دراسات في الأصول - ج ٣

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-94-1
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٥٤٣

الأمر المعلوم له ، ويجمع بين صلاتي الظهر والجمعة رعاية لتحقّق المأمور به ، فلا فرق بالوجدان في الانبعاث عن البعث المعلوم بين العلم التفصيلي والإجمالي.

التقريب الثاني : أنّ مراتب الامتثال والإطاعة عند العقل أربعة :

الاولى : الامتثال التفصيلي ، سواء كان بالعلم الوجداني أو بالطرق والأمارات والاصول المحرزة التي تقوم مقام العلم ، مثل : إثبات وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة من طريق العلم أو بدلالة الخبر الواحد عليه أو من طريق الاستصحاب.

المرتبة الثانية : الامتثال العلمي الإجمالي كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

المرتبة الثالثة : الامتثال الظنّي ـ أي الظنّ الذي لم يقم الدليل على حجّيّته ـ مثل : أن يكون الراجح عند المكلّف في يوم الجمعة وجوب صلاة الجمعة ، مع عدم تمكّنه من تحصيل الحكم الواقعي ، وعدم تمكّنه من الجمع بين صلاتي الظهر والجمعة ، والإتيان بصلاة الجمعة على هذا يكون امتثالا ظنيّا غير معتبر.

المرتبة الرابعة : الامتثال الاحتمالي ، كما في الشبهات البدويّة أو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي عند تعذّر الامتثال الإجمالي أو الظنّي أو اختيار طرف مخالف الظنّ ، مثل : أن يكون الراجح عنده صلاة الجمعة ولكنّه أتى بصلاة الظهر حين الامتثال.

ثمّ قال : ولا إشكال في أنّه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلّا بعد تعذّر الامتثال الظنّي ، ولا تصل النوبة إلى الامتثال الظنّي إلّا بعد تعذّر الامتثال الإجمالي.

١٠١

إنّما الإشكال في المرتبتين الأوليين ، فقيل : إنّهما في عرض واحد ، وقيل بتقديم رتبة الامتثال التفصيلي مع الإمكان من الامتثال الإجمالي ، وعلى ذلك يبتني بطلان عبادة تاركي طريق الاجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط ، وهذا هو الأقوى.

وقد عرفت جوابه ممّا ذكرناه من أنّ العقل لا يحكم إلّا بلزوم الإطاعة ، وهي لا تكون إلّا إتيان المأمور به بجميع أجزائه وشرائطه وخصوصيّاته ، ومعه يسقط التكليف ، فلا صحّة لهذه الطوليّة بحكم العقل.

الأمر السادس : أنّ الاحتياط المستلزم للتكرار يعدّ عند العقلاء لعبا وعبثا بأمر المولى ، وما كان هذا حاله لا يصدق عليه الامتثال والطاعة.

وفيه : أوّلا : أنّ التكرار في العمل لا يعدّ لعبا وعبثا عند تعلّق الغرض العقلائي به ، كما إذا توقّف تحصيل العلم والامتثال التفصيلي على مشقّة كالمشي إلى مكان بعيد للسؤال عمّن يقلّده ، أو ملاحظة كتب متعدّدة للاستنباط ، مع أنّ استنباط الحكم من الأدلّة لا يوجب القطع به بحسب الواقع ، فيمكن أن يتحقّق الاحتياط بعد الاجتهاد.

وثانيا : أنّ اللعب على تقدير تسليمه لا يمنع من الحكم بصحّة الامتثال الإجمالي وكفايته ، وذلك لأنّ اللّعب إنّما هو في طريق إحراز الامتثال لا في نفس الامتثال ؛ إذ الإتيان بما هو مصداق للمأمور به ليس لعبا ، وإنّما اللّعب هو الإتيان بما ليس بمأمور به ، أو أنّ اللّعب لا يرتبط بأمر المولى بل يرتبط بالإطاعة ، ولا يلزم أن تكون جميع مراحل الإطاعة بدواعي إلهيّة ، مثل : اختيار الماء البارد للوضوء ، أو المكان البارد للصلاة في فصل الحرارة ، ونحو ذلك. هذا تمام الكلام في أحكام القطع.

١٠٢

مباحث الظنّ

هل يمكن للشارع جعل المظنّة أو الظنّ الخاصّ حجّة أم لا؟ أو أنّ التعبّد بالظنّ مستلزم للاستحالة وقوعا أم لا مع عدم استحالته في نفسه؟ والمسألة اختلافيّة ، والمشهور قائل بإمكانه ، وابن قبة وتابعيه يقولون بامتناعه ، واستدلّ المشهور على ذلك بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد بالظنّ محال ذاتي أو عرضي.

وأشكل على هذا التقريب الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) بأنّ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة ، وعلمه بانتفاء الجهات المقبّحة في التعبّد بالظنّ ، وهو غير حاصل فيما نحن فيه ، فالأولى أن يقرّر دليل الإمكان هكذا : إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان.

وأورد عليه صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) بامور :

الأوّل : عدم ثبوت سيرة العقلاء على ترتيب آثار الإمكان عند الشكّ في إمكان شيء وامتناعه ، والإمكان في كلام الشيخ الرئيس قدس‌سره «كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان» يكون بمعنى الاحتمال ، لا في مقابل

__________________

(١) الرسائل : ٢٤.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٤٣.

١٠٣

الامتناع ، ولا يرتبط بما نحن فيه.

الأمر الثاني : أنّ على تقدير ثبوت السيرة لا حجّيّة لها ؛ لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها ، والظنّ باعتبارها لو كان لا يفيد ، فإنّ الكلام في اعتباره ، ولا يمكن إثبات حجّيّة الظنّ بالظنّ بالحجّيّة.

الأمر الثالث : أنّه لا يترتّب على هذا النزاع ثمرة عمليّة ، فإنّ على فرض إثبات إمكان التعبّد بالظنّ وقوعا لا يكون ملازما لوقوعه في الخارج ، فيحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل مستقلّ. نعم ، مع قيام الدليل على وقوعه لا حاجة إلى إثبات إمكانه ؛ لأنّ الدليل القائم على وقوعه دليل على إمكانه ، حيث يستكشف منه عدم ترتّب تال فاسد عليه.

وأضاف المحقّق النائيني قدس‌سره (١) إشكالا آخر على صاحب الكفاية قدس‌سره حاصله : أنّ الإمكان المبحوث عنه في المقام إنّما هو الإمكان التشريعي ، حيث يبحث عن أنّ التعبّد بالأمارات هل يستلزم محذورا في عالم التشريع من اجتماع الحكمين أو تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة أو غير ذلك من التوالي الفاسدة ، أو لا يستلزم شيئا من ذلك؟ ومورد ثبوت بناء العقلاء على إمكان الشيء عند عدم وجدان ما يوجب استحالته على فرض تسليمه إنّما هو الإمكان التكويني دون التشريعي.

ولكنّه ليس بتام ، فإنّ الإمكان التشريعي لا يكون في مقابل الإمكان الذاتي والإمكان الوقوعي وقسيما لهما ، بل يكون مصداقا للإمكان الوقوعي ، كما أنّ الإمكان التكويني يكون مصداقا له ، إلّا أنّ دائرة الاستحالة في الشرع تكون أوسع من التكوين ؛ لدوران الاستحالة في التكوينيّات مدار اجتماع النقيضين

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٨٨.

١٠٤

والضدّين والمثلين ، بخلاف الشرع فإنّ تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ونحو ذلك من الأعمال القبيحة يمتنع أن يصدر عن الحكيم على الإطلاق شرعا ، مع أنّها ممكنة تكوينا.

والتحقيق : أنّه لا يترتّب على البحث عن الإمكان وعدمه ثمرة عمليّة ، كما ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره فلا نحتاج إليه ، والمهمّ هنا إبطال ما استدلّ به القائل بالامتناع ، فإن لم يكن صالحا لإثبات الاستحالة صارت الاستحالة مورد الشكّ والترديد ، فتصل النوبة إلى البحث في أنّه هل قام دليل قطعي على التعبّد بالأمارات الظنّية كلّها أو بعضها ، أو لا؟ وعلى فرض قيامه يدلّ بالمطابقة على حجّيّة الخبر الواحد ـ مثلا ـ وبالالتزام على إمكان التعبّد بالظنّ وقوعا.

فلا بدّ لنا من ملاحظة أدلّة القائلين بالاستحالة ، واستدلّ لها ابن قبة بوجهين :

الأوّل : أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لجاز التعبّد به في الإخبار عن الله تعالى ، والتالي باطل إجماعا فالمقدّم مثله.

وعدم تعرّضه لأخبار الأئمّة عليهم‌السلام واكتفائه بأخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط لعلّه كان لكونه من علماء أهل السنّة ، والمراد من الخبر الواحد في الدليل هو ما كان متضمّنا لبيان الحكم الفرعي ، لا ما هو متضمّن لبيان المسائل الاعتقاديّة ؛ إذ لا أثر للظنّ فيها كما أشار إليه في قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(١) ، وهذا يرتبط بالاعتقادات وسياقه آب عن التخصيص.

ولكنّ التحقيق أنّ هذا الدليل ليس بتام ، فإنّ الإخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سواء كان مع الواسطة أو بلا واسطة ـ يكون عن حسّ ويقول المخبر في مقام

__________________

(١) يونس : ٣٦.

١٠٥

الإخبار : رأيت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل كذا ، أو سمعت أنّه قال كذا ، أو يقول : رأى فلان أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل كذا ، أو سمع فلان أنّه قال كذا.

وأمّا الإخبار عن الله تعالى فإمّا أن يكون بوساطة جبرئيل عليه‌السلام والمفروض أنّ الوحي منقطع وخاتميّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله محرزة ، وإمّا أن يكون بالاستماع من شجرة ونحو ذلك مثلا ، وهو مختصّ بالأنبياء ، فالملازمة في القضيّة الشرطيّة المذكورة محلّ إشكال.

وعلى فرض قبول الملازمة إن كان المراد من بطلان التالي عدم إمكان الإخبار عن الله تعالى واستحالته عقلا فلا معنى لأن يكون الإجماع دليلا عليه ؛ لعدم صحّة التمسّك بالإجماع في المسائل العقليّة ، وإن كان المراد منه عدم وقوع الإخبار عن الله تعالى فهو خارج عن محلّ البحث ومغاير لمدّعاه.

ومع غض النظر عمّا ذكرناه يكون الإجماع لمدّعيه إجماعا محصّلا ولكنّه لنا منقول ، وهو على فرض كونه حجّة يكون اعتباره بعنوان شعبة من الخبر الواحد ، فاتّصافه بالحجّيّة يكون بعنوان كونه خبرا واحدا ، فكيف يمكن إثبات استحالة التعبّد بخبر الواحد بنفس الخبر الواحد؟! فهذا الدليل ليس تامّا.

الوجه الثاني : أنّ العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ؛ إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحلّيّته حراما وبالعكس.

وهذا الدليل على فرض تماميّته لا يختصّ بالخبر الواحد بل يجري في مطلق الأمارات الظنّيّة ، خلافا للدليل الأوّل حيث إنّه يختصّ بالخبر الواحد.

ولكن لأهميّة هذا الدليل لا بدّ من توضيحه وتكميله ، فإنّ المحذورات المحتملة في المقام أربعة :

الأوّل : ما يرتبط بنفس الخطاب ، وهو محذور اجتماع المثلين في صورة

١٠٦

مطابقة الأمارة للحكم الواقعي ، أو الضدّين في صورة مخالفتها له ، حيث إنّ جعل الحجّيّة للأمارة يكون بمعنى جعل الحكم على طبقها.

وجوابه : أوّلا : أنّ التضادّ والتماثل كما عرفت لا يجري في الامور الاعتباريّة كالأحكام الخمسة التكليفيّة.

وثانيا : أنّه على فرض جريان التضادّ والتماثل فيها أيضا لا يتحقّق المحذور المذكور في المقام ، فإنّ جعل الحجّيّة لا يكون بمعنى جعل الحكم ، بل يكون بمعنى منجّزيّة الحكم في صورة الإصابة ، ومعذّريّة المكلّف في المخالفة في صورة الخطأ كما ذكرناه مرارا.

المحذور الثاني : ما يرتبط بلازم الخطاب ، وكلام ابن قبة ناظر إليه ، وهو أنّ التعبّد بالمظنّة مستلزم للإلقاء في المفسدة فيما إذا أدّت الأمارة إلى إباحة شيء ـ مثلا ـ وكان حراما في الواقع ، أو لتفويت المصلحة فيما إذا أدّت إلى إباحته وكان واجبا بحسب الواقع.

ولا يخفى أنّ تماميّة هذا الدليل يتوقّف على تحقّق أمرين :

الأوّل : أن تكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد كما قال به المعتزلة ، فعلى القول بعدم التبعيّة ـ كما هو المنسوب إلى الأشاعرة ـ لا تتحقّق هنا مصلحة أو مفسدة حتّى يلزم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة.

الأمر الثاني : أن يكون المجعول في باب الأمارات محض الطريقيّة كما هو الحال في باب القطع ، ولازم ذلك تفويت المصلحة الواقعيّة وعدم جبرانها في صورة مخالفة الأمارة للواقع أحيانا.

أمّا على القول بإنكار أصل وجود المصلحة والمفسدة أو تغيير الواقع بقيام الأمارة وصيرورته على طبق الأمارة فلا يستلزم التعبّد بالمظنّة تفويت

١٠٧

المصلحة والإلقاء في المفسدة ، كما إذا قلنا بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ، إلّا أنّ السلوك على طبق الأمارة يوجب حدوث المصلحة ويتدارك بها مصلحة الواقع ، فلا يلزم محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة ، فهذا الدليل متوقّف على تماميّة الأمرين المذكورين ، ولا شكّ في تماميّتهما عندنا.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني قدس‌سره (١) أضاف أمرا ثالثا ، وهو : أنّ المحذور إنّما يتمّ في صورة انفتاح باب العلم خاصّة ، وأمّا في صورة انسداده فلا ؛ لأنّ المكلّف لا يتمكّن من استيفاء المصالح في حال انسداد باب العلم إلّا بالاحتياط التام ، وليس مبنى الشريعة على الاحتياط في جميع الأحكام ، فالمقدار الذي تصيب الأمارة للواقع يكون خيرا جاء من قبل التعبّد بالأمارة ، وإن كان مورد الإصابة أقلّ القليل ، فإنّ ذلك القليل أيضا كان يفوت لو لا التعبّد ، فلا يلزم من التعبّد إلّا الخير.

ويرد عليه : أنّه لا دليل لأن يكون مبنى الشريعة على عدم الاحتياط بعد حكم العقل بلزوم الاحتياط في مورد العلم الإجمالي ورعاية كلّ محتمل الوجوب والحرمة ، ولعلّ الشرع أيضا يؤيّد ذلك.

والجواب عن المحذور الثاني تارة يكون بلحاظ حال انفتاح باب العلم وزمان حضور الأئمّة عليهم‌السلام ، واخرى بلحاظ حال الانسداد.

أمّا بلحاظ حال الانفتاح فلا شكّ في أنّ السؤال من الأئمّة عليهم‌السلام وإن كان أمرا ممكنا حسب الفرض إلّا أنّ إلزام جميع الناس بالعمل بالعلم وسؤالهم صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة لا يمكن عادة مع تفرّق الشيعة في أطراف العالم والبلاد البعيدة وتسلّط الطواغيت وحكّام الجور ، وهذا الأمر لا يمكن في زماننا هذا أيضا مع كثرة

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٩٠.

١٠٨

وسائل الارتباط والإمكانات ، فضلا عن زمان الأئمّة عليهم‌السلام ، ولذا قال الصادق عليه‌السلام : «عليك بهذا الجالس» ، مشيرا إلى زرارة ، في جواب من قال : عمّن آخذ معالم ديني (١)؟ ففي حال الانفتاح لا بدّ من العمل بالخبر الواحد واعتباره.

وأمّا بلحاظ حال الانسداد فيدور الأمر بين الأمرين ؛ ولا بدّ من الأخذ بأحدهما :

الأوّل : الاحتياط التامّ الجاري في جميع الأحكام بمقتضى حكم العقل بلحاظ العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الفعليّة في الشريعة ، وهذا الطريق في نفسه طريق جيّد لا يستلزم الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة ، ولكنّه مستلزم لتنفّر الناس وانزجارهم من الدّين ؛ إذ الاحتياط يوجب اشتغال أكثر الأوقات بإتيان التكاليف المحتملة ، وهذا ينتهي إلى خروج كثير من الناس من الدّين.

الثاني : العمل طبق الأمارات والطرق غير العلميّة التي تكون مطابقة للواقع غالبا ، وإن كانت في بعض الموارد مخالفة له ، ولا شكّ في ترجيح الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة في الموارد النادرة على الخروج من الدّين رأسا ، ولعلّ العقل أيضا لا يحكم بالاحتياط في مثل هذا المورد ، فيكون محذور الاحتياط أقوى من محذور التعبّد بالمظنّة ، واختيار التعبّد بالمظنّة في حال الانسداد طريق صحيح ولا بدّ منه.

ثمّ إنّ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (٢) التزم بقبح التعبّد بالأمارات الظنّيّة

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٤٣ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٩.

(٢) الرسائل : ٢٥.

١٠٩

حال الانفتاح ، وأمّا في حال الانسداد فزعم بأنّ تفويت المصلحة متدارك بالمصلحة السلوكيّة.

وقد عرفت أنّ التعبّد بالمظنّة حال الانفتاح طريق متعيّن وأمر عقلائيّ ، مع أنّ أدلّ دليل على عدم قبح شيء وقوعه في الشريعة ، ومن هنا نرى في كلمات الأئمّة عليهم‌السلام إرجاع الناس إلى الرواة.

ولكن قال المحقّق النائيني قدس‌سره (١) في توضيح كلام الشيخ قدس‌سره بأنّ سببيّة الأمارة لحدوث المصلحة تتصوّر على وجوه ثلاثة :

الأوّل : أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدّى تستتبع الحكم على طبقها بحيث لا يكون وراء المؤدّى حكم في حقّ من قامت عنده الأمارة ، فتكون الأحكام الواقعيّة مختصّة في حقّ العالم بها ، ولا يكون في حقّ الجاهل بها سوى مؤدّيات الطرق والأمارات ، فتكون الأحكام الواقعيّة تابعة لآراء المجتهدين ، وهذا هو «التصويب الأشعري» الذي قامت الضرورة على خلافه ، وقد ادّعي تواتر الأخبار على أنّ الأحكام الواقعيّة يشترك فيها العالم والجاهل ، أصابها من أصاب وأخطأها من أخطأ.

الوجه الثاني : أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدّى أيضا أقوى من مصلحة الواقع ، بحيث يكون الحكم الفعلي في حقّ من قامت عنده الأمارة هو المؤدّى ، وإن كان في الواقع أحكام يشترك فيها العالم والجاهل على طبق المصالح والمفاسد النفس الأمريّة ، إلّا أنّ قيام الأمارة على الخلاف تكون من قبيل الطوارئ والعوارض والعناوين الثانويّة اللّاحقة للموضوعات الأوّليّة المغيّرة لجهة حسنها وقبحها نظير الضرر والحرج ، ولا بدّ وأن تكون

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٩٤ ـ ٩٦.

١١٠

المصلحة الطارئة بسبب قيام الأمارة أقوى من مصلحة الواقع ؛ إذ لو كانت مساوية لها كان الحكم هو التخيير بين المؤدّى وبين الواقع ، مع أنّ المفروض أنّ الحكم الفعلي ليس إلّا المؤدّى، وهذا الوجه هو «التصويب المعتزلي» ويتلو الوجه السابق في الفساد والبطلان ، فإنّ الإجماع انعقد على أنّ الأمارة لا تغيّر الواقع ، ولا تمسّ كرامته بوجه من الوجوه.

الوجه الثالث : أن يكون قيام الأمارة سببا لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء الواقع والمؤدّى على ما هما عليه من المصلحة والمفسدة من دون أن يحدث في المؤدّى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كان عليه قبل قيام الأمارة ، بل المصلحة إنّما تكون في تطرّق الطريق وسلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤدّاها والبناء على أنّه هو الواقع بترتيب الآثار المترتّبة على الواقع على المؤدّى ، وبهذه المصلحة السلوكيّة يتدارك ما فات على المكلّف من مصلحة الواقع بسبب قيام الأمارة على خلافه ، هذا تمام كلامه قدس‌سره.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ حجّيّة الأمارات المعتبرة الشرعيّة لا تكون تأسيسيّة ، بل تكون بمعنى إمضاء الشرع بعض ما يعتبر عند العقلاء ومتداول بينهم بعنوان الأمارة ، فأساس حجّيّة الأمارة أمر عقلائي ، وبعد مراجعة العقلاء يستفاد أنّ ملاك اعتبار خبر الثقة ـ مثلا ـ عندهم لا تكون المصلحة السلوكيّة ، وأنّ المصلحة الفائتة تكون منجبرة بها في صورة مخالفة الواقع ، بل الملاك أنّه طريق موصل إلى الواقع غالبا في زمان انسداد باب العلم ، فقيام الأمارة لا يوجب حدوث مصلحة في البين.

وثانيا : أنّ في مورد قيام الأمارة لا يتحقّق أزيد من أمرين : أحدهما : إخبار

١١١

الثقة بأنّ صلاة الجمعة ـ مثلا ـ واجبة ، وثانيهما : إتيان المكلّف بصلاة الجمعة في مقام العمل ، فليس هنا أمر ثالث حتّى تقوم المصلحة به.

ولكنّه مدفوع بأنّه يتحقّق هنا شيء ثالث ، وهو استناد العمل إلى قيام الأمارة وتقوم المصلحة به ، فتكون المصلحة الفائتة منجبرة بصلاة الجمعة التي يؤتى بها مستندا إلى قيام الأمارة ، مثل : إتيان المقلّد بصلاة الجمعة مستندا إلى فتوى المجتهد بوجوبها.

وثالثا : أنّ لازم تدارك المصلحة الفائتة بالمصلحة السلوكيّة هو الإجزاء فيما إذا انكشف الخلاف ، مع أنّ التحقيق في باب الأمارات وهكذا في باب القطع عدم الإجزاء كما قال به المحقّقون ، بخلاف الاصول العمليّة فإنّ الحقّ فيها الإجزاء بعد انكشاف الخلاف كما عليه بعض المحقّقين ، فلا معنى لعدم الإجزاء بعد القول بالمصلحة السلوكيّة ، وهذا دليل على عدم تحقّق المصلحة السلوكيّة أصلا.

ولكنّه مدفوع أيضا بأنّه من التزم بالمصلحة السلوكيّة يلتزم بلازمها أيضا ، فيمكن أن يقول الشيخ الأعظم قدس‌سره هنا بالإجزاء ، وهذا ليس بتالي فاسد مسلّم ، بل تكون مسألة مبنائيّة ، فيبقى الإشكال الأوّل وحده بقوّته ، ولذا لا تكون المصلحة السلوكيّة جوابا عن ابن قبة.

المحذور الثالث : ما يرتبط برتبة متقدّمة على الحكم والخطاب ، وهو محذور اجتماع الإرادة والكراهة أو الحبّ والبغض على مورد واحد ، فإذا دلّت الأمارة على وجوب ما هو حرام في الواقع أو بالعكس لزم اجتماعهما على مورد واحد ، وهو محال.

وجوابه يتوقّف على بيان مقدّمة ، وهي : توضيح مراتب الحكم الشرعي

١١٢

ومعناها ، والمستفاد من كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) في حاشية الرسائل : أنّ للحكم مراتب أربع :

الاولى : مرتبة الاقتضاء ، والمراد بها شأنيّة الحكم الموجود بمعنى وجود ملاك يقتضي إنشاء الحكم له كمعراج المؤمن ، فإنّه يقتضي إنشاء الشارع وجوب الصلاة لاستيفاء ذلك الملاك.

الثانية : مرتبة الإنشاء ، أي جعل الحكم مجرّدا عن البعث والزجر.

الثالثة : مرتبة الفعليّة ، أي بعث المولى وزجره ؛ بأن يقول : «افعل» أو «لا تفعل» مع عدم وصوله إلى المكلّف بحجّة معتبرة من علم أو علمي ، فلا توجب مخالفته ذمّا ولا عقابا.

الرابعة : مرتبة التنجّز أي وصول الحكم البالغ مرتبة البعث أو الزجر إلى العبد بالحجّة المعتبرة من علم أو علمي ، فتكون مخالفته حينئذ موجبة لاستحقاق العقوبة.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ مرتبتي الاقتضاء والتنجّز ليستا من مراتب الحكم ، أمّا مرتبة الاقتضاء فإنّها راجعة إلى ملاكات الأحكام وليست من مراتبها ، فإنّ الملاكات امور تكوينيّة خارجيّة ، فكيف تكون من مرتبة أمر اعتباري؟! فهذه المرتبة ليست من مراتب الحكم بل تكون من مقدّماته.

وأمّا مرتبة التنجّز فإنّها من أحكام العقل بعد تماميّة الحكم الشرعي وما يترتّب على مخالفة الحكم ، فما كان متأخّرا عن الحكم ومرتّبا على مخالفته لا مجال لأن يجعل من مراتب الحكم.

وثانيا : أنّ الفرق بين الحكم الإنشائي والفعلي بتحقّق البعث أو الزجر في

__________________

(١) حاشية الرسائل : ٣٦.

١١٣

الثاني دون الأوّل ليس بصحيح ، فإنّ عدم تحقّق البعث أو الزجر في مرتبة الإنشاء دليل على عدم تحقّق الحكم هنا أصلا بعد ما كان الوجوب والحرمة بمعنى البعث والزجر الاعتباري ، فكيف يكون ما لم يتحقّق فيه البعث أو الزجر من مراتب الحكم؟!

التفسير الثاني للحكم الإنشائي والفعلي ما ذكره استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) وهو أنّ الشارع في مقام التقنين لم يتّخذ طريقا خاصّا بل كيفيّة تقنينه هي الكيفيّة المتداولة بين العقلاء ، من جعل القانون ابتداء بصورة كلّيّة ؛ بمعنى تعلّق الإرادة الاستعماليّة على العنوان الكلّي ، ثمّ بيان مخصّصاته ومقيّداته بعنوان الاستثناء والتقييد في مقام الإجراء ومحدوديّة المراد الجدّي حسب ما تقتضيه المصالح.

والحكم الإنشائي ما هو مجعول بعنوان ضابطة كلّيّة نحو قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) ، وبعد بيان مخصّصاته ومقيّداته ، مثل قوله عليه‌السلام : «لا تبع ما ليس عندك» (٣) ، و «نهى النبيّ عن بيع الغرر» (٤) يصير الحكم فعليّا ، فالحكم الفعلي ما تعلّقت به الإرادة الجدّيّة في مقام إتيان العمل وتحقّقه في الخارج ، ومن فوائد جعل الحكم الإنشائي التمسّك بإطلاقه في موارد الشكّ ، كالشكّ في حلّية بيع المعاطاة ـ مثلا ـ فالصحيح أنّه ليس للحكم الشرعي سوى هذين المرتبتين ، وهذا هو الحقّ ومطابق للواقعيّة.

التفسير الثالث : ما ذكره بعض الأعلام قدس‌سره (٥) من أنّه ليس للحكم إلّا

__________________

(١) تهذيب الاصول ٢ : ٧٠.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

(٣) الوسائل ١٨ : ٤٧ ، الباب ٧ من أبواب احكام العقود ، الحديث ٢.

(٤) الوسائل ١٧ : ٤٤٨ ، الباب ٤٠ من أبواب آداب التجارة ، الحديث ٣.

(٥) مصباح الاصول ٢ : ٤٦.

١١٤

مرتبتان :

الاولى : مرتبة الجعل والإنشاء بداعي البعث والتحريك بنحو القضيّة الحقيقيّة ، كقوله سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) ، ففي هذه الرتبة تنشأ الأحكام على موضوعاتها المقدّر وجودها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط وعدم الموانع على نهج القضايا الحقيقيّة.

الثانية : مرتبة الفعليّة والخروج عن التعليق والتقدير بتحقّق موضوعه خارجا ، كما إذا صار المكلّف مستطيعا مثلا.

وفيه : أوّلا : أنّه كلام بلا شاهد ، ومن البعيد أن يكون الحكم الواحد بالنسبة إلى شخص إنشائيّا ، وبالنسبة إلى شخص آخر فعليّا ، مع مخالفته لما هو متداول بين العقلاء في كيفيّة التقنين كما ذكرناه ، ولازم هذا الكلام عدم كون مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) حكما إنشائيّا ، ولا حكما فعليّا ؛ إذ الحكم في باب المطلق يتعلّق بالطبيعة ، ولا نظارة لها إلى الأفراد والمصاديق حتّى تكون محقّقة الوجود أو مقدّرة الوجود ، بل يستحيل حكايتها عن الأفراد كما مرّ ذكره مرارا.

وثانيا : أنّ لازم هذا الكلام إرجاع القوانين المجعولة في ضمن الجمل الإنشائيّة ، مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) إلى الجمل الخبريّة لتصحيح القضيّة الحقيقيّة ، كقولنا : «المكلّف يجب عليه إقامة الصلاة» بأنّ الحكم يكون بالنسبة إلى «زيد» قبل البلوغ إنشائيّا ، وبعد بلوغه يصير فعليّا ، وبناء على هذا البيان لا بدّ من الالتزام بهذا التوجيه في مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، بخلاف ما ذكرناه من التفسير للحكم الإنشائي والفعلي.

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

١١٥

وثالثا : أنّ لازم هذا الكلام تعلّق الإرادة الجدّية بجميع مصاديق البيع وإن كان غرريّا ، فكلّ معاملة إذا تحقّقت واتّصفت بعنوان البيعيّة يكون حلالا نافذا عند الله ، فإنّ بعد تحقّق موضوع قضيّة حقيقيّة تتعلّق به الإرادة الجدّية ، وهذا ينافي التقييد والتخصيص ، ولا يكون قوله عليه‌السلام : «نهى النبيّ عن بيع الغرر» قابلا للجمع مع (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، بخلاف ما ذكرناه بلحاظ تعلّق الإرادة الاستعماليّة والحكم الإنشائي بحلّية جميع أفراد البيع ومصاديقه ، وهذا لا يتنافى مع دخالة بعض القيود في متعلّق الإرادة الجدّية.

نعم ، أصالة التطابق حاكم بتطابق الإرادتين إن لم يكن الدليل على الخلاف كما في بيع المعاطاة ، فما يكون متعلّق الإرادة الاستعماليّة هو حكم إنشائي ، وما يكون متعلّق الإرادة الجدّية هو حكم فعلي.

إذا عرفت هذه المقدّمة بالنسبة إلى المحذور الثالث ـ أي اجتماع الإرادة والكراهة أو الحبّ والبغض في شيء واحد إذا أدّت الأمارة إلى حرمة ما هو واجب في الواقع أو وجوب ما هو حرام في الواقع ـ فنقول : والجواب عنه ما هو التحقيق في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، وقد مرّ في مسألة المتزاحمين أنّه لا محيص إلّا عن رفع اليد عن الأمر بالمهمّ في مقام الفعليّة ، لا لعدم ملاك الوجوب فيه ، بل لعدم قدرة المكلّف على امتثالهما معا ورعاية الأمر بالأهمّ ، فلا يترتّب على مخالفة الأمر بالمهمّ عقوبة ولا مذمّة.

ومن هنا يستفاد فيما نحن فيه بأنّ صلاة الجمعة ـ مثلا ـ إذا كانت بحسب الواقع واجبة ولكنّه لم يصل إلى المكلّف لمانع ، فلا بدّ له إمّا من الاحتياط التامّ الذي يؤدّي إلى العسر والحرج الشديدين ، بل وخروج الناس عن ربقة الإسلام وانزجارهم عن الدّين ، وإمّا العمل على وفق الأمارات الذي يستلزم

١١٦

المخالفة للواقع أحيانا ويوجب تفويت مصالح الأحكام الواقعيّة ، ولكنّه أهون للشارع من تنفّر الناس وانزجارهم عن أساس الإسلام ، فالضرورة تقتضي أن يجعل الشارع بعض الأمارات العقلائيّة حجّة ، فالملاك الذي يقتضي رفع اليد عن الأمر بالمهمّ هو الذي يقتضي هنا رفع اليد عن الأحكام الواقعيّة.

آراء اخرى لدفع المحذور :

وتتحقّق هنا آراء اخرى للجمع بين الحكم الظاهري والواقعي :

الأوّل : ما يستفاد من كلام الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) من أنّ الحكم الظاهري قد اخذ في موضوعه الشكّ في الحكم الواقعي ، فيكون الحكم الظاهري في طول الشكّ في الحكم الواقعي لا محالة ، والشكّ في شيء أيضا يكون في طول ذلك الشيء ، فيكون الحكم الظاهري متأخّرا عن الحكم الواقعي برتبتين ، فلا تبقى منافاة بينهما.

وأشكل عليه صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) بأنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي لمكان الطوليّة ، إلّا أنّ إطلاق الحكم الواقعي لحالات الجهل والعلم يشمل مرتبة الحكم الظاهري ، فإنّ اختصاص الحكم الواقعي بالعالم به يلزم التصويب الباطل ، وعليه فمحذور الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري باق على حاله.

الرأي الثاني : ما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره (٣) من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الحجّية التي هي عبارة عن المنجّزية عند مطابقة الأمارة للواقع والمعذّرية عند المخالفة ، فالأمارة لا تستتبع حكما شرعيّا تكليفيّا أصلا ، حتّى

__________________

(١) الرسائل : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٤٤.

(٣) المصدر السابق.

١١٧

تحصل غائلة التضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري.

ويرد عليه : أوّلا : أنّه لا جعل ولا تأسيس للشارع في مورد الأمارات ، بل الموجود هو إمضاء ما عليه بناء العقلاء.

ولكنّه قابل للتوجيه بأنّ الحجّية الإمضائيّة تكون بمعنى المنجّزية عند الإصابة والمعذّرية عند الخطأ لدى المحقّق الخراساني قدس‌سره.

وثانيا : أنّ كلامه قدس‌سره صحيح في صورة مطابقة الأمارة للواقع ، وأمّا في صورة المخالفة فلا ترتفع الغائلة بمجرّد إنكار الحكم الظاهري وتعويضه بجعل الحجّية ، فإنّ منشأ ترك ما هو واجب بحسب الواقع هو تجويز الشارع بالحجّية الإمضائيّة للأمارة الدالّة على عدم وجوبه ، فيعود المحذور بأنّ الوجوب الواقعي وتعلّق الإرادة الجدّية بفعل شيء ـ مثلا ـ كيف يكون قابلا للجمع مع تجويز الترك؟!

الرأي الثالث : ما ذكره المحقّق الفشاركي قدس‌سره على ما نقله تلميذه المحقّق الحائري قدس‌سره في كتاب درر الفوائد (١) ، وحاصل كلامه قدس‌سره : أنّ موضوع الحكم الظاهري متفاوت مع موضوع الحكم الواقعي ، ولا منافاة بينهما ، مثلا : إذا تصوّر المولى موضوع الحكم الواقعي في مقام جعل الحكم ، فيلاحظ نفس صلاة الجمعة مع الحالات التي يمكن أن تتّصف بها في نفسها مع قطع النظر عن تعلّق الحكم بها ، مثل : كونها في المسجد أو الدار وأمثال ذلك.

وأمّا الحالات المتأخّرة عن تعلّق الحكم بها ـ مثل : عنوان كونها معلومة الحكم أو مشكوكة الحكم ـ فلا يمكن أن يتصوّر معها في هذه الرتبة ؛ لعدم إمكان إدراج الأوصاف المتأخّرة عن الحكم في موضوعه.

__________________

(١) درر الفوائد ٢ : ٣٥١ ـ ٣٥٤.

١١٨

والحاصل : أنّ موضوع الحكم الواقعي هو صلاة الجمعة مع الحالات التي لا ترتبط بتعلّق الحكم بها ، وموضوع الحكم الظاهري هو صلاة الجمعة التي تكون مقيّدة بعروض الشكّ في حكمها الواقعي ومتّصفة بكونها مشكوكة الحكم ، وحينئذ لا مجال للسؤال عن كيفيّة الجمع بين الحكمين. هذا تمام كلامه قدس‌سره بتلخيص وإيجاز.

ويرد عليه : أوّلا : ما ذكرناه في بحث التعبّدي والتوصّلي في مقام الجواب عن المحقّق الخراساني قدس‌سره حيث قال : إنّه لا يمكن للمولى أخذ قصد القربة ـ بمعنى إتيان المأمور به بداعي الأمر المتعلّق به ـ في متعلّق الأمر بعنوان الجزئيّة أو القيديّة ، فإنّه يستلزم جعل ما هو متأخّر عن الأمر في رتبة متقدّمة على الأمر.

وقلنا في جوابه : إنّ المتأخّر عن الأمر هو داعويّته الخارجيّة ، فداعويّة الأمر الخارجيّة تتوقّف على وجوده الخارجي ، وما يتوقّف عليه الأمر هو تصوّر الموضوع بقيد كونه مأمورا به ، ومعلوم أنّه لا يكون تصوّر الشيء فرع وجوده الخارجي ، فلا مانع من تصوّر داعويّة الأمر وأخذها في الموضوع في مقام تعلّق الأمر ، وهذا الكلام يجري بعينه فيما نحن فيه ، فإنّ العناوين والأوصاف العارضة على الموضوع بلحاظ تعلّق الحكم عليه ـ مثل : عنوان مشكوك الحكم ـ متأخّرة عن الحكم بوجودها الخارجي ، وأمّا في مقام تعلّق الأمر وتصوّر صلاة الجمعة ـ مثلا ـ فلا فرق بين الأوصاف التي تتّصف بها في نفسها والأوصاف التي تتّصف بها بعد تعلّق الحكم بها ، ومقتضى إطلاق الحكم الواقعي هو شموله لصلاة الجمعة المشكوكة الحكم ، مثل شموله لصلاة الجمعة الواقعة في المسجد ، فيجتمع الحكمان في مورد واحد ويعود الإشكال.

وثانيا : أنّ ما أفاده قدس‌سره ـ من كون موضوع الحكم الظاهري هي صلاة الجمعة

١١٩

المتّصفة بأنّها مشكوكة الحكم والمشكوكيّة تكون بعد تحقّق الحكم الواقعي ومتأخّرة عنه ـ ليس بصحيح ، فإنّ الشكّ في الشيء لا يستلزم تحقّق المشكوك في الخارج ، وإلّا يلزم انقلاب الشكّ علما ؛ إذ كلّما شكّ في الحكم يعلم بثبوته ؛ لمكان الملازمة بين الشكّ في الشيء وتحقّق المشكوك خارجا ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى العلم ، حيث إنّ العلم بالشيء لا يتوقّف على تحقّق المعلوم خارجا ، وإلّا يلزم مطابقة العلم للواقع دائما وانتفاء الجهل المركّب بالكلّية.

وثالثا : أنّ ما ذكره قدس‌سره ـ من أنّ موضوع الحكم هو ذات الموضوع المجرّد عن الحكم ، وموضوع الحكم الظاهري هو ذات الموضوع بلحاظ الحكم ، فلا يمكن الجمع بين لحاظي التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوته ـ أيضا ليس بصحيح ، وذلك لأنّ ما اخذ موضوعا في الحكم الواقعي إمّا أن يؤخذ بشرط لا ، وإمّا أن يؤخذ لا بشرط ـ بعد ملاحظة أنّه لا معنى للإهمال والإجمال في مقام الثبوت وجعل الحكم وتعلّقه على الموضوع ، بخلاف مقام الإثبات ـ فعلى الأوّل يلزم اختصاص الحكم الواقعي بالعالم به ، وهذا تصويب باطل ؛ إذ لحاظ صلاة الجمعة بشرط أن لا تكون مشكوكة الحكم وجعل الوجوب لها بهذا اللحاظ مآله إلى وجوب صلاة الجمعة في حقّ العالم بالحكم خاصّة.

وعلى الثاني يمكن انقسام العنوان المتعلّق للأحكام الواقعيّة إلى معلوم الحكم ومشكوك الحكم ، فيكون العنوان محفوظا في كلتا المرتبتين : مرتبة الحكم الواقعي ومرتبة الحكم الظاهري ؛ لأنّ لا بشرط يجتمع مع ألف شرط ، فليكن أحد هذه الشروط الشكّ في الحكم ، ومع انحفاظ العنوان في كلتا المرتبتين يعود المحذور كما هو واضح.

١٢٠