دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

ذلك الخطاب وإن كان غير شامل لهما بحكم العقل ؛ لقبح التكليف بما لا يطاق ، إلّا أنّه يحكم بإطلاق المادّة بوجود ملاك الوجوب في كليهما ، ولهذا يستكشف العقل وجوبا تخييرا مع عدم وجود الأهمّ في البين.

وفي المقام نقول : إنّ الأدلّة المرخّصة وإن اختصّ حكمها بغير صورة العلم الإجمالي بحكم العقل الحاكم بقبح الإذن في المعصية إلّا أنّ وجود ملاك الإباحة في كلّ مشتبه يستكشف من إطلاق المادّة ، وبعد تعذّر الجري على طبق الملاك في كلّ طرف من الأطراف يستكشف أنّ البعض على سبيل التخيير مرخّص فيه ، حيث لا ترجيح للبعض المعيّن (١). انتهى.

ويرد عليه ما أورده عليه المحقّق الحائري رحمه‌الله من أنّ حكم العقل بذلك إنّما يكون فيما يقطع بأنّ الجري على طبق أحد الاقتضائين لا مانع منه ، كما في مثال الغريقين ، وأمّا فيما نحن فيه فكما أنّ الشكّ يقتضي الترخيص كذلك العلم الإجمالي يوجب مراعاة الواقع ويقتضي الاحتياط ، ولعلّ اقتضاء العلم يكون أقوى في نظر الشارع ، فلا يقطع به العقل كما هو واضح (٢).

ومنها : ما أورده المحقّق النائيني رحمه‌الله على نفسه بعد الحكم بسقوط الاصول بالنسبة إلى جميع الأطراف وملخّص ما ذكره : أنّ نسبة الاصول إلى كلّ واحد من الأطراف وإن كانت على حدّ سواء ، إلّا أنّ ذلك لا يقتضي سقوطها جميعا ، بل غاية ما يقتضيه هو التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين ؛ لأنّه بناء على شمول أدلّة الاصول لأطراف العلم الإجمالي يكون حال الاصول العمليّة حال الأمارات على القول بالسببيّة ، والتخيير في باب الأمارات المتعارضة إنّما

__________________

(١) درر الفوائد : ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٢) المصدر السابق.

٣٦١

هو كالتخيير في باب المتزاحمين.

وحينئذ لا بدّ إمّا من تقييد إطلاق الأمر بالعمل بمؤدّى كلّ من الأمارتين بحال عدم العمل بالاخرى إن لم يكن أحد المؤدّيين أهمّ ، وإمّا من سقوط الأمرين واستكشاف العقل حكما تخييريا لأجل وجود الملاك التامّ ، في متعلّق كلّ من الأمارتين على المسلكين في باب التزاحم ، والظاهر هو المسلك الأوّل ؛ لأنّ منشأ التزاحم إنّما هو عدم القدرة على الجمع بينهما ، والمقتضي لإيجاب الجمع إنّما هو إطلاق كلّ من الخطابين ، فلا بدّ من رفع اليد عنه ؛ لأنّه الذي أوجب التزاحم ، والضرورات تتقدّر بقدرها.

ونقول في المقام : إنّ حجّيّة كلّ أصل عملي إنّما تكون مطلقة بالنسبة إلى ما عداه من سائر الاصول ؛ لإطلاق دليل اعتباره ، وهذا الإطلاق محفوظ في الشبهات البدويّة والمقرونة بالعلم الإجمالي إذا لم يلزم من جريان الاصول في الأطراف مخالفة عمليّة.

وأمّا إذا لزم فلا يمكن بقاء إطلاق الحجّيّة لكلّ من الاصول الجارية في جميع الأطراف ؛ لأنّ بقاء الإطلاق يقتضي صحّة جريانها في جميع الأطراف ، والمفروض أنّه يستلزم المخالفة العمليّة ، فلا بدّ من رفع اليد عن إطلاق الحجّيّة ، ونتيجة التقييد هو التخيير في إجراء أحد الأصلين لا سقوطهما رأسا ، كما لا يخفى (١).

ثم أجاب المحقّق النائيني رحمه‌الله عن هذا الوجه الذي أورده على نفسه بكلام طويل ، وملخّصه : أنّ الموارد التي يحكم فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرين :

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٥ ـ ٢٧.

٣٦٢

أحدهما : اقتضاء الكاشف والدليل الدالّ على الحكم التخيير في العمل.

ثانيهما : اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك ، وإن كان الدليل يقتضى التعيّنيّة.

فمن الأوّل ما إذا ورد عامّ كقوله : «أكرم العلماء» وعلم بخروج زيد وعمرو عن العامّ ، ولكن شكّ في أنّ خروجهما هل هو على نحو الإطلاق أو أنّ خروج كلّ منهما مشروط بحال عدم إكرام الآخر؟

وبعبارة أوضح : دار الأمر بين أن يكون التخصيص أفراديّا وأحواليّا معا أو أحواليّا فقط ، والوظيفة في هذا الفرض هو التخيير في إكرام أحدهما ؛ لأنّ مرجع الشكّ في مقدار الخارج عن عموم وجوب إكرام العلماء ، ولا بدّ من الاقتصار على المتيقّن خروجه ، وهو التخصيص الأحوالي فقط ، فلا محيص عن القول بالتخيير ، إلّا أنّ منشأه هو اجتماع دليل العامّ وإجمال دليل الخاصّ بضميمة وجوب الاقتصار على القدر المتيقّن ، وليس التخيير فيه لأجل اقتضاء المجعول له ، بل المجعول في كلّ من العام والخاصّ هو الحكم التعييني ، فالتخيير إنّما نشأ من ناحية الدليل.

ومن الثاني المتزاحمان في مقام الامتثال ، فإنّ التخيير فيهما إنّما هو لأجل أنّ المجعول في باب التكاليف معنى يقتضي التخيير في امتثال أحد المتزاحمين ؛ لأنّه يعتبر عقلا فيها القدرة على الامتثال ، وحيث لا تكون القدرة محفوظة في كليهما فالعقل يستقلّ بالتخيير ، والفرق بين التخيير في هذا القسم والتخيير في القسم الأوّل أنّ التخيير هناك ظاهري وهنا واقعي.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ القول بالتخيير في باب الاصول لا شاهد عليه ، لا من ناحية الدليل والكاشف ، ولا من ناحية المدلول والمنكشف.

أمّا انتفاء الأوّل فواضح ، فإنّ دليل اعتبار كلّ أصل من الاصول العمليّة إنّما

٣٦٣

يقتضي جريانه عينا ، سواء عارضه أصل آخر أو لم يعارضه.

وأمّا انتفاء الثاني فلأنّ المجعول في باب الاصول العمليّة ليس إلّا الحكم بتطبيق العمل على مؤدّى الأصل بما أنّه الواقع ، أو لا بما أنّه كذلك على اختلاف الاصول ، ولكنّ الحكم بذلك ليس على إطلاقه ، بل مع انحفاظ رتبة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة ، وهي : الجهل بالواقع ، وإمكان الحكم على المؤدّى بأنّه الواقع ، وعدم لزوم المخالفة العمليّة ، وحيث إنّه يلزم من جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي مخالفة عمليّة فلا يمكن جعلها جمعا ، وكون المجعول أحدها تخييرا وإن كان بمكان من الإمكان ، إلّا أنّه لا دليل عليه ، لا من ناحية أدلّة الاصول ، ولا من ناحية المجعول فيها (١). انتهى.

ويرد عليه ـ كما ذكر استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله ـ عدّة إيرادات :

منها : أنّ ما ذكره ـ من أنّ التخيير في القسم الأوّل إنّما هو من ناحية الدليل والكاشف لا المجعول والمنكشف ؛ لأنّ في كلّ من العامّ والخاصّ هو الحكم التعييني ـ محلّ نظر ، بل منع ؛ ضرورة أنّه لو كان الحكم المجعول في الخاصّ حكما تعيينيا ـ أي خروج زيد وعمرو في المثال عن العامّ في جميع الحالات ـ وعلم ذلك لم يكن مجال للتخيير ـ بمعنى التخصيص الأحوالي ، وهو خروج كلّ واحد منهما مقيّدا بدخول الآخر ـ لأنّه مساوق للعلم بكون التخصيص أحواليّا وأفراديّا معا ؛ لوضوح أنّه لو كان التخصيص أحواليّا فقط وكان خروج كلّ من الفردين مشروطا بدخول الآخر يكون الحكم المجعول حكما تخييريّا.

وبالجملة ، فالّذي أوجب الحكم بالتخيير هو تردّد المجعول في الخاصّ بين

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٨ ـ ٣١.

٣٦٤

كونه تعيينيّا أو تخييريّا بضميمة وجوب الاقتصار في التخصيص على القدر المتيقّن ، فالتخيير إنّما هو مقتضى تردّد المجعول بضميمة ما ذكر ، كما لا يخفى ، ولا يكون ناشئا من الدليل.

ومنها : أنّ ما ذكره ـ من أنّ التخيير في القسم الثاني إنّما هو من ناحية المدلول والمنكشف ـ محلّ منع ؛ إذ التخيير فيه إنّما هو كالتخيير في القسم الأوّل ؛ لأنّ التخيير فيه إنّما يكون منشؤه إطلاق مثل قوله : «انقذ كلّ غريق» بضميمة التخصيص بالنسبة إلى صورة العجز عن الإنقاذ بالإضافة إلى الغريقين مع لزوم الاقتصار في مقام التخصيص على القدر المتيقّن ، وهو الخروج الأحوالي فقط الذي مرجعه إلى رفع اليد عن الإطلاق ، لا الأفرادي والأحوالي معا الذي مرجعه إلى رفع اليد عن العموم.

وبالجملة ، فلا فرق بين القسمين إلّا في أنّ الحاكم بالتخصيص في القسم الأوّل هو الدليل اللفظي ، وفي القسم الثاني هو الدليل العقلي ، وهو لا يوجب الفرق بين التخييرين من حيث المقتضي ، كما لا يخفى.

ومنها : أنّه لو سلّم جميع ما ذكر فنمنع ما ذكره ـ من عدم كون التخيير في باب الاصول العمليّة من ناحية الدليل والكاشف ؛ لأنّ لنا أن نقول بأنّ التخيير فيها من جهة الدليل والكاشف ؛ لأنّ أدلّة أصالة الحلّ تشمل بعمومها أطراف العلم الإجمالي أيضا ، غاية الأمر أنّها خصّصت بالنسبة إليها قطعا ، ولكن أمر المخصّص دائر بين أن يكون مقتضاه خروج الأطراف مطلقا حتّى يلزم الخروج الأفرادي والأحوالي معا ، وبين أن يكون مقتضيا لخروج كلّ واحد منها مشروطا بدخول الآخر ، فهذا الإجمال بضميمة لزوم الاقتصار على القدر المتيقّن في مقام التخصيص أوجب التخيير ، كما هو واضح.

٣٦٥

ومنها : ـ وهو العمدة ـ : أنّ ما ذكره ـ من عدم كون التخيير في باب الاصول من مقتضيات المجعول والمنكشف ـ ممنوع جدّا ؛ ضرورة أنّ المقام إنّما هو من قبيل المتزاحمين ، كما أنّ فيهما يكون الملاك في كلّ فرد موجودا ، فكذلك الملاك لجريان أصل الإباحة في كلّ من الأطراف موجود قطعا ، وكما أنّ المانع العقلي هناك بضميمة اقتضاء كلّ من المتزاحمين صرف القدرة إلى نفسه يوجب الحكم بالتخيير إمّا لتقييد الإطلاق ، وإمّا لسقوط الخطابين واستكشاف العقل حكما تخييريا ، كذلك المانع العقلي هنا ، وهو لزوم المخالفة القطعيّة بضميمة اقتضاء كلّ من الأصلين لإثبات حكم متعلّقه يوجب التخيير قطعا.

فالعمدة في الجواب ما ذكرنا من أنّه ليس هنا ما يدلّ على جريان أصل الحلّيّة في كلّ واحد من الأطراف ، بل مجراه هو مجموعها ، أي المختلط من الحلال والحرام بمقتضى قوله : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» في صحيحة عبد الله بن سنان ، وجريانه فيه مستلزم للمخالفة القطعيّة كما مرّ.

والحاصل : أنّ أطراف العلم الإجمالي لا يكون من مصاديق أصالة الحلّيّة ، فإنّ جريانها في مجموع المشتبهين يستلزم الترخيص في المعصية ، وهو ممتنع عرفا وعقلاء ؛ لعدم استفادته من الدليل الشرعي بنظر العرف وإن لم يكن له مانع عقلا ، وأمّا جريانها في بعض الأطراف فلا مانع منه عقلاء بحسب مقام الثبوت ، ولكن لا دليل له بحسب مقام الإثبات.

هذا ، ولا بدّ من التنبيه على امور :

٣٦٦

الأمر الأوّل : تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيّات

لو كان أطراف العلم الإجمالي ممّا يوجد تدريجا ، كما إذا صار عالما إمّا بوجوب أداء الدّين فعلا بنحو الواجب المنجّز ، وإمّا بوجوب الحجّ في موسمه بنحو الواجب المعلّق ، فهل يجب الاحتياط أيضا بالإتيان بجميعها في الشبهات الوجوبيّة وبترك الجميع في الشبهات التحريميّة ، أم لا؟

ويستفاد من كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله انحصار تدريجيّة الأطراف بدوران الأمر بين المعلّق والمنجّز فقط ، وقال : «إنّه لو علم فعليّة التكليف ولو كان بين أطراف تدريجيّة لكان منجّزا ووجب موافقته ، فإنّ التدرّج لا يمنع عن الفعليّة ؛ ضرورة أنّه كما يصحّ التكليف بأمر حالي كذلك يصحّ بأمر استقبالي ، كالحجّ في الموسم للمستطيع» (١).

ولكن يمكن إضافة مورد آخر إليه أيضا ، وهو دوران الأمر بين الواجب المطلق والمشروط ؛ إذ التكليف في الواجب المطلق فعلي وفي الواجب المشروط استقبالي ، فإنّ القيد والشرط في مثل قولنا : «إن جاءك زيد فاكرمه» يرجع إلى مفاد الهيئة ، لا إلى مادّة الإكرام ، فوجوب الإكرام معلّق على مجيء زيد عند المشهور ، بخلاف ما اختاره الشيخ الأنصاري رحمه‌الله فلا يكون قبل تحقّق الشرط

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢١٥.

٣٦٧

هناك تكليف.

فإذا علمنا بأنّه إمّا هذا الشيء واجب بنحو الواجب المطلق ، وإمّا ذاك الشيء بنحو الواجب المشروط ، فالظاهر وجوب الاحتياط هنا أيضا ؛ لأنّ التكليف ولو كان مشروطا بأمر استقبالي بحيث لم يكن متحقّقا قبل تحقّق الشرط ، كما هو الشأن في جميع الواجبات المشروطة ، إلّا أنّه لو فرض كونه معلوما بالتفصيل لكان اللازم على المكلّف الإتيان بمقدّمات المكلّف به التي لا يقدر عليها بعد ثبوت التكليف ، ولا يكون المكلّف معذورا لو لم يفعلها ؛ نظرا إلى أنّ التكليف لم يكن ثابتا قبل تحقّق الشرط ، فكيف يجب على المكلّف تحصيل مقدّماته؟ وبعده وإن تحقّق التكليف إلّا أنّه معذور في المخالفة لأجل عدم القدرة على فعل متعلّقه ؛ لأنّ المفروض عدم القدرة على المقدّمات بعد تحقّق الشرط.

ووجه عدم المعذوريّة : أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل هذه المقدّمات مع العلم بعدم القدرة عليها بعد ثبوت التكليف وإن لم يكن التكليف متحقّقا بعد ، فإذا كان الأمر كذلك فيما لو كان الواجب المشروط معلوما بالتفصيل فكيف إذا دار الأمر بين كون الوجوب مطلقا أو مشروطا؟

وبالجملة ، لا ينبغي الإشكال في وجوب الاحتياط في التدريجيّات من دون فرق بين أن يكون الأمر دائرا بين المعلّق والمنجّز ، وبين أن يكون دائرا بين المطلق والمشروط.

أمّا في الأوّل فواضح بعد ما عرفت من كون التكليف في الواجب المعلّق يكون ثابتا قبل وجود المعلّق عليه أيضا ، فهو عالم إجمالا بتعلّق تكليف فعلي حالي ، غاية الأمر أنّ المكلّف به مردّد بين أن يكون حاليّا أو استقباليّا ، والعقل

٣٦٨

يحكم بلزوم الاحتياط ؛ لعدم الفرق بينه وبين ما هو متحقّق بالفعل.

وأمّا في الثاني فلما عرفت من أنّ حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى لا يتوقّف على صدور أمر فعلي من ناحيته ، بل يحكم بذلك ولو كان التكليف استقباليّا ، بل قد عرفت في بعض المباحث السابقة أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل الغرض ولو لم يكن في البين أمر أصلا ، كما لا يخفى.

٣٦٩
٣٧٠

الأمر الثاني : حكم الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجمالي

لو اضطرّ بالترك في الشبهات الوجوبيّة أو بالارتكاب في الشبهات التحريميّة إلى أحد الأطراف ، فتارة يكون الاضطرار إلى طرف معيّن ، واخرى يكون إلى غير معيّن ، وعلى التقديرين قد يكون الاضطرار قبل تعلّق التكليف والعلم به ، وقد يكون بعدهما ، وقد يكون بعد واحد منهما وقبل الآخر ، وقد يكون مقارنا لهما أو لأحدهما ، فههنا صور :

فنقول : أمّا لو كان الاضطرار إلى طرف معيّن وكان الاضطرار قبل تعلّق التكليف أو بعده وقبل العلم به ، فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر أيضا ، سواء قلنا بأنّ الاضطرار من حدود التكليف وقيوده بحيث لا يكون فعليّا مع الاضطرار ويكون مشروطا بعدمه ، أو قلنا بأنّ الاضطرار وكذا سائر الأعذار أعذار عقليّة والتكليف ثابت فعليّ مطلقا ، غاية الأمر أنّه لا يصحّ للمولى الاحتجاج به مع وجود مثل الجهل والعجز والاضطرار ونحوها من الأعذار ، كما اختاره استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله ، وقد مرّ تحقيقه في مواضع متعدّدة ، ويأتي أيضا فيما بعد إن شاء الله.

أمّا على القول الأوّل فلأنّه يشترط في منجّزيّة العلم الإجمالي أن يكون متعلّقه التكليف الفعلي الثابت على أيّ تقدير ، بحيث لو تبدّل إلى العلم

٣٧١

التفصيلي بثبوته في كلّ واحد من الأطراف لكان منجّزا ، وهنا ليس كذلك ؛ لأنّه يحتمل أن يكون المضطرّ إليه هو الشيء الذي تعلّق به التكليف فلم يكن حينئذ فعليّا ، لاشتراط فعليّته على الفرض بعدم عروض الاضطرار بالنسبة إلى المكلّف به ، وحينئذ فلا يعلم بثبوت التكليف الفعلي على أيّ تقدير ، كما هو واضح.

وأمّا على القول الثاني فلأنّ الاضطرار وإن لم يكن من قيود التكليف الفعلي إلّا أنّه من قيود التكليف الفعلي الصالح للاحتجاج ، ولا بدّ في تأثير العلم الإجمالي من أن يكون متعلّقه هو التكليف الفعلي الصالح للاحتجاج على أيّ تقدير ، ومن الواضح أنّه ليس هنا كذلك ؛ لأنّه يحتمل أن يكون المضطرّ إليه هو المكلّف به ، فلا يكون التكليف حينئذ صالحا للاحتجاج وإن كان باقيا على الفعليّة ، ومجرّد البقاء على الفعليّة لا يجدي ما لم ينضمّ إليه القابليّة ، ولذا لا يكون العلم الإجمالي مؤثّرا لو حصل له الاضطرار إلى جميع الأطراف كما لا يخفى.

إن قلت : لازم ما ذكرت هو جواز القعود عن تكليف المولى فيما لو شكّ في كونه قادرا على إتيان متعلّقه ؛ لأنّ مقتضى ما ذكرت هو كفاية مجرّد احتمال كون المضطرّ إليه هو المكلّف به ، فإذا كان مجرّد احتمال الاضطرار بالنسبة إلى متعلّق التكليف كافيا في عدم قابليّته للاحتجاج فكذلك مجرّد احتمال عدم القدرة والعجز عن إتيان المكلّف به يكون كافيا ؛ ضرورة أنّه لا فرق بين الاضطرار والعجز من هذه الحيثيّة أصلا ، وبطلان اللازم واضح كما يظهر بمراجعة العقل والعقلاء ؛ لأنّه لا يكون العبد الشاكّ في القدرة معذورا عندهم في المخالفة ، وحينئذ فلا بدّ من الالتزام بذلك في الاضطرار كما في المقام.

قلت : الفرق بين المقام وبين مسألة الشكّ في القدرة التي لا يكون العبد فيها

٣٧٢

معذورا في المخالفة هو أنّ في المقام يكون الاضطرار معلوما ولا يكون المكلّف المضطرّ شاكّا فيه أصلا ، غاية الأمر أنّه يشكّ في انطباقه على مورد التكليف ، ويحتمل أن يكون المضطرّ إليه هو المكلّف به أو أن يكون غيره ، وحينئذ فأمره دائر بين أن يكون عروض الاضطرار بالنسبة إلى المكلّف به ، فلا يكون التكليف بالنسبة إليه صالحا للاحتجاج ، وبين أن يكون المضطرّ إليه هو غير المكلّف به فيكون التكليف بالنسبة إليه قابلا له ، فلا يعلم بثبوت التكليف الفعلي الصالح للاحتجاج على أيّ تقدير ، وقد عرفت أنّه شرط في تأثير العلم الإجمالي ، بخلاف الشكّ في القدرة ؛ إذ التكليف الفعلي الصالح له معلوم ، والشكّ في القدرة لا يكون عذرا للمخالفة ؛ إذ الشكّ في أصل وجود ما يتحقّق به العذر لا يكون مجوّزا لمخالفة التكليف المعلوم عند العقل والعقلاء. ففي صورة الاضطرار إلى الواحد المعيّن قبل تعلّق التكليف أو بعده وقبل العلم به لا يجب الاحتياط والاجتناب عن الآخر.

وأمّا لو كان الاضطرار إلى المعيّن بعد تعلّق التكليف والعلم به ، فالظاهر هنا وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر ؛ لأنّ مقتضى العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي الصالح للاحتجاج على أيّ تقدير هو تنجّز التكليف ولزوم الاحتياط وتحصيل الموافقة القطعيّة ، فإذا عرض له الاضطرار المانع عن ذلك فلا يرى العقل المكلّف معذورا في ترك الموافقة الاحتماليّة ، كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما لو كان الاضطرار إلى واحد معيّن من الأطراف.

وأمّا لو كان الاضطرار إلى واحد غير معيّن منها فالظاهر وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر مطلقا ؛ لعدم كون الاضطرار عارضا للمكلّف به حتّى يخرج التكليف الفعلي المتعلّق به عن الصالحيّة للاحتجاج ؛ لأنّ الاضطرار

٣٧٣

إنّما عرض إلى واحد غير معيّن من الأطراف ، فالعلم بالتكليف الفعلي الصالح للاحتجاج على أيّ تقدير موجود ؛ ضرورة أنّه لو تبدّل إلى العلم التفصيلي بثبوته في كلّ واحد من الأطراف لكان اللازم رفع الاضطرار بارتكاب الطرف الآخر ، واحتمال كون ما يختاره المكلّف هو المكلّف به لا يضرّ بذلك بعد كون ذلك ناشئا عن جهل المكلّف بالواقع.

وبالجملة ، لا مزاحمة بين ثبوت التكليف بالوصف المذكور وبين الاضطرار إلى بعض الأطراف بحسب الواقع ، ولذا لو علم المكلّف به تفصيلا لكان اللازم عليه امتثاله ورفع الاضطرار بالطرف الآخر ، وإنّما المزاحمة بينهما وقعت في بعض الأوقات في مقام العمل ؛ لجهل المكلّف بالواقع ، وهذا هو الفارق بين الاضطرار إلى المعيّن والاضطرار إلى غيره : لأنّه في الأوّل لا تكون المزاحمة مستندة إلى الجهل ، بل المزاحمة على تقدير كون المضطرّ إليه هو المكلّف به ثابتة مطلقا مع العلم والجهل ، بخلاف الثاني.

وبعبارة اخرى : أنّ الاضطرار لا يكون عارضا للمكلّف به هنا أصلا ، بخلاف الاضطرار إلى المعيّن ، فإنّه في أحد الوجهين يكون عارضا للمكلّف به ، كما لا يخفى.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الخلل فيما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله في الكفاية ، حيث إنّه ذهب إلى عدم الفرق بين الاضطرار إلى واحد معيّن وبين الاضطرار إلى واحد غير معيّن ، وإلى عدم الفرق بين أن يكون الاضطرار سابقا على حدوث العلم بالتكليف أو لاحقا ، واختار الفرق بين الاضطرار وفقد بعض الأطراف ؛ نظرا إلى أنّ الاضطرار من حدود التكليف بخلاف الفقدان.

ثمّ إنّه رحمه‌الله التفت إلى الفرق بين الاضطرار إلى واحد معيّن وواحد غير معيّن ،

٣٧٤

ولذا قال في هامش الكفاية بالفرق بينهما ، إلّا أنّه اختار في مقام الفرق عكس ما ذكرنا بأنّ الاحتياط واجب في الاضطرار إلى واحد معيّن ، بخلاف الاضطرار إلى واحد غير معيّن ، ثمّ استدلّ بما هو عين المدّعى ، بأنّ العلم الإجمالي في الاضطرار إلى واحد معيّن منجّز ولا مانع من تأثيره في التنجيز ، وأمّا في الاضطرار إلى واحد غير معيّن فلا يكون مؤثّرا (١) ، وهذا هو المدّعى. والحقّ كما عرفت تفصيله بعكس ذلك.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢١٦ ، الهامش ١.

٣٧٥
٣٧٦

الأمر الثالث : في شرطيّة الابتلاء لتنجيز العلم الإجمالي

المعروف بين المتأخّرين من الاصوليّين أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن تكون الأطراف ممّا يمكن ابتلاء المكلّف بها عادة ؛ نظرا إلى أنّ النهي عمّا لا يكون موردا لابتلاء المكلّف بحسب العادة مستهجن عرفا ؛ لأنّه كما يعتبر في عدم كون النهي قبيحا عند العقل أن يكون المكلّف قادرا بالقدرة العقليّة على إتيان متعلّقه ، كذلك يعتبر في عدم كونه مستهجنا عند العرف أن يكون متعلّقه مقدورا للمكلّف بالقدرة العاديّة ، وهي مفقودة مع عدم الابتلاء بها عادة.

والوجه في هذا الاعتبار أنّ الغرض من النهي إنّما هو إيجاد الداعي للمكلّف إلى ترك المنهي عنه ؛ لاشتماله على المفسدة ، وهذا الغرض حاصل بدون النهي فيما لو كان المنهي عنه متروكا عادة ، كما أنّ الغرض من الأمر هو إيجاد الداعي له إلى فعل المأمور به لاشتماله على المصلحة الملزمة ، ومع ثبوته للمكلّف بدونه لا مجال للأمر أصلا ؛ لكونه مستهجنا عرفا.

وممّا ذكرنا يظهر أن الرافع للاستهجان هو إمكان ثبوت الداعي إلى الفعل في النهي وإلى الترك في الأمر بحسب العادة ، فلو فرض عدم هذا الداعي إمّا لعدم القدرة العاديّة على الفعل في الأوّل وعلى الترك في الثاني ، وإمّا لعدم حصول الداعي اتّفاقا وإن كان مقدورا عادة يستهجن التكليف.

٣٧٧
٣٧٨

الفرق بين الخطابات الشخصيّة والخطابات القانونيّة

والتحقيق في مسألة الابتلاء وعدمه متوقّف على بيان المبنيين في الخطابات الشرعيّة ، أحدهما : ما اختاره المشهور ، والآخر : ما ذهب إليه استاذ السيّد الإمام رحمه‌الله ، أمّا ما اختاره المشهور فهو انحلال الخطابات الشرعيّة إلى خطابات متعدّدة حسب تعدّد المكلّفين ، وحينئذ لا بدّ من ملاحظة المكلّف ، وأن توجّه الخطاب الشخصي هل يكون مستهجنا بالنسبة إليه ، لأجل الاضطرار أو عدم القدرة العقليّة أو العاديّة أو عدم انصراف إرادته ، أو لا يكون كذلك لفقدان هذه الامور؟ ولا يخفى أنّ الالتزام بذلك يوجب محذورات كثيرة :

منها : أنّ لازمه عدم صحّة تكليف العاصي الذي لا يحتمل المولى الآمر أن يؤثّر أمره فيه ، فيخرج عن كونه عاصيا ، وكذا الكافر بطريق أولى.

ومنها : أنّ لازمه تعميم ذلك بالنسبة إلى الأحكام الوضعيّة أيضا ، فإنّه كما يستهجن التكليف بحرمة الخمر الموجود في البلاد البعيدة والنهي عن شربه ، كذلك يكون جعل النجاسة له أيضا مستهجنا بعد وضوح أنّ مثل هذا الجعل إنّما هو لغرض ترتيب الآثار ، ولا معنى له بعد عدم الابتلاء عادة ، وحينئذ فيلزم أن يكون الخمر الواحد نجسا بالنسبة إلى من كان مبتلى به ، وغير نجس بالنسبة إلى غير المبتلى ، وهذا ممّا لا يمكن أن يلتزم به فقيه.

٣٧٩

نعم ، يمكن التفكيك في النجاسة الظاهريّة بالنسبة إلى العالم بالحالة السابقة والجاهل بها ، فإنّ العالم يجري استصحاب النجاسة فيكون نجسا بالإضافة إليه ، والجاهل يجري أصالة الطهارة فلا يكون نجسا بالإضافة إليه ، ولا يمكن الالتزام بهذا المعنى في الأحكام الواقعيّة.

ومنها : أنّ المكلّف إذا شكّ في أنّه قادر على إتيان المكلّف به أم لا ، فمرجع الشكّ في القدرة إلى الشكّ في توجّه الخطاب إليه وعدمه. وفي صورة الشكّ فيه لا بدّ من جريان أصالة البراءة ، مع أنّ المتّفق عليه هو الاحتياط في مورد الشكّ في القدرة ، فلا يمكن الجمع بين القول بالانحلال وكلّ مكلّف له خطاب خاصّ ، والقول بالاحتياط في مورد الشكّ في القدرة.

أمّا ما ذهب إليه استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله من أنّ الخطابات الشرعيّة خطابات كلّيّة متوجّهة إلى عامّة المكلّفين ، بحيث يكون الخطاب في كلّ واحد منها واحدا والمخاطب متعدّدا حسب تعدّد المكلّفين ، والمصحّح لهذا النوع من الخطاب العامّ إنّما هو ملاحظة حال نوع المخاطبين دون كلّ واحد منهم ، فإن كانوا بحسب النوع قادرين بالقدرة العقليّة والعاديّة صحّ خطاب الجميع بخطاب واحد ، ولا يكون عجز البعض عقلا أو عادة موجبا لاستهجان الخطاب العامّ بعد عدم خصوصيّة مميّزة للعاجز ، وهكذا بالنسبة إلى العاصي والكافر ، فإنّ المصحّح لتوجيه الخطاب العامّ الشامل للعاصي والكافر أيضا إنّما هو احتمال التأثير بالنسبة إلى النوع وإن علم بعدم تأثيره بالنسبة إلى بعض المخاطبين.

وبالجملة ، لا وجه للقول بانحلال الخطابات الشرعيّة إلى خطابات متعدّدة حسب تعدّد المخاطبين المكلّفين ، خصوصا بعد كون مقتضى ظواهرها هو

٣٨٠