ـ بالكسر ـ شطرا أو شرطا ؛ إذ مع الاقتصار على المقدار المعلوم لا يعلم بتحقّق المأمور به حتّى يعلم بامتثال النهي بترك المنهي عنه.

أمّا على القول الأوّل فقد يقال بأنّه لا مانع حينئذ من جريان البراءة ؛ لأنّ الأمر ينتهي في ظرف حرمة الترك إلى الأقلّ والأكثر ، حيث إنّ ترك المأمور به الناشئ من قبل ترك الأقلّ ـ أي عدم تحقّق الضربة الاولى ـ ممّا يعلم تفصيلا حرمته واستحقاق العقوبة عليه ؛ للعلم بإفضائه إلى ترك المأمور به ، وأمّا الترك الناشئ من قبل الجزء أو الشرط المشكوك ـ أي عدم تحقّق الضربة الثانية ـ فلا يعلم حرمته ؛ لعدم العلم بأدائه إلى ترك المأمور به ، فيشكّ في تعلّق النهي عنه ، فتجري فيه أدلّة البراءة العقليّة والنقليّة.

وقلنا : إنّ هذه المناقشة مبتنية على مقدّمتين : الاولى : كون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن النقيض والضدّ العامّ ، والثانية : القول بتعدّد الأعدام ؛ لعدم المأمور به المتعلّق للنهي ، فإنّ بعضها متعلّق للنهي الناشئ عن الأمر المتعلّق بالمأمور به قطعا ، وبعضها مشكوك من هذه الجهة ، وكلاهما ليس قابلا للالتزام.

ولكن على فرض تماميّة المقدّمتين لا مجال لجريان البراءة ؛ لأنّ هذه

٤٦٠