نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

لا يقال : يلزم حينئذ ألا يكون الواجب مخيّرا فيه ، ولا المخيّر فيه ، أعني الجزئيّات واجبا.

لأنّا نقول : الواجب هو الكلّي ، وهو لا يوجد إلّا في [ضمن] الأفراد ، فيكون الأفراد مخيّرا فيها ، على معنى : أنّ المكلّف مأمور بتحصيل الكلّيّ في أيّ جزء شاء (١). (٢)

المبحث الثاني : في الواجب على الكفاية

اعلم أنّ غرض الشارع قد يتعلّق بتحصيل الفعل من كلّ واحد من المكلّفين عينا ، وقد يتعلّق بتحصيله مطلقا.

والأوّل : هو الواجب على الأعيان ، والأمر يتناولهم على سبيل الجمع ، وهو قسمان:

الأوّل : أن يكون فعل بعضهم شرطا في فعل البعض الآخر : كالجمعة.

الثاني : ألا يكون كذلك ، مثل «أقيموا الصلاة».

__________________

(١) هكذا في النسخ والأصحّ في أيّ جزئيّ أو فرد شاء.

(٢) لا يخفى انّه لو كان الواجب هو العنوان الكليّ ـ وهو الجامع الانتزاعي أعني : أحد الأفعال ـ ينقلب التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، كالتخيير بين إتيان الصلاة في أمكنة مختلفة.

والحقّ : أن يقال : ان الواجب التخييري يشارك الواجب التعييني في تعلّق الإرادة بكلّ واحد من أطراف التخيير ، لكن لمّا كان الغرض حاصلا بإتيان أيّ واحد منها أراد الامر كل واحد منها على وجه لو أتى المكلّف بواحد منهما تنسحب الإرادتان المتعلّقتان بالأمرين لحصول الغرض ، فإنّ حصول الغرض يوجب سقوط الأمر ، سواء أكان بفعل الغير كما أمر عبده بإنقاذ الغريق ، فسبق إليه آخر ، أم بفعل نفسه.

٥٠١

والثاني هو الواجب على الكفاية ، والأمر يتناول الجماعة لا على سبيل الجمع ، وهو إنّما يكون إذا كان الغرض يحصل بفعل البعض ، كالجهاد المقصود منه حراسة المسلمين ، فمتى حصل بالبعض سقط عن الباقين.

والتكليف فيه موقوف على الظنّ ، فإذا ظنّ بعض (١) قيام غيرهم ، سقط عنهم ، وإن ظنّوا عدم قيامهم وجب عليهم.

وإن ظنّ كلّ منهم عدم قيام غيره ، وجب على كلّ واحد القيام به.

وإن ظنّ كلّ فريق قيام غيرهم ، سقط عن الجميع ، لأنّ تحصيل العلم بأنّ غيره هل يفعل ، غير ممكن ، بل الممكن الظنّ.

واعلم أنّ الواجب على الكفاية واجب على الجميع ، ويسقط بفعل البعض ، خلافا لقوم.

لنا : أنّ الإثم حاصل للجميع على تقدير الترك بالإجماع.

احتجّ المخالف بأنّ الواجب ما يستحقّ تاركه الذّمّ والعقاب ، وهذا التارك لا يستحقّ ذمّا ولا عقابا إذا فعله غيره ، فلا يكون واجبا عليه.

ولأنّ الواجب لا يسقط بفعل الغير.

ولأنّه كما أمر بواحد مبهم جاز أمر بعض مبهم.

ولأنّه تعالى أوجب النفور للتّفقّه في الدّين (٢) على بعض غير معيّن.

__________________

(١) المراد هو الجماعة.

(٢) إشارة إلى آية النفر ، التوبة : ١٢٢.

٥٠٢

والجواب : أنّ ما ذكرتموه حدّ الواجب المعيّن ، أمّا المخيّر فلا.

ولأنّه على تقدير فعل الغير يسقط ، فلا يبقى واجبا عليه ، فلا يستحقّ ذمّا ولا عقابا.

ولا استبعاد في أن يسقط الواجب على الشخص بفعل غيره ، إذا كان الغرض تحصيل ذلك الفعل وإدخاله في الوجود لا من مباشر معيّن.

والفرق بين الأمر بالمبهم ، والأمر له : إمكان الإثم على ترك المبهم ، وإثم واحد مبهم غير معقول.

ويجب تأويل الآية على من يسقط الواجب بفعله ، جمعا بين الأدلّة.

ولأنّا نقول بموجبه ، فإنّ إيجاب النفور على بعض كلّ فرقة من غير تعيين ، يستلزم الوجوب على الجميع على الكفاية ، فإنّه أوّل المسألة.

المبحث الثالث : في الواجب الموسّع

الفعل بالنسبة إلى الوقت على أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يكون الوقت قاصرا عنه ، ويقبح التكليف بذلك إلّا عند من يجوّز تكليف ما لا يطاق ، أو يكون القصد من ذلك وجوب القضاء ، كما لو بلغ الصبيّ ، أو طهرت الحائض وقد بقي من الوقت مقدار ركعة ، لأنّ التكليف بذلك تكليف ما لا يطاق ، فإنّ التكليف بإيقاع الفعل في وقت يقصر عنه تكليف بالمحال.

٥٠٣

الثاني : أن يكون الوقت وفق الفعل ، كإيجاب صوم يوم ، ولا نزاع في هذين.

الثالث : أن يكون الوقت فاضلا عن الفعل ، وقد اختلف الناس في ذلك : فمنهم من جوّزه ، ومنهم من نفاه.

واختلف المجوّزون : فقال محمّد بن شجاع الثلجيّ (١) وأصحاب الشافعي والجبائيّان وأصحابهما : إنّ الوجوب ثابت في جميع أجزاء الوقت (٢) ، وهو مذهب السيّد المرتضى (٣) وأبي الحسن البصري (٤).

إلّا أنّهم اختلفوا : فمنهم من لم يثبت للصلاة في أوّل الوقت ووسطه بدلا فيه ، وهو اختيار أبي الحسن البصري.

ومنهم من أثبت بدلا في أوّله ووسطه ، واختلفوا : فقال الجبائيّان : إنّ البدل هو العزم (٥) ، وهو قول السيّد المرتضى (٦).

وقال بعض الحنفيّة : إنّ لها في أوّل الوقت ووسطه بدلا يفعله الله تعالى. (٧)

وأمّا النّفاة فقد اختلفوا : فقال جماعة من الأشاعرة : إنّ الوجوب مختصّ

__________________

(١) وهو محمد بن شجاع ابن الثلجي البغدادي أبو عبد الله ، فقيه العراق في وقته من أصحاب أبي حنيفة ولد سنة ١٨١ ه‍ وتوفّي سنة ٢٦٦ ه‍ لاحظ الأعلام للزركلي : ٦ / ١٥٧.

(٢) لاحظ المعتمد : ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥ ؛ والمحصول للرازي : ١ / ٢٨١ ؛ وأصول السرخسي : ١ / ٣١.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٤) المعتمد : ١ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٥) لاحظ المعتمد : ١ / ١٢٥ ؛ والإحكام للآمدي : ١ / ٧٧.

(٦) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ١٤٧.

(٧) انظر المعتمد : ١ / ١٢٥.

٥٠٤

بأوّل الوقت ، وإن أتى به في آخر الوقت ، كان قضاء.

وقال جماعة من الحنفية : الوجوب مختصّ بآخر الوقت ، لو فعله في أوّله ، كان جاريا مجرى تقديم ، الزكاة ، فيكون نفلا ، يسقط به الفرض.

ونقل عن الكرخي (١) مذاهب ثلاثة :

الأوّل : المشهور عنه : أنّ الصلاة المفعولة في أوّل الوقت موقوفة ، فإن أدرك المصلّي آخر الوقت ، وهو على صفة المكلّفين ، كان ما فعله واجبا ، وإن لم يبق على صفات المكلّفين ، كان نفلا.

الثاني : حكى عنه أبو عبد الله البصري (٢) : إن أدرك المصلّي آخر الوقت وهو على صفة المكلّفين ، كان ما فعله مسقطا للفرض ، قال أبو الحسين : وهذا أشبه من الحكاية الأولى. (٣)

الثالث : حكى أبو بكر الرازي (٤) [عن أبي الحسن] أنّ الصّلاة يتعيّن وجوبها بأحد شيئين : إمّا بأن تفعل ، أو بأن يضيّق وقتها (٥).

والحقّ ما ذهب إليه أبو الحسين.

__________________

(١) تقدّمت ترجمته ص ٢١٩.

(٢) تقدمت ترجمته ص ٢١٩.

(٣) المعتمد : ١ / ١٢٥.

(٤) هو أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصّاص من أهل الري ، انتهت إليه رئاسة الحنفية : وألف كتاب «أحكام القرآن» وكتابا في أصول الفقه ، سكن بغداد ومات فيها سنة ٣٧٠ ه‍. لاحظ الاعلام للزركلي : ١ / ١٧١.

(٥) لاحظ المعتمد : ١ / ١٢٥ ؛ وميزان الأصول : ٢١٧ ـ ٢١٨ تأليف محمد بن أحمد السمرقندي المتوفّى سنة ٥٣٩ ه‍ ونسب الأقوال في الكاشف عن المحصول : ٣ / ٥١٤ إلى أبي الحسن الأشعري المتوفّى سنة ٣٢٤ ه‍.

٥٠٥

لنا وجوه :

الأوّل : أنّ الوجوب مستفاد من الأمر وقد تناول الوقت ، فإمّا أن يراد أنّ كلّ جزء من أجزاء الوقت صالح لإيقاع العبادة فيه ، أو إيقاع الفعل في جميع أجزاء الوقت.

فإن كان الأوّل ، فهو المطلوب.

وإن كان الثاني ، فإمّا أن يراد إيجاد فعل واحد من أوّل الوقت إلى آخره ، أو إيجاد أفعال متعدّدة في جميع أجزاء الزّمان.

والقسمان باطلان بالإجماع ، فتعيّن الأوّل.

وإذا كان كلّ جزء صالحا لإيقاع الفعل فيه ، كان إيقاعه في كلّ جزء امتثالا للأمر.

الثاني : الأمر يتناول الوقت من أوّله إلى آخره ، ولا تعرّض فيه لجزء من أوّله أو آخره ، إذ لو دلّ على تخصيصه ببعض أجزاء الوقت ، لكان غير صورة النّزاع.

وإذا لم يكن في الأمر تخصيص ، وكان كلّ جزء قابلا له ، وجب أن يكون حكم الأمر إيجاب إيقاع ذلك الفعل في أيّ جزء من أجزاء ذلك الوقت الّذي أراده المكلّف.

الثالث : يمكن عقلا تساوي أجزاء الزمان في المصلحة ، بأن يكون الفعل في أوّله وآخره ، ووسطه متساويا في كونه لطفا داعيا إلى إيجاب طاعة (١) بعد خروج الوقت ، وداعيا إلى طاعة مندوب إليها قبل خروج الوقت.

__________________

(١) في «أ» و «ج» : طاعته.

٥٠٦

ولا يمتنع أن يكون داعيا إلى طاعة واجبة بعد خروج الوقت فقط ، ولا يكون فعلها بعد خروج الوقت مصلحة فيما كانت مصلحة [فيه] قبل خروج الوقت ، لكن إذا فرّط المكلّف في فعلها ، لزمه قضاؤها ، لأنّ قضاءها يكون مصلحة في دون ما كان الأداء مصلحة فيه.

فحينئذ لا يجوز أن يضيّق الله تعالى فعلها في [أوّل] الوقت ، مع أنّ الغرض بإيجابها وهو المصلحة يحصل بفعلها في آخر الوقت.

ولا يجوز ألا يضيّق الله تعالى فعلها في آخره ، مع أنّ المصلحة لا تحصل إذا أخّرت عنه.

والأمر يخصّص ، فعلها بوقت معيّن من أجزاء ذلك الوقت ، مع تساوي الجميع في تحصيل المصلحة ، فيجب تساوي جميع أجزاء الوقت في النسبة إلى ذلك الفعل ، على معنى : أنّه في أيّ جزء وقع ذلك الفعل كان واجبا بنفسه.

الرابع : كلّ جزء من أجزاء الوقت لو وقع الفعل فيه لكان مجزئا بالإجماع ، وإنّما يكون كذلك لو كان تحصيلا لمصلحة الواجب ، وكان إيقاعه في كلّ وقت قائما مقامه في غيره من الأوقات ، فيكون واجبا ، لأنّه لو لم يكن محصّلا لمصلحة الواجب ، لزم :

إمّا فوات مصلحة الواجب ، بتقدير فعل الصلاة في غير وقت الوجوب ، فتكون الصّلاة حراما ، لأنّها قد فوّتت مصلحة الواجب ، وهو باطل إجماعا.

وإمّا بقاء مصلحة الوجوب ، ويلزم وجوب فعل الصّلاة ثانيا ، لبقاء مقصودها الموجب لها بعد فعل الصّلاة في الوقت المفروض ، وهو باطل بالإجماع.

٥٠٧

الخامس : لو كان الوقت معيّنا ، لكان المصلّي في غيره إمّا مقدّما للفعل على وقته ، فلا يصحّ ، أو مؤخّرا له عن وقته ، فيكون قاضيا فيعصي ، وكلاهما خلاف الإجماع.

السادس : لو اختصّ الوجوب بأوّل الوقت ، لاستحق الذّمّ بتأخيره إلى آخر الوقت ، كما يستحقّ بتأخيره عن الوقت ، ولانتفت فائدة ضرب الوقت ، لأنّ ما يفعل بعده يكون قضاء كما يفعل فيه.

ولو اختصّ بآخره لزم محالات :

الأوّل : يكون في أوّله نفلا ، كما اختاروه ، وكان يجب فيه الفعل ، لمطابقها لما عليه الصّلاة في نفسها ، والتالي باطل إجماعا ، فكذا المقدّم.

الثاني : يلزم تحريم الأذان والإقامة في أوّل الوقت ، لاختصاصهما بالفرائض.

الثالث : يلزم أنّ من لم يؤدّ الصلاة إلّا في أوّل وقتها ، غير مؤدّ لفرائض الصلاة ، ولا قائما بالواجب منها.

الرابع : تقديم المغرب أفضل من تأخيرها ، والنّفل (١) لا يكون أفضل من الفرض.

احتجّ المخالف بأنّه لو كان واجبا في أوّل الوقت ، لما جاز تأخيره ، والتالي باطل بالإجماع فكذا المقدّم.

__________________

(١) القائل باختصاص الوجوب بآخر الوقت يجعل الصلاة من أوّل الوقت نافلة ، وهذا لا يجتمع مع اختلافهم في أنّ تقديم المغرب أفضل من تأخيرها ، إذ لا معنى للاختلاف في أنّ النفل أفضل من الفرض. لاحظ الذّريعة إلى أصول الشريعة للسيّد المرتضى : ١ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

٥٠٨

والشرطية ظاهرة ، فإنّ ما يكون واجبا لا يجوز تركه ، والفعل في الأوّل الوقت يجوز تركه ، فلا يكون واجبا ، ويكون نفلا ، لأنّه يثاب بفعله مع جواز تركه.

لا يقال : إنّه ليس بنفل ، لأنّ النّفل يجوز تركه مطلقا طول العمر ، وهذا لا يجوز تأخيره عن جميع الوقت.

ولأنّ النّفل لا يجب العزم على فعله الّذي هو بدل الفعل بتقدير تركه ، وهذا يجب فيه بدل هو العزم.

لأنّا نجيب عن الأوّل : بأنّا لم نقل إنّه نفل مطلقا ، بل في أوّل الوقت ، لجواز تركه فيه ، مع أنّه يثاب بفعله فيه.

وعن الثاني بما سيأتي من بطلان البدل.

والجواب : المنع من الملازمة.

والتحقيق أن نقول : هذا الواجب في الحقيقة يرجع إلى الواجب المخيّر ، وذلك : أنّ الله تعالى أوجب عليه إيقاع هذا الفعل في هذا الوقت ، ومنعه من إخلائه عنه ، وسوّغ له الإتيان في أيّ جزء كان من هذا الوقت وعدمه في أيّ جزء كان ، بشرط الإتيان به في بعض الآخر.

فإنّ اختار المكلّف إيقاعه في أوّله ، فقد فعل الواجب ، وكذا لو اختار في وسطه أو آخره ، كما أنّ الواجب المخيّر يتّصف الجميع فيه بالوجوب ، على معنى : أنّه لا يجوز الإخلال بالجميع ، ولا يجب الإتيان بالجميع ، والأمر في اختيار أيّ واحد منها مفوّض إلى رأي المكلّف.

٥٠٩

فكذا هنا لا يجب إيقاعها في الجميع ، ولا يجوز إخلاء الجميع عنه ، وتعيين ذلك الجزء ، مفوّض إلى المكلّف.

هذا إذا كان في الوقت سعة ، فإن ضاق ، تعيّن عليه الفعل ، وإلّا لزم إخلاء الجميع.

أمّا القائلون بالعزم ، فإنّهم فرّقوا بين هذا الواجب والنّفل : بأنّ هذا الواجب لا يجوز تركه إلّا إلى بدل ، والمندوب يجوز تركه من غير بدل ، لأنّه لو لا البدل لم ينفصل عن المندوب.

وكلّ من أثبت بدلا ، قال : إنّه العزم.

وأطبق المحقّقون على عدم وجوبه بدلا ، نعم أنّه يجب ، لأنّه من أحكام الإيمان.

وإنّما قلنا بامتناع كونه بدلا لوجوه :

الأوّل : العزم إمّا أن يكون مساويا للفعل في جميع الأمور المقصودة منه ، أو لا.

والأوّل ، يقتضي سقوط التكليف بالفعل عند الإتيان بالعزم ، لأنّ الأمر اقتضى فعلا واحدا في ذلك الوقت ، وهذا العزم مساو له في جميع الجهات المطلوبة منه ، فيلزم سقوط الفعل ، إذ لا فرق بين الإتيان بالفعل وبين الإتيان بمساويه من كلّ اعتبار.

والثاني ، يمنع من كونه بدلا ، فإنّ بدل الشيء قائم مقامه في جميع الأمور المطلوبة منه.

٥١٠

الثاني : الأمر إنّما ورد بالفعل ، فلا دلالة له على العزم ، ولم يوجد سوى الأمر ، فانتفى دليل العزم ، فكان ساقطا ، لوجوب انتفاء ما لا دليل عليه.

الثالث : لو كان العزم بدلا في أوّل الوقت ، فنقول : إمّا أن يجوز تأخير الفعل فيه أو لا ، والثاني يقتضي خرق الإجماع الدالّ على جواز التأخير إلى آخر الوقت.

فإذا جاز التأخير ، فإمّا إلى بدل ، أو لا إلى بدل والثاني المطلوب ، والأوّل يستلزم تعدّد البدل بتعدّد الأزمنة ، وهو باطل ، فإنّ بدل العبادة إنّما يجب على حدّ وجوبها ، ليكون فعله جاريا مجرى فعلها ، والأمر اقتضى الوجوب في أحد أجزاء هذا الوقت مرّة واحدة ، فيكون البدل كذلك.

اعترض على الأوّل : بتجويز كون البدل قائما مقام الأصل في أوّل الوقت ، لا في جميع الأوقات ، فإذا فعل البدل في هذا الوقت ، سقط الأمر بالأصل في هذا الوقت ، دون باقي الأوقات.

وأجيب : بأنّ الأمر لا يقتضي التكرار ، فإذا قام البدل مقام الأصل في هذا الوقت ، قام مقامه في المرّة الواحدة ، والأمر لا يقتضي الفعل إلّا مرّة واحدة ، وقد قام هذا البدل مقامه فيها ، فيكون قد أدّى تمام المقصود بالأمر ، فيسقط التّكليف بالكليّة. (١)

وفيه نظر ، فإنّ الأمر اقتضى إيجاب الفعل في أحد أجزاء الوقت ، فهو في كلّ جزء من أجزائه ، مخاطب بأن يوقع الفعل فيه ، أو بدله إلى الوقت

__________________

(١) الإشكال والجواب مذكوران في المحصول للرّازي : ١ / ٢٨٥.

٥١١

الثاني ، وهكذا إلى آخر الوقت ، فتعيّن الفعل حينئذ.

والحاصل أنّ العزم في الوقت الأوّل ، والفعل في ثانيه معا ، بدل عن الفعل في أوّله.

أو نقول : إنّه ليس بدلا عن أصل الفعل ، بل عن تقديمه ، فلا يوجب سقوط الفعل مطلقا.

ومعنى كونه بدلا : أنّه مخيّر بينه وبين تقديم الفعل.

و [اعترض] على الثاني بالمنع من انتفاء دليل العزم ، فإنّ النصّ دلّ على التّوسعة ، ودلّ العقل على عدم إمكانها إلّا بالبدل ، والإجماع دلّ على أنّ ذلك البدل هو العزم.

إذ كلّ من أثبت بدلا قال : إنّه العزم ، فقد دلّ الدليل على وجوب العزم ، ولم يكن مخالفا للنصّ ، إذ النصّ اقتضى إيجاب الفعل من غير إشعار بنفي البدل ، وإثبات ما لا يتعرّض له النصّ بالنّفي ولا بالإثبات ، لا يكون مخالفة للظاهر.

واعترض (١) بمنع دلالة العقل على افتقار الموسّع إلى بدل ، إذ معناه عدم تجويز الإخلال بالفعل في جميع أجزاء الوقت ، وعدم إيجاب إيقاعه في جميع الأجزاء ، والتخيير في إيقاعه في أيّها شاء بدلا عن الآخر ، وهذا أمر معقول لا يحتاج معه إلى البدل.

__________________

(١) المعترض هو الرّازي في محصوله : ١ / ٢٨٦.

٥١٢

وفيه نظر فإنّ الخصم لا يدّعي عدم وجوبه في أوّل الوقت على تقدير تجويز تركه مطلقا من غير بدل ، لأنّ الواجب لا يجوز تركه ، وهذا يجوز تركه في أوّل الوقت ، فهذا ليس واجبا في أوّل الوقت ، فلو لا إيجاب البدل لم يكن واجبا.

و [اعترض] على الثالث : بجواز وجوب العزم في الثاني ، لأنّ العزم بدل عن الفعل في الأوّل ، فافتقر إلى عزم ، وكذا هو بدل عن الفعل في الثاني ، فافتقر إلى عزم ثان.

واعترض (١) بأنّ الأمر اقتضى الفعل مرّة واحدة ، فيكون العزم الواحد كافيا.

وفيه نظر ، فإنّ الفعل وإن وجب مرّة واحدة ، لكنّ العزم بدل عن تقديمه ، وهو متعدّد بتعدّد الزمان.

الرابع : لو كان العزم بدلا ، لم يجز فعله مع القدرة على المبدل ، كسائر الأبدال مع مبدلاتها.

اعترض (٢) بأنّ المصير إلى أحد المخيّرين غير مشروط بالعجز عن الآخر ، بخلاف الوضوء والتيمّم.

لا يقال : التخيير ينافي البدليّة ، لعدم الأولويّة.

لأنّا نقول : المقدّمتان ممنوعتان ، على أنّه لمّا كان الفعل لا بدّ منه ، بخلاف العزم ، تحقّقت البدليّة.

__________________

(١) المعترض هو الرّازي في محصوله : ١ / ٢٨٦.

(٢) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ١ / ٧٨.

٥١٣

الخامس : لو أخّر الصلاة عن أوّل الوقت ، مع الغافلة عن العزم ، كان عاصيا بترك الأصل وبدله.

واعترض : (١) بعدم العصيان ، لعدم تكليف الغافل.

وفيه نظر ، لمنع الغافلة عن الواجب هنا.

والتحقيق : أنّ الغافلة عن العزم صيّرت الفعل معيّنا ، فتركه سبب ذاتيّ في العصيان ، والعزم عرضيّ.

السادس : العزم من أفعال القلوب ، ولم يعهد في الشّرع جعل أفعال القلوب بدلا عن الأفعال.

اعترض : (٢) بأنّه استبعاد محض ، مع أنّ التوبة ندم ، وهي من أفعال القلوب ، جعلت بدلا عمّا فرّط من الأفعال الواجبة حالة الكفر الأصليّ.

السابع : العزم واجب لا على سبيل البدل عنها ، فإنّه يجب العزم على أدائها قبل دخول وقتها ، مع انتفاء الوجوب حينئذ.

اعترض : (٣) بمنع وجوب العزم قبل الوقت ، نعم يقبح كراهة فعلها ، فأمّا أن يعزم ويريد فعلها قبل وقت وجوبها ، فيمنع وجوبه.

أجيب : بأنّه إذا وجبت العبادة وجاز تأخيرها ، فليس يجب عليه قبل دخول وقتها ، فإن كان في أحدهما العزم ، فكذا في الآخر ، وإن كان عدم كراهة ، (٤) فكذا الآخر.

__________________

(١ و ٢) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ١ / ٧٩.

(٣) المعترض هو أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ١٢٠.

(٤) في «ج» : كراهته.

٥١٤

واعترض : (١) بتسليم أنّ الواجب قبل الوقت. كالواجب بعده ، إمّا عزم أو عدم كراهة ، لكن الوجوب قبل الوقت لا يمنع من كونه بدلا بعد الوقت ، لجواز كون الفعل أو عدمه بدلا من شيء في وقت دون آخر ، فلا يمنع من كون العزم بعد دخول الوقت بدلا من العبادة ، لأجل أنّه يجب فعله قبل الوقت ، ولا يكون بدلا.

وأمّا من أثبت بدلا عن العزم ، (٢) فبطل بما تقدّم في العزم.

وتحقيقه : أنّه كان يجب ألا يحسن تكليف الصّلاة من يعلم الله سبحانه أنّه يموت في الوقت ، لأنّه يقوم فعل الله مقام فعله في المصلحة الحاصلة قبل خروج الوقت ، فلو كلّفه الله سبحانه الصلاة ، لكان إنّما كلّفه لمجرّد الثواب فقط.

واحتجّ من أثبت بدلا هو العزم بما تقدّم ، من أنّ الفاصل بينه وبين المندوب هو البدل ، وليس إلّا العزم.

وأيضا ، الصّلاة لطف في واجب بعد خروج الوقت ، ولطف في واجب قبل خروجه.

بيان الأوّل : أنّه قد أبيح تأخيرها إلى آخر الوقت ، فلو لم يكن لطفا إلّا في طاعة مختصّة بالوقت ، لم يجز تأخيرها عن وقت الطاعة.

__________________

(١) المعترض هو صاحب المعتمد. لاحظ : ١ / ١٢٠.

(٢) في «ب» : غير العزم.

٥١٥

وبيان الثاني : أنّها لو لم تكن لطفا إلّا في واجب بعد الوقت ، لما حسن تكليف من يعلم موته قبل خروج الوقت : وإذا كانت لطفا في واجب قبل خروج الوقت ، لم يجز تأخيرها عن ذلك الوقت إلّا إلى بدل ، ولا بدل إلّا العزم.

والجواب : يكفي في حسن تكليف الصلاة من يعلم موته في الوقت : أن يكون لطفا في مندوب بفعل عقيب فعل الصلاة ، أو أن يكون كلّ جزء من الصّلاة لطفا في مندوب يليه.

وإذا جاز ذلك لم يجب أن يكون لها بدل من حيث هي لطف في ندب.

لا يقال : يلزم أن يكون تقديم الصلاة في أوّل وقتها أولى ، لأنّها تكون مصلحة في مندوب إليه ، وفي واجب ، وفي آخر الوقت تكون لطفا في واجب لا غير.

لأنّا نقول : يمكن أن تكون الصّلاة المستحبّ تأخيرها ، إذا فعلت في الأوّل (١) كانت لطفا في مندوب إليه ، يليها وفي طاعة واجبة بعد خروج الوقت.

وإذا فعلت في آخر الوقت ، كانت لطفا في طاعة واجبة ، وفي طاعات مندوب إليها بعد خروج الوقت ، أكثر ممّا تكون الصّلاة في أوّل الوقت لطفا من الطّاعات المندوبة ، فلذلك كان تأخير الصلاة أفضل.

__________________

(١) في أوّل الوقت.

٥١٦

تذنيب

الواجب إذا لم يكن موقّتا كالمنذورات ، وقضاء العبادات الفائتة ، وقته العمر ، لكن لو جوّزنا التأخير أبدا ، وحكمنا بعدم عصيانه على تقدير الترك ، لم يتحقّق الوجوب.

وإن قلنا بتضيّق الوقت عليه عند زمان معيّن ، من غير دليل بعينه ، لزم تكليف ما لا يطاق ، فإنّه إذا قيل له :

إن كان في علم الله : أنّك تموت قبل الفعل عصيت بالتأخير.

وإن كان في علمه تعالى : أنّك لا تموت ، جاز لك التأخير ، فيقول : لا علم لي بما في علمه تعالى ، فلا بدّ من الجزم بالتحريم أو التحليل في حقّ الجاهل.

فنقول : يجوز له التأخير إلى أن يغلب على ظنّه التلف ، ولا يتضيّق عليه إن غلب على ظنّه البقاء ، سواء بقي أو لا.

فإنّ غلب على ظنّه عدم البقاء عصى بالتأخير ، سواء مات أو لا ، على إشكال ، لأنّه مأخوذ بحسب ظنّه.

٥١٧

الفصل الخامس

في أحكام الوجوب

وفيه مباحث :

الأوّل : في وجوب ما يتوقّف عليه الواجب المطلق

الواجب قسمان : مشروط ومطلق.

أمّا الأوّل : فكالزكاة المشروط وجوبها بحصول المال ، والحجّ المشروط وجوبه بالاستطاعة.

وأمّا الثاني : فكالصلاة الواجبة حالة الطهارة والحدث ، إلّا أنّ وقوعها مشروط بالطّهارة.

فالأوّل اتّفق الناس على عدم وجوب ما يتوقف عليه وجوب ذلك الواجب ، وإنّما الخلاف في الثاني.

فذهبت الواقفيّة (١) إلى وجوبه إن كانت المقدّمة سببا في المأمور به ، وإن كانت شرطا في الوقوع غير سبب ، لم يجب ، وهو مذهب السيّد المرتضى (٢).

__________________

(١) الواقفيّة : فرقة من المعتزلة ، وهم القائلون بالوقف في خلق القرآن. لاحظ معجم الفرق الإسلاميّة : ٢٦٩.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٨٥.

٥١٨

وقال الباقون من المعتزلة والأشاعرة بوجوب ما يتوقّف عليه وجود المأمور به بشرطين : القدرة عليه ، وأن يكون الأمر ورد مطلقا ، سواء كان سببا أو لا.

وهو الأقرب ، لنا : أنّه لو لم يجب ، لزم أحد الأمرين وهو : إمّا تكليف ما لا يطاق ، أو خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا.

والتّالي بقسميه باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّه لو أباح ترك الشّرط في الوقوع ، لكان للمكلّف ذلك من غير منع ، فعلى تقدير الترك لا يخلو إمّا أن يبقى مكلّفا بالفعل أو لا.

فإن كان الأوّل ، لزم تكليف ما لا يطاق ، فإنّ وقوع المشروط حال عدم الشرط محال.

وإن كان الثاني ، خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا.

وأمّا بطلان القسمين فظاهر ، أمّا الأوّل فبالعقل ، وأمّا الثاني فبالفرض.

وأيضا الأمر اقتضى إيجاب الفعل على كلّ حال ، إذ لا فرق بين [قوله :] أوجبت عليك الفعل في هذا الوقت ، وبين [قوله :] ينبغي ألّا يخرج الوقت إلّا وقد أتيت به ، فلو لم يقتض إيجاب المقدّمة ، لكان مأمورا بالفعل حال عدمها ، وهو تكليف ما لا يطاق.

قيل عليه (١) : لمّا كان حال عدم المقدّمة من جملة الأحوال ، كان تكليف

__________________

(١) القائل سراج الدين ، وتوضيحه : أنّ المولى إذا أمر بشيء كالكون على السطح ، فهو واجب في عامّة الأحوال ومن جملة الأحوال عدم المقدّمة (السلّم) وعندئذ يلزم التكليف بالمحال ، سواء ـ

٥١٩

ما لا يطاق لازما على المذهبين (١) إلّا أن تفسّر تلك الأحوال بما عدا حالتي وجود ما يقتضي الأمر إيجاده وعدمه ، وحينئذ يمنع لزوم تكليف ما لا يطاق ، إذ المحال هو الفعل مع عدم المقدّمة ، لا هو [في] حال عدمها ، والمكلّف به هو الثاني.

وليس بجيّد ، لأنّ حال عدم المقدّمة على تقدير وجوبها ، كحال عدم الفعل ، ولا فرق بين فرض عدم الفعل وفرض عدم المقدّمة الواجبة في عدم قبح التكليف ، بخلاف المقدّمة غير الواجبة.

لا يقال : يجوز أن يكون الأمر مشروطا بحضور المقدّمة ، غايته اشتماله على مخالفة الظاهر ، لاقتضاء اللفظ إيجاب الفعل على كلّ حال ، فالتخصيص بزمان الشرط ترك الظاهر ، إلّا أنّ إيجاب المقدّمة مع أنّ الظاهر لا يقتضيه ، خلاف الظاهر أيضا ، فلم كان إحدى المقدّمتين أولى من الاخرى؟

لأنّا نقول : التقدير أنّ الأمر مطلق ، لا مشروط بالمقدّمة.

ثمّ ينتقض بأمر السيّد عبده بأن يسقيه الماء إذا كان الماء على مسافة منه ، لأنّه إن كان كلّفه بالسقي بشرط قطع المسافة ، لم يتوجّه الأمر عليه إذا قعد في مكانه.

__________________

ـ أوجبنا المقدّمة أو لا ، لأنّ إيجابها لا يؤثّر في رفع الاستحالة لفرض عدم المقدّمة.

نعم لو فسّرت الأحوال ، بغير ما يقتضي الأمر إيجاده أو عدمه (المقدّمة) فلا يلزم تكليف ما لا يطاق ، إذ فرق بين إيجابه فيما إذ لم تكن المقدّمة موجودة في الواقع وبين إيجابه في حال عدمها ، فالتكليف بالمحال يلزم في الصورة الأولى لفرض عدم المقدّمة واقعا. دون الثانية لإمكان قلبها إلى الوجود. لاحظ نفائس الأصول في شرح المحصول : ٢ / ٣٧٤.

(١) أوجبنا المقدّمة أو لا.

٥٢٠