دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

النواهي المتعلّقة بأعدام المأمور به حيث إنّها لا تكون إلّا ناشئة من الأمر المتعلّق به ؛ ضرورة أنّها لا تكون نواهي مستقلّة ؛ لأنّ مباديها إنّما هي المبادي الموجبة للأمر ، فلا مجال تكون في السعة والضيق تابعة للأمر ، فلا مجال لإجراء البراءة فيها مع جريانها فيه ، مضافا إلى أنّه لو فرض كونها نواهي مستقلّة فجريان البراءة فيها لا يوجب جواز الاقتصار على الأقلّ بعد كون الأمر حجّة تامّة والاشتغال به يقيني ، ومقتضى حكم العقل لزوم إحراز الامتثال والعلم بإتيان المأمور به ، وهو لا يحصل إلّا بضمّ القيد المشكوك إلى السبب.

وممّا ذكرنا ينقدح الخلل فيما أفاده المحقّق العراقي من تسليم جريان البراءة لو كان إضافة أجزاء المحقّق ـ بالكسر ـ إلى المحقّق من قبيل الجهات التقييديّة الموجبة لتكثّر أعدام المأمور به بالإضافة إليها ، حيث إنّه بتعدّد أجزاء المحقّق حينئذ تتعدّد الإضافات والتقيّدات ، وبذلك تتكثّر الأعدام أيضا ، فينتهي الأمر من جهة حرمة الترك إلى الأقلّ والأكثر (١).

ولكنّك عرفت عدم الفرق بين المسلكين هنا وعدم ترتّب أثر عليهما في هذا المقام ، فتدبّره.

ولكن نقل التفصيل بين الأسباب والمحصّلات العقليّة والعاديّة وبين الأسباب والمحصّلات الشرعيّة بجريان البراءة في الاولى وعدم جريانها في الثانية ، ومنشأ التوهّم هنا أنّ في المسبّبات الشرعيّة يكون بيان الأسباب أيضا بعهدة الشارع ، فبعد بيان خصوصيّات الغسل ـ مثلا ـ وعدم تعرّض الترتيب بين اليمين واليسار لا مانع من جريان البراءة فيه عند الشكّ في اعتباره.

ولكنّك عرفت أنّه لا فرق في عدم جريان البراءة في الأسباب والمحقّقات

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٠٣.

٤٦١

بين كونها عاديّة ، كما إذا أمر بتنظيف المسجد وتردّد محصّله بين أن يكون مجرّد الكنس أو مع إضافة رشّ الماء ، أو عقليّة ، كما إذا أمر بقتل زيد ـ مثلا ـ وتردّد محقّقه بين أن يكون ضربة أو ضربتين ، وبين كونها شرعيّة ، كما إذا فرض أنّ المأمور به حقيقة في باب الغسل ـ مثلا ـ هي الطهارة الحاصلة منه ، وتردّد أمر الغسل بين أن يكون الترتيب بين الأجزاء أو بين الجانبين ـ مثلا ـ معتبرا فيه أم لا؟

ولتوضيح عدم الجريان في الأسباب والمحصّلات الشرعيّة نقول : إنّها على قسمين :

أحدهما : أن يكون المسبّب من الامور الاعتباريّة العقلائيّة المتعارفة عندهم ، غاية الأمر أنّ الشارع يتصرّف في الأسباب ، فيردع عن بعضها وإن كان عند العقلاء موضوعا للاعتبار ، أو يزيد عليها سببا آخر في عرض سائر الأسباب.

وبالجملة ، فتصرّفه حينئذ مقصور على الأسباب إمّا بخلع بعضها عن السببيّة ، وإمّا بتوسعة دائرتها بإضافة بعض ما لم يكن عند العقلاء سببا. مثلا : حقيقة النكاح والطلاق من الامور المعتبرة عند العقلاء ، والشارع أيضا تبعهم في ذلك ولكن تصرّف في أسباب حصولهما ، فردع عن بعضها ولم يرتّب الأثر عليه.

ثانيهما : أن يكون المسبّب أيضا ممّا لم يكن معتبرا عند العقلاء ، بل كان من المجعولات الشرعيّة والمخترعات التي لم تكن لها سابقة عند العقلاء. وفي هذا القسم لا بدّ وأن يكون السبب أيضا مجعولا كالمسبّب ؛ لأنّ المفروض أنّ المسبّب من المخترعات الشرعيّة ، ولا يعقل أن يكون لمثل ذلك أسباب عقليّة

٤٦٢

أو عاديّة ، بل أسبابها لا بدّ وأن تكون مجعولة شرعا ولا يغني جعل واحد منهما عن الآخر ، أمّا جعل المسبّب فلما عرفت من أنّ المفروض كونه من المجعولات الشرعيّة ، وأسبابها لا بدّ وأن تكون شرعيّة ، فمجرّد كون الطهارة المأمور بها أمرا اعتباريّا شرعيّا لا يغني عن جعل الوضوء والغسل سببا لحصولها ، كما أنّ جعل السبب بالجعل البسيط لا بالجعل المركّب الذي مرجعه إلى جعل السبب سببا لا يغني عن جعل المسبّب.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّه لا مجال لجريان البراءة العقليّة في الأسباب والمحصّلات الشرعيّة ؛ لأنّ اعتبارها وإن كان بيد الشارع إلّا أنّه حيث يكون المأمور به هو المسبّبات ، وهي مبيّنة لا خفاء فيها ، الاشتغال فمقتضى اشتغال اليقيني بها لزوم العلم بتحقّقها ، وهو يتوقّف على ضمّ القيد المشكوك أيضا.

وأمّا البراءة الشرعيّة فقد يقال بجريانها ؛ لأنّ الشكّ في حصول المسبّب وهي الطهارة أو النقل أو الانتقال ـ مثلا ـ مسبّب عن الشكّ في الأسباب ، وأنّه هل الترتيب بين الأجزاء ـ مثلا ـ معتبر في الوضوء ، أو العربيّة والماضويّة معتبرة في الصيغة عند الشارع أم لا؟

وبعد كون الأسباب من المجعولات الشرعيّة لا مانع من جريان حديث الرفع ونفي القيد الزائد المشكوك به ، وإذا ارتفع الشكّ عن السبب بسبب حديث الرفع يرتفع الشكّ عن المسبّب أيضا ، ولا يلزم أن يكون الأصل مثبتا بعد كون المفروض أنّ المسبّب من الآثار الشرعيّة المترتّبة على السبب.

ولكن لا يخفى أنّ مثل حديث الرفع وإن كان يرفع اعتبار الزيادة المشكوكة لكونها مجهولة غير مبيّنة ، إلّا أنّ رفعها لا يستلزم رفع الشكّ عن حصول المسبّب ؛ لأنّه يتوقّف على أن يكون ما عدا الزيادة تمام السبب وتمام المؤثّر ؛

٤٦٣

إذ بدونه لا يرتفع الشكّ عن المسبّب. وكونه تمام السبب لا يثبت برفع اعتبار الزيادة المشكوكة إلّا على القول بالأصل المثبت ، ونحن لا نقول به.

فكما أنّ العقل يحكم بأنّه إذا تحقّق السبب يتحقّق المسبّب ، هكذا يحكم أيضا بأنّه لا يتحقّق المسبّب إلّا بتحقّق تمام السبب ، وإذا رفع الجزء أو الشرط المشكوك بالحديث فلا طريق لإحراز أنّ فاقده تمام السبب لحصول المسبّب ، فلا بدّ من إثبات لازم عقلي ـ أي الغسل الفاقد لترتيب تمام السبب لحصول الطهارة ـ بواسطة حديث الرفع ، وهو من الاصول المثبتة.

٤٦٤

المطلب الرابع : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر

الارتباطيّين من جهة الاشتباه في الامور الخارجيّة

وكون الشبهة موضوعيّة

ولا بدّ قبل الخوض في المقصود من بيان المراد من دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين في الشبهة الموضوعيّة ، والفرق بينه وبين الشكّ في الأسباب والمحصّلات ، فنقول:

قد عرفت أنّ المراد بالشكّ في المحصّل أنّ الأمر قد تعلّق بشيء مبيّن معلوم ، غاية الأمر أنّ تحقّقه في الواقع أو في عالم الاعتبار يحتاج إلى السبب والمحصّل ، وهو قد يكون عقليّا أو عاديّا ، وقد يكون شرعيّا ، فذاك السبب والمحصّل ، لا يكون مأمورا به بوجه ، بل المأمور به إنّما هو الأمر المتحصّل منه ، فإنّ الضربة أو الضربتين اللتين تؤثّران في قتل من أمر بقتله لا تكونان مأمورا بهما أصلا ، كما هو واضح.

وأمّا الأسباب الموضوعيّة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين فالشكّ فيها إنّما هو في نفس تحقّق المأمور به ، وكون المأتي به مصداقا له ، لا في سبب تحقّقه وعلّة تحصّله ، كما في الشكّ في المحصّل ، فلو أمر المولى بإكرام العلماء

٤٦٥

على سبيل العام المجموعي ، ودار أمرهم بين مائة أو أزيد للشكّ في عالميّة زيد ـ مثلا ـ فمرجع الشكّ حقيقة إلى الشكّ في كون إكرام مجموع العلماء الذي أمر به هل يتحقّق في الخارج بالاقتصار على إكرام المائة ، أو لا بدّ من ضمّ إكرام زيد المشكوك كونه عالما ، وليس إكرام مجموع العلماء أمرا آخر متحصّلا من إكرام المائة أو مع إضافة الفرد المشكوك ، بل هو عينه ، فالشكّ في الشبهة الموضوعيّة إنّما هو في نفس تحقّق المأمور به وانطباق عنوانه على المأتي به في الخارج ، غاية الأمر أنّ منشأ الشكّ هو الاشتباه في الامور الخارجيّة.

وممّا ذكرنا من الفرق بين الشكّ في المحصّل والشبهة الموضوعيّة يظهر أنّ المثالين اللذين أوردهما الشيخ الأنصاري رحمه‌الله مثالا للشبهة الموضوعيّة لا إشكال فيهما أصلا ، حيث قال : ومنه ـ يعنى من جملة ما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقه بين الأقلّ والأكثر ـ ما إذا وجب صوم شهر هلالي ـ وهو ما بين الهلالين ـ فشكّ في أنّه ثلاثون أو ناقص ، ومثل ما أمر بالطهور لأجل الصلاة ـ أعني الفعل الرافع للحديث أو المبيح للصلاة ـ فشكّ في جزئيّة شيء للوضوء أو الغسل الرافعين (١). انتهى.

ضرورة أنّ دوران الأمر بين كون الشهر تامّا أو ناقصا لا يكون من قبيل الترديد في سبب المأمور به ومحصّله ، بل إنّما يكون الترديد في نفس تحقّق المأمور به ـ وهو صوم شهر هلالي ـ وأنّه هل يتحقّق بالاقتصار على الأقلّ أم لا؟ ومنشأ الشكّ فيه إنّما هو الاشتباه في الامور الخارجيّة.

وأمّا المثال الثاني فالمراد منه كما يقتضيه التدبّر في العبارة ليس أن يكون المأمور به هو الطهور الذي هو ضدّ الحدث ، ويتحقّق بالوضوء أو الغسل حتّى

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٧٨.

٤٦٦

يقال بأنّه من قبيل الشكّ في المحصّل ، كما في تقريرات العلمين النائيني رحمه‌الله والعراقي رحمه‌الله بل المراد به هو كون المأمور به نفس الوضوء أو الغسل بما أنّهما رافعان للحدث أو مبيحان للصلاة ، والشكّ إنّما هو في نفس تحقّق المأمور به في الخارج لا في سببه ومحصّله ؛ لأنّ الوضوء وكذا الغسل لا يكون له سبب ومحصّل.

نظير ذلك ما إذا قال المولى : اضرب زيدا ضربا موجبا للقتل ، فتردّد الضرب الواقع في الخارج بين أن يكون متّصفا بهذا الوصف أم لم يكن ، فإنّ هذا الترديد لا يكون راجعا إلّا إلى نفس تحقّق المأمور به في الخارج لا إلى سببه ؛ ضرورة أنّه لا يكون له سبب ، بل الذي له سبب إنّما هو القتل ، والمفروض أنّه لا يكون مأمورا به ، بل المأمور به هو الضرب الموجب للقتل ، وتحقّقه بنفسه مردّد في الخارج.

فالإنصاف أنّ المناقشة في هذا المثال ناشئة من عدم ملاحظة العبارة بتمامها وقصر النظر على كلمة الطهور وتخيّل كون المراد به هو الأمر المتحقّق بسبب الوضوء أو الغسل مع الغفلة عن أنّه رحمه‌الله فسّره بالفعل الرافع أو المبيح ، وهو الوضوء أو الغسل.

إذا تقرّر ما ذكرنا من عدم رجوع الشبهة الموضوعيّة إلى الشكّ في المحصّل فنقول ـ بعد توسعة دائرة البحث في مطلق الشبهات الموضوعيّة أعمّ من الاستقلالي والارتباطي ـ : إنّ الأقوال فيها ثلاثة : جريان البراءة فيها مطلقا ، وعدم جريانها فيها مطلقا ، والتفصيل بجريان البراءة في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين والاحتياط في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

ذهب المحقّق العراقي إلى جريان البراءة فيها ، سواء كانت الشبهة من الأقلّ

٤٦٧

والأكثر الاستقلاليّين أو من الأقل والأكثر الارتباطيّين ؛ نظرا إلى أنّه على كلّ تقدير يرجع الشكّ في الموضوع الخارجي في اتّصافه بعنوان موضوع الكبرى إلى الشكّ في سعة الحكم وضيقه من ناحية الخطاب ، والمرجع في مثله هو البراءة (١).

وقد يقال بعدم جريانها مطلقا ؛ نظرا إلى أنّ وظيفة الشارع ليس إلّا بيان الكبريات فقط لا الصغريات أيضا ، مثلا : إذا قال : «أكرم العلماء» ، أو «لا تشرب الخمر» فقد تمّ بيانه بالنسبة إلى وجوب إكرام كلّ عالم واقعي ، وبالنسبة إلى حرمة شرب جميع أفراد الخمر الواقعي. ولا يلزم مع ذلك أن يبيّن للمكلّفين أفراد طبيعة العالم ، وأنّ زيدا ـ مثلا ـ عالم أم لا ، وكذا لا يلزم عليه تعيين الأفراد الواقعيّة للخمر ، كما هو واضح.

وحينئذ فبيان المولى قد تمّ بالنسبة إلى جميع الأفراد الواقعيّة لموضوع الكبرى ، ففي موارد الشكّ يلزم الاحتياط بحكم العقل ؛ خروجا من المخالفة الاحتماليّة الغير الجائزة بعد تماميّة الحجّة ووصول البيان بالنسبة إلى ما كان على المولى بيانه.

والتحقيق : التفصيل بين الاستقلالي والارتباطي ، فتجري البراءة في مثل : «أكرم العلماء» ، إذ اخذ العام على سبيل العام الاصولي ـ أي الاستغراقي ، ولا تجري إذا اخذ بنحو العام المجموعي.

والسرّ فيه : أنّ المأمور به في مثل «أكرم كلّ عالم» إنّما هو إكرام كلّ واحد من أفراد طبيعة العالم ، بحيث كان إكرام كلّ واحد منها مأمورا به مستقلّا ، فهو بمنزلة «أكرم زيدا العالم» و «أكرم عمرا العالم» و «أكرم بكرا العالم» ، وهكذا ،

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٠٩.

٤٦٨

غاية الأمر أنّ الآمر توصّل إلى إفادة ذلك بأخذ مثل كلمة «كلّ» في خطابه ، وإلّا فعنوان الكلّ لا يكون مطلوبا ومترتّبا عليه الغرض ، بل هو عنوان مشير إلى أفراد ما يليه من العالم وغيره ـ مثل عنوان الجالس في قول الإمام عليه‌السلام : «عليك بهذا الجالس» ـ وقد حقّقنا ذلك في مبحث العموم والخصوص من مباحث الألفاظ.

وحينئذ فلو شكّ في فرد أنّه عالم أم لا ، يكون مرجع هذا الشكّ إلى الشكّ في أنّه هل يجب إكرامه أم لا؟ ووظيفة المولى وإن لم تكن إلّا بيان الكبريات ، إلّا أنّها بمجرّدها لا تكون حجّة ما لم ينضمّ إليها العلم بالصغرى وجدانا أو بطريق معتبر شرعي أو عقلي ، والمقصود من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو تحقّق الحجّة على التكليف ، وتحقّق الحجّة يحتاج إلى إحراز الصغرى والكبرى معا ، وإلّا لم تتحقّق الحجّة ، فقوله : «أكرم العلماء» ، وإن كان مفيدا لوجوب إكرام كلّ عالم واقعي ، إلّا أنّه لا يكون حجّة بالنسبة إلى الفرد المشكوك ، والمفروض أيضا أنّ المأمور به لا يكون له عنوان شكّ في تحقّقه مع الإخلال بإكرام الفرد المشكوك ؛ لما عرفت من أنّ عنوان الكلّ عنوان مشير إلى أفراد ما يليه من غير أن يجب علينا تحصيله.

وهذا بخلاف العام المجموعي ، فإنّ المأمور به فيه إنّما هو المجموع بما هو مجموع ، لكون الغرض مترتّبا عليه ، ومع عدم إكرام الفرد المشكوك ، يشكّ في تحقّق عنوان المأمور به ؛ لعدم العلم حينئذ بإكرام المجموع. والمفروض أنّ هذا العنوان مورد تعلّق الغرض والأمر ، وبعد العلم بأصل الاشتغال لا يكون مفرّ من إحراز حصول المأمور به ، وهو لا يتحقّق إلّا بضمّ الفرد المشكوك ، والإخلال به إنّما هو كالاقتصار على مجرّد احتمال إكرام بعض من كان عالما

٤٦٩

قطعا ، فكما أنّ هذا الاحتمال لا يجدي في نظر العقل بعد إحراز كونه عالما ، كذلك مجرّد احتمال عدم كونه عالما لا ينفع في عدم لزوم إكرامه.

تكملة :

إذا تعلّق التكليف بالطبيعة كما في باب النواهي مثل : «لا تشرب الخمر» ، وشككنا في خمريّة مائع ، فالظاهر تعلّق حكم تحريمي مستقلّ بكلّ فرد من أفراد الطبيعة ، والمطلوب هو الزجر من كلّ فرد من أفراد الماهيّة ، فتجري البراءة بالنسبة إلى الفرد المشكوك ، كما ذكرنا في العامّ الاستغراقي ، فإنّ تماميّة الحجّة على التكليف يحتاج إلى إحراز الصغرى والكبرى ، فلا فرق في عدم تحقّق الحجّة والخلل بها بين كونه من ناحية الكبرى أو من ناحية الصغرى ، فجريان البراءة العقليّة هنا ممّا لا إشكال فيه.

ولا بدّ من التنبيه على أمرين :

٤٧٠

الأمر الأوّل : الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة في حال السهو

إذا ثبت جزئيّة شيء في الجملة ـ بمعنى إثبات جزئيّته في حال الالتفات وعدم الغفلة ـ فهل الأصل العقلي أو الشرعي في طرفي النقيصة والزيادة يقتضي البطلان مع الإخلال به أو زيادته في حال السهو أم لا؟ والكلام فيه يقع في مقامات :

المقام الأوّل : فيما يقتضيه الأصل العقلي بالنسبة إلى النقيصة السهويّة وأنّه هل يقتضي البطلان ووجوب الإعادة أم كان مقتضاه الاكتفاء بالناقص؟

إشكال الشيخ الاعظم في المقام :

وقد صرّح الشيخ في الرسائل بالأوّل ؛ محتجّا بأنّ ما كان جزء في حال العمد كان جزء في حال الغفلة ، فإذا انتفى انتفى المركّب ، فلم يكن المأتي به موافقا للمأمور به ، وهو معنى فساده.

أمّا عموم جزئيّته لحال الغفلة فلأنّ الغفلة لا توجب تغيير المأمور به ، فإنّ المخاطب بالصلاة مع السورة إذا غفل عن السورة في الأثناء لم يتغيّر الأمر المتوجّه إليه قبل الغفلة ، ولم يحدث بالنسبة إليه من الشارع أمر آخر حين الغفلة ؛ لانّه غافل عن غفلته ، فالصلاة المأتي بها من غير سورة غير مأمور بها

٤٧١

بأمر أصلا ، غاية الأمر عدم استمرار الأمر الفعلي بالصلاة مع السورة إليه ؛ لاستحالة تكليف الغافل ، فالتكليف ساقط عنه ما دام الغفلة ، نظير من غفل عن الصلاة رأسا أو نام عنها ، فإذا التفت إليها والوقت باق وجب عليه الإتيان به بمقتضى الأمر الأوّل (١). انتهى موضع الحاجة من نقل كلامه ، زيد في علوّ مقامه.

ولكنّ التحقيق في الجواب أن يقال : إنّه يمكن القول بجريان البراءة عن الجزئيّة في حال السهو مع عدم الالتزام باختصاص الغافل بخطاب آخر خاصّ به ، بل مع الالتزام بلغويّة ذلك الخطاب على تقدير إمكانه وعدم استحالته.

توضيحه : أنّه لو فرض ثبوت الفرق بين العالم والعامد وبين غيرها في الواقع ونفس الأمر ، بحيث كان المأمور به في حقّ العامد هو المركّب التامّ المشتمل على السورة ، وفي حقّ الساهي هو المركّب الناقص الغير المشتمل عليها ، بحيث كانت السورة غير مقتضية للجزئيّة مطلقا ، بل اقتضاءها لها إنّما هو في خصوص صورة العمد فقط.

فنقول : بأنّه يمكن للمولى أن يتوصّل إلى مطلوبه بتوجيه الأمر بطبيعة الصلاة إلى جميع المكلّفين بقوله ـ مثلا ـ : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)(٢) ، غاية الأمر أنّ هذا الأمر إنّما يحرّك العامد نحو الصلاة المشتملة على السورة ؛ لالتفاته إلى كونها جزء لها ، ولا ينبعث منه الساهي إلّا بمقدار التفاته ، وهو ما عدا الجزء المنسي ، فمع فرض انحصار الملاك في المركّب التامّ إلى

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٨٣.

(٢) الأسراء : ٧٨.

٤٧٢

حال العمد وثبوت الملاك في المركّب الناقص في حال السهو لا يلزم على المولى أن يوجّه خطابا آخر إلى الناسين ، بل يكفي في الوصول إلى غرضه مجرّد توجيه الأمر بطبيعة الصلاة إلى جميع المكلّفين ، بل نقول بلغويّة الخطاب الآخر بعد كون الخطاب الأوّل وافيا بجميع المقصود.

فإذا ثبت جواز الاكتفاء بأمر واحد متوجّه إلى الجميع مع فرض اشتمال المأتي به لكلّ من العامد والساهي على الملاك والمصلحة ، فنقول : لو شكّ في ذلك وأنّ المركّب الناقص هل يكون تمام المأمور به في حال السهو أم لا ، فيجب الإعادة والإتيان بالمركّب التامّ ، فمرجع ذلك الشكّ إلى الشكّ في كون السورة جزءا في حال النسيان أم لا ، فمع عدم إطلاق دليل جزئيّتها ، كما هو المفروض لا مانع من جريان البراءة في حقّ الساهي ؛ لعين ما ذكر في الأقلّ والأكثر في الأجزاء ، ولا فرق بين المقامين أصلا.

وهناك وجوه أخر في الجواب عن الإشكال الذي ذكره الشيخ رحمه‌الله :

منها : ما حكي عن السيّد الأجل الميرزا الشيرازي رحمه‌الله من عدم كون الغافل مخاطبا بخطاب ومأمورا بأمر ، لا بالمركّب التامّ ولا بالمركّب الناقص ؛ لعدم كونه قادرا على الإتيان بالمركّب التّام مع الغفلة والذهول ، والتكليف مشروط بالقدرة ، وعدم إمكان توجيه خطاب آخر إليه على ما هو المفروض من استحالة تخصيصه بخطاب آخر ، ففي حال الغفلة لا يكون مأمورا بشيء أصلا ، وأمّا بعد زوالها فنشكّ في ثبوت التكليف بالنسبة إليه ، والمرجع عند الشكّ في أصل التكليف هي البراءة.

نعم ، لو لم يأت في حال الغفلة بشيء أصلا فمع ارتفاعها نقطع بثبوت التكليف ، وإنّما الشكّ مع الإتيان بالمركّب الناقص ، كما هو المفروض ؛ إذ معه

٤٧٣

لانقطع بثبوت الاقتضاء والملاك بالنسبة إلى المركّب التّام ؛ لأنّا نحتمل اختصاص جزئيّة الجزء المنسي بحال العمد ، كما لا يخفى.

وهذا الجواب وإن كان تامّا من حيث دفع إشكال الشيخ رحمه‌الله لكن يرد عليه ما عرفت من منع استحالة كون الغافل مأمورا بالمركّب الناقص ؛ إذ لا يلزم في ذلك توجيه خطاب آخر خاصّ به ، بل يكفي فيه مجرّد الأمر بإقامة الصلاة التي هي طبيعة مشتركة بين التامّ والناقص ؛ لأنّه يدعو الذاكر إلى جميع أجزائها والناسي إلى ما عدا الجزء المنسي منها ، كما لا يخفى.

ومنها : ما حكاه المحقّق النائيني رحمه‌الله عن تقريرات بعض الأجلّة لبحث الشيخ رحمه‌الله في مسائل الخلل ، ومحصّله يرجع إلى إمكان أخذ الناسي عنوانا للمكلّف وتكليفه بما عدا الجزء المنسي ؛ لأنّ المانع من ذلك ليس إلّا توهّم كون الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في ذلك الحال ، فلا يمكنه امتثال الأمر المتوجّه إليه ؛ لأنّه فرع الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف (١).

ولكن يمكن أن يقال : بأنّ امتثال الأمر لا يتوقّف على أن يكون المكلّف ملتفتا إلى ما أخذ عنوانا له بخصوصه ، بل يمكن الالتفات إلى ما ينطبق عليه من العنوان ولو كان من باب الخطأ في التطبيق ، فيقصد الأمر المتوجّه إليه بالعنوان الذي يعتقد أنّه واجد له ، وإن أخطأ في اعتقاده ، والناسي للجزء حيث لم يلتفت إلى نسيانه ، بل يرى نفسه ذاكرا فيقصد الأمر المتوجّه إليه بتخيّل أنّه أمر الذاكر ، فيؤول إلى الخطأ في التطبيق ، نظير الأمر بالأداء والقضاء في مكان الآخر.

هذا ، وأجاب عنه المحقّق المتقدّم بما حاصله : أنّه يعتبر في صحّة البعث

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢١١.

٤٧٤

أن يكون قابلا للانبعاث عنه ، بحيث يمكن أن يصير داعيا لانقداح الإرادة وحركة العضلات نحو المأمور به ولو في الجملة ، وأمّا التكليف الذي لا يصلح لأن يصير داعيا ومحرّكا للإرادة في وقت من الأوقات فهو قبيح مستهجن.

ومن المعلوم أنّ التكليف بعنوان الناسي غير قابل لأنّ يصير داعيا لانقداح الإرادة ؛ لأنّ الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في جميع الموارد ، فيلزم أن يكون التكليف بما يكون امتثاله دائما من باب الخطأ في التطبيق ، وهو كما ترى ممّا لا يمكن الالتزام به ، وهذا بخلاف الأمر بالقضاء والأداء ، فإنّ الأمر قابل لأن يصير داعيا ومحرّكا للإرادة بعنوان الأداء أو القضاء ؛ لإمكان الالتفات إلى كونه أداء أو قضاء.

نعم ، قد يتّفق الخطأ في التطبيق ، وأين هذا من التكليف بما يكون امتثاله دائما من باب الخطأ في التطبيق كما في ما نحن فيه ، فقياس المقام بالأمر بالأداء أو القضاء ليس على ما ينبغي (١). انتهى.

هذا ولكن يرد على هذا الجواب : أنّه بعد تسليم كون الباعث والمحرّك للناسي دائما إنّما هو الأمر الواقعي المتعلّق بالناسي لا مجال لما ذكره ؛ لعدم المانع من كون الخطأ في التطبيق أمرا دائميّا ؛ إذ الملاك هو الانبعاث من البعث المتوجّه إليه ، والمفروض تحقّقه ، لعدم كونه منبعثا إلّا عن الأمر الواقعي المتعلّق بخصوص الناسي ، فمع تسليم باعثيّة ذلك الأمر لا موقع لهذا الإشكال.

ويؤيّده أنّ الناسي يرى نفسه متأثّرة عن الأمر الأوّل في مقام الامتثال ؛ لعدم التفاته إلى غفلته ، فيكون وجود أمر الثاني وعدمه على حدّ سواء بعد وصول المولى إلى غرضه من طريق الأمر الأوّل ، فلا احتياج إلى الأمر الثاني.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢١١ ـ ٢١٢.

٤٧٥

وذكر جوابا جيّدا عن الشيخ صاحب الكفاية رحمه‌الله ولكن لا نحتاج إلى ذكره هنا بعد بيان ما هو الحقّ.

ردّ تفصيل المحقّق النائيني بين استيعاب النسيان لجميع الوقت وعدمه

ثمّ إنّه قد مرّت الإشارة إلى أنّ محلّ الكلام في جريان البراءة العقليّة في المقام هو ما إذا لم يكن لشيء من دليلي المركّب والأجزاء إطلاق ، وإلّا فلا مجال لها أصلا ، كما هو واضح ، ومع عدم ثبوت الإطلاق لا فرق في جريانها بين كون النسيان مستوعبا لجميع الوقت أو لم يكن كذلك ، خلافا لما صرّح به المحقّق النائيني رحمه‌الله من التفصيل بين الصورتين حيث إنّه بعد اختيار جريان البراءة قال ما ملخّصه :

إنّ أقصى ما تقتضيه أصالة البراءة هو رفع الجزئيّة في حال النسيان فقط ، ولا تقتضي رفعها في تمام الوقت إلّا مع استيعاب النسيان لتمام الوقت ، فلو تذكّر في أثنائه بمقدار يمكنه إيجاد الطبيعة بتمام ما لها من الأجزاء فأصالة البراءة عن الجزء المنسي في حال النسيان لا تقتضي عدم وجوب الفرد التامّ في ظرف التذكّر ، بل مقتضى إطلاق الأدلّة وجوبه ؛ لأنّ المأمور به هو صرف وجود الطبيعة التامّة الأجزاء والشرائط في مجموع الوقت ، ويكفي في وجوب ذلك التمكّن من إيجادها كذلك ولو في جزء من الوقت ، ولا يعتبر التمكّن من ذلك في جميع الآنات.

والحاصل : أنّ رفع الجزئيّة في حال النسيان لا يلازم رفعها في ظرف التذكّر ؛ لأنّ الشكّ في الأوّل يرجع إلى ثبوت الجزئيّة في حال النسيان ، وفي الثاني يرجع إلى سقوط التكليف بالجزء في حال الذكر ، والأوّل مجرى البراءة ، والثاني مجرى الاشتغال.

٤٧٦

هذا إذا لم يكن ذاكرا في أوّل الوقت ، ثمّ عرض له النسيان في الأثناء ، وإلّا فيجري استصحاب التكليف الثابت عليه في أوّل الوقت ، للشكّ في سقوطه بسبب النسيان الطارئ الزائل في الوقت (١). انتهى.

وفيه : أنّك عرفت أنّ محلّ الكلام هو ما إذا لم يكن للدليل المثبت للجزئيّة إطلاق ، وإلّا فلا مجال لأصالة البراءة العقليّة مطلقا ، ومع عدم الإطلاق ، كما هو المفروض نقول : لا موقع لهذا التفصيل ؛ لأنّ الناسي في حال النسيان لا إشكال في عدم كونه مكلّفا بالمركّب التامّ المشتمل على الجزء المنسي ؛ لعدم كونه قادرا عليه ، بل إمّا أن نقول بعدم كونه مأمورا بالمركّب الناقص أيضا ـ كما حكي عن المحقّق الميرزا الشيرازي رحمه‌الله ـ وإمّا أن نقول بكونه مكلّفا بما عدا الجزء المنسي ، كما حكي عن تقريرات بعض الأجلّة لبحث الشيخ ، وإمّا أن نقول بما أفاده المحقّق الخراساني رحمه‌الله الذي ارتضاه المحقّق النائيني رحمه‌الله (٢) من كون المكلّف به أوّلا في خصوص الذاكر والناسي هو خصوص ما عدا الجزء المنسي ، ويختصّ الذاكر بخطاب يخصّه بالنسبة إلى الجزء المنسي ، وعلى التقادير الثلاثة تجري البراءة مطلقا.

أمّا على التقدير الأوّل فلأنّه بعد الإتيان بالفرد الناقص في حال النسيان يشكّ في أصل ثبوت التكليف ؛ لاحتمال اختصاص اقتضاء الجزء المنسي بحال العمد ، وكذا على التقدير الثاني ، فإنّه بعد الإتيان بما هو المأمور به بالنسبة إليه يشكّ في توجّه الأمر بالمركّب التامّ ، وهو مجرى البراءة ، كما أنّه بناء على التقدير الثالث يشكّ في كونه مشمولا للخطاب الآخر المختصّ بالذاكرين ، والمرجع فيه

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٢١٣ ـ ٢١٤.

٤٧٧

ليس إلّا البراءة.

وبالجملة ، لا مجال للإشكال في سقوط الجزء عن الجزئيّة في حال النسيان ، وبعده يرجع الشكّ إلى الشكّ في توجّه الأمر المتعلّق بالفرد التامّ.

نعم ، قد عرفت أنّه لو لم يأت بالمأمور به أصلا في حال النسيان لا يبقى شكّ في عدم سقوط الأمر ، وهذا واضح ، وأمّا مع الإتيان بالفرد الناقص ـ كما هو المفروض ـ لا يعلم ببقاء الأمر وتوجّهه إليه.

وأمّا ما ذكره من الاستصحاب فيما إذا كان ذاكرا في أول الوقت ثمّ عرض له النسيان ، ففيه أنّه في حال النسيان نقطع بارتفاعه ، ونشكّ بعد الإتيان بالفرد الناقص وزوال النسيان في عوده ، والأصل يقتضي البراءة كما هو واضح.

تتمّة : في ثبوت الإطلاق لدليل الجزء والمركّب

قد عرفت أنّ مركز البحث في جريان البراءة العقليّة هو ما إذا لم يكن للدليل المثبت للجزئيّة إطلاق يقتضي الشمول لحال النسيان أيضا ، وكذا ما إذا لم يكن لدليل المركّب إطلاق يؤخذ به ويحكم بعدم كون المنسي جزءا في حال النسيان ؛ اقتصارا في تقييد إطلاقه بخصوص حال الذّكر. والآن نتكلّم في قيام الدليل وثبوت الإطلاق لشيء من الدليلين وعدمه وإن كان خارجا عن البحث الاصولي ونتيجة إطلاق دليل جزئيّة الجزء هي ركنيّته ، ونتيجة إطلاق دليل المركّب هي عدم ركنيّته ، فعلى الأوّل تكون الصلاة الفاقدة للجزء المنسي باطلة ، وعلى الثاني صحيحة.

وقال المحقّق العراقي في هذا المقام ما ملخّصه : إنّ دعوى ثبوت الإطلاق لدليل المركّب مثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ساقطة عن الاعتبار ؛ لوضوح أنّ مثل هذه الخطابات إنّما كانت مسوقة لبيان مجرّد التشريع بنحو

٤٧٨

الإجمال.

وأمّا الدليل المثبت للجزئيّة فلا يبعد هذه الدعوى فيه ؛ لقوّة ظهوره في الإطلاق من غير فرق بين أن يكون بلسان الوضع كقوله : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (١) ، وبين أن يكون بلسان الأمر ، كقوله : «اركع في الصلاة» ، مثلا.

نعم ، لو كان دليل اعتبار الجزء هو الإجماع يمكن تخصيص الجزئيّة المستفادة منه بحال الذكر ؛ لأنّه القدر المتيقّن ، بخلاف ما لو كان الدليل غيره ، فإنّ إطلاقه مثبت لعموم الجزئيّة لحال النسيان.

لا يقال : إنّ ذلك يتمّ إذا كان الدليل بلسان الوضع ، وأمّا إذا كان بلسان الأمر فلا ؛ لأنّ الجزئيّة حينئذ تتبع الحكم التكليفي ، فإذا كان مختصّا بحكم العقل بحال الذكر فالجزئيّة أيضا تختصّ بحال الذكر.

فإنّه يقال : إنّه لو تمّ ذلك فإنّما هو على فرض ظهور تلك الأوامر في المولويّة النفسيّة أو الغيريّة ، وإلّا فعلى ما هو التحقيق من كونها إرشادا إلى جزئيّة متعلّقاتها فلا يستقيم ذلك ؛ إذ لا يكون حينئذ محذور عقلي.

مع أنّه على فرض المولويّة ولو بدعوى كونها بحسب اللبّ عبارة عن قطعات ذلك الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب غير أنّها صارت مستقلّة في مقام البيان ، نقول : إنّ المنع المزبور إنّما يتّجه لو كان حكم العقل بقبح تكليف الناسي من الأحكام الضروريّة المرتكزة في الأذهان بحيث يكون كالقرينة المختصّة بالكلام مانعا عن انعقاد الظهور ، مع أنّه ممنوع ؛ لأنّه من العقليّات التي لا ينتقل الذهن إليها إلّا بعد الالتفات والتأمّل في المبادئ التي أوجبت حكم العقل ، فيصير حينئذ من القرائن المنفصلة المانعة عن حجّيّة الظهور ، لا عن أصل

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ٥.

٤٧٩

الظهور.

وعليه يمكن إن يقال : إنّ غاية ما يقتضيه الحكم العقلي إنّما هو المنع عن حجّيّة ظهور تلك الأوامر في الإطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفي ، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الوضعي وهو الجزئيّة وإطلاقها لحال النسيان ، فحيث لا قرينة على الخلاف من هذه الجهة يؤخذ بظهورها في ذلك.

وعلى فرض الإغماض عن ذلك أيضا يمكن التمسّك بإطلاق المادّة لدخل الجزء في الملاك والمصلحة حتّى في حال النسيان ، فلا فرق حينئذ في صحّة التمسّك بالإطلاق بين كون الدليل بلسان الحكم التكليفي أو بلسان الوضع (١). انتهى.

وفي جميع الأجوبة الثلاثة التي أجاب بها عن التفصيل الذي ذكره بقوله : «لا يقال» ؛ نظر.

أما الجواب الأوّل الذي يرجع إلى تسليم التفصيل مع ظهور تلك الأوامر في المولويّة وعدم استقامته مع كونها إرشادا إلى جزئيّة متعلّقاتها ، فيرد عليه : أنّ الأوامر الإرشاديّة لا تكون مستعملة في غير ما وضع له هيئة الأمر ، وهو البعث والتحريك إلى طبيعة المادّة ، بحيث كان مدلولها الأوّلي هو جزئيّة المادّة للمركّب المأمور بها في المقام ، فكأنّ قوله : «اسجد في الصلاة» ، عبارة اخرى عن كون السجود جزءا لها ، بل الأوامر الإرشاديّة أيضا تدلّ على البعث والتحريك ، فإنّ قوله : «اسجد في الصلاة» ، معناه الحقيقي هو البعث إلى إيجاد سجدة فيها ، غاية الأمر أنّ المأمور به بهذا الأمر لا يكون مترتّبا عليه غرض نفسي ، بل الغرض من هذا البعث إفهام كون المادّة جزءا ، وأنّ الصلاة

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٢٤.

٤٨٠