دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

طروّ الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام ، بل إنّما تعرض لموضوعاتها ومتعلّقاتها ، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعات الأحكام نظير قوله عليه‌السلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» ، و «لا سهو مع حفظ الإمام».

ويرد عليه : أوّلا : أنّ حديث الرفع لا يختصّ بالفقرات التي ذكرها قدس‌سره ؛ إذ من جملتها فقرة «ما لا يعلمون» ، وهي بناء على شمولها للشبهات الحكميّة ـ كما هو أساس الاستدلال به لقاعدة البراءة ـ تكون ناظرة إلى عقد الحمل ، فتكون حكومته نظير حكومة أدلّة نفي الضرر والحرج.

وثانيا : أنّ الضرر والحرج إنّما يعرضان أوّلا وبالذات على الموضوعات ، فإنّ الصوم والوضوء عند الضرر يكونان ضرريّين وإن لم يكونا محكومين بالوجوب ، وهذا يعني أنّ حكومة دليل نفي الضرر والحرج على الأدلّة الواقعيّة تكون باعتبار عقد الوضع لا عقد الحمل.

وثالثا : أنّ عدم إمكان عروض الخطأ والنسيان على نفس الأحكام من غرائب الكلام ، بداهة أنّهما كما يعرضان على الموضوعات يعرضان على نفس الأحكام أيضا.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني : ففي البحث عن فقرة «ما لا يعلمون» ، وهي محلّ الشاهد في بحث البراءة ، حيث تدلّ على أنّ الإلزام المحتمل من الوجوب أو الحرمة ممّا لا يعلم ، فهو مرفوع عن المكلّف ، وهذا هو معنى البراءة.

ولا شكّ في أنّ الاستدلال بهذا الحديث على البراءة في الشبهات الحكميّة إنّما يتمّ فيما إذا اريد من الموصول خصوص الحكم أو ما يعمّ الحكم والموضوع الخارجي ؛ إذ لو كان المراد من الموصول خصوص الفعل الصادر من المكلّف

٢٤١

في الخارج ـ بمعنى كون الفعل غير معلوم العنوان للمكلّف بأن لا يعلم أنّ شرب هذا المائع مثلا شرب خمر أو شرب خلّ ـ يلزم اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعيّة.

وربما يقال بأنّ المراد من الموصول هو الفعل الخارجي لا غير ، وذلك لامور :

الأوّل : أنّه لا شكّ في أنّ المراد بالموصول في بقية الفقرات هو خصوص الفعل الخارجي ؛ لأنّ الفعل هو الذي يتعلّق به الاضطرار والإكراه وهكذا ، ولا معنى لتعلّقها بالحكم ، فيكون المراد من الموصول في فقرة «ما لا يعلمون» هو الفعل أيضا بشهادة وحدة السياق.

وقد أجيب عن هذا الأمر بجوابين :

الأوّل : ما أفاده المحقّق العراقي قدس‌سره (١) من إنكار أصل وحدة السياق ، حيث إنّ من الفقرات في الحديث : الطيرة والحسد والوسوسة ، ولا يكون المراد منها الفعل ، فمع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوع المشتبه؟!

مضافا إلى أنّ ذلك يقتضي ارتكاب خلاف ظاهر السياق من جهة اخرى ، فإنّ الظاهر من الموصول في «ما لا يعلمون» هو ما كان بنفسه معروض عدم العلم كما في غيره من العناوين الاخرى كالاضطرار والإكراه وغيرهما ، حيث كان الموصول فيها معروضا للأوصاف المزبورة ، فتخصيص الموصول بالشبهات الموضوعيّة ينافي هذا الظهور ؛ إذ لا يكون الفعل فيها بنفسه معروضا للجهل ، وإنّما المعروض له هو عنوانه.

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢١٦.

٢٤٢

وحينئذ يدور الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول في ما لا يعلم على الحكم المشتبه ، وبين حفظه من جهة اخرى بحمله على إرادة الفعل ، ولا ريب في أنّ العرف يرجّح الأوّل ، فيتعيّن الحمل في «ما لا يعلمون» على إرادة الحكم.

وهذا الجواب قابل للمناقشة بكلا شقّيه ، أمّا الشقّ الأوّل فيردّ عليه : بأنّ الفقرات الثلاث من «الطيرة والحسد والوسوسة» أيضا من الأفعال ، إلّا أنّها من الأفعال الجوانحيّة لا الجوارحيّة ، فهذه الفقرات لا تكون قادحة بوحدة السياق.

وأمّا الشقّ الثاني : فأورد عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) وتقرير بيانه : أنّ المجهول في الشبهات الموضوعيّة إنّما هو نفس الفعل أيضا لا عنوانه فقط ، فإنّ الشيء إذا كان بنوعه مجهولا يصحّ أن يقال : إنّ هذا الشيء مجهول ، فإذا علمنا بأنّ هذا مائع ، ولكن لا نعلم أنّه من نوع الخلّ أو من نوع الخمر فيصحّ أن نقول : إنّ شرب هذا المائع مجهول لنا ، فيصحّ إسناد الجهل حقيقة إلى الفعل أيضا.

الجواب الثاني : ما أفاده المحقّق المؤسّس الحائري قدس‌سره (٢) ، وهو : أنّ الموصول في جميع الفقرات قد استعمل في معناه الحقيقي من المفهوم المبهم المرادف للشيء ، ولذا يقال في علم النحو : إنّ الموصول من المبهمات لا يعرف إلّا بصلته ، فمعنى «رفع عن أمّتي ما لا يعلمون» هو رفع عن أمّتي الشيء الذي لا يعلمونه ، غاية الأمر أنّ الشيء الذي هو معنى الموصول في جميع الفقرات لا يعرف إلّا

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ١٥١.

(٢) درر الفوائد ٢ : ٤٤١.

٢٤٣

بصلته ، فإنّ الشيء المضطرّ إليه لا ينطبق خارجا إلّا على الأفعال الخارجيّة ، وهكذا الشيء المكره عليه ، وهذا بخلاف الشيء المجهول فإنّه ينطبق أيضا على الحكم ، ومن الواضح أنّ الاختلاف بين المصاديق إنّما هو بلحاظ عالم الانطباق لا عالم الاستعمال ، وليس الموصول مستعملا في المصاديق حتّى يختلّ نظام وحدة السياق.

ألا ترى أنّه إذا قيل : ما يؤكل وما يرى في قضيّة واحدة لا يوجب انحصار أفراد الأوّل في الخارج ببعض الأفراد تخصيص الثاني أيضا بذلك البعض.

وهذا الجواب متين وصحيح لا إشكال فيه.

الأمر الثاني : أنّه لا إشكال في شمول الحديث للشبهات الموضوعيّة ، وهذا يعني أنّ إرادة الفعل من الموصول في فقرة «ما لا يعلمون» يقيني ، فإذا اريد به الحكم أيضا لزم استعمال الموصول في معنيين ، وهذا النحو من الاستعمال ممتنع كما قال به صاحب الكفايةقدس‌سره (١) ، أو غير جائز.

وفيه : مضافا إلى عدم امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ـ كما مرّ تحقيقه في مباحث الألفاظ ـ أنّ الموصول في الحديث لم يستعمل في الفعل ولا في الحكم ، بل استعمل في معنى واحد ، وهو معناه المبهم المرادف لمفهوم الشيء. نعم ، هذا المفهوم المبهم قد ينطبق على الفعل ، وقد ينطبق على الحكم ، وقد عرفت أنّ تعدّد المصاديق واختلافها لا يوجب تعدّد المعنى المستعمل فيه.

الأمر الثالث : أنّ مفهوم الرفع يقتضي أن يكون متعلّقه أمرا ثقيلا ، خصوصا مع ملاحظة أنّ حديث الرفع قد ورد في مقام الامتنان ، ومن الواضح أنّ الثقيل على المكلّف هو الفعل لا الحكم ؛ إذ الحكم فعل صادر من المولى ، فلا يعقل

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ١٧٤ ـ ١٧٥.

٢٤٤

كونه ثقيلا على المكلّف ، وعليه فلا بدّ من أن يراد من الموصول في جميع الفقرات الفعل لا الحكم.

وفيه : أنّ الثقيل وجود الفعل كما يتصوّر في الشبهات الموضوعيّة الوجوبيّة ، أو عدمه كما يتصوّر في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة ، أو كلاهما ، مع أنّ ثقل الفعل الواجب يكون بلحاظ وجوبه ، ومعلوم أنّ الحكم هو السبب في وقوع المكلّف في المشقّة وكلفة الفعل ، ولذا سمّي الحكم بالتكليف.

الأمر الرابع : أنّ إسناد الرفع إلى الحكم حقيقي وإلى الفعل مجازي كما عرفت ، فإنّ الفعل الاضطراري والإكراهي لا يكون مرفوعا حقيقة ، بعد ما نرى تحقّقه كثيرا ما في الخارج ، فلا محالة يكون إسناد الرفع إلى هذه العناوين مجازيا ، والمصحّح له هو رفع جميع الآثار.

وحينئذ فإذا اريد بالموصول في جميع فقرات الفعل كان الإسناد في الجميع مجازيّا ، وأمّا إذا اريد بالموصول في خصوص فقرة «ما لا يعلمون» الأعمّ من الفعل والحكم ، فلا بدّ من الالتزام بكون الإسناد فيها حقيقة بلحاظ الحكم المجهول ومجازا بلحاظ الفعل المجهول.

وفيه : أن الموصول في عامّة الفقرات قد استعمل في معناه المبهم المرادف لمفهوم الشيء. نعم ، هذا المفهوم المبهم قد ينطبق على الفعل وقد ينطبق على الحكم ، وعليه فليس في الحديث إلّا إسناد مجازي.

ولا تكون المجازيّة في فقرة «ما اكرهوا عليه» بلحاظ انطباقه خارجا على الفعل وانحصار مصداقه فيه ، بل تكون بلحاظ أنّ نفس عنوان «ما اكرهوا عليه» بالمعنى المبهم الموصولي لا يمكن أن تكون مرفوعة حقيقة ، فإنّ معنى رفعه حقيقة أن لا يتحقّق المكره عليه في الخارج أصلا ، فيكون الرفع مجازيّا ،

٢٤٥

والمصحّح لهذا الإسناد هو رفع جميع الآثار.

وعلى هذا لا يكون معنى عموميّة فقرة «ما لا يعلمون» للشبهات الموضوعيّة والحكميّة بحيث يكون المستعمل فيه الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ، بل هو عبارة عن معنى المبهم الموصولي ، وإسناد الرفع إلى نفس هذا العنوان مجازي ، ولا يكون «ما لا يعلمون» بهذا المعنى مرفوعا حقيقة ، فيصحّ الاستدلال بهذه الفقرة في باب البراءة.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني.

وأمّا المقام الثالث : ففي البحث عن الفقرات الاخرى ، والبحث عنها يقع في جهات:

الجهة الأولى : أنّ مقتضى الجمود على ظاهر الحديث هو تعلّق الرفع بنفس الخطأ والنسيان بلحاظ آثارهما لا بما أخطأ وما نسي ، ولكنّ مقتضى التحقيق هو تعلّق الرفع بما أخطئوا وما نسوا ، كما هو الحال في بقية الفقرات من تعلّق الرفع فيها بالموصول ، والدليل على ذلك امور :

الأوّل : ما ذكرناه سابقا في المقام الأوّل من أنّ الحكم الثابت للشيء بالعناوين المذكورة لا يرفع بحديث الرفع ، فلا يرفع وجوب سجدتي السهو المترتّب على نسيان السجدة في الصلاة ، ولا وجوب الدية المترتّب على قتل الخطأ ، فلا بدّ من تعلّق الرفع بما أخطئوا وما نسوا.

الأمر الثاني : ما مرّ في خبر البزنطي من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن امّتي ما اكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما أخطئوا» ، فالتصريح بما أخطئوا يبيّن لنا أنّ المراد من الخطأ والنسيان في حديث الرفع كذلك ؛ لأنّ الأخبار يفسّر بعضها بعضا كما هو واضح.

٢٤٦

الأمر الثالث : استدلال الفقهاء على صحّة الصلاة المنسيّة فيها السجدة أو التشهّد بتطبيق الرفع على السجدة المنسيّة والتشهّد المنسي.

الجهة الثانية : في البحث عن فقرة «ما نسوا» فنقول : إنّ النسيان قد يتعلّق بالجزئيّة والشرطيّة ، فيكون مساوقا لنسيان الحكم الكلّي التكليفي ؛ لأنّ الجزئيّة والشرطيّة من الأحكام الوضعيّة ، وقد يتعلّق بنفس الجزء والشرط مع العلم بحكمهما ، فيكون مساوقا لنسيان الموضوع.

أمّا الأوّل فلا شكّ في صحّة العبادة الفاقدة للجزء أو الشرط ؛ لحديث الرفع ، وذلك لحكومة حديث الرفع على أدلّة الأجزاء والشرائط ، فيختصّ وجوبهما بغير صورة النسيان ، ومع الإتيان بالفاقد لهما يسقط التكليف ويكون مجزيّا ، وذلك لوحدة الأمر وانطباق عنوان المأمور به على الفاقد والواجد معا.

توضيح ذلك : أنّ في مثل الصلاة يوجد أمر واحد قد تعلّق بعنوان الصلاة ، كما في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) ، ومن الواضح أنّه يشترك في هذا الأمر الحاضر والمسافر ، والعالم والجاهل ، والذاكر والناسي ، وهكذا ، وقد دلّت أدلّة الأجزاء والشرائط على جزئيّة امور أو شرطيّتها في الصلاة في جميع تلك الحالات ، فيجب الإتيان بها في أيّ حال من الأحوال ، إلّا أنّه لمّا كان هناك ملاك أقوى عند الجهل والنسيان حكم الشارع برفعها ، فتكون النتيجة عدم وجوب الأجزاء والشرائط عند عروض الجهل والنسيان ، وهذا هو معنى الحكومة.

وأمّا الإجزاء وسقوط التكليف بالمأتي به الفاقد للجزء والشرط فلأنّ الأجزاء والشرائط ليست واجبة بالوجوب الغيري أو الضمني كما هو المشهور ، بل هي واجبة بنفس الوجوب المتعلّق بالكلّ ، أي الصلاة ؛ إذ ليس

٢٤٧

الكلّ إلّا نفس الأجزاء والشرائط ، فالأمر الواحد المتعلّق بالصلاة يدعو إلى كلّ جزء وشرط بنفس دعوته إلى الصلاة بتمامها.

ومن الواضح أنّ عنوان الصلاة مقول بالتشكيك ، فيطلق على الفرد الواجد لهما والفرد الفاقد لهما ، وعليه فإذا دلّ حديث الرفع في ظرف النسيان على سقوط بعض الأجزاء أو الشرائط فستبقى داعوية الأمر إلى الباقي على حالها ، وبامتثال الأمر بعد انطباق عنوان الصلاة على المأتي به يتمّ الامتثال ويسقط الأمر ، وهذا هو معنى الإجزاء.

وأمّا الثاني فلا مانع أيضا من التمسّك بحديث الرفع لتصحيح العبادة ؛ إذ مع تعلّق الرفع بنفس ذات الجزء أو الشرط بما لهما من الآثار يكون المأمور به في حقّ الناسي المركّب الفاقد للجزء والشرط لا الواجد لهما ، ومع الإتيان به يسقط التكليف ويكون مجزيا كما شرحناه.

ومن الواضح أنّ القول بحكومة حديث الرفع على أدلّة الأجزاء والشرائط في خصوص حال نسيان الحكم من الجزئيّة والشرطيّة ، وعدم حكومته عليها في حال نسيان الموضوع من الجزء والشرط تحكّم محض بعد ما كان الرفع متعلّقا بعنوان «ما نسوا» ، وهو يشمل نسيان الحكم والموضوع معا.

لا يقال : إنّه مع نسيان أصل الجزء أو الشرط لا ترتفع جزئيّة الجزء وشرطيّة الشرط بالنسبة إلى المركّب الفاقد لهما ؛ إذ المفروض أنّ المكلّف عالم بالجزئيّة والشرطيّة وإنّما نسي الموضوع ، ولا معنى للرفع مع العلم ، ومع عدم ارتفاع الجزئيّة والشرطيّة لا يكون المركّب الفاقد لهما مصداقا للمأمور به ، ولا يكون امتثاله مسقطا للتكليف ومجزيا عنه.

فإنّه يقال : إنّ مرجع رفع الجزء إلى رفع جميع آثاره الشرعيّة التي منها

٢٤٨

الجزئيّة ، كما أنّ مرجع رفع الشرط إلى رفع شرطيّته بالنسبة إلى المركّب ، كما أنّ الحرمة تكون أثرا شرعيّا مجعولا لشرب الخمر ، وترتفع عمّن شربه نسيانا مع العلم بحرمته ، وعليه فيكون المركّب الفاقد لهما تمام المأمور به ، وبإتيان ما هو تمام المأمور به يسقط الأمر.

لا يقال : إنّه إنّما تصحّ عبادة الناسي ويكون المركّب الفاقد لهما تمام المأمور به في حقّه فيما إذا أمكن تخصيص الناسي بالخطاب ، وأمّا مع عدم إمكانه لانقلاب الناسي ذاكرا فلا يمكن تصحيح عبادته.

لأنّه يقال : إنّ تكليف الناسي بالباقي لا يحتاج إلى خطاب خاصّ حتّى يلزم المحذور من انقلاب الموضوع ، وإنّما يكفي في ذلك الخطاب العامّ من قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ)، فإنّ هذا الأمر الواحد كما يكون باعثا نحو الصلاة للذاكر يكون باعثا للناسي أيضا ، فإنّ الذاكر والناسي إنّما يقصدان بقيامهما وقعودهما امتثال ذلك الأمر الوحداني.

نعم ، غاية الأمر أنّه يلزم على الذاكر إيجاد الطبيعة في ضمن الفرد الكامل المشتمل على تمام الأجزاء والشرائط ، وعلى الناسي إيجادها في ضمن الفرد الناقص الفاقد لهما ، وذلك لرفع جزئيّة الجزء وشرطيّة الشرط في حقّه بحديث الرفع.

فقد تحصّل ممّا ذكرناه صحّة العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط نسيانا بحديث الرفع ، سواء كان المنسي نفس الحكم أو الموضوع.

ولكنّ المحقّق النائيني قدس‌سره (١) ذهب إلى عدم إمكان تصحيح العبادة الفاقدة للجزء أو الشرط بحديث الرفع ، وذلك لوجوه :

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٣٥٣.

٢٤٩

الأوّل : أنّ الرفع إنّما يتوجّه على الموجود فيجعله معدوما ، ويلزمه ترتيب آثار العدم على المرفوع ، ومن الواضح أنّ السورة المنسيّة في الصلاة ـ مثلا ـ لا مجال لورود الرفع عليها ، وذلك لخلوّ صفحة الوجود عنها.

وفيه : أوّلا : أنّ حديث الرفع لا يختصّ بالامور الوجوديّة ، بل يشمل الامور العدميّة أيضا كما مرّ تحقيقه ، مع أنّه ينافي ما ذكره من كون الرفع بمعنى الدفع وعدم الفرق بينهما.

وثانيا : أنّ متعلّق الرفع على ما ذكرناه هو «ما نسوا» ، أي الجزء المنسي بما له من الآثار ، وهو أمر وجودي ، وليس متعلّق الرفع ترك الجزء حتّى يكون أمرا عدميّا.

الوجه الثاني : أنّ الأثر المترتّب على السورة هو الإجزاء وصحّة العبادة ، وهما ليسا من الآثار الشرعيّة التي تقبل الوضع والرفع ، بل هما من الآثار العقليّة.

وفيه : صحيح أنّ الإجزاء والصحّة من الآثار العقليّة إلّا أنّ الأثر المترتّب على الجزء والشرط إنّما هو الجزئيّة والشرطيّة ، وهي ممّا تنالها يد الجعل نفيا وإثباتا باعتبار منشأ انتزاعها.

الوجه الثالث : أنّ رفع السورة بلحاظ الصحّة والإجزاء يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة ، وهذا ينافي الامتنان وينتج عكس المقصود ، فإنّ المقصود من التمسّك بحديث الرفع تصحيح العبادة لا إفسادها.

وفيه : أنّ التمسّك بحديث الرفع لا ينتج عكس المقصود ، بعد ما عرفت من أنّ ما هو متعلّق الرفع هو نفس الجزء والشرط بما لهما من الآثار التي منها الجزئيّة والشرطيّة ، ومرجع رفعهما إلى أنّ تمام المأمور به في حقّ الناسي هو

٢٥٠

المركّب الفاقد لهما ، وبإتيانه يتمّ الإجزاء ويسقط التكليف وتكون العبادة صحيحة.

الوجه الرابع : لا شكّ في أنّ ترك الركن نسيانا يوجب بطلان الصلاة ، فلو كان المدرك في صحّة الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط نسيانا حديث الرفع كان اللازم صحّة الصلاة بمجرّد نسيان الجزء أو الشرط مطلقا ، من غير فرق بين الأركان وغيرها.

وفيه : أنّ حديث الرفع من الأدلّة القابلة للتخصيص والتقييد ، فيقيّد إطلاقه للأركان بمثل حديث «لا تعاد».

الوجه الخامس : أنّه لم يعهد من فقهائنا التمسّك بحديث الرفع لصحّة الصلاة ولا غيرها من سائر المركّبات.

وفيه : أنّ من الواضح تمسّك جماعة منهم به في مواضع عديدة ، فراجع كلمات الشيخ الأعظم الأنصاري والمحقّق والعلّامة قدس‌سره.

الجهة الثالثة : في البحث عن فقرة «ما اكرهوا عليه» : فاعلم أنّه قد يكون مورد الإكراه التكاليف الاستقلاليّة من الواجبات والمحرّمات ، وقد يكون مورده التكاليف الضمنيّة من الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ، فإذا تعلّق الإكراه بإتيان حرام نفسي أو ترك واجب كذلك فلا إشكال في ارتفاع الحرمة بالإكراه عن الفرد المحرّم المكره عليه ، وارتفاع مبغوضيّة ترك الواجب ، بناء على الملازمة العرفيّة بين الأمر بالشيء ومبغوضيّة تركه.

ولكنّ المحقّق العراقي قدس‌سره (١) ذهب إلى عدم جريان فقرة «ما اكرهوا» في التكاليف من الواجبات والمحرّمات ، بدعوى أنّ الإكراه على الشيء يصدق

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٢٤.

٢٥١

بمجرّد عدم الرضا وعدم طيب النفس بإيجاده ، ومن الواضح عدم كفاية ذلك في تسويغ ترك الواجبات ما لم ينته إلى المشقّة الموجبة للعسر والحرج ، فضلا عن الاقتحام في ارتكاب المحرّمات التي لا يسوغها إلّا الاضطرار ، ومن هنا لم يلتزم أحد بجواز ترك الواجب بمطلق الإكراه عليه ولو لم يبلغ إلى حدّ الحرج. نعم ، لو بلغ الإكراه إلى حدّ الحرج جاز ذلك ، ولكنّه حينئذ من جهة الحرج لا الإكراه.

وفيه : أوّلا : أنّ عنوان «ما أكرهوا» يجري في التكاليف من الواجبات والمحرّمات ، وله شواهد كثيرة في الروايات والفتاوى : منها : إفتاؤهم بالعفو للزوجة المكرهة على الجماع من قبل الزوج في شهر رمضان ، ومنها : افتاؤهم في حقّ المرأة المكرهة على الزنا من أنّه لا شيء عليها ؛ للإكراه ، ومنها : ما ورد في بعض الروايات من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن أمّتي ما اكرهوا عليه» إشارة إلى قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(١) التي نزلت في شأن عمّار بن ياسر ، ومن الواضح أنّ ما صدر من عمّار من التبرّي من الله ورسوله كان حراما تكليفيّا قد ارتفع بالإكراه.

وثانيا : أنّ التفصيل بين فعل المحرّمات وترك الواجبات من حيث دخول الأوّل تحت عنوان «ما اضطرّوا إليه» ودخول الثاني تحت عنوان «ما اكرهوا عليه» بشرط كون متعلّق الإكراه حرجيّا لا دليل عليه.

على أنّ الإكراه الشديد لأجل التوعيد بأمر لا تتحمّله طاقة الإنسان عادة لا يوجب كون متعلّق الإكراه حرجيّا ، فمثلا : لو اكره شخص على ترك الواجب وتوعّد بالضرب الشديد فيما فعله ، فإنّ متعلّق الإكراه حينئذ هو ترك الواجب

__________________

(١) النحل : ١٠٦.

٢٥٢

ولكنّه ليس حرجيّا ، بل الضرر المتوعّد به حرجي ، إلّا أنّ ذلك لا يوجب اتّصاف متعلّق الإكراه بالحرجيّة ، ولا يرتبط بقاعدة لا حرج ، فإنّ موردها فيما إذا كان التكليف حرجيّا ، وجوبيّا كان أو تحريميّا.

فالظاهر أنّ عنوان «ما اكرهوا عليه» يشمل فعل المحرّمات وترك الواجبات ، إلّا أنّ للواجبات والمحرّمات مراتب من حيث الأهمّية والشدّة والضعف ، ولذا يعبّر عن بعض المعاصي بالصغيرة ، وعن بعضها الآخر بالكبيرة ، وعن بعضها الآخر بأكبر الكبائر ، ونلاحظ في باب التقيّة أوّلا بيان موردها كقولهم عليهم‌السلام : «التقيّة في كلّ شيء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له». (١)

ثمّ يستفاد تقييدها بقولهم عليهم‌السلام : «إنّما شرّعت التقيّة ليحقن بها الدماء ، فإذا بلغت الدّم فلا تقيّة» (٢).

فيستفاد من هذه الروايات ـ بل مع قطع النظر عنها ـ أنّ الإكراه لا يكون مجوّزا لقتل نفس محترمة وإن كان التوعيد بقتل نفس المكره ، ومن هنا تستفاد قاعدة كلّية ، وهي أنّ مع شمول حديث الرفع لترك الواجبات وفعل المحرّمات لا بدّ من ملاحظة ترك الواجب وفعل الحرام المكره عليهما من حيث الرتبة والأهمّيّة ، فإنّ الإكراه لا يكون مجوّزا للزنا بذات البعل أو لقتل النفس المحترمة ، أو لشرب الخمر في الملأ العام لمن يكون فعله معيارا للمجتمع الإسلامي ، وأمثال ذلك ، وهكذا في الاضطرار ، فإنّ الاضطرار إلى الزواج لا يكون سببا لعدم اعتبار إذن وليّ المرأة ورضايتها ، وهكذا في حديث نفي الحرج.

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٢١٤ ، الباب ٢٥ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ١٦ : ٢٣٤ ، الباب ٣١ من أبواب الأمر والنهي ، الحديث ١.

٢٥٣

وأمّا إذا تعلّق الإكراه بإيجاد المانع كما لو اكره على لبس الثوب النجس في الصلاة فلا إشكال في صحّة الصلاة لرفع ما هو أثر شرعيّ للمانع ، أي المانعيّة بالحديث.

وأمّا إذا تعلّق بترك الجزء أو ترك الشرط فقد يقال : بصحّة التمسّك بالحديث لرفع الجزئيّة والشرطيّة ، فتكون العبادة صحيحة.

والصحيح خلاف ذلك ؛ إذ ليس للترك بما هو ترك أثر شرعي كي يكون الرفع بلحاظه ، وأمّا وجوب الإعادة فليس أثرا شرعيّا للترك وإنّما هو أثر عقليّ يدركه عند عدم انطباق المأمور به على المأتي به ، ومن الواضح أنّ الجزئيّة والشرطيّة ليستا من آثار ترك الجزء وترك الشرط حتّى يكون الرفع عند الإكراه على تركهما بلحاظها ، وإنّما هي من آثار نفس الجزء والشرط ، والمفروض عدم تعلّق الإكراه بهما.

ومن هنا يتّضح الفرق بين ما نحن فيه وبين نسيان الجزء والشرط ، فإنّ متعلّق الإكراه هو تركهما ، ولا يوجد أثر شرعي للترك كي يتمّ الرفع بلحاظه ، وأمّا متعلّق النسيان فهو نفس الجزء والشرط بما لهما من الآثار الشرعيّة من الجزئيّة والشرطيّة.

والحاصل : أنّه لا بدّ من التماس دليل آخر لتصحيح العبادة فيما نحن فيه كحديث لا تعاد ، ولا فرق فيما ذكرناه من الأحكام بين الإكراه والاضطرار.

هذا كلّه في البحث عن النسيان والإكراه والاضطرار بلحاظ الأحكام التكليفيّة.

الجهة الرابعة : في البحث عن الفقرات الثلاث بلحظ الأحكام الوضعيّة ، والكلام فيها يقع في مرحلتين : الاولى : في الأسباب ، والثانية في المسبّبات :

٢٥٤

أمّا في المرحلة الاولى فالصحيح أنّ البيع الإكراهي لا يكون مؤثّرا في التمليك والتملّك استنادا إلى حديث الرفع ، وهكذا في البيع النسياني ، بخلاف البيع الاضطراري فإنّ الحكم ببطلانه خلاف الامتنان ، فلا بدّ من الحكم بصحّته.

ولكنّ المحقّق النائيني قدس‌سره (١) ذهب إلى أنّ وقوع النسيان أو الإكراه أو الاضطرار في الأسباب لا يقتضي تأثيرها في المسبّب ، ولا تندرج في حديث الرفع ؛ لما تقدّم في باب الأجزاء والشرائط من أنّ حديث الرفع لا يتكفّل تنزيل الفاقد منزلة الواجد ولا يثبت أمرا لم يكن ، فلو اضطرّ إلى إيقاع العقد بالفارسيّة أو اكره عليه أو نسي العربيّة كان العقد باطلا ، بناء على اشتراط العربيّة في العقد ، فإنّ رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي ، وليس للعقد الفارسي أثر يصحّ رفعه بلحاظ رفع أثره ، وشرطيّة العربيّة ليست هي المنسيّة حتّى يكون الرفع بلحاظ رفع الشرطيّة.

أقول : أمّا بالنسبة إلى نسيان السبب فالصحيح هو التفصيل بين ما إذا تعلّق بأصل السبب ، أو ما يعدّ أمرا مقوّما للعقد عرفا ، وبين ما إذا تعلّق بشرط من الشرائط الشرعيّة التي لا تعدّ عرفا مقوّما للعقد كما في اشتراط العربيّة مثلا ، أو بشرط عقلائي كذلك كما في اشتراط تقدّم الإيجاب على القبول ، فإنّه في الصورة الاولى لا إشكال في بطلان المعاملة وعدم إمكان تصحيحها بحديث الرفع ؛ إذ لا عقد هناك أصلا حتّى يتّصف بالصحّة بإجراء حديث الرفع ، وأمّا في الصورة الثانية فلا إشكال في تصحيح العقد بحديث الرفع ؛ إذ أصل العقد محقّق عرفا غير أنّه فاقد لشرط من الشروط الشرعيّة أو العقلائيّة غير

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٣٦٥ ـ ٣٥٧.

٢٥٥

الدخيلة في قوام العقد وماهيّته ، وبما أنّ حديث الرفع حاكم على أدلّة الشرائط ، فترتفع شرطيّة الشرط مع النسيان ويكون العقد صحيحا.

لا يقال : إنّ رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي ، فكيف يحكم بصحّة العقد؟

لأنّا نقول : إنّ النسيان لم يتعلّق بالعقد الفارسي حتّى يكون مرفوعا ، وإنّما تعلّق بالشرط ، أعني كون العقد عربيّا ، وقد قلنا مرارا : إنّ معنى رفع الشرط رفع شرطيّته والاكتفاء بالعقد الفاقد له.

وأمّا بالنسبة إلى الإكراه فالصحيح أيضا هو التفصيل بين ما إذا تعلّق الإكراه بترك إيجاد السبب أو ترك الجزء والشرط ، فيحكم ببطلان المعاملة ؛ إذ لا عقد هناك في الأوّل حتّى يتّصف بالصحّة ، وأنّ ترك الجزء والشرط بما هو ليس موضوعا للأثر حتّى يتمّ الرفع بلحاظه في الثاني ، وبين ما إذا تعلّق بإيجاد المانع فيحكم بصحّة المعاملة ؛ إذ يصحّ التمسّك بحديث الرفع لرفع مانعيّة المانع في حال الإكراه. وهكذا الحكم في باب الاضطرار.

وأمّا في المرحلة الثانية فذهب المحقّق النائيني قدس‌سره (١) إلى أنّ المسبّبات على قسمين : فإنّها تارة تكون من الامور الاعتباريّة التي ليس لها ما بحذاء في وعاء العين ، بل وعائها وعاء الاعتبار ، كالملكيّة والزوجيّة والرقّية ونحو ذلك من الوضعيّات الاعتباريّة التي أمضاها الشارع ، واخرى تكون من الامور الواقعيّة التي كشف عنها الشارع كالطهارة والنجاسة الخبثيّة على احتمال.

وأمّا القسم الأوّل فهو بنفسه ممّا تناله يد الوضع والرفع التشريعي على ما هو الحقّ عندنا من أنّ هذا القسم من الأحكام الوضعيّة يستقلّ بالجعل وليس

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٣٥٧ ـ ٣٥٩.

٢٥٦

منتزعا من الأحكام التكليفيّة ، فلو فرض أنّه أمكن أن يقع المسبّب عن إكراه ونحوه كان للتمسّك بحديث الرفع مجال ، فينزّل المسبّب منزلة العدم وكأنّه لم يقع ، ويلزمه عدم ترتيب الآثار المترتّبة على المسبّب من حلّيّة الأكل وجواز التصرّف في باب العقود والإيقاعات.

وأمّا القسم الثاني فهو ممّا لا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ؛ لأنّه من الامور التكوينيّة ، وهي تدور مدار وجودها التكويني متى تحقّقت ووجدت لا تقبل الرفع التشريعي ، بل رفعها لا بدّ وأن يكون من سنخ وضعها تكوينا.

نعم ، يصحّ أن يتعلّق الرفع التشريعي بها بلحاظ ما رتّب عليها من الآثار الشرعيّة.

ولا يتوهّم أنّ لازم ذلك عدم وجوب الغسل على من اكره على الجنابة ، أو عدم وجوب التطهير على من أكره على النجاسة ، بدعوى أنّ الجنابة المكره عليها وإن لم تقبل الرفع التشريعي إلّا أنّها باعتبار ما لها من الأثر ـ وهو الغسل ـ قابلة للرفع ، فإنّ الغسل والتطهير أمران وجوديّان قد أمر الشارع بهما عقيب الجنابة والنجاسة مطلقا ، من غير فرق بين الجنابة والنجاسة الاختياريّة وغير الاختياريّة.

وفيه : أوّلا : أنّ إطلاق دليل الأمر بالغسل عقيب الجنابة ، وهكذا إطلاق دليل الأمر بالتطهير عقيب النجاسة ليس مانعا عن تعلّق الرفع بهما في صورة الإكراه ؛ إذ المقصود حكومة حديث الرفع على إطلاقات الأدلّة الأوّليّة ، وهذا يعني كون الإطلاقات فيها مصحّحة للحكومة لا مانعة عنها.

وثانيا : أنّه لا بدّ أن يقال في دفع التوهّم : إنّه لا دليل على ثبوت حكم تكليفي في الشريعة من وجوب الغسل أو التطهير عقيب الجنابة والنجاسة

٢٥٧

مطلقا ، بل الموجود هو قيام الدليل على شرطيّة الطهارة من الحدث والخبث في صحّة ، وهي أثر عدم الجنابة ، والمرفوع بالحديث أثر الجنابة الإكراهيّة ، ولا أثر لها حتّى يرفع به ، وقد حقّقنا في محلّه من عدم اتّصاف مقدّمة الواجب بالوجوب الغيري ، وعليه فلا وجوب شرعا للغسل والتطهير عقيب الجنابة والنجاسة ولو غيريّا حتّى يكون الرفع بلحاظه. هذا تمام الكلام في بيان حديث الرفع.

الرواية الثانية : ما رواه الشيخ الصدوق قدس‌سره مرسلا ، قال : قال الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (١).

ولا يضرّ إرسالها بعد نسبة الشيخ الصدوق قدس‌سره إلى الإمام عليه‌السلام بلفظ قال.

والبحث فيها يقع في جهات :

الجهة الأولى : في الاحتمالات الواردة في الحديث ثبوتا ، فنقول : هناك نقاط ثلاث لا بدّ من بحثها :

الاولى : في لفظة «مطلق» فإنّ فيها احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يكون المراد منه الإباحة الشرعيّة الواقعيّة المجعولة للأشياء بعناوينها الأوّلية.

الثاني : الإباحة الشرعيّة الظاهريّة المجعولة للأشياء بعناوينها الثانويّة.

الثالث : الإباحة العقليّة الأصليّة في الأشياء قبل ورود الشرع في مقابل الحظر العقلي.

ومن الواضح أنّ الاستدلال بالحديث على البراءة إنّما يتمّ بناء على الاحتمال الثاني ؛ إذ البراءة هي الإباحة الظاهريّة لا الواقعيّة ، وأمّا الإباحة العقليّة

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٧.

٢٥٨

فيشكل إثباتها بالحديث ؛ لعدم صحّة التعبّد في الأحكام العقليّة.

النقطة الثانية : في لفظة «يرد» ، وفيها احتمالان :

الأوّل : أن يكون المراد منها صدور الحكم من المولى وجعله له ، فيكون مفاد الرواية : كلّ شيء لم يصدر فيه نهي ولم تجعل فيه الحرمة فهو مطلق.

الثاني : أن يكون المراد منها وصول الحكم إلى المكلّف وعلمه به لا مجرّد صدوره من الشارع وإن لم يصل إلى المكلّف ، فيكون مفاد الرواية : كلّ شيء لم يصل إلى المكلّف فيه نهي من الشارع فهو مطلق وإن صدر فيه نهي من الشارع.

ومن المعلوم أنّ الاستدلال بالرواية إنّما يتمّ بناء على الاحتمال الثاني دون الأوّل ؛ إذ ما لا نهي فيه رأسا لا كلام في أنّه لا عقوبة على ارتكابه ، ولا يقول الأخباري بالاحتياط فيه.

النقطة الثالثة : في لفظة «نهي» ، وفيها احتمالان :

الأوّل : أن يكون المراد منها النهي الواقعي المتعلّق بالشيء بعنوانه الأوّلي.

الثاني : أن يكون المراد منها مطلق النهي المتعلّق بالشيء ولو من حيث كونه مجهول الحكم.

ومن الواضح أنّه على الاحتمال الأوّل تكون البراءة المستفادة من الرواية معارضة لأدلّة وجوب الاحتياط على تقدير تماميّتها ، وعلى الثاني تكون أدلّة الاحتياط واردة عليها.

الجهة الثانية : في حكم هذه الاحتمالات من حيث الإمكان والامتناع ، وقد ذهب المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) إلى امتناع صورتين من هذه الاحتمالات : الاولى :

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٨٧.

٢٥٩

أن يكون المراد من المطلق الإباحة الشرعيّة الواقعيّة مع إرادة الصدور من الورود. الثانية : أن يكون المراد من المطلق الإباحة الشرعيّة الظاهريّة مع إرادة الصدور من الورود.

أمّا الصورة الاولى فلأنّ المفروض لا اقتضائيّة للموضوع في مورد الإباحة الواقعيّة بالنسبة للمصلحة والمفسدة ، وذلك ينافي فرض اقتضائيّته للمفسدة الداعية إلى تشريع الحرمة.

لا يقال : عدم اقتضائيّته إنّما هي من حيث ذاته ، وذلك لا ينافي اقتضائيّته للمفسدة بعنوان ثانوي يستدعي الحرمة.

فإنّه يقال : ظاهر الرواية هو وحدة متعلّقي الإباحة والنهي عنوانا ، فالماء الذي بعنوانه صار مباحا هو بهذا العنوان يتعلّق به النهي ، لا بعنوان آخر ينطبق عليه بحيث يكون موضوع النهي ذلك العنوان كالغصب مثلا.

وأمّا إذا اريد بورود النهي تحديد الموضوع وتقييده فلا يصحّ أيضا ، سواء كان بنحو المعرّفيّة والمشيريّة ، بأن يكون المقصود أنّ الموضوع الذي لم يرد فيه نهي مباح ، والموضوع الذي ورد فيه نهي ليس مباحا ، أم كان بنحو تقيّد أحد الضدّين بعدم الضدّ الآخر حدوثا أو بقاء ؛ إذ على الأوّل يلزم حمل الخبر على ما هو كالبديهي الذي لا يناسب شأن الإمام عليه‌السلام وعلى الثاني يلزم مقدّميّة عدم أحد الضدّين للضدّ الآخر ، وقد أثبتنا استحالة ذلك في مبحث الضدّ.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ الأحكام الشرعيّة وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد ، ولكن ليس من الضروري أن تكون تلك المصالح والمفاسد كامنة في نفس الموضوعات حتّى يكون الاقتضاء واللااقتضاء راجعا إليها دائما ، فإنّ الجهات الخارجيّة والعوامل الاجتماعيّة لها مدخليّة تامّة في التشريعات الإسلاميّة ،

٢٦٠