نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

وعموم نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يوجب اشتمال القرآن على جميع اللّغات ، لعدم ذلك ، ولا اعجاز في الكلمة الواحدة.

والجواب : المعنى من سياق الآية : أكلام أعجميّ (١) ومخاطب عربيّ لا يفهم؟ وهم قد كانوا يفهمونها.

سلّمنا نفي التنوّع ، فالمعنى أعجميّ لا يفهم.

وقولهم : باتّفاق اللّغات في تلك الألفاظ ، بعيد.

البحث الخامس : في فروع النقل

وهي خمسة

الأوّل : النقل على خلاف الأصل ، لتوقّفه على الوضع اللّغوي ، ونسخه ، والوضع الأخير ، فيكون مرجوحا بالنسبة إلى ما يتوقّف على وضع واحد.

ولدلالة الاستصحاب على بقاء الوضع الأوّل.

ولأنّه لو تساوى احتمال النقل وعدمه ، لم يحصل التّفاهم حالة التخاطب إلّا بعد السؤال عن البقاء على الوضع والنقل.

الثاني : لا نزاع في ثبوت المتواطئة في الأسماء الشرعيّة ، واختلفوا في المشتركة.

والأجود وقوعها ، فإنّ الصّلاة تستعمل في معان متعدّدة لا يجمعها

__________________

(١) في «ج» : كلام عجميّ.

٢٦١

جامع ، فإنّها تتناول ما لا قراءة فيه : كالاخرس ، وما لا سجود فيه ولا ركوع : كصلاة الجنائز ، وما لا قيام فيه : كالقاعد والمومي ، وليس بينها قدر مشترك يجعل اسما للصلاة (١).

وفيه نظر ، لاحتمال أن يكون بينها معنى مشترك وإن كنّا لا نعلمه ، فإنّه أولى من اعتقاد الاشتراك الّذي هو على خلاف الأصل.

سلّمنا ، لكن الفعل (٢) الواقع على أحد الوجوه المخصوصة جامع لها ، فجاز وضع لفظة «الصلاة» له.

سلّمنا ، لكنّ الصلاة الشرعيّة حقيقة إنّما تقال على ذات الرّكوع والسّجود والقراءة.

وأمّا صلاة الاخرس والجنائز والمومي ، فإنّها مجاز ، وهو أولى من الاشتراك.

الثالث : الألفاظ المترادفة لا توجد في عرف الشرع ، لأنّ الفعل الشرعيّ ، على خلاف الأصل ، فيقدّر بقدر الحاجة ، ولا حاجة إلى المترادف ، فلا يوجد.

الرّابع : الأفعال تابعة للمصادر ، فإن كانت المصادر شرعيّة ، فالأفعال شرعيّة ، وإن كانت لغويّة ، فهي لغويّة ، ولم يضع الشارع فعلا ولا حرفا بالاستقراء ، وكون الأفعال شرعيّة بالعرض لا بالذات.

__________________

(١) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٣٠.

(٢) في «ب» و «ج» : لكن النّقل.

٢٦٢

الخامس : صيغ العقود مثل «بعت» و «طلّقت» إنشاءات لا إخبارات ، وإن كانت بصيغة الإخبار في اللّغة ، وقد تستعمل شرعا فيها ، لكنّ البحث في أنّها إذا نطق بها لتحصيل الأحكام ، كانت إنشاءات ، لوجوه :

الأوّل : من خواصّ الخبر التصديق والتكذيب وهما منفيّان هنا.

الثاني : ليست إخبارا عن الماضي والحال ، وإلّا لكانت كاذبة ، ولامتنع تعليقها على الشرط ، فإنّ التعليق توقيف وجود المعلّق على وجود المعلّق عليه ، والداخل في الوجود لا يتوقّف دخوله على غيره في الوجود ، لاستحالة تقدّم المشروط على شرطه.

ولا عن المستقبل ، إذ ليس دلالتها على المستقبل بأقوى من قوله : ستصيرين طالقا في المستقبل ، ولو صرّح بذلك لم يقع ، فكذا في قوله : أنت طالق (١).

وفيه نظر ، لأنّ دلالة أنت طالق ، وطلّقت ، على وجود الطّلاق أقوى من دلالة «ستصيرين».

ولا يلزم من عدم ترتّب الحكم على المسبّب الضعيف عدم ترتّبه على القويّ ، فجاز أن يرتّب الشارع وقوع الطلاق على الإخبار بوقوعه في المستقبل بصيغة أقوى في الدلالة على الوجود ، من غير اعتبار الاستقبال.

أو أنّه إخبار عن الحال ولا دور ، لأنّه إخبار وسبب ، فتعدّدت الجهة ، والتعليق قرينة صارفة عن الحقيقة.

__________________

(١) لاحظ المحصول في علم الأصول : ١ / ١٣١.

٢٦٣

الثالث : هذه الإخبارات ، إن كانت كاذبة لم يعتدّ بها ، وإن كانت صادقة ، فإن توقّف وقوع الطلاق على هذه الصّيغ ، دار ، لأنّ صدق الخبر يتوقّف على ثبوت مخبره ، فلو انعكس دار ، فإنّ ثبوت المخبر هنا هو الطالقيّة.

وإن لم يتوقّف ، افتقر إلى سبب ويقع مع تحقّقه وإن لم يوجد هذا الخبر ، وينتفي مع انتفائه وإن وجد الخبر ، وهو باطل إجماعا.

ولا يمكن أن تكون هذه الصيغة شرطا لتأثير السبب ، وإلّا لتقدّمت ، لكنّ الخبر الصدق يتقدّم مخبره عليه ، فيدور (١).

وفيه نظر ، فإنّ الدّور يلزم لو توقّف ثبوت المخبر على صدق الخبر ، وليس ، بل على ماهيّة الخبر.

ويمنع عدم الاعتداد بالكذب كما في الظهار ، والقبح لا يسمع من الأشاعرة ، ويجوز عند المعتزلة إذا اشتمل على مصلحة كليّة ، كتخليص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الرابع : أمر الله تعالى بالطلاق في قوله : (فَطَلِّقُوهُنَ)(٢) فيجب أن يكون مقدورا ، وليس إلّا قوله : أنت طالق ، فيكون هو المؤثّر.

__________________

(١) لاحظ المحصول في علم الأصول : ١ / ١٣٢.

(٢) الطلاق : ١.

٢٦٤

المطلب الثالث : في المجاز

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في إثباته في اللغة

المحقّقون عليه ، ونفاه الأستاذ أبو إسحاق (١) ومتابعوه.

لنا : انّه قد اشتهر في اللّغة إطلاق الأسد على الشجاع ، والحمار على البليد ، وغير ذلك ، مع الاتّفاق على أنّها لم توضع في اللّغة لهذه المعاني ، بل لغيرها ، وأطلقت على هذه لمشابهة ما ، ولا نعني بالمجاز سوى هذا.

لا يقال : جاز أن يكون حقائق في هذه أيضا.

لأنّا نقول : إنّه سيظهر أولويّة المجاز على الاشتراك.

ولأنّ سبق تلك المعاني إلى الذهن دون هذه ، مع عدم السبق في المشترك ، ينفي الاشتراك.

احتجّ المانعون : بأنّه مخلّ بالفهم.

ولأنّه إن أفاد المجازيّ مع القرينة ، لم يكن مجازا ، إذ لا يحتمل غيره حينئذ ، أو لا معها ، فيكون حقيقة فيه ، أو لا يفيد شيئا مع عدمها ، فلا يكون حقيقة ولا مجازا.

__________________

(١) تقدّمت ترجمته : ١٥١.

٢٦٥

ولأنّ كلّ معنى مجازيّ فله لفظ موضوع له ، فلا يقع عن الحكيم التجاوز عن لفظه إلى استعارة غيره ، لما فيه من التطويل إن ذكر القرينة ، وعدم الإفادة للمقصود إن أخلّ بها.

والجواب عن الأوّل : المنع من الاختلال في الفهم ، لأنّه إذا أراد المجاز ذكر مع القرينة ، ولا استبعاد.

وعن الثاني : أنّه نزاع في العبارة ، أو نقول : اللّفظ الّذي لا يفيد إلّا مع القرينة هو المجاز.

ولا يقال : إنّ اللّفظ مع القرينة يكون حقيقة فيه.

لأنّ القرينة ليست موضوعة حتّى يجعل المجموع لفظا واحدا دالّا بالوضع ، والحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ.

وعن الثالث : ما سيأتي من فوائد المجاز.

المبحث الثاني : في إثباته في القرآن

وكما أنّ المجاز واقع في اللّغة ، فكذا هو واقع في القرآن والسنّة ، خلافا للظاهريّة ، وأخطأ من نقل عن الإمامية موافقتهم (١) ، فإنّهم نصّوا على وقوعه في القرآن.

__________________

(١) الآمدي في الإحكام : ١ / ٣٨ ، قال : اختلفوا في دخول الأسماء المجازيّة في كلام الله تعالى ، فنفاه أهل الظاهر والرافضة ، وأثبته الباقون.

أقول : ولا يخفى ما في تعبيره عن شيعة آل البيت بالرافضة من التنابز بالالقاب الّذي نهى عنه الذكر الحكيم. وإلى الله المشتكى.

٢٦٦

لنا : قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(١)(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢)(جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ)(٣) إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة.

احتجّوا : بأنّ المجاز كذب ، ولهذا يمكن نفيه.

ولأنّ المجاز ركيك ، والله تعالى منزّه عنه.

ولأنّه إنّما يصار إليه عند العجز عن الحقيقة.

ولأنّه إنّما يفيد مع القرينة ، وربما خفيت فيقع المكلّف في الجهل ، وذلك قبيح من الحكيم.

ولاستلزامه كونه تعالى متجوّزا.

ولأنّ كلامه حقّ ، وكلّ حقّ فله حقيقة ، والحقيقة مقابلة المجاز.

ثمّ اعترضوا بمنع المجاز فيما قلناه ، أمّا قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فإنّه موضوع لنفي التشبيه ، إذ الكاف للتشبيه.

وأمّا قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) فالقرية عبارة عن الناس المجتمعين ، لأنّها مأخوذة من القرء وهو الجمع.

سلّمنا لكن لا امتناع في إنطاق الجدران بقدرته تعالى خصوصا في زمن الأنبياء عليهم‌السلام ، فإنّ خرق العادة فيها جائز.

وقوله : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) حقيقة أيضا ، لإمكان أن يخلق الله تعالى في الجدار إرادة.

__________________

(١) الشورى : ١١.

(٢) يوسف : ٨٢.

(٣) الكهف : ٧٧.

٢٦٧

والجواب : المنع من كون المجاز كذبا ، وإنّما يلزم لو أريدت الحقيقة ، على أنّ الناس يعدّون المستعار والمجاز حسنا ، ويقبحون الكذب.

وليس المجاز من الركيك ، بل هو أفصح وأبلغ في تحصيل مقاصد المتكلّم.

ولا يشترط في الإتيان به العجز عن الحقيقة.

وخفاء القرينة لتقصير المكلّف ، فلا يوجب المنع كالمتشابهات.

ولم يطلق عليه تعالى اسم المتجوّز ، لإبهامه التسامح ، ولأنّ أسماءه تعالى توقيفيّة.

وكون كلامه تعالى حقّا يستلزم الحقيقة بمعنى الصّدق ، لا بمعنى المقابل للمجاز.

والكاف موضوع لنفي التشبيه وليس مرادا هنا ، وإلّا لزم نفي مثل مثله ، وهو شرك وكفر ، على ما تقدّم.

والقرية حقيقة للموضع الّذي يجتمع فيه الناس ، لا للنّاس المجتمعين ، ولا للاجتماع.

والسؤال لم يقع للجدران قطعا ، وإنّما قصدوا أهلها ، وكذا في إرادته.

على أنّ هنا آيات تدلّ على المعاني بالمجاز من غير تأويل : كقوله :

(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ)(١).

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٢).

__________________

(١) البقرة : ١٩٤.

(٢) الشورى : ٤٠.

٢٦٨

(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً)(١).

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ)(٢).

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ)(٣).

(لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ)(٤).

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٥).

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(٦).

(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ)(٧).

(كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ)(٨) إلى غير ذلك من الآيات.

المبحث الثالث : في غايته

الباعث عليه ـ مع أنّه على خلاف الأصل على ما يأتي ـ قد يكون جوهر اللّفظ ، بأن يكون اللّفظ الحقيقي ثقيلا على اللّسان ، إمّا لأجل مفردات حروفه ، أو لتنافر تركيبه ، أو لثقل وزنه ، والمجازيّ يكون عذبا ، فيعدل إليه عنها.

وقد يكون عوارضه ، بأن يكون اللفظ المجازيّ صالحا للسجع وازدواج الكلام ، كقوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)(٩)(فَإِذا فَرَغْتَ

__________________

(١) مريم : ٤.

(٢) الإسراء : ٢٤.

(٣) البقرة : ١٩٧.

(٤) الحجّ : ٤٠.

(٥) النور : ٣٥.

(٦) البقرة : ١٥.

(٧) الأنفال : ٣٠.

(٨) المائدة : ٦٤.

(٩) البقرة : ٢٦٧.

٢٦٩

فَانْصَبْ. وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ)(١).

وكقول بعضهم : حتّى عاد تعريضك تصريحا وتمريضك تصحيحا.

وللمطابقة ، وهي : الجمع بين الشيء وضدّه كقوله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)(٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خير المال عين ساهرة لعين نائمة» (٣).

وللمجانسة ، وهي : أن تورد كلمتين تجانس كلّ واحدة صاحبتها في تأليف حروفها ، كقوله تعالى : (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ)(٤).

وقال معاوية لعبد الله بن العبّاس : ما بالكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم كما تصابون في بصائركم (٥).

وللمقابلة ، وهي : إيراد لكلام ثمّ مقابلته بمثله ، إمّا في المعنى

__________________

(١) الانشراح : ٧ ـ ٨.

(٢) الحديد : ٢٣.

(٣) المجازات النبويّة : ٩٣ ، المثل السائر : ١ / ٢٦٥ ، تأليف أبي الفتح ضياء الدين نصر الله بن محمد بن محمد المعروف بابن الأثير المتوفّى سنة ٦٣٧ ه‍ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٢ / ١٠٤ ؛ غريب الحديث لابن قتيبة : ٢ / ٣٦٤ ، قال ابن قتيبة بعد نقل الحديث : يراد بالعين الساهرة عين ماء تجري لا تنقطع نهارا ولا ليلا ، وقوله «لعين نائمة» يراد أن صاحبها ينام وهي تجري ولا تنقطع ، فجعل السهر لجريها مثلا.

(٤) النّمل : ٤٤.

(٥) كذا في النسخ الّتي بأيدينا ولكن في عيون الأخبار لابن قتيبة : ٢ / ٢١٠ «قال معاوية لعبد الله بن عباس : أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم. فقال ابن عباس : وأنتم يا معاوية تصابون في بصائركم» ؛ وفي قاموس الرّجال : ٦ / ٣٢٠ ـ نقلا عن العقد الفريد ـ : «دخل عقيل على معاوية ، وقد كفّ بصره فقال له : أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم. فقال عقيل : وأنتم معشر بني أميّة تصابون في بصائركم».

٢٧٠

مثل : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً)(١) والمكر منه تعالى العذاب ، جعله مقابلا لمكرهم برسله.

أو في اللفظ مثل : ليس من جمع إلى الكفاية الأمانة ، كمن أضاف إلى العجز الخيانة، جعل مقابلة الكفاية العجز وبإزاء الأمانة الخيانة ، وغيرها من أصناف البديع.

وللزنة والرويّ ، ولا تصلح الحقيقة لذلك ، وقد يكون للمعنى نفسه بأن يكون أبلغ من الحقيقة ، فإنك لو قلت : رأيت أسدا ، لكان أبلغ في الوصف بالشجاعة من قولك : رأيت رجلا كالأسد.

أو للتعظيم مثل : سلام على المجلس العالي ، فإنّه ترك الحقيقة إجلالا.

أو للتحقير كالغائط.

أو لزيادة البيان ، وهو الّذي يذكر للتوكيد.

أو لتلطيف الكلام ، فإنّ النفس إذا سمعت المعنى المجازيّ حصل لها شوق إلى الوقوف على كمال المعنى لا يحصل مع الحقيقة ، إذ يحصل المعرفة التامّة ، فلا يحصل شوق إلى شيء ، لاستحالة تحصيل الحاصل.

بخلاف المجاز الّذي يحصل به التعريف من بعض الوجوه ، فيحصل بالوجه الّذي عرفته لذّة وبفقدان الكمال ألم ، فتحصل لذّات وآلام متعاقبة ، واللّذة إذا حصلت عقيب الألم كانت أقوى ، وكان الشعور بها أتمّ.

فإذا عبّر عن المعنى بلفظه الحقيقيّ حصلت المعرفة التامّة ، فلا تحصل اللّذة القويّة.

__________________

(١) النّمل : ٥٠.

٢٧١

وإذا عرف بلازم عرف لا على سبيل الكمال ، فتحصل حالة تشبه الدّغدغة النفسانيّة ، فلهذا كان المجاز أولى.

المبحث الرابع : في أقسامه

اعلم أنّ الألفاظ منها بسائط ، ومنها مركّبات ، وكلّ واحد منهما قد يستعمل في موضوعه الأصليّ وهو الحقيقيّ ، وقد ينقل عنه فيكون مجازا ، فالمجاز إذن إمّا إن وقع في المفردات ، أو في المركّبات ، أو فيهما معا.

أمّا المفردات ، فقد اتّفق عليه المحقّقون ، كالأسد للشجاع ، والحمار للبليد.

وأمّا في التركيب فكذلك أيضا ، خلافا لبعضهم ، وذلك بأن يستعمل كلّ واحد من اللّفظين في معناه الحقيقيّ ، لكن التركيب غير مطابق كقوله :

أشاب الصغير وأفنى الكبي

ر كرّ الغداة ومرّ العشيّ (١)

فكلّ واحد من هذه الألفاظ المفردة مستعمل في موضوعه ، لكن اسناد أشاب إلى كرّ الغداة ليس بحقيقيّ ، لحصوله من الله تعالى.

ومثله طلعت الشّمس ، ومات زيد.

وأمّا الّذي يقع فيهما ، فكقولك : أحياني اكتحالي بطلعتك ، فإنّ الاكتحال هنا مجاز إفرادي ، والإحياء أيضا مجاز إفراديّ ، وإسناد الإحياء إليه مجاز

__________________

(١) البيت للشاعر : الصلتان العبدي وهو قثم بن خبيئة من عبد القيس ، أحد شعراء ديوان الحماسة الّذي اختاره أبو تمام.

٢٧٢

تركيبيّ ، لأنّه غير مستند حقيقة إلى الاكتحال.

قال بعضهم (١) : جهة الإسناد واحدة ، فالمجاز في المفرد خاصّة.

وليس بجيّد ، فإنّ إسناد الفاعليّة والمفعوليّة متغايران ، فإذا كان اللّفظ بحيث يصحّ إسناده إلى آخر إسناد الفاعليّة ، (٢) كان إسناد إليه اسناد المفعولية مجازا وبالعكس.

المبحث الخامس : في أقسام [المجاز] المفرد

وهي ثلاثة عشر :

الأوّل : إطلاق اسم السبب على المسبّب ، فالقابل (٣) سال الوادي ، والصورة تسمية اليد قدرة ، والفاعل تسمية المطر بالسّماء ، والغاية تسمية العنب خمرا ، والعقد نكاحا.

الثاني : العكس ، تسمية المرض الشديد موتا.

ولمّا كانت الغاية علّة باعتبار ماهيّتها معلولة باعتبار وجودها ، جمعت العلاقتين ، فكان المجاز فيها أولى من غيرها من باقي الأسباب (٤).

__________________

(١) وهو ابن الحاجب. لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ١ / ٣٨٢ قسم المتن.

(٢) في «ب» : إلى آخر إسناده.

(٣) أي السبب القابل هو ما يصلح في العادة أن يرد عليه مسبّبه ، كالحفيرة تقبل أن يرد عليها الماء ، فتسمّى واديا. انظر نفائس الأصول : ١ / ٤٧٦ تأليف أحمد بن إدريس القرافي المتوفّى سنة ٦٨٤ ه‍.

(٤) لاحظ المحصول في علم الأصول : ١ / ١٣٥.

٢٧٣

وفيه نظر ، فإنّ العلّة الفاعليّة أقوى الأسباب ، فجاز أن يترجّح على الغاية الّتي ترجّحت بالمعلوليّة المرجوحة.

ولمّا استلزم السّبب المعيّن المسبّب المعيّن ، والسبب المعيّن السّبب المطلق لا المعيّن ، كان نقل اسم السّبب إلى المسبّب أحسن من العكس.

الثالث : التسمية بالمشابهة ، (١) كالشجاع بالأسد ، والبليد بالحمار ، ويسمّى هذا بالمستعار.

وهذه المشابهة قد تكون في الشكل ، كالإنسان للصّورة ، أو في صفة ظاهرة ، كالأسد على الشجاع لا على الأبخر (٢) لخفائها.

الرابع : التسمية باسم الضدّ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٣)(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ)(٤).

ويمكن أن يلحق بالمشابهة ، للمشابهة بين السّيئة وجزائها.

الخامس : نقل اسم الكلّ إلى الجزء ، كإطلاق العامّ على الخاصّ (ويدخل بنوع من الاعتبار تحت السّبب) (٥).

السادس : عكسه ، كما يقال للزنجيّ : أسود ، والأوّل أولى ، لاستلزام الكلّ الجزء دون العكس ، والملازمة سبب في التجوّز مستقلّ.

__________________

(١) في «أ» : بالمشابه.

(٢) في مجمع البحرين : بخر الفم بخرا : أنتنت رائحته ، ومنه رجل أبخر وامرأة بخراء.

(٣) الشورى : ٤٠.

(٤) البقرة : ١٩٤.

(٥) ما بين القوسين يوجد في «ب».

٢٧٤

السابع : تسمية الإمكان بالوجود ، كما يقال في الخمر في الدّن : إنّها مسكرة.

الثامن : إطلاق المشتقّ بعد زوال المشتقّ منه ، كضارب لمن فرغ منه ، باعتبار أنّه كان عليه ، والمعتق عبدا.

التاسع : تسميته بما يؤول إليه كالشارب بالسكران.

العاشر : المجاورة ، كالرواية المنقولة من الجمل إلى الظرف.

الحادي عشر : المجاز بسبب ترك أهل العرف استعماله فيما كانوا يستعملونه فيه ، كالدابة في الحمار.

لا يقال : كون لفظ الدابّة مجازا ، إن كان باعتبار صيرورته مستعملا في الفرس وحده، فهو من باب إطلاق اسم العامّ على الخاصّ ، وإن كان باعتبار المنع من استعماله في غيره ، وهو باطل ، لأنّ المجازيّة كيفيّة تعرض للّفظ من جهة دلالته على معناه ، لا من جهة عدم دلالته على الغير.

لأنّا نقول : استعمال الدّابّة في الكلب والحمار مجاز بالنسبة إلى الوضع العرفيّ ، للعلاقة بينه وبين موضوعه ، وحقيقة لغويّة ، إلّا أنّ المجاز من باب المشابهة ، فيدخل فيما تقدّم.

الثاني عشر : المجاز باعتبار الزيادة والنقصان.

الثالث عشر : تسمية المتعلّق باسم المتعلّق ، كتسمية المعلوم علما ، والمقدور قدرة.

٢٧٥

المبحث السادس : في محلّه

قد عرفت أنّ الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ ، وعرفت أيضا في غير هذه الصناعة أنّ بسائط الألفاظ ثلاثة : اسم ، وفعل ، وحرف.

فالحرف لا يدخله المجاز بالذّات ، لعدم استقلاله بالمفهوميّة ، وإنّما يفيد مع انضمامه إلى غيره ، فإن ضمّ إلى ما ينبغي ضمّه إليه ، فلا مجاز ، وإن ضمّ إلى ما لا ينبغي ضمّه إليه ، كان مجازا في التركيب ، لا في المفرد. (١)

وفيه نظر ، فإنّا لو استعملنا «من» في الانتهاء ، كان مجازا في المفرد.

وأمّا الفعل ، فهو دالّ على ثبوت شيء لموضوع غير معيّن في زمان معيّن ، فهو مركّب من المصدر والزّمان والنّسبة ، فما لم يدخل المجاز في المصدر ، استحال دخوله في الفعل الّذي لا يفيد إلّا ثبوت ذلك المصدر لشيء ما. (٢)

وفيه نظر ، فإنّ مجازيّة المركّب لا ينحصر في فرد بعينه ، فجاز كون الفعل مجازا باعتبار صيغته ، بأن يدلّ وضعا على زمان ماض (٣) ويستعمل في المستقبل مجازا ، وليس في المشتقّ منه.

وأيضا ، فإنّ المضارع قيل : إنّه مشترك.

__________________

(١) لاحظ المحصول في علم الأصول : ١ / ١٣٧.

(٢) نفس المصدر.

(٣) في «أ» : زمان خاصّ.

٢٧٦

وقيل : إنّه مجاز في أحد الزّمانين ، حقيقة في الآخر ، واختلفوا في الحقيقيّ منهما ، واعتقاد المجاز أقلّ من اعتقاد الاشتراك.

ولأنّ صيغة الإخبار قد ترد في الإنشاء والتهديد وغيره ، واعتقاد المجاز فيها أولى من الاشتراك.

وأمّا الاسم ، فإمّا أن يكون علما ، أو اسما مشتقّا ، أو اسم جنس ، والأعلام ليست مجازات ، لأنّ شرط المجاز استناد النقل إلى علاقة بين الأصل والفرع ، وهي منفية في الأعلام.

وأمّا المشتقّ فما لم يتطرّق المجاز إلى المشتقّ منه لم يتطرّق إلى المشتقّ الّذي لا معنى له إلّا أنّه أمر ما حصل له المشتقّ منه.

فإذن المجاز في الحقيقة إنّما هو في أسماء الأجناس. (١)

وفيه نظر ، فإنّ المشتقّ مركّب من المشتقّ منه ومن صيغة خاصّة تدلّ على الفاعليّة أو المفعوليّة ، فجاز أن يكون المجاز في الصّيغة ، كما قلنا في الفعل.

وأيضا قد بيّنا أنّ اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي عند بعضهم أو بمعنى المستقبل ، فإنّه يكون مجازا لا باعتبار مجازيّة المشتقّ منه.

ولأنّ اسم الفاعل قد يأتي بمعنى المفعول مجازا.

ولأنّ الفعيل قد يأتي بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول.

فاعتقاد المجازيّة في أحدهما أولى من اعتقاد الاشتراك.

__________________

(١) لاحظ المحصول في علم الأصول : ١ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٢٧٧

المبحث السابع : في شرائطه

وهي ثلاثة :

الأوّل : لا بدّ فيه من العلاقة بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازيّ ، وإلّا كان اختراعا.

لا يقال : يلزم منه القياس في اللّغة.

لأنّا نقول : إنّما يكون قياسا لو سمّيناه حقيقة لأجل العلاقة ، ونحن لا نقول به ، بل إنّما نسمّيه على سبيل المجاز ، ولهذا نسلبه عنه.

ولو أثبتنا حكم الأصل والفرع ، لامتنع منّا سلبه كما امتنع في الأصل.

وفيه نظر ، لأنّا نمنع الملازمة ، والسلب ليس للتسمية بل المعنى الحقيقي.

الثاني : انتفاء المانع ، بأن لا يمنع أهل اللّغة منه ، فإنّهم لو منعوا منه لم يجز الاستعمال ، كما أنّهم منعوا من استعمال نخلة لطويل غير إنسان ، وشبكة للصّيد ، وابن للأب ، وبالعكس ، وغير ذلك وألا يمنع الشرع منه ، كما منع من إطلاق اسم الكافر على المؤمن باعتبار كفر تقدّم إن جعلناه مجازا ، أو باعتبار المعنى الحقيقي كالتغطئة إذ صارت مجازا عرفيّا.

الثالث : شرط جماعة النقل ، بمعنى أنّ اللفظ لا يستعمل في معناه المجازيّ في كلّ صورة إلّا بنصّ أهل اللّغة عليه.

ومنع منه آخرون.

وهو الأقرب لنا : لو كان نقليّا لتوقّف أهل العربيّة عليه ، والتالي باطل فكذا المقدّم.

٢٧٨

ولأنّا قد بيّنا أنّ الشارع تجوّز بألفاظ عربيّة في معان لم يعرفها أهل اللغة ، وكذا كلّ أهل فنّ من العلوم استخرجوا معاني وضعوا لها ألفاظا عربيّة للمناسبة ، فيكون مجازا.

وفيه نظر إذ الثابت الوضع العرفيّ ، أمّا المجاز فلا ، وإسناد الوضع إلى المناسبة ممنوع.

ولأنّه لو كان نقليّا لما افتقر إلى النظر في العلاقة ، مع أنّهم اتّفقوا على أنّ وجوه المجازات والاستعارات ممّا يحتاج في استخراجها إلى الفكر والنظر الدقيق.

قيل : النظر لاستخراج جهات حسن المجاز والاطّلاع على الحكمة.

ولأنّ النظر إنّما هو للواضع.

وأيضا لو كان نقليا لما افتقر إلى العلاقة ، بل كان النقل فيه كافيا.

قيل : الافتقار إلى العلاقة إنّما كان لضرورة توقف المجاز من حيث هو مجاز عليها ، وإلّا كان إطلاق الاسم عليه من باب الاشتراك لا من باب المجاز.

ولأنّك إذا قلت : رأيت أسدا وعنيت به الشجاع ، فالغرض من التعظيم إنّما يحصل بإعارة معنى الأسد له ، فإنّك لو أعطيت الاسم دون المعنى لم يحصل التعظيم.

وإذا كانت إعارة اللّفظ تابعة لإعارة المعنى وكانت إعارة المعنى حاصلة بمجرّد قصد المبالغة ، لم يتوقّف استعمال اللّفظ المستعار على السمع.

وفيه نظر ، لحصول التعظيم بإعارة الشجاعة الّتي للأسد.

٢٧٩

احتجّ المشترطون بانّ العلاقة لو كفت لجاز تسمية غير الإنسان نخلة والصيد ، شبكة ، والثمرة شجرة ، وظلّ الحائط حائطا ، والابن أبا ، لما بينها من المشابهة والعلاقة وليس كذلك.

ولأنّ إطلاق (١) اسم الحقيقة عليه إمّا بالقياس أو أنّه اختراع من الواضع المتأخر.

والثاني بقسميه باطل فالمقدّم مثله.

ولأنّه يلزم خروج القرآن عن كونه عربيّا.

والجواب عن الأوّل : أنّ العلاقة كافية ، والمنع من التّسمية لمنع أهل اللغة عنه.

لا يقال : يقع التعارض بين المقتضي للجواز وهو وجود العلاقة ، وبين المقتضي للمنع وهو منعهم.

لأنّا نقول : جاز أن يكون المقتضي للجواز مشروطا بعدم ظهور المنع ، ومع الظهور ينتفي المقتضى.

وعن الثاني : أنّه ليس بقياس ولا باختراع ، فإنّ أهل اللّغة إذا نصّوا على العلاقة بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازي ، فكلّما وجدنا تلك العلاقة جاز لنا التجويز.

وعن الثالث : أنّ تلك الألفاظ مجازات لغويّة ، واستعمالها في معانيها لأجل المناسبة ، مع إعطاء القانون الكليّ في التجوّز مطلقا مع وجود العلاقة.

__________________

(١) كذا في «ب» ولكن في «أ» و «ج» : ولأنّه لولاه لكان إطلاق.

٢٨٠