نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

ثمّ إنّه وارد على الطلب ، فإنّ العاقل كما لا يريد من عبده الفعل في تلك الحال ، كذا لا يطلبه طلبا نفسانيا وإن وجدت منه صيغة الطّلب.

والنسخ قبل حضور الوقت محال على ما يأتي.

وكما استحال أن يكون مريدا وكارها ، كذا استحال أن يكون طالبا للفعل والترك في الوقت الواحد من الوجه الواحد.

المبحث الرّابع : في أنّ الصّيغة هي الأمر الاصطلاحي

قد عرفت أنّ الحقّ هو أنّ الطلب والإرادة بمعنى واحد ، وهو معنى يقتضي ترجيح أحد الطّرفين على الآخر ، فنقول : هذا الترجيح قد يكون لجانب الفعل على الترك ، وقد يكون على العكس.

وعلى كلّ التقديرين ، فالترجيح قد يكون مانعا من الطّرف الآخر ، كما في الوجوب والحظر ، وقد لا يكون ، كما في الندب والكراهة.

والفرق بين أصل الترجيح وبين الترجيح المانع من النقيض ، فرق ما بين الخاصّ والعامّ.

إذا عرفت هذا فنقول : هنا لفظ دالّ على الترجيح ، ولفظ دالّ على التّرجيح المانع من النقيض ، وعلى التقديرين ، فالمعتبر إمّا اللّفظة الدالّة عليه ، أو اللّفظة العربيّة ، فالأقسام ستّة :

الأوّل : أصل الترجيح.

٣٨١

الثاني : الترجيح المانع من النقيض.

الثالث : مطلق اللّفظ الدّالّ على الأوّل.

الرابع : مطلق اللّفظ الدّالّ على الثاني.

الخامس : اللّفظة العربيّة الدالّة على الأوّل.

السادس : اللّفظة العربيّة الدالّة على الثاني.

والتحقيق يقتضي زيادة ثلاثة أقسام أخر.

الأوّل : الترجيح غير المانع من النقيض ، وهو المقابل بالضدّية للترجيح المانع.

الثاني : مطلق اللّفظ الدال عليه.

الثالث : اللّفظة العربيّة الدالّة عليه.

وأنت مخيّر في إطلاق لفظ الأمر على أيّها شئت.

لكن من حيث اللّغة جعله اسما للصيغة الدالّة على الترجيح ، أولى من جعلها اسما لنفس الترجيح لوجوه :

الأوّل : قالوا : الأمر من الضّرب : اضرب ، جعلوا [نفس] الصّيغة أمرا (١).

وفيه نظر ، للتقييد ، فلا يدلّ على الحقيقة.

الثاني : لو قال : إن أمرت فعبدي حرّ ، ثمّ أشار بما يفهم عنه مدلول الصّيغة

__________________

(١) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٩٥.

٣٨٢

لم يعتق ، ولو كان اسما للترجيح لعتق ، ولا يعارض بالاخرس للمنع من العتق في طرفه. (١)

وفيه نظر ، للمنع من عدم العتق فيهما.

الثالث : الصيغة دليل ، فجعله حقيقة فيها أولى من جعله حقيقة في المدلول لأنّ فهم الدّليل ملزوم لفهم المدلول ، فجعله مجازا في اللّازم أولى.

وفيه نظر ، لأنّه إثبات اللّغة بالتّرجيح.

الرابع : إذا قيل : أمر فلان ، سبق الفهم إلى اللفظ ، دون ما في القلب ، ولو قام بقلبه شيء (٢) ولم ينطق به ، يقال : لم يأمر.

وفيه نظر ، لأنّ السبق لظهور اللفظ وخفاء ما في القلب ، ولو علم الطّلب الجازم منعنا النفي.

واحتجّ المخالف بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(٣).

كذّبهم في الشهادة ، ومن المعلوم صدقهم في النّطق [اللسانيّ] ، فيعود الكذب إلى الكلام النفسانيّ.

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) في «أ» و «ج» : «ولو قال بقلبه شيء» والصحيح ما في المتن والمراد : أنّه إذا قام معنى الأمر بقلب الإنسان ولم ينطق بشيء لا يقال : إنّه أمر.

(٣) المنافقون : ١.

٣٨٣

الثاني : قال عمر : زوّرت في نفسي كلاما فسبقني إليه أبو بكر. (١)

الثالث : قال الأخطل (٢) :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللّسان على الفؤاد دليلا

الرابع : هذه الألفاظ معرّفات ، فلو كانت كلاما لأجل تعريف المعنى النّفساني ، فلتكن الكتابة والإشارة كلاما.

والجواب : الشّهادة هي الإخبار [عن الشيء] مع العلم واعتقاده ، ولمّا انتفى الاعتقاد ، كذّبهم في ادّعائهم الشهادة ، لا في المشهود به.

ويقال : زوّرت في نفسي كلاما ، أي قدّرته وفرضته ، كما يقال : زوّرت دارا أو بناء.

وكون الكلام في الفؤاد ، إشارة إلى تصوّره ، مع أنّه لم يكن عربيّا خالصا.

والقياس في اللغة ، باطل.

إذا ثبت هذا ، فالحقّ أنّ الأمر اسم للّفظ الدّال على مطلق الطّلب ، لا لعربيّ ، فإنّ الفارسيّ إذا طلب شيئا بلغته قيل : أمر ، ويحنث به.

__________________

(١) نقله الفخر الرازي في المحصول : ١ / ١٩٦ ، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق : ٣٠ / ٢٨٥ والطبري في تاريخه : ٢ / ٤٤٦ ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ١٢ / ١٢٧.

(٢) هو غياث بن غوث من بني تغلب ، شاعر مصقول الألفاظ ، أحد الثلاثة المتّفق على أنّهم أشعر أهل عصرهم (جرير وفرزدق والأخطل) نشأ على المسيحية في أطراف الحيرة ، واشتهر في عهد بني أميّة بالشام ، وأكثر من مدح ملوكهم ، ولد سنة ١٩ ه‍ وتوفّي سنة ٩٠ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ٥ / ١٢٣.

٣٨٤

المبحث الخامس : في أنّ الرّتبة معتبرة أم لا؟

ذهب جماعة من الأصوليّين إلى اعتبار الرتبة في الأمر ، فيجب أن يكون الامر أعلى رتبة من المأمور حتّى يسمّى الطّلب أمرا.

وبه قال السيد المرتضى (١) وجمهور المعتزلة.

وذهب آخرون إلى نفيه ، وهو الحقّ ، وإنّما المعتبر هو الاستعلاء ، وبه قال أبو الحسين البصري (٢).

وقالت الأشاعرة : لا يعتبر العلوّ ، ولا الاستعلاء.

لنا على عدم اعتبار العلوّ : قوله تعالى حكاية عن فرعون إنّه قال لقومه : (فَما ذا تَأْمُرُونَ)(٣) مع أنّه كان أعلى رتبة منهم.

وقال عمرو بن العاص لمعاوية :

أمرتك أمرا حازما فعصيتني

وكان من التوفيق قتل ابن هاشم (٤)

وقال دريد بن الصّمّة لنظرائه ، ولمن هم فوقه :

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا الرشد إلّا ضحى الغد (٥)

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٣٥.

(٢) انظر المعتمد في أصول الفقه : ١ / ٤٣.

(٣) الشعراء : ٣٥.

(٤) انظر وقعة صفّين ص ٢٤٣ ؛ وشرح النهج لابن أبي الحديد : ٨ / ٣١ ؛ والغدير : ٢ / ١٧١.

(٥) لاحظ الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني : ١٠ / ٣ وشرح النهج لابن أبي الحديد : ٢ / ٢٠٥ ؛ وبحار ـ

٣٨٥

وقال ابن المنذر ليزيد بن المهلّب أمير خراسان والعراق :

أمرتك أمرا حازما فعصيتني

فأصبحت مسلوب الإمارة نادما (١)

وعلى اعتبار الاستعلاء : أنّهم فرّقوا بين الأمر والالتماس والسؤال ، فقالوا : إن كان الطّلب باستعلاء كان أمرا ، وإن قارن الخضوع فهو السؤال ، وإن قارن التساوي فهو الالتماس ، ويستقبحون قول القائل : أمرت الأمير.

ولأنّ من قال لغيره : افعل على سبيل الاستعلاء ، يقال : إنّه أمره وإن كان أدنى رتبة ، ومن قال لغيره : افعل على سبيل التضرّع إليه ، لا يقال : إنّه أمره وإن كان أعلى رتبة من المقول له.

واحتجّ السيّد المرتضى بأنّه يستقبح في العرف أن يقال : أمرت الأمير ونهيته ، ولا يستقبح : سألته وطلبت منه ، ولو لا أنّ الرّتبة معتبرة وإلّا لما كان كذلك.

قال السيد : والنهي جار مجرى الأمر في هذه القضيّة ، وما له معنى الأمر وصيغته من الشفاعة تعتبر أيضا فيه الرّتبة ، لأنّهم يقولون : شفع الحارس إلى الأمير ، ولا يقولون : شفع الأمير إلى الحارس.

فالرتبة معتبرة في الشفاعة بين الشافع والمشفوع إليه ، كما أنّها معتبرة في الأمر بين الامر والمأمور ، ولا اعتبار بها في المشفوع فيه ، كما ظنّه من خالفنا في الوعيد ، لأنّ الكلام ضربان : فضرب لا تعتبر فيه الرّتبة ، وضرب تعتبر فيه

__________________

ـ الأنوار : ٢٨ / ٣٢٩ وج ٣٣ / ٣٢٢ وقد استشهد بهذا البيت الإمام علي عليه‌السلام في بعض خطبه ، (نهج البلاغة ، الخطبة ٣٥).

(١) لاحظ تاريخ الطبري : ٥ / ١٩٣ و ٤٧٣ ؛ والمحصول في علم الأصول : ١ / ١٩٩.

٣٨٦

الرتبة ، فما تعتبر فيه إنّما تعتبر بين المخاطب والمخاطب ، دون من يتعلّق الخطاب به.

ولهذا جاز أن يكون أحدنا شافعا لنفسه ، وفي حاجة نفسه ، ولو اعتبرت الرّتبة في المشفوع فيه ، لما جاز ذلك ، كما لا يجوز أن يكون امرا نفسه وناهيا. (١)

والجواب : مسلّم أنّه يستقبح ، وهو دليلنا على عدم اعتبار الرّتبة ، ودليل يدلّ على أنّ الرّتبة معتبرة في حسن الأمر لا فيه ، ونمنع عدم اعتبار الرّتبة في الشفاعة بين الشافع والمشفوع فيه.

ولا نسلّم صحّة شفاعة أحدنا في نفسه إلّا على ضرب من التجوّز.

ثمّ إنّه نقل احتجاج المخالف من وجوه :

الأوّل : حمل الأمر على الخبر في عدم اعتبار الرّتبة.

الثاني : قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(٢).

والطاعة تعتبر فيها الرّتبة كالأمر.

الثالث : قال الشاعر :

ربّ من أنضجت غيضا صدره

قد تمنّى لي موتا لم يطع

والموت من فعل الله تعالى ، ويستحيل عليه الطاعة.

ثمّ أجاب عن الأوّل بأنّه لو ساوى الأمر الخبر في اعتبار الرّتبة ، لجاز أن

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) غافر : ١٨.

٣٨٧

يقال : أمرت الأمير ، كما يقال : أخبرته.

وقد تقدّم جوابه.

وعن الثاني : أنّه استعار للإجابة لفظ الطاعة ، فإنّ أحدا لا يقول : إنّ الله أطاعني في كذا إذا أجابني إليه.

ولأنّ ظاهر اللفظ يقتضي أنّه ما للظّالمين شفيع يطاع ، ولا يلزم من ذلك نفي شفيع يجاب.

لا يقال : وكلّ شفيع لا يطاع على مذهبكم سواء كان في ظالم أو غيره ، لأنّ الشّفيع يدلّ على انخفاض منزلته عن منزلة المشفوع إليه ، والطاعة تقتضي عكسه.

لأنّا نقول : دليل الخطاب باطل ، ولا امتناع في تخصيص الظالمين بنفي شفيع لهم يطاع ، وإن كان غيرهم كذلك.

ويحتمل أن يريد ب «يطاع غير الله» من الزبانية والخزنة ، والطاعة من هؤلاء لمن هو أعلى منزلة منهم ، من الأنبياء عليهم‌السلام والمؤمنين ، صحيحة.

والشاعر تجوّز باستعمال لفظة «يطع» في موضع «يجب».

أو تمنّى في عدوّه أن يقتله بعض البشر ، ويسمّى القتل موتا وبالعكس ، للتقارب بينهما ، فلم يطعه ذلك القاتل. (١)

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٣٦ ـ ٣٨.

٣٨٨

المبحث السادس : في أنّ دلالة الصيغة على الطلب بالوضع

اعلم أنّ لفظة افعل وشبهها تدلّ على الطلب من غير حاجة إلى إرادة أخرى ، وهو مذهب الأشاعرة والكعبي (١) من المعتزلة.

وقال الجبائيّان (٢) : لا بدّ مع ذلك الوضع من إرادة أخرى.

لنا : أنّها موضوعة للطلب ، فلا تتوقّف دلالتها عليه إلى إرادة ، كسائر الألفاظ.

ولأنّ الطّلب النفساني أمر باطن ، فلا بدّ من الاستدلال عليه بأمر ظاهر ، والإرادة أمر باطن فيفتقر إلى معرّف كافتقار الطلب ، فلو توقّفت دلالة الصيغة على الطلب على تلك الإرادة ، لم يكن الاستدلال بالصيغة على الطّلب.

احتجوا بأنّا نميّز بين الصّيغة إذا كانت طلبا ، وتهديدا ، ولا مائز إلّا الإرادة.

والجواب : أنّها حقيقة في الطلب ، ومجاز في التهديد ، وكما يجب صرف الألفاظ إلى حقائقها ، وإجزاؤها عليها عند التجرّد ، فكذا هنا.

__________________

(١) تقدّمت ترجمته ص ٣٦٧.

(٢) هما : أبو علي وابنه أبو هاشم.

٣٨٩

المبحث السابع : فيما به يصير الأمر أمرا

اختلف الناس في ذلك على أقوال :

فذهب قوم إلى أنّ الأمر إنّما كان بجنسه ونفسه ، وأنّه لا يتصوّر إلّا أن يكون أمرا ، وهو اختيار البلخي (١) من المعتزلة.

فقيل له : هذه الصّيغة قد تصدر للتهديد والإباحة ، فقال : ذلك جنس آخر لا من هذا الجنس ، وجعل صيغة افعل في الأمر حقيقة مغايرة لصيغة افعل في التهديد والإباحة مغايرة بالذات.

وقال آخرون : إنّما كان كذلك لصورته وصيغته.

وقال قوم بذلك بشرط التجرّد عن القرائن الصّارفة له عن جهة الأمر إلى التهديد والإباحة ، وإليه ذهب جماعة من الفقهاء ، وزعموا أنّه لو صدر من النائم والمجنون أيضا ، لم يكن أمرا للقرينة.

وهذا يعارضه قول من يقول : إنّه لغير الأمر إلّا إذا صرفته قرينة إلى معنى الأمر ، لأنّه إذا سلم إطلاق العرب هذه الصّيغة على أوجه مختلفة ، فحوالة البعض على الصّيغة ، والباقي على القرينة تحكّم محض ، فيجب التوقّف فيه ، فيوقّف.

وقال آخرون : إنّما كان أمرا ، لأنّ الامر أراد كونه أمرا وأجروه في هذه القضيّة مجرى الخبر.

__________________

(١) هو أبو القاسم الكعبي ، تقدّمت ترجمته آنفا.

٣٩٠

وقال آخرون : إنّما كان الأمر أمرا ، لأنّ الامر أراد الفعل المأمور به ، واختاره السيّد المرتضى (١) وهو مذهب محقّقي المعتزلة.

وربّما قال بعضهم إنّما يصير أمرا بإرادات ثلاث : إرادة المأمور به ، وإحداث الصيغة ، والدلالة بالصّيغة على الأمر ، دون الإباحة والتّهديد.

والأشاعرة منعوا من ذلك ، وجعلوا أمرا بالوضع ، ولا يشترط الإرادة.

والأوّل باطل عند المحقّقين.

واستدلّ السيد المرتضى بأنّ الأمر قد يكون من جنسه ما ليس بأمر (٢) وأنّ ما يكون أمرا جاز أن يوجد غير أمر ، فلا بدّ من سبب يقتضي كونه أمرا ، ولا سبب إلّا إرادة المتكلّم للمأمور به.

أمّا المقدمة الأولى : فلأنّ اشتباه اللفظ حسّا عند كونه أمرا وتهديدا وإباحة يدلّ على التماثل ، كما في السّوادين ، وكما حكمنا بالتماثل هنا ، لالتباسهما حسّا ، فكذا هناك.

وبيان المقدّمة الأولى : أنّ من سمع قم وهو امر لم يفصل بينه وبين كونه إباحة أو تهديدا ، ولقوّة هذا الالتباس جوّز من يجوّز البقاء على الكلام ، أو الإعادة أن يكون ما سمعه ثانيا هو ما سمعه أوّلا.

وأمّا بيان أنّ ما كان يقع أمرا يجوز أن يوجد غير أمر فوجوه :

الأوّل : الألفاظ العربيّة تدلّ بواسطة الوضع من أهل اللغة ، وهو يتبع

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٤١.

(٢) في الذريعة : «من جنس ما ليس بأمر».

٣٩١

اختيارهم ، وليس هناك وجوب ، فقد كان يجوز في هذا اللفظ المخصوص بالأمر أن يكون أمرا ، وحينئذ توجد هذه الحروف بعضها ولا يكون أمرا.

الثاني : لو كان الأمر يتعلّق بالمأمور من غير قصد المتكلّم ، لم يمتنع أن يقول أحدنا لغيره : افعل ويريد منه الفعل ، فلا يكون أمرا ، أو لا يريد منه الفعل ، فيكون أمرا ، وذلك معلوم البطلان.

الثالث : لو تغاير لفظ الأمر ولفظ غيره ، لوجب أن يكون للقادر سبيل إلى التمييز بينهما ، ولمّا انتفى ، علمنا اتّحاد اللّفظ.

الرابع : هذا القول يقتضي صحّة أن نعلم أنّ أحدنا أمر وإن لم نعلمه مريدا ، إذا كان القصد لا تأثير له ، ومن المعلوم أنّ أحدنا إذا كان امرا ، فلا بدّ من كونه مريدا ، وإنّما خالفنا المجبّرة في الله تعالى.

الخامس : هذا القول يقتضي انحصار من يقدر على أن يأمره في كلّ حال ، حتّى يكون القويّ بخلاف الضعيف.

بيان الوجوب : أنّ القدرة الواحدة لا تتعلّق في الوقت الواحد ، في المحلّ الواحد ، من الجنس الواحد بأكثر من جزء واحد ، وحروف قول القائل : «قم» مماثلة لكلّ ما هذه صورته من الكلام ، فيجب أن يكون أحدنا قادرا من عدد هذه الحروف في كلّ وقت على قدر ما في لسانه من القدرة ، وهذا يقتضي انحصار عدد من يصحّ أن يأمره ، ومعلوم خلاف ذلك.

لا يقال : إذا جاز أن يفعل أحدنا بالقدرة الواحدة في كلّ محلّ كونا في جهة بعينها ، ولم يجب أن يقدر على كون واحد يصحّ وجوده في المحالّ على البدل بالإرادة ، فإلّا جاز مثله في الألفاظ.

٣٩٢

لأنّا نقول : القدرة الواحدة ، لا ينحصر متعلّقها من المتماثل إذا اختلفت المحالّ ، كما لا ينحصر متعلّقها في المختلف ، والوقت والمحلّ واحد.

وليس كذلك ما يتعلّق به من المتماثل في المحلّ الواحد ، والوقت واحد ، لأنّها لا تتعلّق على هذه الشروط بأكثر من جزء واحد.

لا يقال : محالّ الحروف المتماثلة متغايرة ، كما قلنا في الأكوان.

لأنّا نقول : من المعلوم اتّحاد محالّ مخرج الحرف الواحد ، ولهذا متى لحق بعض محالّ هذه الحروف آفة ، أثّر ذلك في كلّ حروف ذلك المخرج.

وإذ قد ثبت (١) أنّ ما وقع أمرا قد كان يجوز أن يكون غير أمر ، فلا بدّ في وقوعه أمرا من سبب ، فإمّا أن يرجع إليه وما يتعلّق به ، أو إلى فاعله.

وما يرجع إليه ، إن كان وجوده ، أو حدوثه ، أو جنسه ، أو صفته ، بطل ، لوجود هذه الأشياء فيما ليس بأمر.

وأيضا ، لو كان أمرا بجنسه ، كان صفة نفسيّة ، وكان يرجع إلى الآحاد دون الجمل ، فكان يجب في كلّ جزء من الأمر أن يكون أمرا ، وكان يجب أن يدرك على هذه الصفة ، فيعرف بالسمع كونه أمرا من لا يعرف اللّغة ، وكان يحصل حال العدم ، كما يحصل حال الوجود ، لأنّ الصفة النفسيّة كذلك ، فكان يجب في حال العدم أن يكون أمرا.

ولا يجوز أن يكون أمرا لحدوثه على وجه ، ويراد به ترتيب صيغة ، لما بيّنا أنّ نفس هذه الصيغة قد تستعمل في غير الأمر ، ولا لعدمه ، إذ عدمه يحيل

__________________

(١) في «أ» : وإذا ثبت.

٣٩٣

هذه الصفة ، وما يحيل الصفة لا يكون علّة فيها.

ولا لعدم معنى ، لعدم اختصاص ذلك به.

ولا لوجود معنى ، إذ كلّ معنى يفرض غير الإرادة ، يصحّ وجوده ، ولا يكون أمرا.

وأمّا ما يتعلّق بالفاعل ، فالقدرة غير مؤثّرة ، إذ تعلّق كونه قادرا به وهو امر كتعلّقها به وهو غير امر.

ولأنّ كونه قادرا لا يؤثّر إلّا في الإيجاد ، وكونه أمرا حكم زائد على الوجود.

وأمّا كونه عالما ، فإمّا أن يراد به كونه عالما بذات الامر ، والمأمور به ، أو كونه عالما بأنّ الكلام أمر.

والأوّلان باطلان ، فإنّه قد يكون عالما بذات الامر والمأمور به ، ولا يكون كلامه أمرا.

والثالث باطل ، لأنّ كلامنا فيما به صار أمرا ، فيجب أن يذكر الوجه فيه ، ثمّ يعلّق العلم به ، إذ العلم غير مؤثّر في المعلوم ، وإلّا لكان علمنا بصفات القديم تعالى وصفات الأجناس هو المؤثّر فى كونه تعالى على صفاته ، وكون الأجناس على ما هي عليه.

وأمّا كونه مدركا أو مشتهيا أو نافرا فغير مؤثّر ، إذ قد يكون كذلك ، ويكون كلامه تارة أمرا وأخرى غيره.

فلم يبق إلّا كون فاعله مريدا للمأمور به ، لا لكونه أمرا ، وإلّا لجاز أن

٣٩٤

يكون أحدنا أمر بما لا يريده ، أو بما يكرهه غاية الكراهة.

وأيضا لو صحّ أن يأمر بما لا يريد ، لصحّ أن يأمر بالماضي والقديم.

وأيضا لمّا صحّ في الخبر أن يكون خبرا باعتبار إرادة كونه خبرا لا باعتبار إرادة المخبر عنه ، صحّ تعلّق الخبر بالماضي والقديم ، ولمّا امتنع ذلك في الأمر ، علمنا أنّه إنّما يكون أمرا إذا تعلّقت الإرادة بالمأمور به (١).

وهذا الكلام على طوله فيه نظر ، للمنع من كون التماثل حسّا يدلّ على التماثل في نفس الأمر ، وباقي كلامه مبنيّ على أصول المثبتين ، وهي ضعيفة.

واحتجّت الأشاعرة على أنّ الإرادة ليست شرطا بوجوه :

الأوّل : لو كانت الأمريّة صفة للصّيغة ، لكانت إمّا أن تكون حاصلة لمجموع الحروف ، وهو محال ، إذ لا وجود لذلك المجموع ، أو الآحاد ، فيكون كلّ واحد من الحروف الّتي اشتقّت صيغة افعل منها أمرا على الاستقلال.

الثاني : صيغة افعل تدلّ بالوضع على معنى ، وذلك المعنى هو إرادة المأمور ، وإذا كانت الإرادة نفس المدلول ، وجب ألا تفيد الصيغة الدالّة عليها صفة ، قياسا على سائر المسمّيات والأسماء.

الثالث : يلزم أن يكون قوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ)(٢) و (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ)(٣) أمرا لأهل الجنة ، والأمر إنّما يتحقّق بوعد ووعيد ، فتكون دار الآخرة دار تكليف ، وهو باطل إجماعا.

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٤١ ـ ٥٠ نقله مع التصرف والشرح.

(٢) الحجر : ٤٦.

(٣) الحاقّة : ٢٤.

٣٩٥

الرابع : يلزم أن يكون الشخص امرا لنفسه ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ من قال لنفسه «افعل» مع إرادة الفعل من نفسه ، قد وجد منه المقتضي للأمر ، فيكون أمرا.

وأمّا بطلان التّالي : فإنّ الأمر هو المقتضي للفعل ، وأمره لنفسه لا يكون مقتضيا للفعل ، بل المقتضي إنّما هو الدّاعى.

الخامس : لو كان الأمر إنّما يكون أمرا إذا أراد الامر الفعل ، لم يجز أن يستدلّ بالأمر على الإرادة ، لأنّه لا يعلم أمرا قبل العلم بالإرادة.

السّادس : أهل اللغة قالوا : الأمر هو قول القائل : افعل مع الرتبة ، ولم يشترطوا الإرادة ، ولو كانت شرطا لذكروها ، كما ذكروا الرّتبة ، وصار كقولهم : الأسد اسم لمسمّاه في أنّه لا يشترط فيه الإرادة.

السّابع : قد يأمر السيّد عبده بما لا يريد إظهارا لتمرّده ، كما سبق.

الثامن : أمر الله تعالى إبراهيم بذبح إسماعيل ولم يرده.

والجواب عن الأوّل : الأمريّة كالخبريّة ، فإنّهما صفتان معقولتان ، وإن لم تكونا قائمتين باللّفظ ، فبالوجه الّذي عرفت صيغة الخبريّة ، تعرف صيغة الأمريّة.

والجواب فيهما واحد ، وهو : أنّ الصيغتين عقليّتان تستدعيان محلّا عقليّا ، أمّا خارجيّا فلا.

وعن الثاني : أنّ الصّيغة لما وجدت مع غير الأمر ، افتقر إلى المميّز وهو الإرادة ، وكذا كلّ لفظ مشترك إنّما يدلّ على بعض معانيه دون البعض بالإرادة.

٣٩٦

وعن الثالث : يجوز أن يكون قد أراد ذلك منهم ، لأنّ في علمهم بإرادته ذلك منهم ، زيادة مسرّة ، ولا يمتنع أن يكون ذلك إطلاقا وليس بأمر ، كما أنّ قوله لأهل النّار : (اخْسَؤُا)(١) ذمّ وليس بأمر ، كما نقول لمن نذمّه : «إخسأ».

والأصل أنّ إرادة الصيغة قد وجدت ، وكذا وجد إرادة المأمور ، لكن لمّا لم توجد الإرادة الثالثة وهي إرادة دلالة الصّيغة على الأمر ، لم يكن أمرا.

وعن الرابع : المنع من الملازمة ، فإنّه لا يلزم من وجود الإرادة الّتي هي شرط وجود الأمر ، تحقّق المشروط ، فإنّ الأمر يعتبر فيه الرتبة والاستعلاء ، فإن عقل ذلك في الشخص نفسه ، فليعقل في الأمر.

وعن الخامس : انّا لا نستدلّ على الإرادة بالأمر من حيث كان أمرا ، بل من حيث إنّه على صيغة «افعل» وقد تجرّد ، لأنّ الصيغة موضوعة للإرادة عند بعضهم ، فكلام الحكيم يجب حمله على موضوعه إذا تجرّد.

وعندنا أنّ هذه الصّيغة جعلت في اللّغة طلبا للفعل ، فإذا بان لنا أنّه لا معنى لكونها طلبا للفعل ، إلّا أنّ المتكلّم بها قد أراده ، وأنّه هو غرضه ، علمنا بذلك الإرادة عند علمنا بالصّيغة.

وعن السادس : يجوز أن يكون قد تركوا ذكر الإرادة لظهورها.

وأيضا فإنّهم لم يشرطوا انتفاء القرائن ، والمخالف يشرط انتفاءها.

وأيضا فإنّهم أجمعوا على أنّ الأمر هو الطّلب للفعل ، ونحن نعلم اتّحاده مع الإرادة ، ولو فرضناه مغايرا لكان ذلك كلاما في المعقول لا في اللّغة.

__________________

(١) المؤمنون : ١٠٨.

٣٩٧

قولهم : الأسد لا يعتبر في كونه اسما لمسمّاه الإرادة إن أرادوا به أنّ الواضع لهذا الاسم وضعه للأسد ، فصار اسما له ، من دون أن يريد تسميته بذلك ، فذلك باطل ، لأنّا نعلم أنّه قد أراد ذلك.

وإن أرادوا أنّا نحن نكون مستعملين لاسم الأسد في معناه من دون أن نريد ذلك ، فهو باطل أيضا ، إذ لا بدّ من أن نريد ذلك.

وإن أرادوا أنّه لا يكون اسما له في أصل الوضع ، بأن نريد نحن أن يكون موضوعا له ، [فصحيح] لأنّ وضع الواضع الأسماء للمعاني لا يقف على إرادتنا ، فكذلك اسم الأمر لا يكون واقعا على الصيغة في أصل الوضع بإرادتنا.

مع أنّ ذلك خارج عمّا نحن فيه ، لأنّ الّذي نحن فيه هو : أنّ صيغة الأمر هل تستحقّ الوصف بأنّها أمر وإن لم يكن قد أريد بها الفعل ، أم لا يجوز أنّه أن يقال : إنّ جسم الأسد يستحقّ أن يوصف بأنّه أسد ، وإن لم يقصد بجسمه شيئا من الأشياء؟.

وعن السابع : المنع من كونه أمرا وطلبا ، كما يقولون : إنّه لم يرد ، بل أنّه موهم للغلام أنّه طالب منه ، وامر له.

وعن الثامن : أنّ ما أمره به قد أراده ، وهو مقدّمات الذّبح ، أو أمره بالذّبح نفسه ، وقد فعله ، لكنّ الله تعالى كان يلحم ما يفريه إبراهيم شيئا فشيئا إن قلنا إنّ إبراهيم رأى في المنام صيغة الأمر.

وقول اسماعيل (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ)(١) يحتمل ما يؤمر في المستقبل.

__________________

(١) الصّافّات : ١٠٢.

٣٩٨

المبحث الثّامن : في جواز إقامة كلّ من الأمر والخبر مقام صاحبه

اعلم أنّ الأمر يدلّ على وجود الفعل وطلب تحصيله ، والخبر يدلّ على وجود الفعل أيضا ، فقد اتّفقا وتشابها من هذا الوجه ، وقد عرفت أنّ المشابهة مصحّحة للتجوّز ، فجاز أن يتجوّز بكلّ من الأمر والخبر عن صاحبه.

أمّا الأمر فقد يقوم مقام الخبر في مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، (١) معناه : صنعت ما شئت.

وأمّا العكس فقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ)(٢)(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ)(٣).

وأيضا فقد تجوز إقامة النهي مقام الخبر ، وبالعكس ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تنكح اليتيمة حتّى تستأمر (٤) معناه : لا تنكحوا إلى غاية الاستئمار.

وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تنكح المرأة المرأة ولا المرأة نفسها ، (٥) وكقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(٦).

والمشابهة ما تقدّمت ، فإنّ هذا الخبر يدلّ على عدم الفعل ، والنهي كذلك.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في سننه : ٢ / ٢٥٢ ، رقم الحديث ٤٧٩٧ ؛ وابن ماجة في سننه : ٢ / ١٤٠٠ ، رقم الحديث ٤١٨٣ ؛ وأحمد بن حنبل في مسنده : ٤ / ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

(٣) البقرة : ٢٢٨.

(٤) أخرجه الدار قطني في سننه : ٣ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠ رقم الحديث ٣٥ ـ ٤٠ ؛ والحاكم في مستدركه : ٢ / ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٥) أخرجه ابن ماجة في سننه : ١ / ٦٠٥ ـ ٦٠٦ رقم الحديث ١٨٨٢ ؛ والدار قطني في سننه : ٣ / ٢٢٨ رقم الحديث ٣٠.

(٦) الواقعة : ٧٩.

٣٩٩

الفصل الثالث

في مقتضيات الصّيغة

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في أنّ الأمر هل يقتضي الوجوب أم لا؟

هذه مسألة شريفة يبتني عليها أكثر الأحكام الشرعيّة ، وقد طال التّشاجر بين القوم فيها ، واختلفوا اختلافا عظيما.

ونحن نذكر الخلاف ، وحجّة كلّ فريق ، وتوضيح ما عندنا في ذلك إن شاء الله تعالى.

فنقول : أمّا مذهب من جعل «افعل» للإباحة والتهديد فقد سلف بطلانه ، بقي تقرير مذاهب من جعلها للترجيح ، وقد اختلفوا ، فذهب أكثر الفقهاء منهم الشافعي وجماعة من المتكلّمين وأبو عليّ الجبائيّ في أحد قوليه ، وأبو الحسين البصري ، وفخر الدّين الرّازي إلى أنّها حقيقة في الوجوب ، مجاز في الندب.

فقال الجويني : لفظة افعل طلب محض لا مساغ فيه لتقدير الترك ولا للتخيير فيه ، وليس هو للإيجاب ، فإنّ الوجوب لا يعقل إلّا بالتقييد بالوعيد

٤٠٠