نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

ب. البراءة ، إذا كان الشكّ في الحكم الشرعي ، ولم يكن هناك حالة سابقة بالنسبة إليه.

ج. قاعدة الاشتغال ، عند الشكّ في المكلّف به مع إمكان الاحتياط.

د. التخيير ، فيما إذا لم يمكن الاحتياط.

إنّ بعض هذه القواعد وإن كان يتواجد في أصول الآخرين ، ولكن بيان أحكام القاطع والظان والشاك بهذا المنوال من خصائص أصول الإماميّة.

١١. أدلّة اجتهاديّة وأصول عمليّة :

إنّ تقسيم ما يحتجّ به المستنبط إلى دليل اجتهادي ، وأصل عملي من خصائص أصول الفقه عند الإماميّة ، لأنّ ما يحتجّ به المجتهد ينقسم إلى قسمين :

أ. ما جعل حجّة لأجل كون الدليل بطبعه طريقا ومرآة إلى الواقع ، وإن لم يكن طريقا قطعيا بشكل كامل ، وهذا كالعمل بقول الثقة والبيّنة وأهل الخبرة وغير ذلك ، فإنّها حجج شرعية لأجل كونها مرايا للواقع وتسمّى بالأدلّة الاجتهاديّة.

وهذا بخلاف الأصول العمليّة كالاستصحاب ، والبراءة ، والتخيير ، والاشتغال ، فالمجتهد وإن كان يحتجّ بها ، ولكن لا بما أنّها طرق إلى الواقع ومرايا له ، وإنّما يحتجّ بها لأجل الضرورة ورفع الحيرة ، حيث انتهى المستنبط إلى طريق مسدود.

ويترتّب على ذلك تقدم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي ، فلا

٤١

يحتجّ بأصل البراءة مع وجود الدليل كقول الثقة على وجوب الشيء أو حرمته ، ولا بالاستصحاب إذا كان هناك دليل اجتهادي كالبيّنة على ارتفاع المستصحب.

وبذلك يظهر الخلط بين كلمات الفقهاء ، فلم يميّزوا بين الأدلّة الاجتهاديّة والأصول العمليّة ، فربّما جعلوا الأصل معارضا للدليل الاجتهادي.

١٢. تقديم أحد الدليلين على الآخر بملاكات :

لا شكّ أنّ بعض الأدلّة يتقدّم على الآخر ، ولكن المذكور في كلمات الأصوليين ملاك واحد ، وهو أنّ المخصّص يتقدّم على العام ، وربّما يضاف إليه تقدّم الناسخ على المنسوخ ، وهذا ممّا لا ريب فيه ، ولكن هناك موجبات أخرى توجب تقدّم أحد الدليلين الاجتهاديين على الآخر ، وهي عبارة عن العنوانين التاليين :

أ. كون الدليل حاكما على دليل آخر.

ب. كونه واردا على الآخر.

أمّا «الحاكم» فهو عبارة عن : أن يكون لسان أحد الدليلين بالنسبة إلى الدليل الآخر لسان التفسير ، فيقدّم المفسّر على المفسّر ، مثلا : قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) ، فالآية صريحة في الطهارة المائية ، وأنّ شرط صحّة الصلاة هو تحصيل الطهارة المائيّة قبلها.

__________________

(١) المائدة : ٦.

٤٢

وإذا قيس قوله : «التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين» إلى الآية ، يأخذ لنفسه طابع التفسير ويوسّع الشرط اللازم تحصيله قبل الصلاة ، فتكون النتيجة شرطيّة مطلق الطهارة : المائيّة والترابيّة ، غاية الأمر أنّ الاجتزاء بالثانية رهن فقدان الأولى.

ونظير ذلك قوله : «الطواف بالبيت صلاة» فيستدلّ به على وجوب تحصيل الطهارة قبل الطواف ، وذلك لأنّ الدليل الثاني يجعل الطواف من مصاديق الصلاة ادّعاء وتشريعا ، فيكون الطواف محكوما بالصلاة من أحكام.

وأمّا «الوارد» فهو أن يكون أحد الدليلين مزيلا ورافعا لموضوع الدليل الآخر ، وهذا نظير قول الثقة بالنسبة إلى أصل البراءة العقلية ، فإنّ موضوع البراءة هو قبح العقاب بلا بيان ، أي بلا بيان من الشارع ، فإذا أخبر الشارع بحجّية قول الثقة ، فيكون قوله في مورد الشك بيانا من الشارع ، فيكون رافعا له.

١٣. الأقل والأكثر والشكّ في المحصّل :

إذا تعلّق الحكم الشرعي بمركّب ذي أجزاء ، وشككنا في قلّة أجزائه وكثرته ، كما إذا شككنا في أنّ الجلسة بعد السجدتين واجبة أو مستحبّة ، فالمرجع هو البراءة عن وجوبها ، لأنّ الأجزاء الباقية معلومة الوجوب ، وهذا الجزء مشكوك وجوبه ، فيرجع فيه إلى أصل البراءة ، أخذا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي ما لا يعلمون» حيث إنّ وجوب هذا الجزء ممّا لا يعلم.

وهذا ما يعبّر عنه في مصطلح الأصوليّين من الإماميّة «بالأقلّ والأكثر الارتباطيين».

٤٣

ولكنّهم استثنوا صورة أخرى ، ربّما تسمّى بالشكّ في المحصّل تارة ، والشكّ بالسقوط ثانيا ، ومورده ما إذا كان المكلّف به أمرا بسيطا لا كثرة فيه ، ولكن محقّقه ومحصّله في الخارج كان كثيرا ذا أجزاء ، فشككنا في جزئيّة شيء لمحصّله وعدمه.

مثلا لو قلنا بأنّ الطهور في قوله : «لا صلاة إلّا بطهور» اسم للطهارة النفسانية الحاصلة للنفس الإنسانية ، لا للغسلات والمسحات ، ولكن نشكّ في جزئيّة شيء كالمضمضة والاستنشاق وعدمه للمحصّل ، فيحكم هنا بالاشتغال ولزوم ضمّ الاستنشاق أو المضمضة إلى الوضوء.

وذلك لأنّ المحصّل وإن كان مركّبا ذا أجزاء منحلا إلى ما علم وجوبه كالغسلات والمسحات ، وإلى ما شكّ في وجوبه ، كالمضمضة والاستنشاق ، وهو في حدّ نفسه قابل لإجراء البراءة عن وجوده.

ولكن بما أنّ تعلّق الوجوب بالطهور بمعنى الطهارة النفسانيّة وهو أمر بسيط لا يتجزأ ولا يتكثّر ، فلا تقع مجرى للبراءة ، بل العقل يبعث المكلّف إلى تحصيلها بالقطع والجزم ، لأنّ الاشتغال اليقيني بهذا الأمر البسيط ، يقتضي البراءة اليقينيّة ، ولا تحصل البراءة القطعيّة إلّا بضمّ الاستنشاق والمضمضة إلى سائر الواجبات والإتيان بهما رجاء واحتمالا.

١٤. تقدّم الأصل السببي على المسببي :

كثيرا ما يتصوّر أنّ أحد الأصلين معارض للأصل الآخر ، وهذا صحيح إذا كان الأصلان في درجة ورتبة واحدة ، وأمّا إذا كان أحد الأصلين متقدّما رتبة

٤٤

على الآخر ، وكان الأخذ بأحدهما رافعا للشكّ في الجانب الآخر ، فيؤخذ بالمتقدّم ويطرح الآخر ، وملاك التقدّم هو كون الشكّ في أحد الأصلين ناشئا عن الشكّ في الأصل الآخر ، فإذا عملنا بالأصل في جانب السبب ، يرتفع الشك عن الجانب المسبّب حقيقة ، ولنذكر مثالا :

إذا كان هناك ماء طاهر ، شككنا في طروء النجاسة عليه ، ثمّ غسلنا به الثوب النجس قطعا ، فربّما يتصوّر تعارض الأصلين ، فإنّ مقتضى استصحاب طهارة الماء ، هو كون الثوب المغسول به طاهرا ، ومقتضى استصحاب نجاسة الثوب كون الماء نجسا ، فيقال : تعارض الاستصحابين.

ولكن الأصولي الإمامي يقدّم استصحاب طهارة الماء على استصحاب نجاسة الثوب ، وذلك لأنّ الشكّ في بقاء نجاسة الثوب بعد الغسل بالماء ، نابع عن كون الماء طاهرا وعدمه ، فإذا قلنا بحكم الشارع : «لا تنقض اليقين بالشكّ» بأنّ الماء طاهر ، يزول الشك في جانب الثاني ، ويحكم عليه بالطهارة ، وذلك لأنّ كلّ نجس ، غسل بماء محكوم بالطهارة فهو طاهر.

ومن هنا ينفتح أمام الفقيه باب واسع لرفع التعارض بين الأصول العمليّة.

١٥. ما يصحّ أخذه في المتعلّق وما لا يصحّ :

ومن ابتكاراتهم تقسيم القيود إلى قسمين :

قسم يتعلّق به الطلب ويقع تحت دائرته ، كالطهارة ، فيقال : صلّ مع الطهارة ، أو صلّ إلى القبلة ، إلى غير ذلك من القيود المأخوذة في جانب المتعلّق.

٤٥

وهناك قيود لا يتعلّق بها الطلب ، ولا يتحقّق إلّا بعد تعلّق الطلب بالمتعلّق ، ومثلها ـ ما يتولّد يعد تعلّق الطلب ـ لا يقع متعلّقا له ، كقصد الأمر ، وقصد الوجه (الوجوب أو الندب) ، فإنّ هذه القيود ، قيود فوق دائرة الطلب وإنّما تتولّد بعده.

ويترتّب على ذلك أنّه لو شكّ في أنّ واجبا كذا تعبديّ أو توصليّ ، لا يمكن الحكم بأنّه توصليّ بحجّة أنّ قصد الأمر لم يقع في متعلّق الأمر ، لأنّ المفروض أنّ قصد الأمر على فرض وجوبه لا يمكن أخذه في متعلّق الطلب ، فعدم أخذه فيه لا يكون دليلا على عدم أخذه قيدا للمتعلّق.

وهذا التقسيم وإن وقع موقفا للنقاش ولكنّه لا يخلو عن فائدة.

١٦. استصحاب الزمان والزمانيات :

لما كان الاستصحاب عند الإماميّة أصلا من الأصول ، ودلّ على حجّيته الأحاديث الصحيحة ، ذكروا حوله بحوثا علميّة جليلة منها التقسيم التالي :

١. استصحاب الزمان : ما إذا كان الزمان معنونا بعنوان وجودي ككونه ليلا أو نهارا.

٢. استصحاب الأمر غير القارّ بالذات : وهذا كالحركة ، وجريان الماء ، وسيلان الدم ، وبقاء التكلّم ، والمشي ، إذا شكّ في بقائها ، فإنّ ذات الأفعال في هذه المسألة أمور متدرّجة بالذات ، متقضية بالطبع.

٣. استصحاب الأمر القارّ بالذات المقيّد بالزمان : وهذا كالجلوس في المسجد إلى الظهر.

٤٦

والغاية من هذا التقسيم هو أنّ روح الاستصحاب هو إبقاء ما كان ، وهذا لا يتصوّر إلّا في القسم الثابت ، مع أنّ المستصحب في كلّ من الأقسام الثلاثة غير ثابت.

أمّا الليل والنهار فهي أمور زمانيّة ، والزمان لا يتصوّر فيه البقاء ، وأمّا الأمور الوجوديّة المزيجة بالزمان كالحركة ، وجريان الماء ، فهي أيضا كالأمور الزمانية (الليل والنهار) لأنّ المفروض أنّ الحركة أمر غير قارّ بالذات.

ومنه يظهر حال القسم الثالث ، فإنّ الجلوس وإن كان قارّا بالذات ، لكن تقيده بالزمان يجعله مثله.

ومع هذا فقد ذكر المحقّقون وجوها لجريان الاستصحاب فيها ، بتصوير أنّ بقاء كلّ شيء بحسبه ، وأنّ للزمان والزمانيّات والأمور المقيّدة بالزمان بقاء وثباتا عرفيّة مشروحة في محلّها.

١٧. تقسيم المستصحب إلى جزئيّ وكليّ :

قسّم المستصحب إلى كونه جزئيّا وكليّا. فلو علمنا بوجود زيد في الغرفة ، وشككنا في خروجه ، فيصحّ لنا استصحاب وجوده الجزئي ، كما يصحّ لنا استصحاب وجود الإنسان ، لأنّ في العلم بوجود زيد في الغرفة ، علما بوجود الإنسان فيه.

وعلى ذلك تترتّب آثار في الفقه.

٤٧

١٨. تقسيم الاستصحاب إلى تنجيزيّ وتعليقيّ :

إذا كان الحكم الشرعي محمولا على الموضوع بلا قيد ولا شرط ، فالحكم تنجيزيّ وإلّا فتعليقيّ ، سواء عبّر عنه بالجملة الخبريّة التي قصد منها الإنشاء في نحو قولك : العصير العنبي حرام إذا غلى ، أو بالجملة الإنشائيّة نحو قولك : اجتنب من العصير العنبي إذا غلى.

وعندئذ يقسم الاستصحاب حسب انقسام القضية ، إلى استصحاب تنجيزي واستصحاب تعليقي وقد وقع الكلام في جواز التنجيزي وعدمه.

١٩. الأصول المثبتة :

إنّ القدماء لمّا قالوا بحجّية الاستصحاب من باب الظنّ والأمارة ، رتّبوا عليه الآثار العقليّة ، وأمّا المتأخّرون من أصحابنا الإماميّة فلمّا قالوا بحجّية الاستصحاب بما أنّه أصل لا أمارة ، والأصل لا يثبت به إلّا الحكم الشرعي دون الآثار العقليّة نفوا حجية الأصل المثبت ، ونوضح ذلك بالمثال التالي :

إذا شككنا في حياة زيد فمقتضى قوله : لا تنقض اليقين بالشك هو ترتيب الآثار الشرعيّة للحياة الواقعيّة ، على الحياة التعبديّة الثابتة بالأصل ، فهو ـ بفضل الاستصحاب ـ مالك لماله ، لا يقسّم باحتماله موته.

وأمّا الآثار العقليّة للحياة ، كجريان الدم في عروقه ، فلا يثبت باستصحاب الحياة ، وإن كان من لوازمها. وعلى ضوء ذلك لو ترتّب على جريان الدم

٤٨

أثر شرعيّ ـ كإعطاء الصدقة ـ للفقير ، فلا يثبت ولا يحكم به ، وذلك لتوسط الأمر العقلي (جريان الدم) بين المستصحب (الحياة) ، والأثر الشرعي : (وجوب الصدقة) فالحياة ، تلازم جريان الدم ، وهو موضوع لوجوب التصدّق.

وإيضاحا للحال نأتي بمثالين :

١. إذا مات الوالد في زوال يوم الجمعة ، وعلمنا بموت الولد أيضا ، لكن تردّد موته بين كونه قبل الزوال أو بعده ، فموت الوالد لأجل كونه معلوم التاريخ غير مشكوك لا من جهة أصل وجوده ولا زمانه ، فلا يجري فيه الأصل ، بخلاف موت الولد ، فإنّه يجري فيه الأصل ، فيقال : الأصل بقاء حياة الولد إلى زوال يوم الجمعة.

فلو كان الأثر (الإرث) مترتّبا على حياة الولد حين موت الوالد فيرثه الولد ، وأمّا لو قلنا بترتّبه على تأخّر موته عن حياة الأب ، فلا يرث ، لأنّ عنوان التأخّر لازم عقليّ للمستصحب ، حيث إنّ لازم بقاء حياة الولد ، إلى زمان موت الوالد مع العلم بموته أيضا ، هو تأخّر موته عن موت الوالد.

٢. إذا علمنا بإصابة البول بالماء القليل زوال يوم الجمعة ، ثمّ علمنا بأنّه صار كرّا إمّا قبل الزوال أو بعده ، فالأصل لا يجري في معلوم التاريخ ، لعدم الشكّ فيه ، وإنّما يجري في مجهوله فيقال : أصالة عدم صيرورته كرّا إلى زوال يوم الجمعة ، فلو كانت النجاسة مترتّبا على الماء غير الكرّ ، فيحكم عليه بالنجاسة.

وأمّا لو كان مترتّبا على تأخّر الكريّة عن إصابة البول ، فلا يحكم عليه بها ، لأنّ تأخّر الكريّة عنها لازم عقليّ ، لعدم صيرورته كرّا إلى زوال يوم الجمعة مع العلم بحدوث الكرّية أيضا.

٤٩

٢٠. في استصحاب حكم المخصص :

إذا ورد التخصيص على عموم ، وعلم خروج فرد من تحته في فترة من الزمان ، ولكن شكّ في أنّ خروجه يختصّ بها أو يعمّ ما بعدها ، كما في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) ، وقد خرج منه العقد الغبني ، فالمغبون ذو خيار بين الإمضاء والفسخ ، فشككنا في أنّ الخيار فوريّ أو ثابت إلى زمان لا يتضرّر البائع من تزلزل العقد.

فحينئذ يقع البحث هل المرجع بعد انقضاء الفور هو عموم العام ، أعني (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فيكون العقد لازما.

أو المرجع استصحاب حكم المخصّص أعني كونه جائزا ، وهناك تفصيل وتحقيق لا يسع المقام له.

هذه نماذج ممّا ابتكره فحول الأصوليين عبر القرنين ، وهناك مسائل أخرى لا تنقص أهمّيتها ممّا ذكرنا ، خصوصا بحوثهم حول العلم الإجمالي.

إنّ لأصحابنا حول العلم الإجمال بحوثا ابتكاريّة نظير :

١. أنّ متعلّق العلم الإجمالي تارة يكون محصورا ، وأخرى غير محصور.

٢. العلم الإجمالي في المحصور ، منجّز للتكليف.

٣. هل هو منجّز على وجه العلة التامة ، بحيث لا يجوز الترخيص في أطرافه ، أو منجّز على الوجه المقتضي ، فيجوز الترخيص في بعض أطرافه.

__________________

(١) المائدة : ١.

٥٠

٤. هل خروج أحد الأطراف ، قبل تعلّق العلم الإجمالي أو مطلقا ، مانع عن تنجيزه أو لا ، أو فيه تفصيل.

٥. هل طروء الاضطرار على بعض الأطراف قبل تعلّق العلم الإجمالي ، مانع عن التنجيز أو لا.

٦. هل ملاقي بعض أطراف الشبهة ، محكوم بنفس حكم الملاقى أو لا ، أو فيه تفصيل.

إلى غير ذلك من مباحث لم يسبق إليها سابق.

رحم الله الماضين من علمائنا

وحفظ الله الباقين منهم

٥١

العلامة الحليّ

و

موسوعته الأصوليّة

إن من شروط التعريف أن يكون المعرّف أجلى من المعرّف ، وهذا الشرط يقتضي إيقاف القلم عن الإفاضة وعدم النبس ببنت شفة حول المؤلّف ، إذ أين الثرى من الثريا ، والندى من البحر؟!

ولكن لو سمح المؤلّف لأمثالنا أن نتجاوز هذا الشرط ، فنقول : إنّ المؤلّف من النوابغ القلائل الذين يضن بهم الدهر إلّا في فترات متقطعة ، فهو من أعاظم فقهاء الإسلام وأكابر المحقّقين في الفقه وأصوله ، وقد صرف برهة من عمره في تحقيق مسائلهما وحلّ مشاكلهما ، فاستبطن دقائقهما وأحصى مسائلهما ، وأحاط بآراء أساتذتهما ، فعاد فقيها مقداما وأصوليا محقّقا لا يباريه ولا يناضله إلّا القلائل.

التعريف بالمؤلّف

هو الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي (٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه‍) المعروف بالعلّامة على الإطلاق ، من أسرة عربية عريقة من بني أسد ، ولد في الحلّة الفيحاء مهد الحضارات في تاريخ الإنسانية ، وتربّى في أحضان رجال كبار ، كان

٥٢

لكلّ منهم سهم في تكوين شخصيّته وبروز مواهبه إلى عالم الوجود ، نشير إلى ثلّة منهم :

١. والده العلّامة الفقيه الكبير الشيخ سديد الدين يوسف بن المطهّر الحلّي ، الّذي وصفه ابن داود في رجاله بأنّه كان فقيها ، محقّقا ، عظيم الشأن.

٢. خاله نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي (٦٠٢ ـ ٦٧٦ ه‍) صاحب الشرائع ، المعروف بالمحقّق الحلّي ، الّذي اعترف القريب والبعيد بتبحّره بالفقه.

٣. الخواجه نصير الدين محمد بن الحسن الطوسي (٥٩٧ ـ ٦٧٢ ه‍) الفيلسوف الكبير الطائر الصيت ، فقد قرأ عليه الكلام والفلسفة والهيئة والرياضيات. إلى غير ذلك من المشايخ العظام الذين أخذ عنهم بقسط وافر.

الثناء في حقّه

وقد أثنى عليه علماء الفريقين على وجه لا يسعنا الإشارة إلّا إلى القليل من ذلك :

١. عرّفه معاصره ابن داود الحلّي بقوله : شيخ الطائفة ، وعلّامة وقته ، وصاحب التحقيق والتدقيق ، كثير التصانيف ، انتهت رئاسة الإماميّة إليه في المعقول والمنقول. (١)

٢. وقال الصفدي : الإمام العلّامة ذو الفنون ، عالم الشيعة وفقيههم ، صاحب التصانيف الّتي اشتهرت في حياته .. وكان يصنّف وهو راكب .. وكان ريّض

__________________

(١) رجال ابن داود : ٤٦١.

٥٣

الأخلاق ، مشتهر الذكر ... وكان إماما في الكلام والمعقولات. (١)

٣. وقال ابن حجر : عالم الشيعة وإمامهم ومصنّفهم ، وكان آية في الذكاء ... وكان مشتهر الذكر ، حسن الأخلاق. (٢)

إلى غير ذلك من الكلمات الضافية الّتي ذكرها أصحاب المعاجم في حقه.

وكفاك أنّه برع وتقدّم وهو لا يزال في مقتبل عمره على العلماء الفحول ، وفرغ من تصنيفاته الحكمية والكلامية ، وأخذ في تحرير الفقه قبل أن يكمل له (٢٦) سنة.

ودرّس ، وأفتى ، وتفرّد بالزعامة ، وأحدثت تصانيفه ومناظراته ضجّة ، كان من آثارها تشيّع السلطان محمد خدابنده أولجايتو وعدد من الأمراء والعلماء ، وتداول كتبه في المحافل العلمية تدريسا وشرحا وتعليقا ونقدا ، وازدهار الحركة العلميّة في الحلّة واستقطابها للعلماء في شتّى النواحي.

ونحن نقتصر بهذا المقدار في تعريف المؤلّف.

وننتقل إلى التعريف بالكتاب فنقول :

نهاية الوصول إلى علم الأصول :

إن العلّامة الحليّ قد ضرب في علم الأصول بسهم وافر فألّف فيه مختصرات ومتوسطات ومطوّلات ، فبلغ مجموعها ستّة كتب ، نشير إليها كما يلي :

__________________

(١) الوافي بالوفيات : ١٣ / ٨٥ برقم ٧٩.

(٢) لسان الميزان : ٢ / ١٧ برقم ١٢٩٥.

٥٤

١. «غاية الوصول وإيضاح السبل» في شرح مختصر منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل لابن الحاجب (المتوفّى ٦٤٦ ه‍) ذكره المصنّف في خلاصة الرجال.

٢. «مبادئ الوصول إلى علم الأصول» ، مطبوع ذكره المصنّف لنفسه في الخلاصة ، وفي إجازته للسيد المهنّا.

٣. «منتهى الوصول إلى علمي الكلام والأصول» ذكره المصنّف في الخلاصة ، وفي إجازته للسيد المهنّا ، فرغ منه يوم الجمعة السادس عشر من شهر جمادى الأولى سنة ٦٨٧ ه‍.

٤. «نهج الوصول إلى علم الأصول» ، ذكره المصنّف في الخلاصة ، وإجازته للسيد المهنّا. وأحال في مبحث الحقيقة الشرعيّة من هذا الكتاب إلى كتاب «نهاية الوصول» ص ٧٦.

٥. «تهذيب الوصول إلى علم الأصول» مطبوع ، ذكره المصنّف في الخلاصة ، وإجازته للسيد المهنّا ، وله شروح كثيرة.

٦. آخرها : «نهاية الوصول إلى علم الأصول». وهذا هو ما يزفّه الطبع إلى القراء الكرام. ذكره المصنّف في إجازته للسيد المهنّا.

وعرّفه في «الخلاصة» بقوله : كتاب جامع في أصول الفقه لم يسبقه أحد ، فيه ما ذكره المتقدّمون والمتأخّرون ألّفه بالتماس ولده فخر الدين.

وقال قدس‌سره في مقدّمة الكتاب : وقد صنّفنا كتبا متعددة في المختصرات والمطوّلات ، الجامعة لجميع النكات ، وسأل الولد العزيز : محمد ـ أسعده الله تعالى في الدارين ، وأيّده بتحصيل الرئاستين ، وتكميل القوّتين ، وجعلني الله فداه من جميع ما يخشاه ، وحباه بكل ما يرجوه ويتمنّاه ـ إنشاء كتاب جامع

٥٥

لما ذكره المتقدّمون حاو لما حصّله المتأخّرون ، مع زيادة نسبية لم يسبقنا إليها الأوّلون.

* * *

ان الكتاب بحق يعدّ دائرة معارف لعلم الأصول ، قد ألّف في أوائل القرن الثامن ، فقد جمع فيه أقوال أئمة الأصول من الأشاعرة والمعتزلة والإماميّة وغيرهم ، وناقش الكثير من الآراء مناقشة وافية ، وربّما تكهن لصاحب الآراء ببعض الأدلة التي لم تخطر بباله.

فالمؤلّف ينقل آراء المخالفين بصدر رحب كأنّها آراؤه ، ثمّ يأخذ بالمناقشة ، فمن حاول الوقوف على آراء الأصوليين من لدن عصر الشافعي ، إلى عصر المؤلّف فهذا الكتاب بمفرده كاف بذلك ، مضافا إلى أنّه يحتوي نقودا وآراء لمؤلّف كرس عمره في الفقه وأصوله ، وألّف كتبا وربّى جيلا كبيرا من العلماء في العراق وخارجه. هذا ، وقد فرغ المؤلّف من تأليفه سنة ٧٠٤ هو إليك صورة خطّه في آخر الكتاب :

«وكان الفراغ منه في ثامن شهر رمضان المبارك سنة أربع وسبعمائة. وكتب العبد الفقير إلى الله تعالى حسن بن يوسف المطهر الحلّي مصنّف هذا الكتاب ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد النبيّ وآله الطاهرين المعصومين».

وهذا ما جاء في النسخة المخطوطة الموجودة في مكتبة مدرسة مروي في طهران برقم ٣٦٣ ، وقد فرغ الناسخ من نسخها في ١٠١٢ ه‍.

وبما أن هذا الكتاب يعد موسوعة أصوليّة مهمّة فقد بذل المحقّق جهدا كبيرا في تصحيحه وتقويم نصّه وإليك منهجه في العمل.

٥٦

منهج التحقيق

قام المحقّق الشيخ إبراهيم البهادري ـ حفظه الله ـ بتحقيق هذا الكتاب القيّم ، بمنهجية خاصة ، نشير إليها بالنقاط التالية :

أ. قام بمقابلة النسخ بعضها مع بعض ، واتّبع طريقة التلفيق ، فأثبت ما هو الصواب في المتن ، وأشار أحيانا إلى الاختلافات بين النسخ في الهامش.

ب. قام بتقطيع النص على مقاطع خاصّة ، ليسهل للقارئ مطالعة الكتاب ، حيث إنّ المؤلّف كسائر القدامى يسترسلون في الموضوع دون أن يفصّلوا بين مطلب وأخر ، وهذا ربّما يوجب الغموض في فهم المطلب.

ج. قام بتخريج الآيات والأحاديث النبوية من مصادرها الأصليّة ، كما أخرج الأمثال والأشعار الّتي استشهد بها المؤلّف على مرماه ، من الدواوين وكتب الأمثال.

د. لقد أكثر المصنّف النقل عن المتقدّمين من الأصوليّين والمتأخّرين منهم ، فربّما ذكر اسم المؤلّف وكتابه ، وربّما نقل بلا إشارة إلى التأليف والمؤلّف ، فبذل محقّقنا ـ الجادّ في عمله ـ ، جهده للتعريف بمصادر الأقوال وقائليها. وقد أخذ منه ذلك العمل وقتا كثيرا لا يقوم به إلّا عشاق التحقيق وروّاد العلم.

ه. قد لخّص المؤلّف أقوال الآخرين وآراءهم وبراهينهم الّتي أقاموها على أفكارهم ، وربّما أوجد ذلك صعوبة في فهم المراد ، فاستعان المحقّق في إيضاح مرامهم بالرجوع إلى الكتب الّتي رجع إليها المؤلّف في نقل الأقوال وتلخيصها ، وأوضح ما صعب فهمه في الهامش.

٥٧

النسخ التي اعتمد عليها

وقد اعتمد المحقّق في تحقيق الكتاب على عدّة نسخ نذكر منها ما يلي :

أ. النسخة الموجودة في مكتبة السيد المرعشي النجفي قدس‌سره والتي تحمل رقم ١٩٢٧ ، وتاريخ نسخها ١٢٣٥ ه‍ ، وهي مؤلّفة من ٣٢٣ ورقة ، وقد نسخت على نسخة قديمة كتبت في زمان المصنف قدس‌سره ، والتي ورد في آخرها : قال المصنّف أدام الله ظله ... ورمز لها المحقّق بحرف (أ).

ب. النسخة الموجودة في نفس المكتبة أيضا والتي تحمل الرقم ١٩٠٨ م ، وتاريخ نسخها ١٢٢٧ ه‍ ، وهي مؤلّفة من ٣٣٦ ورقة.

ورمز لها المحقّق بحرف (ب).

ج. النسخة الموجودة في مكتبة مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام والتي عليها تملك جعفر التبريزي السبحاني ، وهي غير مؤرّخة ، وهي نسخة مقروءة وجيدة.

هذا ولم يقتصر المحقّق (حفظه الله) بالعمل على هذه النسخ ، بل أنّه قد رجع إلى نسخ أخرى حصل عليها.

إنّ عمليّة تحقيق المخطوطات ووضعها بيد القرّاء واضحة وجاهزة ومزدانة بتعاليق ، أشبه بتصفية الطين وتبديله إلى ماء زلال شفاف ، تميل إليه النفس ؛ بل هي أصعب من ذلك.

ولو لا أنّ الله سبحانه تبارك وتعالى قد أعطى للمحقّقين حبّ

٥٨

العلم والاستطلاع على نحو ينسون أنفسهم ولذّاتهم في طريقه ، لما قام هؤلاء بإنجاز هذه الأعمال الكبيرة.

وقد صدر للمحقّق الشيخ إبراهيم البهادري لحدّ الآن تحقيق الكتب التالية :

١. الاحتجاج : لشيخنا أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في جزءين.

٢. إشارة السبق : تأليف الشيخ علاء الدين أبي الحسن علي بن أبي الفضل ، المعروف بالحلبي.

٣. إصباح الشيعة : للفقيه الأقدم قطب الدين البيهقي الكيدري.

٤. تحرير الأحكام : للعلّامة الحلّي في خمسة أجزاء ، سادسها الفهارس العامّة للكتاب.

٥. جواهر الفقه : للقاضي ابن البراج.

٦. الرسائل الاعتقادية : للشيخ الطوسي.

٧. عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : لابن البطريق الحلّي في جزءين.

٨. غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع : لابن زهرة الحلبي في جزءين.

٩. المسائل الميّافارقيّة : للسيّد الشريف المرتضى.

١٠. معالم الدين في فقه آل يس : للفقيه البارع شمس الدين محمد بن شجاع القطان الحلّي في جزءين.

مضافا إلى هذا الكتاب الماثل بين يديك والّذي يزفّه الطبع إلى القرّاء الكرام.

٥٩

ونحن نشكر الله سبحانه على هذه الموهبة الّتي أعطاها للشيخ البهادري ، راجيا منه سبحانه أن يوفّقه لإكمال هذا المشروع ، الّذي سيتمّ إن شاء الله تعالى في أجزاء أربعة ، ويتيح لمؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام القيام بنشره وجعله في متناول روّاد العلم والفضيلة. إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.

جعفر السبحاني

قم المشرفة ـ مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

٧ ربيع الثاني ١٤٢٥ ه

٦٠