دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

الإمام عليه‌السلام بتلك الآية على وجوب النفر لمعرفة الإمام وإنذار المتخلّفين بما رأوه من آثار الإمامة ، ومن الواضح عدم ثبوت الإمامة إلّا بالعلم ، كما في صحيحة عبد الأعلى ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول العامّة إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهليّة؟» قال عليه‌السلام : «حقّ والله» ، قلت : فإنّ إماما هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك ، قال عليه‌السلام : «لا يسعه ، أنّ الإمام إذا مات وقعت حجّة وصيّه على من هو معه في البلد ، وحقّ النفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم ، إنّ الله عزوجل يقول : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ...) إلخ (١)».

هذا تمام الكلام في آية النفر ، وقد عرفت عدم تماميّة الاستدلال بها على حجّية خبر الواحد.

الآية الثالثة : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢).

وتقريب الاستدلال بها هو أنّ وجوب السؤال يدلّ على وجوب القبول بالملازمة ، وإلّا يلزم لغويّة وجوب السؤال ، وبالإطلاق لصورة عدم حصول العلم من الجواب تثبت حجّية خبر الواحد.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ مورد الآية هي مسألة النبوّة ، ومن الواضح أنّ خبر الواحد لا يكون حجّة في الاصول الاعتقاديّة التي يكون الواجب فيها تحصيل العلم ، ولكن التحقيق : أنّ مسألة النبوّة تكون من المسائل الاعتقاديّة لمن كان غرضه التبعيّة لنبيّ ، لا لمن كان غرضه التحقيق في حالات الأنبياء السالفة ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٧٨ ، الحديث ٢.

(٢) النحل : ٤٣.

٢٠١

وعلى هذا لا يحتاج إلى العلم ؛ إذ لا يترتّب على إثباته أثر لنا ، ومعلوم أنّ مورد الآية هو لزوم التحقيق والتفحّص في حالات الأنبياء السالفة لإثبات أنّ نزول الوحي إلى الإنسان ليس من الامور الممتنعة ، ولا دليل لاحتياج هذا أيضا إلى العلم.

وثانيا : أنّ المستفاد من الآية بلحاظ اشتراط وجوب السؤال على عدم العلم هو كون الجواب مفيدا للعلم ورافعا لعدمه ، فكيف يكون الجواب حجّة في صورة عدم إفادته للعلم حتّى يستفاد منه حجّية خبر الواحد؟!

وأجاب عن هذا الإشكال المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) بأنّ الظاهر من الآية هو الأمر بالسؤال ليعلموا بسبب الجواب لا بأمر زائد عليه ، وهذا لا يتمّ إلّا مع كون الجواب مفيدا للعلم تعبّدا ، وعليه فيستفاد من الآية وجوب قبول قول المجيب وترتيب الأثر عليه ؛ لأنّه علم تعبّدي.

وفيه : أوّلا : أنّه لا شكّ في أنّ المراد بالعلم الذي علّق وجوب السؤال على عدمه هو العلم الواقعي الحقيقي ، فتكون الغاية من الأمر بالسؤال إنّما هو تحقّق هذا النوع من العلم لا العلم التعبّدي.

وثانيا : أنّ مسألة التعبّد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرع قبول نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف يصحّ أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسؤال عن أهل الذكر وجعله صلى‌الله‌عليه‌وآله الجواب في عالم التعبّد علما لإثبات نبوّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله؟! وهذا الكلام لا ينبغي أن يصدر من مثله. هذا تمام الكلام في الاستدلال بالكتاب الكريم.

الدليل الثاني ـ السنّة :

وقد استدلّ على حجّية خبر الواحد بروايات كثيرة رتّبها الشيخ الأعظم

__________________

(١) رسالة الاجتهاد والتقليد : ٣.

٢٠٢

الأنصاري قدس‌سره (١) على طوائف أربع :

الطائفة الاولى : الأخبار الواردة في علاج الخبرين المتعارضين ، فإنّ الظاهر أنّ حجّية الأخبار في نفسها مع قطع النظر عن ابتلائها بالمعارض كانت معلومة ومرتكزة في الأذهان ، ولذا وقع السؤال عن حكم ما تعارض منها.

الطائفة الثانية : الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معيّنين وأخذ الحديث منهم ، فإنّه لو لم يكن الخبر حجّة لم يكن معنى للإرجاع إليهم والأمر بأخذ الحديث منهم.

الطائفة الثالثة : الأخبار الآمرة بالرجوع إلى ثقات الرواة وعدم جواز التشكيك في رواياتهم ، فإنّه لو لا حجّية الخبر لم يكن وجه للحكم بالرجوع إليهم وعدم جواز التشكيك في رواياتهم.

الطائفة الرابعة : الأخبار الآمرة بضبط الروايات وحفظها واستماعها والاهتمام بشأنها ، فإنّه لو لا حجّية خبر الواحد لم يكن معنى لكلّ ذلك.

ثمّ لا يخفى أنّ صحّة الاستدلال بهذه الأخبار متوقّفة على ثبوت تواترها لتكون مقطوعة الصدور ؛ إذ لا يمكن الاستدلال على حجّية خبر الواحد بالأخبار الآحاد ؛ لاستلزامه الدور.

والتواتر على أقسام ثلاثة :

الأوّل ـ التواتر اللفظي : وهو اتّفاق جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب على نقل خبر بلفظه ، وذلك كتواتر ألفاظ القرآن.

الثاني ـ التواتر المعنوي : وهو اتّفاقهم كذلك على نقل مضمون خاصّ مع الاختلاف في اللفظ والتعبير ، وذلك كالأخبار الحاكية عن حالات أمير

__________________

(١) الرسائل : ٨٤ ـ ٨٥.

٢٠٣

المؤمنين عليّ عليه‌السلام في حروبه ، فإنّ تلك الأخبار متّفقة في دلالتها على شجاعته عليه‌السلام وإن كانت مختلفة في الألفاظ.

الثالث ـ التواتر الإجمالي : وهو اتّفاقهم كذلك على نقل روايات يعلم بصدورها إجمالا مع عدم اشتمالها على مضمون واحد ، وذلك كالأخبار المودعة في الكتب الأربعة ، فإنّها وإن كانت مختلفة بحسب اللفظ والمعنى إلّا أنّه يعلم بصدور جملة منها إجمالا ، وإن لم تكن أشخاصها معيّنة خارجا.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني قدس‌سره (١) أنكر التواتر الإجمالي بدعوى أنّ الأخبار إذا بلغت من الكثرة ما بلغت ، فإن كان بينها جامع يكون الكلّ متّفقا على نقله فهو راجع إلى التواتر المعنوي ، وإلّا فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز كذب كلّ واحد منها في حدّ نفسه وعدم ارتباط بعضه ببعض ، فالحقّ هو انحصار التواتر في القسمين الأوّلين لا غير.

وجوابه : أوّلا : بالنقض فإنّه يتحقّق المعلوم بالإجمال في موارد العلم الإجمالي مع أنّ جريان احتمال الكذب في كلّ واحد من أطرافه لا شبهة فيه ، كما إذا علمنا إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة في يوم الجمعة ـ مثلا ـ مع جريان احتمال عدم الوجوب في كلّ واحد منهما.

وثانيا : بالحلّ ، وهو أنّه يحتمل أن يكون مراده قدس‌سره من هذا الكلام أنّ التواتر الإجمالي على قسمين : قسم منه يرجع إلى التواتر المعنوي فيما إذا تحقّق القدر الجامع والمشترك بين الأخبار ، وقسم آخر منه لا يترتّب عليه أثر ، كما فيما لم يتحقّق القدر المتيقّن بين الأخبار.

هذا نهاية توجيه كلامه قدس‌سره ولكنّه أيضا قابل للجواب بأنّه يمكن أن يتحقّق

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١١٣.

٢٠٤

التواتر الإجمالي في موارد لا يتحقّق القدر الجامع أصلا ، كما إذا دلّت عدّة روايات على أنّ دفن الكافر حرام ، وعدّة اخرى على أنّ صلاة الجمعة واجبة ، ونعلم إجمالا بصدور بعضها عن المعصوم ، ولكن لا نعلم أنّه في العدّة الدالّة على الوجوب أو في العدّة الدالّة على الحرمة ، وأثر التواتر الإجمالي هو الاحتياط في كلا الموردين ، وإن لم يتحقّق التواتر الإجمالي يكون المرجع أصالة البراءة في كليهما كما لا يخفى ، واعترف به في كتاب فوائد الاصول.

نعم ، إن كان التواتر الإجمالي في الأخبار الدالّة على وجوب شيء واحد وحرمته يكون المرجع أصالة التخيير ، ولا يترتّب عليه أثر.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ هذه الأخبار من الطوائف الأربعة لا تكون متواترة لفظا ولا معنى إن كان المقصود منه اتّحاد المعنى سعة وضيقا وإن كان المقصود منه تحقّق القدر الجامع ، وإن كانت الأخبار مختلفة من حيث السعة والضيق فلا يبعد القول بتواترها معنى ، وأمّا تواترها إجمالا فلا يكون قابلا للإنكار. وعلى كلا التقديرين لا بدّ من الاكتفاء بالقدر المتيقّن ممّا تدلّ عليه الأخبار بالألفاظ المختلفة ، والالتزام بحجّية ما هو أخصّ مضمونا منها.

ثمّ اختلف العلماء فيما هو الأخصّ مضمونا منها.

قال المحقّق النائيني قدس‌سره (١) : إنّ أخصّ تلك الأخبار مضمونا هو الأخبار الدالّة على جواز العمل بخبر الثقة.

وفيه : أنّ مفاد هذه الأخبار مختلف ، فإنّ ظاهر بعضها كفاية مجرّد الوثاقة في الراوي ، كما هو الظاهر من قوله عليه‌السلام : «نعم» ، بعد قول السائل : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ (٢) وظاهر بعضها اعتبار كونه مع ذلك إماميّا ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١١٣ ـ ١١٤.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٤٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

٢٠٥

كما هو الظاهر من قوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا». (١)

فإنّ إضافة الثقة إليهم عليهم‌السلام ظاهرة في اعتبار كون الراوي إماميّا ، وظاهر بعضها اعتبار كونه مع ذلك عادلا ، كما هو الظاهر من بعض الأخبار العلاجيّة من قوله عليه‌السلام : «خذ بما يقول به أعدلهما» (٢) ، فإنّ ترجيح الأعدل دليل على مفروغيّة اعتبار أصل العدالة. وعليه فكيف يمكن القول بأنّ أخصّ تلك الأخبار هو جواز العمل بخبر الثقة؟

وقال بعض : إنّ القدر المتيقّن من الأخبار هو خبر العدل الإمامي الثقة ، فلا يستفاد من هذه الأخبار إلّا حجّية الخبر الصحيح الأعلائي.

ويستفاد من كلام استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (٣) : «أنّ القدر المتيقّن من تلك الأخبار هو الخبر الحاكي عن الإمام عليه‌السلام بلا واسطة مع كون الراوي من الفقهاء العدول الإماميّة أمثال زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير».

ففي صحيحة يونس بن عمّار : أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال له في حديث : «أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام فلا يجوز لك أن تردّه» (٤).

وفي حسنة عبد الله بن أبي يعفور ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه ، فقال عليه‌السلام : «ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي ،

__________________

(١) المصدر السابق : ١٥٠ ، الحديث ٤٠.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

(٣) تهذيب الاصول ٢ : ١٣١.

(٤) الوسائل ٢٧ : ١٤٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٧.

٢٠٦

فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيها». (١)

وفي صحيحة شعيب العقرقوفي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال عليه‌السلام : «عليك بالأسدي» ، يعني أبا بصير (٢).

وهذا الرأي هو الصحيح ، فالقدر المتيقّن ليس مجرّد الخبر الصحيح الأعلائي ، بل هو مع كون الخبر بلا واسطة وكون الراوي من الفقهاء نظير الرواة المذكورة ، بل مع كون الراوي كثير الرواية ، كما يستفاد من جملة : «فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيها».

الدليل الثالث ـ الإجماع :

وتقريره من وجوه :

الوجه الأوّل : الإجماع القولي المنقول عن الشيخ الطوسي قدس‌سره على حجّية خبر الواحد.

وفيه : أوّلا : أنّه معارض بالإجماع المنقول عن السيّد المرتضى قدس‌سره على عدم حجّية خبر الواحد.

وثانيا : أنّ الإجماع المنقول من أفراد الخبر الواحد ، فكيف يمكن الاستدلال به على حجّية خبر الواحد؟!

وثالثا : أنّ ناقل الإجماع إنّما يخبر عن رأي المعصوم عليه‌السلام عن حدس لا حسّ ، فلا يكون الإجماع المنقول حجّة.

الوجه الثاني : الإجماع القولي المحصّل من جميع العلماء عدا السيّد المرتضى قدس‌سره وأتباعه على حجّية خبر الواحد ، وخلافهم غير قادح في حجّية الإجماع ؛

__________________

(١) المصدر السابق : ١٤٤ ، الحديث ٢٣.

(٢) المصدر السابق : ١٤٢ ، الحديث ١٥.

٢٠٧

لمعلوميّة نسبهم.

وفيه : بعد عدم تماميّة مبنى الإجماع الدخولي أنّ هذا الإجماع لا يكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام للعلم بأنّ مستند المجمعين هو الآيات والروايات ، والإجماع المدركي ليس بحجّة ، ولا أقلّ من احتمال ذلك ، فإنّه يكفي في سقوطه عن الحجّية كما لا خفى.

الوجه الثالث : الإجماع القولي المحصّل من جميع العلماء على حجّية خبر الواحد حتّى السيّد المرتضى قدس‌سره وأتباعه ، بدعوى : أنّ ذهابهم إلى عدم الحجّية إنّما كان لأجل اعتقادهم بانفتاح باب العلم في الأحكام الشرعيّة ، فلو كانوا في زماننا المنسدّ فيه باب العلم لحكموا بحجّية الخبر قطعا.

وفيه : مضافا إلى كون بعض أتباعه ـ كالمرحوم الطبرسي ـ من المتأخّرين وإمكان انسداد باب العلم في زمان السيّد المرتضى قدس‌سره أنّه من المحتمل أنّ السيّد المرتضى قدس‌سره وأتباعه بعد الاعتقاد بانسداد باب العلم كان يذهب إلى حجّية الخبر الواحد من باب الظنّ المطلق ، لا الظنّ الخاص الذي هو محلّ البحث.

الوجه الرابع : الإجماع العملي من جميع العلماء من الصدر الأوّل إلى يومنا هذا من الاخباريّين والاصوليّين على العمل بخبر الواحد.

وفيه : أنّ عمل جميع العلماء بالخبر ليس مستندا إلى حجّية خبر الواحد بما هو خبر واحد ؛ إذ عمل بعضهم به مبني على كون ما في الكتب الأربعة مقطوع الصدور ، وعمل بعض آخر منهم مبني على كون ما بأيدينا من الأخبار في نفسها مطمئنّة الصدور ، وعمل جملة اخرى مبني على احتفاف هذه الأخبار بقرائن تفيد الاطمئنان بصدورها ، وهكذا.

نعم ، عمل بعضهم مبنيّ على حجّية خبر الواحد بما هو خبر الواحد ، إلّا أنّ

٢٠٨

هذا لا يكون إجماعا ليكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام.

الوجه الخامس : الإجماع العملي من جميع المتشرّعة الذي يسمّى بسيرة المتشرّعة على العمل بخبر الواحد.

وفيه : أنّ جميع المتشرّعة في عصر النبيّ والأئمّة عليهم الصلاة والسلام وإن كان عملهم بالخبر الواحد ممّا لا يقبل الإنكار ؛ إذ من المقطوع أنّهم لم يأخذوا الأحكام من نفس النبيّ والإمام عليهم الصلاة والسلام

بلا واسطة شخص آخر ، إلّا أنّ عملهم بخبر الواحد ليس لأجل كونهم مسلّمين لتحقّق سيرة المتشرّعة ، بل عملهم به من باب كونهم عقلاء بما هم عقلاء والذي يسمّى بالسيرة العقلائيّة ، فلا بدّ من صرف عنان البحث إلى السيرة العقلائيّة ، وهذا ما سنبحثه بعد دليل العقل.

الدليل الرابع ـ العقل :

وتقريره من وجوه :

الأوّل : إنّا نعلم إجمالا بصدور كثير من الأخبار التي بأيدينا عن المعصوم عليه‌السلام ولا نحتمل أن يكون جميعها مجعولة ، خصوصا مع ملاحظة حال الرواة وأرباب الكتب الروائيّة وشدّة اهتمامهم بتنقيح ما أودعوه في تلك الكتب.

ومقتضى هذا العلم الإجمالي هو الاحتياط ، والأخذ بجميع هذه الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة بحكم العقل.

وفيه : أنّ هذا الوجه ـ على تقدير تماميّته ـ لا يثبت إلّا لزوم الأخذ بالأخبار من باب الاحتياط ، لا من باب الحجّية التي هي محلّ الكلام ، بحيث يكون مخصّصا للعمومات ومقيّدا للمطلقات.

٢٠٩

الوجه الثاني : إنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، ولا سيّما الواجبات الضروريّة، مثل : الصلاة والصوم والحجّ والزكاة وغيرها ، ومعلوم أنّ أجزاء هذه الواجبات وشرائطها وموانعها لا تثبت إلّا بالأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة ، ولو لم يكن الخبر الواحد حجّة وجاز ترك العمل به لخرجت هذه الواجبات عن حقائقها ، وهذا ينافي كون تلك الواجبات ضروريّة وبقاء التكليف بها إلى يوم القيامة.

وفيه : أنّ مقتضى هذا الوجه أيضا هو وجوب العمل بكلّ خبر دلّ على الجزئيّة والشرطيّة من باب حكم العقل بلزوم الاحتياط للعلم الإجمالي ، لا من باب أنّه حجّة يخصّص به العمومات ويقيّد به المطلقات كما هو محلّ البحث.

الوجه الثالث : ما حكي عن المحقّق صاحب الحاشية على المعالم قدس‌سره (١) من أنّا نعلم بلزوم الرجوع إلى السنّة والعمل بها ؛ لحديث الثقلين الثابت تواتره عند العامّة والخاصّة ، وحينئذ فإن أمكن إحراز السنّة بالعلم فهو ، وإلّا فلا بدّ من التنزّل إلى الظنّ والعمل بما يظنّ صدوره منهم عليهم‌السلام.

وفيه : إن كان المقصود من السنّة نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره فالوجوب الرجوع إليها وإن كان ثابتا بالأدلّة القطعيّة بلا ريب ، إلّا أنّ هذا المعنى لا يرتبط بما هو محلّ الكلام من حجّية خبر الواحد الحاكي عن السنّة.

وإن كان المقصود منها الأخبار الحاكية عن السنّة ففيه : أنّ وجوب الرجوع إليها والعمل بها هو أوّل الكلام ، إلّا أن يدّعى العلم الإجمالي بصدور كثير منها ، أو يدّعى العلم الإجمالي بوجود أحكام كثيرة فعليّة في مضامينها بحيث

__________________

(١) هداية المسترشدين ٣ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤.

٢١٠

يلزم من إهمالها الخروج عن الدين ، فعلى الأوّل يرجع هذا الوجه إلى أوّل الوجوه كما هو واضح ، وعلى الثاني يرجع إلى دليل الانسداد ، فهذا الوجه ليس دليلا مستقلّا على ما عرفت.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) في مقام الدفاع عن صاحب الحاشية قدس‌سره : إنّ ملاك هذا الوجه هو وجوب الرجوع إلى أخبار الآحاد الحاكية عن السنّة ، وليس ملاكه العلم الإجمالي بصدور جملة منها ليرجع إلى الوجه الأوّل ، ولا العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في موردها ليرجع إلى دليل الانسداد ، فيكون هذا الوجه دليلا مستقلّا بحدّ ذاته.

وفيه : أنّ وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية لا يعقل أن يكون بلا سبب ، وحينئذ إمّا أن يرجع إلى الوجه الأوّل أو إلى دليل الانسداد.

وما يمكن أن يقال في مقام توجيه كلام صاحب الحاشية قدس‌سره : إنّ المراد من السنّة هي السنّة المحكيّة ـ أي قول المعصوم وفعله وتقريره ـ كما يثبت بحديث الثقلين التمسّك بالكتاب ولزوم الأخذ به ، كذلك يثبت به التمسّك بالسنّة ولزوم الأخذ بها.

هذا في صورة العلم بالسنّة المحكيّة ، وأمّا في صورة عدم العلم بها ، فتصل النوبة إلى المظنّة ، فالعمل بالسنّة الحاكية يكون بلحاظ الظنّ بكونها قول المعصوم.

ولكنّه أيضا قابل للمناقشة ؛ إذ لا دليل لإثبات السنّة بالظنّ ، ومن الممكن أن يقال بعدم إثباتها إلّا بالتواتر نظير الكتاب ، مع أنّ المدّعى هو حجّية خبر الواحد مطلقا ، سواء أفاد الظنّ أم لا ، ولازم هذا الاستدلال هو حجّية خبر

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ١٠٧.

٢١١

الواحد في صورة حصول الظنّ الشخصي بأنّ هذا فعل المعصوم أو قوله أو تقريره ، فلا يكون هذا الدليل قابلا للقبول.

الدليل الخامس ـ السيرة العقلائية :

فنقول : لا شكّ ولا شبهة في قيام السيرة العقلائيّة على العمل بخبر الثقة والاتّكال عليه في مقام الاحتجاج ، بل على ذلك يدور رحى نظامهم ومعاشهم ، ولكنّ الاستفادة من هذه السيرة في الامور الشرعيّة والتكاليف الإلهيّة تحتاج إلى تحقّق أمرين :

الأوّل : كونها مستمرّة إلى زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، ومن المعلوم أنّ نوع المسائل العقلائيّة ليس من الامور الحادثة ، ومنها العمل بخبر الثقة ، فهذه السيرة كانت مستمرّة إلى زمان المعصومين عليهم‌السلام.

الأمر الثاني : عدم وقوعها أحيانا أو في الخفاء ، بل كانت من الامور المتداولة بين العقلاء وكانت بمنظر ومسمع من الشارع ، وكان متمكّنا من الردع عنها على فرض مخالفته لها ، وهذا أيضا ممّا لا شكّ فيه ، ومع ذلك لم ينقل عنه الردع ، وهذا يكشف كشفا قطعيّا عن رضا الشارع وموافقته له.

ولا يصحّ القول بكون الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم رادعا من الشارع عن السيرة ؛ إذ لا بدّ من كون الردع عن مثل هذه المسألة المتداولة بين العقلاء دليلا خاصّا وصريحا ، ولا يصحّ الاكتفاء بدليل عامّ ، كما أنّه لا يصحّ ردع القياس والربا ـ مثلا ـ بمثل ذلك ، بل يحتاج إلى قوله عليه‌السلام : «السنّة لو قيست محق الدين» ، (١) وقوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا)(٢) ، كذلك لا يصحّ ردع العمل

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٤١ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

٢١٢

بخبر الثقة بمثل عموم الآيات الناهية.

فيكفي في استكشاف رضا الشارع وإمضاءه للسيرة العقلائيّة عدم الردع مع التمكّن منه ، ولا يلزم التصريح بالإمضاء والرضا مع تحقّق الشواهد والقرائن لإمضاء المعصومينعليهم‌السلام.

منها : اهتمام الأئمّة عليهم‌السلام بنقل الرواة وأمرهم بالسؤال عمّا لا يكون مورد ابتلائهم كثيرا ما بداعي نقل ما يسمعون عنهم للغائبين وضبطه في الجوامع الروائيّة ، فلو لم يكن خبر الواحد حجّة لكان هذا الاهتمام لغوا ، بل هذا يكون إمضاء عملي للسيرة العقلائيّة عنهمعليهم‌السلام.

ومنها : الروايات الواردة في مباحثة بعض أئمّتنا عليهم‌السلام مع بعض علماء العامّة ، كما قال الصادق عليه‌السلام لأبي حنيفة : «أنت فقيه العراق؟» قال : نعم ، قال : «فبم تفتيهم؟» قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وقال بعضهم في جواب الإمام عليه‌السلام : بما بلغني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولا نرى في أيّ مورد مخالفة الأئمّة عليهم‌السلام مع السيرة العقلائيّة وردعهم عنها بأنّ ما بلغنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بخبر الواحد ليس بحجّة ، بل سكت الإمام عليه‌السلام عن هذه الناحية ، وقال لأبي حنيفة : «تعرف كتاب الله حقّ معرفته؟» وهذا أقوى شاهد على تأييد بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد.

ومنها : ما ورد من الأخبار في جواز العمل بخبر الواحد من الطوائف الأربعة ، فإنّها إمضاء لما عليه العقلاء من العمل بخبر الثقة ، وظاهرها أنّ حجّية خبر الثقة كان أمرا مركوزا ومفروغا عنه في الأذهان ، كما يرشدنا قوله عليه‌السلام : «نعم» ، بعد قول السائل : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٤٧ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

٢١٣

فيكون الدليل لحجّية خبر الواحد بناء العقلاء المؤيّد من المعصومين عليهم‌السلام في محيط الشرع والتكاليف الإلهيّة.

ولا يخفى أنّ المقصود من الثقة كون الراوي ثقة عند أهل الخبرة والمطّلعين لا كونه ثقة عند مخبر له ، ولا يلزم أن يكون مخبر له عالما بوثاقته. نعم ، في صورة العلم بعدم وثاقته لا أثر لخبر من يكون ثقة عند أهل الخبرة.

ومعلوم أنّ توثيق أهل الخبرة قد يكون توثيقا شخصيّا كقولهم بأنّ السكوني ثقة ـ مثلا ـ وقد يكون توثيقا عامّا كقول محمّد بن قولويه في مقدّمة كتاب كامل الزيارات : «إنّ كلّ من وقع في أسناد الروايات التي ذكرناها في هذا الكتاب يكون من ثقات أصحابنا» ، وهكذا قول عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره.

ولكنّ اعتبار توثيق العامّ محدود بصورة عدم قدح الخاصّ في مقابله ، ومن المعلوم أنّ خبر الثقة في الموضوعات لا يكون حجّة عند الشارع ؛ لردعه عن العمل به فيها بجعل البيّنة حجّة فيها ، ومعناه عدم اعتبار خبر الثقة فيها ، وإلّا يكون اعتبار التعدّد والعدالة لغوا ، فخبر الواحد ليس بحجّة في الموضوعات الخارجيّة ، بل المرجع فيها هو البيّنة أو الاستصحاب أو قول صاحب البيت أو ذي اليد.

ثمّ استدلّ في المقام على حجيّته مطلق الظنّ بأدلّة ، منها : دليل الانسداد وكانت له مقدّمات ، والأهمّ منها انسداد باب العلم والعلمي بالنسبة إلى التكاليف الإلهيّة ، وتماميّة هذه المقدّمة متوقّف على القول بعدم حجّية خبر الواحد ، فيكون دليل الانسداد بعد إثبات حجّيته مسألة فرضيّة ، فلا داعي إلى بحثه.

٢١٤

المقصد السابع

في مباحث

الاصول العمليّة

٢١٥
٢١٦

الاصول العمليّة

هي المرجع عند الشكّ بعد الفحص واليأس عن الدليل. قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : «إنّ المهمّ من الاصول العمليّة هي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب» ، ولم يتعرّض لأصالة الطهارة ، وقال : إنّ الوجه لعدم تعرّضها أوّلا : أنّها من الاصول المسلّمة ، وثانيا : اختصاصها بباب الطهارة.

وقد يتوهّم أنّ الوجه في عدم ذكر أصالة الطهارة في علم الاصول : أنّ الطهارة والنجاسة من الامور الواقعيّة التي قد أخبر بهما الشارع ، لا من الأحكام الشرعيّة ، وكان الشكّ فيهما شكّا في الانطباق ، ومن المعلوم أنّ البحث عن الشبهات الموضوعيّة لا يكون من المسائل الاصوليّة.

وفيه : أوّلا : أنّه لا يلزم من كون الشيء أصلا عمليّا خلوّه بتمام المعنى عن الواقعيّة ، بل عدم إدراك عقولنا يكفي لكونه أصلا عمليّا.

وثانيا : لا نسلّم كون الشكّ فيهما من الشبهة المصداقيّة ؛ لأنّ الميزان في كون الشبهة مصداقيّة أن يكون المرجع فيها العرف لا الشارع ، كما أنّ الأمر في الشبهة الحكميّة بعكس ذلك ، ولا إشكال في أنّ المرجع عند الشكّ في نجاسة شيء وطهارته ـ كالعصير العنبي بعد الغليان ، وكعرق الجنب من الحرام ، وعرق الإبل الجلّال ونحوهما ـ هو الشارع ، وبيانها من وظائفه ، ولا يعلمها إلّا هو.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ١٦٥.

٢١٧
٢١٨

القول

في أصالة البراءة

٢١٩
٢٢٠