دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

عن المعلوم بالذات.

وما يمكن أن يكون عين القطع هي الصورة الحاضرة عند النفس ؛ إذ يصحّ أن يقول : بأنّه لا يتحقّق في النفس شيئان : أحدهما القطع والآخر المعلوم بالذات ، وعلى هذا تكون كاشفيّة القطع كاشفيّة كاملة وطريقيّته طريقيّة تامّة ؛ لعدم الانفكاك بينهما أصلا بلا فرق بين صورة الإصابة والخطأ.

وقد عرفت أنّ حجّيّة القطع تكون بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة ، والجامع بينهما صحّة الاحتجاج به إمّا من العبد في مقابل المولى ، وإمّا من المولى في مقابل العبد. ولا يخفى أنّ الحجّيّة لا ترتبط بماهيّة القطع ومعناه ، أي أنّه إدراك لا شكّ فيه ، لا بوجوده الذهني وتصوّره ، بل يرتبط بوجوده الواقعي ، أي الصفة النفسانيّة التي نسمّيها بالقطع وما يكون معروضا للحجّيّة هو وجوده الواقعي فقط ، ولا يكون قابلا للمقايسة من حيث الرتبة مع الكاشفيّة التي تكون من لوازم ماهيّته.

ومن المعلوم أنّ حجّيّة القطع من الأحكام العقليّة البديهيّة ، ولا تحتاج إلى جعل الشارع ، وإلّا يلزم اللّغوية ؛ إذ لا يترتّب عليه أثر بعد حكم العقل بحجّيّته بالبداهة ، ولا يمكن جعل الحجّيّة له من الشارع ولو بنحو الإمضاء نظير جعلها لخبر الواحد ، فإنّ دأب الشارع لا يكون إمضاء جميع ما يكون معتبرا ورائجا بين العقلاء ، فإنّا نرى في بعض الموارد تأييده منه ، وفي بعض الموارد نفيه كنفي الربا ـ مثلا ـ بخلاف الأحكام العقليّة البديهيّة ؛ إذ لا يمكن للشارع نفيها وإثباتها لاستلزام اللغويّة ، والانتهاء إلى تزلزل أساس الاعتقادات ، مثل : إثبات الصانع ووحدانيّته ، ولزوم إطاعة قوله وأمثال ذلك ممّا يترتّب عليه.

ولذا لا يصحّ القول : بأنّه لا مانع من حكم العقل والشرع معا بحجّيّة القطع ،

٢١

نظير حكم العقل بقبح الظلم وحكم الشرع بحرمته ؛ لأنّ ما حكم به العقل في باب الظلم غير ما حكم به الشرع ، ولا تتحقّق العينيّة بينهما ، فإنّ ما حكم به العقل ـ أي القبح ـ يكون بمنزلة الملاك والعلّة للحكم الشرعي ـ أي الحرمة ـ وأمّا في باب القطع بعد إدراك العقل صحّة الاحتجاج به بإدراك الضروري فلا مجال لحكم الشرع بها.

وذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) دليلا آخر لعدم إمكان نفي حجّيّة القطع من الشارع، وهو أنّه مستلزم لاجتماع الضدّين بحسب اعتقاد القاطع في صورة عدم إصابة القطع للواقع ، وبحسب الواقع والاعتقاد في صورة الإصابة.

وهذا مبتن على ما ذكره قدس‌سره في باب اجتماع الأمر والنهي من تحقّق التضادّ بين الأحكام الخمسة التكليفيّة ، وقد ذكرنا تبعا استاذنا السيّد الاستاذ الإمام قدس‌سره أنّ دائرة التضادّ محدودة بالامور الواقعيّة التكوينيّة ، مثل : عروض السواد والبياض على جسم واحد في آن واحد ، والأحكام التكليفيّة من الامور الاعتباريّة ، ولذا قلنا في مفاد هيئة «افعل» : إنّه عبارة عن البعث الاعتباري ، وفي مفاد هيئة «لا تفعل» أنّه عبارة عن الزجر الاعتباري في مقابل البعث والزجر التكويني ، وهكذا في سائر الأحكام التكليفيّة ، ولا يتحقّق التضادّ في الامور الاعتباريّة ، والشاهد على ذلك عدم إمكان اجتماع المتضادّين ـ كالسواد والبياض ـ في آن واحد ولو من ناحية اثنين.

وأمّا في باب الأوامر والنواهي فيمكن أن تكون طبيعة واحدة بالنسبة إلى مكلّف حراما وبالنسبة إلى آخر واجبة ، فكيف يتحقّق التضادّ بين الأحكام؟!

إن قلت : إن لم يتحقّق التضاد بين الأحكام يصحّ للمولى أن يقول لعبده :

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٨.

٢٢

«صلّ في هذه الساعة» و «لا تصلّ فيها» ، أي تحريم طبيعة واحدة ووجوبها بالنسبة إلى شخص واحد ، مع أنّه مستحيل بالبداهة.

قلنا : إنّ منشأ الاستحالة هنا اجتماع الحبّ والبغض ، وهما أمران تكوينيّان ومن مبادئ البعث والزجر الاعتباري ، فإنّ البعث الاعتباري ناش عن حبّ المولى بتحقّق المأمور به في الخارج ، كما أنّ الزجر الاعتباري ناش عن بعضه بتحقّقه فيه ، ولا يعقل أن يكون شيء واحد في آن واحد محبوبا ومبغوضا له.

وأشكل استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) على ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ هذا الاجتماع نظير اجتماع الحكم الواقعي والظاهري في مورد الشكّ إذا كان مشكوك الطهارة بحسب الواقع نجسا ، فإنّه طاهر بمقتضى قاعدة الطهارة ونجس بحسب الحكم الأوّلي ، فلما ذا لا تتحقّق هنا مسألة اجتماع الضدّين؟ ففيما نحن فيه أيضا يمكن أن تكون المسألة بهذه الكيفيّة ، بأن يقول الشارع : «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة لا تكون صلاة الجمعة عليك واجبة» بدون تحقّق التضادّ أصلا.

نعم ، يكون جعل الحكم الظاهري امتنانا وتسهيلا على المكلّف الشاكّ بدون استلزام اللغوية ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ قول الشارع بعدم وجوب صلاة الجمعة على القاطع به لغو ، وصدوره قبيح عن الحكيم ، ولكنّ اللّغويّة مسألة واجتماع الضدّين مسألة اخرى ، وسيأتي تفصيل هذا الكلام إن شاء الله.

وقد مرّ في مسألة كاشفيّة القطع أنّه بالنسبة إلى المعلوم بالعرض قد يكون مصيبا وكاشفا عنه ، وقد لا يكون كذلك ، فبالنسبة إلى المعلوم بالعرض تكون كاشفيّته تامّة ، وعرفت القول بعينيّة القطع مع المعلوم بالذات ، وعلى هذا

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٨.

٢٣

لا معنى للكاشفيّة المتقوّمة على اثنينيّة ، وأمّا على القول بعدم العينيّة وتحقّق الشيئين في النفس أحدهما كاشفا والآخر مكشوفا ، فيصحّ البحث في إمكان جعل الكاشفيّة للقطع من الشارع وعدمه.

والظاهر أنّ طريقيّة القطع إلى الصورة النفسانيّة تكوينيّة ولا يمكن للشارع بما هو شارع الدخالة في الامور التكوينيّة ، لا نفيا ولا إثباتا. فهو نظير إيجاد الشمس مشرقة وإيجاد النار حارّة في عدم الارتباط بعالم التشريع. هذا تمام الكلام في المسألة الاولى من مسائل القطع.

٢٤

المسألة الثانية

في التجرّي

ولا بدّ قبل الخوض في هذا البحث من ذكر امور بعنوان المقدّمة :

الأوّل : في معنى التجرّي والانقياد بحسب الاصطلاح ، والتجرّي : ارتكاب ما يعتقد كونه حراما مع عدم حرمته بحسب الواقع ، وترك ما يعتقد كونه واجبا مع عدم كونه كذلك واقعا ، والانقياد : موافقة ما يعتقد كونه تكليفا لزوميّا ، مع أنّه ليس كذلك بحسب الواقع في مقابل الإطاعة والعصيان ، مع أنّهما بحسب اللغة أعمّ منهما.

الأمر الثاني : أنّ التجرّي لا يختصّ بالقطع وإن كان هو مصداقه البيّن ، كما إذا ارتكب ما يقطع بحرمته أو خالف ما يقطع بوجوبه ، مع أنّهما لا يكونان كذلك بحسب الواقع ، ولكن ينطبق في مورد الأمارات والاصول العمليّة أيضا ، كما إذا دلّ خبر الواحد المعتبر على وجوب صلاة الجمعة ، وتركها من قام عنده الخبر ، مع أنّها بحسب الواقع ليست بواجبة ، فيصدق هنا عنوان التجرّي ، إلّا أنّ هذا بناء على القول بحجّيّة الأمارات من باب الطريقيّة ، كما هو الحقّ والمشهور عند الإماميّة ، وأمّا على القول بحجّيّتها من باب السببيّة ـ بمعنى إحداث الحكم مطابقا لمؤدّى الأمارة بالنسبة إلى من قام عنده الخبر مثلا ـ فيصدق العصيان

٢٥

على مخالفته ، فإنّ قيام الخبر على وجوب صلاة الجمعة يجعلها واجبة بالنسبة إليه وهو قد خالفها ، فيتحقّق العصيان.

وأمّا في مورد الأمارات ، مثل : قيام الاستصحاب على وجوب صلاة الجمعة وعدم إتيان المكلّف بما يكون واجبا بمقتضى الاستصحاب ، فلا يصدق هنا عنوان التجرّي ؛ إذ المقصود من الشكّ في «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو الشكّ الفعلي الاستقراري ، لا الشكّ المستمرّ إلى الأبد ، فلا بدّ من الالتزام بجعل الحكم المماثل والظاهري في مورد جريان الاستصحاب ، ومعلوم أنّ مخالفة الحكم الظاهري اللزومي معصية ، بلا فرق بين مخالفته للواقع ومطابقته.

وهذا بخلاف قاعدة الطهارة والحلّية لجعلهما تسهيلا وامتنانا على العباد في مشكوك الطهارة والحلّية ، وليس لهما لزوم الموافقة والمخالفة.

الأمر الثالث : أنّ القطع قد يكون طريقيّا وقد يكون موضوعيّا ، والقطع الطريقي ما لم يؤخذ في لسان الدليل وموضوع الحكم ، كما إذا قال الشارع : «لا تشرب الخمر» وحصل القطع للمكلّف بخمريّة مائع في الخارج ، والقطع الموضوعي : ما اخذ في موضوع الحكم ولسان الدليل بعنوان تمام الموضوع أو جزء الموضوع ، كقوله : «لا تشرب مقطوع الخمريّة» ، مثلا : إذا شربه القاطع ، لا يقال له : إنّه متجرّي ، بل يقال له : إنّه عاص ؛ لتحقّق موضوع حكم الشارع وإن لم يكن بحسب الواقع خمرا.

إذا عرفت هذا فيقع البحث في التجرّي ـ بمعنى نيّة المعصية وارتكاب ما لا تكون معصية واقعا ـ مرّة في ترتّب استحقاق العقوبة عليه وعدمه ، واخرى في حرمته وعدمها ، وثالثة في قبحه وعدمه ، ولا إشكال في كون البحث على الأوّل كلاميّا ، كما لا إشكال في كونه بحثا فقهيّا على الثاني ، وأمّا على الثالث

٢٦

فجعل عنوان البحث : أنّ التجرّي هل يكون قبيحا أم لا؟ فهل ينطبق عليه عنوان المسألة الاصوليّة أم لا؟ لقائل أن يقول باصوليّته ؛ إذ البحث إن انتهى إلى قبح التجرّي فيمكن بضميمة قاعدة الملازمة ـ أي كلّ ما حكم العقل بقبحه حكم الشرع بحرمته ـ إليه استنباط الحكم الفقهي ، وهو أنّ التجرّي من المحرّمات في الشريعة ، ومعلوم أنّ هذا ضابطة لاصوليّة المسألة.

وجوابه : أوّلا : أنّ ملاك الاصوليّة أن تقع نتيجة البحث في كبرى القياس ، كقولنا : «صلاة الجمعة ما دلّ خبر الواحد المعتبر على وجوبه» ، و «كلّ ما دلّ الخبر على وجوبه فهو واجب» ، فصلاة الجمعة بما أنّها دلّ الخبر على وجوبها تكون واجبة ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّا نقول : «التجرّي قبيح عقلا» ، و «كلّ ما حكم العقل بقبحه فهو حرام شرعا» ، فالتجرّي حرام شرعا ، وأنت ترى وقوع مسألة الملازمة في كبرى القياس ووقوع مسألة التجرّي في صغرى القياس.

وثانيا : أنّ جريان قاعدة الملازمة محدود بالنسبة إلى الحسن والقبح الواقعين في رتبة متقدّمة على الحكم الشرعي وسلسلة علله ، نظير حكم العقل بقبح الظلم ، واستكشاف حرمته شرعا من قاعدة الملازمة ، وإذا كان حكم العقل في رتبة متأخّرة عن حكم الشرع فلا مجال لقاعدة الملازمة ، نظير حكم العقل بقبح المعصية ، فإنّه متأخّر عن حكم الشرع بحرمة شرب الخمر مثلا ، وهكذا التجرّي متأخّر عن حكم الشرع بحرمة شرب الخمر والقطع بخمريّة مائع وشربه بنيّة المعصية ، فصدق التجرّي متوقّف على ذلك ، ولذا لا محلّ لجريان قاعدة الملازمة هنا ، فلا يمكن أن يكون التجرّي بهذه الكيفيّة من مسائل علم الاصول.

٢٧

ولكنّ المحقّق النائيني قدس‌سره (١) ذكر طريقا آخر لجعل المسألة اصوليّة ، وهو أنّ الإطلاقات والعمومات نظير «لا تشرب الخمر» ـ مثلا ـ هل يشمل مقطوع الخمريّة وإن لم يكن بحسب الواقع خمرا أم لا؟ وعلى كلا التقديرين يستنبط الحكم الفقهي الفرعي.

واشكل عليه بأنّ بحث الشمول وعدمه لا يكون بحثا اصوليّا ؛ إذ البحث الاصولي فيها هو البحث عن حجّيّة العام والإطلاق وقابليّتهما للتمسّك ، وأمّا البحث عن تحقّق الإطلاق أو العموم لدليل وعدمه فلا يرتبط بالاصول ؛ إذ البحث بهذه الكيفيّة يكون بحثا فقهيّا ، كما نبحث في كتاب المكاسب بأنّ إطلاق : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) هل يشمل بيع المعاطاة أم لا؟

وجوابه : أوّلا : أنّه لا فرق بين ما نحن فيه وبحث الخطابات الشفاهيّة من حيث اختصاصها بالموجودين الحاضرين في زمان الخطاب أو الأعمّ منها والغائبين بل المعدومين ، مع أنّه لا شكّ في اصوليّة هذه المسألة ، وهكذا البحث في أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاصول أم لا؟ وإن كان له عنوان القاعدة الفقهيّة.

وثانيا : أنّ البحث هنا كلّي لا يختصّ بخطاب معيّن ، وذكر «لا تشرب الخمر» يكون بعنوان المثال ، فإنّا نقول : إنّ متعلّق الأدلّة الواردة في باب المحرّمات مثل : «لا تشرب الخمر» و «لا تغصب» و... هل يختصّ بالعناوين الواقعيّة أو أعمّ منها ومن مقطوع الخمريّة ومقطوع الغصبيّة وإن لم يكن خمرا وغصبا بحسب الواقع؟ وهذه ليست بمسألة فقهيّة ، بل تكون مسألة اصوليّة أو قاعدة فقهيّة. هذا تقريب كلام المحقّق النائينيقدس‌سره.

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٣٧ ـ ٣٩.

٢٨

وأمّا التجرّي ـ سواء كان له عنوان اصولي أو غيره ـ فيقع البحث فيه من جهتين :

الجهة الأولى : في أنّه قبيح عقلا أم لا؟ ولا خلاف في أنّ العقل كما يحكم بقبح المعصية كذلك يحكم بقبحه ، إنّما الكلام في أنّه صفة الفاعل أو الفعل ، ويستفاد من كلام الشيخ الأنصاري (١) والمحقّق النائيني قدس‌سرهما (٢) أنّه صفة الفاعل ؛ إذ المتحقّق في الخارج هو شرب الماء ، واعتقاد كونه خمرا لا يوجب اتّصافه بالقبح ؛ لعدم تغيير الواقع عمّا هو عليه بالاعتقاد ، إلّا أنّ إبراز نيّة المعصية يكون بواسطة الفعل ، فالفاعل متّصف بالقبح.

والمحقّق العراقي قدس‌سره (٣) قائل بالقبح الفعلي ؛ إذ القبيح في الواقع هو هتك حرمة المولى عملا ، والطغيان الخارجي عليه بعد النيّة واعتقاد كونه معصية ، ومحصّل الطغيان ومحقّقه هو الفعل ، فلا محالة يكون الفعل متّصفا به.

وجوابه : أنّ بعد الاعتراف بأنّ المتحقّق في الخارج هو شرب الماء وأنّ الاعتقاد لا يوجب تغيير الواقعيّة ، كيف يمكن أن يكون الفعل موصوف القبح؟!

ولكن لا يبعد أن يكون النزاع لفظيّا ، بلحاظ أنّ العمل مبرز لقصد المعصية ، والإبراز معتبر في صدق عنوان التجرّي ، ويمكن أن يكون صفة للفعل ، وبلحاظ كشفه عن سوء سريرة المكلّف وجرأته في مقابل المولى ، ويمكن أن يكون صفة الفاعل.

الجهة الثانية : في أنّ التجرّي حرام شرعا أم لا؟ فإنّ الدليل الأوّل على

__________________

(١) الرسائل : ٥.

(٢) فوائد الاصول ٣ : ٤٢.

(٣) نهاية الأفكار ٣ : ٣٠ ـ ٣١.

٢٩

حرمته ادّعاء الإجماع ، والقول بأنّه وإن لم ينعقد على حرمة عنوان التجرّي ولكن انعقد في موارد لا ينطبق عليها سوى هذا العنوان ، منها : في من ظنّ ضيق الوقت وأخّر الصلاة ، ثمّ تبيّن الخلاف وسعة الوقت ، حيث ادّعى الإجماع على عصيانه بتأخير الصلاة واستحقاقه العقاب ، وذلك لا يكون إلّا بناء على حرمة التجرّي.

ومنها : في من سلك طريقا مظنون الضرر حيث ادّعي الإجماع أيضا على عصيانه ووجوب الإتمام عليه ؛ لكون سفره سفر معصية ولو انكشف عدم الضرر ، وهذا لا يتمّ أيضا إلّا بناء على حرمة التجرّي.

هذا ، ولكن يرد عليه : أوّلا : أنّ الإجماع في الموردين المذكورين لم يتحقّق ، وليس بإجماع محصّل ، ولا اعتبار للإجماع المنقول ، وعلى فرض كونه محصّلا يحتمل أن يكون مستند المجمعين عبارة عن الأدلّة الاخرى ، فلا فائدة في الإجماع على فرض صحّتها ، ولا محلّ للفرع على فرض عدم تماميّة الأصل.

وثانيا : أنّ كلّا من الموردين اللذين ادّعي عليهما الإجماع خارج عمّا نحن فيه وليس من موارد التجرّي ، أمّا في الأوّل فلأنّ ظنّ الضيق يكون تمام الموضوع ؛ لوجوب المبادرة بالصلاة شرعا ، فيكون الظنّ هنا موضوعيّا ـ نظير «لا تشرب مقطوع الخمريّة» ـ لا طريقيّا ، ففي صورة المخالفة يتحقّق العصيان.

وهكذا في الثاني ؛ إذ تكون للعلم بالضرر وما يقوم مقامه حتّى الاحتمال العقلائي موضوعيّة للحكم ، فلا محلّ هنا للتجرّي ؛ لأنّ نفس الخوف موضوع للحرمة ، كما أنّه مجوّز للإفطار في باب الصوم وإن انكشف الخلاف ، فلا يتمّ الإجماع على حرمة التجرّي.

ويمكن أن يقال بحرمة التجرّي من طريق قبحه العقلي وانضمام قاعدة «كلّ

٣٠

ما حكم العقل بقبحه حكم الشرع بحرمته».

وجوابه : أوّلا : أنّ قبح التجرّي قبح فاعلي لا قبح فعلي كما ذكرناه.

وثانيا : على فرض كون القبح قبحا فعليّا ولكن مورد جريان قاعدة الملازمة المذكورة منحصر فيما كان حكم العقل في سلسلة المبادئ وعلل حكم الشرع ، وفي رتبة متقدّمة عليه ، وحكم العقل بقبح التجرّي هنا متأخّر عن حكم الشرع بمراتب ، مع أنّ أصل قاعدة الملازمة محلّ كلام.

وذكر المحقّق النائيني قدس‌سره (١) طريقا آخر لحرمة التجرّي وهو : أنّ الخطابات الأوّليّة تعمّ صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، ويندرج المتجرّي في عموم الخطابات الشرعيّة حقيقة ، ببيان : أنّ التكليف لا بدّ وأن يتعلّق بما يكون مقدورا للمكلّف ، والتكليف الذي له تعلّق بموضوع خارجي ، كقوله : «لا تشرب الخمر» و «صلّ في الوقت» وإن كان وجوده الواقعي مشروطا بوجود ذلك الموضوع من غير دخل للعلم والجهل في ذلك ، إلّا أنّ مجرّد الوجود الواقعي لا يكفي في انبعاث المكلّف وحركة إرادته نحوه ، فإنّ الحركة والانبعاث إنّما يكون بالوجود العلمي ، ولا أثر للوجود الواقعي في ذلك ، فالعلم وإن كان بالنسبة إلى الموضوع طريقيّا ، إلّا أنّه بالنسبة إلى الاختيار والإرادة والانبعاث يكون موضوعيّا ، ومتعلّق التكليف إنّما يكون هو الاختيار والانبعاث الناشئ عن العلم بالموضوع والتكليف ، فيكون مفاد قوله : «لا تشرب الخمر» هو لا تختر شرب ما أحرزت أنّه خمر ، وهذا المعنى موجود في كلتي صورتي مصادفة العلم للواقع ومخالفته ، فإنّه في صورة المخالفة قد تحقّق اختيار شرب ما احرز أنّه خمر ، والمصادفة والمخالفة ليست اختياريّة ،

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤٤.

٣١

فلا تصلح لأن يتعلّق بها التكليف ، فالذي يصلح لأن يتعلّق به التكليف ليس إلّا اختيار شرب ما أحرز أنّه خمر.

ثمّ قال : إنّ حاصل هذه الدعوى تتركّب من مقدّمتين :

الاولى : دعوى أنّ متعلّق التكليف هو الانبعاث وحركة الإرادة والاختيار نحو ما احرز أنّه من مصاديق الموضوع الذي تعلّق به التكليف الواقعي.

الثانية : دعوى أنّ الإحراز والعلم يكون موضوعا على وجه الصفتيّة ، بمعنى الاختيار والإرادة وإن كان طريقا بالنسبة إلى الموضوع.

ثمّ أشكل عليهما بقوله : ولا يخفى عليك ما في كلتي المقدّمتين من المنع ، أمّا في الاولى فلأنّ المتعلّق هو الفعل الصادر عن إرادة واختيار ، لا نفس الإرادة والاختيار ، فإنّ الإرادة والاختيار تكون مغفولا عنها حين الفعل ولا يلتفت الفاعل إليها فلا يصلح لأن يتعلّق التكليف بها ، فإذا كان متعلّق التكليف هو الشرب المتعلّق بالخمر الصادر عن إرادة واختيار فالمتجرّي لم يتعلّق شربه بالخمر.

وأمّا في الثانية فلأنّ الإرادة وإن كانت تنبعث عن العلم لكن لا بما أنّه علم وصورة حاصلة في النفس ، بل بما أنّه محرز للمعلوم ، فالعلم يكون بالنسبة إلى كلّ من الإرادة والخمر طريقا ، بل العلم يكون في باب الإرادة من مقدّمات وجود الداعي ، حيث إنّه تعلّق الإرادة بفعل شيء بداعي أنّه الشيء الكذائي ، وهذا الداعي ينشأ عن العلم به ، فدخله في الإرادة إنّما يكون على وجه الطريقيّة والكاشفيّة عن المراد ، لا على وجه الصفتيّة والموضوعيّة.

ولكنّ المحقّق العراقي قدس‌سره (١) استشكل على مجموعة مقالته بأنّ بعد الاعتراف

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣١.

٣٢

بأنّ الخمر بوجوده الواقعي كان شرطا للتكليف ، فضمّ المقدّمة الاخرى ـ أي دخالة العلم به في الانبعاث والإرادة ـ لا ينتج إلّا فعليّة التكليف في ظرف العلم المصادف لا المطلق ، فاستنتاج هذه النتيجة ـ أي كون مفاد قوله : «لا تشرب الخمر» : لا تختر شرب ما أحرزت أنّه خمر ـ ينافي دخل الخمريّة الواقعيّة في شرط التكليف.

كما أنّ في جعل الاختيار والانبعاث تحت التكليف مسامحة اخرى ؛ إذ هذه باصطلاحه من الطوارئ اللاحقة للتكليف ، فيلحق بالانقسامات اللّاحقة.

مضافا إلى أنّ التكليف بشيء إذا كان من شأنه الدعوة فلا جرم يكون المدعو إليه عنوانا في طول عنوان المعروض وإن كان العنوانان متّحدين ذاتا ومنشئا ، فما هو المعروض لا يعقل أخذ الإرادة فيه ولو قيدا ؛ لأنّ الإرادة الناشئة عن التكليف معلول التكليف ، فكيف يكون قيد موضوعه؟! فما توهّم في دفع المقدّمة الاولى مندفع بهذا الكلام ؛ إذ الفعل الصادر عن الإرادة الناشئة عن دعوة التكليف معلول التكليف لا معروضه ، فلا محيص من تجريد المعروض عن الإرادة رأسا ، كما لا يخفى على الناظر الدقيق ، وحينئذ هذا البرهان شاهد خروج الإرادة عن حيّز التكليف لا جهة الغفلة ، كيف؟ وكثيرا ما نلتفت إلى إرادتنا حين الامتثال كما في العبادات ، خصوصا عند الإخطار في النيّة.

مع أنّ شمول الخطابات للعاصي والمتجرّي ببيان المحقّق النائيني قدس‌سره مستلزم للغويّة بحث التجرّي ، مضافا إلى اشتمال بعضها للتعليل ، مثل : «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» ، ومن المعلوم أنّ المسكريّة من شأن الخمر الواقعي ، ومضافا إلى اعتقاد العدليّة بتبعيّة الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد المتحقّقة في المتعلّق ،

٣٣

ولا شكّ في تقوّمها بالواقعيّات لا بما قطع كونه خمرا ـ مثلا ـ فلا طريق لإثبات الحرمة للتجرّي.

ثمّ إنّ المتجرّي بعد ما لم يكن مشمولا للخطابات الأوّليّة هل يمكن توجّه الخطاب إليه من الشارع باستناد القبح الفاعلي أم لا؟ وأشار المحقّق النائيني قدس‌سره إلى طريقين لإمكانه :

الأوّل : أن يقول : أيّها المتجرّي أو العالم المخالف علمه للواقع ، يجب عليك الاجتناب عن معلوم الخمريّة.

ويرد عليه : أوّلا : بأنّه لا يعقل ؛ لأنّ الالتفات إلى العنوان الذي تعلّق به الخطاب ممّا لا بدّ منه ، والمتجرّي لا يمكن أن يلتفت إلى أنّه متجرّ ؛ لأنّه بمجرّد الالتفات يخرج عن كونه متجرّيا ، فلا يمكن توجيه الخطاب على وجه يختصّ بالقبح الفاعلي فقط.

وثانيا : أنّه لا موجب إلى هذا الاختصاص ، فإنّ القبح الفاعلي مشترك بين المصادفة للواقع والمخالفة ، بل هو في صورة المصادفة أتمّ وأكمل ، فلو كان القبح الفاعلي مناطا للخطاب فلا بدّ وأن يكون الخطاب على وجه يعمّ صورة المصادفة والمخالفة.

ومن هنا أشار إلى الطريق الثاني بأن يتحقّق هنا مضافا إلى الخطاب الأوّلي الذي موضوعه العناوين الواقعيّة خطاب آخر على وجه يعمّ العاصي والمتجرّي ؛ بأن يقال : لا تشرب معلوم الخمريّة ، ففي صورة إصابة القطع للواقع يتحقّق العصيان بالنسبة إلى الحكمين ، وفي صورة عدم الإصابة يتحقّق التجرّي بالنسبة إلى الخطاب الأوّل ويتحقّق العصيان بالنسبة إلى الخطاب الثاني.

٣٤

ثمّ استشكل عليه : أوّلا : بأنّ الخطاب على هذا الوجه لا يمكن ، لا لمكان أنّ العلم لا يكون ملتفتا إليه غالبا ، فإنّ العلم عين الالتفات ولا يحتاج إلى التفات آخر ، فلو لم يمكن أخذ العلم موضوعا في المقام فكيف يعقل أخذه موضوعا لحكم آخر؟! فهذا لا يصلح أن يكون مانعا لتوجيه الخطاب كذلك ، كما لا يصلح عدم ثبوت المصلحة والمفسدة في المتعلّق في صورة المخالفة لأن يكون مانعا عن الخطاب بعد ما كان القبح الفاعلي مناطا للخطاب ، بل المانع من ذلك هو لزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع دائما ، وإن لم يلزم ذلك في الواقع ؛ لأنّ النسبة بين حرمة الخمر الواقعي ومعلوم الخمريّة هي العموم من وجه وفي مادّة الاجتماع يتأكّد الحكمان ، إلّا أنّهما بالنسبة إلى المتجرّي عامّ وخاصّ مطلق ، فإنّه يرى دائما علمه مطابقا للواقع ، ففي مادّة الاجتماع إمّا يكون اجتماع المتضادّين أو المثلين.

وثانيا : بأنّه لو فرض أنّ للخمر حكما ولمعلوم الخمريّة أيضا حكما ، فبمجرّد العلم بخمريّة شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنه ، الذي فرض أنّه رتّب على ذات الخمر ، فيكون هو المحرّك والباعث للاجتناب ، والحكم الآخر المترتّب على معلوم الخمريّة لا يصلح لأن يكون باعثا ويلزم لغويّته ، وليس له موردا آخر يمكن استقلاله في الباعثيّة.

وجواب الإشكال الأوّل : أنّ مقام الإنشاء وجعل الحكم لا يرتبط بمقام الامتثال كما مرّ في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ متعلّق الأحكام في مقام الجعل عبارة عن الطبائع والماهيّات ، ومقام الامتثال عبارة عن عالم الوجود الخارجي ، ولذا قلنا بجواز الاجتماع في محلّه.

وفيما نحن فيه أيضا لا منافاة بين الحكم بحرمة الخمر ، والحكم بحرمة معلوم

٣٥

الخمريّة في مقام الجعل والإنشاء ؛ لكونهما عامّين من وجه ، ومخالفة المكلّف في مقام الامتثال وشربه معلوم الخمريّة بسوء الاختيار لا يرتبط بمقام الإنشاء ، مع أنّ كون المكلّف متجرّيا لا يوجب تغيير النسبة بينهما ، وهو أيضا يعتقد بكون النسبة عامّين من وجه مع قطع النظر عن نفس هذه الواقعة ، فلا يصحّ الإشكال باجتماع المثلين.

وجواب الإشكال الثاني : أنّ إنشاء الحكم بحرمة معلوم الخمريّة يمكن أن يكون بداعي انبعاث العبد.

توضيح ذلك : أنّ غرض المولى عدم تحقّق المنهي عنه أصلا ، ولكنّه يلاحظ عدم انبعاث العبد بحكم واحد وحرمة واحدة ، وأمّا إذا تعدّد الحكم والعقاب فيحصل له الانبعاث ، فما ذكره من لغويّته وعدم ترتّب الأثر عليه ليس بصحيح ، كما لا يخفى.

واستدلّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) على عدم إمكان توجّه خطاب خاصّ إلى المتجرّي بأنّ الخطاب بعنوان المتجرّي مستحيل ، وخطاب «لا تشرب معلوم الخمريّة» وإن كان في نفسه صحيحا ، ولكنّه غير ملتفت إليه ، فإنّه يرى قطعه مطابقا للواقع ، ولذا يقول في مقام جواب : «ما ذا شربت؟» شربت الخمر ، مع أنّه لا بدّ في الموضوع والمتعلّق من كونهما موردا للالتفات.

وما ذكرناه عن المحقّق النائيني قدس‌سره من أنّ العلم عين الالتفات ولا يحتاج إلى التفات آخر ... ناظر إلى الجواب عن صاحب الكفاية قدس‌سره.

والتحقيق : بعد تماميّة كلام النائيني قدس‌سره في الجملة : أنّ القطع ـ سواء كان موافقا للواقع أو مخالفا له ـ لا استقلال له وجدانا ، بل يكون طريقا وآلة إلى

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ١٣.

٣٦

الواقع ، والآلة تكون مغفولا عنها نوعا.

ولكنّ الالتفات إلى العناوين الغير الملتفتة قد يكون مستلزما لزوال هذه العناوين ، مثل: عنوان النسيان والتجرّي ونحو ذلك ، وقد لا يكون كذلك ، مثل : عنوان العلم ؛ إذ العلم عين الالتفات ، ولذا يقول المتجرّي في جواب سؤال : «ما ذا شربت؟» : شربت الخمر عن علم وعمد ، فيلاحظه استقلالا.

والحاصل : أنّ طريق حرمة التجرّي منحصر بثلاثة طرق :

الأوّل : توجيه الخطاب إلى نفس عنوان التجرّي ، وقد عرفت أنّه ليس بصحيح ؛ إذ لا بدّ في كلّ المحرّمات من إحراز الموضوع ، وهو هنا مستلزم لزوال الموضوع.

الطريق الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني قدس‌سره وهو : أن يكون الخطاب بنحو يعمّ العاصي والمتجرّي ، كقوله : «لا تشرب معلوم الخمريّة» وقد مرّ عن المحقّق النائيني قدس‌سره (١) أنّه لغو بعد تحقّق الخطاب الأوّلي ، أي «لا تشرب الخمر».

ويرد عليه : أنّ المقصود من معلوم الخمريّة في موضوع الحكم إن كان العلم المخالف للواقع فهذا نظير عنوان المتجرّي ، فإنّ العالم لا يرى علمه مخالفا للواقع ، فلا يصحّ توجّه الخطاب إلى عنوان لا يمكن أن يكون موردا للالتفات أصلا.

وإن كان المراد منه العلم المطابق للواقع فلا يثبت المدّعى ؛ لشموله صورة العصيان فقط ، مع أنّ المدّعى هو حرمة التجرّي.

وإن كان المراد منه مطلق العلم ـ سواء كان مطابقا للواقع أو مخالفا له ـ فهو مستلزم لتعدّد العصيان والعقوبة في صورة موافقة العلم للواقع ، مع أنّه لم يلتزم

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٤٥ ـ ٤٦.

٣٧

به أحد ، والقول بالتداخل يحتاج إلى دليل.

الطريق الثالث : أن يقول الشارع في الابتداء : «لا تشرب الخمر» ثمّ قال : «كلّ معلوم الحرمة حرام بالحرمة الاستقلاليّة» ، وهو مستلزم للتسلسل ، فإنّه من القضايا الحقيقيّة التي تشمل نفسها ؛ إذ لا شكّ في كون معلوم الحرمة من المحرّمات الواقعيّة ، ففي كلّ مورد صدق عنوان «حرام» ينطبق هذا الكلّي عليه ، وهذا ينتهي إلى التسلسل.

الجهة الثالثة في التجرّي : أنّه يوجب استحقاق العقوبة أم لا؟ واختار صاحب الكفاية قدس‌سره (١) والمحقّق الأصفهاني قدس‌سره (٢) القول بثبوت استحقاق العقوبة في مورده ، وخالفهما الشيخ الأعظم الأنصاري (٣) والمحقّق النائيني قدس‌سرهما (٤) ، وقد عرفت عدم ثبوت حرمته ولكن مع ذلك قال المحقّق الخراساني قدس‌سره : بأنّ الحقّ أنّه يوجبه ؛ لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذة المتجرّي وذمّه على تجرّيه ، وهتك حرمته لمولاه ، وخروجه عن رسوم عبوديّته ، وكونه بصدد الطغيان وعزمه على العصيان ، ولا تفاوت بين المعصية والتجرّي من هذه الناحية ؛ إذ الوجدان يشهد بوحدة مناط استحقاق العقوبة فيهما.

وقال المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (٥) توضيحا لذلك : إنّ مناط استحقاق العقوبة في مورد المعصية وارتكاب الحرمة ، هل يكون صرف مخالفة التكليف التحريمي ، أو تفويت غرض المولى ، أو اشتمال الشيء الحرام على مفسدة لازمة

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ١٠.

(٢) نهاية الدراية ٣ : ٤١.

(٣) الرسائل : ٥.

(٤) فوائد الاصول ٣ : ٤٩.

(٥) نهاية الدراية ٣ : ٢٩.

٣٨

الاجتناب؟ ومعلوم أنّ الجميع لا يصلح أن يكون مناطا له ، فإنّها تتحقّق في مورد ارتكاب الحرام جهلا ، ولكن مع ذلك لا خلاف في أنّ الجاهل لا يستحقّ العقوبة ، ومن هنا نستكشف أنّه يتحقّق في المعصية الواقعيّة مناط آخر لاستحقاق العقوبة ، وهو الطغيان في مقابل المولى والخروج عن رسم العبوديّة والعزم على العصيان ، وهتك حرمة المولى ، وتتحقّق هذه العناوين في المتجرّي أيضا من دون فرق بينهما.

ولكن لا بدّ لنا من ذكر أمرين بعنوان المقدّمة للبحث :

الأوّل : أن يكون وحدة الملاك لاستحقاق العقوبة في المعصية الواقعيّة مفروغا عنه ، ومن الامور المسلّمة.

الأمر الثاني : أن يكون الملاك في باب التجرّي لاستحقاق العقوبة عين ما هو الملاك له في المعصية الواقعيّة ، فيتوقّف إثبات استحقاق العقوبة في مورد التجرّي على إحراز المناط في المعصية وجريانه بعينه في التجرّي.

إذا عرفت ذلك فنقول : لا شكّ في عدم صلاحية تصوّر شرب الخمر ـ مثلا ـ لأن يكون مناطا لاستحقاق العقوبة في المعصية ، كما أنّ التصديق بفائدته لا يصلح لذلك ، وهكذا إرادته والعزم على ارتكابه ؛ إذ العقل حاكم بعدم استحقاق العقوبة بمجرّد نيّة المعصية قبل تحقّقها خارجا.

ولكن تدلّ عدّة روايات على تحقّق استحقاق العقوبة في مورد نيّة المعصية ، وعدّة منها على عدم تحقّقه فيه ، ولا بدّ من حمل الروايات النافية على نفي العقوبة الفعليّة ، والمثبتة على استحقاق العقوبة بعد فرض تماميّتها سندا ودلالة ، إلّا أنّه مستلزم لتحقّق العقوبتين في مورد المعصية ؛ إذ لا شكّ في الفرق شرعا بين من عزم على ارتكاب المعصية ولكنّها لم تتحقّق منه لمانع خارجي ومن

٣٩

عزم وارتكبها ، مع أنّه لم يلتزم أحد بتعدّد العقوبة في المعصية.

وهذا يهدينا إلى عدم قابليّة الروايات للاستناد ، فلا تكون إرادة المعصية أيضا مناطا لاستحقاق العقوبة.

ينبغي الالتفات إلى أنّ العناوين الثلاثة قد تقدّمت عند نقله قدس‌سره عبارة المحقّق الأصفهاني حيث جاء فيها : «إنّ مناط استحقاق العقوبة في مورد المعصية وارتكاب الحرمة ، هل يكون صرف مخالفة التكليف التحريمي ، أو تفويت غرض المولى ، أو اشتمال الشيء الحرام على مفسدة لازمة الاجتناب».

العنوان الرابع (*) الذي يمكن أن يكون ملاكا لاستحقاق العقوبة في باب المعصية : هو ارتكاب ما فيه المفسدة ، وما هو مبغوض للمولى واقعا ، ولكن قد عرفت النقض فيه بأنّ الجاهل الذي يشرب الخمر اعتمادا على أصالة الحلّية أو في صورة القطع بمائيّته يرتكب ما فيه المفسدة اللازمة الاجتناب وما فيه مبغوض للمولى ، مع أنّ استحقاق عقوبة الجاهل لا يكون قابلا للالتزام ، ومن هنا يستفاد أنّ هذا العنوان أيضا لا يكون مناطا لاستحقاق العقوبة.

العنوان الخامس الذي يصلح للمناطيّة : هو مخالفة تكليف عن علم وعمد واختيار ، ولا يفيد إضافة هذا القيد إلى العنوان الرابع ؛ لعدم شموله للنواهي الاختياريّة ؛ إذ لا مفسدة في متعلّقها أصلا ، كما ذكره استاذنا السيّد البروجردي قدس‌سره.

وهذا العنوان ممّا يصلح للمناطيّة بنظر العقل كما يشهد به الوجدان وعليه آراء العقلاء ، فمخالفة تكليف المولى عن عمد والتفات ملاك لاستحقاق

__________________

(*) ينبغي الالتفات إلى أنّ العناوين الثلاثة قد تقدّمت عند نقله قدس‌سره عبارة المحقّق الأصفهاني حيث جاء فيها : إنّ مناط استحقاق العقوبة في مورد المعصية وارتكاب الحرمة هل يكون صرف مخالفة التكليف التحريمي ، أو تفويت غرض المولى ، أو اشتمال الشيء الحرام على مفسدة لازمة الاجتناب.

٤٠